الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
(فَجَعَلْنَاهُنَّ أَبْكَارًا) أي لم يطمثهن إنس قبلهم ولا جان قال ابن عباس: أبكاراً عذارى، أي كلما أتاهن أزواجهن وجدوهن عذارى، ولا يحصل لهن وجع في إزالة البكارة
(عُرُبًا أَتْرَابًا) العرب جمع عروب وهي المتحببة إلى زوجها الحسنة البعل، قال المبرد: هي العاشقة لزوجها، وقال زيد بن أسلم: هي الحسنة الكلام، قرأ الجمهور بضم العين والراء وقرىء بإسكان الراء وهما لغتان في جمع فعول، وقراءتان سبعيتان، قال ابن عباس: عرباً عواشق لأزواجهن، وأزواجهن لهن عاشقون، أتراباً في سن واحد ثلاثاً وثلاثين سنة.
وعنه قال: العروب الملقة لزوجها، وقال مجاهد: أتراباً أمثالاً وأشكالاً، وقال السدي: أتراباً في الأخلاق لا تباغض بينهن، ولا تحاسد.
" وعن معاذ بن جبل عن النبي صلى الله عليه وسلم قال يدخل أهل الجنة الجنة جرداً مرداً مكحلين أبناء ثلاثين، أو قيل: ثلاث وثلاثين سنة "، أخرجه الترمذي، وقال: حديث حسن غريب، والأتراب جمع ترب وهو المساوي لك في سنك، لأنه يمس جلدهما التراب في وقت واحد، وهو آكد في الائتلاف، وهو من الأسماء التي لا تنعرف بالإضافة لأنه في معنى الصفة، إذ معناه مساويك، ومثله خدنك لأنه في معنى صاحبك، يقال في النساء أتراب وفي الرجال أقران.
(لأصحاب اليمين) يعني أن الله أنشأهن لأجلهم، أو خلقهن لأجلهم أو هن مساويات لأصحاب اليمين في السن، أو هن لأصحاب اليمين، أو هذا الذي ذكرنا لهم
(ثُلَّةٌ مِنَ الْأَوَّلِينَ
(39)
وَثُلَّةٌ مِنَ الْآخِرِينَ) هذا راجع إلى قوله (وأصحاب اليمين) أي هم ثلة الخ، وقد تقدم تفسير الثلة عند ذكر السابقين، والمعنى أنهم جماعة أو أمة أو فرقة أو قطعة من الأولين، وهم من لدن آدم إلى نبينا صلى الله عليه وسلم وجماعة أو أمة أو فرقة أو قطعة من الآخرين، وهم أمة محمد صلى الله عليه وسلم، وقال أبو العالية ومجاهد وعطاء بن أبي رباح والضحاك:(ثُلَّةٌ مِنَ الْأَوَّلِينَ) بمعنى من سابقي هذه
الأمة (وَثُلَّةٌ مِنَ الْآخِرِينَ) من هذه الأمة من آخرها.
أخرج مسدد وابن المنذر والطبراني بسند حسن. " عن أبي بكرة عن النبي صلى الله عليه وسلم، في الآية قال: جميعها من هذه الأمة " وعنه قال: هما جميعاً من هذه الأمة " وعن ابن عباس عن النبي صلى الله عليه وسلم، قال: هما جميعاً من أمتي "، أخرجه عبد بن حميد وابن عدي والفريابي وغيرهم، قال السيوطي: بسند ضعيف، وعنه قال الثلتان جميعاً من هذه الأمة، وبه قال أبو العالية ومجاهد وعطاء بن أبي رباح والضحاك، وهو اختيار الزجاج، فإن قلت: كيف قال قبل هذا وقليل من الآخرين؟ ثم قال هنا وثلة من الآخرين؟ قلت ذاك في السابقين الأولين، وقليل من يلحق بهم من الآخرين، وهذا في أصحاب اليمين، وأنهم يتكاثرون من الأولين والآخرين جميعاً.
ثم لما فرغ سبحانه مما أعده لأصحاب اليمين شرع في ذكر أصحاب الشمال وما أعده لهم فقال:
(وَأَصْحَابُ الشِّمَالِ مَا أَصْحَابُ الشِّمَالِ)؟ الكلام في هذا وما فيه من التفخيم كما سبق في أصحاب اليمين. والشمال والمشأمة واحدة
(في سموم وحميم) السموم حر النار، والحميم الماء الحار الشديد الحرارة، وقيل السموم الريح الحارة التي تدخل في مسام البدن، وقد سبق بيان معناهما.
(وظل من يحموم) اليحموم يفعول من الأحم، أو الحميم وهو الأسود تقول أسود يحموم إذا كان شديد السواد، والمعنى: إنهم يفزعون إلى الظل فيجدونه ظلاً من دخان جهنم، شديد السواد، وقيل هو مأخوذ من الحم وهو الشحم المسود باحتراق النار، وقيل مأخوذ من الحمم وهو الفحم والرماد، وقال الضحاك: النار سوداء وأهلها سود وكل ما فيها أسود، قال ابن عباس: يحموم دخان أسود، وفي لفظ دخان جهنم، وقيل: واد في جهنم، وقيل: اسم من أسمائها، والأول أظهر، ثم وصف الله سبحانه هذا الظل بقوله:
لَا بَارِدٍ وَلَا كَرِيمٍ (44) إِنَّهُمْ كَانُوا قَبْلَ ذَلِكَ مُتْرَفِينَ (45) وَكَانُوا يُصِرُّونَ عَلَى الْحِنْثِ الْعَظِيمِ (46) وَكَانُوا يَقُولُونَ أَئِذَا مِتْنَا وَكُنَّا تُرَابًا وَعِظَامًا أَإِنَّا لَمَبْعُوثُونَ (47) أَوَآبَاؤُنَا الْأَوَّلُونَ (48) قُلْ إِنَّ الْأَوَّلِينَ وَالْآخِرِينَ (49) لَمَجْمُوعُونَ إِلَى مِيقَاتِ يَوْمٍ مَعْلُومٍ (50) ثُمَّ إِنَّكُمْ أَيُّهَا الضَّالُّونَ الْمُكَذِّبُونَ (51) لَآكِلُونَ مِنْ شَجَرٍ مِنْ زَقُّومٍ (52) فَمَالِئُونَ مِنْهَا الْبُطُونَ (53) فَشَارِبُونَ عَلَيْهِ مِنَ الْحَمِيمِ (54) فَشَارِبُونَ شُرْبَ الْهِيمِ (55) هَذَا نُزُلُهُمْ يَوْمَ الدِّينِ (56) نَحْنُ خَلَقْنَاكُمْ فَلَوْلَا تُصَدِّقُونَ (57)
(لَا بَارِدٍ) أي ليس كغيره من الظلال التي تكون باردة بل هو حار ضار لأنه من دخان نار جهنم (وَلَا كَرِيمٍ) قال سعيد ابن المسيب: أي ليس فيه حسن منظر، وكل ما لا خير فيه فليس بكريم، وقال الضحاك: ولا كريم ولا عذب، قال الفراء: العرب يجعل الكريم تابعاً لكل شيء نفت عنه وصفاً تنوي به الدم، تقول ما هو بسمين ولا كريم، وما هذه الدار بواسعة ولا كريمة، والنعتان المذكوران لقوله: ظل لا ليحموم وما قيل من أنه يلزم على ذلك تقديم غير الصريحة على الصريحة فلا يرد، لأن الترتيب غير واجب نص عليه الرضى مع أنه هنا يفضي إلى عدم توازن الفاصلتين، وجعلهما نعتين ليحموم لا يلائم البلاغة القرآنية، وكان من حق الظاهر أن يقال: وظل حار ضار، فعدل إلى قوله (وظل من يحموم) ليتبادر منه إلى الذهن أولاً الظل المتعارف، فيطمع السامع، فإذا نفى عنه ما هو المطلوب من الظل، وهو البرد والاسترواح جاءت السخرية والتهكم والتعريض بأن الذين يستأهلون الظل الذي فيه برد وإكرام غير هؤلاء، فيكون أشجى لحلوقهم، وأشد لتحسرهم.
