الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
الحمد لله
بحث شرط اللقاء
نقل مسلم رحمه الله في مقدمة "صحيحه": إجماع السلف من أئمة الحديث على الاكتفاء بالمعاصرة في تصحيح المعنعن من غير المدلِّس، ما لم يقم دليل على نفي اللقاء، وشنَّع على من اشترط ثبوت اللقاء من أهل عصره.
ثم جاء المتأخرون فقالوا: إن الاشتراط قول المحققين، وذكروا منهم البخاري وشيخه ابن المديني.
[ص 117] ولا يخفى أن هذا لا ينافي سَبْق الإجماع لهما، ومجرَّدُ حُسْن الظن بهما أنهما لا يخرقان الإجماع، ولعلهما اطلعا
(1)
أنه لم يزل في طبقات السلف من يشترط اللقاء= لا يُغني شيئًا.
فلو ناظر مسلمٌ البخاريَّ، فقال: أنت وشيخك مسبوقان بالإجماع، لم يفده إلا أن يصرِّح بالنقل عن بعض السلف من جميع الطبقات في موافقة قوله؛ فأما مجرد إنكار الإجماع فلا يفيد، إذ الإجماع من الأمور التي لا يطالب مدّعيها بدليل.
أما لو قال البخاري: إنه يلزمك وغيرك حسن الظن بنا، لكان قد أتى بما يُضْحَك منه.
(1)
تحتمل: "وأنهما مطلعان".
نعم ذكر السخاوي في "فتح المغيث"
(1)
(ص 66): عن الحارث المُحاسبي ما يُظنّ خادشًا للإجماع حيث قال: "اختلف أهل العلم .. إلخ".
لكنه لا يصادم نقل مسلم؛ لاحتمال أن يكون راعَى خلافَ ابنِ المديني، ومع هذا فإننا لا نُقْنِع أنفسنا بالتمسّك بدعوى الإجماع، كما لا يَهُولُنا دعوى التحقيق في الطرف الآخر، بل نسعى لتحقيق البحث بأدلته الحقيقية على صورة مناظرة، مشيرين لمذهب مسلم رقم (1)، ومقابله برقم (2)، ونستوفي البحث بقدر الجهد، بحسب ما اطلعنا عليه من أدلة الفريقين، وما ظهر لنا أنه قد يُستدل به. والله المستعان.
[ص 118](1) الأصل الثابت في الرواية أن يكون عما شاهده الراوي وأدركه، سواء أعَلِم السامع لقاءً للمروي عنه أم لا، وعليه فهذا هو الأصل والظاهر الذي يجب التمسُّك به حتى يتبين خلافه.
(2)
ما دليلكم على ذلك؟
(1)
نذكر أمثلة نوضحه بها:
أـ مصريٌّ زار اليمن، ثم عاد فأخذ يخبر عن فلان من علماء صنعاء أنه قال: كذا، وعن آخر من علماء زبيد، وثالث من علماء تعز، والسامعون لا يسمعون بأولئك العلماء، ولم يخبرهم أنه لقيهم، ولا أنهم أحياء.
ب ــ هنديٌّ زار الحجاز، ثم عاد، فأخذ يخبر عن فلان من علماء مكة، وفلان من علماء المدينة، وفلان من علماء الطائف، والسامعون كما تقدم.
ج ــ عالمٌ هنديّ أخذ يخبر بمثل الذي قبله، مع أن السامعين لا يعلمون أزار الحجاز أم لا؟
(1)
(1/ 191).
من تأمل هذه الأمثلة علم أن الذي يتبادر إلى الأذهان من رواية أولئك الأشخاص أنها عن سماع، مع أن الفرض أن الراوي عنعن، وأن السامع لا يعلم المعاصرة بدليل خارجي، فضلًا عن اللقاء، أما إذا علمها فإن الأمر يزداد قوة.
[ص 119](2)
(1)
هذه الأمثلة تُعارَض بغيرها، فإذا ذهب شرقيٌّ إلى أوربا، ثم عاد فأخبر عن فلان بإنجلترا، أو عن فلان بفرنسا، وعن فلان بألمانيا، فإن الذي يتبادر عدم السماع، وإن عُلِمت المعاصرة.
(1)
هذا التبادر لوجود القرائن الصارفة عن الأصل، كتباعد البلدان وضعف الدواعي إلى زيارتها، وزيادة المشقة في ذلك، ووجود البرق والبريد والصحافة والتأليف بكثرة، وغَلَبة الإرسال بحيث لا تكاد تجد إنسانًا يقول: أخبرني فلان عن فلان، وغير ذلك، ولهذا مثلنا أمثلة بريئة عن القرائن، وإن شئت فتصوَّرْها واقعةً في زمن التابعين حيث كانت الأقوال ــ ولاسيما السنة ــ إنما تؤخذ من ألسنة الرجال، فلا برق ولا بريد ولا صحافة، بل ولا تأليف.
والناس يومئذ أهل جدٍّ وتشمير في الرحيل لطلب العلم، ولاسيما للقاء أصحاب رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم، فكيف إذا كان الراوي أو المروي عنه بأحد الحرمين، والناس يومئذ كلهم يزورون الحرمين، وكثير منهم من يحج كل سنة؟
(1)
الأصل: (ب) وهو رمز الفريق الثاني الذي أشار المؤلف أنه سيرمز له بـ (2) فكأنه ذهل عنه، كما سيحصل عدة مرات.
[ص 120] فكيف إذا شئت زيارة الحرمين بالفعل، أو كان أحد الرجلين ببلدة قد وصلها الآخر، فكيف إذا أقاما ببلدة واحدة؟ !
والحاصل أن الأصل كما قررناه، وأنه قد تقوم قرائن تصرف عنه، وقد تقوم قرائن تؤيده.
ولنذكر مثالًا آخر يوضّح ذلك الأصل:
كنا في بومباي ــ مثلًا ــ فجاء رجل من السند، لم يصل بومباي قبل، فمكث في بومباي بضعة أيام، ثم لقينا، فأخذ يخبرنا عن فلان المدرِّس بمدرسة كذا في بومباي أنه قال كذا، وعن فلان الإمام بمسجد كذا فيها أنه صلى الجمعة بسورة كذا، وعن فلان التاجر بها أن سائلًا سأله فرد عليه بكذا.
فالذي يتبادر إلى الأذهان أنه لقي أولئك الأفراد وسمع منهم، مع أنه لو لم يخبرنا بذلك، لم يترجَّح لنا ألقيهم أم لا.
فتبين أن التبادر إنما جاء من الرواية، فثبت أن الأصل في الرواية، أن تكون عما شاهده الراوي وأدركه.
[ص 121](2) لعل اصطلاح المحدّثين كان على خلاف ذلك، كما يدل عليه ذهاب ابن المديني والبخاري، ومن تبعهما إلى ما ذهبوا إليه.
(1)
قد أسلفنا أن مجرد ذهابهما إلى ذلك القول لا يصلح نقضًا لما نقله مسلم من إجماع السلف، وهو يدل أبلغ دلالة أن اصطلاحهم كان موافقًا للأصل، بل هناك من القرائن ما يدلّ على شدة محافظتهم على الأصل أشدّ من محافظة غيرهم، وذلك مزيد احتياطهم وتثبتهم وجريان عادتهم بالإسناد، والتحفُّظ من نقد النقاد، وغير ذلك.
على أننا لو تنازلنا عن دعوى الإجماع بقيت الأغلبية، وهي كافية في إثبات المطلوب، مع أن موافقة البخاري وشيخه على حمل عنعنة من ثبت لقاؤه على السماع، يدل على ما ذكرنا، وإلا لكانت الحجة عندهما هي مجرَّد اللقاء.
فيلزمهما أن كل من لقي شيخًا ثبت سماعه لكل حديثه، وهذا كما ترى. [ص 122] وإنما رأيا أن دلالة الرواية بدون ثبوت اللقاء لا تخلو عن ضعف، فاشترطا تقويتها بثبوت اللقاء.
ونحن نسلِّم أن الرواية مع ثبوت اللقاء أقوى منها بدونه غالبًا، ولكن هذا لا يقتضي عدم حجيتها، إذا كانت في نفسها دلالة ظاهرة محصِّلة للظن، على أنه يعلم مما قدمناه أن القرائن قد تتظافر على إثبات اللقاء حتى تكاد تقطع به، وإن لم ينقل صريحًا.
(2)
لنا: شيوع الإرسال في السلف، فإنه دليل على أن اصطلاحهم على خلاف الأصل الذي قدَّمْتُم.
(1)
أما الإرسال الجلي فلا نزاع فيه؛ لأن المرسل يتَّكِل على وضوح القرينة الصارفة عن الأصل، وهذا إنما هو كشيوع المجاز، لا يقتضي إلغاء الحقيقة
(1)
.
وأما الإرسال الخفي، فلنا جوابان عنه:
أ- لا نسلِّم شيوعه. والاستقراء يدل على قلته؛ فإن أكثر رواية التابعين وتابعيهم المتصلة معنعنة، ولو كان الإرسال الخفي شائعًا فيهم لأقلوا خشية
(1)
بعده في الأصل كلمة "بل" والكلام بدونها مستقيم.
[ص 123] الإيهام.
(2)
لعلهم كانوا يتَّكِلُون على ثبوت اللقاء.
(1)
ما كل سامع لحديثهم بمُطَّلع على اللقاء، فالإيهام باقٍ بالنسبة إلى من لم يطلع.
(2)
لعلهم كانوا يتكلون على أن من لم يطلع على ثبوت اللقاء يسأل عنه.
(1)
قد يتساهل فلا يسأل، مع أنه قد يغلب على ظنه ثبوت اللقاء للقرائن المتقدمة، فالأسهل والأحوط التصريح بالتحديث من أول وهلة ولا حامل على تركه.
فتبين أنهم إنما كانوا يعنعنون المتصلات؛ لاعتقادهم دلالة ذلك على السماع، بل إذا تتبعت رواية المدلسين وجدتهم كثيرًا ما يعنعنون المتصلات، فلماذا يعنعنون مع علمهم بأن عنعنتهم لا تُحْمَل على السماع لتدليسهم؟
هل يقال: إنهم كانوا يريدون أن يوهموا أنهم لم يسمعوا تلك الأحاديث، والحال أنهم سمعوها؟ ! هذا عكس التدليس المتعارف.
فالتدليس: إيهام السماع مع عدمه، وهذا إيهام عدم السماع مع ثبوته، وغرض المدلس إنما يتعلق [ص 124] بالأول دون الثاني.
فتبين أنهم إنما كانوا يعنعنون جريًا على الأصل والعُرْف المطَّرد في الاكتفاء بالعنعنة في المسموع.
ب ــ
(1)
الإرسال الخفي تدليس، والكلام في الراوي غير المدلس، فإذا سويتم بين من وصف بالتدليس وغيره؛ لزمكم أن تردوا المعنعن مطلقًا، كما ذكره مسلم رحمه الله تعالى.
(2)
كلا ليس الإرسال الخفي تدليسًا، إذ لا إيهام فيه مع عدم اللقاء.
(1)
قد قدمنا ما يُعْلَم منه أن الإيهام واقع، وإن لم يثبت اللقاء، ويتأكد بالقرائن، كما مر.
(2)
على كلِّ حال المختار أنه ليس تدليسًا، كما يُعْلَم بمراجعة كتب المصطلح.
(1)
التحقيق أنه تدليس، ولكن لا نطيل ببيانه، إذ يغنينا أن نقول: لا يضرّ الخلاف في الاسم، فالإرسال الخفي كالتدليس في الإيهام والتغرير، بل هو أقبح منه وأشنع، قال في "فتح المغيث"
(2)
(ص 74 - 75): "فقال ابن عبد البر في "التمهيد"
(3)
: ولا يكون ذلك عندهم إلا عن ثقة، فإن دلس عن غير ثقة؛ فهو تدليس مذموم [ص 125] عند جماعةِ أهلِ الحديث. وكذلك إن حدَّث عمن لم يسمع منه، فقد جاوز حدّ التدليس الذي رخَّص فيه من رخَّص من العلماء إلى ما ينكرونه ويذمونه ولا يحمدونه.
وسبقه لذلك يعقوب بن شيبة كما حكاه الخطيب عنه، وهو مع قوله في موضع آخر: "إذا وقع فيمن لم يلقه
…
أقبح واسمع (أشنع)
(4)
. يقتضي أن
(1)
هذا الجواب الثاني للفريق الأول، وتقدم (أ) في (ص 98).
(2)
(1/ 210 - 211).
(3)
(1/ 27 - 28).
(4)
كذا كتب المؤلف تصحيحًا للنص، وهو في المحققة والتمهيد:"أسمج".
الإرسال أشد، بخلاف قوله الأول، فهو مُشْعِر بأنه أخف، فكأنه هذا (هنا) عنى الخفي لما فيه من إيهام اللقيّ والسماع معًا، وهناك عنى الجلي لعدم الالتباس فيه". اهـ.
أقول: قوله: "إيهام اللقي والسماع معًا"، أي لأن الرواية توهم السماع، ولا يكون سماع إلا مع لقي، وكلاهما غير واقع، بخلاف التدليس، فإن أحدهما وهو اللقي واقع.
(2)
لكن الإيهام في التدليس أقوى لثبوت اللقاء.
(1)
نعم، غالبًا، لكن قوة الإيهام فيه لا تنافي وجود الإيهام في الإرسال الخفي، على أن الإيهام في هذا لأمرين كلاهما غير واقع، وفي التدليس لأمرٍ واحد غير واقع، مع أنه قد يكون هناك قرائن تقوِّي إيهام اللقاء.
[ص 126](1) فقد لزمكم على الأقل أن تسووا بين الأمرين، فكما أنكم لا تقبلون عنعنة من لم يثبت لقاؤه خشية الإرسال الخفي، وإن لم يوصف بأنه كان يفعله، فكذلك لا تقبلوا عنعنة من ثبت لقاؤه خشية التدليس، وإن لم يوصَف بأنه كان يدلِّس.
(2)
هاهنا فرق، وهو: أن السلامة من التدليس هي الأصلُ، والظاهرُ من حال الثقة، فلا يقاوم لاحتماله وزن ما لم يُنقل.
(1)
وكذلك نقول في الإرسال الخفي سواء، بل السلامة من الإرسال الخفي أقرب، لأمور:
منها: أنه أقبح وأشنع كما مر، فالثقة أشد بُعْدًا عنه.
ومنها: أن الغرض الحامل عليه أضعف من الحامل على التدليس، لأن الشخص قد يستنكف عن إدخال واسطة بينه وبين شيخ قد لقيه وسمع منه، لأن ذلك يوهم تقصيره بخلاف من لم يلقه.
ومنها: أن الشخص يرغب في التدليس، لأنه أروج لدلسته من الإرسال الخفي.
ومنها: أنه لا يأمن الإنكار في الإرسال الخفي، فإنه قد يكون هناك من يعلم عدم اللقاء فيبادر بالإنكار عليه [ص 127]، بخلاف التدليس، فإنه لا يُنْكَر عليه الرواية عن شيخ قد لقيه وسمع منه.
(2)
أما المدلسون فقد تكفَّل الأئمة ببيانهم، بخلاف الإرسال الخفي، فلم يبينوا أهله على جهة الاستقصاء، وهذا يدل أنهم كانوا يرون الخطر في التدليس، ولا يرون في الإرسال الخفي خطرًا.
وهذا إنما يتمشَّى على أنهم كانوا يشترطون اللقاء في قبول المعنعن، فمتى فُقِد اللقاء، فالعنعنة غير مقبولة لفقده، سواء أكان الراوي ممن يرسل الإرسال الخفي أم لا.
ومتى ثبت اللقاء فالعنعنة مقبولة، إلا إن كانت من مدلِّس، فلهذا اهتموا ببيان المدلسين، بخلاف الإرسال الخفي.
(1)
هذه مغالطة، فقد قدمنا بيان دلالة الرواية على السماع، وقدمنا نقل مسلم لإجماع السلف على حملها على السماع إذا ثبتت المعاصرة فقط، وبسطنا ذلك أحسن بسطٍ، وأما هذه الشبهة فلنا جوابان عنها:
جواب مكافأة، وجواب إنصاف.
[ص 128] أ - أنه إن كان الأئمة لم ينقلوا عن أحد أنه كان يرسل إرسالًا خفيًّا، فهذا دليل لنا على غلظه وشدة شناعته وقبحه، بحيث إن جميع المحدثين تنزَّهوا عنه، إلا الكذابين، فإن وصفهم بالكذب يغني عن وصفهم بالإرسال الخفي، وإن كان الأئمة نقلوا ذلك، ولكن عن قليل بالنسبة إلى من نقلوا عنه التدليس، فهذا أيضًا دليل لنا على شناعة الإرسال الخفي، بحيث إن الموصوفين به من المحدثين قليل جدًّا بالنسبة إلى المدلِّسين.
ب- المشهور بين المحدِّثين أن الإرسال الخفي تدليس، فالوصف بالتدليس يتناول النوعين، ولنا بحثٌ في تحقيق هذه المسألة نلخصه هاهنا:
في عبارة ابن الصلاح
(1)
في حد التدليس "فتح المغيث"
(2)
(ص 73): "وعمن عاصره ولم يلقه موهمًا أنه قد لقيه وسمعه". وتبعه النووي، وعبارته في "التقريب"
(3)
: "بأن يروي عمن عاصره ما لم يسمعه منه موهمًا سماعه"، وكذا العراقي. وقال في "فتح المغيث"
(4)
(ص 74): "إنه هو المشهور بين أهل الحديث".
ومثله للسيوطي في "شرح التقريب"
(5)
، [ص 129] وهو ظاهر عبارة الخطيب في "الكفاية"
(6)
. انظر "فتح المغيث"(ص 74) وإن قال
(1)
"علوم الحديث"(ص 73).
(2)
(1/ 208).
(3)
(1/ 256 ــ مع تدريب الراوي).
(4)
(1/ 209).
(5)
(1/ 256).
(6)
(ص 357).
الحافظ
(1)
: إنها تخالفه.
ويؤيد هذا القول: أن معنى التدليس لغةً يتناوله، والأصل عدم النقل.
وأما البزَّار وابن القطان وابن عبد البر، فإنهم وإن خصوا تعريف التدليس بما ثبت منه
(2)
اللقاء؛ فقد فرقوا بينه وبين الإرسال بوجود الإيهام في الأول بخلاف الثاني، وهذا يدلك أنهم أسقطوا الإرسال الخفي، فلا أدخلوه في تعريف التدليس لما مر، ولا في الإرسال؛ لقولهم:"إن الإرسال لا إيهام فيه".
ومع ذلك فكلامهم يدلّ على إلحاقه بالتدليس، لوجود الإيهام فيه، فليس من الإرسال.
ولقولهم: إن التدليس إنما كان تدليسًا لوجود الإيهام. وفي هذا إيهام وأيُّ إيهام. انظر عبارة ابن عبد البر المنقولة سابقًا.
وأما كلام الشافعي، فلم أقف عليه الآن، إلا أن المدَّعى إنما هو أنه يقتضيه وليس صريحًا فيه.
وأما قول أبي حاتم في أبي قِلابة الجَرْمي "فتح"
(3)
(ص 67): إنه كان يروي عن جماعة لم يسمع منهم لكنه عاصرهم، كأبي زيد عمرو بن أخطب، وقال مع ذلك: إنه لا يُعْرَف له تدليس. ا? .
فيُحْمَل على الإرسال الجلي، بأن يكون مشهورًا بين الناس أنه لم
(1)
في "النكت على ابن الصلاح": (2/ 614 - 615).
(2)
تحتمل: "فيه".
(3)
(1/ 192).
يلقهم، فلا إيهام، والرواية عن المعاصر إنما تكون تدليسًا إذا وجد الإيهام.
[ص 130] وأما استدلال الحافظ "فتح"
(1)
(ص 73): بإطباق أهل العلم بالحديث على أن رواية المخضرمين كأبي عثمان النهدي وقيس بن أبي حازم عن النبي صلى الله عليه وآله وسلم من قبيل الإرسال، لا من قبيل التدليس، فلو كان مجرد المعاصرة يُكتفى به في التدليس؛ لكان هؤلاء مدلسين؛ لأنهم عاصروا النبي صلى الله عليه وآله وسلم قطعًا، ولكن لم يُعْرَف هل لقوه أم لا؟ ا? .
وجوابه: أن الصحبة أمر غير مجمل لا يخفى، فكان معلومًا للتابعين أن هؤلاء ليسوا بصحابة، فلم يكن في إرسالهم إيهام.
وقوله ــ رحمه الله ــ: "ولم يُعْرَف هل لقوه أم لا" فيه نظر. "راجع تراجمهم في كتبه".
على أنه لو فُرِض أنه لم يقم دليل على عدم لقائهم له صلى الله عليه وآله وسلم، لالتزمنا أن تكون روايتهم عنه دعوى صحبة لها حكمها.
ومع هذا كله فالمدَّعَى إنما هو كون هذا القول هو المشهور بين أهل الحديث، فلا ينافيه أن يكون منهم من يخالفه.
[ص 131] على أنه لو فُرِض أن الإرسال الخفي لا يسمى تدليسًا، لكان وصف الشخص بالتدليس يدل على أنه لا يتنزه عن الإرسال الخفي؛ لأنهما متقاربان متشابهان.
(2)
بقي لنا اعتراض واحد، إن تفصَّيتم عنه فقد فلَجْتُم، وهو: أن الثقة
(1)
(1/ 208). وانظر "النكت": (2/ 408 - 409).
قد يرسل عمن عاصره غير قاصد إيهامًا، بل اتكالًا على معرفة السامع بعدم اللقاء، كما حملتم عليه قول أبي حاتم في أبي قلابة الجرمي، فيكون هذا إرسالًا خفيًّا في الحقيقة لا يمتنع اتصاف الثقة به، ولا يلزم الأئمة نقله، وإن صار فيما بعد خفيًّا.
(1)
هذا أشق ما أوردتموه، وعلى ذلك فجوابه [ص 132] من وجهين: إلزامي، وتحقيقي.
أما الإلزامي: فلأنه يلزمكم مثله في التدليس، بأن يقال: إن الثقة قد يرسل عمن لقيه وسمع منه غير قاصدٍ إيهامًا، بل اتكالًا على معرفة السامع بأنه وإن لقيه لم يسمع، أو سمع منه ولكن هذا المعنعن ليس مما سمعه وهذا لا يسمى تدليسًا، إذ لا إيهام فيه، فلا يمتنع اتصاف الثقة به، ولا يلزم الأئمة نقله، وإن صار فيما بعد تدليسًا.
فإذا اعتبرتم الاحتمال هناك، لزمكم اعتباره هنا، فتردون كلَّ معنعن كما قاله مسلم رحمه الله.
وأما التحقيقي؛ فنقول: إن السامع من المُعَنعِن إذا كان ثقة غير مدلس كما هو المفروض، فإنه يبين أن شيخَه لم يلق الذي روى عنه، فإن فُرِضَ أن هذا السامع حَدَّث من يعلم بعدم لقاء المعنعن لشيخه، فهذا المحدِّث إذا كان ثقة غير مدلس كما هو المفروض، فإنه يبين وهكذا.
فتلخَّص من هذا: أنه إذا ثبت عن أحد رجال السند [ص 133] بيان أن المعنعِن لم يلق المعنعَن عنه، فالأمر واضح، وإن لم يجئ البيان عن أحدٍ منهم ولا عن غيرهم، وجب حمل تلك العنعنة على السماع؛ وإلا لزم أن يكون في الرجال مدلِّس، المفروض سلامتهم من التدليس، وهذا هو
جوابكم عما ألزمناكم، فصحّ وثبت أن العنعنة من المعاصر غير المدلس إذا رُوِيت بسندٍ رجاله ثقات غير مدلسين، فهي محمولة على السماع، إلا أن يقوم دليل على خلافه.
ومثل العنعنة غيرها من ألفاظ الرواية التي ليست صريحةً في السماع، ولا في عدمه.
(2)
هل وافقكم أحدٌ على رأيكم هذا؟
(1)
ها هي الأدلة بين أيديكم، تأملوها، فإن رأيتم الدليل موافقًا لنا، فماذا بعد الحق إلا الضلال، وإن رأيتموه علينا، فلن ينفعنا موافقة أحد.
على أننا قد قدمنا أن هذا قول الإمام مسلم بن الحجاج، ونقل أنه إجماع السلف من أهل الحديث، ولم تخدش دعوى الإجماع بما يعد خادشًا، وقد نقل السخاوي (ص 62)
(1)
كلامًا عن ابن الصيرفي نلخصه:
"أن التابعيَّ إذا قال: "عن رجل من الصحابة" [ص 134] لا يقبل، إذ لا يعلم أعاصره أم لا، فلو أمكنَ عِلْمُ أنه عاصره جُعِل كمدرك العصر
…
".
ثم قال السخاوي: "وتوقف شيخنا
(2)
في ذلك؛ لأن التابعي إذا كان سالمًا من التدليس حُمِلَت عنعنتُه على السماع، وهو ظاهر.
قال: ولا يقال: إنما يتأتى هذا في حق كبار التابعين الذين جُلّ روايتهم عن الصحابة بلا واسطة، وأما صغار التابعين الذين جلُّ روايتهم عن التابعين؛ فلا بد من تحقّق إدراكه لذلك الصحابي، والفَرْض أنه لم يسمعه
(1)
(1/ 178).
(2)
انظر كلام الحافظ في "النكت": (2/ 351).
حتى نعْلم هل أدركه أم لا؟
لأنا نقول: سلامته من التدليس كافية في ذلك، إذ مدار هذا على قوة الظن، وهي حاصلة في هذا المقام" ا? .
أقول: وإذا كان هذا مع احتمال عدم إدارك المعنعن للصحابي، فضلًا عن لقائه، ففي مسألتنا أولى وأحرى؛ لأنه قد ثبت الإدراك وربما قامت عدة قرائن تدل على اللقاء، كما مرّ.
والعجب من الحافظ رحمه الله كيف مشى معهم [ص 135] في ترجيح رد عنعنة من عُلِمت معاصرته دون لقائه، مع أنها قد تقوم القرائن على اللقاء، وتوقّف عن ردِّها بل احتجَّ لقبولها في حق من لم تُعْلَم معاصرته أصلًا، وكان العكس أقرب كما هو واضح. والله أعلم.