المَكتَبَةُ الشَّامِلَةُ السُّنِّيَّةُ

الرئيسية

أقسام المكتبة

المؤلفين

القرآن

البحث 📚

‌[جحودهم القدر واحتجاجهم به على الله] - فصل الخطاب في شرح مسائل الجاهلية ت محب الدين الخطيب - جـ ١

[محمود شكري الألوسي]

فهرس الكتاب

- ‌[مقدمة الطبعة الأولى] محب الدين الخطيب

- ‌[مقدمة محمود شكري الألوسي البغدادي]

- ‌[دعاء الصالحين]

- ‌[التفرق]

- ‌[مخالفة ولي الأمر]

- ‌[التقليد]

- ‌[الاقتداء بالعالم الفاسق أو العابد الجاهل]

- ‌[الاحتجاج بما كان عليه الآباء بلا دليل]

- ‌[الاحتجاج على الحق بقلة أهله]

- ‌[الاستدلال على بطلان الشيء بكونه غريبًا]

- ‌[انخداع أهل القوة والحيلة بقوتهم وحيلتهم]

- ‌[انخداع أهل الثروة بثروتهم]

- ‌[الاستخفاف بالحق لضعف أهله]

- ‌[وصم أنصار الحق بما ليس فيهم]

- ‌[التكبر عن نصرة الحق لأن أنصاره ضعفاء]

- ‌[استدلالهم على بطلان الشيء بكونهم أولى به لو كان حقا]

- ‌[جهلهم بالجامع والفارق]

- ‌[الغلو في الصالحين]

- ‌[الاعتذار بعدم الفهم]

- ‌[إنكارهم الحق الذي لا تقول به طائفتهم]

- ‌[التمسك بخرافات السحر]

- ‌[التناقض في الانتساب]

- ‌[صرف النصوص عن مدلولاتها]

- ‌[تحريف كتب الدين]

- ‌[الانصراف عن هداية الدين إلى ما يخالفها]

- ‌[كفرهم بما مع غيرهم من الحق]

- ‌[ادعاء كل طائفة حصر الحق فيها]

- ‌[إنكار ما أقروا أنه من دينهم]

- ‌[المجاهرة بكشف العورات]

- ‌[التعبد بتحريم الحلال]

- ‌[الإلحاد في أسماء الله سبحانه وصفاته]

- ‌[نسبة النقائص إلى الله سبحانه]

- ‌[تنزيههم المخلوق عما نسبوه للخالق]

- ‌[قولهم بالتعطيل]

- ‌[الشركة في الملك]

- ‌[إنكار النبوات]

- ‌[جحودهم القدر واحتجاجهم به على الله]

- ‌[مسبة الدهر]

- ‌[إضافة نعم الله إلى غيره]

- ‌[الكفر بآيات الله]

- ‌[اختيار كتب الباطل ونبذ آيات الله]

- ‌[القدح في حكمة الله تعالى]

- ‌[الكفر بالملائكة والرسل، والتفريق بينهم]

- ‌[الغلو في الأنبياء والرسل]

- ‌[الجدال بغير علم]

- ‌[الكلام في الدين بلا علم]

- ‌[الكفر باليوم الآخر]

- ‌[التكذيب بآية مَالِكِ يَوْمِ الدِّينِ]

- ‌[التكذيب بآية لَا بَيْعٌ فِيهِ وَلَا خُلَّةٌ وَلَا شَفَاعَةٌ]

- ‌[الخطأ في معنى الشفاعة]

- ‌[قتل أولياء الله]

- ‌[الإيمان بالجبت والطاغوت]

- ‌[لبس الحق بالباطل]

- ‌[الإقرار بالحق للتوصل إلى دفعه]

- ‌[اتخاذ النبيين أربابا]

- ‌[تحريف الكلم عن مواضعه]

- ‌[تلقيب أهل الهدى بألقاب غريبة]

- ‌[التكذيب بالحق]

- ‌[الافتراء على المؤمنين]

- ‌[رمي المؤمنين بالفساد في الأرض]

- ‌[رمي المؤمنين بتبديل الدين]

- ‌[اتهام أهل الحق بالفساد في الأرض]

- ‌[تناقضُ مَذهَبهِمْ لَمَّا تَرَكوا الحق]

