الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
وَاذْكُرْ أَخَا عَادٍ إِذْ أَنْذَرَ قَوْمَهُ بِالْأَحْقَافِ وَقَدْ خَلَتِ النُّذُرُ مِنْ بَيْنِ يَدَيْهِ وَمِنْ خَلْفِهِ أَلَّا تَعْبُدُوا إِلَّا اللَّهَ إِنِّي أَخَافُ عَلَيْكُمْ عَذَابَ يَوْمٍ عَظِيمٍ
(21)
(واذكر) يا محمد لقومك (أخا عاد) هو هود بن عبد الله بن رباح كان أخاهم في النسب لا في الدين (إذ أنذر قومه) أي وقت إنذاره إياهم (بالأحقاف) هي ديار عاد جمع حقف وهو الرمل العظيم المستطيل المعوج قاله الخليل وغيره، وكانوا قهروا أهل الأرض بقوتهم والمعنى أن الله سبحانه أمره أن يذكر لقومه قصتهم ليتعظوا ويخافوا ويعتبروا بها، وقيل أمره أن يتذكر في نفسه قصتهم مع هود ليقتدى به ويهون عليه تكذيب قومه له.
قال عطاء الأحقاف رمال بلاد الشحر والشحر قريب من عدن وفي القاموس الشحر كمنع فتح الفم وساحل البحر بين عمان وعدن، وقال مقاتل: هي باليمن في حضرموت. وقال ابن زيد: هي رمال مبسوطة مستطيلة مشرفة على البحر كهيئة الجبال، ولم تبلغ أن تكون جبالاً؛ وقيل: الأحقاف ما استدار من الرمل. وقال ابن عباس: الأحقاف جبل بالشام، وقيل: واد بين عمان ومهرة وإليه تنسب الإبل المهرية وقيل: كانوا من قبيلة إرم.
(وقد خلت النذر من بين يديه ومن خلفه) أي وقد مضت الرسل من قبله ومن بعده، كذا قال الفراء وغيره والمعنى أعلمهم أن الرسل الذين بعثوا قبله والذين سيبعثون بعده كلهم منذورون نحو إنذاره، فالذين قبله أربعة آدم وشيث وإدريس ونوح، والذين بعده كصالح وإبراهيم وإسماعيل وإسحق وكذا سائر أنبياء بني إسرائيل (أن) أي بأن قال:(لا تعبدوا إلا الله) وحده (إني أخاف عليكم) تعليل لما قبله (عذاب يوم عظيم) أي هائل بسبب شرككم، قاله القاضي، وفيه إشارة إلى أن عظيم مجاز عن هائل لأنه يلزم العظم.
قَالُوا أَجِئْتَنَا لِتَأْفِكَنَا عَنْ آلِهَتِنَا فَأْتِنَا بِمَا تَعِدُنَا إِنْ كُنْتَ مِنَ الصَّادِقِينَ (22) قَالَ إِنَّمَا الْعِلْمُ عِنْدَ اللَّهِ وَأُبَلِّغُكُمْ مَا أُرْسِلْتُ بِهِ وَلَكِنِّي أَرَاكُمْ قَوْمًا تَجْهَلُونَ (23) فَلَمَّا رَأَوْهُ عَارِضًا مُسْتَقْبِلَ أَوْدِيَتِهِمْ قَالُوا هَذَا عَارِضٌ مُمْطِرُنَا بَلْ هُوَ مَا اسْتَعْجَلْتُمْ بِهِ رِيحٌ فِيهَا عَذَابٌ أَلِيمٌ (24) تُدَمِّرُ كُلَّ شَيْءٍ بِأَمْرِ رَبِّهَا فَأَصْبَحُوا لَا يُرَى إِلَّا مَسَاكِنُهُمْ كَذَلِكَ نَجْزِي الْقَوْمَ الْمُجْرِمِينَ (25) وَلَقَدْ مَكَّنَّاهُمْ فِيمَا إِنْ مَكَّنَّاكُمْ فِيهِ وَجَعَلْنَا لَهُمْ سَمْعًا وَأَبْصَارًا وَأَفْئِدَةً فَمَا أَغْنَى عَنْهُمْ سَمْعُهُمْ وَلَا أَبْصَارُهُمْ وَلَا أَفْئِدَتُهُمْ مِنْ شَيْءٍ إِذْ كَانُوا يَجْحَدُونَ بِآيَاتِ اللَّهِ وَحَاقَ بِهِمْ مَا كَانُوا بِهِ يَسْتَهْزِئُونَ (26) وَلَقَدْ أَهْلَكْنَا مَا حَوْلَكُمْ مِنَ الْقُرَى وَصَرَّفْنَا الْآيَاتِ لَعَلَّهُمْ يَرْجِعُونَ (27)
(قَالُوا) أي جواباً لإنذاره (أَجِئْتَنَا لِتَأْفِكَنَا عَنْ آلِهَتِنَا) أي لتصرفنا عن عبادتها، وقيل: لتزيلنا، وقيل لتمنعنا، والمعنى متقارب (فأتنا بما تعدنا) من عذاب يوم عظيم (إن كنت من الصادقين) في وعدك لنا به
(قال إنما العلم) بوقت مجيئه (عند الله) لا عندي ولا مدخل لي فيه فاستعجل به.