قال الرازي: وفي الأمور الثلاثة إشارة إلى كونهم في العذاب دائماً ثم ذكر سبحانه أعمالهم التي استحقوا بها هذا العذاب فقال:
(إنهم كانوا قبل ذلك) أي قبل هذا العذاب النازل بهم (مترفين) في الدنيا أي منعمين بما لا يحل لهم
فمنعهم ذلك من الإنزجار، وشغلهم عن الإعتبار، وإنما كان الترفة هنا ذماً من حيث إنهم جعلوا من جملته القعود عن الطاعات وتركها، فصح ذمهم بهذا الإعتبار مع أنه في الواقع ليس ذماً في حد ذاته، والمترف المتنعم، وقال السدي: مشركين، وقيل: متكبرين والأول أولى والجملة تعليل لإستحقاقهم هذه العقوبة.
قال الرازي: والحكمة في ذكره سبب عذابهم ولم يذكر في أصحاب اليمين سبب ثوابهم، فلم يقل: إنهم كانوا قبل ذلك شاكرين مذعنين، وذلك للتنبيه على أن الثواب منه تعالى فضل والعقاب منه عدل والفضل سواء ذكر سببه أو لم يذكر لا يوهم بالمتفضل نقصاً ولا ظلماً، وأما العدل فإنه إن لم يذكر سبب العقاب يظن أنه ظالم، ويدل على ذلك أنه تعالى لم يقل في حق أصحاب اليمين (جزاء بما كانوا يعملون) كما قال في السابقين، لأن أصحاب اليمين نجوا بالفضل العظيم لا بالعمل بخلاف من كثرت حسناته فإنه يحسن إطلاق الجزاء في حقه.
(وَكَانُوا يُصِرُّونَ عَلَى الْحِنْثِ الْعَظِيمِ) الحنث الذنب، أي: يصرون على الذنب العظيم، قال الواحدي: قال أهل التفسير: عنى به الشرك لأنه نقض عهد الميثاق، والحنث نقض العهد المؤكد باليمين. أي كانوا لا يتوبون عن الشرك، وبه قال الحسن والضحاك وابن زيد، وقال قتادة ومجاهد: هو الذنب العظيم الذي لا يتوبون عنه، وقال الشعبي: هو اليمين الغموس، وذلك أنهم كانوا يحلفون أنهم لا يبعثون، وكذبوا في ذلك، يدل عليه قوله:
(وَكَانُوا يَقُولُونَ أَئِذَا مِتْنَا وَكُنَّا تُرَابًا وَعِظَامًا أَإِنَّا لَمَبْعُوثُونَ) الإستفهام في الموضعين للإنكار، والإستبعاد وقد تقدم الكلام على هذا في الصافات وفي سورة الرعد.
والمعنى أنهم أنكروا واستبعدوا أن يبعثوا بعد الموت وقد صاروا عظاماً وتراباً، والمراد أنه صار لحمهم وجلودهم تراباً. وصارت عظامهم نخرة بالية والعامل في الظرف ما يدل عليه: مبعوثون، لأن ما بعد الإستفهام لا يعمل فيما قبله، أي أنبعث إذا متنا؟
(أو آباؤنا الأولون)؟ معطوف على الضمير في (لمبعوثون) لوقوع الفصل بينهما بالهمزة، والمعنى أن بعث آبائهم الأولين أبعد لتقدم موتهم، ثم أمر الله سبحانه رسوله صلى الله عليه وسلم أن يجيب عليهم ويرد استبعادهم فقال:
(قل) لهم يا محمد صلى الله عليه وسلم رداً لإنكارهم، وتحقيقاً للحق:
(إن الأولين) من الأمم (والآخرين) منهم الذين أنتم من جملتهم
(لمجموعون) بعد الموت (إلى ميقات) أي لوقت (يوم معلوم) معين عند الله، وهو يوم القيامة، والميقات ما وقت به الشيء، أي: حد، ومنه مواقيت الإحرام، والإضافة بمعنى من كخاتم فضة، والمعنى أنهم يحشرون إلى ما وقَّتَّ به الدنيا من يوم الحساب.
(ثم إنكم أيها الضالون المكذبون) هذا وما بعده من جملة ما هو داخل تحت القول، وهو معطوف على:(إن الأولين) والمراد أهل مكة ومن في مثل حالهم، ووصفهم سبحانه بوصفين قبيحين. وهما الضلال عن الحق والتكذيب للبعث وثم للتراخي زماناً أو رتبة.
(لآكلون) في الآخرة (من شجر من زقوم) أي من شجر كريه المنظر كريه الطعم، وهو من أخبث الشجر المر، ينبت في الدنيا بتهامة، وفي الآخرة ينبته الله في الجحيم، وهو في غاية الكراهة وبشاعة المنظر ونتن الريح وقد تقدم تفسيره في سورة الصافات، ومن الأولى لابتداء الغاية، والثانية: بيانية، أو الأولى: مزيدة والثانية بيانية، أو الثانية: مزيدة، والأولى للإبتداء
(فمالئون منها) أي: من شجر الزقوم، وتأنيث الضمير لكون الشجر إسم جنس، وإسم الجنس يجوز تذكيره وتأنيثه لغتان (البطون) أي: بطونكم لما يلحقكم من شدة الجوع.
(فشاربون عليه من الحميم) الضمير عائد إلى الزقوم المأكول، والحميم الماء الحار الذي قد بلغ حره إلى الغاية، والمعنى فشاربون عقب أكله من الماء الحار، أو يعود الضمير إلى شجر، لأنه يذكر ويؤنث، أو يعود إلى الأكل المدلول عليه بقوله:(لآكلون) وقرىء من شجرة بالإفراد
(فشاربون شرب الهيم) قرأ
الجمهور (شرب الهيم) بفتح الشين وقرىء بضمها وبكسرها وهي لغات.
