الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
القولُ الأولُ: من قال إنَّه خاصٌ بالسُّلطان (بنفسِه، أو أهلِ الحسْبةِ)
واستدلُّوا بما يلي:
أولاً: أنَّ الإنكارَ باليدِ إذا فعله آحادُ الرَّعيَّةِ، سوف يترتَّبُ عليه فتنٌ وفوضى.
ثانياً: أنَّ فيه افْتِئاتاً على وَليِّ الأمْرِ!.
ثالثاً: أنَّ تغيرَ المنكر باليدِّ يحتاجُ إلى قُوَّةٍ، والقوَّةُ من شأنِ السُّلطان. إلى غير ذلك من التعليلاتِ.
علماً أن أكثرَ هذه التَّعليلاتِ للأسفِ لم تكن نابعةً من بَسْطةٍ في العِلْمِ، أو تأصيلٍ شرعي، أو اسْتِنَادٍ على آيةٍ مُحْكَمةٍ، أو سُنَّةٍ ناطقةٍ، أو قولِ صَحَابي، أو قياسٍ صحيحٍ؛ كلَاّ!.
إنَّ أكثرَ هذه التعليلاتِ - للأسفِ - كانت نتيجةَ الضُّغوطِ المشحونةِ بالاستبدادِ الجائرِ، والظُّلمِ الغاشِمِ، والجهلِ السَّائدِ، والأذى المقيت، وغير ذلك من الاعتداءات الذي انتحلتْها سِلْسِلَةُ تسَلُّطِ الحُكَّامِ الجائرين على رِقابِ أكثرِ بلادِ المسلمين !، فكان من سَوَالِب هذه التَّهديدات أنَّ طائفةً من أهلِ العلمِ تَخَلَّوْا عن القيامِ بوظيفةِ "الأمر بالمعروف والنهي عن المُنكر"، لا سيما إذا عَلِمْتَ أنَّ أسْمَى وأفضلَ مَرَاتِبِ الإنكارِ ما كان باليَدِ، فعند ذلك كان الإنكارُ باليدِ عندهم محلَّ نظرٍ ومُحاسبةٍ، أو قُلْ: مَظِنَّةَ حَبْسٍ وإيذاءٍ، وربَّما قتلٍ!.
وعند هذا؛ كان على العاقلِ أن يَعْلمَ أنَّ أصحابَ هذا القولِ؛ كانوا حصادَ هذه الاعتداءات الغاشِمةِ التي اخْتَطَّتها سياسةُ أكثرِ حُكَّامِ المسلمين، إلَاّ أنَّنا مع هذا (الاعتذار) لا نُقِرُّهُم على هذه التَّعليلاتِ (المَعْلُولةِ) ؛ فضلاً أن يجعلوها دليلاً مُستقِلاً تُبنى عليه أحكامٌ شرعيَّةٌ، أو تكون تخصيصاً لعمومِ الأدلَّةِ، أو قيداً لمُطلقِها!.
كما أنَّني لا أشكُّ أنَّ أكثرَ أصحابِ هذا القولِ قد دخلَ عليهم الرَّوعُ والخوْفُ، أو حُبُّ السَّلامةِ بطريقٍ أو آخر!؛ فعند هذا أضحت مسألةُ (الإنكارِ باليَدِ) عندهم مُعلَّقةً بخاصَّةِ السُّلطان، أو من ولَاّهُ من أهلِ الحسبةِ، مع علمهم (القطعي) أنَّ أهلَ الحسبةِ في زماننا ليس لهم في قانونِ حُكَّامِ أكثرِ بلادِ المُسلمين من الأمرِ شيءٌ!؛ اللهم صلاحيات نِظامية، وترتيبات إدارية، ومعاملات رقابية، حيث سُحِبتْ منهم أكثرُ الصَّلاحيات الشَّرعية، وحاصلُ الأمرِ؛ بل حقيقة الأمرِ: لا (إنكارَ باليدِ) !، فلا السُّلطان يُغَيِّر بيدِه، ولا أهلُ الحسبةِ يجرؤن على التَّغيير باليدِّ، ولا أهلُ المعاصي المُجاهرون ينتهون!؛ بل لم يَزَلِ الفسادُ يَتَفاقَم أمرُه، ويتطاير شَررُه، اللهم رُحماك، اللهم رُحماك!.
