الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
بِالِازْدِيَادِ وَالتَّمَلِّي مِنْ تِلْكَ الْأَحْوَالِ، حَتَّى تَصِيرَ فِيهِمْ مَلِكَةً وَسَجِيَّةً، فَيَتَعَذَّرُ إِقْلَاعُهُمْ عَنْهَا، فَعَلَى هَذَا تَكُونُ إِنَّ مُفِيدَةً مَعْنَى التَّعْلِيلِ.
وَيَجُوزُ أَنْ تَكُونَ الْجُمْلَةُ تَهْدِيدًا وَوَعِيدًا لَهُمْ، إِنْ لَمْ يُقْلِعُوا عَمَّا هُمْ فِيهِ، بِأَنَّ اللَّهَ يَحْرِمُهُمُ التَّوْفِيقَ وَيَذَرَهُمْ فِي غَيِّهِمْ وَعَمَهِهِمْ، فَاللَّهُ هَدَى كَثِيرًا مِنَ الْمُشْرِكِينَ هُمُ الَّذِينَ لَمْ يَكُونُوا بِهَذِهِ الْمَثَابَةِ فِي الشِّرْكِ، أَيْ لَمْ يَكُونُوا قَادَةً وَلَا مُتَصَلِّبِينَ فِي شِرْكِهِمْ، وَالَّذِينَ كَانُوا بِهَذِهِ الْمَثَابَةِ هُمُ الَّذِينَ حَرَمَهُمُ اللَّهُ الْهُدَى، مِثْلُ صَنَادِيدِ قُرَيْشٍ أَصْحَابِ الْقَلِيبِ يَوْمَ بَدْرٍ، فَأَمَّا الَّذِينَ اتَّبَعُوا الْإِسْلَامَ بِالْقِتَالِ مِثْلُ مُعْظَمِ أَهْلِ مَكَّةَ يَوْمَ الْفَتْحِ، وَكَذَلِكَ هَوَازِنَ وَمَنْ
بَعْدِهَا، فَهَؤُلَاءِ أَسْلَمُوا مُذْعِنِينَ ثُمَّ عَلِمُوا أَنَّ آلِهَتَهُمْ لَمْ تُغْنِ عَنْهُمْ شَيْئًا فَحَصَلَ لَهُمُ الْهُدَى بَعْدَ ذَلِكَ، وَكَانُوا مِنْ خِيرَةِ الْمُسْلِمِينَ وَنَصَرُوا اللَّهَ حَقَّ نَصْرِهِ. فَالْمُرَادُ مِنْ نَفْيِ الْهُدَى عَنْهُمْ: إِمَّا نَفْيُهُ عَنْ فَرِيقٍ مِنَ الْمُشْرِكِينَ، وَهُمُ الَّذِينَ مَاتُوا عَلَى الشِّرْكِ، وَإِمَّا نَفْيُ الْهُدَى الْمَحْضِ الدَّالِّ عَلَى صَفَاءِ النَّفْسِ وَنُورِ الْقَلْبِ، دُونَ الْهُدَى الْحَاصِلِ بَعْدَ الدُّخُولِ فِي الْإِسْلَامِ، فَذَلِكَ هُدًى فِي الدَّرَجَةِ الثَّانِيَةِ كَمَا قَالَ تَعَالَى: لَا يَسْتَوِي مِنْكُمْ مَنْ أَنْفَقَ مِنْ قَبْلِ الْفَتْحِ وَقاتَلَ أُولئِكَ أَعْظَمُ دَرَجَةً مِنَ الَّذِينَ أَنْفَقُوا مِنْ بَعْدُ وَقاتَلُوا وَكُلًّا وَعَدَ اللَّهُ الْحُسْنى [الْحَدِيد: 10] .
