الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
سورة القمر
ويقال سورة اقتربت
وقد تقدم أن النبي صلى الله عليه وسلم كان يقرأ يقاف واقتربت الساعة في الأضحى والفطر وقال ابن عباس: اقتربت تدعى في التوراة المبيضة تبيض وجه صاحبها يوم تبيض الوجوه، قال البيهقي: منكر.
و" عن إسحاق بن عبد الله بن أبي فروة رفعه من قرأ اقتربت الساعة في كل ليلة بعثه الله يوم القيامة ووجهه كالقمر ليلة البدر " أخرجه ابن الضريس وهي خمس وخمسون آية وهي مكية كلها في قول الجمهور وقال مقاتل: إلا ثلاث آيات من قوله: (أَمْ يَقُولُونَ نَحْنُ جَمِيعٌ مُنْتَصِرٌ) إلى قوله: (وَالسَّاعَةُ أَدْهَى وَأَمَرُّ) قال القرطبي: ولا يصح وقيل: إلا (سَيُهْزَمُ الْجَمْعُ) الآية وعن ابن عباس: أنها نزلت بمكة وعن ابن الزبير مثله، وجميع آيات السورة فواصلها على الراء الساكنة.
بسم الله الرحمن الرحيم
اقْتَرَبَتِ السَّاعَةُ وَانْشَقَّ الْقَمَرُ (1) وَإِنْ يَرَوْا آيَةً يُعْرِضُوا وَيَقُولُوا سِحْرٌ مُسْتَمِرٌّ (2) وَكَذَّبُوا وَاتَّبَعُوا أَهْوَاءَهُمْ وَكُلُّ أَمْرٍ مُسْتَقِرٌّ (3) وَلَقَدْ جَاءَهُمْ مِنَ الْأَنْبَاءِ مَا فِيهِ مُزْدَجَرٌ (4) حِكْمَةٌ بَالِغَةٌ فَمَا تُغْنِ النُّذُرُ (5) فَتَوَلَّ عَنْهُمْ يَوْمَ يَدْعُ الدَّاعِ إِلَى شَيْءٍ نُكُرٍ (6) خُشَّعًا أَبْصَارُهُمْ يَخْرُجُونَ مِنَ الْأَجْدَاثِ كَأَنَّهُمْ جَرَادٌ مُنْتَشِرٌ (7) مُهْطِعِينَ إِلَى الدَّاعِ يَقُولُ الْكَافِرُونَ هَذَا يَوْمٌ عَسِرٌ (8) كَذَّبَتْ قَبْلَهُمْ قَوْمُ نُوحٍ فَكَذَّبُوا عَبْدَنَا وَقَالُوا مَجْنُونٌ وَازْدُجِرَ (9) فَدَعَا رَبَّهُ أَنِّي مَغْلُوبٌ فَانْتَصِرْ (10) فَفَتَحْنَا أَبْوَابَ السَّمَاءِ بِمَاءٍ مُنْهَمِرٍ (11) وَفَجَّرْنَا الْأَرْضَ عُيُونًا فَالْتَقَى الْمَاءُ عَلَى أَمْرٍ قَدْ قُدِرَ (12)
(اقتربت الساعة) أي قربت ولا شك أنها قد صارت باعتبار نسبة ما بقي بعد قيام النبوة المحمدية إلى ما مضى من الدنيا قريبة، ويمكن أن يقال أنها لما كانت متحققة الوقوع لا محالة كانت قريبة، فكل آت قريب (وانشق القمر) أي: وقد انشق القمر وانفلق، وكذا قرأ حذيفة بزيادة قد والمراد الانشقاق الواقع في أيام النبوة معجزة لرسول الله صلى الله عليه وسلم وإلى هذا ذهب الجمهور من السلف والخلف، قال الواحدي: وجماعة المفسرين على هذا إلا ما روى عثمان بن عطاء عن أبيه أنه قال: المعنى سينشق القمر، والعلماء كلهم على خلافه.
قال: وإنما ذكر اقتراب الساعة مع انشقاق القمر لأن انشقاقه من علامات نبوة محمد صلى الله عليه وسلم ونبوته وزمانه من أشراط اقتراب الساعة، قال ابن كيسان: في الكلام تقديم وتأخير، أي: انشق القمر واقتربت الساعة، وحكى القرطبي عن الحسن مثل قول عطاء أنه الانشقاق الكائن يوم القيامة، وهذا قول باطل لا يصح وشاذ لا يثبت لإجماع المفسرين على خلافه، ولأن الله سبحانه ذكره بلفظ الماضي وحمل الماضي على المستقبل بعيد يفتقر إلى
قرينة تنقله أو دليل يدل عليه، وأتى ذلك.
قال الرازي: قال بعض المفسرين: المراد سينشق، وهذا بعيد لا معنى له لأن من منع ذلك وهو الفلسفي خذله الله يمنعه في الماضي والمستقبل ومن يجوزه لا يحتاج إلى التأويل، ثم رد على المانع وقال: والقرآن أدل دليل وأقوى مثبت له وامكانه لا يشك فيه، وقد أخبر عنه الصادق فيجب اعتقاد وقوعه وحديث امتناع الخرق والإلتئام حديث اللئام، وقد ثبت جواز الخرق والتخريب على السموات وذكرناه مراراً، وقيل: معنى انشق وضح الأمر وظهر والعرب تضرب بالقمر المثل فيما وضح، وقيل: انشقاق القمر هو انشقاق الظلمة عنه وطلوعه في أثنائها كما يسمى الصبح فلقاً لانفلاق الظلمة عنه.
قال ابن كثير: قد كان الإنشقاق في زمن رسول الله صلى الله عليه وسلم: كما ثبت ذلك في الأحاديث المتواترة بالأسانيد الصحيحة قال: وهذا أمر متفق عليه بين العلماء أن انشقاق القمر قد وقع في زمن النبي صلى الله عليه وسلم وأنه كان إحدى المعجزات الباهرات.
قال الزجاج: زعم قوم عندوا عن القصد وما عليه أهل العلم أن تأويله أن القمر ينشق يوم القيامة والأمر بين في اللفظ، وإجماع أهل العلم، لأن قوله الآتي:
(وإن يروا آية يعرضوا ويقولوا سحر مستمر) يدل على أن هذا كان في الدنيا لا في القيامة انتهى، ولم يأت من خالف الجمهور وقال إن الانشقاق سيكون يوم القيامة إلا بمجرد استبعاد فقال: إنه لو انشق في زمن النبوة لم يبق أحد إلا رآه لأنه آية والناس في الآيات سواء، ويجاب عنه بأنه لا يلزم أن يراه كل أحد لا عقلاً ولا شرعاً ولا عادة، وأن هذا الانشقاق حصل في الليل ومعظم الناس نيام غافلون، والأبواب مغلقة وهم مغطون بثيابهم فَقَلَّ من يتفكر في السماء أو ينظر إليها.
ومما هو مشاهد معتاد أن كسوف القمر وغيره مما يحدث في السماء، في الليل من العجائب والأنوار الطوالع والشهب العظام ونحو ذلك يقع ولا
يتحدث به إلا أحاد الناس، ولا علم عند غيرهم بذلك لما ذكرنا من غفلة الناس عنه وكان هذا الانشقاق آية عظيمة حصلت في الليل لقوم سألوها واقترحوا رؤيتها فلم يتأهب غيرهم لها.
قال بعض أهل العلم: وقد يكون القمر حينئذ في بعض المجاري والمنازل التي تظهر لبعض أهل الآفاق دون بعض كما يكون ظاهراً لقوم غائباً عن قوم وكما يجد الكسوف أهل بلد دون بلد والله أعلم.
ومع هذا فقد نقل إلينا بطريق التواتر، وهذا بمجرده يدفع الاستبعاد ويضرب به في وجه قائله، والحاصل إنا إذا نظرنا إلى كتاب الله فقد أخبرنا بأنه انشق ولم يخبرنا بأنه سينشق، وإن نظرنا إلى سنة رسوله صلى الله عليه وسلم فقد ثبت في الصحيح وغيره من طرق متواترة أنه قد كان ذلك في أيام النبوة، وإن نظرنا إلى أقوال أهل العلم فقد اتفقوا على هذا ولا يلتفت إلى شذوذ من شذ، واستبعاد من استبعد، وفي الباب رسائل شتى للشيخ رفيع الدين الدهلوي رحمه الله وغيره.
وقد أخرج البخاري ومسلم وغيرهما. عن " أنس أن أهل مكة سألوا رسول الله صلى الله عليه وسلم أن يريهم آية فأراهم القمر شقتين حتى رأوا حراء بينهما "(1)، وروي عنه من طرق أخرى عند مسلم والترمذي وغيرهما وقال فنزلت (اقتربت الساعة وانشق القمر).
وأخرج البخاري ومسلم وغيرهما عن " ابن مسعود قال انشق القمر على عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم فرقتين فرقة فوق الجبل وفرقة دونه، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: اشهدوا "(2).
(1) مسلم والبخاري.
(2)
مسلم والبخاري.
وعنه قال رأيت القمر منشقاً شقتين مرتين، مرة بمكة قبل أن يخرج النبي صلى الله عليه وسلم، شقة على أبي قبيس، وشقة على السويدا، وذكر أن هذا سبب نزول الآية أخرجه عبد بن حميد والحاكم وصححه وابن مردويه والبيهقي في الدلائل.
وعنه أيضاًً قال: " رأيت القمر وقد انشق وأبصرت الجبل بين فرجتي القمر "، أخرجه أحمد وأبو نعيم وابن جرير وغيرهم، وله طرق عنه.
وأخرج البخاري ومسلم وغيرهما. عن " ابن عباس قال انشق القمر في زمن النبي صلى الله عليه وسلم " وله طرق عنه، وأخرج مسلم والترمذي وغيرهما.
" عن ابن عمر في الآية قال كان ذلك على عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم انشق القمر فرقتين فرقة من دون الجبل، وفرقة خلفه، فقال النبي صلى الله عليه وسلم: اللهم أشهد ".
" وعن جبير بن مطعم عن أبيه في الآية قال: انشق القمر ونحن بمكة على عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم حتى صار فرقة على هذا الجبل، وفرقة على هذا الجبل، فقال الناس: سحرنا محمد فقال رجل: إن كان سحركم فإنه لا يستطيع أن يسحر الناس كلهم "، أخرجه أحمد والترمذي والحاكم وصححه وعبد بن حميد وغيرهم.
وعن عبد الرحمن السلمي قال: خطبنا حذيفة بن اليمان بالمدائن فحمد الله وأثنى عليه ثم قال: (اقتربت الساعة وانشق القمر)، ألا وإن الساعة قد اقتربت ألا وإن القمر قد انشق على عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم، ألا وإن الدنيا قد آذنت بفراق، اليوم المضمار، وغداً السباق "، أخرجه ابن أبي شيبة وعبد بن حميد وعبد الله بن أحمد في زوائد الزهد وابن جرير وابن مردويه وأبو نعيم، ونقل في المواهب عن الحافظ ابن حجر أن الانشقاق لم يقع إلا مرة
واحدة وأن رواية مرتين مؤولة مصروفة عن ظاهرها وكان أي الانشقاق قبل الهجرة بنحو خمس سنين.
(وإن يروا) أي كفار قريش (آية) تدل على صدق الرسول والمراد بها هنا انشقاق القمر (يعرضوا) عن تأملها والإيمان بها (ويقولوا) هذا (سحر مستمر) أي: دائم مطرد قوي، وكل شيء دام حاله قيل فيه مستمر وذلك لما رأوا تتابع المعجزات وترادف الآيات أعرضوا عن التصديق بها وقالوا هذا سحر مستمر.
قال الواحدي: قال المفسرون: لما انشق القمر قال المشركون: سحرنا محمد فقال الله (وإن يروا) آية يعني: انشقاق القمر يعرضوا عن التصديق بها والإيمان بها، ويقولوا سحر قوي شديد يعلو كل سحر، من قولهم استمر الشيء إذا قوي واستحكم، وقد قال بأن معنى مستمر قوي شديد جماعة من أهل العلم، قال الأخفش: هو مأخوذ من إمرار الحبل وهو شدة فتله وبه قال أبو العالية والضحاك واختاره النحاس.
وقال الفراء والكسائي وأبو عبيدة (سحر مستمر) أي ذاهب مار سوف يذهب ولا يبقى، من قولهم مر الشيء واستمر أي ذهب وبطل وبه قال قتادة ومجاهد وغيرهما واختاره النحاس، وقيل: يشبه بعضه بعضاً وقيل: قد مر من الأرض إلى السماء، وقيل: هو من المرارة، يقال مر الشيء صار مراً أي مستبشع عندهم مر على أهوائهم لا يقدرون أن يسيغوه كما لا يساغ المر، وبه قال الزمخشري.
وفي هذه الآية أعظم دليل على أن الانشقاق قد كان في زمن رسول الله صلى الله عليه وسلم كما قررناه سابقاً، وفي التفهيمات للشيخ ولي الله المحدث الدهلوي رحمه الله: وأما شق القمر فعندنا ليس من المعجزات، إنما هو من آيات القيامة كما قال تعالى:(اقتربت الساعة وانشق القمر) ولكنه صلى الله
عليه وسلم أخبر عنه قبل وجوده فكان معجزة من هذا السبيل انتهى. واعترضه بعض من لا يسمن قوله ولا يغني من جوع، ودفعه جماعة من علماء الهند وغيرهم، وليس في هذه العبارة إنكار تلك المعجزة كما فهمه بعض القاصرين عن بلوغ رتبة الكمال بل هي أدل دليل على إثباتها عند من يفهم كلام العلماء بالله تعالى، تأمل.
ثم ذكر سبحانه تكذيبهم فقال:
(وكذبوا) رسول الله صلى الله عليه وسلم وما عاينوا من قدرة الله (واتبعوا أهواءهم) ما زينه لهم الشيطان الرجيم من دفع الحق بعد ظهوره ذكر هذين بصيغه الماضي، للإشعار بأنهما من عادتهم القديمة، مع أن الظاهر المضارع لكونهما معطوفين على يعرضوا (وكل أمر مستقر) مستأنفة لتقرير بطلان ما قالوه من التكذيب واتباع الهوى ولإقناطهم مما علقوا به أمانيهم الفارغة من عدم استقرار أمره صلى الله عليه وسلم حيث قالوا سحر مستمر، ببيان ثباته ورسوخه أي وكل أمر من الأمور منتهي إلى غاية يستقر عليها لا محالة، فالخير يستقر بأهل الخير، والشر يستقر بأهل الشر.
قال الفراء: تقول يستقر قرار تكذيبهم وقرار قول المصدقين حتى يعرفوا حقيقته بالثواب والعقاب، وقيل: كل ما قدر فهو كائن لا محالة وقال الكلبي: المعنى لكل أمر حقيقة، ما كان منه في الدنيا فسيظهر، وما كان منه في الآخرة فسيعرف، وقيل: هو جواب قولهم: (سحر مستمر)، أي ليس أمره بذاهب كما زعمتم، بل أمر محمد صلى الله عليه وسلم سيظهر إلى غاية يتبين فيها أنه حق، وقيل: كل أمر من أمرهم، وأمره صلى الله عليه وسلم مستقر على حالة خذلان أو نصرة في الدنيا أو شقاوة أو سعادة في الآخرة، ذكره أبو السعود والظاهر هو الأول.
وإبهام المستقر عليه، للتنبيه على كمال ظهور الحال وعدم الحاجة إلى التصريح به. قرأ الجمهور مستقر بكسر القاف، وهو مرتفع على أنه خبر
والمبتدأ وهو كل وقرىء بالجر على أنه صفة لأمر، وقرىء بفتح القاف قال أبو حاتم: ولا وجه لها، وقيل: وجهه كل أمر ذو استقرار، أو زمان استقرار، أو مكانه على أنه مصدر أو ظرف زمان أو ظرف مكان.
(ولقد جاءهم) أي كفار مكة أو الكفار على العموم (من الأنباء) أي من بعض أخبار الأمم المكذبة المقصوصة علينا في القرآن (ما فيه مزدجر) أي: ازدجار عن الكفر على أنه مصدر ميمي، يقال: إزدجرته وزجرته إذا نهيته عن السوء ووعظته بغلظة، أو إسم مكان والمعنى جاءهم ما فيه موضع ازدجار، أي: أنه في نفسه موضع لذلك وأصله مزتجر. وتاء الافتعال تقلب دالاً بعد الزاي والدال والذال، كما تقرر في موضعه وهذا في آخر كتاب سيبويه، وقرىء مزجر بإبدال التاء زاياً وإدغامها، وقرىء مزجر إسم فاعل من أزجر أي صار ذا زجر، وما موصولة أو موصوفة.
(حكمة) خبر مبتدأ محذوف، أو بدل من (ما) بدل كل من كل، أو بدل اشتمال، أو من مزدجر (بالغة) تامة أي إن القرآن حكمة قد بلغت الغاية، ليس فيها نقص، ولا خلل، وقرىء حكمة بالنصب على أنها حال من ما، أي: حال كون ما فيه مزدجر حكمة بالغة نهاية الصواب (فما تغن النذر) ما استفهامية أي أيُّ شيء أو أيُّ إغناء تغني النذر؟ وتحصله وتكسبه؟ أو نافية، أي: لم تغن النذر شيئاًً ولم تنفع فيهم والفاء لترتيب عدم الإغناء على مجيء الحكمة البالغة، ولا ترسم الياء هنا بعد النون اتباعاً لرسم المصحف، والنذر جمع نذير بمعنى النذر، أي الأمور المنذرة لهم كأحوال الأمم السابقة وما بلغ إليهم من العذاب الذي بلغ قريشاً وتسامعوا به أو بمعنى الإنذار على أنه مصدر.
ثم أمره الله سبحانه بالإعراض عنهم فقال:
(فتول عنهم) أي أعرض عنهم حيث لم يؤثر فيهم الإنذار، وهي منسوخة بآية السيف، قاله
أكثر المفسرين وقال الرازي: إن قولهم بالنسخ ليس بشيء بل المراد منها لا تناظرهم بالكلام، ذكره الخطيب.
(يوم) اذكر يوم (يدع الداع) وإليه ذهب الرماني والزمخشري وفيه وجوه هذا أقربها، وسقطت الواو من يدع إتباعاً للفظ، وقد وقعت في الرسم هكذا وحذفت الياء من الداع مبالغة في التخفيف واكتفاء بالكسرة، والداعي هو إسرافيل، وقيل: جبريل والأول أولى (إلى شيء نكر) أي: أمر فظيع ينكرونه استعظاماً له، لعدم تقدم العهد لهم بمثله وهو هول يوم القيامة، وقيل: هو الحساب، قرأ الجمهور نكر بضم الكاف، وقرىء بسكونها تخفيفاً، وقرىء بكسر الكاف، وفتح الراء على صيغة الفعل المجهول.
(خشعاً أبصارهم) قرأ الجمهور: خشعاً، جمع خاشع، وقرىء خاشعاً على الإفراد، وقرأ ابن مسعود: خاشعة، قال الفراء: الصفة إذا تقدمت على الجماعة جاز فيها التذكير والتأنيث، والجمع، يعني جمع التكسير لا جمع السلامة لأنه يكون من الجمع بين الفاعلين، والخشوع في البصر الخضوع والذلة وأضاف الخشوع إلى الأبصار لأن العز والذل يتبين فيها، ويظهر أكثر من ظهوره على بقية البدن.
(يخرجون) أي الناس مطلقاً مؤمنهم وكافرهم (من الأجداث) واحدها جدث وهو القبر (كأنهم) لكثرتهم وتموجهم واختلاط بعضهم ببعض (جراد منتشر) أي منبث: في الأقطار، مختلط بعضه ببعض في الأماكن لا يدرون أين يذهبون من الخوف والحيرة
(مهطعين إلى الداع) الإهطاع الإسراع في المشي، أي حال كونهم مسرعين إلى الداعي، وهو إسرافيل وقال الضحاك: مقبلين، وقال قتادة: عامدين، وقال عكرمة: فاتحين آذانهم إلى الصوت، والأول أولى، وبه قال أبو عبيدة وغيره، وقال ابن عباس: ناظرين إليه بأبصارهم لا يقلعون، وقيل: مادي أعناقهم إليه.
(يقول الكافرون هذا يوم عسر) أي صعب شديد على الكافرين كما
في المدثر: (يوم عسير على الكافرين غير يسير) وفي إسناد هذا القول إلى الكفار دليل على أن اليوم ليس بشديد على المؤمنين، ثم ذكر سبحانه تفصيل بعض ما تقدم من الأنباء المجملة فقال:
(كذبت قبلهم) أي: قبل قريش (قوم نوح) أي كذبوا نبيهم وفي هذا تسلية لرسول الله صلى الله عليه وسلم.
(فكذبوا عبدنا) تفصيل بعد إجمال، وتفسير لما قبله من التكذيب المبهم، وفيه مزيد تقرير وتأكيد أي فكذبوا نوحاً والفاء على هذا تفصيلية فإن التفصيل يكون عقب الإجمال، وقيل معناه كذبوه تكذيباً بعد تكذيب كلما مضى منهم قرن مكذب، تبعه قرن مكذب والفاء حينئذ للتعقيب، والمكذب الثاني غير الأول، وإن اتحد المكذب أو كذبوه بعد ما كذبوا جميع الرسل والفاء على هذا للتسبب، وإنما لم يرتض القاضي هذين الوجهين، وإن جرى في الكشاف عليهما، لأن الظاهر هو الاتحاد في كليهما.
ثم بين سبحانه أنهم لم يقتصروا على مجرد التكذيب فقال: (وقالوا مجنون) أي نسبوا نوحاً إلى الجنون (وازدجر) معطوف على قالوا، أي وزجر عن دعوى النبوة، وعن تبليغ ما أرسل به بأنواع الزجر، وقيل: إنه معطوف على مجنون، أي: وقالوا: إنه ازدجرته الجن وتخبطته، وذهبت بلبه، والأول أولى، قال مجاهد: هو من كلام الله سبحانه أخبر عنه بأنه انتهر وزجر بالسب، وأنواع الأذى، قال الرازي: وهذا أصح لأن المقصود تقوية قلب النبي صلى الله عليه وسلم بذكر من تقدمه.
(فدعا) نوح (ربه) على قومه: (أني) أي بأني، وقرىء بكسر الهمزة إما على إضمار القول، أي فقال: إني، وإما إجراء للدعاء مجرى القول، وهو مذهب الكوفيين (مغلوب) من جهة قومي، لتمردهم عن الطاعة، وزجرهم لي عن تبليغ الرسالة، وذلك بعد صبره عليهم غاية الصبر حيث مكث ألف سنة إلا خمسين عاماً يعالجهم، فلم يفد فيهم شيئاًً ولما يئس
عن إجابتهم وعلم تمردهم وعتوهم، وإصرارهم على ضلالتهم، طلب من ربه سبحانه النصرة عليهم فقال:(فَانْتَصِرْ) أي: انتقم لي منهم ثم ذكر سبحانه ما عاقبهم به فقال:
(ففتحنا) مخففاً ومشدداً، وهما سبعيتان (أبواب السماء) أي كلها في جميع الأقطار، وهو على ظاهره، وللسماء أبواب تفتح وتغلق، ولا يستبعد ذلك لأنه قد صح في الحديث أن للسماء أبواباً، وقيل هو على الاستعارة فإن الظاهر أن يكون المطر من السحاب، والأول أولى (بماء) الباء للتعدية على المبالغة، حيث جعل الماء كالآلة التي يفتح بها، كما تقول: فتحت بالمفتاح (منهمر) غزير، نازل بقوة، أي منصباً انصباباً شديداً في كثرة وتتابع، لم ينقطع أربعين يوماً، والهمر: الصب بكثرة يقال: همر الماء والدمع يهمر همراً وهموراً إذا كثر.
(وفجرنا الأرض عيوناً) أي جعلنا الأرض كلها عيوناً متفجرة، وهو أبلغ من قولك: فجرنا عيون الأرض، قرأ الجمهور: فجرنا بالتشديد، وقرىء بالتخفيف، قال عبيد بن عمير: أوحى الله إلى الأرض أن تخرج ماءها فتفجرت بالعيون وسالت بالمياه (فالتقى الماء على أمر قد قدر) وقرىء الماءآن وقرأ علي ومحمد بن كعب: الماوان أي التقى ماء السماء وماء الأرض على أمر قد قضى عليهم، أي كائناً على حال قدرها الله، وقضى بها في اللوح المحفوظ أنه يكون، وهو هلاك قوم نوح بالطوفان، قيل: كان ماء السماء أكثر وقيل: بالعكس.
وحكى ابن قتيبة أن المعنى على مقدار لم يزد أحدهما على الآخر بل كان ماء السماء وماء الأرض على سواء، قال قتادة: قدر لهم إذ كفروا أن يغرقوا قال ابن عباس: لم تمطر السماء قبل ذلك اليوم، ولا بعده إلا من السحاب، وفتحت أبواب السماء بالماء من غير سحاب ذلك اليوم، فالتقى الماءآن.
وَحَمَلْنَاهُ عَلَى ذَاتِ أَلْوَاحٍ وَدُسُرٍ (13) تَجْرِي بِأَعْيُنِنَا جَزَاءً لِمَنْ كَانَ كُفِرَ (14) وَلَقَدْ تَرَكْنَاهَا آيَةً فَهَلْ مِنْ مُدَّكِرٍ (15) فَكَيْفَ كَانَ عَذَابِي وَنُذُرِ (16) وَلَقَدْ يَسَّرْنَا الْقُرْآنَ لِلذِّكْرِ فَهَلْ مِنْ مُدَّكِرٍ (17) كَذَّبَتْ عَادٌ فَكَيْفَ كَانَ عَذَابِي وَنُذُرِ (18) إِنَّا أَرْسَلْنَا عَلَيْهِمْ رِيحًا صَرْصَرًا فِي يَوْمِ نَحْسٍ مُسْتَمِرٍّ (19) تَنْزِعُ النَّاسَ كَأَنَّهُمْ أَعْجَازُ نَخْلٍ مُنْقَعِرٍ (20) فَكَيْفَ كَانَ عَذَابِي وَنُذُرِ (21) وَلَقَدْ يَسَّرْنَا الْقُرْآنَ لِلذِّكْرِ فَهَلْ مِنْ مُدَّكِرٍ (22) كَذَّبَتْ ثَمُودُ بِالنُّذُرِ (23) فَقَالُوا أَبَشَرًا مِنَّا وَاحِدًا نَتَّبِعُهُ إِنَّا إِذًا لَفِي ضَلَالٍ وَسُعُرٍ (24) أَأُلْقِيَ الذِّكْرُ عَلَيْهِ مِنْ بَيْنِنَا بَلْ هُوَ كَذَّابٌ أَشِرٌ (25) سَيَعْلَمُونَ غَدًا مَنِ الْكَذَّابُ الْأَشِرُ (26) إِنَّا مُرْسِلُو النَّاقَةِ فِتْنَةً لَهُمْ فَارْتَقِبْهُمْ وَاصْطَبِرْ (27)
(وحملناه) أي: نوحاً (على) سفينة (ذات ألواح) وهي الأخشاب العريضة (ودسر) قال الزجاج: هي المسامير التي تشد بها الألواح واحدها دسار، وكل شيء أدخل في شيء يشده فهو دسر، وكذا قال قتادة ومحمد ابن كعب وابن زيد وسعيد بن جبير وغيرهم، وقال الحسن وشهر بن حوشب وعكرمة: الدسر ظهر السفينة التي يضربها الموج، سميت بذلك لأنها تدسر الماء، أي تدفعه، والدسر الدفع، وقال الليث: الدسار خيط يشد به ألواح السفينة.