لذا؛ كان ينبغي أنْ نعلمَ أنَّ أصحابَ هذا القولِ ليس لهم مِنَ الدَّليلِ الشَّرعي نصيبٌ يُؤثر، اللَّهم إلَاّ مُتَشَابهاتٌ، وتعليلاتٌ ما أنْزَلَ الله بها مِنْ سُلطان!. في حين أنَّ كثيراً من العلماءِ من أهل التَّحقيقِ قد غَلَّطوا من قال: إنَّ إذْنَ السُّلطانِ مُعتبرٌ في آحَادِ الرَّعيَّةِ!. وعلى رأسهم الإمامُ الغَزَّاليُّ رحمه الله حيثُ وَصفَ هذا الشَّرطَ بالفسادِ، بقوله:" هذا الشَّرطُ فاسدٌ؛ فإنَّ الآياتِ والأخبارَ التي أوْرَدْنَاها تَدُلُّ على أنَّ كُلَّ مَنْ رأى مُنْكراً؛ فَسَكتَ عليه عَصَى، إذْ يَجِبُ نَهْيُهُ أيْنَما رآه، وكيفما رآه على العمومِ، فالتَّخْصِيصُ بشرطِ التَّفْويضِ من الإمامِ تَحَكُّمٌ لا أصْلَ له". وقال أيضاً: " بل «أفضلُ الدَّرجاتِ كلمةُ حقٍّ عند سُلْطانٍ جائرٍ،» كما وَرَد في الحديثِ، (1) فإذا جازَ الحُكْمُ على الإمامِ على مُرَاغَمَتِه؛ فكيف يَحْتَاجُ إلى إذْنِه؟ ". وقال أيضاً: " واستمرارُ عاداتِ السَّلفِ على الحسبةِ على الوُلاةِ قاطعٌ بإجماعِهم على الاستغْناءِ عن التَّفويضِ؛ بل كُلُّ مَنْ أمَرَ بمعروفٍ، فإن كان الوالي راضياً فذاك، وإن كان ساخطاً له فَسُخْطُه
(1) أخرجه أحمد (3 / 19) ، وأبو داود (4344) ، والحاكم (4 / 505، 506) وصححه الحاكم، وسنده صحيح.
له مُنكرٌ يجبُ الإنكارُ عليه، فكيف يحتاج إلى إذنِه في الإنكارِ عليه". وقال أيضاً بعد كلامٍ له في عَدَمِ وُجُوبِ استئذانِ الإمامِ في التَّغيير: " وكذلك كَسْرُ الملاهي، وإراقَةُ الخُمُورِ فإنَّه تَعَاطى ما يُعْرفُ كونُه حقاً من غيرِ اجتهادٍ، فلم يَفْتقِرْ إلى الإمامِ، وأمَّا جَمْعُ الأعْوانِ، وشَهْرُ الأسْلِحةِ فذلك قد يَجُرُّ إلى فِتْنَةٍ عامَّةٍ؛ ففيه نَظَرٌ سيأتي
…
". (1) وهذا أيضاً ابنُ دقيق العيد رحمه الله يقول: " قالوا: ولا يَخْتَصُّ الأمْرُ بالمعروفِ والنَّهي عن المُنكرِ بأصْحَابِ الوِلايةِ؛ بل ذلك ثَابِتٌ لآحادِ المسلمين". (2)
أمَّا قولُهم: إنَّ في إنكارِ آحادِ الرَّعيَّةِ إثارةً للفتنِ والفوضى، فردُّه كما يلي:
(1) ـ انظر «إحياء علوم الدين» للغزالي (2 / 315) .
(2)
ـ انظر «شرح الأربعين النووية» لابن دقيق العيد، ص (137) .
قلتُ: في هذا تحكُّمٌ عقليٌ منكم في مُوَاجهةِ نُصُوصٍ صريحةٍ مِنَ السُّنَّةِ، وأفعالِ الصحابةِ، وأقوالِ العلماء المُحقِّقين على اختلافِ مذاهبِهم، وبعد هذا فلا يَحِقُّ لأحَدٍ كائناً من كان أن يقولَ برأيِه قولاً مُخَالفاً لما دلَّتْ عليه النُّصُوص الشَّرعيةُ؛ لأنَّ في هذا - عياذاً بالله - اتِّهاماً ضِمنياً للنبيِّ صلى الله عليه وسلم بأنَّه يأمُرُ بما يُثِيرُ الفوضى والفِتَن (1) !.
(1) ـ انظر «حكم تغيير المنكر» لعبد الآخر الغنيمي، ص (54) .
ويحسنُ بنا أن نَسُوقَ لهؤلاءِ شيئاً مِنْ دُرَرِ كلامِ الإمامِ أبي بكرٍ الجَصَّاصِ رحمه الله حيث شَخَّصَ الدَّاءَ، ووَصَفَ لنا الدَّواءَ، إذا يقول: " لم يَدْفعْ أحدٌ من علماءِ الأمَّةِ، وفقهائِها - سلفهم وخلفهم - وجوبَ ذلك إلَاّ قومٌ من الحَشْوِ، وجُهَّالِ أصحابِ الحديثِ؛ فإنَّهم أنكروا قتالَ الفِئَةِ الباغِيةِ، والأمْرَ بالمعروفِ والنَّهي عن المنكرِ بالسِّلاحِ، وسَمُّوا الأمرَ بالمعروفِ والنهيَ عن المنكرِ فِتْنَةً إذا احْتِيجَ فيه إلى السِّلاحِ، وقِتَالُ الفئةِ الباغيةِ مع ما قد سَمِعُوا فيه من قَوْلِ الله عز وجل:{فَقَاتِلُوا الَّتِي تَبْغِي حَتَّى تَفِيءَ إِلَى أَمْرِ اللَّهِ} [الحجرات 9] ، وما يقتضيه اللَّفظُ مِنْ وُجُوبِ قتالِها بالسَّيفِ وغيرِه، وزعموا مع ذلك أنَّ السُّلطانَ لا يُنْكَرُ عليه الظُّلْمُ، والجَوْرُ، وقَتْلُ النَّفْسِ التي حَرَّمَ الله، وإنَّما يُنْكَرُ على غيرِ السُّلطانِ بالقولِ، أو باليدِ بغيرِ سلاحٍ، فصاروا شَراً على الأمَّةِ من أعدائِها المُخَالفين لها؛ لأنَّهم أقْعَدُوا النَّاسَ عن قِتَالِ الفئةِ الباغيةِ، وعن الإنكارِ على السُّلطانِ الظُّلمَ
والجَوْرَ؛ حتى أدَّى ذلك إلى تَغَلُّبِ الفُجَّارِ؛ بل المجوسِ وأعداءِ الإسلامِ حتى ذهبتِ الثُّغُورِ، وشاعَ الظُّلمُ، وخُرِّبتِ البِلادُ، وذهبَ الدِّينُ والدُّنيا، وظهرتِ الزَّندقةُ والغُلُوُّ، ومذاهبُ الثَّنويةِ والخُرَّميَّةِ والمزْدَكيَّةِ، والذي جَلَبَ ذلك عليه: تَرْكُ الأمرِ بالمعروفِ والنهي عن المُنْكَرِ، والإنكارِ على السُّلطانِ الجائرِ". (1)
ومن خلالِ هذا؛ كانت حقيقةُ الفوضى والفِتَنِ المزعومةِ مُتحَقِّقةً في تركِ تغييرِ المُنْكَرِ ليس إلَاّ؛ فعندها كان تركُ "الأمرِ بالمعروفِ والنهي عن المنكرِ" أصْلَ كُلِّ فِتْنةٍ وفوضى، ولا بُدَّ. وذلك ماثلٌ في زماننا؛ فُخُذْ مثلاً: انتشارُ المسَارحِ الغنائيةِ والملاهي المُحرَّمةِ (باسم السِّياحة!) ، واختلاطُ الرِّجالِ بالنساءِ (باسم المُسَاواة!) ، وظُهُورُ الزِّنا (باسم الحُرِّيَّةِ الشَّخصيَّة!) ، وانتحالُ الكفرِ والرِّدَّةِ (باسم حرِّيَّةِ الفِكْر!) ، والاستهزاءُ بأحكامِ الإسلامِ وأهلِه (باسم الفُكاهةِ والمِزَاح!)