[145]
[سُورَة الْأَنْعَام (6) : آيَة 145]
قُلْ لَا أَجِدُ فِي مَا أُوحِيَ إِلَيَّ مُحَرَّماً عَلى طاعِمٍ يَطْعَمُهُ إِلَاّ أَنْ يَكُونَ مَيْتَةً أَوْ دَماً مَسْفُوحاً أَوْ لَحْمَ خِنزِيرٍ فَإِنَّهُ رِجْسٌ أَوْ فِسْقاً أُهِلَّ لِغَيْرِ اللَّهِ بِهِ فَمَنِ اضْطُرَّ غَيْرَ باغٍ وَلا عادٍ فَإِنَّ رَبَّكَ غَفُورٌ رَحِيمٌ (145)
اسْتِئْنَافٌ بَيَانِيٌّ نَشَأَ عَنْ إِبْطَالِ تَحْرِيمِ مَا حَرَّمَهُ الْمُشْرِكُونَ، إِذْ يَتَوَجَّهُ سُؤَالُ سَائِلٍ مِنَ الْمُسْلِمِينَ عَنِ الْمُحَرَّمَاتِ الثَّابِتَةِ، إِذْ أُبْطِلَتِ الْمُحَرَّمَاتُ الْبَاطِلَةُ،
فَلِذَلِكَ خُوطِبَ الرّسول صلى الله عليه وسلم بِبَيَانِ الْمُحَرَّمَاتِ فِي شَرِيعَةِ الْإِسْلَامِ بَعْدَ أَنْ خُوطِبَ بِبَيَانِ مَا لَيْسَ بِمُحَرَّمٍ مِمَّا حَرَّمَهُ الْمُشْرِكُونَ فِي قَوْلِهِ: قُلْ آلذَّكَرَيْنِ حَرَّمَ أَمِ الْأُنْثَيَيْنِ [الْأَنْعَام: 144] الْآيَاتِ.
وَافْتُتِحَ الْكَلَامُ الْمَأْمُورُ بِأَنْ يَقُولَهُ بِقَوْلِهِ: لَا أَجِدُ إِدْمَاجًا لِلرَّدِّ عَلَى الْمُشْرِكِينَ فِي خِلَالِ بَيَانِ مَا حُرِّمَ عَلَى الْمُسْلِمِينَ، وَهَذَا الرَّدُّ جَارٍ عَلَى طَرِيقَةِ كِنَايَةِ الْإِيمَاءِ بِأَنْ لَمْ يُنْفَ تَحْرِيمُ مَا ادَّعَوْا تَحْرِيمَهُ صَرِيحًا، وَلَكِنَّهُ يَقُولُ لَا أَجِدُهُ فِيمَا أُوحِيَ إِلَيَّ وَيُسْتَفَادُ مِنْ ذَلِكَ أَنَّهُ لَيْسَ تَحْرِيمُهُ مِنَ اللَّهِ فِي شَرْعِهِ، لِأَنَّهُ لَا طَرِيقَ إِلَى تَحْرِيمِ شَيْءٍ مِمَّا يَتَنَاوَلُهُ النَّاسُ إِلَّا بِإِعْلَامٍ مِنَ اللَّهِ تَعَالَى، لِأَنَّ اللَّهَ هُوَ الَّذِي يُحِلُّ مَا شَاءَ وَيُحَرِّمُ مَا شَاءَ عَلَى وَفْقِ عِلْمِهِ وَحِكْمَتِهِ، وَذَلِكَ الْإِعْلَامُ لَا يَكُونُ إِلَّا بِطَرِيقِ الْوَحْيِ أَوْ مَا يُسْتَنْبَطُ مِنْهُ، فَإِذَا كَانَ حُكْمٌ غَيْرُ مَوْجُودٍ فِي الْوَحْيِ وَلَا فِي فُرُوعِهِ فَهُوَ حُكْمٌ غَيْرُ حَقٍّ، فَاسْتُفِيدَ بُطْلَانُ تَحْرِيمِ مَا زَعَمُوهُ بِطَرِيقَةِ الْإِيمَاءِ، وَهِيَ طَرِيقَةٌ اسْتِدْلَالِيَّةٌ لِأَنَّ فِيهَا نَفْيَ الشَّيْءِ بِنَفْيِ مَلْزُومِهِ.
وأَجِدُ بِمَعْنَى: أَظْفَرُ، وَهُوَ الَّذِي مَصْدَرُهُ الْوَجْدُ وَالْوِجْدَانُ، وَهُوَ هُنَا مَجَازٌ فِي حُصُولِ الشَّيْءِ وَبُلُوغِهِ، يُقَالُ: وَجَدْتُ فُلَانًا نَاصِرًا، أَيْ حَصَلْتُ عَلَيْهِ، فَشَبَّهَ التَّحْصِيلَ لِلشَّيْءِ بِالظَّفَرِ وَإِلْفَاءِ الْمَطْلُوبِ، وَهُوَ مُتَعَدٍّ إِلَى مَفْعُولٍ وَاحِدٍ.
