المَكتَبَةُ الشَّامِلَةُ السُّنِّيَّةُ

الرئيسية

أقسام المكتبة

المؤلفين

القرآن

البحث 📚

‌ هل الأصل في الإنكار العلانية أم السر - فقه الإنكار باليد

[ذياب الغامدي]

الفصل: ‌ هل الأصل في الإنكار العلانية أم السر

المسألةُ الثانية:‌

‌ هل الأصلُ في الإنكارِ العلانيةُ أم السِّرُّ

؟!.

لا شكَّ أنَّ الأصْلَ في أهلِ المعاصي بعمومٍ هو: السِّترُ، وإخْفاءُ ذُنُوبهم، كما دلَّتْ على ذلك النُّصوصُ الشرعيةُ.

ومن ذلك قولُه صلى الله عليه وسلم: «إنَّ الله سِتِّيرٌ يُحِبُّ السِّتْرَ» (1) أحمد، وأبو داود.

وقوله صلى الله عليه وسلم: «لا يَسْتُرُ عبدٌ عبدا في الدُّنيا، إلَاّ سَتَرَه الله يومَ القِيامةِ» (2) مسلم.

وكذا قال أحدُ الوُزراء لبعضِ مَنْ يأمُرُ بالمعروفِ: " اجتهدْ أن تَستُرَ العُصاةَ، فإنَّ ظُهُور معاصيهم عَيْبٌ في أهلِ الإسلامِ، وأولى الأمُورِ سِتْرُ العُيُوب". (3)

وفي ما ذكرناه هنا من الأدلَّةِ الشَّرعيَّةِ: دليلٌ على التَّرغيبِ الشَّديدِ في السِّترِ على المسلمين، وعدمِ إظهارِ عِيُوبهم.

وكذا فليُعلمْ أنَّ ما قرَّرناه هنا: من سَتْرِ عيُوبِ أهلِ المعاصي؛ ليس على إطلاقِه، كما دلَّت عليه الأدلَّةُ الشرعيةُ، وأقوالُ أهلِ العلمِ.

(1) أخرجه أحمد (4 / 224) ، وأبو داود (4012،4013) ، وهو صحيحٌ، انظر «الإرواء» للألباني (2335) .

(2)

ـ أخرجه مسلم (2590) .

(3)

ـ انظر «جامع العلوم والحكم» لابن رجب الحنبلي (2 / 292) .

ص: 59

فأدلَّةُ السِّترِ هنا وغيره محمُولةٌ على أهلِ المعاصي الذين لم يُجاهروا بذُنُوبهم، ولم يكْشِفوا سِتْرَ الله عليهم، ولم يَلْقُوا جِلبابَ الحياءِ، أمَّا من جاهرَ بذنبِه فهذا ليس مِمَّن دلَّتْ الأدلَّةُ الشَّريعةُ على سَتْرِه، ولا ممَّن يَتَشَوَّف الشَّارعُ الحكيمُ على غضِّ الطَّرفِ عن عِيُوبِه.

والحالةُ هذه؛ فكلُّ من أبدى لنا صَفْحتَه، وجاهرَ بمعاصيه بين المسلمين؛ فليس لنا إلَاّ أن نكشفَ أمرَه، ونُظْهرَ حقيقَتَه؛ عُقُوبةً له، وزجراً لغيرِه

كما دلَّت عليه مَقاصدُ الشَّريعةِ، وأقوالُ أهلِ العلمِ سلفاً وخلفاً.

يقولُ الإمامُ أحمد رحمه الله:" الناسُ يَحتاجون إلى مُداراةٍ، ورِفْقٍ في الأمرِ بالمعروفِ، بلا غِلْظةٍ، إلَاّ رجُلاً مُبايناً، مُعلناً بالفسْقِ والرَّدى، فيجبُ عليك نهيُهُ وإعلامُهُ؛ لأنَّه يُقالُ: ليس لِفاسقٍ حُرمةٌ، فهذا لا حُرْمةَ له". (1)

ص: 60

قال النَّووي رحمه الله عند شرحِه لحديث «من سترَ مُسلما ستره الله»

) : " وأمَّا السِّترُ المندوب إليه هنا، فالمراد به الستر على ذوي الهيئاتِ (أهل السُّؤددِ والفَضْلِ الذين لا يُعْرَفُون بالشَّرِ والفسادِ) ونحوهم، ممَّن ليس معروفاً بالأذى والفسادِ، فأمَّا المعرُوفُ بذلك فيُستحبُّ ألَاّ يُستَرَ عليه؛ تُرفعُ قضيَّتُه إلى وليِّ الأمرِ، إن لم يُخَفْ من ذلك مفسدةً، لأنَّ السِّترَ على هذا يُطْمِعُهُ في الإيذاءِ والفسادِ، وانتهاكِ الحُرُمات، وجَسارةُ غيرِه على مثلِ فِعْلِه، وهذا كلُّه في سِترِ معصيةٍ وقعت وانقضت.