قال: أبو زيد: سمعت العرب تقول بضم الشين وفتحها وكسرها، قال المبرد: الفتح أصل المصدر، والضم إسم المصدر، والهيم الإبل العطاش التي لا تروى لداء يصيبها وهذه الجملة بيان لما قبلها، أي لا يكون شربكم شرباً معتاداً، بل يكون مثل شرب الهيم، التي تعطش ولا تروى بشرب الماء، ومفرد الهيم أهيم والأنثى هيماء.
وقال الضحاك وابن عيينة والأخفش وابن كيسان: الهيم الأرض السهلة ذات الرمل. والمعنى أنهم يشربون كما تشرب هذه الأرض الماء، ولا يظهر له فيها أثر. قال في الصحاح: ألهيام بالضم أشد العطش. والهيام كالجنون من العشق، والهيام داء يأخذ الإبل فتهيم في الأرض لا ترعى، يقال: ناقة هيماء، والهيماء أيضاًً المفازة لا ماء بها، والهيام بالفتح الرمل الذي لا يتماسك في اليد للينه، والجمع هيم مثل قذال وقذل، والهيام بالكسر الإبل العطاش، قال النسفي: وإنما صح عطف الشاربين على الشاربين وهما لذوات متفقة، وصفتين متفقتين لأن كونهم شاربين للحميم على ما هو عليه من تناهي الحرارة، وقطع الأمعاء أمر عجيب.
وشربهم له على ذلك كما يشرب الهيم الماء أمر عجيب أيضاًً فكانتا صفتين مختلفتين.
(هذا) أي ما ذكر من الزقوم المأكول، والحميم المشروب (نزلهم) أي رزقهم وغذاؤهم، قرأ الجمهور (نزل) بضمتين، وقرىء بضمة وسكون (يوم الدين) أي يوم الجزاء وهو يوم القيامة، والمعنى: أن ما ذكر من شجر الزقوم وشراب الحميم هو الذي يعد لهم ويأكلونه يوم القيامة، وفي هذا تهكم بهم، لأن النزل هو ما يعد للأضياف تكرمة لهم، ومثل هذا قوله:(فبشرهم بعذاب أليم)، والجملة مسوقة من جهته تعالى بطريق الفذلكة مقررة لمضمون الكلام غير داخلة تحت القول، ثم التفت سبحانه إلى خطاب الكفر تبكيتاً لهم وإلزاماً للحجة فقال:
أَفَرَأَيْتُمْ مَا تُمْنُونَ (58) أَأَنْتُمْ تَخْلُقُونَهُ أَمْ نَحْنُ الْخَالِقُونَ (59) نَحْنُ قَدَّرْنَا بَيْنَكُمُ الْمَوْتَ وَمَا نَحْنُ بِمَسْبُوقِينَ (60) عَلَى أَنْ نُبَدِّلَ أَمْثَالَكُمْ وَنُنْشِئَكُمْ فِي مَا لَا تَعْلَمُونَ (61) وَلَقَدْ عَلِمْتُمُ النَّشْأَةَ الْأُولَى فَلَوْلَا تَذَكَّرُونَ (62) أَفَرَأَيْتُمْ مَا تَحْرُثُونَ (63) أَأَنْتُمْ تَزْرَعُونَهُ أَمْ نَحْنُ الزَّارِعُونَ (64) لَوْ نَشَاءُ لَجَعَلْنَاهُ حُطَامًا فَظَلْتُمْ تَفَكَّهُونَ (65) إِنَّا لَمُغْرَمُونَ (66) بَلْ نَحْنُ مَحْرُومُونَ (67) أَفَرَأَيْتُمُ الْمَاءَ الَّذِي تَشْرَبُونَ (68) أَأَنْتُمْ أَنْزَلْتُمُوهُ مِنَ الْمُزْنِ أَمْ نَحْنُ الْمُنْزِلُونَ (69) لَوْ نَشَاءُ جَعَلْنَاهُ أُجَاجًا فَلَوْلَا تَشْكُرُونَ (70) أَفَرَأَيْتُمُ النَّارَ الَّتِي تُورُونَ (71)
(نحن خلقناكم فلولاً) فهلا (تصدقون)؟ بالخلق أو بالبعث إذ القادر على الإنشاء قادر على الإعادة، قاله المحلي، وقال مقاتل: خلقناكم ولم تكونوا شيئاًً وأنتم تعلمون ذلك فهلا تصدقون بالبعث؟
(أفرأيتم) أي: أخبروني هل رأيتم بالبصر أو البصيرة (ما تمنون) أي ما تقذفون وتصبون في أرحام النساء من النطف، قرأ الجمهور تمنون بضم الفوقية من أمنى يمني، وقرىء، بفتحها من منى يمني وهما لغتان، وقيل: معناهما مختلف يقال: أمنى إذا أنزل عن جماع، ومنى إذا أنزل من احتلام، وسمي المني منياً لأنه يمني أي يراق.
(أأنتم تخلقونه) أي أتقدرون المني وتصورونه أنتم بشراً سوياً، وهذا من باب الإشتغال، أو أنتم مبتدأ والجملة بعده خبره، والأول أرجح لأجل أداة الاستفهام (أم نحن الخالقون) أي المقدرون المصورون له، وأم هي المتصلة وقيل: هي المنقطعة والأول أولى.
(نحن قدرنا بينكم الموت) قرأ الجمهور (قدرنا) بالتشديد، وقرىء بالتخفيف، وهما لغتان وقراءتان سبعيتان، يقال: قدرت الشيء وقدرته أي قسمناه عليكم ووقتناه لكل فرد من أفرادكم، وقيل: قضينا، وقيل: كتبنا، وقيل: أوجبنا، والمعنى متقارب، قال مقاتل: فمنكم من يموت كبيراً ومنكم من
يموت صغيراً. وقال الضحاك: معناه أنه جعل أهل السماء وأهل الأرض فيه سواء.
(وما نحن بمسبوقين) أي بمغلوبين وعاجزين بل قادرين
(على أن نبدل أمثالكم) أي نأتي بخلق مثلكم، قال الزجاج: إن أردنا أن نخلق خلقاً غيركم لم يسبقنا سابق ولا يفوتنا وقال السمين: الأمثال جمع مثل بكسر الميم وسكون الثاء، أي نحن قادرون على أن نعدمكم ونخلق قوماً آخرين أمثالكم، ويؤيده:(إِنْ يَشَأْ يُذْهِبْكُمْ أَيُّهَا النَّاسُ وَيَأْتِ بِآخَرِينَ)، أو جمع مثل بفتحتين وهو الصفة، أي نغير صفاتكم التي أنتم عليها خلقاً وخلقاً، قلت: والأول أولى، وقال ابن جرير: المعنى نحن قدرنا بينكم الموت على أن نبدل أمثالكم بعد موتكم، بآخرين من جنسكم، وما نحن بمسبوقين في آجالكم، أي لا يتقدم متأخر، ولا يتأخر متقدم.
(وننشئكم فيما لا تعلمون) من الصور والهيئات، قال الحسن أي نجعلكم قردة وخنازير، كما فعلنا بأقوام قبلكم، وقيل: المعنى ننشئكم في البعث على غير صوركم في الدنيا، وقال سعيد بن المسيب: يعني في حواصل طيور سود تكون ببرهوت كأنها الخطاطيف وبرهوت واد باليمن، وقال مجاهد: يعني في أي خلق شئنا، ومن كان قادراً على هذا فهو قادر على البعث.