…
الخ، كُلُّ هذا يوم تركنا الإنكارَ باليدِ (باسم السُّلطانِ وأهلِ الحسبة!) .
(1) ـ انظر «أحكام القرآن» لأبي بكر الجصاص (2 / 34) .
أمَّا قولُهم: إنَّ في إنكارِ آحادِ الرَّعيَّةِ افتئاتاً على الحاكمِ، فردُّه كما يلي:
قلتُ: لا بدَّ أن نُفرِّقَ بين تغييرِ المنكر، وإقامةِ الحُدُود، فمن فرَّقَ بينهما تبيَّنَ وظهرَ له جَليَّةُ الأمرِ على الحقيقةِ. فهذا الغَزالي رحمه الله يُبيِّنُ لنا الفرقَ بينهما بقوله:" ليس لآحادِ الرَّعيَّةِ إلَاّ الدَّفعُ، وهو إعدامُ المُنكرِ فما زادَ على قَدْرِ الإعدامِ، فهو إمَّا عقوبةٌ على جريمةٍ سابقةٍ، أو زَجْرٌ عن لاحِقٍ، وذلك إلى الوُلاةِ لا إلى الرَّعيَّةِ". (1)
ومن خلالِ هذا؛ نفهم أنَّ هنالك فرقاً واضحاً بين إزالةِ المنكرِ أياً كان، وبين إقامةِ الحُدُودِ؛ لذا كانت عمليةُ التَّغييرِ هي مجرَّدُ إزالةٍ للمنكرِ، أو دَفْعٍ له، وهذه يقومُ بها الحاكمُ وغيرُه، وهذا بيِّنٌ واضحٌ كما أوضحناه آنفاً من خلالِ الأدلَّةِ الشَّرعية، وأقوالِ أهلِ العلمِ، والله المُوفِّقُ والهادي إلى سواءِ السَّبيل.
(1) ـ انظر «إحياء علوم الدين» للغزالي (2 / 331) .
تنبيه: وما ذكرناه هنا: مِنْ أنَّ إقامةَ الحُدُودِ من اختصاصِ الحَاكمِ ليس على إطلاقِه؛ بل هذا في حَالةِ ما إذا كان الحَاكمُ قائماً بذلك، أمَّا إذا قَصَّرَ الحاكمُ في إقامةِ الحُدُودِ فإنَّه يَجُوزُ للجماعةِ المُحْتَسِبةِ مِنْ آحادِ الرَّعيةِ أن تقومَ بذلك بعد النَّظرِ في قاعِدةِ " المصالح والمفاسد" لأنَّ "الأمرَ بالمعروف والنَّهيَ عن المُنكر" واجبٌ على الأمَّةِ، ويَنُوبُ عنها الحاكمُ في ذلك، فإن قَصَّرَ الحاكمُ رجعَ الأمرُ للأمَّةِ، وهذا ما قرَّرَه شيخُ الإسلامِ ابنُ تيميةَ بقولِه: " وكذلك الأميرُ إذا كان مُضَيِّعاً للحُدُودِ، أو عاجزاً عنها، لم يَجِبْ تفويضُها إليه مع إمكانِ إقامتِها بِدُونِه، والأصْلُ أنَّ هذه الواجباتِ تُقَامُ على أحسنِ الوُجُوه، فمتى أمكن إقامتُها من أميرٍ لم يحتجْ إلى اثنين، ومتى لم تُقَمْ إلَاّ بعددٍ ومن غيرِ سُلطانٍ أُقيمت إن لم يكن في إقامتِها فسادٌ يزيدُ على إضاعتِها، فإنَّها من بابِ الأمرِ بالمعروفِ والنهي عن المنكر
…
". (1) وهذا الإمامُ الشَّوكاني رحمه الله يُقرِّرُ ما نحنُ بصددِه، وذلك عند تعليقِه على صاحبِ "حدائق الأزهار" عند قولِه: " وتجبُ إقامتُها
(1) ـ انظر «مجموع الفتاوى» لابن تيمية (34 / 176) .