قال في الصحاح: الدسار واحد الدسر، وهي خيوط تشد بها ألواح السفينة ويقال: هي المسامير وقيل: صدر السفينة وقيل: عوارضها وأضلاعها وقيل: الألواح جانبا السفينة، والدسر أصلها، وقيل أصلها وطرفاها قال ابن عباس: الألواح ألواح السفينة، والدسر معاريضها التي تشد بها السفينة وقال أيضاًً: المسامير وقال أيضاًً: الدسر كلكل السفينة، وقال مجاهد: نطق السفينة وعنه أيضاًً أضلاع السفينة.
(تجري بأعيننا) أي بمنظر ومرأى منا، وحفظ مالها، كما في قوله:
واصنع الفلك بأعيننا، وقيل: بأمرنا، وقيل: بوحينا، وقيل: بالأعين النابعة من الأرض، وقيل: بأعين أوليائنا من الملائكة الموكلين بحفظها والأول أولى (جزاء) قال الفراء: فعلنا به وبهم ما فعلنا من إنجائه وإغراقهم: ثواباً، فالنصب على العلة، وقيل: أي أغرقوا انتصاراً، وهو تفسير للمعنى، وقيل: جازيناهم جزاء.
(لمن كان كفر) به، وجحد أمره، وهو نوح عليه السلام، فإنه كان لهم نعمة كفروها، إذ كل نبي نعمة على أمته، قرأ الجمهور كفر مبنياً للمفعول والمراد به نوح، وقيل: هو الله سبحانه، فإنهم كفروا به، وجحدوا نعمته وقرىء كفر بفتح الكاف والفاء مبنياً للفاعل، أي جزاء وعقاباً لمن كفر بالله.
(ولقد تركناها) أي السفينة (آية) عبرة للمعتبرين قال قتادة: أبقاها الله بأرض الجزيرة، وقيل على الجودي زماناً مديداً، ودهراً طويلاً حتى نظر إليها ورآها أوائل هذه الأمة، أو أبقينا خبرها، أو أبقينا جنس السفن أو تركنا بمعنى جعلنا، وقيل: المعنى تركنا هذه الفعلة التي فعلناها بهم عبرة وموعظة لمن يعتبر ويتعظ بها.
(فهل من مدكر)؟ أصله مذتكر، فأبدلت التاء ذالاً ثم أبدلت المعجمة مهملة لتقاربهما، وأدغمت الدال في الدال، والمعنى هل من متعظ ومعتبر؟ يتعظ بهذه الآية ويعتبر بها؟ فيترك المعصية، ويختار الطاعة، ثم إنه تعالى لما أجاب دعوة نوح بأن أغرقهم أجمعين، قال: استعظاماً لذلك العقاب وإبعاداً لمشركي مكة:
(فكيف كان عذابي)؟ الذي عذبتهم به (و) كيف كان عاقبة (نذر)؟ أي: إنذاري قال الفراء: الإنذار والنذر مصدران، والإستفهام للتهويل والتعجيب، أي كانا على كيفية هائلة عجيبة لا يحيط بها الوصف، وقيل: نذر جمع نذير ونذير بمعنى الإنذار كنكير بمعنى الإنكار.
(ولقد يسرنا القرآن للذكر) أي سهلناه للإدكار والإتعاظ، بأن وشحناه بأنواع المواعظ والعبر الشافية، وصرفنا فيه من الوعد والوعيد، يحفظه الصغير والكبير، والعربي والعجمي وغيرهم، قال ابن عباس: لولا أن الله يسره على لسان الآدميين ما استطاع أحد من الخلق أن يتكلموا بكلام الله.
وأخرج الديلمي. عن أنس مرفوعاً مثله، وقال سعيد بن جبير: يسرناه للحفظ والقراءة، وليس شيء من كتب الله يقرأ كله ظاهراً إلا القرآن، والجملة قسمية وردت في آخر القصص الأربع، تقريراً لمضمون ما سبق، وتنبيهاً على أن كل قصة منها مستقلة بإيجاب الإدكار فيها، كافية في الازدحار، ومع ذلك لم تقع واحدة في حيز الاعتبار، أي: وتالله لقد سهلنا القرآن لقومك، بأن أنزلناه على لغتهم.
(فهل من مدكر)؟ أي متعظ بمواعظه، ومعتبر لعبره، وطالب لحفظه، فيعان عليه، وقارىء يقرأه، وطالب علم وخير، وقال ابن عباس: هل من متذكر؟ كرر هذا في هذه السورة للتنبيه والإفهام، وقيل: إن الله تعالى اقتص في هذه السورة على هذه الأمة أنباء الأمم، وقصص المرسلين، وما عاملتهم به الأمم، وما كان من عقبى أمورهم وأمور المرسلين، فكان في كل قصة ونبأ ذكر للمستمع أن لو تذكر، وإنما كرر هذه الآية عند كل قصة بقوله: فهل من مذكر؟ لأن هل كلمة استفهام تستدعي أفهامهم التي ركبت في أجوافهم، وجعلها حجة عليهم، فاللام من هل للإستعراض، والهاء للإستخراج، وفي الآية الحث على درس القرآن، والإستكثار من تلاوته، والمسارعة في تعلمه.
(كذبت عاد) هم قوم هود، ولم يتعرض لكيفية تكذيبهم له مسارعة إلى بيان ما نزل بهم من العذاب، ولم يقل: فكذبوا هوداً كما قال في قصة نوح، فكذبوا عبدنا، لأن تكذيب قوم نوح أبلغ لطول مقامه فيهم، وكثرة
عنادهم، وإما لأن قصة عاد ذكرت مختصرة (فكيف كان عذابي ونذر)؟ أي فهل سمعتم أو فاسمعوا كيف كان عذابي لهم؟ وإنذاري إياهم؟ ونذر مصدر بمعنى إنذار كما تقدم، والاستفهام للتهويل والتعظيم، والغرض بهذا توجيه قلوب السامعين نحو الإصغاء إلى ما يلقى إليهم قبل ذكره.