(ولقد علمتم النشأة الأولى) وهي ابتداء الخلق من نطفة، ثم من علقة، ثم من مضغة، ولم تكونوا قبل ذلك شيئاًً، أو الترابية لأبيكم آدم، واللحمية لأمكم حواء، والنطفية لكم، وكل منها تحويل من شيء إلى غيره، وقال قتادة والضحاك: يعني خلق آدم من تراب (فلولا تذكرون) أي فهلا تذكرون قدرة الله سبحانه على النشأة الأخرى وتقيسونها على النشأة الأولى؟ فإن من قدر على الأولى يقدر على الثانية، فإنها أقل كلفة من الأولى في العادة، قرأ الجمهور النشأة بالقصر وقرىء بالمد، وقد مضى تفسير هذا في سورة العنكبوت، وفيه دليل
على صحة القياس حيث جهلهم في ترك قياس النشأة الأخرى على الأولى.
(أفرأيتم) أي أخبروني (ما تحرثون) من أرضكم وتثيرون فتطرحون، وتلقون فيها البذر، والمعنى أفرأيتم البذر الذي تلقونه في الطين
(أأنتم تزرعونه)؟ أي تنبتونه وتجعلونه زرعاً، فيكون فيه السنبل والحب والزرع طرح البذر، والزرع أيضاًً الإنبات، يقال: زرعه الله أي أنبته.
(أم نحن الزارعون)؟ أي المنبتون له الجاعلون له زرعاً لا أنتم، قال المبرد: زرعه الله أي أنماه، فإذا أقررتم بهذا فكيف تنكرون البعث؟ " عن أبي هريرة، قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: لا يقولن أحدكم زرعت ولكن يقول حرثت، قال أبو هريرة: ألم تسمعوا الله يقول: أفرأيتم ما تحرثون؟ " الآية أخرجه البزار وابن جرير وابن مردويه وأبو نعيم والبيهقي في الشعب وضعفه
(لو نشاء لجعلناه) أي: لجعلنا ما تحرثون (حطاماً) أي متحطماً مفتتاً متكسراً أي نباتاً يابساً لا حب فيه، والحطام الهشيم الذي لا ينتفع به ولا يحصل منه حب ولا شيء مما يطلب من الحرث، وقيل: تبناً لا قمح فيه.
(فَظَلْتُمْ تَفَكَّهُونَ) أي فصرتم تعجبون، قاله ابن عباس، قال الفراء: تفكهون تتعجبون فيما نزل بكم في زرعكم، قال في الصحاح: وتفكه تعجب ويقال تندم، وقال الحسن وقتادة وغيرهما: معنى الآية تعجبون من ذهابه وتندمون مما حل بكم، وقال عكرمة: تلاومون وتندمون على ما سلف منكم من معصية الله، وقال أبو عمرو والكسائي: هو التلهف على ما فات، قرأ الجمهور:(فَظَلْتُمْ) بفتح الظاء مع لام واحدة، وقرىء بكسرها معها، وقرىء ظللتم بلامين أولاهما مكسورة على الأصل، وروي فتحها وهي لغة، وقرأ الجمهور (تَفَكَّهُونَ) بالهاء، وقرىء تفكنون بالنون مكان الهاء أي تندمون، قال ابن خالويه: تفكه تعجب، وتفكن تندم، وفي الصحاح: التفكن التندم، والتفكه التنقل بصنوف الفاكهة، وقد استعير للتنقل في الحديث.
(إنا لمغرمون) قرأ الجمهور بهمزة واحدة على الخبر، وقرىء بهمزتين على الاستفهام، أي أتقولون: إنا لملزمون غرماً بما هلك من زرعنا؟ والمغرم الذي ذهب ماله بغير عوض، قاله الضحاك وابن كيسان والكرخي، وقال الزمخشري: أي لملزمون غرامة ما أنفقنا، وقيل: المعنى إنا لمعذبون: قاله قتادة وغيره، وقال مجاهد وعكرمة: لمولع بنا يقال: أغرم فلان لفلان أي أولع به، وقال مقاتل: مهلكون أي لهلاك رزقنا، قال النحاس: مأخوذ من الغرام وهو الهلاك؛ والظاهر من السياق المعنى الأول أي إنا لمغرمون بذهاب ما حرثنا ومصيره حطاماً، ثم أضربوا عن قولهم هذا وانتقلوا فقالوا:
(بل نحن محرومون) أي حرمنا رزقنا بهلاك زرعنا، والمحروم الممنوع من الرزق الذي لا حظ له فيه، وهو المحارف، وقيل: محارفون محدودون لا مجدودون.
(أفرأيتم الماء الذي تشربون) فتسكنون به ما يلحقكم من العطش وتدفعون به ما ينزل بكم من الظمأ، واقتصر سبحانه على ذكر الشرب مع كثر فوائد الماء ومنافعه، لأنه أعظم فوائده وأجل منافعه
(أأنتم أنزلتموه من المزن)؟ أي السحاب قاله ابن عباس، وقال أبو زيد: المزنة السحاب البيضاء، والجمع مزن والمزنة المطر قاله في الصحاح (أم نحن المنزلون) دون غيرنا، فإذا عرفتم ذلك فكيف لا تقرون بالتوحيد وتصدقون بالبعث ثم بين لهم سبحانه أنه لو يشاء لسلبهم هذه النعمة فقال:
(لو نشاء جعلناه أجاجاً) الأجاج الماء الشديد الملوحة، الذي لا يمكن شربه، وقال الحسن هو الماء المر الذي لا ينتفعون به في شرب ولا زرع ولا غيرهما.
(فلولا) أي فهلا (تشكرون) نعمة الله الذي خلق لكم ماء عذباً تشربون منه وتنتفعون به
(أفرأيتم النار التي تورون) أي أخبروني عنها، ومعنى تورون تستخرجونها بالقدح من الشجر الرطب، يقال: أوريت النار إذا قدحتها، والعرب تقدح بعودين تحك أحدهما على الآخر، ويسمون الأعلى الزند والسفلى الزندة شبهوهما بالفحل والطروقة.
