الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
المبحث الثَّالث مَنْهَج المؤلَّف في الكِتَابِ
أبان المؤلف رحمه الله في ديباجة كتابه هذا عن منهجه فيه، وما قصد له من تأليفه، فقال:"هذا كتاب لخصته مختصرًا، وهذبت لفظه محررًا، يتضمن نبذة من تفسير القرآن العظيم، وتأويل ما فيه من الآيات والذكر الحكيم، اعتمدت في نقله على كتب أئمة الإسلام، وانتقيته من فوائد العلماء الأعلام".
* ثم قال: "وذكرت فيه خلاف القراء العشرة المشهورين، الذين تواترت قراءتهم، واشتهرت روايتهم من طرق الرواة الثقات، والأئمة الأثبات.
* وذكرت فيه أربعة وقوف: التام، والكافي، والحسن، والقبيح.
* ثم قال: وإن كان في الآية الشريفة حكم متفق عليه، أو مختلف فيه بين الأئمة الأربعة، ذكرته ملخصًا، ولم ألتزم استيعاب الأحكام، بل أذكر المهم حسب الإمكان، ولم أتعرض لاختيار غيره من الأئمة المتقدمين، وحيث أقول في الحكم: بالاتفاق، فالمراد: اتفاق الأئمة الأربعة المشار إليهم".
* قال: "وربما ذكرت مذاهبهم في شيء من أصول الدين والفقه على سبيل الاختصار في محلٍّ يناسبه".
وقد قدّم المؤلف رحمه الله قبل الشروع في التفسير بعشرة فصول
ضمَّنها فوائد مما يتعلَّق بفضائل القرآن العظيم، وما ورد في تفسيره، وجمعه، وكتابته، وذكر الأحرف السبعة، وغير ذلك.
فإذن التزم المؤلف رحمه الله:
1 -
ذكر اختلاف القرَّاء العشرة، وذكر الوقوف في الآيات.
2 -
ذكر المسائل الفقهيَّة ملخصة، مقتصرًا على المهم فيها، وذلك بين الأئمة الأربعة فقط.
3 -
ذكر المسائل العقدية على سبيل الاختصار أيضًا.
4 -
ذكر الفوائد واللطائف المتعلِّقة بالآية.
* أمَّا القراءات: فقد التزم المؤلِّف بذكر الخلاف بين القرَّاء حيثما وجد، وذكر قواعدهم في ذلك، وتوجيه القراءة عند كل واحد، وما يبنى عليها من المعاني.
مثال: قول الله تعالى: {كَانَ النَّاسُ أُمَّةً وَاحِدَةً فَبَعَثَ اللَّهُ النَّبِيِّينَ مُبَشِّرِينَ وَمُنْذِرِينَ وَأَنْزَلَ مَعَهُمُ الْكِتَابَ بِالْحَقِّ لِيَحْكُمَ بَيْنَ النَّاسِ فِيمَا اخْتَلَفُوا فِيهِ (213)} [البقرة: 213].
قال المؤلف: رحمه الله (1/ 298): (ليحكم) قرأ أبو جعفر: بضم الياء وفتح الكاف؛ لأن الكتاب لا يحكم في الحقيقة، وإنما يحكم به. وقرأ الباقون: بفتح الياء وضم الكاف؛ أي: يحكم الكتاب؛ كقوله تعالى: {هَذَا كِتَابُنَا يَنْطِقُ عَلَيْكُمْ بِالْحَقِّ (29)} [الجاثية:29].
وقد تقدم عملُ المؤلف رحمه الله في القراءات على غيره في هذا الباب، بذكر الوقوف الأربعة؛ التام، والكافي، والحسن، والقبيح، على
رؤوس الكلمات مما اختاره الإمام أبو عمرو عثمان بن سعيد الداني رحمه الله، وغيره.
* وأما الأحكام الفقهيّة: فقد اقتصر المؤلف رحمه الله على المهم من المسائل المطروحة في آيات الأحكام وغيرها؛ ملخِّصًا الاتفاق والاختلاف بين الفقهاء الأربعة، معتمدًا في غالب نقوله على "تفسير البغوي"، و"المحرر الوجيز" لابن عطية، و"المغني" لابن قدامة، وغيرها. مُعْرِضًا عن ذكر أدلتهم في أكثر المسائل المذكورة في هذا الكتاب.