أمَّا معصيةٌ رآه عليها وهو بَعْدُ مُتَلبِّسٌ بها، فتجبُ المُبادرةُ بإنكارِها عليه، ومنعه منها على مَنْ قَدِرَ على ذلك، ولا يحلُّ تأخيرها، فإن عَجِزَ لزِمه رفعها إلى وليِّ الأمرِ، إذا لم يترتَّبْ على ذلك مفسدةٌ.

وأمَّا جرحُ الرُّواةِ والشُّهودِ والأُمناءِ على الصَّدقاتِ والأوقافِ والأيتامِ ونحوهم، فيجبُ جرحُهم عند الحاجةِ، ولا يحلُّ السترُ عليهم إذا رأى منهم ما يقدحُ في أهليَّتِهم، وليس هذا من الغيبَةِ المُحرَّمةِ؛ بل من النَّصيحةِ الواجبةِ، وهذا مُجمعٌ عليه.

ص: 61

قال العلماءُ في القسمِ الأوَّلِ الذي يُسترُ فيه: هذا السِّترُ مندوبٌ، فلو رفعه إلى السُّلطان ونحوه لم يأثمْ بالإجماعِ، لكنَّ هذا خلاف الأولى

". (1)

وقد نبَّه الإمامُ النَّوويُّ أيضاً على هذه المسألةِ في (رياضِ الصَّالحين) تحت: باب ما يُباحُ من الغِيبةِ، فقال بعد سَرْدِه الأسباب التي تُبيحُ إظهارِ المستور: "

الخامس: أن يكون مُجاهراً بِفسْقِه أو بدعتِه، كالمُجاهرِ بِشُرْبِ الخمْرِ

". (2)

وقال ابنُ رجبٍ الحنبلي رحمه الله عند شرحِه لحديث «من ستر مُسلما ستره الله»

) : " واعلم أنَّ الناسَ على ضربين:

أحدهما: من كان مستوراً لا يُعرفُ بشيءٍ من المعاصي، فإذا وقعت منه هَفْوةٌ أو زلَّةٌ فإنَّه لا يجوزُ كشفُها ولا هتكُها، ولا التَّحدُّثُ بها

والثاني: من كان مشهوراً بالمعاصي مُعلناً بها، لا يُبالي بما ارتكبَ منها، ولا بما قيلَ له، فهذا هو الفاجرُ المُعْلنُ، وليس له غيبةٌ، كما نصَّ على ذلك الحسنُ البَصْريُّ وغيرُه.

(1) ـ انظر «شرح مسلم» للنووي (16 / 135) .

(2)

ـ انظر «رياض الصالحين» للنووي ص (575) .

ص: 62

ومثلُ هذا لا بأسَ بالبحثِ عن أمرِه لِتُقام عليه الحدودُ، صرَّح بذلك بعضُ أصحابِنا، واستدلَّ بقولِ النبي صلى الله عليه وسلم:«واغْدُ يا أُنيسٍ على امْرأةِ هذا، فإنِ اعترفتْ فارجُمها» . (1)

ومثلُ هذا لا يُشفعُ له إذا أُخِذَ، ولو لم يَبْلُغْ السُّلطان، بل يُترك حتى يُقام عليه الحدُّ لِيَنْكفَّ شرُّه، ويرتد به أمثالُه". (2)

وكذا قال ابن حجرٍ رحمه الله " قال العلماءُ: تُباحُ الغِيبةُ في كلِّ غرضٍ صحيحٍ شرعا، حيثُ يتعيَّنُ طريقاً للوصولِ إليه بها، كالتَّظلُّمِ، والاستعانةِ على تغيرِ المُنكرِ

- ثمَّّ قال - وممَّن تجوزُ غيبتُهم من يَتجاهرُ بالفسْقِ أو الظُّلمِ، أو البدعةِ". (3)

(1) ـ أخرجه البخاري (6827) ، ومسلم (1697) .

(2)

ـ انظر «جامع العلوم والحكم» لابن رجب الحنبلي ص (2 / 292-293) .

(3)

ـ انظر «فتح الباري» لابن حجر (10 / 472) .

