الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
الرابع: أن لا يؤدِّي إنكارُه إلى ضررٍ مُتعدٍ على غيرِه
؛ كالأهلِ أو عمومِ المسلمين.
نعم؛ قد ذكرَ العلماء أنَّه إن أدَّى تغييرُك للمُنْكرِ إلى الإضرارِ بغيرِك من المسلمين، فإنَّه يَحْرُمُ عليك التَّغييرُ حينئذٍ، يقول الغزالي رحمه الله مُبيناً ذلك:" فإن كان يَتَعدَّى الأذى من حُسْبَتِه إلى أقاربِه وجيرانِه فليتركها، فإنَّ إيذاءَ المسلمين محذورٌ، كما أنَّ السُّكُوتَ على المُنكرِ محذورٌ، نعم إنْ كان لا ينالُهم أذى في مالٍ أو نفسٍ، ولكن ينالهم الأذَى بالشَّتْمِ والسَّبِّ، فهذا فيه نظرٌ، ويختلفُ الأمرُ فيه بدرجاتِ المُنْكَرِ في تفاحُشِها، ودرجاتِ الكلامِ المحذورِ في نكايتِه في القلبِ وقَدْحِه في العِرْضِ". (1) وكذا قول السيوطي رحمه الله: " ومنها الأمرُ بالمعروفِ والنَّهي عن المُنكرِ، ولا يختصُّ بأربابِ الولاياتِ، ولا بالعَدْلِ، ولا بالحُرِّ، ولا بالبالغِ، ولا يسقطُ بِظَنِّ أنَّه لا يُفِيدُ أو علم ذلك عادةً، ما لم يَخَفْ على نفسِه، أو مالِه، أو على غيرِه مفسدةً أعظم من ضررِ المُنْكرِ الواقعِ". (2) فقد اشترط رحمه الله لسقوطِ التَّغييرِ: أن يكون الضَّررُ المُتَوقَّعُ وُقُوعه على نفسِه، أو مالِه، أو غيرِه أعظم من ضررِ المُنْكرِ المُرَادِ تغييره
…
فتأمل.
ومن ناحيةٍ أُخرى فإنَّه على افْتِراضٍ: أنَّ كُلَّ تغييرٍ باليدِّ سَيُؤدِّي إلى إلحاقِ الضَّررِ بالغيرِ هو افتراضٌ غيرُ صحيحٍ بالمَرَّةِ، وهذه نقطةٌ تَتَعلَّقُ بالواقعِ، ومن مَارَسَ هذه الأمورَ، وتَعَرَّضَ للإيذاءِ في سبيل الله هو أقْدَرُ من غيرِه على معرفةِ إلْحاقِ الضَّررِ بغيرِه عند التَّغيير، فكان الأولى أن يُناطَ معرفةُ تحقيقِ الضَّررِ بأهلِ الخبرةِ في ذلك، فهم أعلمُ بمعرِفةِ أهلِ الزَّمانِ والمكانِ وما فيهما من مُنكراتٍ، لذا كانوا أدرى بما يُتَوقَّعُ حُدُوثُه من ضَرَرٍ، أو عدمِه، كما قال تعالى:{فَاسْأَلُوا أَهْلَ الذِّكْرِ إِنْ كُنْتُمْ لَا تَعْلَمُونَ} ".
تنبيهات:
وقبل الخروجِ من هذا البحثِ المُهمِّ؛ كان من المُناسبِ أن نقفَ مع بعضِ الأخطاءِ التي لم يفتأ يتناقلها أهلُها بين الحين والآخرِ دون علمٍ أو حُجَّةٍ، لذا نجدهم يستدلُّون ببعضِ الآياتِ في غيرِ محلِّها، مثل:
الأولى: قولُه تعالى: {يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا عَلَيْكُمْ أَنْفُسَكُمْ لَا يَضُرُّكُمْ مَنْ ضَلَّ إِذَا اهْتَدَيْتُمْ} [المائدة 105]، ويقصدون بهذه الآية: أنَّ الإنسانَ عليه أن يستقيم في نَفْسِه، فإذا فعلَ ذلك فلا شأنَ له بالآخرين.
قلتُ: هذا فهمٌ خاطئٌ ولا شك؛ وقد كفانا مؤونةَ الرَّدِّ على هؤلاء أبو بكرٍ الصديق رضي الله عنه حيث قال: «يا أيها الناس إنكم تقرؤون هذه الآية، وتضعونها على غير مواضعها: {عَلَيْكُمْ أَنْفُسَكُمْ لَا يَضُرُّكُمْ مَنْ ضَلَّ إِذَا اهْتَدَيْتُمْ} ) ، وإنَّما سمعنا النبيَّ صلى الله عليه وسلم يقول: "إنَّ النَّاسَ إذا رَأوْا الظَّالمَ، فلم يأخُذُوا على يَدِهِ، أوْشَكَ أنْ يَعُمَّهُم الله بعقابٍ» (1) أحمد، وأبو داود. والمقصود من ذلك؛ أنَّ المؤمنين إذا قاموا بواجبهم في "الأمر بالمعروف والنهي عن المُنكرِ" فإنَّهم يكونون قد اهْتَدَوْا، وبعد ذلك لا يَضُرُّهم ضَلالُ مَنْ ضَلَّ، قال ابن تيميةَ:" وإنَّما يَتِمُّ الاهتداءُ إذا أُطيعَ الله، وأُدِّي الواجبُ من الأمرِ والنَّهي وغيرهما". (2)
(1) أخرجه أحمد (1 / 2،5،7،9) ، وأبو داود (4338) ، والترمذي (2168، 3057) ، وهو صحيحٌ، انظر «صحيح أبي داود» للألباني (3644) .
(2)
ـ انظر «مجموع الفتاوى» لابن تيمية (14 / 480) .
الثانية: قولُه تعالى: {وَلَا تُلْقُوا بِأَيْدِيكُمْ إِلَى التَّهْلُكَةِ} [البقرة 195]، ويقولون في هذه الآية: إنَّ تغييرَ المنكرِ باليدِّ لا سيما هذه الأيام يُؤَدِّي إلى إيذاءِ مَنْ يَقُومُون به؛ كسجنِهم، أو ضربِهم، أو التَّشهيرِ بهم في وسائلِ الإعلام
…
الخ، وعليه فإنَّ تغييرَ المُنكرِ يعتبرُ إلقاءً باليدِّ إلى التَّهْلُكةِ.
قلتُ: إنَّ الاستدلالَ بهذه الآية على هذا المسلكِ، يُعتبرُ مسلكاً خطيراً، وفَهْماً سقيماً، يوم تنكَّبَ كثيرٌ من الناسِ التَّأويلَ الصحيح لهذه الآية عند السَّلفِ الصالحِ، أمَّا إن سألتَ عن معناها الصحيح فقد كفانا فيها الصحابيُّ أبو أيوبَ الأنصاري رضي الله عنه: فعن أسلم أبي عمران التَّجيبي قال: «كنَّا بمدينةِ الرُّومِ فَحَمَلَ رَجُلٌ مِنَ المسلمين على صَفِّ الرُّومِ حتى دَخَلَ فيهم، فَصَاحَ النَّاسُ، وقالوا: سبحان الله يُلْقي بيدِه إلى التَّهلُكةِ!، فقامَ أبو أيُّوبَ فقال: يا أيها النَّاسَ إنَّكم تَتَأوَّلون هذه الآية هذا التَّأويل، وإنَّما أُنْزِلت هذه الآية فِينا مَعْشَرَ الأنصارِ، لَمَّا أعَزَّ الله الإسلامَ، وكَثُرَ ناصِرُوه، فقال بعضُنا لبعضٍ سِرا دون رسولِ الله صلى الله عليه وسلم: إنَّ أموالَنا قد ضاعت، وإنَّ الله قد أعزَّ الإسلامَ وكَثُرَ ناصِرُوه، فلو أقَمْنا في أموالِنا فأصلحنا ما ضَاعَ منها، فأنزلَ الله على نَبِيِّه صلى الله عليه وسلم، يَرُدُّ علينا ما قلنا:{وَأَنْفِقُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ وَلَا تُلْقُوا بِأَيْدِيكُمْ إِلَى التَّهْلُكَةِ} فكانت التَّهلكةُ
الإقامةَ على الأموالِ، وإصلاحها، وتركنا الغَزْوَ، فما زالَ أبو أيُّوبَ شاخصاً حتى دُفِنَ بأرضِ الرُّوم» . (1) أبو داود، والترمذي.
فقد ظهرَ من هذا البيانِ أنَّ الإلقاءَ باليدِّ إلى التهلكةِ: هو تَرْكُ الإنفاقِ، وتَرْكُ العملِ لدين الله جلَّ وعلا، وإيثارُ الأهلِ والأموالِ على طاعةِ اللهِ والجهادِ في سبيلِه؛ أي عكس ما يَفْهَمُه هؤلاء!.
(1) ـ أخرجه أبو داود (2512) ، والترمذي (2972) وقال حسن صحيح غريب، وقد صححه الألباني في «صحيح الترمذي» (2373) .