وَالْمُرَادُ، بِ مَا أُوحِيَ مَا أَعْلَمَهُ الله رَسُوله صلى الله عليه وسلم بِوَحْيٍ غَيْرِ الْقُرْآنِ لِأَنَّ الْقُرْآنَ النَّازِلَ
قَبْلَ هَذِهِ الْآيَةِ لَيْسَ فِيهِ تَحْرِيمُ الْمَيْتَةِ وَالدَّمِ وَلَحْمِ الْخِنْزِيرِ وَإِنَّمَا نَزَلَ الْقُرْآنُ بِتَحْرِيمِ مَا ذُكِرَ فِي هَذِهِ الْآيَةِ ثُمَّ فِي سُورَةِ الْمَائِدَةِ.
وَالطَّاعِمُ: الْآكِلُ، يُقَالُ: طَعِمَ كَعَلِمَ، إِذَا أَكَلَ الطَّعَامَ، وَلَا يُقَالُ ذَلِكَ لِلشَّارِبِ، وَأَمَّا طَعِمَ بِمَعْنَى ذَاقَ فَيُسْتَعْمَلُ فِي ذَوْقِ الْمَطْعُومَاتِ وَالْمَشْرُوبَاتِ، وَأَكْثَرُ اسْتِعْمَالِهِ فِي النَّفْيِ، وَتَقَدَّمَ بَيَانُهُ عِنْدَ قَوْلِهِ تَعَالَى:
وَمَنْ لَمْ يَطْعَمْهُ فَإِنَّهُ مِنِّي فِي سُورَةِ الْبَقَرَةِ [249] ، وَبِذَلِكَ تَكُونُ الْآيَةُ قَاصِرَةً عَلَى بَيَانِ مُحَرَّمِ الْمَأْكُولَاتِ.
وَقَوْلُهُ: يَطْعَمُهُ صِفَةٌ لِ طاعِمٍ وَهِيَ صِفَةٌ مُؤَكِّدَةٌ مِثْلُ قَوْلِهِ: وَلا طائِرٍ يَطِيرُ بِجَناحَيْهِ [الْأَنْعَام: 38] .
وَالِاسْتِثْنَاءُ مِنْ عُمُومِ الْأَكْوَانِ الَّتِي دَلَّ عَلَيْهَا وُقُوعُ النَّكِرَةِ فِي سِيَاقِ النَّفْيِ. أَيْ لَا أَجِدُ كَائِنًا مُحَرَّمًا إِلَّا كَوْنَهُ مَيْتَةً إِلَخْ أَيْ: إِلَّا الْكَائِنَ مَيْتَةً إِلَخْ، فَالِاسْتِثْنَاءُ مُتَّصِلٌ.
وَالْحَصْرُ الْمُسْتَفَاد من النّفي وَالِاسْتِثْنَاءِ حَقِيقِيٌّ بِحَسَبِ وَقْتِ نُزُولِ هَذِهِ الْآيَةِ. فَلَمْ يَكُنْ يَوْمَئِذٍ مِنْ مُحَرَّمَاتِ الْأَكْلِ غَيْرَ هَذِهِ الْمَذْكُورَاتِ لِأَنَّ الْآيَةَ مَكِّيَّةٌ ثُمَّ نَزَلَتْ سُورَةُ الْمَائِدَةِ بِالْمَدِينَةِ فَزِيدَ فِي الْمُحَرَّمَاتِ كَمَا يَأْتِي قَرِيبًا.
وَالْمَسْفُوحُ: الْمَصْبُوبُ السَّائِلُ، وَهُوَ مَا يَخْرُجُ مِنَ الْمَذْبَحِ وَالْمَنْحَرِ. أَوْ مِنَ الْفَصْدِ فِي بَعْضِ عُرُوقِ الْأَعْضَاءِ فَيَسِيلُ. وَقَدْ كَانَ الْعَرَبُ يَأْكُلُونَ الدَّمَ الَّذِي يَسِيلُ مِنْ أَوْدَاجِ الذَّبِيحَةِ أَوْ مِنْ مَنْحَرِ الْمَنْحُورَةِ وَيَجْمَعُونَهُ فِي مَصِيرٍ أَوْ جِلْدٍ وَيُجَفِّفُونَهُ ثُمَّ يَشْوُونَهُ، وَرُبَّمَا فَصَدُوا مِنْ قَوَائِمِ الْإِبِلِ مُفَصَّدًا فَأَخَذُوا مَا يَحْتَاجُونَ مِنَ الدَّمِ بِدُونِ أَنْ يَهْلِكَ الْبَعِيرُ، وَرُبَّمَا خَلَطُوا الدَّمَ بِالْوَبَرِ وَيُسَمُّونَهُ (الْعِلْهِزَ) ، وَذَلِكَ فِي الْمَجَاعَاتِ. وَتَقْيِيدُ الدَّمِ بِالْمَسْفُوحِ لِلتَّنْبِيهِ عَلَى الْعَفْوِ عَنِ الدَّمِ الَّذِي يَنِزُّ مِنْ عُرُوقِ اللَّحْمِ عِنْدَ طَبْخِهِ فَإِنَّهُ لَا يُمْكِنُ الِاحْتِرَازُ عَنْهُ.