- ‌[دعْوَاهُم العَمَلَ بِالْحَقِّ الَّذي عِنْدهمْ]

- ‌[الزِّيادةُ في العِبادةِ]

- ‌[النقص من العبادة]

الفصل: ‌[جحودهم القدر واحتجاجهم به على الله]

[إنكار النبوات]

إنكار النبوات (الرابعة والثلاثون) : إنكارُ النُّبُوَّاتِ. وَكانوا يَقولون: ما حَكى الله عنهم بقوله في [الأنعام: 90- 91] : {أُولَئِكَ الَّذِينَ هَدَى اللَّهُ فَبِهُدَاهُمُ اقْتَدِهِ قُلْ لَا أَسْأَلُكُمْ عَلَيْهِ أَجْرًا إِنْ هُوَ إِلَّا ذِكْرَى لِلْعَالَمِينَ - وَمَا قَدَرُوا اللَّهَ حَقَّ قَدْرِهِ إِذْ قَالُوا مَا أَنْزَلَ اللَّهُ عَلَى بَشَرٍ مِنْ شَيْءٍ قُلْ مَنْ أَنْزَلَ الْكِتَابَ الَّذِي جَاءَ بِهِ مُوسَى نُورًا وَهُدًى لِلنَّاسِ تَجْعَلُونَهُ قَرَاطِيسَ تُبْدُونَهَا وَتُخْفُونَ كَثِيرًا وَعُلِّمْتُمْ مَا لَمْ تَعْلَمُوا أَنْتُمْ وَلَا آبَاؤُكُمْ قُلِ اللَّهُ ثُمَّ ذَرْهُمْ فِي خَوْضِهِمْ يَلْعَبُونَ} [الأنعام: 90 - 91]

تفْسيرُ هذه الآية: {وَمَا قَدَرُوا اللَّهَ} [الأنعام: 91] شُروع في تَقْريرِ أمْرِ النُّبُوَّةِ، بَعْدَ ما حَكى الله سبحانَه عن إبراهيمَ عليه السلام أنَّه ذَكَرَ دَليلَ التوَحيدِ وإبطالِ الشِّركِ، وَقَرَّرَ سبحانَه ذلكَ بأفصح الدَّليلِ بأوْضَحِ وَجهٍ.

{حَقَّ قَدْرِهِ} [الأنعام: 91] أيْ: حَقَّ مَعْرفتِهِ وعن بعضِهِم: ما عَظَّموا الله حَقَّ تَعْظِيمِه إِذْ قَالُوا منْكرينَ لبعثةِ الرُّسُلِ وإنزالِ الكُتُبِ، كافِريْنَ بِنعمةِ الله الجَليلةِ فِيهما:{مَا أَنْزَلَ اللَّهُ عَلَى بَشَرٍ مِنْ شَيْءٍ} [الأنعام: 91] أيْ: شَيئًا مِن الأشياءِ.

واختُلِفَ في قائِل ذلكَ القَولِ الشَّنيعِ: فَعَن مُجاهِدٍ أنِّهم مُشرِكو قُريشٍ، والجمهورُ على أنهمُ اليَهودُ، ومُرادُهُم مِن ذَلِكَ الطَّعْنُ في رِسالتِهِ صلى الله عليه وسلم على سَبِيلِ المُبالَغَةِ.

فَقيلَ لَهم على سبيلِ الإِلزامِ: {قُلْ مَنْ أَنْزَلَ الْكِتَابَ الَّذِي جَاءَ بِهِ مُوسَى} [الأنعام: 91] فإِنَّ الْمُرَادَ أَنَّهُ تَعَالَى قَدْ أنْزَلَ التَّوراةَ على موسى عليه السلام وَلَا سَبيلَ لَكم إلى إنكارِ ذلِكَ، فَلِمَ لا تُجَوِّزونَ إنزالَ القُرآنِ على مُحمَّدٍ صلى الله عليه وسلم.؟ والكلامُ في إثْباتِ النُّبُوَّةِ مُفَصَّلٌ في غيرِ هذا الموضِع، والمقصودُ أنَّ إنكارَها مِن سَنَن الجاهِلِيَّةِ، وفي النَّاسِ كَثيرٌ مِمَّن هو على شاكِلَتِهم ومُعْوَجِّ طَريقهِم.