(إنا أرسلنا عليهم ريحاً صرصراً) هذه الجملة مستأنفة مبينة لما أجمله سابقاً من العذاب، والصرصر شدة البرد، أي: ريح شديدة البرد، وقيل: الصرصر شدة الصوت، وقد تقدم بيانه في حم السجدة. قال ابن عباس: ريحاً صرصراً أي باردة (في يوم نحس مستمر) أي: دائم الشؤم إلى الأبد، استمر عليهم بنحوسة، واستمر فيه العذاب إلى الهلاك، وقد كانوا يتشاءمون بذلك اليوم، قال الزجاج: أي بيوم الأربعاء في آخر الشهر، أي شهر شوال لثمان بقين منه، واستمر إلى غروب الشمس، قال الخطيب: وقد قال في سورة الحاقة: سبع ليال وثمانية أيام حسوماً، وفي حم السجدة في أيام نحسات، فالمراد باليوم هنا الوقت والزمان انتهى.
قال الضحاك: كان ذلك اليوم مراً عليهم، وكذا حكى الكسائي عن قوم أنهم قالوا: هو من المرارة كالشيء المر، تكرهه النفوس، وقيل: هو من المرة بمعنى القوة، أي في يوم قوي الشؤم مستحكمه. كالشيء المحكم الفتل الذي لا يطاق نقضه، والظاهر أنه من الاستمرار لا من المرارة: ولا من المرة أي دام عليهم العذاب فيه حتى أهلكهم، وشمل إهلاكه كبيرهم وصغيرهم، وقيل: استمر بهم إلى نار جهنم، قال ابن عباس: في أيام شداد، " عن جابر بن عبد الله قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم يوم الأربعاء يوم نحس مستمر "، أخرجه ابن المنذر وابن مردويه، وأخرجه هو عنه من وجه آخر (1) مرفوعاً.
(1) قلت: قال شيخ الإسلام الشوكاني: قال الصنعاني: موضوع، وكذا قال ابن الجوزي، ورواه الخطيب وفي إسناده كذاب، ورواه ابن مردويه، وفي إسناده متروك وأما حديث ابن عباس فقد قال الحافظ ابن حجر: هذا كذب على ابن عباس، لا تحل روايته؟. المطيعي.
" وعن علي أيضاًً مرفوعاً وعن أنس أيضاًً مرفوعاً وفيه قيل: وكيف ذاك يا رسول الله؟ قال: أغرق الله فيه فرعون وقومه، وأهلك فيه عاداً وثمود "، وأخرج ابن مردويه والخطيب بسند قال السيوطي: ضعيف.
" عن ابن عباس قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم آخر أربعاء في الشهر يوم نحس مستمر ". قرأ الجمهور بإضافة يوم إلى نحس مع سكون الحاء وهو من إضافة الموصوف إلى الصفة أو على تقدير مضاف، أي في يوم عذاب نحس، وقرىء بتنوين يوم على أن نحس صفة له، وقرىء بكسر الحاء.
(تنزع الناس) أوقع الظاهر موضع المضمر ليعم ذكورهم وإناثهم وإلا فالأصل: تنزعهم أي تقلعهم من الأرض من تحت أقدامهم اقتلاع النخلة من أصلها. قال مجاهد: كانت تقلعهم من الأرض فترمي بهم على رؤوسهم فتدق أعناقهم، وتبين رؤوسهم من أجسادهم، وقيل: تنزع الناس من البيوت، وقيل: من قبورهم، لأنهم حفروا حفائر، ودخلوها. روي أنهم دخلوا في الشعاب والحفر، وتمسك بعضهم ببعض، فنزعتهم الريح منها، وصرعتهم موتى.
(كأنهم) وحالهم ما ذكر (أعجاز نخل منقعر) الأعجاز جمع عجز، وهو مؤخر كل شيء، وعن ابن عباس قال: أصول النخل، وعنه أعجاز سواد النخل، والمنقعر المنقطع المنقلع من أصله، يقال: قعرت النخلة إذا قطعتها من أصلها حتى تسقط، شبههم في طول قاماتهم حين صرعتهم الريح وطرحتهم على وجوههم بالنخل الساقط على الأرض التي ليس لها رؤوس وذلك أن الريح قلعت رؤوسهم أولاً ثم كبتهم على وجوههم، وهذا ما جرى عليه الزجاج وغيره، وفيه إشارة إلى قوتهم وثباتهم في الأرض بأجسامهم، فكأنهم لعظم أجسامهم وكمال قوتهم، يقصدون مقاومة الريح لما صرعتهم وألقتهم على الأرض، فكأنها أقلعت أعجاز نخل منقعر، وتذكير منقعر مع
أنه صفة لأعجاز نخل وهي مؤنثة اعتباراً باللفظ، ويجوز تأنيثه اعتباراً بالمعنى، كما قال:(أعجاز نخل خاوية) قال المبرد: كل ما ورد عليك من هذا الباب إن شئت رددته إلى اللفظ تذكيراً أو إلى المعنى تأنيثاً، وقيل: إن النخل والنخيل يذكر ويؤنث.
(فكيف كان عذابي ونذر)؟ أي إنذاري لهم بالعذاب قبل نزوله، أو إنذاراتي في تعذيبهم لمن بعدهم، كرر للتهويل، وقال أبو السعود: تهويل لهما وتعجيب من أمرهما، بعد بيانهما، فليس فيه شائبة تكرار كما قيل: وما قيل من أن الأول لما حاق بهم في الدنيا والثاني لما يحيق بهم في الآخرة يرده ترتيب الثاني على العذاب الدنيوي.
(ولقد يسرنا القرآن للذكر فهل من مدكر)؟ إنكار ونفي للمتعظ على أبلغ وجه وآكده، حيث يدل على أنه لا يقدر أحد أن يجيب المستفهم بنعم، لما ذكر سبحانه تكذيب عاد أتبعه ببيان تكذيب ثمود فقال:
(كذبت ثمود بالنذر) جمع نذير، أي كذبت بالرسل المرسلين، أو مصدر بمعنى الإنذار أي كذبت بالإنذار الذي أنذروا به، وإنما كان تكذيبهم لرسولهم وهو صالح تكذيباً للرسل، لأن من كذب واحداً من الأنبياء فقد كذب سائرهم لاتفاقهم في الدعوة إلى كليات الشرائع.
