الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
(فذوقوا) أي فقلنا لهم: ذوقوا على ألسنة الملائكة، أو ظاهر الحال والمراد بهذا الأمر الخبر، أي أذقتهم (عذابي ونذر) يعني ما أنذركم به لوط من العذاب
(لقد صبحهم بكرة) أي أتاهم صباحاً من يوم غير معين (عذاب) نازل عليهم (مستقر) دائم لا يفارقهم، ولا ينفك عنهم إلى أن يفضي بهم إلى عذاب الآخرة.
(فَذُوقُوا عَذَابِي وَنُذُرِ
(39)
وَلَقَدْ يَسَّرْنَا الْقُرْآنَ لِلذِّكْرِ فَهَلْ مِنْ مُدَّكِرٍ)؟ ولعل وجه تكرير تيسير القرآن بالذكر في هذه السورة الإشعار بأنه منّة عظيمة لا ينبغي لأحد أن يغفل عن شكرها، ولأن في كل قصة إشهاراً بأن تكذيب كل رسول مقتض لنزول العذاب، واستماع كل قصة مستدع للإدكار والإتعاظ، وهذا حكم التكرير في قوله:(فبأي آلاء ربكما تكذبان) عند كل نعمة عدها، وقوله:(ويل يومئذ للمكذبين) عند كل آية أوردها، وكذلك تكرير الأنباء والقصص في أنفسها لتكون تلك العبرة حاضرة للقلوب مصورة للأذهان، مذكورة غير منسية في كل أوان.
(ولقد جاء آل فرعون النذر) جمع نذير أو مصدر بمعنى الإنذار كما تقدم، وهي الآيات التسع التي أنذرهم بها موسى، وهذا أولى، لقوله:
(كذبوا بآياتنا كلها) فإنه بيان لذلك، والمراد بها الآيات التسع التي تقدم ذكرها، وقيل: النذر موسى وهرون وغيرهما من الأنبياء (فأخذناهم) بالعذاب (أخذ عزيز مقتدر) أي أخذ غالب في انتقامه قادر على إهلاكهم لا يعجزه شيء، ثم خوف سبحانه كفار مكة فقال:
أَكُفَّارُكُمْ خَيْرٌ مِنْ أُولَئِكُمْ أَمْ لَكُمْ بَرَاءَةٌ فِي الزُّبُرِ (43) أَمْ يَقُولُونَ نَحْنُ جَمِيعٌ مُنْتَصِرٌ (44) سَيُهْزَمُ الْجَمْعُ وَيُوَلُّونَ الدُّبُرَ (45) بَلِ السَّاعَةُ مَوْعِدُهُمْ وَالسَّاعَةُ أَدْهَى وَأَمَرُّ (46) إِنَّ الْمُجْرِمِينَ فِي ضَلَالٍ وَسُعُرٍ (47) يَوْمَ يُسْحَبُونَ فِي النَّارِ عَلَى وُجُوهِهِمْ ذُوقُوا مَسَّ سَقَرَ (48) إِنَّا كُلَّ شَيْءٍ خَلَقْنَاهُ بِقَدَرٍ (49) وَمَا أَمْرُنَا إِلَّا وَاحِدَةٌ كَلَمْحٍ بِالْبَصَرِ (50) وَلَقَدْ أَهْلَكْنَا أَشْيَاعَكُمْ فَهَلْ مِنْ مُدَّكِرٍ (51) وَكُلُّ شَيْءٍ فَعَلُوهُ فِي الزُّبُرِ (52) وَكُلُّ صَغِيرٍ وَكَبِيرٍ مُسْتَطَرٌ (53) إِنَّ الْمُتَّقِينَ فِي جَنَّاتٍ وَنَهَرٍ (54) فِي مَقْعَدِ صِدْقٍ عِنْدَ مَلِيكٍ مُقْتَدِرٍ (55)
