المَكتَبَةُ الشَّامِلَةُ السُّنِّيَّةُ

الرئيسية

أقسام المكتبة

المؤلفين

القرآن

البحث 📚

الفصل: ‌بسم الله الرحمن الرحيم

‌نص الكتاب

‌بسم الله الرحمن الرحيم

الحمد لله الذي أخذ بيدي فأوصلني على أكف الراحة إلى دار الخلافة وأعطاني ما قوى به خلدي فلم أضق ذرعاً فيما قطعته الرواسم من حدود المسافة والصلوة والسلام على سيدنا محمد الذي أشفر من سجف البطون ولا أثر يومئذ ولا عين فاستبشرت الأعيان الثابتة بأسفار فجر أسفار الظهور وسافر وقد هدأت العيون إلى مقام قاب قوسين فعاد وسهم الأمة من عوائد ذلك السفر موفور وعلى آله الذين اختيرت لهم طوالع السعد حلواً أو ارتحلوا وضربت عليهم قباب المجد أي بلدٍ دخلوا وأي منزل نزلوا.

وبعد فإنني خرجت من زوايا الزوراء منتهجاً أقوم طريق محمولاً من فضل الله تعالى على مطايا النعماء بأيدي رفيق التوفيق وذلك في غرة جمادى ستة من سنة سبع وستين من القرن الثالث عشر بعد هجرة سيد قرون الأولين والآخرين ولم أزل أطوي الفدافد وأنشر حسب الإمكان مطوي الفوائد مجتمعاً في كل بلد مع لبيدة وبليدة مستخبراً كل طالب علم عن طريفة وتليدة فوفقت في سيري حتى وقفت على أمور تحكي الصراط دقه واطلعت في سيري فاطلعت على أسرار تطيش لو قرنت بها في الميزان سجلات المشقة إلى أن نبذتني ويلمها نون سفينة الدخان بساحل خليج القسطنطينية وقد كادت) تبت يدا أبي لهبها (تريني النازعات لولا لطف الرحمن وبركة ما آتانيه تبارك اسمه من إخلاص النية وذلك في الثامن والعشرين من شهر رمضان السبع والستين وقد كنت كتبت بعض ما وفقت عليه قبل الوصول من غرائب محسوس وعجائب معقول إلا أني جاوزت في اختصار الكلام الحد حيث كان وقتي لاتساع دائرة الحزن بعد فراق العراق أضيق من خصر هند ودعد.

كأن الحزن دائرة بقلبي

فأوله وآخره سواء

ثم أني كتبت أيضاً ما اتفق لي في عودي إلى مسقط رأسي ومنبت عودي وسلكت في ذلك نحو ما سلكت أولاً من المسالك وأظنني أبدعت في كلا المسلكين وخفقت فيهما بأجنحة ما خفق بها أحد في الخافقين والعلة الحقيقية لهاتيك الكتابة القصد إلى مداواة ما بي من غلة علة الكآبة فإني قد ضاقت في فضاء تلك البوادي منافسي واتسعت في مضايق كربة الغرب وساوسي وعادتي أنه إذا ألم بي ألم أتداوى منه بعقاقير أرقام القلم وأسترقي برقي بحثه من شياطين الهموم وأبصل بطيب نفثه سحر النفاثات في عقد القوى من سحرة الغموم.

ص: 1

ولما قرت عيني بالإياب وفرت عني ولله الحمد آلام الاكتئاب وفزت برؤية الأهل والعيال وفريت بطن عادي الفراق بشفرة الوصال أحببت أن أفرد كتاباً أجمع فيه مجمل ما كان ذهاباً وإياباً وربما أحل في رحابه مشكلاً وأتصل في بعض أبوابه مجملاً وأستوفي حسب الإمكان ما كان لي في الإقامة معرضاً عن أشياء لم يمكنني ذكرها إلى يوم القيامة مترجماً بعض الأجلة مطلعاً في سمائه شموساً وبدوراً وأهله مبتدئاً بترجمة نفسي مع أني أحقر أبناء جنسي بل أهون من تبنه في لبنه ومن قلامه في قمامه ومن ذره بجنب دره ولكن قد تتقدم الخدم بين يدي السادة وتؤدي النافلة قبل فرض العبادة ومكان رقم الآحاد قبل مكان رقم عشرات الأعداد ولا يفسر الورد تأخره عن أغصانه ولا السنان كونه في أطراف مرانه مستطرداً سبب رحلتي وتحملي ما لاقيت في سباسب غربتي سالكاً في كل ذلك سبيل الاختصار والاقتصاد خوفاً من الملل الذي جبل عليه أكثر العباد وسميته " غرائب الاغتراب ونزهة الألباب في الذهاب والإقامة والإياب " سائلاً منه أن لا يذيق مقامي صاب الافتراء على بري ولا يريق مداد ذمي على أبيض الثياب نفي وهو سبحانه العاصم في الفواتح والخواتم وكأني بك تجده إن شاء الله تعالى كتاباً تشد إليه الرواحل وتطوي لنيل المنى من فصوله وأبوابه المنازل حيث تضمن مباحث لطيفة ومطالب شريفة ورسائل تقطر ظرفاً ومسائل ترشح لطفاً بنثر قرب حتى اطمع وبعد على المتناول حتى امتنع كأنه من شرخ الشباب مسروق ومن لذة وصال الأحباب مخلوق بل لعمري لو أن كلاماً أذيب به صخر أو أطفئ بما يرشح من أهابه جمر أو عوفي بمعانيه مريض أو أجبر بمبانيه مهيض لكان هو ذلك الكلام الذي يقود سامعيه من بني الآداب إلى السجود ويجري في شرايين قلب واعية من ذوي الألباب جري الماء في العود لكني لم ألتزم في جميعه هذا النثر وأي روض كله عطري الزهر وأصابع الكف غير متساوية في الوصف وليست كل آية أن تعي فاغرة فاها بفصاحة يا أرض ابلعي وما كل نجم سيار ولا جميع أجزاء الليل أسحار على أني كثيراً ما أترك النثر بالكلية وآتي بدله بعبارة أرجو أن تكون عند المنصف مرضية وذلك لتكون مائدتي للآذان ذات ألوان وأشربتي للأذهان ذوات خمور وألبان فالطعام الواحد يمل، وإن حلا وجل، وأكثر الأسماع اليوم طبيعتها إسرائيلية فهيهات أن تصبر على طعام واحد وإن كان من أطعمة شهية، هذا مع أن ذهني بأيدي التجليات، فربما لا تسلمه بيدي لأنسج به بعض الفقرات، وقد يشرد مني، ويكون مناط الثريا عني، فأضطر إلى كلام مغسول، لا أعقل فيه سوى أنه معقول، فرحم الله تعالى امرأً عذر وقنع مني بما حضر) ولنشرع بمقصود الكتاب (مما في نزهة الألباب متوكلين على مولى العباد، ومن منه تعالى المبدأ وإليه سبحانه المعاد) فأقول (خرج خالص لبن وجودي من بين فرث العدم ودم الإمكان، بيد حازب القدر إلى قعب عالم العيان، قبيل ظهر الجمعة رابع عشر من شعبان وذلك سنة سبع عشرة بعد المائتين والألف، من هجرة من لا يحيط بكماله نطاق وصف صلى الله تعالى عليه وسلم ما ولد مولود، وما وجد في عالم الكيان موجود، وقد أرخ عام ولادتي بكل من شطور بيتين تراهما عين الأديب لخد غانية الفصاحة كسالفين، الشاعر المجيد الأطرقجي الملا عبد الحميد فقال:

لقد أشرق البدر السماوي من بدا

سنا نوره عن مشرق لاح بالجود

أكمل الدين الحنيف مؤرخ

تكلمت العليا بميلاد محمود

ص: 2

وأثر ما فطمت من ارتضاع الألبان، شرعت أتحسى در قراءة القرآن وبعيد ما حل عني بند قماط الطفولية، عقد على لواء حفظ المقدمة الأجرومية وريثما كسرت عني البيضة حبست في قفص مكتب الملا حسين الجبوري فأوفر من حسن تعليمه إياي الكتاب العظيم حبوري، وهو رجل قد كتب على أسارير جبهته الطلاح، ووفق للتقوى فرح على صفحات وجهه أنوار الفلاح، وكان مقيماً في مسجد قرب سوق حمادة، وقد أقام فيه رحمة الله تعالى عليه سوق العبادة، وقبل أن أبلغ من تسدية ما بين الدفتين الأمنية، طويت على نول قلبي رداء حفظ الأجرومية، وفي أثناء ذلك حفظت ألفية ابن مالك، وقرأت غاية الاختصار في فقه الشافعية، وحفظت في علم الفرائض المنظومة الرحبية، كل ذلك عند والدي أسكنه الله تعالى أعلى عليين، وكان قبل أن أبلغ من العمر سبع سنين، ثم أني لم أزل أقرأ عنده، وأحسو دره وشهده، حتى استوفيت الغرض من علم العربية وحصلت طرفاً جليلاً من فقهي الحنفية والشافعية، وأحطت خبراً ببعض الرسائل المنطقية، والكتب الشريفة الحديثية، وكان عليه الرحمة يزقني العلم ليلاً ونهاراً، ويزقني إن ونيت سراً وجهاراً، ولما بلغت من العمر عشراً، أذن لي بالقراءة عند غيره ولم يرهقني عسراً،) فقرأت (على أن عمي الأمجد) السيد علي بن السيد أحمد (شرح القوشجي للرسالة الوضعية العضدية، ووقفت والحمد لله تعالى على مضمراتها وإشاراتها الخفية) وقرأت (عليه أيضاً حواشيها، وأزلت بمراجعة الوالد عليه الرحمة غواشيها وهو رجل في بيتنا ربا، ولم يعرف غير أبي أباً، وأقرأه معظم العلوم القلية، وطرفاً يسيراً من العلوم العقلية، ومعظم قراءاته المعقول عند من تقصر عن طويل شرح حاله عبارتي) صبغة الله أفندي (بن الملا مصطفى العلي الزيارتي، ثم اضطره ضعف الحال، فسلك طريق الاكتساب لدفع ضرورة العيال، حتى أشكل عليه البديهي الأول، ولا يكاد يفهمه إياه إلا ابني أو ولي،) وقرأت (شرح آداب البحث المسمى بالحنفية على رجل يدعى) ملا درويش بن عرب خضر (في المدرسة الأحمدية وهو ممن أخذ العلم من العالم الرباني) الشيخ عبد الرحمن أفندي (المدرس الروزبهاني، خريج صبغة الله أفندي المذكور، ضوعفت لنا ولهم الأجور وذلك بعد أن قرأت منه درساً واحداً عند محمد أفندي بن أحمد أفندي مدرس السليمانية فلم أفهم منه ما قال كما لم يفهم مني ما قلت كأن بعضنا يتكلم بالعربية والآخر بالعبرانية،) وقرأت (حواشي الرسالة المذكورة، للفاضل مير أبو الفتح مع حواشيه المشهورة، وكذا آداب المسعودي والغ وعبد اللطيف وشرح السراجة في الفرائض للسيد الشريف، وأبعاض كتب عديدة ورسائل مفيدة، على ذي الأخلاق المستجادة) عبد العزيز أفندي شواف زادة (، وهو أيضاً ممن تخرج على الفاضل الأوحدي، الزيارتي، صبغة الله أفندي، وكان علم العلم ومناره، ومقتبس الفضل ومستناره شمائله معبرة عن لطف النسيم، ومحاوراته محدثة عن لذة التنسيم، ذا مزح أطيب من نفس الحبيب، وروح أخف من مغيب الرقيب.