(الحُدُود) في غيرِ المسجدِ على الإمامِ وواليه، إنْ وقع سببها في زمان ومكان يليه"، قال الشوكاني بعد هذا: " هذا مبنيٌ على أنَّ الحُدُودَ إلى الأئمةِ، وأنَّه لا يُقيمُها غيرُهم على مَنْ وجبتْ عليه، وليس على هذا أثارةٌ مِنْ علمٍ. ولا شكَّ أنَّ الإمامَ ومَنْ يَلي مِنْ جهتِه هم أولى مِنْ غيرِهم كما قدمنا، وأمَّا أنَّه لا يُقِيمُها إلَاّ الأئمةُ، وأنَّها ساقطةٌ إذا وقعت في غيرِ زَمَنِ إمامٍ، أو في غيرِ مكانٍ يليه فباطلٌ وإسقاطٌ لما أوجبه الله مِنَ الحُدُودِ في كتابِه، والإسلامُ موجودٌ، والكتابُ والسنةُ موجودان، وأهلُ العلمِ والصَّلاحِ موجودون؛ فكيف تُهْمَلُ حُدُودُ الشَّرعِ بمجردِ عدمِ وُجُودِ واحدٍ من المسلمين؟! ". (1) وهذا شيخُ الإسلام ابن تيمية كان يُعزِّرُ، ويُقِيمُ الحُدودَ؛ لمَّا قصَّرَ السَّلاطينُ في زمانِه من إقامةِ الحُدُود آنذاك، وهذا منه رحمه الله ليس بخافٍ لِمنْ قرأَ سيرتَه. (2)
أمَّا قولهم: إنَّ الإنكارَ باليدِ يحتاجُ إلى قُوَّةٍ، والقُوَّةُ من شأنِ السلطان، فردُّه كما يلي:
(1) ـ انظر «السيل الجرار» للشوكاني (4 / 311) .
(2)
ـ انظر «البداية والنهاية» لابن كثير (14 / 12) .
قلتُ: ليس الأمرُ كما ذُكِر؛ بل ليس من شرطِ تغيير المُنكرِ وجودُ القوَّةِ!، كما أنَّه ليس من شرطِ المُغَيِّرِ أن يعلمَ أنَّ في قُدرتِه أنْ يُغَيِّرَ المُنكرَ!، لذا كانت القُدرةُ في جادَّةِ أهلِ العلمِ المحقِّقين شرطاً في الوجوب، لا شرطاً في الصِّحَّةِ.
والدَّليلُ على أنَّ القدرةَ شَرطٌ في وجوبِ تغييرِ المنكرِ، قولُه صلى الله عليه وسلم في حديث أبي سعيد الخدري رضي الله عنه: "
…
«فإن لم يستطع فبلسانِه، فإن لم يستطع فبقلبِه»
…
"، فقوله: فإن لم يستطعْ " دليلٌ على أنَّ مَنَاطَ الوُجُوبِ القُدْرةُ، فمنْ فَقَدَ القُدرةَ سَقَطَ عنه الوُجوبُ.