(وأبلغكم) أي وأما أنا فإنما وظيفتي التبليغ (ما أرسلت به) إليكم من ربكم من الإنذار والإعذار لا الإتيان بالعذاب إذ ليس من مقدوري بل هو من مقدورات الله تعالى: (ولكني أراكم قوماً تجهلون) حيث بقيتم مصرين على كفركم، ولم تهتدوا بما جئتكم به بل اقترحتم عليّ ما ليس من وظائف الرسل.
(فلما رأوه) الضمير يرجع إلى ما في قوله: (بما تعدنا) وقال المبرد
والزجاج يعود إلى غير مذكور وبينه قوله (عارضاً) فيعود إلى السحاب أي فلما رأوا السحاب عارضاً، فعارضاً نصب على التكرير بمعنى التفسير وسمي السحاب عارضاً لأنه يبدو في عرض السماء، قال ابن عباس: العارض السحاب وبه قال الجوهري، وزاد يعترض في الأفق ومنه قوله:(هذا عارض ممطرنا)، وانتصاب عارضاً على الحال أو التمييز.
(مستقبل أوديتهم) أي متوجهاً نحوها سائراً إليها، قال المفسرون: كانت عاد قد حبس عنهم المطر أياماً فساق الله إليهم سحابة سوداء فخرجت عليهم من واد لهم يقال له المعتب فلما رأوه مستقبل أوديتهم استبشروا.
و (قالوا هذا عارض ممطرنا) أي غيم فيه مطر وقوله مستقبل أوديتهم صفة لعارض لأن إضافته لفظية لا معنوية فصح وصف النكرة به وهكذا ممطرنا، فلما قالوا ذلك أجاب عليهم هوداً القائل هو الله:(بل هو ما استعجلتم به) من العذاب حيث قلتم: فائتنا بما تعدنا.
(ريح فيها عذاب أليم) الريح التي عذبوا بها نشأت من ذلك السحاب الذي رأوه
(تدمر كل شيء بأمر ربها) صفة ثانية لريح أي تهلك كل شيء مرت به من نفوس عاد وأموالها، والتدمير الإهلاك وكذا الدماء، وقرىء يدمر بالتحتية مفتوحة وسكون الدال وضم الميم ورفع كل على الفاعلية من دمر دماراً ومعنى بأمر ربها أن ذلك بقضائه وقدره.
أخرج البخاري ومسلم وغيرهما عن عائشة قالت: " ما رأيت رسول الله صلى الله عليه وسلم مستجمعاً ضاحكاً حتى أرى منه لهواته إنما كان يتبسم، وكان إذا رأى غيماً أو ريحاً عرف ذلك في وجهه قلت يا رسول الله: الناس إذا رأوا الغيم فرحوا أن يكون فيه المطر، وأراك إذا رأيته عرفت في وجهك الكراهية، قال: يا عائشة وما يؤمنني أن يكون فيه عذاب، قد عذب قوم بالريح وقد رأى قوم العذاب فقالوا هذا عارض ممطرنا ".
وأخرج مسلم والترمذي والنسائي وابن ماجة عن عائشة قالت: " كان
رسول الله صلى الله عليه وسلم إذا عصفت الريح قال اللهم إني أسألك خيرها وخير ما فيها، وخير ما أرسلت به وأعوذ بك من شرها وشر ما فيها وشر ما أرسلت به، فإذا تخيلت السماء تغير لونه، وخرج ودخل وأقبل وأدبر، فإذا مطرت سرى عنه فسألته فقال لا أدري لعله كما قال قوم عاد هذا عارض ممطرنا ".
(فأصبحوا لا يرى إلا مساكنهم) بعد خراب أموالهم وذهاب أنفسهم قرأ الجمهور بالفوقية على الخطاب لمحمد صلى الله عليه وسلم أو لكل من يصلح للرؤية، ونصف مساكنهم وقرىء بالتحتية مبنياً للمفعول ورفع مساكنهم، قال سيبويه معناه لا يرى أشخاصهم إلا مساكنهم وقال الكسائي والزجاج معناها لا يرى شيء إلا مساكنهم فهي محمولة على المعنى، كما تقول ما قام إلا هند أي ما قام أحد إلا هند، وفي الكلام حذف، والتقدير فجاءتهم الريح فدمرتهم فأصبحوا الخ.
قال ابن عباس في الآية: " أول ما عرفوا أنه عذاب رأوا ما كان خارجاً من رحالهم ومواشيهم يطير بين السماء والأرض مثل الريش، دخلوا بيوتهم وأغلقوا أبوابهم فجاءت الريح ففتحت أبوابهم ومالت عليهم بالرمل فكانوا تحت الرمل سبع ليال وثمانية أيام حسوماً لهم أنين ثم أمر الله الريح فكشفت عنهم الرمل وطرحتهم في البحر فهو قوله فأصبحوا الآية " وعنه قال ما أرسل الله على عاد من الريح إلا قدر خاتمي هذا (كذلك) الجزاء (نجزي القوم المجرمين) قد تقدم تفسير هذه القصة في سورة الأعراف.
(ولقد مكناهم فيما إن مكناكم فيه) قال المبرد (ما) في قوله: فيما بمنزلة الذي، وإن بمنزلة ما النافية وتقديره ولقد مكناهم في الذي ما مكناكم فيه من كثرة المال وطول العمر وقوة الأبدان، وقيل إن زائدة أي ولقد مكناهم فيما مكناكم فيه، وبه قال القتيبي، والأول أولى، لأنه أبلغ في التوبيخ لكفار قريش وأمثالهم، مال ابن عباس يقول لم نمكنكم، وعنه قال: عاد
مكنوا في الأرض أفضل مما مكنت فيه هذه الأمة وكانوا أشد قوة وأكثر أموالاً، وأطول أعماراً.
(وجعلنا لهم سمعاً وأبصاراً وأفئدة) أي أنهم أعرضوا عن قبول الحجة والتذكر مع ما أعطاهم الله من الحواس وآلات الفهم التي بها تدرك الأدلة ولهذا قال:
(فما أغنى عنهم سمعهم ولا أبصارهم ولا أفئدتهم من شيء) أي فما نفعهم ما أعطاهم الله من ذلك، حيث لم يتوصلوا به إلى التوحيد واعتقاد صحة الوعد والوعيد، ووحد السمع لأنه لا يدرك به إلا الصوت وما يتبعه بخلاف البصر حيث يدرك به أشياء كثيرة بعضها بالذات وبعضها بالواسطة، والفؤاد يعم إدراكه كل شيء قاله الكرخي، وقد قدمنا من الكلام على إفراد السمع وجمع البصر ما يغني عن الإعادة و (من) في من شيء زائدة والتقدير فما أغنى عنهم شيئاًً من الإغناء ولا نفعهم بوجه من وجوه النفع.
(إذ كانوا يجحدون بآيات الله) أي لأنهم كانوا جاحدين (وحاق بهم ما كانو به يستهزئون) أي أحاط بهم العذاب الذي كانوا يستعجلونه بطريق الاستهزاء، حيث قالوا فائتنا بما تعدنا
(ولقد أهلكنا ما حولكم من القرى) الخطاب لأهل مكة، والمراد بالقرى قرى قوم ثمود، وهي الحجر وسدوم قرى قوم لوط بالشام ونحوهما مما كان مجاوراً لبلاد الحجاز وكانت أخبارهم متواترة عندهم (وصرفنا الآيات لعلهم يرجعون) أي بينا الحجج ونوعناها لكي يرجعوا عن كفرهم فلم يرجعوا ثم ذكر سبحانه أنه لم ينصرهم من عذاب الله ناصر فقال:
فَلَوْلَا نَصَرَهُمُ الَّذِينَ اتَّخَذُوا مِنْ دُونِ اللَّهِ قُرْبَانًا آلِهَةً بَلْ ضَلُّوا عَنْهُمْ وَذَلِكَ إِفْكُهُمْ وَمَا كَانُوا يَفْتَرُونَ (28) وَإِذْ صَرَفْنَا إِلَيْكَ نَفَرًا مِنَ الْجِنِّ يَسْتَمِعُونَ الْقُرْآنَ فَلَمَّا حَضَرُوهُ قَالُوا أَنْصِتُوا فَلَمَّا قُضِيَ وَلَّوْا إِلَى قَوْمِهِمْ مُنْذِرِينَ (29)
(فَلَوْلَا نَصَرَهُمُ الَّذِينَ اتَّخَذُوا مِنْ دُونِ اللَّهِ قُرْبَانًا آلِهَةً) أي فهلا نصرهم آلهتهم التي تقربوا بها بزعمهم إلى الله لتشفع لهم حيث قالوا: (هؤلاء شفعاؤنا عند الله) ومنعتهم من الهلاك الواقع بهم.
قال الكسائي: القربان كل ما يتقرب به إلى الله من طاعة ونسيكة، والجمع قرابين كالرهبان والرهابين، وأحد مفعولي اتخذوا ضمير محذوف راجع إلى الموصول، والثاني آلهة وقرباناً حال، ولا يصح أن يكون قرباناً مفعولآ ثانياً وآلهة بدلاً منه الفاسد المعنى، وقيل يصح ذلك ولا يفسد المعنى ورجحه ابن عطية وأبو البقاء وأبو حيان، وأنكر أن يكون في المعنى فساد على هذا الوجه.
(بل ضلوا عنهم) أي غابوا عن نصرهم ولم يحضروا عند الحاجة إليهم بالكلية، وقيل: بل هلكوا وقيل الضمير في ضلوا راجع إلى الكفار أي تركوا الأصنام وتبرؤا منها والأول أولى.
(وذلك إفكهم) أي ذلك الضلال والضياع أثر إفكهم الذي هو اتخاذهم إياها آلهة، وزعمهم أنها تقربهم إلى الله قرأ الجمهور إفكهم بكسر الهمزة وسكون الفاء مصدر أفك يأفك إفكاً أي كذبهم، وقرىء أفك بفتح الهمزة والفاء والكاف على أنه فعل أي ذلك القول صرفهم عن التوحيد وقرىء بفتح الهمزة وتشديد الفاء أي صيرهم آفكين، قال أبو حاتم يعني قلبهم عما كانوا عليه من النعيم، وقرىء بالمد وكسر الفاء بمعنى صارفهم.
(وما كانوا يفترون) معطوف على إفكهم أي وأثر إفترائهم أو أثر
الذي كانوا يفترونه والمعنى وذلك إفكهم أي كذبهم الذي يقولون: أنها تقربهم إلى الله وتشفع لهم وما كانوا يكذبون أنها آلهة ولما بين سبحانه أن في الإنس من آمن، وفيهم من كفر بين أيضاًً أن في الجن كذلك فقال:
(وإذ صرفنا إليك نفراً من الجن) أي اذكر إذ وجهنا إليك نفراً منهم وبعثناهم إليك، وأقبلنا بهم نحوك والنفر دون العشرة (يستمعون القرآن) صفة ثانية لنفر أو حال، لأن النكرة قد تخصصت بالصفة الأولى.
عن ابن مسعود قال: هبطوا يعني الجن على النبي صلى الله عليه وسلم وهو يقرأ القرآن ببطن نخلة فلما سمعوه قالوا: أنصتوا قالوا صه، وكانوا تسعة أحدهم زوبعة فأنزل الله: وإذ صرفنا إلى قوله ضلال مبين ".
وعن الزبير قال: إذ صرفنا إليك نفراً من الجن بنخلة ورسول الله صلى الله عليه وسلم يصلي العشاء الآخرة كادوا يكونون عليه لبداً وكانوا تسعة نفر من أهل نصيبين فجعلهم رسول الله صلى الله عليه وسلم رسلاً إلى قومهم " وعنه قال " أتوه ببطن نخلة "، وعنه قال: " صرفت الجن إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم مرتين وكانوا أشراف الجن بنصيبين، وهي قرية من اليمن وجنها أشرف الجن وسادتهم "، وأخرج البخاري ومسلم وغيرهما عن مسروق قال: سألت ابن مسعود من آذن النبي صلى الله عليه وسلم بالجن ليلة استمعوا القرآن قال آذنته بهم الشجرة (1).
وأخرج أحمد ومسلم والترمذي عن علقمة قال قلت لابن مسعود هل صحب رسول الله صلى الله عليه وسلم منكم أحد ليلة الجن؟ قال: ما صحبه منا أحد ولكنا فقدناه ذات ليلة فقلنا اغتيل استطير ما فعل؟ قال فبتنا
(1) روي بألفاظ كثيرة - البخاري 2/ 210 - 8/ 513 ومسلم 1/ 331 السيوطي في الدر 6/ 270 أحمد/4149.
بشر ليلة بات بها قوم، فلما كان في وجه الصبح إذا نحن به يجيء من قبل حراء، فأخبرناه فقال إنه أتاني داعي الجن فأتيتهم فقرأت عليهم القرآن فانطلق فأرانا آثارهم وآثار نيرانهم ".
وأخرج أحمد عنه قال: كنت مع رسول الله صلى الله عليه وسلم ليلة الجن وقد روي نحو هذا من طرق والجمع بين الروايات بالحمل على قصتين وقعتا منه صلى الله عليه وسلم مع الجن حضر إحداهما ابن مسعود ولم يحضر في الأخرى وقد وردت أحاديث كثيرة أن الجن بعد هذا وفدت على رسول الله صلى الله عليه وسلم مرة بعد مرة وأخذوا عنه الشرائع وذكر سليمان الجمل في سبب هذه الواقعة قولين من الخطيب والخازن لا حاجة بنا إلى ذكرهما فإنهما ليسا من التفسير في شيء.
(فلما حضروه) أي حضروا القرآن عند تلاوته وقيل حضروا النبي صلى الله عليه وسلم ويكون في الكلام التفات من الخطاب إلى الغيبة والأول أولى (قالوا أنصتوا) أي اسكتوا أمر بعضهم بعضاً لأجل أن يسمعوا.
(فَلَمَّا قُضِيَ) قرأ الجمهور مبنياً للمفعول أي فرغ من تلاوته وقرىء مبنياً لفاعل أي فرغ النبي صلى الله عليه وسلم من تلاوته والأولى تؤيد أن الضمير في حضروه القرآن والثانية تؤيد أنه للنبي صلى الله عليه وسلم.
(وَلَّوْا إِلَى قَوْمِهِمْ مُنْذِرِينَ) أي انصرفوا قاصدين إلى من وراءهم من قومهم منذرين لهم عن مخالفة القرآن، ومحذرين لهم وانتصاب منذرين على الحال المقدرة أي مقدرين الإنذار وهذا يدل على أنهم آمنوا بالنبي صلى الله عليه وسلم وكانوا يهوداً وقد أسلموا والجن لهم ملل مثل الإنس ففيهم اليهود والنصارى والمجوس وعبدة الأصنام، وفي مسلميهم مبتدعة، ومن يقول بالقدر وخلق القرآن ونحو ذلك من المذاهب والبدع قاله الخازن.
قَالُوا يَا قَوْمَنَا إِنَّا سَمِعْنَا كِتَابًا أُنْزِلَ مِنْ بَعْدِ مُوسَى مُصَدِّقًا لِمَا بَيْنَ يَدَيْهِ يَهْدِي إِلَى الْحَقِّ وَإِلَى طَرِيقٍ مُسْتَقِيمٍ (30) يَا قَوْمَنَا أَجِيبُوا دَاعِيَ اللَّهِ وَآمِنُوا بِهِ يَغْفِرْ لَكُمْ مِنْ ذُنُوبِكُمْ وَيُجِرْكُمْ مِنْ عَذَابٍ أَلِيمٍ (31) وَمَنْ لَا يُجِبْ دَاعِيَ اللَّهِ فَلَيْسَ بِمُعْجِزٍ فِي الْأَرْضِ وَلَيْسَ لَهُ مِنْ دُونِهِ أَوْلِيَاءُ أُولَئِكَ فِي ضَلَالٍ مُبِينٍ (32)
(قالوا يا قومنا) في الكلام حذف والتقدير فوصلوا إلى قومهم فقالوا يا قومنا (إنا سمعنا كتاباً) أي قرآناً (أنزل من بعد موسى مصدقاً لما بين يديه) أي لما قبله من الكتب المنزلة كالتوراة والإنجيل والزبور وصحف إبراهيم وغيرها.
