الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
وَالتَّنْبِئَةُ: الْإِخْبَارُ، وَالْمُرَادُ بِهَا إِظْهَارُ آثَارِ الْإِيمَانِ وَالْكُفْرِ وَاضِحَةً يَوْمَ الْحِسَابِ، فَيَعْلَمُوا أَنَّهُمْ كَانُوا ضَالِّينَ، فَشَبَّهَ ذَلِكَ الْعِلْمَ بِأَنَّ اللَّهَ أَخْبَرَهُمْ بِذَلِكَ يَوْمَئِذٍ وَإِلَّا فَإِنَّ اللَّهَ نَبَّأَهُمْ بِمَا اخْتَلَفُوا فِيهِ مِنْ زَمَنِ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا، أَوِ الْمُرَادُ يُنْبِئُكُمْ مُبَاشَرَةً بِدُونِ وَاسِطَةِ الرُّسُلِ إِنْبَاءً لَا يَسْتَطِيعُ الْكَافِرُ أَنْ يَقُولَ: هَذَا كَذِبٌ عَلَى اللَّهِ، كَمَا
وَرَدَ فِي حَدِيثِ الْحَشْرِ: «فَيُسْمِعُهُمُ الدَّاعِي لَيْسَ بَيْنَهُمْ وَبَيْنَ الله حجاب»
. [165]
[سُورَة الْأَنْعَام (6) : آيَة 165]
وَهُوَ الَّذِي جَعَلَكُمْ خَلائِفَ الْأَرْضِ وَرَفَعَ بَعْضَكُمْ فَوْقَ بَعْضٍ دَرَجاتٍ لِيَبْلُوَكُمْ فِي مَا آتاكُمْ إِنَّ رَبَّكَ سَرِيعُ الْعِقابِ وَإِنَّهُ لَغَفُورٌ رَحِيمٌ (165)
يَظْهَرُ أَنَّ هَذَا دَلِيلٌ عَلَى إِمْكَانِ الْبَعْثِ، وَعَلَى وُقُوعِهِ، لِأَنَّ الَّذِي جَعَلَ بَعْضَ الْأَجْيَالِ خَلَائِفَ لِمَا سَبَقَهَا، فَعَمَرُوا الْأَرْضَ جِيلًا بَعْدَ جِيلٍ، لَا يُعْجِزُهُ أَنْ يَحْشُرَهَا جَمِيعًا بَعْدَ انْقِضَاء عَالم حَيَاتهَا الْأُولَى. ثُمَّ إِنَّ الَّذِي دَبَّرَ ذَلِكَ وَأَتْقَنَهُ لَا يَلِيقُ بِهِ أَنْ لَا يُقِيمَ بَيْنَهُمْ مِيزَانَ الْجَزَاءِ عَلَى مَا صَنَعُوا فِي الْحَيَاةِ الْأُولَى لِئَلَّا يَذْهَبَ الْمُعْتَدُونَ وَالظَّالِمُونَ فَائِزِينَ بِمَا جَنَوْا، وَإِذَا كَانَ يُقِيمُ مِيزَانَ الْجَزَاءِ عَلَى الظَّالِمِينَ فَكَيْفَ يَتْرُكُ إِثَابَةَ الْمُحْسِنِينَ، وَقَدْ أَشَارَ إِلَى الشِّقِّ الْأَوَّلِ قَوْلُهُ: وَهُوَ الَّذِي جَعَلَكُمْ خَلائِفَ الْأَرْضِ، وَأَشَارَ إِلَى الشَّقِّ الثَّانِي قَوْلُهُ:
وَرَفَعَ بَعْضَكُمْ فَوْقَ بَعْضٍ دَرَجاتٍ لِيَبْلُوَكُمْ فِي مَا آتاكُمْ. وَلِذَلِكَ أَعْقَبَهُ بِتَذْيِيلِهِ: إِنَّ رَبَّكَ سَرِيعُ الْعِقابِ وَإِنَّهُ لَغَفُورٌ رَحِيمٌ.
فَالْخِطَابُ مُوَجَّهٌ إِلَى الْمُشْرِكِينَ الَّذِينَ أُمِرَ الرَّسُولُ عليه الصلاة والسلام بِأَنْ يَقُولَ لَهُمْ: أَغَيْرَ اللَّهِ أَبْغِي رَبًّا [الْأَنْعَام: 164] وَذَلِكَ يُذَكِّرُ بِأَنَّهُمْ سَيَصِيرُونَ إِلَى مَا صَارَ إِلَيْهِ أُولَئِكَ.
فَمَوْقِعُ هَذِهِ عَقِبَ قَوْلِهِ: ثُمَّ إِلى رَبِّكُمْ مَرْجِعُكُمْ [الْأَنْعَام: 164] تَذْكِيرٌ بِالنِّعْمَةِ، بَعْدَ الْإِنْذَارِ بِسَلْبِهَا، وَتَحْرِيضٌ عَلَى تَدَارُكِ مَا فَاتَ، وَهُوَ يَفْتَحُ أَعْيُنَهُمْ لِلنَّظَرِ فِي عَوَاقِبِ الْأُمَمِ وَانْقِرَاضِهَا وَبَقَائِهَا.
وَيَجُوزُ أَنْ يَكُونَ الْخِطَابُ لِلرَّسُولِ عليه الصلاة والسلام وَالْأُمَّةِ الْإِسْلَامِيَّةِ، وَتَكُونَ الْإِضَافَةُ عَلَى مَعْنَى اللَّامِ، أَيْ جَعَلَكُمْ خَلَائِفَ الْأُمَمِ الَّتِي مَلَكَتِ الْأَرْضَ فَأَنْتُمْ خَلَائِفُ لِلْأَرْضِ، فَتكون بِشَارَة للأمّة بِأَنَّهَا آخِرُ الْأُمَمِ الْمَجْعُولَةِ مِنَ اللَّهِ لِتَعْمِيرِ الْأَرْضِ. وَالْمُرَادُ:
الْأُمَمُ ذَوَاتُ الشَّرَائِعِ الْإِلَهِيَّةِ وَأَيًّا مَا كَانَ فَهُوَ تَذْكِيرٌ بِعَظِيمِ صُنْعِ اللَّهِ وَمِنَّتِهِ لِاسْتِدْعَاءِ الشُّكْرِ وَالتَّحْذِيرِ مِنَ الْكُفْرِ.
وَالْخَلَائِفُ: جَمْعُ خَلِيفَةٍ، وَالْخَلِيفَةُ: اسْمٌ لِمَا يخلف بِهِ شَيْء، أَيْ يُجْعَلُ خَلَفًا عَنْهُ، أَيْ عِوَضَهُ، يُقَالُ: خَلِيفَةٌ وَخِلْفَةٌ، فَهُوَ فَعِيلٌ بِمَعْنَى مَفْعُولٍ، وَظَهَرَتْ فِيهِ التَّاءُ لِأَنَّهُمْ لَمَّا صَيَّرُوهُ اسْمًا قَطَعُوهُ عَنْ مَوْصُوفِهِ.
وَإِضَافَتُهُ إِلَى الْأَرْضِ عَلَى مَعْنَى (فِي) على لوجه الْأَوَّلِ، وَهُوَ كَوْنُ الْخِطَابِ لِلْمُشْرِكِينَ، أَيْ خَلَائِفَ فِيهَا، أَيْ خَلَفَ بِكُمْ أُمَمًا مَضَتْ قَبْلَكُمْ كَمَا قَالَ تَعَالَى حِكَايَةً عَنِ الرُّسُلِ فِي مُخَاطَبَةِ أَقْوَامِهِمْ: وَاذْكُرُوا إِذْ جَعَلَكُمْ خُلَفاءَ مِنْ بَعْدِ قَوْمِ نُوحٍ [الْأَعْرَاف: 69]- وَاذْكُرُوا إِذْ جَعَلَكُمْ خُلَفاءَ مِنْ بَعْدِ عادٍ [الْأَعْرَاف: 74]- عَسى رَبُّكُمْ أَنْ يُهْلِكَ عَدُوَّكُمْ وَيَسْتَخْلِفَكُمْ فِي الْأَرْضِ فَيَنْظُرَ كَيْفَ تَعْمَلُونَ [الْأَعْرَاف: 129] . وَالْإِضَافَةُ عَلَى مَعْنَى اللَّامِ عَلَى الْوَجْهِ الثَّانِي وَهُوَ كَوْنُ الْخِطَابِ لِلْمُسْلِمِينَ.