ص: 63

وهذا أيضاً الحافظُ أبو العباس أحمد القُرطُبي، يقولُ في شرحِه لحديث (السِّتر) :" هذا حضٌّ على سِتْرِ مَنْ سَتَرَ نفسَه، ولم تَدْعُ الحاجةُ الدِّينيَّةُ إلى كشفِه، فأمَّا من اشتُهِرَ بالمعاصي، ولم يُبالِ بفعلِها، ولم يَنْتَهِ عمَّا نُهِي عنه، فواجبٌ رفعُه للإمامِ، وتنكيلُه، وإشهارُه للأنامِ ليرتدِعَ بذلك أمثالُه، وكذلك من تدعو الحاجةُ إلى كشفِ حالِهم من الشُّهودِ المجْرَّوحين، فيجبُ أن يُكشفَ منهم ما يقتضي تجريحهم، ويحرُمُ سترهم مخافة تغيير الشَّرعِ وإبطالِ الحقوق". (1) وهناك كثيرٌ من أقوالِ أهل العلمِ الدَّالةِ على تقريرِ ما ذكرناه، غير أننا تجاوزنا ذكرها رغبةً للاختصارِ.

ثمَّ اعلم أخي المسلم؛ أنَّ كشفَ ذنُوبِ المُجاهرين، وعدمِ سترِ معاصيهم ليس مختصٌّ بحياتِهم!؛ بل يتعدَّاهُ إلى موتِهم عياذاً بالله، وما ذاك إلَاّ تحذيراً منهم ومِنْ مَعَاصيهم، وردعاً لغيرهم مِنْ أمثالِهم.

وعلى هذا نقولُ: إذا ظَهَرَ لغاسلِهم شرٌ أن يُظْهرَه، ولا يَسْتُرَه ليرتدعَ غيرُهم، ويعتبرَ مقلِّدُوهم.

ص: 64

قال صاحب "الكشاف"، وغيره: " وعلى غاسلٍ سَترُ شَرٍّ رآه؛ لأنَّ في إظهارِه إذاعةً للفاحشة

ثمَّ قال: " قال جمعٌ مُحَقِّقُون: إلَاّ على مَشْهُورٍ ببدعةٍ، أو فُجُورٍ ونحوِه كَكَذِبٍ، فَيُسنُّ إظهارُ شَرِّه، وسِتْرُ خيرِه ليرتدِعَ نظيرُه "(1) .

وقال المرداوي: " وقال جماعةٌ من الأصحاب: إن كان الميتُ معروفاً ببدعةٍ، أو قلةِ دينٍ، أو فجورٍ ونحوه؛ فلا بأس بإظهارِ الشَّرِّ عنه، وسترِ الخيرِ عنه لتجتنبَ طريقتُه"(2) .

وقال ابنُ مُفلحٍ: " وقال جماعةٌ: إلَاّ مشهورٌ بفجورٍ، أو بدعةٍ فَيُسْتحَبُّ ظُهُورُ شَرِّه، وسَتْرُ خيرِه". (3)

وبنحوه قال العثيمين رحمه الله في صاحب البدعة: " ومن رأى على وجهِهِ مَكْرُوهاً، فإنَّه ينبغي أن يُبيِّنَ ذلك حتى يَحذرَ الناسُ من دعوتِه إلى البدعةِ؛ لأن الناسَ إذا علموا أنَّ خاتمتَه على هذه الحالِ؛ فإنهم ينفرون من منهجِه وطريقِه، وهذا القولُ لا شك أنه قولٌ جيدٌ وحسنٌ؛ لما فيه من درءِ المفسدةِ التي تحصلُ باتباع هذا المبتدع الداعية "(4) .

(1) ـ انظر «كشاف القناع» للبهوتي (2 / 121) ، و «المطالب» (1 / 865) .

(2)

ـ انظر «الإنصاف» (2 / 506) .

(3)

ـ انظر «الفروع» لابن مفلح (2 / 217) .

(4)

ـ انظر «الشرح الممتع» للعثيمين (5 / 377) .

ص: 65

وما ذكره شيخنا العثيمين هنا قائمٌ في حقِّ المجاهرِ بالكبائرِ؛ لما فيه من درءِ المفسدةِ التي تحصلُ باتِّبَاعِ هذا العاصي الذي خلعَ ثوبَ الحياء، وانبعثَ في فُجُورِه وسُفُورِه دون مُبَالاةٍ لعموم المسلمين، أو ارتداعٍ من ولي أمرِ المