الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
إِنَّ الَّذِينَ يَكْسِبُونَ الْإِثْمَ سَيُجْزَوْنَ بِما كانُوا يَقْتَرِفُونَ.
تَعْلِيلٌ لِلْأَمْرِ بِتَرْكِ الْإِثْمِ، وَإِنْذَارٌ وَإِعْذَارٌ لِلْمَأْمُورِينَ، وَلِذَلِكَ أُكِّدَ الْخَبَرُ بِ (إِنَّ) ، وَهِيَ فِي مِثْلِ هَذَا الْمَقَامِ، أَيْ مَقَامِ تَعْقِيبِ الْأَمْرِ أَوِ الْإِخْبَارِ تُفِيدُ مَعْنَى التَّعْلِيلِ، وَتُغْنِي عَنِ الْفَاءِ، وَمِثَالُهَا الْمَشْهُورُ قَوْلُ بَشَّارٍ:
إِنَّ ذَاكَ النَّجَاحَ فِي التَّبْكِيرِ وَإِظْهَارُ لَفْظِ الْإِثْمِ فِي مَقَامِ إِضْمَارِهِ إِذْ لَمْ يَقُلْ: إِنَّ الَّذِينَ يَكْسِبُونَهُ لِزِيَادَةِ التَّنْدِيدِ بِالْإِثْمِ، وَلِيَسْتَقِرَّ فِي ذِهْنِ السَّامِعِ أَكْمَلَ اسْتِقْرَارٍ، وَلِتَكُونَ الْجُمْلَةُ مُسْتَقِلَّةً فَتَسِيرَ مَسِيرَ الْأَمْثَالِ وَالْحِكَمِ. وَحَرْفُ السِّينِ، الْمَوْضُوعُ لِلْخَبَرِ الْمُسْتَقْبَلِ، مُسْتَعْمَلٌ هُنَا فِي تَحَقُّقِ الْوُقُوعِ
وَاسْتِمْرَارِهِ.
وَلَمَّا جَاءَ فِي الْمُذْنِبِينَ فِعْلُ يَكْسِبُونَ الْمُتَعَدِّي إِلَى الْإِثْمِ، جَاءَ فِي صِلَةِ جَزَائِهِمْ بِفِعْلِ (يَقْتَرِفُونَ)، لِأَنَّ الِاقْتِرَافَ إِذَا أُطْلِقَ فَالْمُرَادُ بِهِ اكْتِسَابُ الْإِثْمِ كَمَا تَقَدَّمَ آنِفًا فِي قَوْلِهِ تَعَالَى:
وَلِيَقْتَرِفُوا مَا هُمْ مُقْتَرِفُونَ [الْأَنْعَام: 113] .
[121]
[سُورَة الْأَنْعَام (6) : آيَة 121]
وَلا تَأْكُلُوا مِمَّا لَمْ يُذْكَرِ اسْمُ اللَّهِ عَلَيْهِ وَإِنَّهُ لَفِسْقٌ وَإِنَّ الشَّياطِينَ لَيُوحُونَ إِلى أَوْلِيائِهِمْ لِيُجادِلُوكُمْ وَإِنْ أَطَعْتُمُوهُمْ إِنَّكُمْ لَمُشْرِكُونَ (121)
جُمْلَةُ: وَلا تَأْكُلُوا مِمَّا لَمْ يُذْكَرِ اسْمُ اللَّهِ عَلَيْهِ مَعْطُوفَةٌ عَلَى جُمْلَةِ: فَكُلُوا مِمَّا ذُكِرَ اسْمُ اللَّهِ عَلَيْهِ [الْأَنْعَام: 118] .
و
(مَا) فِي قَوْلِهِ: مِمَّا لَمْ يُذْكَرِ اسْمُ اللَّهِ عَلَيْهِ مَوْصُولَة، وَمَا صدق الْمَوْصُولِ هُنَا:
ذَكِيٌّ، بِقَرِينَةِ السَّابِقِ الّذي مَا صدقه ذَلِكَ بِقَرِينَةِ الْمَقَامِ. وَلَمَّا كَانَتِ الْآيَةُ السَّابِقَةُ قَدْ أَفَادَتْ إِبَاحَةَ أَكْلِ مَا ذُكِرَ اسْمُ اللَّهِ عَلَيْهِ، وَأَفْهَمَتِ النَّهْيَ عَمَّا لَمْ يُذْكَرِ اسْمُ اللَّهِ عَلَيْهِ، وَهُوَ الْمَيْتَةُ، وَتَمَّ الْحُكْمُ فِي شَأْنِ أَكْلِ الْمَيْتَةِ وَالتَّفْرِقَةِ بَيْنَهَا وَبَيْنَ مَا ذُكِّيَ وَذُكِرَ اسْمُ اللَّهِ عَلَيْهِ، فَفِي هَذِهِ الْآيَةِ أُفِيدَ النَّهْيُ وَالتَّحْذِيرُ مِنْ أَكْلِ مَا ذُكِرَ اسْمُ غَيْرِ اللَّهِ عَلَيْهِ. فَمَعْنَى: لَمْ يُذْكَرِ اسْمُ اللَّهِ عَلَيْهِ
: أَنَّهُ تُرِكَ ذِكْرُ اسْمِ اللَّهِ عَلَيْهِ قَصْدًا وَتَجَنُّبًا لِذِكْرِهِ عَلَيْهِ، وَلَا يَكُونُ ذَلِكَ إِلَّا لِقَصْدِ أَنْ لَا يَكُونَ الذَّبْحُ لِلَّهِ، وَهُوَ يُسَاوِي كَوْنَهُ لِغَيْرِ اللَّهِ، إِذْ لَا وَاسِطَةَ عِنْدَهُمْ فِي الذَّكَاةِ بَيْنَ أَنْ يَذْكُرُوا اسْمَ اللَّهِ أَوْ يَذْكُرُوا اسْمَ غَيْرِ اللَّهِ، كَمَا تَقَدَّمَ بَيَانُهُ عِنْدَ قَوْلِهِ: فَكُلُوا مِمَّا ذُكِرَ اسْمُ اللَّهِ عَلَيْهِ [الْأَنْعَام: 118] . وَمِمَّا يُرَشِّحُ أَنَّ هَذَا هُوَ الْمَقْصُودُ قَوْلُهُ هُنَا: وَإِنَّهُ لَفِسْقٌ وَقَوْلُهُ فِي الْآيَةِ الْآتِيَةِ: أَوْ فِسْقاً أُهِلَّ لِغَيْرِ اللَّهِ بِهِ [الْأَنْعَام: 145]، فَعُلِمَ أَنَّ الْمَوْصُوفَ بِالْفِسْقِ هُنَا: هُوَ الَّذِي وُصِفَ بِهِ هُنَالِكَ، وَقُيِّدَ هُنَالِكَ بِأَنَّهُ أُهِلَّ لِغَيْرِ اللَّهِ بِهِ، وَبِقَرِينَةِ تَعْقِيبِهِ بِقَوْلِهِ:
وَإِنْ أَطَعْتُمُوهُمْ إِنَّكُمْ لَمُشْرِكُونَ لِأَنَّ الشِّرْكَ إِنَّمَا يَكُونُ بِذِكْرِ أَسْمَاءِ الْأَصْنَامِ عَلَى الْمُذَكَّى، وَلَا يَكُونُ بِتَرْكِ التَّسْمِيَةِ.
وَرُبَّمَا كَانَ الْمُشْرِكُونَ فِي تَحَيُّلِهِمْ عَلَى الْمُسْلِمِينَ فِي أَمْرِ الذَّكَاةِ يَقْتَنِعُونَ بِأَنْ يَسْأَلُوهُمْ تَرْكَ التَّسْمِيَةِ، بِحَيْثُ لَا يُسَمُّونَ اللَّهَ وَلَا يُسَمُّونَ لِلْأَصْنَامِ، فَيَكُونُ الْمَقْصُودُ مِنَ الْآيَةِ: تَحْذِيرَ الْمُسْلِمِينَ مِنْ هَذَا التَّرْكِ الْمَقْصُودِ بِهِ التَّمْوِيهُ، وَأَنْ يُسَمَّى عَلَى الذَّبَائِحِ غَيْرَ أَسْمَاءِ آلِهَتِهِمْ.