ففيه مجال للتواضع والعلى

وفيه نصيب للفكاهة والجد

ص: 3

وكان عليه الرحمة مشهوراً بعلم العربية بين القاصي والداني حتى أنه كان يدعى لمهارته فيه بسيبويه الثاني، وقد قرأ ذلك على والده جليل الأوصاف الفقيه الشهير الملا محمود الشواف، وكان غواص تأمله يستخرج الدرر وقلما يجيب جواباً بأول النظر، ولا يأنف من قول لا أدري، ويجري مع الحق حيث يجري، وما رأيته غلظ في جواب، بل كان يسكت أو ينطق بالصواب، وكان أبعد العلماء من حمى المأثم، غير أنه للطفه يصحب الجنيد ويحيى بن أكثم، وغالب تدريسه في مسجد خال خاله ذي الصلاح، بل ولى الله تعالى بلا نزاع شيخ والدي الملا عبد الفتاح، وفي حجرته التي كان يدرس فيها دفن، فيا لها من مدفن بكل خير قمن، وسبب ذلك تعذر الوصول إلى المقابر لكثرة الماء وقلة الناصر، فقد طغى الماء ودخل البلد أيام الطاعون، وجرت من عيون السور على المطعونين عيون، ولا تكاد تجد لكثرة الموتى في الكرخ غير الشيخة الفانية والشيخ، ولذا كثر الدفن في المساجد والطرق والبيوت ومن الموتى من كان قبره جوف كلب أو بطن حوت، وكان ذلك من شهر شوال إلى غرة ذي الحجة الحرام، سنة ست وأربعين بعد المائتين والألف من هجرته عليه الصلوة والسلام،) وقرأت (من شرح الوضعية لمولانا عصام، إلى ما يعانق من الرسالة الختام، على ذي الفضل الجليل الجلي) السيد محمد أمين بن السيد علي الحلي (وكان رب فصاحة وبيان، يخيل منه إذا نطق أن كلاً من أعضائه لسان.

إذا ارتج الخطاب بدا خليج

بفيه كأنه بحر الكلام

كلام أم مدام أم نظام

من الياقوت أم حب الغمام

إلا أنه كان مولعاً بنقل الغريب، ولا يبالي إذا تكلم أيخطئ أم يصيب وقد كثر لغطه، فكثر غلطه، ولم ينق ما في سفطه، فسقط كلامه عن القبول، لوافر سقطه، مع أنه أذكى من أياس، وذهنه أضوأ من نبراس، وكان أكثر قراءته على الملا عبد العزيز أفندي المذكور، قرأ عليه علوم العربية لما أنه في إتقانها مشهور، وقرأ على ذي المقام العلا، علاء الدين مولانا علي أفندي الموصلي، ولم يتحمل لسع نحل أخلاقه، ولم يستطب طبعه واستبشع مر مذاقه، فترك درسه الذي ماله في الحلاوة ثاني، وقرأ على الفاضل) عبد الرحمن أفندي الروزبهاني (وقبل أن يتخرج خرجت إلى الملأ الأعلى روحه، وتوفي في الطاعون بعد أن برأت بمرهم منصب الإفتاء جروحه) ولما (انقضت ثلاث عشرة سنة من عمري، وأنا مهتم في التحصيل وإصلاح أمري،) شرعت (بالقراءة مع إخلاص النية، وافتتحت بالخاتمة من شرح عصام للرسالة الوضعية، عند واحد العلماء، وأوحد الفضلاء، الضارب في كل فن بسهم، والقارع صفاة كل قريحة وفهم، فارس ميدان المباحث والحبر الذي عزز العلامتان منه بثالث، ذي القدم الراسخة في جميع العلوم والرتبة الشامخة التي دون رفعتها النجوم، ذي القدر الأعلى) علاء الدين أفندي الموصلي (، ولم أزل أقرأ عنده، وأستنشق ريحه ورنده، إلى من تخرجت به وتأدبت بأدبه، وكان عليه الرحمة ذا ذهن يحل كل عويصة ضامن، ووقار كان ثبيراً فيه كامن، وأدب زرت على أعناق الإعجاز جيوبه، وهبت بغوالي غواني الإبداع صباه وجنوبه، إلى عبارات عذبة شريفة، وإشارات ظريفة لطيفة، وألفاظ رائقة، ومعان فائقة، والحق أنه كان في كل علم آية الله تعالى الكبرى، وجنته التي لا يجوع فيها طالب علم ولا يعرى.

هو الشمس علماً والجميع كواكب

إذا ظهرت لم يبق منهن كوكب

بيد أنه لضيق ذات يده ضاق صدره، ولمزيد كلف في نجم سعده كلف بدره ولذلك ساءت أخلاقه، وشائت فراقه رفاقه.

كان لا يدري مداراة الورى

ومداراة الورى أمر مهم

ص: 4

وعلى العلات أن حظه حطه، وأوفر من الحرمان قطه، وأعانه على ذلك الزمان المشوم، والدهر الجائر الغشوم، ومن العجيب أن داود باشا على فضله لم يعرف فضله، وأحله في غير محله وما أجله وذلك لأنه ما صانعه ولا داراً، ولم يكن في دفتره لما كان دفتر داراً، واتفق أن أمر له إذ ذاك ببرده، فأبى أن يقبل كرمه في المجلس ورده، فأضمر ذلك في نفسه حتى استوزر، فأظهر من سوء معاملته إياه ما أظهر، وكان يتتبع عثاره ويزيد بعثير الغارة عليه غباره، حتى أنه أمر بنفيه إلى الحدباء، فحدب عليه ورجا إثباته بعض أجلاء الزوراء، فأثبت ولكن في هم لا يحد، وبقي منكسر القلب إلى أن ضمه اللحد، وقد ضم في شهر ضم أباه، وكان تاريخ ذلك قولي) عنهما رضى الإله (ودرج على الأثر في الطاعون جميع أهله وبنيه وبقي بيته خالياً ليس سوى الصدا والحزن فيه.

أتى على القوم أمر لا مرد له

حتى قضوا فكأن القوم ما كانوا

وصار ما كان من علم ومن أدب

كما حكي عن خيال الطيف وسنان

ولم يتخرج عليه إلا جمع هم أقل من أنصاف الزمان، بل المتخرج إذا تتبعت واحد أو اثنان، وذلك لقلة تحمل الطلبة كثرة دله، وعدم وقوفهم على وافر فضله ولا ينقص العالم قلة طلبته، كما لا ينقص النبي عدم أمته، وأنا ولله تعالى الحمد صبرت على مره، وصيرت شغلي السعي في صفاء سره، وتأدبت معه غاية الأدب، وانتهى أداء رسم خدمتي إياه إلى حد العجب، وإني لأرجو أن أنال ببركة ذلك مزيد الآلاء، فبركة بركة خدمة الشيخ بحر لا تنزحه الدلاء) وكان له شعر (تحكيه غمزات الجفون الوطف، وتماثله إشارات البنان الذي يكاد ينعقد من اللطف، ويضاهيه السحر إلا أنه خال عن تعقيد العاقد ويشبهه الدر، إلا أنه كله فرائد، فمن فرائده المنظومة، ونوافج مسكه المختومة التي تغار منها درر الأسلاك، وتغور لحسنها دراري الأفلاك، قوله غمره إحسان الله تعالى وفضله:

لئن لم تشاهدني أخافش أعين

فلي من عيون الفضل شاهد رؤية

وإن أنكرتني الحاسدون تجاهلاً

كفاني عرفاني بقدري وقيمتي

يمثلني بالمد عين مكابر

وقد حكم الفضل اختلاف الحقيقة

فأيان شمس الاستواء من السهى

وأين زلال من سراب بقيعة

وليس الذي في الناس كالحي ميته

لفضل وأفضال كحي كميت

وقوله:

وبي أهيف حلو الدلال مهفهف

مليح التثني ساحر اللحظ أغيد

حكى قده سمر القنا وجفونه

حكي البيض والثغر الأقاح المنضد

ترقرق ماء الحضن في وجناته

على أن فيه جمرة تتوقد

كتمت هواه عن سواه فليس لي

به عاذل يرمي ولا لي مفند

وفي هذه الدنيا ملاح كثيرة

وليس كمثل السيد المتسود

قد امتزجت روحي قديماً بروحه

وقام لنا في عالم الذر مشهد

له مقلة تعطي الصبابة حقها

وأخرى حقوق الحسن ترعى فتجحد

ويعجبني منه إذا مر في ملا

يصد كما صد الغزال ويحرد

وإن خلوة حانت أبان دلاله

فنون ابتهاج هكذا الحب يحمد

أوحده في الحب فليشهد الورى

بأني في دين الغرام موحد

أجدد فيه كل يوم صبابة

بها يقتدي أني الإمام المجدد

وقوله:

ما غير ندب على الأيام ينتدب

ولا سوى نجب تخدي لها النجب

وليس كل فتى يدعى لحادثة

ولا بكل ملاذ تكشف الكرب

وليس يدفع من ضيم وينفع من

مؤمل قط إلا السرج والقتب

لا أكذبنك ما صبح كغاشية

ولا بمغن غناء الأثمد الترب

هذا الزمان لحاه الله همته

أن لا يرى عنده حاج ولا أرب

وفي ضمير الليالي أن تكلفني

خلق الذي أنا وهو الرأس والذنب

لا أسعد الله جدي إن أكن رجلاً

يشين عرض علاه الجاه والنسب

وزند فضلي يوماً أن قدحت به

زند اللئام فلا جافتني النوب

لا أرتقي الرتبة القعسا وسلمها

نقصي ولو خدمتني السبعة الشهب

أأبتغي عز نفسي في مذلتها

وأيمن الله هذا المطمع العجب

وأدعي المجد والعليا وتملكي

كف الأماني لعمري هكذا الكذب

على حرثي وبذلي في مواسمه

وما على إذا لم تسعد السحب

ص: 5

فداء صان بوجه الماء مكسبه

غنى مال بماء الوجه يكتسب

ما ينقم الدهر مني حيث أهملني

لا عيب عندي إلا العلم والأدب

ولي فؤاد إذا حركت جانبه

لنحو ضيم ينادي الويل والحرب

ونفس حر إذا حدثتها لعلي

تقول لي في سوى الإذلال تصطحب

إن قمت يوماً على أعواد منبرها

فذيل فضلي على سحبان منسحب

إذا رأيت تساو ناقص وأخو

فضل لدي مجلس السليا فلا عجب

هذي الكواكب تبدو للعيون على

بعد سواء ولكن بينها رتب

فضائلي ما لهذا الدهر من سفه

لم يقض من حقكم ببعض الذي يحبب

حتى متى أنا في بؤس أكابده

أحشاء عيشي في كف العنا نهب

هل رحمة لفتى أودت شهامته

بقدره فرثاه الحزم والأدب

تهوى النوائب لقياه فيمنحها

وصلاً ويهوى سنا العليا فتحتجب

كأن بيني وبين الحادثات جرى

عقد الموالاة أم ما بيننا نسب

فكلما فارقته نكبة فرقا

أمدها للرزايا عسكر لجب

وقوله:

وزمان عدت علي لياليه

وقصت قوادمي وجناحي

ودعتني صروفه في شتات

وعناء وخيبة ونزاح

لا لذنب أتيته غير أن ال

فضل لم تلقه قرين نجاح

وإذا ما الصلاح فيكم فساد

ففسادي الذي لديكم صلاحي

وقوله:

قلما دعاني مشق قامة كاتب

ثلث الملاحة منه في الولدان

يرجو رقاعي الملام لعارض

نسخي هواه وليس ذاك بشأني

علقت قلوب الناس في تعليقه

حسناً وهمت بخطه الريحاني

وقوله:

شجاك من الربع اليمانين عينه

وأشجاك أن حث الرحيل ظعينه

هو الحين أما الهجر يذكو سعيره

وأما هو الأزماع يقضي طعينه

عدتك العوادي خل داعية الهوى

فمستوعر سهل الهوى وحزونه

أتدري بنات الحيف أي دم امرئ

أحلت ومن أدمت عليها شؤونه

وهل ذكرت وألبان آخر عهدنا

بها عهد صب أقسمت لا تخونه

وعيشاً قضيناه بمنعرج اللوى

ذوت بعد ذياك النضار غصونه

لها طلل بين العذيب وبارق

تفيئه والآن لا تستبينه

ونؤي عفاه الدهر بعد وضوحه

كما بان بعد الحك في الخط نونه

خيال لذات الخال شوش خاطري

وطيف بدا لي ثم أسرت ضعونه

تكلفني وجداً بنجد وإنما

هوى كل قلب حديث حل قرينه

مضت حجج والشأن في المط شأنها

وعندي شؤون الحفظ فيها شؤونه

كأنا تراهنا لعود فرهنها

فوأدي والطيف الخيال رهينه

ترى هل أتى تلك المليحة والهوى

أحاديث أن الصبر بان معينه

وهل جاءها والعشق ميل ونزعة

عن القلب أن لا يستفيق جنونه

على بها في الجزع أية وقفة

بها للهوى العذري تقضي ديونه

ونظرة مسنام يغار على الحمي

فطوراً يراعيه وطوراً يصونه

كفى حزناً أني أرى العيس ترتمي

بهودجها والبين حتى يقينه

وأبصر ربات الحجال تفرقت

أيادي سبا والربع خف قطينه

ولم أنسها يوماً بجمع وشملنا

بجمع ووجه الوصل زاه جبينه

تقول كأني بالخيام تقوضت

جميعاً وحادي الركب خفت لحونه

وظن بأني قد سلوت غرامها

فتى غير ديني في المحبة دينه

معاذ هواها من سلوي وأنني

بذاك بخيل لا يجوذ ضنينه

وقوله:

دعي ما كل ساجعة حمام

وما النخل السحوق هي الثمام

هي الأيام يوم عد عاماً

ويوم في الحساب يعد عام

لقد لهجت بذم الفضل قوم

له قمنا على قدم وناموا

يناظرني بهذا العصر ناس

أنا الألف القويم وهن لام

وشتان الذي صفع هواه

ومن بالعز لذله الغرام

رماني الحاسدون بكل أمر

به عرفت مكانتي الكرام

فقالوا حدة طوراً وحيناً

به كبر وطوراً لا يرام

وفي بغداد جثماني وفضلي

تراعي حقه حلب وشام

وفتية فرية قدحت بحقد

وغير الحزم ما ضم الحزام

وإن الجاهلين بكل عصر

لأهل الفضل أعداء عظام

فإن نبحت على أثري كلاب

فليس بمدركي نقص وذام

ص: 6

وكيف تنال أرجلنا بعيب

رؤوس خناً مطهرها الحسام

وقوله:

قيل لم همت في هوى ذي عذار

طرز الشعر منه حلة خده

قلت والعشق ذو فنون لكي يق

طع عني الرقيب أسباب صده

وكذا العاذلون تقصر عن لو

مي فيخلو لي الحبيب بوده

والجمال الذي به فتن الع

شاق ما له الزمان بفقده

أفتور بجفنه زال لا واله

ما زال أم رشاقة قده

خده خده وما ذاك العا

رض إلا دخان لهبة قده

وقوله:

وقالوا تأخرت في ذا الزمان ومنك التقدم حاز الرجال

فقلت يرى الصدر صفا أخيراً

إذا أولاً عد صف النعال

وقوله:

لعلة جسمك قلبي شكا

وعلة جسمي عندي أحب

لجسمك قلبي جسم غدا

وما صح جسم إذا اعتل قلب

وقوله:

أسفي على فضلي قضيت ولم أكن

أملي قضيت وللفنون ديون

وأخذت في كفني علو ما لم أجد

مستودعاً هي في الدفين دفين

وقوله مشطراً:

أسفي على فضلي قضيت ولم أكن

أبصرت عارف حقه فيبين

ومن العلوم الغامضات ورمزها

أملي قضيت وللفنون ديون

وأخذت في كفني علوماً لم أجد

من يخفظن حقوقها ويصون

ورقيق أسرار جعات لها الحشا

مستودعاً هي في الدفين دفين

ص: 7

إلى غير ذلك من شعره، وما ذكر زهرة من زهره، ومعظمه مما أنشده في مدينة السلام، وفيه أشعار بما أضربه من رخص أسعار فضله عند اللئام، والتشطير المذكور آخر شعر أحكم نظامه، والحمام قد نصب بباب داره خيامه، وكل أرويه عنه، وأدريه منه، وقد دفن عليه الرحمة في قبة حذاء قبة الشيخ عبد الله العيدروسي، في محلة حضرة الباز الأشهب أظلنا الله تعالى بظلال جناحه القدوسي،) وقرأت (شرح النخبة للهيكل النوراني، المحدث الحافظ ابن حجر العسقلاني، عند الفاضل الأوحدي) الشيخ علي أفندي السويدي (وكان ذا جاه كبير عند والي بغداد سليمان باشا الصغير، فكان لا يصدر إلا عن رأيه، وهو يسعى في نصحه غاية سعيه، وامتحن بعد قتله بسبب ذلك، وكان يهوى لولا بركة العلم في مهاوي المهالك، ومن الغريب أنه على كمال عقله وتنزه نفسه، ارتكب ما لا يكاد يرتكبه أبناء جنسه، حيث ذهب إلى البصرة محاسباً لواليها، ضابطاً رسم الكمرك الذي فيها، وكان ينسب إليه سيئ الإنكار، على أكثر الأولياء الكبار، وأنه وهابي العقيدة، وله فيها وله ومحبة شديدة، وأنه دعا إليها سليمان باشا، وملأ من علل الخروج على الدولة أهابه فخرج عليها، ولم يرسل شيئاً من خراج العراق إليها، فأثارت عشائر الأكراد وبعض الأعراب عليه، فتوجهوا في معية رئيسهم الداهية الهماء إليه، فخرج لقتالهم إذ قربوا من سور الزوراء، وقابلهم بجنود تغبر غيظاً من كثرتهم وجوه نجوم الخضراء حتى إذا التقى الجيشان، واعتدل الصفان، خانه رؤساء العسكر فبقي مع مثل عدة الأصابع ففر، ومر فاراً على قبيلة الدفافعة، فقطعوا عنه ماء الحيوة، وسدوا عنه مشارعه، والإنصاف أن السويدي لم يسود قلبه بعقائد جهلة الوهابية، وإنما عقده على العقائد السلفية الأحمدية ولعمري ولا حاجة إلى اليمين، أن ذلك ظاهر من درر كتابه العقد الثمين، وأن خروج ذلك الوزير إنما جر إليه أمر آخر لسوء التدبير) وبالجملة (كان ذلك الشيخ من كبار المتبعين، وحاشاه ثم حاشاه أن يكون من المبتدعين