وَقَوْلُهُ: فَإِنَّهُ رِجْسٌ جُمْلَةٌ مُعْتَرِضَةٌ بَيْنَ الْمَعْطُوفَاتِ، وَالضَّمِيرُ قِيلَ: عَائِدٌ إِلَى لَحْمِ الْخِنْزِيرِ، وَالْأَظْهَرُ أَنْ يَعُودَ إِلَى جَمِيعِ مَا قَبْلَهُ، وَإِنَّ إِفْرَادَ الضَّمِيرِ عَلَى تَأْوِيلِهِ بِالْمَذْكُورِ، أَيْ فَإِنَّ الْمَذْكُورَ رِجْسٌ، كَمَا يُفْرَدُ اسْمُ الْإِشَارَةِ مِثْلُ قَوْلِهِ: وَمَنْ يَفْعَلْ ذلِكَ يَلْقَ أَثاماً [الْفرْقَان: 68] .
وَالرِّجْسُ: الْخَبِيثُ وَالْقَذَرُ. وَقَدْ مَضَى بَيَانُهُ عِنْدَ قَوْلِهِ تَعَالَى: كَذلِكَ يَجْعَلُ اللَّهُ الرِّجْسَ عَلَى الَّذِينَ لَا يُؤْمِنُونَ فِي هَذِهِ السُّورَةِ [125] .
فَإِنْ كَانَ الضَّمِيرُ عَائِدًا إِلَى لَحْمِ الْخِنْزِيرِ خَاصَّةً فَوَصْفُهُ بِرِجْسٍ تَنْبِيهٌ عَلَى ذَمِّهِ. وَهُوَ
ذَمٌّ زَائِدٌ عَلَى التَّحْرِيمِ، فَوَصْفُهُ بِهِ تَحْذِيرٌ مِنْ تَنَاوُلِهِ. وَتَأْنِيسٌ لِلْمُسْلِمِينَ بِتَحْرِيمِهِ، لِأَنَّ مُعْظَمَ الْعَرَبِ كَانُوا يَأْكُلُونَ لَحْمَ الْخِنْزِيرِ بِخِلَافِ الْمَيْتَةِ وَالدَّمِ فَمَا يَأْكُلُونَهَا إِلَّا فِي الْخَصَاصَةِ.
وَخَبَاثَةُ الْخِنْزِيرِ عَلِمَهَا اللَّهُ تَعَالَى الَّذِي خَلَقَهُ. وَتَبَيَّنَ أَخِيرًا أَنَّ لَحْمَهُ يَشْتَمِلُ عَلَى ذَرَّاتٍ حَيَوَانِيَّةٍ مُضِرَّةٍ لِآكِلِهِ أَثْبَتَهَا عِلْمُ الْحَيَوَانِ وَعِلْمُ الطِّبِّ. وَقِيلَ: أُرِيدَ أَنَّهُ نَجِسٌ لِأَنَّهُ يَأْكُلُ النَّجَاسَاتِ وَهَذَا لَا يَسْتَقِيمُ لِأَنَّ بَعْضَ الدَّوَابِّ تَأْكُلُ النَّجَاسَةِ وَتُسَمَّى الْجَلَّالَةَ وَلَيْسَتْ مُحَرَّمَةَ الْأَكْلِ فِي صَحِيحِ أَقْوَالِ الْعُلَمَاءِ.