[جحودهم القدر واحتجاجهم به على الله]

جحودهم القدر، واحتجاجهم به على الله (الخامسة والثلاثون) : جحودُ القَدَرِ، والاحْتِجاجُ بِهِ على الله تَعالى ومعارَضَةُ شرعِ الله بِقَدَرِ الله. وهذهِ المَسألَةُ مِن غَوامِض مَسائلِ الدِّينِ، والوُقوفُ عَلى سِرِّها عَسِر إلا على من وَفَّقَه الله تَعالى. ولابنِ القيِّمِ كِتاب جَلِيْلٌ في هذا البابِ سمَّاه (شِفاءَ العَليل في القَضاءِ والقَدَرِ والحِكْمَةِ والتَّعْليلِ) . وقد أبْطَلِ الله

ص: 240

سُبحانَه هذه العَقيدةَ الجاهلية بقولهِ تَعالى في آخر سورة [الأنعام: 148-149] : {سَيَقُولُ الَّذِينَ أَشْرَكُوا لَوْ شَاءَ اللَّهُ مَا أَشْرَكْنَا وَلَا آبَاؤُنَا وَلَا حَرَّمْنَا مِنْ شَيْءٍ كَذَلِكَ كَذَّبَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ حَتَّى ذَاقُوا بَأْسَنَا قُلْ هَلْ عِنْدَكُمْ مِنْ عِلْمٍ فَتُخْرِجُوهُ لَنَا إِنْ تَتَّبِعُونَ إِلَّا الظَّنَّ وَإِنْ أَنْتُمْ إِلَّا تَخْرُصُونَ - قُلْ فَلِلَّهِ الْحُجَّةُ الْبَالِغَةُ فَلَوْ شَاءَ لَهَدَاكُمْ أَجْمَعِينَ} [الأنعام: 148 - 149] تَفسيرُ هذه الآية: (سَيَقُولُ الَّذِينَ أَشْرَكُوا) : حِكاية لفَنٍّ آخَرَ مِن أباطيلِهم. {لَوْ شَاءَ اللَّهُ مَا أَشْرَكْنَا وَلَا آبَاؤُنَا وَلَا حَرَّمْنَا} [الأنعام: 148] لَمْ يُريدوا بِهذا الكَلامِ الاعتذار عَنِ ارْتكابِ القَبيحِ، إذْ لم يَعْتقِدوا قُبحَ أفعالِهم، بل هُم كما نَطَقَتْ بِهِ الآيات يحسَبُونَ أَنهَّمُ يحسِنوُنَ صُنعًا، وأنهم إنَّما يَعْبُدونَ الأصنامَ لِيُقَرِّبوهُم إلى الله زلْفى، وأنَّ التَّحريمَ إنما كانَ مِن الله عز وجل، فَما مرادهُم بذلِكَ إلا الاحتجاجُ على أنَّ ما ارْتكَبوهُ حَقٌّ ومَشروع وَمرضيٌّ عند الله تَعالى على أنَّ المشيئةَ والإِرادةَ تُساوي الأمرَ، وتَسْتَلْزِمُ الرِّضى، كما زَعَمَتِ المُعْتَزِلَةُ، فَيَكونُ حاصِلُ كلامِهِم أنَّ ما نَرتكِبُهُ مِنَ الشِّركِ والتَّحريمِ وغيرِهما تَعَلَّقَتْ بهِ مَشيئَة الله تعالى وإرادَتُه، وكل ما تَعَلَّقَتْ بهِ مَشيئَته سبحانه وإرادَتُه فَهو مَشروعٌ ومَرْضِيٌّ عندَ الله تَعالى.

وبَعْدَ أنْ حَكى سبحانه وتعالى ذلِكَ عَنهم، رَدَّ عَلَيْهِم بِقولِهِ عَزَّ مِنْ قائِلٍ {كَذَلِكَ كَذَّبَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ} [الأنعام: 148] وهم أسلافُهُم المُشرِكونَ. وحاصِلُهُ أنَّ كلامَهم يَتَضَمَّنُ تكذيبَ الرُّسُلِ عليهم السلام، وَقَدْ دَلَّتِ المُعْجِزَةُ على صِدْقِهِم.