(أَكُفَّارُكُمْ خَيْرٌ مِنْ أُولَئِكُمْ)؟ الإستفهام للإنكار، والمعنى النفي، أي ليس كفاركم يا أهل مكة، أو يا معشر العرب، خير من كفار من تقدمكم من الأمم الذين أهلكوا بسبب الكفر، فكيف تطمعون في السلامة من العذاب، وأنتم شر منهم؟ قال ابن عباس: يقول: ليس كفاركم خيراً من قوم نوح، وقوم لوط، وقيل: من قوم عاد وثمود، وفرعون وقومه، ثم أضرب سبحانه عن ذلك، وانتقل إلى تبكيتهم بوجه آخر، هو أشد من التبكيت بالوجه الأول فقال:
(أَمْ لَكُمْ بَرَاءَةٌ فِي الزُّبُرِ)؟ هي الكتب المنزلة على الأنبياء، والمعنى إنكار أن تكون لهم براءة من عذاب الله، في شيء من كتب الأنبياء، ثم أضرب عن هذا التبكيت، وانتقل إلى التبكيت لهم بوجه آخر فقال:
(أم يقولون نحن جميع منتصر)؟ أي: جماعة لا نطاق لكثرة عددنا وقوتنا، أو أمرنا مجتمع لا نغلب، وأفرد منتصر اعتباراً بلفظ جميع وموافقة لرؤوس الآي، أو المعنى نحن كل واحد منا منتصر قال الكلبي: المعنى نحن جميع أمرنا ننتصر من أعدائنا، ولا نرام ولا نضام، فرد الله سبحانه عليهم بقوله:
(سيهزم الجمع) أي: جمع كفار مكة أو كفار العرب على العموم؛ قرأ
الجمهور بالتحتية مبنياً للمفعول؛ وقرىء بالنون وكسر الزاي ونصب الجمع، وقرىء بالتحتية مبنياً للفاعل، وبالفوقية على الخطاب مبنياً للفاعل (ويولون الدبر) قرأ الجمهور بالتحتية، وقرىء بالفوقية على الخطاب، والمراد بالدبر الجنس، وهو في معنى الإدبار، وقيل: وحد لأجل رؤوس الآي، وقيل: في الإفراد إشارة إلى أنهم في التولية والهزيمة كنفس واحدة فلا يتخلف أحد عن الهزيمة، ولا يثبت أحد للزحف، فهم في ذلك كرجل واحد وقد هزمهم الله يوم بدر وولوا الأدبار وقتل رؤوساء الشرك، وأساطين الكفر فلله الحمد وهذه من علامات النبوة، قال ابن عباس: كان ذلك يوم بدر، قالوا: نحن جميع منتصر، فنزلت هذه الآية.
(بل الساعة موعدهم) أي موعد عذابهم الأخروي بعد بدر، وليس هذا العذاب الكائن في الدنيا بالقتل والأسر والقهر هو تمام ما وعدوا به من العذاب وإنما هو مقدمة من مقدماته، وطليعة من طلائعه. ولهذا قال:
(والساعة أدهى) أي وعذاب الساعة أعظم في الضر، وأفظع وأشد من موقف بدر، يقال: دهاه أمر كذا أي أصابه دهواً ودهياً؛ والداهية الأمر المنكر الذي لا يهتدي لدوائه، مأخوذ من الدهاء وهو النكر والفظاعة وإظهار الساعة في مقام إضمارها لزيادة تهويلها.
(وأمر) أي أشد مرارة من عذاب الدنيا.
في البخاري وغيره. عن " ابن عباس أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: وهو في قبة له يوم بدر: أنشدك عهدك ووعدك، اللهم إن شئت لم تعبد بعد اليوم أبداً فأخذ أبو بكر بيده وقال: حسبك يا رسول الله ألححت على ربك؛ فخرج وهو يثب في الدرع ويقول: (سيهزم) إلى قوله: (أدهى وأمر) ".