وكان لأهل السنة برهاناً، وللعلماء المحدثين سلطاناً، ما رأيت أكثر منه حفظاً، ولا أعذب منه لفظاً، ولا أحسن منه وعظاً، ولا أفصح منه لساناً، ولا أوضح منه بياناً، ولا أكمل منه وقاراً، ولا آمن منه جاراً، ولا أكثر منه حلماً، ولا أكبر منه بمعرفة الرجال علماً، ولا أغزر منه عقلاً، ولا أوفر منه في فنه فضلاً، ولا ألين منه جانباً، ولا آنس منه صاحباً، ولولا ونيم ذباب الذهاب إلى كمرك البصرة على ثيابه لقلت هو في جمع المحاسن الغرد فرد أسلافه وأصحابه، اختارت روحه في دمشق الشام من الملأ الأعلى رفيقاً، وهو يقرأ قوله تعالى) أولئك الذين أنعم الله عليهم من النبيين والصديقين والشهداء والصالحين وحسن أولئك رفيقا (، وجاء تاريخ وفاته أسكنه الله تعالى أعلى جناته) إن المدارس تبكي عند فقد علي (وقد أوقفني على جميع إجازاته، وأجازني كأولاده بجميع مروياته،) وقرأت (مسألة الصفات من الخيالي، على حضرة مولى لا يصل إلى حقيقة فضائله خيالي، حضرة مولانا) ضياء الدين الشيخ خالد النقشبندي (، وهو صاحب الأحوال الباهر، والكرامات الظاهرة، والأنفاس الطاهرة، الذي تواتر حديث جلالته وأجمع المنصفون على ولايته، وعمت بركاته الحاضر والبادي، وانتشر صيته في ك وادٍ ونادي، بهر بجبل صفاته أطوار العقول، ونال منه تلامذته غاية الوصول، امتد في المقامات والأحوال باعه، وعمرت بالفضل والأفضال رباعه، كان حريصاً على سلوك طريق أهل السنة والجماعة، لا يصرف من أوقاته ساعة في غير حل دقيقة علم أو طاعة، حسن السمت والسيرة، نير القلب والسريرة، إن توجه إلى قلب مريد ملأه نوراً، أو ربط على إكرام معدم أفعم ناديه بأيدي أياديه سروراً.

الإمام الجليل غوث البرايا

غيثها المرتجى ندى إحسانه

ذو سجايا مثل الرياض سقاها

وابل القطر من ندى هتانه

بحر جود له جداول عشر

في يديه تدفقت من بنانه

سار في الخافقين ذكر علاه

وعلا قدره على كيوانه

فائض العلم عن روية فكر

كاد يجلو سر القضا بعيانه

ثابت الذهن كم خفايا علوم

قد جلاها بالكشف عن برهانه

فهو كشاف مشكلات معان

حل ألفاظها بديع بيانه

ص: 8

وبالجملة ما حوى أحد في عصرنا فضله، وأنا لم أر مثلاً له وأظن أنه هو أيضاً ما رأى مثله، وإنكار بعض الأجلة عليه، وتوجيههم سهام الطعن وحاشاه إليه، كان بعضه محض نفسانية، وبعضه الآخر كان من غير روية، ومن المتنكرين من كان كالبائل في بئر زمزم، أراد أن يشهر اسمه بالإنكار عليهم مثله، وتحملوا من معاصريهم حملاً ثقيلاً، وصبروا على ما نالوا من معاديهم صبراً جميلاً، تلك) سنة الله في الذين خلوا من قبل ولن تجد لسنة الله تبديلا (على أن ذلك إنما نقص قدر من آذاهم ولم ينقص قدر ذرة من شامخ علاهم.

من كان فوق محل الشمس رتبته

فليس يرفعه شيء ولا يضعه

وقد كان له قدس سره على شفقة شفيقه، وقد أمرني بالاشتغال بالعلم وضمن لي أن لا أحرم من بركة الطريقة، وها أنا إلى هذا الزمن منتظر تحقق ما ضمن، وكأني في بركة تلك البركة، أسبح إن شاء الله ولا سبح السمكة، وفد طارت روحه إلى حضيرة القدس في دمشق الشام، فحبست في أقفاص الأسى لطيرانه قلوب المسلمين والإسلام وقيل في تاريخ ذلك، غير ما قيل هنالك، ومنه قول السياه بوش من قصيدة مرثية، شرحتها شرحاً نفيساً سميته الروضة الأحمدية:

ولما هويت الحق قلت مؤرخاً

هوى للقاء الحق في القدس خالد

وحين بكت أهل الطريقة أرخوا

بكى فقدك الدرس الإلهي خالد

وحين نحوت القدس قلت مؤرخاً

دنى بازاء القدس في القرب خالد

وحين اتحدنا في الطريقة نسبة

وقد طهرت أعراقنا والمخالد

نبغت بصدق عن لساني أرخوا

مقامك صدق عند مولاي خالد

وأجازني بما تجوز له روايته، وصحت لديه درايته، جامع العلوم البعيدة والقريبة، والفنون المعروفة والغريبة، سيدي وأستاذي ملحق الأصاغر بالأكابر) الشيخ يحيى المزوري العمادي (وهو إمام علامة أشهر من أن ينبه عليه، وأجل من يعرف بالإشارة إليه، لا يجاذب رداء فضله، ولا تدور العين في أصحابه على مثله، حامل أعباء التدريس والمعول عليه في مذهب الإمام ابن إدريس، بل لعمري أنه كان واسطة قلادة علماء عصره، يعجز البليغ عن وصف فضله ولو بلغ النثرة بنثره، والشعري بشعره، كان عليه الرحمة للعلماء جمالاً، لكن إذا رأيته حسبته لعدم اعتنائه بنفسه حمالاً، ولسان الإنصاف يقول على لسانه لو تعي، نحو ما قاله في نفسه الإمام الشافعي:

على ثياب لو يباع جميعها

بفلس لكان الفلس منهن أكثرا

وفيهن نفس لو تباع بمثلها

نفوس الورى كانت أعز وأكبرا

توفي في بضع وخمسين بعد الألف والمائتين، من هجرة سيد المرسلين صلوات الله تعالى وسلامه عليه وعلى آله وصحبه أجمعين، ودفن في مقبرة باب الأزج، لا زال لثرى قبره من غالية الرحمة أرج) وأجازني (أيضاً علماء أعلام، كل منهم في حلبة الفضل إمام، كالفاضل السري، محدث دمشق) الشيخ عبد الرحمن الكزبري (والسارح بقلبه في رياض الملكوت) الشيخ عبد اللطيف (ابن الشيخ علي مفتي بيروت، وقد كتبا لي بذلك من دمشق الشام، وصرحا فيما كتبا بعده إثبات لعلماء فخام ونظم في أثناء ما كتب الثاني، أبياتاً حسنة المباني والمعاني، فقال:

أحسن ببغداد التي

تحوي المكارم والكرام

فاقت على كل البلا

د بحسنها عند الأنام

فكم انتشى من عالم وكم انتشى فيها إمام

من حسنها أن قد غدت

دار المحاسن والسلام

وكأناس آخرين من علماء الآفاق

والفضلاء القاطنين في أرجاء العراق

قد انتظموا في سلك فضل قلادة

وكلهم وسطي فناهيك من عقد

ص: 9

ولعلي أترجم الكل في كتاب، يكون إن شاء الله تعالى ثانياً لنزهة الباب) ولما (بلغت من العمر نحو إحدى وعشرين، جمع لشهود إجازتي علماء بلدتي شيخي علاء الدين، فكان يوم الجمع يوماً مشهوداً مشهوراً أفاض على العدو شروراً، وأغاض من الحاسد سروراً، وكان ذلك في المدرسة الخاتونية، قريباً من الحضرة القادرية، ونصبت يومئذ مدرساً في مدرسة الباجة جي الحاج نعمان، وهو جوار بيته قصر التماثيل متصلة بجدار البستان، في المحلة المشهورة اليوم بسبع بكار، وكانت من قبل مشهورة بمحلة نهر المعلى في الأقطار، وعندما نصبت تأججت نيران قلوب الأعداء فلم يطفها إلا خروجي فخرجت من هاتيك الأرجاء، ثم عمر الحاج أمين شقيق النعمان في محلة رأس القرية مدرسة وجامعاً مقدساً، فنصبت هنالك على رغم الحاسدين خطيباً وواعظاً ومدرساً، فصدعت بالخدمات الثلاث في ذلك المحل الأرفع، وصدحت على أفنانها بمرأى من العدو الشاني ومسمع، إلا أني عددت الخطابة نقمة، حيث أني أجهل خطباء العراق بأصول النغمة، والناس اليوم لا يسمعون خطيباً، ما لم يكن عندليباً، ولا يدخلون مسجداً، ما لم يكن خطيبه معبداً، ومعظم أهل العراق يكرهون الخطبا، إذا لم يغنوهم بنحو الحسيني والصبا، ويحسبون الإخلال بالألحان لحناً، وترك الأوزان العجمية في الدين وهناً، وكذا ثقل علي أن أعظ، لعلمي بأني غير متعظ.

وإني لأستحيي من الله كلما

راوني خطيباً واعظاً فوق منبر

ولست برياً بينهم فأفيدهم

إلا إنما تشفي المواعظ من بري

وكان يغص الجامع بالسامعين، وتشرق الجيوب والأكمام بدموع الباكين وربما أبقى في تفسير الآية الواحدة شهراً، وأنا كل يوم أتلو عليهم والحمد لله تعالى من أسرارها ذكراً، وشرعت في الوعظ وأنا ابن عشر سنين ووعظت في كثير من مساجد المسلمين، وأقرأت شاباً وكهلاً. وأنا ابن ثلاثة عشر حولاً، وتعلمت ضم الحرف إلى الحرف، وعمري نحو أصابع الكف، كل ذلك من فضل الله تعالى عليّ، ثم بركة دعاء والدي، حتى إذا جاء الطاعون، وسارت بعلماء الكرخ وسادته الظعون.

خلت الديار فسدت غير مسود

ومن الشقاء تفردي بالسؤدد

وتوفي إذ ذاك والأمر لله سبحانه والدي، ومن هو الله تعالى مساعدي، وفي تناول ما يصلح حالي زندي ومساعدي، سيدي وسندي) السيد عبد الله أفندي (تغمده الله برحمته، وأسكنه غرف كرامته في أعالي جنته، وكان عليه الرحمة ترشح بالصلاح جلدته، وتشرح الصدور رؤيته، ما رأته عيون الأسحار إلا قائماً، وما أبصرته مواسم الأبرار إلا صائماً، وما ابتسم ثغر فجر تحت أذيال دجاه، إلا وجده يبكي خشية بين يد مولاه جل علاه، وقد درس نحو أربعين سنة في الحضرة الأعظمية وكان يذهب إليها ماشياً إعظاماً لما ضمته من عظام محيي السنة الأحمدية وكان مع ذلك يدرس في مدرسة الموليخانه، التي جعلها داود باشا خاناً وسوقاً وبنى فيها لقهوة البن حانه، ونقل التدريس إلى بعض منها يسمى اليوم بالآصفية، ونصب فيها مدرسين للعلوم النقلية والعقلية، ودرس نحو أربع سنين في مدرسة الشهيد علي باشا التي أعدت لرئيس المدرسين، وهو عليه الرحمة ثالث مدرس درس بها، وكنت في أيامه محافظ كتبها، ووعظ وخل الشباب غير مماذق، في جامع محمد الفضل بن إسماعيل بن جعفر الصادق وكانت الطلبة تتبرك بالقراءة عليه، وتعد من أسباب الفتوح عليها تقبيل يديه وقد حج قبل أن يتزوج ثلاث مرات، وذهب إلى مصر لزيارة شقيقه السيد حسن فوجده يوم دخل قد مات) وينتهي نسبه الذكي الزكي إلى الريحانتين (فمن جهة أمه إلى الحسن ومن جهة أبيه إلى الحسين، ويحلق نسب أمه إلى ذلك بجناح الباز الأشهب، ومن نصب له وكر العناية الأزلية في حظائر الغيب الأغيب، قدس سره، وغمرنا بره، والأمر مفصل في حديقة الورود، فقد زهت فيها نظماً ونثراً أسماء الآباء والجدود، وكذا في شجرة الأنوار، ونوار الأزهار، التي ألفناها في إسلامبول، وجمعنا فيها ما شاء الله تعالى من ذرية الزهراء البتول، ولعمري أنه نسب يصلح أن يجعل تميمة فطيم، ويتخذ لبركة من حوى رقيمة سليم.

نسب كأن عليه من شمس الضحى

نوراً ومن فاق الصباح عموداً

فهو عليه الرحمة محبوك الطرفين، قد طابق شرفه في نفسه شرف الجدين فلا بدع أن نال بيد مجده الثريا، أو تفيء في الشرف مكاناً عليا.

ص: 10

ما عذر من ضربت به أعراقه

حتى بلغن إلى النبي محمد

أن لا يمد إلى المكارم باعه

وينال غايات العلى والسؤدد

مترقياً حتى تكون ذيوله

أبد الزمان عمائماً للفرقد

وبالجملة كان نقي الذات، بهي الصفات، زكي الأعراق، ذكي الأخلاق، وافي الوفاء، لا يخل بحقوق الأخلاء، قد طهر الله تعالى سره، وأعلى لديه بطاعته قدره، فلو أقسم على الله سبحانه لأبره.

هذا أبي جامع ما قد سمعت به

هيهات ما للورى يا دهر مثل أبي

ولما توفي عليه الرحمة في الطاعون، وسارت معه من أهل البيت الظعون، لبس لي الزمان جلد النمر وجعل يكر عليّ ويفر، وجرت أمور منها السماء تمور، ووقعت مواد تشيب لذكرها لمم المداد.

رماني الدهر بالأرزاء حتى

فؤادي في غشاء من نبال

وصرت إذا أصابتني نبال

تكسرت النبال على النبال

ص: 11

واضطررت إلى أن تركت سكنى داري، وارتكبت والأمر لله تعالى فراق سكني وجاري، وسكنت في ظل جناح باز الله الأشيب، عليه ما يبهر العقول من النور الشعشعاني الذي يحجب ولا يحجب قدس الله تعالى سره، وأعلى في حظائر القدس ذكره، حتى إذا كان رمضان سنة الخمسين، وهي مبدأ انحلال ما عقده القضاء علي من البين المبين، أمرني النقيب إذ ذاك بالوعظ في الحضرة الغوثية، فأجبته مكرهاً لاشتغال ذهني بأمور فاتفق أن ساق حسن القضاء، لاستماع وعظي الوزير الخطير) علي رضا (فسمعه فصلاً فصلاً، وفهم أسراره بلاً بلاً، فدهش واستغرب، وعجب غاية العجب وقال في مدحي ما قال، مما يضيق عن التلفظ به فم المقال، ثم أمر بأن أذهب إليه في العيد، والنقيب السابق ملقى السمع وهو شهيد، فضاق لذلك فسيح صدره، وندم على ما مر من أمره، فلما جاءه العيد، ذهب إلى سرايه فعايدته، وشاهدت من الإكرام ما لم أكن شاهدته، وأعاد ما كان من الوظائف علي، وكان أخذها مني، ورغبها عني، فكنت أشكل برؤيته العين، وأذهب غليه في الأسبوع مرة أو مرتين، وفي عيد الأضحى نصبني خطيب الأعظمية، وشغف بي، من بين صحبي، فجعلت أذهب مع الأعيان، كل جمعة للديوان، فأكون في الأغلب المخاطب له وحدي كأن لم يكن في الديوان غيري أفندي، وفي كل ليلة أجتمع معه، وأكاد أحيي ف مسامرته ليلي أجمعه، وفي هاتيك الأثناء شرحت البرهان في إطاعة الله ظل الله تعالى السلطان، فقدمته إليه، وعرضته عليه، لؤلؤه بوقف مرجان، وبجلب رتبة تدريس الأستانة من حضرة السامعين ثم نصبني مفتي الحنفية، وكان قد وعدني بذلك يوم سمع وعظي في الحضرة الغوثية) نعم (سعى غاية السعي في إنجاز ذلك الوعد، وأصر على عدم تأخيره من يوم إلى غد، ذو الهمة التي لا تجارى، والغيرة العمرية التي لا تبارى، من جرى وادي فضله فطم على القرى، حضرة مولاي) عبد الباقي أفندي العمري (، وكان لي سلمه الله تعالى في كل أموري مساعداً، ومتى عطلت يدي عن مصالحي كان لي يداً وساعداً، أدام الله تعالى حياته على رغم كل مبغض، ولم يزل ذلك الوزير يعلي لي الشأن، حتى قلدني من أيادي السلطان بنيشان، ولم يسبق ذلك لأحد من علماء البلد وذلك بعد أن وردت عدة أسئلة علمية من إيران، فأحجم عن جوابها قبلي فضلاء الزمان، وكل ذلك مفصل في ترجمتي حديقة الورود في مدائح أبي الثناء شهاب الدين محمود) حتى (إذا أراد الله تعالى فيه إظهار سابق علمه، وأوصله بلطفه الجزيل إلى آخر أيام حكمه، وجهت إيالة مدينة السلام) إلى محمد نجيب باشا (وإلى دمشق الشام، وأمر هو بالتوجه بدله إلى دمشق، فلم يسعه إلا الامتثال وإن شق، فلما جاء النجيب جعل حاله يتلون معي تلون الحرباء، فطوراً وصال وطوراً والعياذ بالله تعالى جفاء وأنا في كلتا الحالتين أطوع له من ظله، وأسرع في امتثال أمره من خاصة أهله، وكم صمم على عزلي وما عزل، حيث دفع بصدره عدم انتهاء الأجل، فقد قدر جل شأنه وعلا، لكل شيء حتى المناصب أجلا، فلما انتهى ما قدره، وقضى به في الأزل وقرره، أطاع اللاحي فعزلني عن منصبي، ففرحت بذلك كأنه غاية مطلبي، حيث كنت مشغولاً بإتمام تفسيري روح المعاني، وكان الاشتغال بالإفتاء قاضياً بتضييق زماني) نعم (رفع عني وقف مرجان، فأسبل علي بذلك سجف الأحزان، وقطع مني بشفرة إعراضه نياط قلبي، فصرت عثيثة أثاثي، وفويرة كتبي، حتى كدت آكل الحصير، وأشرب عليه مداد التفسير، وأرتقي هضبة عزلي، على وجه لم يحب إليه طفل عقلي، وذلك أني دعيت من قبل الدولة العلية أيدها وأبدها رب البرية، لحضور سور همايون، الذي هو بالخير مقرون، فبلاني من ذلك سرور، وضرب عليه من الكآبة سور، فأفهمني إشارة أني خرجت من البلد، أتردى بخنادق الكمد، ثم أشار علي بالاعتذار، وعرض تعذر السفر لبعد الدار، مع الاشتغال بالتفسير، والقيام بمصالح الوزير، فكتبت حسبما أشار، وكتب هو أيضاً ألا أنه أولج الليل في النهار، ومع ذا أوصل كتابي إلى حضرة شيخ الإسلام وولي النعم، الآخذ من مطايا الحق بمذود لا ومقود نعم على يد الباليون الفرنساوي، فأهوى بي لذلك إلى وخيم المهاوي، فكان ما كان، والله تعالى المستعان، فلم أر بداً من الارتحال، خشياً أن تغتالني غائلة العيال، وقلت لنفسي لا بد من السفر، وإن كانت قطعة من السقر، لأعرض حالي وعريض ما أنا فيه من البلية، على مراحم الدولة العلية العثمانية

ص: 12