أو نَقولُ حاصِلُهُ أنَّ ما شاءَ الله يَجِبُ، وما لم يَشَأْ يَمْتَنعُ، وكلُّ ما هذا شأنُه فلا تكليفَ بِهِ لِكونهِ مَشروطًا بالاسْتِطاعة، فَيَنْتُجُ أنَّ ما ارْتكَبَهُ مِن الشِّركِ وغيرِهِ، لَم يتكَلَّفْ بِتَرْكِهِ ولمْ يُبْعَثْ لَهُ نَبِيّ. فَرَدَّ الله تَعالى عَلَيهم بأنَّ هَذِهِ كَلِمَةُ صِدْقٍ أُريدَ بِها باطِلٌ، لأنَّهم أرادوا بِها أن الرُّسُلَ عليهم السلام في دَعْواهُمُ البِعْثةً والتكليفَ كاذِبونَ. وَقَدْ ثَبَتَ صِدْقُهُم بِالدَّلائِلِ القَطْعِيّةِ، ولِكَوْنهِ صِدْقًا أُريدَ بِهِ باطِلٌ، ذَمَّهُمُ الله تَعالى بِالتكْذيبِ. وَوجوبُ وُقوعِ مُتَعَلَّقِ المَشيئَةِ لا يُنافِي صِدقَ دَعْوى البِعثةِ والتكليفِ؛ لأنَّهما لإِظهارِ المَحَجَّةِ وإبلاغ الحُجَّةِ {حَتَّى ذَاقُوا بَأْسَنَا} [الأنعام: 148] أي نالوا عَذابَنا الذي أنْزَلْناهُ عَلَيْهم بتكْذيبهم،

ص: 241

وفيه إيماءٌ إلى أنَّ لهم عَذابًا مُدَّخَرًا عِندَ الله تَعالى؛ لأنَّ الذَّوقَ أوَّلُ إدْراكَ الشَّيْءِ {قُلْ هَلْ عِنْدَكُمْ مِنْ عِلْمٍ فَتُخْرِجُوهُ لَنَا} [الأنعام: 148] أي هلْ لَكُمْ مِنْ عِلمٍ بأنّ الإِشراكَ وسائِرَ ما أنتُم عَلَيه مَرْضيٌّ عند الِلَّهِ تَعالى فَتُظْهروهُ لَنَا بِالبُرْهانِ؟ وهذا دَليلٌ على أنَّ المُشرِكينَ أُمَم اسْتَوجَبوا التَّوبيخَ على قولهم ذلك؛ لأنَّهَم كانوا يَهْزَءونَ بالدِّين، ويَبْغونَ رَدَّ دَعْوةِ الأنبياء عليهم السلام، حَيثُ قرع مسامعهم من شَرائِعِ الرسُلِ عليهم السلام تَفْويضُ الأمورِ إلَيْهِ سبحانه وتعالى، فَحينَ طالبوهُم بالإِسلامِ، والتِزام الأحكامِ، احْتَجُّوا عَلَيْهِم بِما أخَذوه مِن كَلامِهم مُسْتَهْزِئينَ بِهم عليهم الصلاة والسَّلامُ، ولم يَكُنْ غَرَضُهُمْ ذِكْرَ ما يَنْطَوي عَلَيْهِ عِقْدُهُم، كَيفَ لا والإِيمانُ بصفاتِ الله تَعالى فَرْعُ الإِيمانِ بِهِ عَزَّ شَأْنُهُ وَهُوَ عَنهم مناطُ العَيُّوق.

{إِنْ تَتَّبِعُونَ إِلَّا الظَّنَّ وَإِنْ أَنْتُمْ إِلَّا تَخْرُصُونَ} [الأنعام: 148] أيْ تكْذِبونَ على الله تَعالى {قُلْ فَلِلَّهِ الْحُجَّةُ الْبَالِغَةُ} [الأنعام: 149] أي البينَةُ الواضِحَةُ التي بَلَغَتْ غايَةَ المَتانَةِ والقُوَّةِ على الإِثباتِ، والمُرادُ بِها في المَشهورِ: الكتابُ والرَّسولُ والبَيانُ. {فَلَوْ شَاءَ لَهَدَاكُمْ أَجْمَعِينَ} [الأنعام: 149] بِالتَّوفيقِ لَها، والحَمْلِ عَليها، وَلَكِنْ شاءَ هِدايَةَ البَعْضِ الصَّارِفينَ اختِيارَهُم إلى سُلوكِ طَريقِ الحَقِّ، وضَلالَ آخَرينَ صَرَفوه إلى خِلافِ ذَلِكَ. ومِنَ النَّاسِ مَنْ ذَكَرَ وَجْهًا آخَرَ في توجيهِ ما في الآية، وهو أنَّ الرَّدَّ عَليهم إنَّما كانَ لاعْتِقادِهِم أنَّهم مُسَلِّمونَ اختِيارَهم وقُدْرتهم، وأنَّ إشراكَهم إنَّما صَدَرَ مِنهم على وجْهِ الاضْطرارِ وَزَعَموا أنَّهم يُقيمونَ الحُجَّةَ على الله تَعالى ورسوله عليه الصلاة والسلام بِذَلِكَ، فَرَدَّ الله تَعالى قَولَهم في دَعْواهُم عَدَم الاخْتيارِ لأنفسِهِم، وَشَبَّهَهُمْ بِمَنِ اغْتَرَّ قَبْلَهُم بِهذا الخَيال، فَكَذَّبَ الرُّسُلَ، وَأشْرَكَ بِاللهِ عز وجل، واعْتَمَدَ على أنَّه إنَّما يَفْعَلُ ذَلِكَ بِمَشِيْئَةِ اللهِ تَعالى وَرامَ إفْحامَ الرُّسُلِ بِهذِهِ الشُّبْهَةِ، ثُمَّ بَيَّنَ سُبْحانَهُ أنَّهم لا حُجَّةَ لَهم في ذَلِكَ، وأنَّ الحُجَّةَ البالِغَةَ لَه تَعالى لا لَهم، ثُمَّ أوْضَحَ سُبحانَه أنَّ كُلَّ واقعٍ واقع بِمشيْئَتِهِ، وأنَّه لم يَشَأْ مِنهمْ إلَا ما صدَرَ عَنهم، وأنِّه تَعالى لَو شاءَ مِنهمُ الهدايةَ لاهْتَدَوا أجْمَعينَ. والمقصودُ أنْ يَتَمَحَّضَ وجهُ الرَّدِّ عَليهم، وَتَتَخَلَّصَ عَقيدةُ نُفوذِ السنة وعموم تغلغلها بكُلِّ

ص: 242

كائن عنِ الرَّدِّ، ويَنْصَرِفَ الرَّدُّ إلى دَعواهُم سَلْبَ الاخْتيار لأنفُسهم، وأنّ إقامتهم الحجة بِذلِكَ خاصَّة. وإِذا تَدَبَّرْتَ الآية وَجَدْتَ صَدرَها دَافِعًا لِصُدورِ الجَبْرِية، وعَجُزَها مُعْجزًا للمُعْتزلة، إِذِ الأوَّلُ مُثبتٌ أنَّ لِلْعَبْدِ اختيارًا وقُدْرةً على وجْهٍ يَقْطعُ حُجَّتَه وعُذْرَهُ في المُخالَفَةِ والعِصْيانِ، والثَّاني مُثِبتٌ نُفوذَ مَشيئَةِ الله تَعالى في العبدِ، وأنَّ جَميعَ أفعالِه على وَفْقِ المَشيئة الإِلهيةِ، وبذلكَ تَقومُ الحُجَّةُ البالغة لأهلِ السُّنَّةِ على المُعتزلةِ، والحمدُ لِلَّهِ ربِّ العالَمِينَ. ومِنهم مَن وجَّهَ الآية بأنَّ مرادَهم رَدُّ دعوةِ الأنبياء عليهم السلام على مَعنى أنَّ الله تَعالى شاءَ شِرْكَنا، وَأرادَهُ مِنَّا، وَأنْتُم تُخالِفونَ إرادَتَه، حَيثُ تَدعونا إلى الإِيمانِ، فَوَبَّخَهُم سبحانه وتعالى بوُجوه عِدَّة: منها قولُه سُبحانَه: {فَلِلَّهِ الْحُجَّةُ الْبَالِغَةُ} [الأنعام: 149] فإنه بتقدير الشَّرطِ، أي إذا كانَ الأمرُ كما زَعَمْتُم {فَلِلَّهِ الْحُجَّةُ الْبَالِغَةُ} [الأنعام: 149]