أَأَنْتُمْ أَنْشَأْتُمْ شَجَرَتَهَا أَمْ نَحْنُ الْمُنْشِئُونَ (72) نَحْنُ جَعَلْنَاهَا تَذْكِرَةً وَمَتَاعًا لِلْمُقْوِينَ (73) فَسَبِّحْ بِاسْمِ رَبِّكَ الْعَظِيمِ (74) فَلَا أُقْسِمُ بِمَوَاقِعِ النُّجُومِ (75) وَإِنَّهُ لَقَسَمٌ لَوْ تَعْلَمُونَ عَظِيمٌ (76) إِنَّهُ لَقُرْآنٌ كَرِيمٌ (77) فِي كِتَابٍ مَكْنُونٍ (78) لَا يَمَسُّهُ إِلَّا الْمُطَهَّرُونَ (79) تَنْزِيلٌ مِنْ رَبِّ الْعَالَمِينَ (80) أَفَبِهَذَا الْحَدِيثِ أَنْتُمْ مُدْهِنُونَ (81) وَتَجْعَلُونَ رِزْقَكُمْ أَنَّكُمْ تُكَذِّبُونَ (82) فَلَوْلَا إِذَا بَلَغَتِ الْحُلْقُومَ (83)
(أَأَنْتُمْ أَنْشَأْتُمْ شَجَرَتَهَا)؟ التي تكون منها الزنود وهي المرخ والعفار، تقول العرب: في كل شجر نار، واستمجد المرخ والعفار، وزاد الجلال المحلي الكلخ، نقل سليمان الجمل عن شيخه أنه قال: ولم نجدد في القاموس ولا في المختار، غير أنه أخبر بعض أهل المغرب والشام بأنه موجود معروف عندهم شبيه بالقصب تؤخذ منه قطعتان وتضرب إحداهما بالأخرى فتخرج النار (أم نحن المنشئون) لها بقدرتنا دونكم، ومعنى الإنشاء الخلق، وعبر عنه بالإنشاء للدلالة على ما في ذلك من بديع الصنعة وعجيب القدرة.
(نحن جعلناها) أي النار التي في الدنيا. (تذكرة) لنار جهنم الكبرى حيث علقنا بها أسباب المعاش، وعممنا بالحاجة إليها البلوى، لتكون حاضرة للناس ينظرون إليها ويذكرون ما أوعدوا به، قال مجاهد وقتادة: تبصرة للناس في الظلام، وقال عطاء: موعظة ليتعظ بها المؤمن وقال ابن عباس: تذكرة للنار الكبرى.
عن أبي هريرة عن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال ناركم هذه التي توقدون جزء من سبعين جزءاً من نار جهنم، قالوا والله إن كانت لكافية يا رسول الله؛ قال: فإنها فضلت عليها بتسعة وستين جزءاً كلها مثل حرها " (1) أخرجه البخاري ومسلم.
(1) رواه البخاري ومسلم.
(وَمَتَاعًا لِلْمُقْوِينَ) أي للمسافرين، قاله ابن عباس، يعني منفعة للذين ينزلون بالقواء وهي الأرض القفر، كالمسافرين وأهل البوادي النازلين في الأراضي المقفرة، يقال أرض قراء بالمد والقصر؛ أي مقفرة، ويقال أقوى إذا سافر أي نزل القوى، وخصوا بالذكر لأن منفعتهم بها أكثر من المقيمين، فإنهم يوقدونها بالليل لتهرب السباع ويهتدي الضال إلى غير ذلك من المنافع، وقال مجاهد: المقوين المستمتعين بها من الناس أجمعين في الطبخ والخبز والإصطلاء والإستضاءة، وتذكر نار جهنم، وقال ابن زيد: للجائعين في إصلاح طعامهم، يقال: أقويت منذ كذا وكذا أي ما أكلت شيئاًً وبات فلان القوى أي جائعاً.
وقال قطرب: القوى من الأضداد، يكون بمعنى الفقر ويكون بمعنى الغنى يقال: أقوى الرجل إذا لم يكن معه زاد، وأقوى إذا قويت دوابه وكثر ماله والمعنى جعلناها متاعاً ومنفعة للأغنياء والفقراء لا غنى لأحد عنها، وقال المهدوي: الآية تصلح للجميع؛ لأن النار يحتاج إليها المسافر والمقيم والغني والفقير وحكى الثعلبي عن أكثر المفسرين القول الأول وهو الظاهر.
(فَسَبِّحْ بِاسْمِ رَبِّكَ الْعَظِيمِ) الفاء لترتيب ما بعدها من ذكر الله سبحانه وتنزيهه على ما قبلها مما عدده من النعم التي أنعم بها على عباده، وجحود المشركين لها، وتكذيبهم بها، وقيل: قل سبحان ربي العظيم.
" وجاء مرفوعاً أنه لما نزلت هذه الآية قال اجعلوها في ركوعكم "، وسبح متعدّي بنفسه وبحرف الجر، فالباء زائد والإسم باق على معناه، أو بمعنى الذات أو بمعنى الذكر، قال الكرخي قالوا: كما يجب تنزيه ذاته وصفاته عن النقائص يجب تنزيه الألفاظ الموضوعة لها عن سوء الأدب، وقيل: لفظة باسم زائدة، والمعنى: فسبح ربك وهذا أبلغ لما يلزم ذلك بالطريق الأولى على سبيل الكناية الرمزية، وأثبتوا ألف الوصل هنا في إسم ربك لأنه لم يكثر دوره كثرته في البسملة.
(فلا أقسم) ذهب الجمهور إلى أن (لا) مزيدة للتوكيد، والمعنى فأقسم ويؤيد هذا قوله بعد:
(وإنه لقسم)، وقال جماعة من أهل التفسير: إنها للنفي والمنفي بها محذوف، وهو كلام الكفار الجاحدين، قال الفراء هي نفي والمعنى ليس الأمر كذلك، ثم قال مستأنفاً: قسم وضعف هذا بأن حذف اسم لا وخبرها غير جائز، كما قال أبو حيان وغيره، وقيل: إنها لام الإبتداء، والأصل فلأقسم فأشبعت الفتحة فتولد منها الألف. وقد قرىء هكذا بدون ألف، وعلى هذا التقدير: فلا، أنا أقسم بذلك، وقيل: إن لا ههنا بمعنى: ألا التي للتنبيه، وهو بعيد، وقيل: إن لا هنا على ظاهرها، وأنها لنفي القسم، أي: فلا أقسم على هذا لأن الأمر أوضح من ذلك، وهذا مدفوع بقوله:(وإنه لقسم) مع تعيين المقسم والمقسم عليه.
(بمواقع النجوم) أي مساقطها وهي مغاربها، كذا قال قتادة وغيره: ولعل لله في آخر الليل إذا انحطت النجوم إلى المغرب أفعالاً مخصوصة عظيمة أو للملائكة عبادات موصوفة، أو لأنه وقت قيام المتهجدين ونزول الرحمة والرضوان عليهم، فلذلك أقسم بمواقعها، وقال عطاء بن أبي رباح: منازلها وقال الحسن: انكدارها وانتثارها يوم القيامة، وقال الضحاك: هي الأنواء التي كان أهل الجاهلية يقولون؛ مطرنا بنوء كذا وكذا، قال الماوردي: ويكون قوله: (فلا أقسم) مستعملاً في حقيقته من نفي القسم، وقال القشيري: هو قسم ولله أن يقسم بما يريد وليس لنا أن نقسم بغير الله وصفاته القديمة، وقيل المراد نزول القرآن نجوماً من اللوح المحفوظ وبه قال السدي وغيره.