فَإِنِ اعْتَدَدْنَا بِالْمَقْصِدِ وَالسِّيَاقِ، كَانَ اسْمُ الْمَوْصُولِ مُرَادًا بِهِ شَيْءٌ مُعَيَّنٌ، لَمْ يُذْكَرِ اسْمُ اللَّهِ عَلَيْهِ، فَكَانَ حُكْمُهَا قَاصِرًا عَلَى ذَلِكَ الْمُعَيَّنِ، وَلَا تَتَعَلَّقُ بِهَا مَسْأَلَةُ وُجُوبِ التَّسْمِيَةِ
فِي الذَّكَاةِ، وَلَا كَوْنِهَا شَرْطًا أَوْ غَيْرَ شَرْطٍ بَلْهَ حُكْمَ نِسْيَانِهَا. وَإِنْ جَعْلَنَا هَذَا الْمَقْصِدَ بِمَنْزِلَةِ سَبَبٍ لِلنُّزُولِ، وَاعْتَدَدْنَا بِالْمَوْصُولِ صَادِقًا عَلَى كُلِّ مَا لَمْ يُذْكَرِ اسْمُ اللَّهِ عَلَيْهِ، كَانَتِ الْآيَةُ مِنَ الْعَامِّ
الْوَارِدِ عَلَى سَبَبٍ خَاصٍّ، فَلَا يُخَصُّ بِصُورَةِ السَّبَبِ، وَإِلَى هَذَا الِاعْتِبَارِ مَالَ جُمْهُورُ الْفُقَهَاءِ الْمُخْتَلِفِينَ فِي حُكْمِ التَّسْمِيَةِ عَلَى الذَّبِيحَةِ.
وَهِيَ مَسْأَلَةٌ مُخْتَلَفٌ فِيهَا بَيْنَ الْفُقَهَاءِ عَلَى أَقْوَالٍ: أَحَدُهَا: أَنَّ الْمُسْلِمَ إِنْ نَسِيَ التَّسْمِيَةَ عَلَى الذَّبْحِ تُؤْكَلُ ذَبِيحَتُهُ، وَإِنْ تَعَمَّدَ تَرْكَ التَّسْمِيَةِ اسْتِخْفَافًا أَوْ تَجَنُّبًا لَهَا لَمْ تُؤْكَلْ (وَهَذَا مِثْلُ مَا يَفْعَلُهُ بَعْضُ الزُّنُوجِ مِنَ الْمُسْلِمِينَ فِي تُونِسَ وَبَعْضِ بِلَادِ الْإِسْلَامِ الَّذِينَ يَزْعُمُونَ أَنَّ الْجِنَّ تَمْتَلِكُهُمْ، فَيَتَفَادُونَ مِنْ أَضْرَارِهَا بِقَرَابِينَ يَذْبَحُونَهَا لِلْجِنِّ وَلَا يُسَمُّونَ اسْمَ اللَّهِ عَلَيْهَا، لِأَنَّهُمْ يَزْعُمُونَ أَنَّ الْجِنَّ تَنْفِرُ مِنِ اسْمِ اللَّهِ تَعَالَى خِيفَةً مِنْهُ، (وَهَذَا مُتَفَشٍّ بَيْنَهُمْ فِي تُونِسَ وَمِصْرَ) فَهَذِهِ ذَبِيحَةٌ لَا تُؤْكَلُ. وَمُسْتَنَدُ هَؤُلَاءِ ظَاهِرُ الْآيَةِ مَعَ تَخْصِيصِهَا أَوْ تَقْيِيدِهَا بِغَيْرِ النِّسْيَانِ، إِعْمَالًا لِقَاعِدَةِ رَفْعِ حُكْمِ النِّسْيَانِ عَنِ النَّاسِ. وَإِنْ تَعَمَّدَ تَرْكَ التَّسْمِيَةِ لَا لِقَصْدِ اسْتِخْفَافٍ أَوْ تَجَنُّبٍ وَلَكِنَّهُ تَثَاقَلَ عَنْهَا، فَقَالَ مَالِكٌ، فِي الْمَشْهُورِ، وَأَبُو حَنِيفَةَ، وَجَمَاعَةٌ، وَهُوَ رِوَايَةٌ عَنْ أَحْمَدَ: لَا تُؤَكَلُ. وَلَا شَكَّ أَنَّ الْجَهْلَ كَالنِّسْيَانِ، وَلَعَلَّهُمُ اسْتَدَلُّوا بِالْأَخْذِ بِالْأَحْوَطِ فِي احْتِمَالِ الْآيَةِ اقْتِصَارًا عَلَى ظَاهِرِ اللَّفْظِ دُونَ مَعُونَةِ السِّيَاقِ.
الثَّانِي: قَالَ الشَّافِعِيُّ، وَجَمَاعَةٌ، وَمَالِكٌ، فِي رِوَايَةٍ عَنْهُ: تُؤْكَلُ، وَعِنْدِي أَنَّ دَلِيلَ هَذَا الْقَوْلِ أَنَّ التَّسْمِيَةَ تَكْمِلَةٌ لِلْقُرْبَةِ، وَالذَّكَاةُ بَعْضُهَا قُرْبَةٌ وَبَعْضُهَا لَيْسَتْ بِقُرْبَةٍ، وَلَا يَبْلُغُ حُكْمُ التَّسْمِيَةِ أَنْ يَكُونَ مُفْسِدًا لِلْإِبَاحَةِ. وَفِي «الْكَشَّافِ» أَنَّهُمْ تَأَوَّلُوا مَا لَمْ يُذْكَرِ اسْمُ اللَّهِ عَلَيْهِ بِأَنَّهُ الْمَيْتَةُ خَاصَّةً، وَبِمَا ذُكِرَ غَيْرُ اسْمِ اللَّهِ عَلَيْهِ. وَفِي «أَحْكَامِ الْقُرْآنِ» لِابْنِ الْعَرَبِيِّ، عَنْ إِمَامِ الْحَرَمَيْنِ: ذِكْرُ اللَّهِ إِنَّمَا شُرِعَ فِي الْقُرَبِ، وَالذَّبْحِ لَيْسَ بِقُرْبَةٍ. وَظَاهِرٌ أَنَّ الْعَامِدَ آثِمٌ وَأَنَّ الْمُسْتَخِفَّ أَشَدُّ إِثْمًا. وَأَمَّا تَعَمُّدُ تَرْكِ التَّسْمِيَةِ لِأَجْلِ إِرْضَاءِ غَيْرِ اللَّهِ فَحُكْمُهُ حُكْمُ مَنْ سَمَّى لِغَيْرِ اللَّهِ تَعَالَى. وَقِيلَ: إِنْ تَرَكَ التَّسْمِيَةَ عَمْدًا يُكْرَهُ أَكْلُهَا، قَالَهُ أَبُو الْحَسَنِ بْنُ الْقَصَّارِ، وَأَبُو بَكْرٍ الْأَبْهَرِيُّ مِنَ الْمَالِكِيَّةِ. وَلَا يُعَدُّ هَذَا خِلَافًا، وَلَكِنَّهُ بَيَانٌ لِقَوْلِ مَالِكٍ فِي إِحْدَى الرِّوَايَتَيْنِ. وَقَالَ أَشْهَبُ،
وَالطَّبَرِيُّ: تُؤْكَلُ ذَبِيحَةُ تَارِكِ التَّسْمِيَةِ عَمْدًا، إِذَا لَمْ يَتْرُكْهَا مُسْتَخِفًّا. وَقَالَ عَبْدُ اللَّهِ بْنُ عُمَرَ، وَابْنُ سِيرِينَ، وَنَافِعٌ، وَأَحْمَدُ بْنُ حَنْبَلٍ، وَدَاوُدُ: لَا تُؤَكَلُ إِذَا لَمْ يُسَمَّ عَلَيْهَا عَمْدًا أَوْ نِسْيَانًا، أَخْذًا بِظَاهِرِ الْآيَةِ، دُونَ تَأَمُّلٍ فِي الْمَقْصِدِ وَالسِّيَاقِ.
وَأَرْجَحُ الْأَقْوَالِ: هُوَ قَوْلُ الشَّافِعِيِّ. وَالرِّوَايَةُ الْأُخْرَى عَنْ مَالِكٍ، إِنْ تَعَمَّدَ تَرْكَ التَّسْمِيَةِ تُؤْكَلُ، وَأَنَّ الْآيَةَ لَمْ يُقْصَدْ مِنْهَا إِلَّا تَحْرِيمُ مَا أُهِلَّ بِهِ لِغَيْرِ اللَّهِ بِالْقَرَائِنِ الْكَثِيرَةِ الَّتِي
ذَكَرْنَاهَا آنِفًا، وَقَدْ يَكُونُ تَارِكُ التَّسْمِيَةِ عَمْدًا آثِمًا، إِلَّا أَنَّ إِثْمَهُ لَا يُبْطِلُ ذَكَاتَهُ، كَالصَّلَاةِ فِي الْأَرْضِ الْمَغْصُوبَةِ عِنْدَ غَيْرِ أَحْمَدَ.
وَجُمْلَةُ: وَإِنَّهُ لَفِسْقٌ مَعْطُوفَةٌ عَلَى جُمْلَةِ وَلا تَأْكُلُوا عَطْفَ الْخَبَرِ عَلَى الْإِنْشَاءِ، عَلَى رَأْيِ الْمُحَقِّقِينَ فِي جَوَازِهِ، وَهُوَ الْحَقُّ، لَا سِيَّمَا إِذَا كَانَ الْعَطْفُ بِالْوَاوِ، وَقَدْ أَجَازَ عَطْفَ الْخَبَرِ عَلَى الْإِنْشَاءِ بِالْوَاوِ بَعْضُ مَنْ مَنَعَهُ بِغَيْرِ الْوَاوِ، وَهُوَ قَوْلُ أَبِي عَلِيٍّ الْفَارِسِيِّ، وَاحْتَجَّ بِهَذِهِ الْآيَةِ كَمَا فِي «مُغَنِي اللَّبِيبِ» . وَقَدْ جَعَلَهَا الرَّازِيُّ وَجَمَاعَةٌ: حَالًا مِمَّا لَمْ يُذْكَرِ اسْمُ اللَّهِ عَلَيْهِ بِنَاءً عَلَى مَنْعِ عَطْفِ الْخَبَرِ عَلَى الْإِنْشَاءِ.
وَالضَّمِيرُ فِي قَوْلِهِ: وَإِنَّهُ لَفِسْقٌ يَعُودُ عَلَى مِمَّا لَمْ يُذْكَرِ اسْمُ اللَّهِ عَلَيْهِ وَالْإِخْبَارُ عَنْهُ بِالْمَصْدَرِ وَهُوَ لَفِسْقٌ مُبَالَغَةٌ فِي وَصْفِ الْفِعْلِ، وَهُوَ ذِكْرُ اسْمِ غَيْرِ اللَّهِ، بِالْفِسْقِ حَتَّى تَجَاوَزَ الْفِسْقُ صِفَةَ الْفِعْلِ أَنْ صَارَ صِفَةَ الْمَفْعُولِ فَهُوَ مِنَ الْمَصْدَرِ الْمُرَادِ بِهِ اسْمُ الْمَفْعُولِ:
كَالْخَلْقِ بِمَعْنَى الْمَخْلُوقِ، وَهَذَا نَظِيرُ جَعْلِهِ فِسْقًا فِي قَوْلِهِ بَعْدُ: أَوْ فِسْقاً أُهِلَّ لِغَيْرِ اللَّهِ بِهِ [الْأَنْعَام: 145] . وَالتَّأْكِيدُ بِإِنَّ: لِزِيَادَةِ التَّقْرِيرِ، وَجَعَلَ فِي «الْكَشَّافِ» الضَّمِيرَ عَائِدًا إِلَى الْأَكْلِ الْمَأْخُوذِ مِنْ وَلا تَأْكُلُوا، أَيْ وَإِنَّ أَكْلَهُ لَفِسْقٌ.
وَقَوْلُهُ: وَإِنَّ الشَّياطِينَ لَيُوحُونَ إِلى أَوْلِيائِهِمْ لِيُجادِلُوكُمْ عَطْفٌ عَلَى: وَإِنَّهُ لَفِسْقٌ، أَيْ: وَاحْذَرُوا جَدَلَ أَوْلِيَاءِ الشَّيَاطِينِ فِي ذَلِكَ، وَالْمُرَادُ
بِأَوْلِيَاءِ الشَّيَاطِينِ:
الْمُشْرِكُونَ، وَهُمُ الْمُشَارُ إِلَيْهِمْ بِقَوْلِهِ، فِيمَا مَرَّ: يُوحِي بَعْضُهُمْ إِلى بَعْضٍ [الْأَنْعَام: 112] وَقَدْ تَقَدَّمَ بَيَانُهُ.
