الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
خَصائِصهِم التي فُصِّلَتْ في غيرِ هذَا المَوضعِ، فالجاهِلِيَّةُ لم يُمَيِّزوا بَين القِياس الصحيح والفاسِدِ، ولا عرفوا الجامع ولا الفارِق، كما سَمِعتَ مِن قِياسِهم الرّسُل على غَيرِهِم، وهَكَذا أتْباعُهُمُ اليومَ ومَن هو على شاكِلَتِهمْ.
[الغلو في الصالحين]
الغلو في الصالحين (السادسة عشرة) : الغُلوُّ في الصَّالِحينَ مِن العُلَماءِ والأولِياء، كقوله تَعالى في سورة [التوبة 30- 32] :{وَقَالَتِ الْيَهُودُ عُزَيْرٌ ابْنُ اللَّهِ وَقَالَتِ النَّصَارَى الْمَسِيحُ ابْنُ اللَّهِ ذَلِكَ قَوْلُهُمْ بِأَفْوَاهِهِمْ يُضَاهِئُونَ قَوْلَ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ قَبْلُ قَاتَلَهُمُ اللَّهُ أَنَّى يُؤْفَكُونَ - اتَّخَذُوا أَحْبَارَهُمْ وَرُهْبَانَهُمْ أَرْبَابًا مِنْ دُونِ اللَّهِ وَالْمَسِيحَ ابْنَ مَرْيَمَ وَمَا أُمِرُوا إِلَّا لِيَعْبُدُوا إِلَهًا وَاحِدًا لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ سُبْحَانَهُ عَمَّا يُشْرِكُونَ - يُرِيدُونَ أَنْ يُطْفِئُوا نُورَ اللَّهِ بِأَفْوَاهِهِمْ وَيَأْبَى اللَّهُ إِلَّا أَنْ يُتِمَّ نُورَهُ وَلَوْ كَرِهَ الْكَافِرُونَ} [التوبة: 30 - 32] فاتِّخاذُ أحبارِ النَّاسِ أرْبابا يُحَلِّلونَ وَيُحَرِّمونَ، وَيَتَصَرَّفونَ فِي الكَونِ ويُنادَونَ في دَفعِ ضُرٍّ أو جَلْبِ نَفْعٍ مِن جاهِلِيةِ أهل الكِتابِيِّينَ، ثُمَّ سَرى إلى غيرِهِم من جاهِلِيَّةِ العَرَبِ، ولهمُ اليومَ بقايا في مَشارقِ الأرضِ ومَغارِبِها، تصديقًا لِقولِ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم:«لَتَتَّبِعُنَّ سَنن مَنْ كانَ قَبْلَكُم» الحديث، حَتّىَ نَرى غالبَ النَّاسِ اليومَ مُعْرِضينَ عن الله، وعن دينه الَّذِي ارْتَضاه، مَتَوَغِّلينَ في البِدَع، تائِهينَ في أودِيَة الضَّلالِ، مُعادينَ لِلْكِتابِ والسُّنَّةِ ومَن قامَ بِهما، فأصْبَحَ الدينُ مِنهم في أنينٍ، والإِسلامُ في بَلاءٍ مبيِنِ. وحسبُنا الله، ونعْمَ الوَكيلُ.