وأمَّا الأدلَّةُ على أنَّ القُدرةَ ليست شرطاً في صِحَّةِ التَّغييرِ فكثيرةٌ منها:
1ـ قولُه صلى الله عليه وسلم: «سَيِّدُ الشُّهداءِ حمزةُ بنُ عبدِ المطلب، ورجلٌ قامَ إلى إمامٍ جائرٍ فأمرَه ونهاهُ فقتلَه» (1) الحاكم. فلا شك أنَّ هذا الرَّجلَ لم تَبْلُغْ قدرتُه أن يُغَيِّرَ مُنْكرَ ذلك الحاكمِ الجائرِ، ومع ذلك أنكرَ عليه، فكان من نتيجةِ ذلك أنْ قُتِلَ في سبيلِ الله، فعدَّهُ النبيُّ صلى الله عليه وسلم سيدَ الشُّهداءِ مع حمزةَ رضي الله عنه.
(1) ـ أخرجه الحاكم (3 / 195) ، والطبراني في «المعجم الكبير» (1 / 300)، وقال عنه الحاكم: صحيح الإسناد، وصححه الألباني في «صحيح الترغيب» (2 / 574) .
2ـ فمنها ما جاء في قِصَّةِ عاصمِ بنِ ثابتٍ لما بعثه رسولُ الله صلى الله عليه وسلم على رأسِ نَفَرٍ من أصحابه إلى عضل والقارة، فخرج عليهم قرابةُ مائة رَامٍ، فأحاطوا بهم فقالوا: لكم العهدُ والميثاقُ إن نزلتم إلينا أن لا نقتل منكم رجلاً، فقال عاصم: أمَّا أنا فلا أنزلُ في ذِمَّةِ كافرٍ
…
فقاتلُوهم حتى قتلوا عاصما في سبعةِ نفرٍ بالنَّبٍلِ. (1) قال الشَّوكاني تعليقاً على هذا الحديث: " يجوزُ لمن لا طاقةَ له بالعَدُوِّ أن يتمنعَ مِنَ الأسْرِ، وأن يُسْتَأسَرَ". (2)
(1) ـ أخرجه البخاري (3045) .
(2)
ـ انظر «نيل الأوطار» للشوكاني (7 / 255) .
3ـ ومنها ما وردَ في قصة عمرو بن الجموح الذي كان رجلاً أعرجَ شديدَ العرجِ، وكان له بَنُون أربعة مثل الأسدِ يشهدون مع رسول الله صلى الله عليه وسلم المشاهدَ، فلما كان يوم أُحد أرادوا حَبْسَه، وقالوا له: إنَّ الله عز وجل قد عَذَرَك، فأتى رسولَ الله صلى الله عليه وسلم فقال:«إنَّ بَنِيَّ يُريدون أنْ يَحْبِسوني عن هذا الوَجْهِ والخُرُوجِ معك فيه، فوالله إنِّي لأرجو أنْ أطأَ بعرجَتِي هذه في الجنةِ، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: " أمَّا أنت فقد عَذَرَك الله فلا جهادَ عليك، وقال لبنيه: ما عليكم ألَاّ تَمْنَعُوه لَعَلَّ الله أن يَرْزُقَه الشَّهادةَ" فخرج معه فَقُتلَ يوم أحد» . (1)
ومن هذا يُعلم أنَّ انْدِفاعَ الرجلِ المسلمِ مُضَحياً بنفسِه في سبيلِ الله جائزٌ في الجهادِ، وفي الحسْبةِ، وإن عَلِمَ أنَّه يُقْتل، وإن علمَ أنَّ المُنكرَ لا يزولُ ما دام في ذلك مصلحةٌ شرعيةٌ، ككَسْرِ قلوبِ الكُفَّارِ والفُسَّاقِ بما يَرَوْنَه مِنْ قُوَّةِ المسلمين وجُرْأتِهم، أو تَقْوِيةِ المسلمين الآخرين، وحملهم على التَّضحيةِ كذلك.