وَالْمُجَادَلَةُ الْمُنَازَعَةُ بِالْقَوْلِ لِلْإِقْنَاعِ بِالرَّأْيِ، وَتَقَدَّمَ بَيَانُهَا عِنْدَ قَوْلِهِ تَعَالَى: وَلا تُجادِلْ عَنِ الَّذِينَ يَخْتانُونَ أَنْفُسَهُمْ
فِي سُورَةِ النِّسَاءِ [107] ، وَالْمُرَادُ هُنَا الْمُجَادَلَةُ فِي إِبْطَالِ أَحْكَامِ الْإِسْلَامِ وَتَحْبِيبِ الْكُفْرِ وَشَعَائِرِهِ، مِثْلُ قَوْلِهِمْ: كَيْفَ نَأْكُلُ مَا نَقْتُلُ بِأَيْدِينَا وَلَا نَأْكُلُ مَا قَتَلَهُ اللَّهُ.
وَقَوْلُهُ: وَإِنْ أَطَعْتُمُوهُمْ إِنَّكُمْ لَمُشْرِكُونَ حُذِفَ مُتَعَلَّقُ أَطَعْتُمُوهُمْ لِدَلَالَةِ الْمَقَامِ عَلَيْهِ، أَيْ: إِنْ أَطَعْتُمُوهُمْ فِيمَا يُجَادِلُونَكُمْ فِيهِ، وَهُوَ الطَّعْنُ فِي الْإِسْلَامِ، وَالشَّكُّ فِي صِحَّةِ أَحْكَامِهِ. وَجُمْلَةُ: إِنَّكُمْ لَمُشْرِكُونَ جَوَابُ الشَّرْطِ. وَتَأْكِيدُ الْخَبَرِ بِإِنْ لِتَحْقِيقِ الْتِحَاقِهِمْ بِالْمُشْرِكِينَ إِذَا أَطَاعُوا الشَّيَاطِينَ، وَإِنْ لَمْ يَدْعُوا لِلَّهِ شُرَكَاءَ، لِأَنَّ تَخْطِئَةَ أَحْكَامِ الْإِسْلَامِ تُسَاوِي الشِّرْكَ، فَلِذَلِكَ احْتِيجَ إِلَى التَّأْكِيدِ، أَوْ أَرَادَ: إِنَّكُمْ لَصَائِرُونَ إِلَى الشِّرْكِ، فَإِنَّ الشَّيَاطِينَ تَسْتَدْرِجُكُمْ بِالْمُجَادَلَةِ حَتَّى يَبْلُغُوا بِكُمْ إِلَى الشِّرْكِ، فَيَكُونُ اسْمُ الْفَاعِلِ مُرَادًا بِهِ
الِاسْتِقْبَالُ. وَلَيْسَ الْمَعْنَى: إِنْ أَطَعْتُمُوهُمْ فِي الْإِشْرَاكِ بِاللَّهِ فَأَشْرَكْتُمْ بِاللَّهِ إِنَّكُمْ لَمُشْرِكُونَ، لِأَنَّهُ لَوْ كَانَ كَذَلِكَ لَمْ يَكُنْ لِتَأْكِيدِ الْخَبَرِ سَبَبٌ، بَلْ وَلَا لِلْإِخْبَارِ بِأَنَّهُمْ مُشْرِكُونَ فَائِدَةٌ.
وَجُمْلَةُ: إِنَّكُمْ لَمُشْرِكُونَ جَوَابُ الشَّرْطِ، وَلَمْ يَقْتَرِنْ بِالْفَاءِ لِأَنَّ الشَّرْطَ إِذَا كَانَ مُضَافًا يَحْسُنُ فِي جَوَابِهِ التَّجْرِيدُ عَنِ الْفَاءِ، قَالَهُ أَبُو الْبَقَاءِ الْعُكْبَرِيُّ، وَتَبِعَهُ الْبَيْضَاوِيُّ، لِأَنَّ تَأْثِيرَ الشَّرْطِ الْمَاضِي فِي جَزَائِهِ ضَعِيفٌ، فَكَمَا جَازَ رَفْعُ الْجَزَاءِ وَهُوَ مُضَارِعٌ، إِذَا كَانَ شَرْطُهُ مَاضِيًا، كَذَلِكَ جَازَ كَوْنُهُ جُمْلَةً اسْمِيَّةً غَيْرَ مُقْتَرِنَةٍ بِالْفَاءِ. عَلَى أَنَّ كَثِيرًا مِنْ مُحَقِّقِي النَّحْوِيِّينَ يُجِيزُ حَذْفَ فَاءِ الْجَوَابِ فِي غَيْرِ الضَّرُورَةِ، فَقَدْ أَجَازَهُ الْمُبَرِّدُ وَابْنُ مَالِكٍ