وحكى الفراء عن ابن مسعود بأن مواقع النجوم هو محكم القرآن، قال ابن عباس: أنزل القرآن في ليلة القدر من السماء العليا إلى السماء الدنيا جملة واحدة ثم فرق بين السنين، وفي لفظ نزل من السماء الدنيا إلى الأرض نجوماً ثم قرأ هذه الآية، وعنه قال نجوم القرآن حين ينزل، قرأ الجمهور (مواقع) على الجمع وقرىء موقع على الإفراد: قال المبرد موقع ههنا مصدر
فهو يصلح للواحد والجمع ثم أخبر الله سبحانه عن تعظيم هذا القسم وتفخيمه فقال:
(وإنه لقسم) هذه الجملة معترضة بين المقسم به والمقسم عليه وقوله: (لو تعلمون) جملة معترضة بين جزئي الجملة المعترضة، فهو إعتراض في اعتراض، قال الفراء والزجاج: هذا يدل على أن المراد بمواقع النجوم نزول القرآن، والضمير في أنه يعود على القسم الذي يدل عليه قسم والمعنى أن القسم بمواقع النجوم لقسم (عظيم) لو تعلمون لما في المقسم به من الدلالة على عظم القدرة، وكمال الحكمة، وفرط الرحمة ومن مقتضيات رحمته أن لا يترك عباده سدى ثم ذكر سبحانه المقسم عليه فقال:
(إنه لقرآن كريم) أي كرمه الله وأعزه، ورفع قدره على جميع الكتب وكرمه عن أن يكون سحراً وكهانة أو كذباً، وقيل: إنه كريم لما فيه من كرم الأخلاق، ومعالي الأمور وقيل لأنه يكرم حافظه، ويعظم قارئه، وحكى الواحدي عن أهل المعاني: أنه وصف القرآن بالكريم لأن من شأنه أن يعطي الخير الكثير بالدلائل التي تؤدي إلى الحق في الدين، قال الأزهري: الكريم اسم جامع لما يحمد، والقرآن كريم يحمد لما فيه من الهدى، والبيان والعلم والحكمة، فالفقيه يستدل به ويأخذ منه، والحكيم يستمد منه ويحتج به، والأديب يستفيد منه ويتقوى به، فكل عالم يطلب أصل علمه منه، وقيل: حسن مرضي أو نفاع جم المنافع، أو عزيز مكرم، لا يهون بكثرة التلاوة، ولا يخلق بكثرة الرد، ولا يمله السامعون، ولا يثقل على الألسنة، بل غض طري يبقى أبد الدهر.
(في كتاب مكنون) أي مستور مصون من التغيير والتبديل، على حد قوله:(إنا نحن نزلنا الذكر وإنا له لحافظون) وقيل: محفوظ عن الباطل وهو اللوح المحفوظ، قاله جماعة، وقيل: هو كتاب مصون من غير المقربين
من الملائكة، لا يطلع عليه من سواهم وقال عكرمة: هو التوراة والإنجيل فيهما ذكر القرآن ومن ينزل عليه، وقال السدي: هو الزبور، وقال مجاهد وقتادة هو المصحف الذي في أيدينا.
(لا يمسه إلا المطهرون) من جميع الأدناس، قال المحلي خبر بمعنى النهي أي لا يمسوه، أي: يحرم عليهم مسه بدون الطهارة ولم يبق صريحاً على خبريته لئلا يلزم الخلف في خبره تعالى، لأنه كثيراً ما يمس بدون طهارة، والخلف في خبره تعالى محال، وقيل إن لا ناهية والفعل بعدها مجزوم لأنه لو فك عن الإدغام لظهر ذلك فيه كقوله تعالى (لم يمسسهم سوء) ولكنه أدغم ولما أدغم حرك آخره بالضم لأجل هاء ضمير المذكر الغائب، وضعف ابن عطية النهي، قال الواحدي: أكثر المفسرين على أن الضمير عائد إلى الكتاب المكنون، أي لا يمس الكتاب المكنون إلا المطهرون وهم الملائكة، وقيل هم الملائكة والرسل من بني آدم، والمعنى لا يمسه المس الحقيقي، وقيل: المعنى لا ينزل به إلا المطهرون.
وعلى كون المراد بالكتاب المكنون هو القرآن، فقيل: لا يمسه إلا المطهرون من الأحداث والأنجاس، كذا قال قتادة وغيره.
وقال الكلبي: المطهرون من الشرك، وقال الربيع بن أنس: المطهرون من الذنوب والخطايا، وقال محمد بن الفضل وغيره: المعنى لا يقرأه إلا الموحدون وقال الفراء: لا يجد نفعه وبركته إلا المؤمنون، وقال الحسين بن الفضل: لا يعرف تفسيره وتأويله إلا من طهره الله من الشرك والنفاق، وقد ذهب الجمهور إلى منع المحدث من مس المصحف، وبه قال علي وابن مسعود وسعد بن أبي وقاص وسعيد بن زيد وعطاء والزهري والنخعي والحكم وحماد، وجماعة من الفقهاء منهم مالك والشافعي، وروي عن ابن عباس والشعبي وجماعة منهم أبو حنيفة أنه يجوز للمحدث مسه، وقد أوضح الشوكاني ما هو الحق في هذا في شرحه للمنتقى فليرجع إليه قرأ الجمهور المطهرون
اسم مفعول من التطهير، وقرىء بكسر الهاء على أنه اسم فاعل أي المطهرون أنفسهم وقرىء على أنه اسم مفعول من أطهر، وقرىء بتشديد الطاء وكسر الهاء أصله المتطهرون، قال ابن عباس في الآية الكتاب المنزل من السماء لا يمسه إلا الملائكة.
وعن أنس قال: المطهرون الملائكة.
وعن " علقمة قال: أتينا سلمان الفارسي فخرج علينا من كنيف فقلنا له: لو توضأت يا أبا عبد الله ثم قرأت علينا سورة كذا وكذا قال: إنما قال الله (فِي كِتَابٍ مَكْنُونٍ (78) لَا يَمَسُّهُ إِلَّا الْمُطَهَّرُونَ) وهو الذي في السماء لا يمسه إلا الملائكة، ثم قرأ علينا من القرآن ما شئنا "، أخرجه عبد الرزاق وابن المنذر.
" وعن عبد الله ابن أبي بكر بن عمرو بن حزم عن أبيه قال: في كتاب النبي صلى الله عليه وسلم لعمرو بن حزم: لا يمس القرآن إلا على طهر " أخرجه مالك في الموطأ عن عبد الله بن أبي بكر. وأخرجه أبو داود في المراسيل.
من حديث الزهري قال: قرأت في صحيفة عبد الله المذكور أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: ولا يمس القرآن إلا طاهر "، وقد أسنده الدارقطني عن عمرو بن حزم وغيره، وفي أسانيده نظر، وعن ابن عمر أنه كان لا يمس المصحف إلا متوضئاً و " عن عبد الرحمن بن زيد قال: كنا مع سلمان فانطلق إلى حاجته فتوارى عنا ثم خرج علينا فقلنا: لو توضأت فسألناك عن أشياء من القرآن؟ فقال سلوني فإني لست أمسه إنما يمسه المطهرون، ثم تلا هذه الآية " أخرجه سعيد بن منصور وابن أبي شيبة في المصنف، وابن المنذر وغيرهم.
و" عن ابن عمر قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم لا يمس
القرآن إلا طاهر "، أخرجه الطبراني وابن مردويه.