(إن المجرمين) أي المشركين (في ضلال وسعر) أي: في ذهاب عن الحق وبعد عنه، وفي نار تسعر عليهم، وقيل؛ في ضلال في الدنيا، وفي نار مسعرة في الآخرة، وقيل: في ضلال عن طريق الجنة، وسعر أي عذاب
الآخرة، أو في هلاك ونيران في الآخرة، وقد تقدم في هذه السورة تفسير سعر فلا نعيده.
(يوم يسحبون في النار على وجوههم) أي كائنون في ضلال وسعر يوم يسحبون أو يوم يسحبون يقال لهم: (ذوقوا مس سقر) أي: قاسوا حرّها، وشدة عذابها كقولهم: وجد مس الحمى، وذاق طعم الضرب، قال الكرخي: إن مس سقر مجاز عن إصابتها بعلاقة السببية والظاهر من تقرير الكشاف أنه من الاستعارة بالكناية، وسقر علم لجهنم غير منصرف للتأنيث والتعريف من سقرته النار إذا لوحته، أخرج أحمد وعبد بن حميد ومسلم والترمذي وابن ماجة وغيرهم.
عن " أبي هريرة قال: جاء مشركو قريش إلى النبي صلى الله عليه وسلم يخاصمونه في القدر فنزلت (يوم يسحبون) الخ ".
(إنا كل شيء خلقناه بقدر) أي: كل شيء من الأشياء خلقه الله سبحانه متلبساً بقدر قدره، وقضاء قضاه، سبق في علمه مكتوب في اللوح المحفوظ قبل وقوعه، والقدر التقدير، والعامة على نصب كل بالاشتغال، وقرىء بالرفع وقد رجح الناس النصب بل أوجبه بعضهم، قال: لأن الرفع يوهم ما لا يجوز على قواعد أهل السنة، وقال أبو البقاء: وإنما كان النصب أولى لدلالته على عموم الخلق، والرفع لا يدل على عمومه. بل يفيد أن كل شيء مخلوق فهو بقدر، وإنما دل نصب كل على العموم، لأن التقدير: إنا خلقنا كل شيء بقدر، فخلقناه تأكيد، وتفسير لخلقنا المضمر الناصب لكل شيء فهذا لفظ عام يعم جميع المخلوقات، وللسمين هنا كلام مبسوط لا نطول بذكره.
أخرج مسلم:
عن " ابن عمر قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: كل شيء بقدر حتى العجز والكيس "، وعن " عبد الله بن عمرو بن العاص قال:
سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: كتب الله مقادير الخلائق كلها قبل أن يخلق السموات والأرض بخمسين ألف سنة " (1). أخرجه مسلم.
وعن " جابر قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم لا يؤمر أحدكم حتى يؤمن بالقدر "، أخرجه الترمذي واستغربه وفي الباب أحاديث بين صحيح منها وضعيف، قال الخطابي: وقد يحسب كثير من الناس أن معنى القضاء والقدر إجبار الله العبد، وقهره على ما قدره وقضاه، وليس الأمر كما يتوهمونه وإنما معناه الإخبار عن تقدم علم الله تعالى بما يكون من أكساب العباد، وصدورها عن تقدير منه، وخلق لها خيرها وشرها؛ والقدر اسم لما صدر مقدراً عن فعل القادر، يقال قدرت الشيء وقدرته بالتخفيف والتثقيل بمعنى واحد والقضاء في هذا معناه الخلق كقوله:(فقضاهن سبع سموات) أي خلقهن.
قال النووي: إن مذهب أهل الحق إثبات القدر، ومعناه أن الله تعالى قدر الأشياء في القدم، وعلم سبحانه أنها ستقع في أوقات معلومة عنده سبحانه على صفات مخصوصة، فهي تقع على حسب ما قدرها الله، وأنكرت القدرية هذا، وزعمت أنه سبحانه لم يقدرها، ولم يتقدم علمه بها، وأنها مستأنفة العلم، أي إنما يعلمها سبحانه بعد وقوعها، وكذبوا على الله سبحانه وتعالى عن أقوالهم الباطلة علواً كبيراً انتهى.