* وأما المسائل العقدية: وهي التي قصدها المؤلف رحمه الله بقوله: وربما ذكرت مذاهبهم في شيء من أصول الدين والفقه على سبيل الاختصار في محل يناسبه.
وقد التزم المؤلف رحمه الله بذكر مذهب أهل السنة في غالب المسائل التي ذكرها، على وجه الاختصار والإيجاز، وذلك كقوله (6/ 176) عند قوله تعالى:{لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ وَهُوَ السَّمِيعُ الْبَصِيرُ} : المراد من (مثله): ذاته، والشيء: عبارة عن الموجود. قال ابن عباس: ليس له نظير. فالتوحيد: إثبات ذات غير مشبهة للذوات، ولا معطلة من الصفات، ليس كذاته ذات، ولا كاسمه اسم، ولا كفعله فعل، ولا كصفته صفة، إلا من جهة موافقة اللفظِ اللفظَ، وجلَّت الذات القديمة أن تكون لها صفة حديثة، كما استحال أن تكون للذات المحدثة صفة قديمة، وحيث تراءى في مرآة القلب صورة، أو خطر بالخاطر مثال، أو ركنت النفس إلى كيفية، فليجزم بأن الله بخلافه؛ إذ كل ذلك من سمات الحدوث؛ لدخوله في دائرة التحديد والتكييف اللازمين للمخلوق، المنزَّه عنهما الخالق تعالى.
وقال (2/ 529) في قوله تعالى: {ثُمَّ اسْتَوَى عَلَى الْعَرْشِ (59)} [الفرقان: 59]:
استواء يليق بعظمته بلا كيف، وهذا من المشكل الذي يجب عند أهل السنة على الإنسان الإيمان به، ويكل العلم فيه إلى الله عز وجل، وسئل الإمام مالك رضي الله عنه عن الاستواء، فقال: الاستواء معلوم -يعني: في اللغة-، والكيف مجهول، والإيمان به واجب، والسؤال عنه بدعة. وسئل الإمام أحمد رضي الله عنه عن قوله تعالى:{الرَّحْمَنُ عَلَى الْعَرْشِ اسْتَوَى (5)} [طه: 5]، قال: هو كما أخبر، لا كما يخطر للبشر.
وقال (2/ 232) في قوله تعالى: {وَكَلَّمَ اللَّهُ مُوسَى تَكْلِيمًا (164)} : مصدر معناه التأكيد، يدل على بطلان قول من يقول: خلق بنفسه كلامًا في شجرة، فسمعه موسى، بل هو الكلام الحقيقي الذي يكون فيه المتكلم متكلمًا. وكلام الله تعالى للنبي موسى دون تكييف ولا تحديد، فإنه سبحانه موجود لا كالموجودات، معلوم لا كالمعلومات، فكذلك كلامه لا كالكلام (1).
إلا أن المؤلف رحمه الله لم يَسر على الجادة نفسها، فوقعت منه بعض المخالفات لِمَا التزمه من حكاية مذهب السلف، ومن ذلك قوله (5/ 508) في قوله تعالى:{بَلْ عَجِبْتَ وَيَسْخَرُونَ (12)} [الصافات: 12]، على قراءة من قرأ بضم التاء من قوله:{عَجِبْتَ} : والتعجب من الله ليس كالتعجب من الآدميين؛ لأنه من الناس إنكار وتعظيم، ومن الله قد يكون بمعنى الإنكار والذم، وقد يكون بمعنى الاستحسان والرضا. ثم قال: وهي عبارة عما يظهره الله تعالى في جانب المتعجب منه من التعظيم أو التحقير، حتى يصير الناس متعجبين منه (2).
(1) وانظر أمثلة أكثر على ذلك: (1/ 133، 162، 194)، (2/ 319)، (6/ 46).
(2)
والتحقيق في هذا: أن نسبة التعجب إليه سبحانه وتعالى كنسبة سائر الصفات =
وفي قوله (2/ 379) في قوله تعالى: {وَهُوَ الْقَاهِرُ فَوْقَ عِبَادِهِ (18)} [الأنعام: 18] المراد بـ "فوق": علو القدرة والشأن.
هذا -على وجه الإجمال- المقاصدُ الكبرى التي قصدها المؤلف رحمه الله في تفسيره هذا، ونبه على ذكرها في مقدمة الكتاب.
وفي تفاصيل الكتاب يَلحظ المطالع أمورًا عدة، من ذلك:
1 -
التزامه بذكر مكي السور ومدنيها، وعدد آيات السورة وكلماتها وحروفها في أول كل سورة يفسرها.
2 -
ذكر أسباب النزول عند كل آية ورد بخصوصها سبب، وذكره أهل التفسير في كتبهم.
3 -
سرد قصص الأنبياء وأخبار الأمم السالفة، مع ذكر أسماء الأشخاص والأماكن وتاريخ وقوع الأحداث، وغالب ذلك يكون من الإسرائيليات.
4 -
تفسير المفردات من حيث الوضع اللغوي والشرعي في غالب الأحيان.
= والأفعال إليه، فإنه تعجب لا يماثل ولا يشابه تعجب المخلوقين، كما أن الرضا والغضب والحب والفرح وغير ذلك مما ورد في القرآن أو السنة الصحيحة لا تماثل ما للمخلوقين من ذلك. كما أن ذاته سبحانه وتعالى لا تشبه ذوات المخلوقين، وصفاته لا تشبه صفاتهم وأفعالهم. ئم إن هذا التأويل -أعني: تأويل التعجب من الله بمعنى الإنكار أو الذم، أو بمعنى الرضا والاستحسان- لا يرفع الإشكال، إذ ما يستشكل من نسبة التعجب يلزم مثله من الرضا والذم ونحو ذلك، فإن قيل: رضا ليس كرضا المخلوقين، واستحسان ليس كاستحسان المخلوقين، فليُقل: تعجب ليس كتعجب المخلوقين، وعلى هذا جميع ما يرد في هذا الباب، وبالله التوفيق.
5 -
إيراد الأمثلة الدائرة على ألسنة الناس مما يوافق معنى الآية التي يفسرها، وذلك كقوله (3/ 192) عند قوله تعالى:{وَفِيكُمْ سَمَّاعُونَ لَهُمْ (47)} [التوبة: 47]: وفي معنى قوله تعالى من الأمثال الدائرة على ألسن الناس: للحيطان آذان.
وقال (3/ 285) في معنى قوله تعالى: {بَلْ كَذَّبُوا بِمَا لَمْ يُحِيطُوا بِعِلْمِهِ (39)} [يونس: 39]، من الأمثال الدائرة على ألسن الناس: من جهل شيئًا عاداه.
6 -
التعريف بالأعلام الوارد ذكرهم في القرآن العظيم؛ كالأنبياء -عليهم الصلاة والسلام- وغيرهم.
7 -
تلخيص الآية بعد تفسيرها؛ كقوله (1/ 406) في قوله تعالى: {وَاتَّقُوا اللَّهَ وَيُعَلِّمُكُمُ اللَّهُ (282)} [البقرة: 282] المعنى: اجتنبوا معصية الله يعرفكم طرقَ فلاحِكم. تلخيصه: من راقب الله، أرشده.
وكقوله (1/ 320) في قوله تعالى: {لِلَّذِينَ يُؤْلُونَ مِنْ نِسَائِهِمْ تَرَبُّصُ أَرْبَعَةِ أَشْهُرٍ (226)} [البقرة: 226]. تلخيصه: استقرَّ للمؤمنين تربُّص أربعة أشهر.
8 -
الإتيان بالفوائد واللطائف والإشارات الدقيقة، وذلك كقوله (1/ 115) في قوله تعالى:{وَضُرِبَتْ عَلَيْهِمُ الذِّلَّةُ وَالْمَسْكَنَةُ (61)} [البقرة: 61] قال: الفقر، سمي الفقير مسكينًا؛ لأن الفقر أسكنه وأقعده عن الحركة، فترى اليهود -وإن كانوا أغنياء- كأنهم فقراء، فلا يرى في أهل المال أذل وأحرص على المال من اليهود.
9 -
تحري الصواب والراجح من أقوال المفسرين في تفسير الآيات.
***