(فَقَالُوا أَبَشَرًا مِنَّا وَاحِدًا نَتَّبِعُهُ)؟ الإستفهام للإنكار، أي كيف نتبع بشراً كائناً من جنسنا منفرداً وحده؟ لا متابع له على ما يدعو إليه؟ قرأ الجمهور بنصب بشراً على الاشتغال، أي أنتبع بشراً واحداً منا؟ وهو الراجح لتقدم أداة، هي بالفعل أولى، وقرىء بالرفع على الابتداء، وواحد صفته، ونتبعه خبره؛ وقرىء برفع بشر، ونصب واحد على الحال (إنا إذاً لفي ضلال) أي إنا إذا اتبعناه لفي خطأ وذهاب عن الحق والصواب (وسعر) أي عذاب وعناء وشدة، كذا قال الفراء وغيره، وقال أبو عبيدة: وهو جمع
سعير، وهو لهب النار، والسعر الجنون يذهب كذا وكذا لما يتلهب به من الحدة، وقال مجاهد: سعر بعد عن الحق، وقال السدي في احتراق، وقيل: المراد به هنا الجنون من قولهم: ناقة مسعورة أي كأنها من شدة نشاطها مجنونة، وقال ابن عباس: في شقاء ثم كرروا الإنكار والاستبعاد فقالوا:
(أألقي الذكر عليه من بيننا)؟ أي كيف خص من بيننا بالوحي والنبوة؟ وفينا من هو أحق بذلك منه، ثم اضربوا عن الإنكار، وانتقلوا إلى الجزم بكونه كذاباً أشراً فقالوا:(بل هو كذاب أشر) الأشر المرح والنشاط، أو البطر والتكبر، وتفسيره بالبطر والتكبر أنسب بالمقام، قرأ الجمهور أشر كفرح، صفة مشبهة وعلى أنه أفعل التفضيل، وقرىء بضم الشين وفتح الهمزة، ثم أجاب سبحانه عليهم بقوله:
(سيعلمون غداً) السين لتقريب مضمون الجملة وتأكيده، والمراد بقوله غداً وقت نزول العذاب الذي حل بهم في الدنيا، أو في يوم القيامة، جرياً على عادة الناس في التعبير بالغد عن المستقبل من الأمر، وإن بعدكما في قولهم إن مع اليوم غداً، والأول أولى، قرأ الجمهور بالتحتية على أنه إخبار من الله سبحانه لصالح عن وقوع العذاب عليهم بعد مدة على سبيل الالتفات، وقرىء بالتاء على أنه خطاب من صالح لقومه.
(من الكذاب الأشر)؟ من استفهامية أي أيّ فريق هو الكذاب الأشر المتكبر البطر، أهو هم؟ أم صالح عليه السلام.
(إنا مرسلو الناقة) مستأنفة لبيان ما تقدم إجماله من الوعيد، ومبادي الموعود به حتماً أي إنا مخرجوها من الصخرة على حسب ما اقترحوه، وموجدوها لهم (فتنة لهم) أي ابتلاء وامتحاناً واختباراً (فارتقبهم) أي انتظر ما يصنعون، وما يصنع بهم (واصطبر) أي اصبر على ما يصيبك من الأذى منهم، ولا تعجل حتى يأتيك أمرنا.
وَنَبِّئْهُمْ أَنَّ الْمَاءَ قِسْمَةٌ بَيْنَهُمْ كُلُّ شِرْبٍ مُحْتَضَرٌ (28) فَنَادَوْا صَاحِبَهُمْ فَتَعَاطَى فَعَقَرَ (29) فَكَيْفَ كَانَ عَذَابِي وَنُذُرِ (30) إِنَّا أَرْسَلْنَا عَلَيْهِمْ صَيْحَةً وَاحِدَةً فَكَانُوا كَهَشِيمِ الْمُحْتَظِرِ (31) وَلَقَدْ يَسَّرْنَا الْقُرْآنَ لِلذِّكْرِ فَهَلْ مِنْ مُدَّكِرٍ (32) كَذَّبَتْ قَوْمُ لُوطٍ بِالنُّذُرِ (33) إِنَّا أَرْسَلْنَا عَلَيْهِمْ حَاصِبًا إِلَّا آلَ لُوطٍ نَجَّيْنَاهُمْ بِسَحَرٍ (34) نِعْمَةً مِنْ عِنْدِنَا كَذَلِكَ نَجْزِي مَنْ شَكَرَ (35) وَلَقَدْ أَنْذَرَهُمْ بَطْشَتَنَا فَتَمَارَوْا بِالنُّذُرِ (36) وَلَقَدْ رَاوَدُوهُ عَنْ ضَيْفِهِ فَطَمَسْنَا أَعْيُنَهُمْ فَذُوقُوا عَذَابِي وَنُذُرِ (37) وَلَقَدْ صَبَّحَهُمْ بُكْرَةً عَذَابٌ مُسْتَقِرٌّ (38) فَذُوقُوا عَذَابِي وَنُذُرِ (39) وَلَقَدْ يَسَّرْنَا الْقُرْآنَ لِلذِّكْرِ فَهَلْ مِنْ مُدَّكِرٍ (40) وَلَقَدْ جَاءَ آلَ فِرْعَوْنَ النُّذُرُ (41) كَذَّبُوا بِآيَاتِنَا كُلِّهَا فَأَخَذْنَاهُمْ أَخْذَ عَزِيزٍ مُقْتَدِرٍ (42)
(وَنَبِّئْهُمْ) أي أخبرهم إخباراً عظيماً عن أمر عظيم وهو (أن الماء قسمة بينهم) أي بين ثمود وبين الناقة لها يوم لا تدع في البئر قطرة يأخذها أحد منهم، ولهم يوم لا تشاركهم فيه، كما في قوله:(لها شرب ولكم شرب يوم معلوم)، وقال بينهم بضمير العقلاء تغليباً، قرأ الجمهور قسمة بكسر القاف بمعنى مقسوم، وقرىء بفتحها.
(كل شرب) هو بكسر الشين؛ الحظ من الماء والنصيب (محتضر) أي أنه يحضره من هو له، فالناقة تحضره يوماً، وهم يحضرونه يوماً، قال مجاهد: إن ثمود يحضرون الماء يوم نوبتهم فيشربون، ويحضرون يوم نوبتها فيحتلبون
(فنادوا صاحبهم) أي: فتمادوا على ذلك أو فبقوا على ذلك مدة ثم ملوا من ضيق الماء والمرعى عليهم وعلى مواشيهم، فأجمعوا على قتلها، والفاء فصيحة تفصح أن في الكلام محذوفاً وهو ما تقدم، والمعنى نادى ثمود صاحبهم وهو قدار بن سالف عاقر الناقة يحضونه على عقرها.