(يهدي إلى الحق) أي: إلى الدين الحق أي العقائد الصحيحة (وإلى طريق مستقيم) أي إلى طريق الله القويم أي الشرائع الفرعية والأحكام الدينية، قال مقاتل لم يبعث الله نبياً إلى الجن والإنس قبل محمد صلى الله عليه وسلم.
(يا قومنا أجيبوا داعي الله وآمنوا به) يعنون محمداً صلى الله عليه وسلم أو القرآن (يغفر لكم) جواب الأمر (من ذنوبكم) أي بعضها، وهو ما عدا حق العباد لأنه لا يغفر إلا برضاء أصحابه، وقيل: إن من هنا لابتداء الغاية والمعنى أنه يقع ابتداء الغفران من الذنوب ثم ينتهي إلى غفران ترك ما هو الأولى وقيل هي زائدة والأول أولى.
(ويجركم من عذاب أليم) وهو عذاب النار، وفي هذه الآية دليل على أن حكم الجن حكم الإنس فيه الثواب والعقاب والتعبد بالأوامر والنواهي، وقال الحسن: ليس لمؤمني الجن ثواب غير نجاتهم من النار، وبه قال أبو حنيفة والأول أولى، وبه قال مالك والشافعي وابن أبي ليلى، وعلى القول الثاني فقال القائلون به إنهم بعد نجاتهم من النار يقال لهم كونوا تراباً كما يقال للبهائم، والأول أرجح، وقد قال الله تعالى في مخاطبة الجن والإنس:
(وَلِمَنْ خَافَ مَقَامَ رَبِّهِ جَنَّتَانِ (46) فَبِأَيِّ آلَاءِ رَبِّكُمَا تُكَذِّبَانِ) فامتن الله سبحانه على الثقلين بأن جعل جزاء محسنهم الجنة ولا ينافي هذا الاقتصار ههنا على ذكر إجارتهم من عذاب أليم، ومما يؤيد هذا أن الله سبحانه قد جازى كافرهم بالنار، وهو مقام عدل فكيف لا يجازي محسنهم بالجنة، وهو مقام فضل، ومما يؤيد هذا أيضاًً ما في القرآن الكريم في غير موضع أن جزاء المؤمنين الجنة وجزاء من عمل الصالحات الجنة وجزاء من قال لا إله إلا الله الجنة وغير ذلك مما هو كثير في الكتاب والسنة.
وقد اختلف أهل العلم هل أرسل الله إلى الجن رسولاً منهم؟ أم لا؟ وظاهر الآيات القرآنية أن الرسل من الإنس كما في قوله: (وما أرسلنا من قبلك إلا رجالاً نوحي إليهم من أهل القرى) وقال (وما أرسلنا قبلك من المرسلين إلا أنهم ليأكلون الطعام ويمشون في الأسواق) وقال سبحانه في إبراهيم الخليل (وجعلنا في ذريته النبوة والكتاب) فكل نبي بعثه الله بعد إبراهيم فهو من ذريته وأما قوله سبحانه في سورة الأنعام (يا معشر الجن والإنس ألم يأتكم رسل منكم) فقيل المراد من مجموع الجنسين ما صدق عليه أحدهما وهم الإنس كقوله (يخرج منهما اللؤلؤ والمرجان) أي من أحدهما.
(ومن) شرطية (لا يجب داعي الله فليس بمعجز في الأرض) أي: لا يفوت الله ولا يسبقه ولا يقدر على الهرب منه لأنه وإن هرب كل مهرب فهو في الأرض لا سبيل له إلى الخروج منها وفي هذا ترهيب شديد.
(وليس له من دونه أولياء) أي أنصار يمنعونه من عذاب الله بين سبحانه بعد استحالة نجاته بنفسه استحالة نجاته بواسطة غيره (أولئك) أي: من لا يجب داعي الله.