وَفِي هَذَا أَيْضًا تَذْكِيرٌ بِنِعْمَةٍ تَتَضَمَّنُ عِبْرَةً وَمَوْعِظَةً: وَذَلِكَ أَنَّهُ لَمَّا جَعَلَهُمْ خَلَائِفَ غَيْرِهِمْ فَقَدْ أَنْشَأَهُمْ وَأَوْجَدَهُمْ عَلَى حِينِ أَعْدَمَ غَيْرَهُمْ، فَهَذِهِ نِعْمَةٌ، لِأَنَّهُ لَوْ قَدَّرَ بَقَاءَ الْأُمَم الَّتِي قبلهَا لَمَا وُجِدَ هَؤُلَاءِ.
وَعَطْفُ قَوْلِهِ: وَرَفَعَ بَعْضَكُمْ فَوْقَ بَعْضٍ دَرَجاتٍ يَجْرِي عَلَى الِاحْتِمَالَيْنِ فِي الْمُخَاطَبِ بِقَوْلِهِ: جَعَلَكُمْ خَلائِفَ الْأَرْضِ فَهُوَ أَيْضًا عِبْرَةً وَعِظَةً، لِعَدَمِ الِاغْتِرَارِ بِالْقُوَّةِ
وَالرِّفْعَةِ، وَلِجَعْلِ ذَلِكَ وَسِيلَةً لِشُكْرِ تِلْكَ النِّعْمَةِ وَالسَّعْيِ فِي زِيَادَةِ الْفَضْلِ لِمَنْ قَصَّرَ عَنْهَا وَالرِّفْقِ بِالضَّعِيفِ وَإِنْصَافِ الْمَظْلُومِ.
وَلِذَلِكَ عَقَّبَهُ بِقَوْلِهِ: لِيَبْلُوَكُمْ فِي مَا آتاكُمْ أَيْ لِيُخْبِرَكُمْ فِيمَا أَنْعَمَ بِهِ عَلَيْكُمْ مِنْ دَرَجَاتِ النِّعَمِ حَتَّى يَظْهَرَ لِلنَّاسِ كَيْفَ يَضَعُ أَهْلَ النِّعْمَةِ أَنْفُسَهُمْ فِي مَوَاضِعِهَا اللَّائِقَةِ بِهَا وَهِيَ الْمُعَبَّرُ عَنْهَا بِالدَّرَجَاتِ. وَالدَّرَجَاتُ مُسْتَعَارَةٌ لِتَفَاوُتِ النِّعَمِ. وَهِيَ اسْتِعَارَةٌ مَبْنِيَّةٌ عَلَى تَشْبِيهِ الْمَعْقُولِ بِالْمَحْسُوسِ لِتَقْرِيبِهِ.
وَالْإِيتَاءُ مُسْتَعَارٌ لِتَكْوِينِ الرِّفْعَةِ فِي أَرْبَابِهَا تَشْبِيهًا لِلتَّكْوِينِ بِإِعْطَاءِ الْمُعْطِي شَيْئًا لِغَيْرِهِ.