(فتعاطى) التعاطي تناول الشيء بتكلف، أي: تناول الناقة بسيفه (فعقر) أو اجترأ على تعاطي أسباب العقر فعقرها غير مكترث، قال محمد
ابن اسحق: كمن لها في أصل شجرة على طريقها فرماها بسهم، فانتظم به عضلة ساقها ثم شد عليها بالسيف فكسر عرقوبها، ثم نحرها موافقة لهم
(فكيف كان عذابي ونذر)؟ أي: إنذاري لهم بالعذاب قبل نزوله، أي: وقع موقعه وبينه بقوله:
(إنا أرسلنا عليهم صيحة واحدة) قال عطاء: يريد صيحة جبريل صاح بهم في اليوم الرابع من عقر الناقة، لأنه كان في يوم الثلاثاء ونزول العذاب بهم كان في يوم السبت وقد مضى بيان هذا في سورة هود والأعراف.
(فَكَانُوا كَهَشِيمِ الْمُحْتَظِرِ) قرأ الجمهور بكسر الظاء، والهشيم حطام الشجر ويابسه، والمحتظر صاحب الحظيرة، وهو الذي يتخذ لغنمه حظيرة تمنعها عن برد الريح، يقال: إحتظر على غنمه إذا جمع الشجر ووضع بعضه فوق بعض وقال في الصحاح: المحتظر الذي يعمل الحظيرة، أي: من يابس الشجر والشوك، يحفظ الغنم من السباع والذئاب، والحظيرة زريبة الغنم ونحوها، قاله الشهاب، وقرىء بفتح الظاء أي: كهشيم الحظيرة فمن قرأ بالكسر أراد الفاعل للاحتظار، ومن قرأ بالفتح أراد الحظيرة، وهي فعيلة بمعنى مفعولة، ومعنى الآية: أنهم صاروا كالشجر إذا يبس في الحظيرة، وداسته الغنم بعد سقوطه.
وقال قتادة: هو العظام النخرة المحترقة، وقال سعيد بن جبير: هو التراب المتناثر من الحيطان في يوم ريح، وقال سفيان الثوري: هو ما يتناثر من الحظيرة إذا ضربتها بالعصى، قال ابن زيد: العرب تسمي كل شيء كان رطباً فيبس هشيماً، والمتهشم المتكسر، والمحتظر الذي يعمل الحظيرة وما يحتظر به ييبس بطول الزمان، وتتوطأه البهائم فيحتطم وينهشم، وقال ابن عباس: كحظائر من الشجر محترقة، وكالعظام المحترقة، وكالحشيش تأكله الغنم.
(وَلَقَدْ يَسَّرْنَا الْقُرْآنَ لِلذِّكْرِ فَهَلْ مِنْ مُدَّكِرٍ) فائدة تكرير هذه الآية أن يجددوا عند استماع كل نبأ من أنباء الأولين إذكاراً واتعاظاً وأن يستأنفوا تيقظاً وانتباهاً، إذا سمعوا، والحث على ذلك والبعث إليه، وكذلك تكرير الأنباء والقصص في أنفسها، لتكون تلك العبرة حاضرة للقلوب، مصورة للأذهان، مذكورة غير منسية في كل أوان، ثم أخبر سبحانه عن قوم لوط بأنهم كذبوا رسل الله كما كذبهم غيرهم فقال:
(كذبت قوم لوط بالنذر) أي بالأمور المنذرة لهم على لسانه، ثم بين سبحانه ما عذبهم به فقال:
(إنا أرسلنا عليهم حاصباً) أي ريحاً ترميهم بالحصباء، بالمد وهي الحصى ومنه المحصب وهو موضع بالحجاز، قال أبو عبيدة: والنضر بن شميل: الحاصب الحجارة في الريح، قال في الصحاح: الحاصب الريح الشديدة التي تثير الحصباء والحصب بفتحتين ما تحصب به النار، أي ترمي، وكل ما ألقيته في النار فقد حصبتها به، وبابه ضرب، وتذكيره مع كونه مسنداً إلى ضمير الريح -وهي مؤنث- سماعي، لكونها في تأويل العذاب، وقوله تعالى:(وأمطرنا عليهم حجارة)، وكذا قوله:(لنرسل عليهم حجارة)، يدلان على أن الذي أرسل عليهم نفس الحجارة لا الريح التي تحصبها إلا أنه قيل ههنا:(أرسلنا عليهم حاصباً) للدلالة على أن إمطار الحجارة وإرسالها عليهم كان بواسطة إرسال الريح لها.
(إلا آل لوط) يعني لوطاً وابنتيه ومن تبعه، وفي الإستثناء وجهان:
أحدهما: أنه متصل، أي أرسل الحاصب على الجميع، إلا أهله فإنه لم يرسل عليهم.
والثاني: أنه منقطع، وبه قال أبو البقاء، ولا أدري ما وجهه، فإن الانقطاع وعدمه عبارة عن عدم دخول المستثنى في المستثنى منه، ودخوله فيه،
وهذا داخل ليس إلا، وهو كلام مشكل.
(نجيناهم بسحر) أي آخر الليل، وهو في كلام العرب اختلاط سواد الليل ببياض أول النهار، فيكون فيه مخائل الليل ومخائل النهار، وقيل: هما سحران الأعلى قبل انصداع الفجر، والآخر عند انصداعه، وانصرف سحر لأنه نكرة لم يقصد به سحر ليلة معينة، ويوم معين، ولو قصد معيناً لامتنع كذا قال الزجاج والأخفش وغيرهما، والباء بمعنى في، أو هي للملابسة أي حال كونهم متلبسين بسحر.
(نعمة من عندنا) النصب على العلة، أو على المصدرية، أي: إنعاماً منا على لوط ومن تبعه (كذلك) أي مثل ذلك الجزاء (نجزي من شكر) نعمتنا ولم يكفرها مع أصل الإيمان، أو من ضم إلى الإيمان عمل الطاعات.
(ولقد أنذرهم بطشتنا) أي: أنذر لوط قومه بطشة الله بهم، وهي عذابه الشديد وعقوبته البالغة (فتماروا بالنذر) أي شكوا في الإنذار، ولم يصدقوه، وهو تفاعلوا من المرية وهي الشك، أو تجادلوا وكذبوا بإنذاره.
(ولقد راودوه عن ضيفه) أي أرادوا منه تمكينهم ممن أتاه من الملائكة، ليفجروا بهم، كما هو دأبهم، يقال: راودته عن كذا مراودة، ورواداً أي: أردته، وراد الكلام يروده رواداً أي: طلبه المرة بعد المرة، فالمعنى طلبوه المرة بعد المرة أن يخلي بينهم وبينهم، وقد تقدم تفسير المراودة في سورة هود (فطمسنا أعينهم) الطموس الدرس والانمحاء، قاله في المختار: أي صيرناها ممسوحة، لا يرى لها شق، كما تطمس الريح الأعلام بما تسفي عليها من التراب، وقيل: أذهب الله نور أبصارهم مع بقاء الأعين على صورتها، قال الضحاك: طمس الله على أبصارهم فلم يروا الرسل فرجعوا.