وقولُه سُبحانَه: {فَلَوْ شَاءَ} [الأنعام: 149] بَدَل منه على سَبيلِ البَيانِ، أي لَو شاءَ لَدَلَّ كُلاًّ منكم ومِنْ مُخالِفيكم على دينه، لَو كانَ الأمرُ كَما تَزْعُمونَ، لَكان الإِسلامُ أيْضًا بِالمشيئةِ، فَيَجِبُ أنْ لا تَمْنَعوا المُسلِمينَ من الإِسلامِ، كما وَجَبَ بِزعمكم ألا يمنَعَكُم الأنبياءُ عن الشِّركِ. فَيَلْزَمُكُم أنْ لا يكونَ بَيْنَكم وبَيْنَ المُسْلِمينَ مُخالَفَة ومُعاداةٌ، بَلْ موافَقَة وموالاة. وحاصِلُه أنَّ ما خالَفَ مَذْهَبَكم منَ النِّحَلِ يَجِبُ أنْ يَكونَ عِندكم حَقًّا؛ لأنه بِمشيئة الله تَعالى، فَيَلْزَمُ تَصحيحُ الأديانِ المُتناقِضَة.

وَفِي سورةِ [النَّحْل: 35]{وَقَالَ الَّذِينَ أَشْرَكُوا لَوْ شَاءَ اللَّهُ مَا عَبَدْنَا مِنْ دُونِهِ مِنْ شَيْءٍ نَحْنُ وَلَا آبَاؤُنَا وَلَا حَرَّمْنَا مِنْ دُونِهِ مِنْ شَيْءٍ كَذَلِكَ فَعَلَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ فَهَلْ عَلَى الرُّسُلِ إِلَّا الْبَلَاغُ الْمُبِينُ} [النحل: 35] الكلامُ عَلى هذه الآية كالكَلام على الآية السَّابقةِ، وَلا تَراهُمْ يَتَشَبَّثونَ بِالمشيئةِ إلا عِنْدَ انخِذالِ الحُجَّةِ. ألا تَرَى كيفَ خَتَمَ بِنَحوِ آخر مجادلاتهم في سورة الأنعام في الآية السابقة، وكذلك في سورة [الزخرف: 19-22] : وهو قولُه تَعالى: {وَجَعَلُوا الْمَلَائِكَةَ الَّذِينَ هُمْ عِبَادُ الرَّحْمَنِ إِنَاثًا أَشَهِدُوا خَلْقَهُمْ سَتُكْتَبُ شَهَادَتُهُمْ وَيُسْأَلُونَ - وَقَالُوا لَوْ شَاءَ الرَّحْمَنُ مَا عَبَدْنَاهُمْ مَا لَهُمْ بِذَلِكَ مِنْ عِلْمٍ إِنْ هُمْ إِلَّا يَخْرُصُونَ - أَمْ آتَيْنَاهُمْ كِتَابًا مِنْ قَبْلِهِ فَهُمْ بِهِ مُسْتَمْسِكُونَ - بَلْ قَالُوا إِنَّا وَجَدْنَا آبَاءَنَا عَلَى أُمَّةٍ وَإِنَّا عَلَى آثَارِهِمْ مُهْتَدُونَ} [الزخرف: 19 - 22] ويكفي في الانقلاب ما

ص: 243

يشير إليه قوله سبحانه: {قُلْ فَلِلَّهِ الْحُجَّةُ الْبَالِغَةُ} [الأنعام: 149] والمُرادُ بِما حَرَّموهُ السَّوائِبُ والبَحائرُ وغَيْرُها. وَفِي تَخْصيصِ الاشْتِراكِ والتَّحْريمِ بالنَّفي؛ لأنَّهُما أعْظَمُ وأشْهَرُ ما هُمْ عَلَيْهِ. وَغَرَضُهُم مِنْ ذَلِكَ تكْذيبُ الرَّسولِ عليه الصلاة والسلام والطَّعْنُ في الرِّسالةِ رَأْسًا، فَإِنَّ حاصِلَهُ أيْ ما شاءَ الله يَجِبُ، وما لمْ يَشَأْ يَمْتَنعُ، فَلَوْ أنَّهُ سبحانه وتعالى شاءَ أنْ نُوَحِّدَهُ، وَلَا نُشْرِكَ بِهِ شَيْئا، وَنُحَلِّلَ ما أحَلَّهُ، ولا نُحَرِّمَ شَيْئا مِمَّا حَرَّمْنا كَما تَقولُ الرُّسُلُ وَيَنْقُلونَه مِنْ جِهَتِهِ تَعالى لَكانَ الأمرُ كَما شاءَ مِنَ التَّوحيدِ ونَفْي الإِشراكِ، وَتَحْليلِ ما أحَلَّهُ، وَعَدَمِ تَحْريمِ شَيْءٍ مِنْ ذَلِكَ، وَحَيْثُ لَم يَكُنْ كَذلِكَ، ثَبَتَ أنه لَم يَشَأْ شَيْئًا مِن ذَلِكَ بَلْ شاءَ ما نحنُ عَلَيْهِ.