(1) ـ انظر «سيرة ابن هشام» (3 / 96)، قال الألباني: وهذا سندٌ حسنٌ إن كان الأشياخُ من الصحابةِ، وإلا فهو مرسلٌ، وبعضه من المسندِ، وسندهُ صحيحٌ، انظر «فقه السنة» ص (282) .
قال القرطبيُّ رحمه الله: " قال محمدُ بنُ الحسن: لو حملَ رجلٌ واحدٌ على أَلْفِ رجلٍ من المشركين وحدَه لم يكن بذلك بأسٌ إذا كان يَطْمَعُ في نَجَاةٍ، أو نِكايةٍ في العَدُوِّ، فإن لم يكن كذلك فهو مكروهٌ؛ لأنَّه عَرَّضَ نَفْسَه لِلتَّلفِ في غيرِ منفعةٍ للمسلمين، فإن كان قصدُه تَجْرئة المسلمين عليهم حتى يصنعوا مثلَ صَنِيعهِ فلا يَبْعُدُ جوازُه، ولأنَّ فيه منفعةً للمسلمين على بعضِ الوُجُوه، وإن كان قصدُه إرهابَ العدوِّ ليعلم صلابةَ المسلمين في الدِّين، فلا يبعدُ جوازُه، وإذا كان فيه نفعٌ للمسلمين فتلفَتِ النَّفسُ لإعزازِ دينِ الله وتوهينِ الكُفْرِ فهو المقامُ الشَّريفُ الذي مدح الله سبحانه وتعالى به المؤمنين في قوله: {إِنَّ اللَّهَ اشْتَرَى مِنَ الْمُؤْمِنِينَ أَنْفُسَهُمْ} على غيرها من آياتِ المدحِ التي مدحَ الله بها من بذلَ نفسَه، وعلى ذلك ينبغي أن يكون حُكمُ الأمرِ بالمعروفِ والنهيِّ عن المنكرِ". (1)
(1) ـ انظر «الجامع لأحكام القرآن» للقرطبي (2 / 364) .
وكذا قال الغزاليُّ رحمه الله: "
…
ولكن لو عَلِمَ أنَّه لا نكايةَ لهجومِه على الكفارِ؛ كالأعمى يطرحُ نفسَه على الصَّفِّ، أو العاجزِ فذلك حرامٌ، داخلٌ تحت عمومِ آيةِ التَّهْلُكَةِ، وإنَّما جازَ له الإقدامُ إذا علم أنَّه يُقَاتلُ إلى أن يُقْتلَ، أو علم أنَّه يَكْسِرُ قلوبَ الكفارِ بمشاهدتِهم جراءتَه، واعتقادِهم في سائرِ المسلمين قِلَّةَ المُبالاةِ، وحُبَّهم للشَّهادةِ في سبيل الله، فتَنْكسرَ بذلك شوكتُهم، فكذلك يجوزُ للمُحْتسبِ، بل يُسْتحبُّ له أن يُعَرِّضَ نفسَه للضَّربِ، أو القتلِ إذا كان لحُسْبتِه تأثيرٌ في رفعِ المُنكرِ، أو في كسرِه جَاه الفاسقِ، أو في تقويةِ قلوبِ أهلِ الدِّينِ، وأمَّا إن رأى فاسقاً مُتَغلباً وعنده سيفٌ، وبيدِه قَدَحٌ وعلمَ أنَّه لو أنكرَ عليه لَشِرَبَ القدحَ وضربَ رقبتَه، فهذا ممَّا لا أرى للحُسْبةِ فيه وجهاً، وهو عينُ الهلاك"، (1) أي إذا عَلِمَ أنَّ إنكارَه هذا سيترتَّبُ عليه مُنكرٌ أكبر، والحالةُ هذه فلا، لأنَّ مِنْ شرطِ الإنكارِ ألَاّ يترتَّب عليه منكرٌ أعظمُ منه.
(1) ـ انظر «إحياء علوم الدين» للغزالي (2 / 319-320)