وَإِنْ كَانَ الضَّمِيرُ عَائِدًا إِلَى الثَّلَاثَةِ بِتَأْوِيلِ الْمَذْكُورِ كَانَ قَوْلُهُ: فَإِنَّهُ رِجْسٌ تَنْبِيهًا عَلَى عِلَّةِ التَّحْرِيمِ وَأَنَّهَا لِدَفْعِ مَفْسَدَةٍ تَحْصُلُ مَنْ أَكْلِ هَذِهِ الْأَشْيَاءَ. وَهِيَ مَفْسَدَةٌ بَدَنِيَّةٌ. فَأَمَّا الْمَيْتَةُ فَلِمَا يَتَحَوَّلُ إِلَيْهِ جِسْمُ الْحَيَوَانِ بَعْدَ الْمَوْتِ مِنَ التَّعَفُّنِ، وَلِأَنَّ الْمَرَضَ الَّذِي كَانَ سَبَبُ مَوْتِهِ قَدْ يَنْتَقِلُ إِلَى آكِلِهِ. وَأَمَّا الدَّمُ فَلِأَنَّ فِيهِ أَجْزَاءً مُضِرَّةً. وَلِأَنَّ شُرْبَهُ يُورِثُ ضَرَاوَةً.
وَالْفِسْقُ: الْخُرُوجُ عَنْ شَيْءٍ. وَهُوَ حَقِيقَةٌ شَرْعِيَّةٌ فِي الْخُرُوجِ عَنِ الْإِيمَانِ، أَوِ عَن الطَّاعَةِ الشَّرْعِيَّةِ، فَلِذَلِكَ يُوصَفُ بِهِ الْفِعْلُ الْحَرَامُ بِاعْتِبَارِ كَوْنِهِ سَبَبًا لِفِسْقِ صَاحِبِهِ عَنِ الطَّاعَةِ. وَقَدْ سَمَى الْقُرْآنُ مَا أُهِّلَ بِهِ لِغَيْرِ اللَّهِ فِسْقًا فِي الْآيَةِ السَّالِفَةِ وَفِي هَذِهِ الْآيَةِ، فَصَارَ وَصْفًا مَشْهُورًا لِمَا أُهِلَّ بِهِ لِغَيْرِ اللَّهِ، وَلِذَلِكَ أَتْبَعَهُ بِقَوْلِهِ: أُهِلَّ لِغَيْرِ اللَّهِ بِهِ. فَتَكُونُ جُمْلَةُ: أُهِلَّ لِغَيْرِ اللَّهِ بِهِ صِفَةً أَوْ بَيَانًا لِ فِسْقاً، وَفِي هَذَا تَنْبِيهٌ عَلَى أَنَّ تَحْرِيمَ مَا أُهِلَّ لِغَيْرِ اللَّهِ بِهِ لَيْسَ لِأَنَّ لَحْمُهُ مُضِرٌّ بَلْ لِأَنَّ ذَلِكَ كُفْرٌ بِاللَّهِ.
وَقَدْ دَلَّتِ الْآيَةُ عَلَى انْحِصَارِ الْمُحَرَّمَاتِ مِنَ الْحَيَوَانِ فِي هَذِهِ الْأَرْبَعَةِ، وَذَلِكَ الِانْحِصَارُ بِحَسَبِ مَا كَانَ مُحَرَّمًا يَوْمَ نُزُولِ هَذِهِ الْآيَةِ، فَإِنَّهُ لَمْ
يُحَرَّمْ بِمَكَّةَ غَيْرِهَا مِنْ لَحْمِ الْحَيَوَانِ الَّذِي يَأْكُلُونَهُ، وَهَذِه السّورة مَكِّيَّةٌ كُلُّهَا عَلَى الصَّحِيحِ، ثُمَّ حَرَّمَ بِالْمَدِينَةِ أَشْيَاءَ أُخْرَى، وَهِيَ: الْمُنْخَنِقَةُ وَالْمَوْقُوذَةُ وَالْمُتَرَدِّيَةُ وَالنَّطِيحَةُ وَأَكِيلَةُ السَّبُعِ بِآيَةِ سُورَةِ الْعُقُودِ [3] .