وتَحَقَّقَ أنَّ ما يَقولُهُ الرُّسُلُ عليهم السلام مِن تِلْقاءِ أنْفُسِهِمْ. فَرَدَّ الله تَعَالى عَلَيْهِمْ بِقَوْلهِ {كَذَلِكَ فَعَلَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ} [النحل: 33] مِن الأمَمِ، أيْ: أشْرَكوا بِاللهِ تَعالى، وَحَرَّموا مِنْ دونِهِ ما حَرَّموا، وجادَلُوا رُسُلَهُمْ بِالباطِلِ لِيُدْحضوا بِهِ الحَقَّ {فَهَلْ عَلَى الرُّسُلِ إِلَّا الْبَلَاغُ الْمُبِينُ} [النحل: 35] أيْ: ليستْ وَظيفَتُهُمْ إلا البَلاغِ للرِّسالَةِ، المُوَضِّحَ طَريق الحَق والمُظْهر أحْكامَ الوحْيِ التي مِنها تَعَلُّقُ مَشيْئَتِهِ تَعالى باهْتِداءِ مَنْ صرَفَ قُدْرتَهُ واخْتِيارَهُ إلى تَحْصَيلِ الحَقِّ؛ لقولهِ تَعالى:{وَالَّذِينَ جَاهَدُوا فِينَا لَنَهْدِيَنَّهُمْ سُبُلَنَا} [العنكبوت: 69] وأمَّا إلْجاؤهمْ إلى ذَلِكَ، وتنفيذُ قَوْلهم عليهِ شاءوا أوْ أبَوْا كما هو مُقْتَضى اسْتِدْلالِهم فليسَ ذَلِكَ مِن وَظيفَتِهم، ولا مِن الحِكْمَةِ التي يَتوَقَّفُ عَلَيْها التكليفُ، حَتّىَ يُسْتَدَلَّ بعدمِ ظُهورِ آثارِهِ على عدمِ حَقيقةِ الرسلِ عليهم السلام أو على عدمِ تَعَلُّقِ مَشَيْئَتِهِ تَعالى بذَلِكَ، فإِنَّ ما يَتَرَتَّبُ عليه الثوَّابُ والعِقابُ مِن الأفْعالِ لا بُدَّ في تَعَلُّقِ مَشيئتِهِ تَعالى بِوقوعِهِ مِن مُباشَرَتِهم الاخْتِيارِيّة، وَصَرْفِ اخْتِيارِهِم الجُزْئِيِّ إلى تَحْصيلِهِ، وإلا لَكانَ الثوَّابُ والعِقابُ اضطِرارِيينِ، والكلامُ على هذهِ الآية ونحوِها مُسْتوفىً في تفسير (رُوحِ المعاني) وغيرهِ. فجُحودُ القَدَرِ والاحتجاجُ بِه على الله ومُعارَضَةُ شرع الله بِقَدَرِهِ، كُلُّ ذَلِكَ مِن ضلالاتِ الجاهِلِيَّةِ.

والمَقْصودُ أنَّهُ لا جَبْرَ وَلا تَفْويضَ، ولكنْ أمْر بَيْنَ أمْرَيْنِ، فمَنْ زَلَّتْ قَدَمُهُ عَنْ هَذِهِ الجادَّةِ كانَ على ما كانَ عليهِ أهلُ الجاهِلِيَّةِ، وهِيَ الطَّريقَةُ التي رَدَّ عَلَيْهَا الله سبحانَه ورَسُولهُ صلى الله عليه وسلم.

ص: 244