[الاعتذار بعدم الفهم]
الاعتذار بعدم الفهم (السابعة عشرة) : اعْتِذارهم عَنِ اتِّباعِ الوَحْيِ بِعَدَمِ الفَهْمِ، قَال تَعالى في
سورة: [البَقَرَةِ: 87-88] : {وَلَقَدْ آتَيْنَا مُوسَى الْكِتَابَ وَقَفَّيْنَا مِنْ بَعْدِهِ بِالرُّسُلِ وَآتَيْنَا عِيسَى ابْنَ مَرْيَمَ الْبَيِّنَاتِ وَأَيَّدْنَاهُ بِرُوحِ الْقُدُسِ أَفَكُلَّمَا جَاءَكُمْ رَسُولٌ بِمَا لَا تَهْوَى أَنْفُسُكُمُ اسْتَكْبَرْتُمْ فَفَرِيقًا كَذَّبْتُمْ وَفَرِيقًا تَقْتُلُونَ - وَقَالُوا قُلُوبُنَا غُلْفٌ بَلْ لَعَنَهُمُ اللَّهُ بِكُفْرِهِمْ فَقَلِيلًا مَا يُؤْمِنُونَ} [البقرة: 87 - 88] وفي سورةِ [النِّساءِ155]، {فَبِمَا نَقْضِهِمْ مِيثَاقَهُمْ وَكُفْرِهِمْ بِآيَاتِ اللَّهِ وَقَتْلِهِمُ الْأَنْبِيَاءَ بِغَيْرِ حَقٍّ وَقَوْلِهِمْ قُلُوبُنَا غُلْفٌ بَلْ طَبَعَ اللَّهُ عَلَيْهَا بِكُفْرِهِمْ فَلَا يُؤْمِنُونَ إِلَّا قَلِيلًا} [النساء: 155] الغُلْفُ: جمعُ أغْلَفَ، كَأحْمَرَ وحُمْرٍ، وهو الذي لا يفقهُ. وأصلُه ذو القَلَفَةِ: الذي لم يُخْتَنْ، أو جَمْعُ غِلافٍ، ويُجمعُ على غُلُفٍ بِضمَّتَيْنِ أيْضًا. وأرادوا على الأوَّل: قُلوبُنا مُغَشَّاةٌ بأغشيةٍ خَلْقِيَّةٍ مانِعَةٍ عن نُفوذِ ما جئتَ بِهِ فيها. وهَذَا كقولهِم [فصلت: 5] : {قُلُوبُنَا فِي أَكِنَّةٍ مِمَّا تَدْعُونَا إِلَيْهِ} [فصلت: 5] قَصدوا به إقناطَ النَّبِّي صلى الله عليه وسلم عن الإِجابة، وقَطْعَ طَمَعِهِ عنهم بالكُلِّية.
ومِنهم مَن قالَ معنى غُلْف: مُغَشَّاةٌ مِعُلوم مِنَ التَّوراةِ تحفظُها أنْ يَصلَ إليها ما تأتي به، أو بِسلامةٍ مِنَ الفِطْرَةِ كذلِكَ. وعلى الثاني أنَّها أوعِيَةُ العِلْمِ، فَلَو كانَ ما تقولُهُ حَالا وصِدقًا لَوَعَته.
قالَ ابنُ عبَّاسٍ وقتادةُ والسُّدي: أو مملوءَةٌ عِلْمًا، فَلا تَسَعُ بعدُ شيئًا، فَنحنُ مُسْتَغْنونَ بِما عندَنا عَن غيرِه. ومنهم مَن قالَ: أرادوا أنَّها أوعِيَةُ العِلْمِ؛ فَكَيْفَ يَحِلُّ لنا اتباعُ الأمِّيِّ، ولا يخفى بُعْدُهُ. وَقَالَ تعالى في سورةِ [هودٍ: 89- 91] : {وَيَا قَوْمِ لَا يَجْرِمَنَّكُمْ شِقَاقِي أَنْ يُصِيبَكُمْ مِثْلُ مَا أَصَابَ قَوْمَ نُوحٍ أَوْ قَوْمَ هُودٍ أَوْ قَوْمَ صَالِحٍ وَمَا قَوْمُ لُوطٍ مِنْكُمْ بِبَعِيدٍ - وَاسْتَغْفِرُوا رَبَّكُمْ ثُمَّ تُوبُوا إِلَيْهِ إِنَّ رَبِّي رَحِيمٌ وَدُودٌ - قَالُوا يَا شُعَيْبُ مَا نَفْقَهُ كَثِيرًا مِمَّا تَقُولُ وَإِنَّا لَنَرَاكَ فِينَا ضَعِيفًا وَلَوْلَا رَهْطُكَ لَرَجَمْنَاكَ وَمَا أَنْتَ عَلَيْنَا بِعَزِيزٍ} [هود: 89 - 91] وهذه الآية بمعنى الآية الأولى، وقد كَذَّبَهُمُ الله تعالى في دَعواهم هذهِ في الناس كثيرةٍ، وذَكَرَ أنَّ السَّبَبَ في عَدَمِ الفَهْمِ إِنَّما هو الطَّبْعُ على القُلوبِ بكُفْرِهِم، لا القُصورُ في البيانِ والتَّفهيمِ. وما أحسنَ قولَ القائل (1) :
والنَّجْمُ تَسْتَصْغِرُ الأبصارُ صورتَه
…
والذَّنْبُ للطَّرْفِ لا لِلنَّجْمِ في الصِّغَرِ
(1) هو أبو العلاء المعري.