و" عن معاذ بن جبل أن النبي صلى الله عليه وسلم لما بعثه إلى اليمن كتب له في عهده أن لا يمس القرآن إلا طاهر "، أخرجه ابن مردويه.
(تنزيل) أي منزل وسمي المنزل تنزيلاً على اتساع اللغة، يقال للمقدور: قدر، وللمخلوق خلق، قرأ الجمهور بالرفع، وقرىء بالنصب على الحال (من رب العالمين) صفة رابعة لقرآن، أو خبر مبتدأ محذوف، وفيه رد على من قال، إن القرآن شعر أو سحر أو كهانة.
(أفبهذا الحديث أنتم مدهنون)؟ الإشارة إلى القرآن المنعوت بالنعوت السابقة، والمدهن والمداهن المنافق، كذا قال الزجاج وغيره وقال عطاء وغيره: هو الكذاب، وقال مقاتل بن سليمان وقتادة: مدهنون كافرون كما في قوله (ودوا لو تدهن فيدهنون) وقال ابن عباس: مدهنون مكذبون، وقال الضحاك: مدهنون معرضون وقال مجاهد: ممالئون الكفار على الكفر وقال ابن كيسان: المدهن الذي لا يعقل حق الله عليه، ويدفعه بالعلل والأول أولى، لأن أصل المدهن الذي ظاهره خلاف باطنه، كأنه يشبه الدهن في سهولته، قال المؤرج: المدهن المنافق الذي يلين جانبه ليخفي كفره، والإدهان والمداهنة التكذيب والكفر والنفاق، وأصله اللين، وأن يسر خلاف ما يظهر وقال في الكشاف: مدهنون متهاونون به كمن يدهن في الأمر أي يلين جانبه ولا يتصلب فيه، تهاوناً به انتهى.
قال الراغب: والادهان في الأصل مثل التدهين، لكن جعل عبارة عن المداراة والملاينة وترك الجد كما جعل التقريد، وهو نزع القراد عبارة عن ذلك، قلت: سميت المداراة والملاينة مداهنة، وهذا استعارة ومجاز معروف ولشهرته صار حقيقة عوفية لذا جُوِّزَ به هنا من التهاون أيضاً لأن المتهاون بالأمر لا يتصلب فيه، وقال بعض اللغويين تاركون للحزم في قبول القرآن.
(وتجعلون رزقكم أنكم تكذبون) في الكلام مضاف محذوف، كما
حكاه الواحدي عن المفسرين، أي تجعلون شكر رزقكم أنكم تكذبون بنعمة الله فتضعون التكذيب موضع الشكر، وقال الهيثم: إن أزد شنوءة يقولون: ما رزق فلان، أي ما شكر وعلى هذه اللغة لا يكون في الآية مضاف محذوف بل معنى الرزق الشكر ووجه التعبير بالرزق عن الشكر، أن الشكر يقتضي زيادة الرزق فكون الشكر رزقاً تعبيراً بالسبب عن المسبب، ومما يدخل تحت هذه الآية قول الكفار إذا سقاهم الله وأنزل عليهم المطر: سقينا بنوء كذا، ومطرنا بنوء كذا قال الأزهري: معنى الآية وتجعلون بدل شكركم رزقكم الذي رزقكم الله التكذيب بأنه من عند الله الرزاق قرأ علي بن أبي طالب وابن عباس تجعلون شكركم وقرأ الجمهور تكذبون بالتشديد من التكذيب وقرأ بالتخفيف من الكذب.
أخرج مسلم وابن المنذر وابن مردويه. " عن ابن عباس قال مطر الناس على عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال النبي صلى الله عليه وسلم: أصبح من الناس شاكر ومنهم كافر، قالوا هذه رحمة وضعها الله، وقال بعضهم: لقد صدق نوء كذا وكذا، فنزلت هذه الآية (فلا أقسم -إلى قوله- تكذبون)، وأصل الحديث بدون ذكر أنه سبب نزول الآية ثابت في الصحيحين من حديث زيد بن خالد الجهني.
" ومن حديث أبي سعيد الخدري، وعن علي عنه صلى الله عليه وسلم في الآية قال: شكركم تقولون مطرنا بنوء كذا وكذا، وبنجم كذا وكذا "، أخرجه أحمد والترمذي والضياء في المختارة، وغيرهم وفي الباب أحاديث.
" وعن عائشة قالت: ما فسر رسول الله صلى الله عليه وسلم من القرآن إلا آيات يسيرة تجعلون رزقكم قال: شكركم " رواه ابن عساكر.
" وعن علي أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قرأ وتجعلون شكركم " أخرجه ابن مردويه.
وَأَنْتُمْ حِينَئِذٍ تَنْظُرُونَ (84) وَنَحْنُ أَقْرَبُ إِلَيْهِ مِنْكُمْ وَلَكِنْ لَا تُبْصِرُونَ (85) فَلَوْلَا إِنْ كُنْتُمْ غَيْرَ مَدِينِينَ (86) تَرْجِعُونَهَا إِنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ (87) فَأَمَّا إِنْ كَانَ مِنَ الْمُقَرَّبِينَ (88) فَرَوْحٌ وَرَيْحَانٌ وَجَنَّتُ نَعِيمٍ (89) وَأَمَّا إِنْ كَانَ مِنْ أَصْحَابِ الْيَمِينِ (90) فَسَلَامٌ لَكَ مِنْ أَصْحَابِ الْيَمِينِ (91) وَأَمَّا إِنْ كَانَ مِنَ الْمُكَذِّبِينَ الضَّالِّينَ (92) فَنُزُلٌ مِنْ حَمِيمٍ (93) وَتَصْلِيَةُ جَحِيمٍ (94) إِنَّ هَذَا لَهُوَ حَقُّ الْيَقِينِ (95) فَسَبِّحْ بِاسْمِ رَبِّكَ الْعَظِيمِ (96)
(فلولا إذا بلغت الحلقوم) أي فهلا إذا بلغت الروح أو النفس الحلقوم عند الموت، ولم يتقدم لها ذكر لأن المعنى عندهم إذا جاؤوا بمثل هذه العبارة والحلقوم ممر الطعام والشراب
(وأنتم حينئذ) التنوين عوض من الجملة المضافة إليها إذ أي إذ بلغت الحلقوم، خلافاً للأخفش حيث زعم أن التنوين للصرف والكسر للإعراب (تنظرون) أي إلى ما هو فيه ذلك الذي بلغت نفسه أو روحه الحلقوم، قال الزجاج: وأنتم يا أهل الميت في تلك الحال ترون الميت قد صار إلى أن تخرج نفسه، والمعنى أنهم في تلك الحال لا يمكنهم الدفع عنه، ولا يستطيعون شيئاًً ينفعه، أو يخفف عنه ما هو فيه.
(ونحن أقرب إليه منكم) أي بالعلم والقدرة والرؤية، وقيل: أراد ورسلنا الذين يتولون قبضه أقرب إليه منكم (ولكن لا تبصرون) أي لا تدركون ذلك لجهلكم بأن الله أقرب إلى عبده من حبل الوريد، أو لا تبصرون ملائكة الموت الذين يحضرون الميت ويتولون قبضه أو لا تعلمون ما هو فيه من المشقة والكرب.
(فلولا إن كنتم غير مدينين) يقال دان السلطان رعيته، إذا ساسهم واستعبدهم، قال الفراء: دنته ملكته، ويقال: دانه إذا أذله واستعبده. وقيل: معنى مدينين محاسبين قاله ابن عباس، وقيل: مجزيين والمعنى الأول
ألصق بمعنى الآية، أي: فهلا إن كنتم غير مربوبين ومملوكين؟
(ترجعونها) أي النفس التي قد بلغت الحلقوم إلى مقرها الذي كانت فيه والعامل في إذا بلغت قسوله ترجعونها (ولولا) الثانية تأكيد لفظي للأولى، وقال الفراء: وربما أعادت العرب الحرفين ومعناهما واحد.
(إن كنتم صادقين) ولن ترجعوها، فبطل زعمكم أنكم غير مربوبين ولا مملوكين، وقيل: معناه إن صدقتم في نفي البعث فردوا روح المحتضر إلى جسده، لينتفي عنه الموت فينتفي البعث، ثم ذكر سبحانه طبقات الخلق عند الموت وبعده فقال:
(فأما إن كان) الذي بين حاله (من المقربين) أي: السابقين من الثلاثة الأصناف التقدم تفصيل حالهم
(فروح وريحان) قرأ الجمهور (روح) بفتح الراء ومعناه الراحة من الدنيا والإستراحة من أحوالها، وقال مجاهد: الروح الفرح، وقرىء بضم الراء ومعناه الرحمة، لأنها كالحياة للمرحوم وبه قال الحسن، وفي القاموس: الروح بالفتح الراحة والرحمة ونسيم الريح، والريحان الرزق في الجنة، قاله مجاهد وسعيد بن جبير ومقاتل، وقال: هو الرزق بلغة حمير، يقال: خرجت أطلب ريحان الله أي رزقه، وقال قتادة: إنه الجنة.
وقال الضحاك: هو الرحمة، وقال الحسن: هو الريحان المعروف الذي يشم قال قتادة والربيع ابن خيثم: هذا عند الموت، والجنة مخبوءة له إلى أن يبعث، وكذا قال أبو الجوزاء وأبو العالية.
(وَجَنَّتُ نَعِيمٍ) يعني: أنها ذات تنعم، قال ابن عباس: أي مغفرة ورحمة وترسم جنة هنا مجرورة التاء ووقف عليها بالهاء ابن كثير والكسائي وغيرهما، والباقون بالتاء على الرسم وهل الجواب لـ (أما) أو لـ (إن) أو لهما أقوال ومعنى (أما) عند أبي إسحق الخروج من شيء إلى شيء، أي: دع ما كنا فيه وخذ في غيره، وعلى هذا الجواب لإن فقط، لأن أما ليست شرطاً، ورجح بعضهم أن جواب لأما، لأن (إن) كثر حذف جوابها منفردة، فادعاء
ذلك مع شرط الجر أولى.
(وأما إن كان) ذلك المتوفى (من أصحاب اليمين) الذين يأخذون كتبهم بأيمانهم، وقد تقدم ذكرهم، وتفصيل أحوالهم، وما أعده الله لهم من الجزاء
(فسلام لك من أصحاب اليمين) أي لست ترى فيهم إلا ما تحب من السلامة فلا تهتم بذلك فإنهم يسلمون من عذاب الله، وقيل: المعنى سلام لك منهم أي أنت سالم من الإغتمام بهم، وقيل المعنى أنهم يدعون لك ويسلمون عليك.
وقيل: إنه صلى الله عليه وسلم يحيي بالسلام إكراماً، وقيل: هو إخبار من الله سبحانه بتسليم بعضهم على بعض، وقيل: المعنى وسلام لك يا صاحب اليمين من إخوانك أصحاب اليمين، يعني: أنه إلتفات بتقدير القول و (من) للإبتداء، كما يقال سلام من فلان على فلان، وفسر المحلي السلام بمعنى السلامة، قال القاري: وهذا تفسير غريب، قال ابن عباس: تأتيه الملائكة بالسلام من قبل الله يسلم عليه ويخبره أنه من أصحاب اليمين.
(وأما إن كان من المكذبين) بالبعث (الضالين) عن الهدى وهم أصحاب الشمال المتقدم ذكرهم وتفصيل أحوالهم، وإنما وصفهم بأفعالهم زجراً عنها وإشعاراً بما أوجب لهم هذا العذاب، وإلا فمقتضى الظاهر أن يقال. وأما إن كان من أصحاب الشمال لكن عدل عنه لما ذكر، تأمل.
(فنزل) أي: فله نزل يعد لنزوله (من حميم) وهو الماء الذي قد تناهت حرارته وذلك بعد أن يأكل من الزقوم كما تقدم بيانه، قال الربيع ابن خيثم: هذا عند الموت وهذا تهكم بهم
(وتصلية جحيم) يقال أصلاه النار وصلاه إذا جعله في النار، وهو من إضافة المصدر إلى المفعول، أو إلى المكان، قال المبرد: وجواب الشرط في هذه الثلاثة المواضع محذوف، والتقدير مهما يكن من شيء فروح الخ وفي هذه الآيات إشارة إلى أن الكفر كله ملة واحدة وأن أصحاب الكبائر من أصحاب اليمين لأنهم غير مكذبين.
(إنَّ هذا) أي إن ما ذكر في هذه السورة من أولها إلى آخرها، أو إن المذكور قريباً من أحوال المحتضرين وقصتهم (لهو حق اليقين) أي: محضه وخالصه، وإضافة حق إلى اليقين من باب إضافة الشيء إلى نفسه، قال البرد: هو كقولك عين اليقين، ومحض اليقين، هذا عند الكوفيين وجوزوا ذلك، أي: إضافة الموصوف إلى الصفة لاختلاف اللفظ، وأما البصريون فيجعلون المضاف إليه محذوفاً والتقدير حق الأمر اليقين، أو الخبر اليقين، قال ابن عباس: لهو حق اليقين ما قصصنا عليك في هذه السورة.
(فسبح باسم ربك العظيم) الفاء لترتيب ما بعدها على ما قبلها، أي نزهه عما لا يليق بشأنه فسبح متلبساً باسم ربك للتبرك به، وقيل: المعنى فصل بذكر ربك. وقيل: الباء زائدة، وادعاء زيادتها خلاف الأصل، والإسم بمعنى الذات، وقيل: هي للتعدية لأن سبح يتعدى بنفسه تارة ويتعدى بالحرف أخرى، والأول أولى.
" عن عقبة بن عامر الجهني قال: لما نزلت على رسول الله صلى الله عليه وسلم فسبح باسم ربك العظيم قال: اجعلوها في ركوعكم، فلما نزلت: سبح اسم ربك الأعلى قال: اجعلوها في سجودكم "، أخرجه أحمد وأبو داود وابن حبان والحاكم، وصححه البيهقي.