وقد تظاهرت الأدلة القطعية من الكتاب والسنة وإجماع الصحابة، وأهل العقد والحل من السلف والخلف، على إثبات قدر الله سبحانه وتعالى، وقد قرر ذلك أئمة السنة أحسن تقرير، بدلائله القطعية، السمعية والعقلية، ليس هذا موضع بسطه، والله تعالى أعلم.
(1) رواه مسلم.
(وما أمرنا) لشيء نريد وجوده (إلا واحدة) أي إلا مرة واحدة،
أو فعلة واحدة، وهو الإيجاد بلا معالجة ومعاناة، أو كلمة واحدة، وهي قوله:(كن فيكون)، فهنا بان الفرق بين الإرادة والقول، فالإرادة قدر والقول قضاء، وقيل: المراد بالأمر القيامة (كلمح بالبصر) في سرعته، واللمح النظر على العجلة والسرعة، وفي الصحاح: لمحه وألمحه إذا أبصره بنظر خفيف، والإسم اللمحة، أي فكما أن لمح أحدكم ببصره لا كلفة عليه فيه، فكذلك الأفعال كلها عندنا، بل أيسر، قال الكلبي: وما أمرنا بمجيىء الساعة في السرعة إلا كطرف البصر.
(ولقد أهلكنا أشياعكم) أي أشباهكم ونظراءكم في الكفر من الأمم، وقيل أتباعكم وأعوانكم، والقدرة عليكم كالقدرة عليهم، فأحذروا أن يصيبكم ما أصابهم، ولذلك تسبب عنه قوله:(فهل من مدكر) يتذكر ويتعظ بالمواعظ ويعلم أن ذلك حق فيخاف العقوبة، وأن يحل به ما حل بالأمم السالفة.
(وكل شيء فعلوه في الزبر) أي جميع ما فعلته الأمم من خير أو شر مكتوب في اللوح المحفوظ، وقيل: في كتب الحفظة ودواوينهم
(وكل صغير وكبير مستطر) يقال: سطر يسطر سطراً كتب، وأسطر مثله، أي كل شيء من أعمال الخلق، أقوالهم وأفعالهم وما هو كائن، مسطور في اللوح المحفوظ صغيره وكبيره، وجليله وحقيره، قال ابن عمر: مسطور في الكتاب، ثم لما فرغ سبحانه من ذكر حال الأشقياء، ذكر حال السعداء فقال:
(إن المتقين في جنات ونهر) أريد به الجنس، لمناسبة جمع الجنات، وإنما أفرد في اللفظ لموافقة رؤوس الآي، وبه قرأ الجمهور، وهو يشمل أنهار الجنة من الماء والخمر واللبن والعسل. وقرىء بسكون الهاء، وهما لغتان وقرىء بضم النون والهاء على الجمع شاذاً والمعنى أنهم في بساتين مختلفة وجنان متنوعة، وأنهار متدفقة، وقيل: النهر السعة والضياء، ومنه النهار. والمعنى لا ليل عندهم، والأول أولى.
(في مقعد صدق) من إضافة الموصوف إلى الصفة، أي في مجلس حق، ومكان مرضي لا لغو فيه ولا كذب ولا تأثيم وهو الجنة، وأريد به الجنس، وقرىء مقاعد شاذاً (عند مليك) أي عزيز الملك واسعه (مقتدر) أي قادر على ما يشاء لا يعجزه شيء، وعند ههنا كناية عن الكرامة، وشرف المنزلة، وتقريب الرتبة، بحيث أبهم على ذوي الأفهام، وفائدة التنكير فيهما أن يعلم أن لا شيء إلا وهو تحت ملكه وقدرته، وهو على كل شيء قدير.