وَالْبَلْوُ: الِاخْتِبَارُ، وَقَدْ تَقَدَّمَ عِنْدَ قَوْلِهِ تَعَالَى: وَلَنَبْلُوَنَّكُمْ بِشَيْءٍ مِنَ الْخَوْفِ وَالْجُوعِ [الْبَقَرَة: 155] . وَالْمُرَادُ بِهِ ظُهُورُ مَوَازِينِ الْعُقُولِ فِي الِانْتِفَاعِ وَالنَّفْعِ بمواهب الله فِيهَا وَمَا يَسَّرَهُ لَهَا مِنَ الْمُلَائَمَاتِ وَالْمُسَاعَدَاتِ، فَاللَّهُ يَعْلَمُ مَرَاتِبَ النّاس، وَلَكِن سمّى ذَلِكَ بَلْوَى لِأَنَّهَا لَا تَظْهَرُ لِلْعِيَانِ إِلَّا بَعْدَ الْعَمَلِ، أَيْ لِيَعْلَمَهُ اللَّهُ عِلْمَ الْوَاقِعَاتِ بَعْدَ أَنْ كَانَ يَعْلَمُهُ عِلْمَ الْمُقَدَّرَاتِ، فَهَذَا مَوْقِعُ لَامِ التَّعْلِيلِ، وَقَرِيبٌ مِنْهُ قَوْلُ إِيَاسِ بْنِ قَبِيصَةَ الطَّائِيِّ:
وَأَقْبَلْتُ وَالْخَطِّيُّ يَخْطِرُ بَيْنَنَا
…
لِأَعْلَمَ مَنْ جَبَانُهَا مِنْ شُجَاعِهَا
وَجُمْلَةُ: إِنَّ رَبَّكَ سَرِيعُ الْعِقابِ وَإِنَّهُ لَغَفُورٌ رَحِيمٌ تَذْيِيلٌ لِلْكَلَامِ وَإِيذَانٌ بِأَنَّ الْمَقْصُودَ مِنْهُ الْعَمَلُ وَالِامْتِثَالُ فَلِذَلِكَ جَمَعَ هُنَا بَيْنَ صِفَةِ سَرِيعُ الْعِقابِ وَصفَة لَغَفُورٌ لِيُنَاسِبَ جَمِيعَ مَا حَوَتْهُ هَذِهِ السُّورَةُ.
وَاسْتُعِيرَتِ السُّرْعَةُ لِعَدَمِ التَّرَدُّدِ وَلِتَمَامِ الْمَقْدِرَةِ عَلَى الْعِقَابِ، لِأَنَّ شَأْنَ الْمُتَرَدِّدِ أَوِ الْعَاجِزِ أَنْ يَتَرَيَّثَ وَأَنْ يَخْشَى غَائِلَةَ الْمُعَاقَبِ، فَالْمُرَادُ سَرِيعُ الْعِقَابِ فِي يَوْمِ الْعِقَابِ، وَلَيْسَ الْمُرَادُ سَرِيعَهُ مِنَ الْآنِ حَتَّى يُؤَوَّلَ بِمَعْنَى: كُلُّ آتٍ قَرِيبٌ، إِذْ لَا مَوْقِعَ لَهُ هُنَا.
وَمِنْ لَطَائِفِ الْقُرْآنِ الِاقْتِصَارُ فِي وَصْفِ (سَرِيعِ الْعقَاب) على موكّد وَاحِدٍ، وَتَعْزِيزِ وَصْفِ (الْغَفُورِ الرَّحِيمِ) بِمُؤَكِّدَاتٍ ثَلَاثَةٍ وَهِيَ إِنَّ، وَلَامُ الِابْتِدَاءِ، وَالتَّوْكِيدُ اللَّفْظِيُّ لِأَنَّ (الرَّحِيمَ) يُؤَكِّدُ مَعْنَى (الْغَفُورِ) : لِيُطَمْئِنَ أَهْلَ الْعَمَلِ الصَّالِحِ إِلَى مَغْفِرَةِ اللَّهِ وَرَحْمَتِهِ، وَلِيَسْتَدْعِيَ أَهْلَ الْإِعْرَاضِ وَالصُّدُوفِ، إِلَى الْإِقْلَاعِ عَمَّا هُمْ فِيهِ.