وَحَرَّمَ لَحْمَ الْحُمُرِ الْإِنْسِيَّةِ بِأَمْر النّبيء صلى الله عليه وسلم عَلَى اخْتِلَافٍ بَيْنَ الْعُلَمَاءِ فِي أَنَّ تَحْرِيمَهُ لِذَاتِهِ كَالْخِنْزِيرِ، أَوْ لِكَوْنِهَا يَوْمَئِذٍ حَمُولَةَ جَيْشِ خَيْبَرَ، وَفِي أَنَّ تَحْرِيمَهُ عِنْدَ الْقَائِلِينَ بِأَنَّهُ لِذَاتِهِ مُسْتَمِرٌّ أَوْ مَنْسُوخٌ، وَالْمَسْأَلَةُ لَيْسَتْ مِنْ غَرَضِ التَّفْسِيرِ فَلَا حَاجَةَ بِنَا إِلَى مَا تَكَلَّفُوهُ مِنْ تَأْوِيلِ حَصْرِ هَذِهِ الْآيَةِ الْمُحَرَّمَاتِ فِي الْأَرْبَعَةِ. وَكَذَلِكَ مَسْأَلَةُ تَحْرِيمِ لَحْمِ كُلِّ ذِي نَابٍ مِنَ السِّبَاعِ وَلَحْمِ سِبَاعِ الطَّيْرِ وَقَدْ بَسَطَهَا الْقُرْطُبِيُّ وَتَقَدَّمَ مَعْنَى: أُهِلَّ لِغَيْرِ اللَّهِ بِهِ فِي تَفْسِير سُورَةِ الْمَائِدَةِ [3] .
وَقَرَأَ الْجُمْهُورُ: إِلَّا أَنْ يَكُونَ- بِيَاءٍ تَحْتِيَّةٍ وَنَصْبِ مَيْتَةً وَمَا عُطِفَ عَلَيْهَا-
وَقَرَأَهُ ابْنُ كَثِيرٍ، وَابْنُ عَامِرٍ، وَحَمْزَةُ- بِتَاءٍ فَوْقِيَّةٍ وَنَصْبِ مَيْتَةً وَمَا عُطِفَ عَلَيْهِ- عِنْدَ مَنْ عَدَا ابْنِ عَامِرٍ. وَقَرَأَهُ ابْنُ عَامِرٍ وَأَبُو جَعْفَرٍ- بِتَاءٍ فَوْقِيَّةٍ وَرَفْعِ مَيْتَةً- وَيُشْكَلُ عَلَى هَذِهِ الْقِرَاءَةِ أَنَّ الْمَعْطُوفَ عَلَى مَيْتَةً مَنْصُوبَاتٌ وَهِيَ: أَوْ دَماً مَسْفُوحاً أَوْ لَحْمَ خِنزِيرٍ فَإِنَّهُ رِجْسٌ أَوْ فِسْقاً أُهِلَّ لِغَيْرِ اللَّهِ بِهِ. وَلَمْ يُعَرِّجْ عَلَيْهَا صَاحِبُ «الْكَشَّافِ» ، وَقَدْ خُرِّجَتْ هَذِهِ الْقِرَاءَةُ عَلَى أَنْ يَكُونَ: أَوْ دَماً مَسْفُوحاً عَطْفًا عَلَى أَنْ وَصِلَتِهَا لِأَنَّهُ مَحَلُّ نَصْبٍ بِالِاسْتِثْنَاءِ فَالتَّقْدِيرُ: إِلَّا وُجُودَ مَيْتَةٍ، فَلَمَّا عَبَّرَ عَنِ الْوُجُودِ بِفِعْلِ يَكُونَ التَّامِّ ارْتَفَعَ مَا كَانَ مُضَافًا إِلَيْهِ.
وَقَوْلُهُ: فَمَنِ اضْطُرَّ غَيْرَ باغٍ وَلا عادٍ تَقَدَّمَ الْقَوْلُ فِي نَظِيرِهِ فِي سُورَةِ الْبَقَرَةِ [173] فِي قَوْلِهِ: فَمَنِ اضْطُرَّ غَيْرَ باغٍ وَلا عادٍ فَلا إِثْمَ عَلَيْهِ.
وَإِنَّمَا جَاءَ الْمُسْنَدُ إِلَيْهِ فِي جُمْلَةِ الْجَزَاءِ وَهُوَ رَبَّكَ مُعَرَّفًا بِالْإِضَافَةِ دُونَ الْعَلَمِيَّةِ كَمَا فِي آيَةِ سُورَةِ الْبَقَرَةِ [192] : فَإِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ لِمَا يُؤْذِنُ بِهِ لَفْظُ الرَّبِّ مِنَ الرَّأْفَةِ وَاللُّطْفِ بِالْمَرْبُوبِ وَالْوِلَايَةِ، تَنْبِيهًا عَلَى أَنَّ اللَّهَ جَعَلَ هَذِهِ الرُّخْصَةَ