(في ضلال مبين) أي ظاهر واضح، وهذا آخر كلام الجن الذين سمعوا القرآن. وقد اجتمع ههنا همزتان مضمومتان من كلمتين وليس لهما نظير في القرآن غير هذا، ثم ذكر سبحانه دليلاً على البعث فقال:
أَوَلَمْ يَرَوْا أَنَّ اللَّهَ الَّذِي خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ وَلَمْ يَعْيَ بِخَلْقِهِنَّ بِقَادِرٍ عَلَى أَنْ يُحْيِيَ الْمَوْتَى بَلَى إِنَّهُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ (33) وَيَوْمَ يُعْرَضُ الَّذِينَ كَفَرُوا عَلَى النَّارِ أَلَيْسَ هَذَا بِالْحَقِّ قَالُوا بَلَى وَرَبِّنَا قَالَ فَذُوقُوا الْعَذَابَ بِمَا كُنْتُمْ تَكْفُرُونَ (34) فَاصْبِرْ كَمَا صَبَرَ أُولُو الْعَزْمِ مِنَ الرُّسُلِ وَلَا تَسْتَعْجِلْ لَهُمْ كَأَنَّهُمْ يَوْمَ يَرَوْنَ مَا يُوعَدُونَ لَمْ يَلْبَثُوا إِلَّا سَاعَةً مِنْ نَهَارٍ بَلَاغٌ فَهَلْ يُهْلَكُ إِلَّا الْقَوْمُ الْفَاسِقُونَ (35)
(أَوَلَمْ يَرَوْا أَنَّ اللَّهَ الَّذِي خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ)؟ الرؤية هنا هي القلبية التي بمعنى العلم والهمزة للإنكار والواو للعطف على مقدر، أي ألم يتفكروا ولم يعلموا أن الذي خلق هذه الأجرام العظام من السموات والأرض ابتداء (ولم يعي) مجزوم بحذف الألف، قرأ الجمهور بسكون العين وفتح الياء مضارع عي، وقرىء بكسر العين وسكون الباء.
(يخلقهن) أي: لم يتعب ولم ينصب ولم يعجز عن ذلك ولا ضعف عنه، يقال عي بالأمر وعيي إذا لم يهتد لوجهه، قال الشهاب: عدم العي مجاز عن عدم الانقطاع والنقص، يعني: أن قدرته واجبة لا تنقص ولا تنقطع بالإيجاد أبد الآباد.
(بقادر على أن يحيي الموتى) قال أبو عبيدة والأخفش: الباء زائدة للتوكيد كما في قوله (وكفى الله شهيداً) قال الكسائي والفراء والزجاج: العرب تدخل الباء مع الجحد والاستفهام فتقول: ما أظنك بقائم، والجار والمجرور في محل رفع على أنهما خبر لأن، وقرأ جماعة يقدر على صيغة المضارع، واختار أبو عبيدة الأولى وأبو حاتم الثانية.
(بلى إنه على كل شيء قدير) لا يعجزه شيء تعليل لما أفادته بلى من تعاليل الخاص بالعام، ولما أثبت البعث ذكر بعض ما يحصل في يومه من الأهوال فقال
(ويوم يعرض الذين كفروا على النار) أي يقال ذلك اليوم للذين كفروا.
(أليس هذا بالحق) وهذه الجملة هي المحكية بالقول والإشارة بهذا إلى ما هو مشاهد لهم يوم عرضهم على النار، وفي الاكتفاء بمجرد الإشارة من التهويل للمشار إليه والتفخيم لشأنه ما لا يخفى، كأنه أمر لا يمكن التعبير عنه بلفظ يدل عليه.
(قالوا بلى وربنا) اعترفوا حين لا ينفعهم الاعتراف، وأكدوا هذا الاعتراف بالقسم لأن المشاهدة هي حق اليقين الذي لا يمكن جحده ولا إنكاره ولأنهم يطمعون في الخلاص بالاعتراف بحقية ما هم فيه (قال فذوقوا العذاب بما كنتم تكفرون) أي بسبب كفركم بهذا في الدنيا وإنكاركم له، وفي هذا الأمر لهم بذوق العذاب توبيخ بالغ وتهكم عظيم، ولما قرر سبحانه الأدلة على النبوة والتوحيد والمعاد أمر رسوله بالصبر فقال:
(فاصبر كما صبر أولو العزم من الرسل) إصبر أو ثق بحكم الله، والثبات من غير بث ولا استكراه قاله القشيري، والفاء جواب شرط محذوف أي إذا عرفت ذلك وقامت عليه البراهين ولم ينجح في الكافرين فاصبر كما صبر أرباب الثبات والحزم وأولو الجد والصبر فإنك منهم.
قال مجاهد: أولو العزم من الرسل خمسة: نوح وإبراهيم وموسى وعيسى ومحمد، وهم أصحاب الشرائع، وبه قال ابن عباس. وقال أبو العالية: هم نوح وهود وإبراهيم، فأمر الله رسوله أن يكون رابعهم. وقال السدي هم ستة: إبراهيم وموسى وداود وسليمان وعيسى ومحمد صلى الله عليه وسلم وقيل نوح وهود وصالح وشعيب ولوط وموسى. وقال ابن جريج: إن منهم إسماعيل ويعقوب وأيوب وليس منهم يونس.
وقال الشعبي والكلبي: هم الذين أمروا بالقتال فأظهروا المكاشفة وجاهدوا الكفرة؛ وقيل هم نجباء الرسل المذكورين في سورة الأنعام وهم ثمانية عشر: إبراهيم وإسحاق ويعقوب ونوح وداود وسليمان وأيوب ويوسف وموسى وهارون وزكريا ويحيى وعيسى وإسماعيل وإلياس واليسع ويونس
ولوط، واختار هذا الحسين بن الفضل لقوله بعد ذكرهم.
(أولئك الذين هدى الله فبهداهم اقتده) وقيل إن الرسل كلهم أولو عزم ولم يبعث الله عز وجل نبياً إلا كان ذا عزم وحزم ورأي وكمال عقل. وقيل هم أثنا عشر نبياً أرسلوا إلى بني إسرائيل، وقال الحسن هم أربعة إبراهيم وموسى وداود وعيسى وعن ابن عباس قال هم الذين أمروا بالقتال حتى مضوا على ذلك نوح وهود وصالح وموسى وداود وسليمان.
وعن جابر بن عبد الله قال: " بلغني أن أولي العزم من الرسل كانوا ثلثمائة وثلاثة عشر "، وعن عائشة قالت:" ظل رسول الله صلى الله عليه وسلم صائماً ثم طوى ثم ظل صائماً ثم طوى ثم ظل صائماً، قال: يا عائشة إن الدنيا لا تنبغي لمحمد ولا لآل محمد، يا عائشة إن الله لم يرض من أولي العزم من الرسل إلا بالصبر على مكروهها، والصبر عن محبوبها، ثم لم يرض مني إلا أن يكلفني ما كلفهم فقال: اصبر كما صبر أولو العزم من الرسل، وإني والله لأصبرن كما صبروا جهدي، ولا قوة إلا بالله "، أخرجه ابن أبي حاتم والديلمي. قيل: هذه الآية منسوخة بآية السيف، وقيل: محكمة، قال القرطبي: والأظهر أنها منسوخة لأن السورة مكية، وذكر مقاتل أن هذه الآية نزلت على رسول الله صلى الله عليه وسلم يوم أحد فأمره الله أن يصبر على ما أصابه أولو العزم تسهيلاً عليه وتثبيتاً له.
(ولا تستعجل لهم) أي لا تستعجل العذاب يا محمد للكفار، فإنه نازل بهم لا محالة وإن تأخر، واللام للتعليل، ولا أمره سبحانه بالصبر ونهاه عن استعجال العذاب لقومه رجاء أن يؤمنوا قال (كأنهم يوم يرون ما يوعدون) من العذاب في الآخرة لطوله (لم يلبثوا إلا ساعة من نهار) أي إلا قدر ساعة من ساعات الأيام لا يشاهدونه من الهول العظيم والبلاء القيم.
(بلاغ) قرأ الجمهور بالرفع على أنه خبر مبتدأ محذوف، أي هذا الذي وعظتهم به بلاغ؛ أو تلك الساعة بلاغ، أو هذا القرآن بلاغ، أو هو
مبتد والخبر لهم الواقع بعد قوله (ولا تستعجل لهم) أي: لهم بلاع، وقرىء بالنصب على المصدر، أي بلغ بلاغاً، وقرىء بلغ بصيغة الأمر، وبلغ بصيغة الماضي.
(فهل يهلك إلا القوم الفاسقون) قرأ الجمهور يهلك على البناء للمفعول وقرىء على البناء للفاعل، وقرىء بالنون ونصب القوم، والمعنى أنه لا يهلك بعذاب الله إلا القوم الخارجون عن الطاعة الواقعون في معاصي الله.
قال قتادة " لا يهلك على الله إلا هالك مشرك " قيل وهذه الآية أقوى آية في الرجاء " وقال الزجاج تأويله لا يهلك مع رحمة الله تعالى وفضله إلا القوم الفاسقون وهذا تطميع في سعة فضل الله سبحانه وتعالى.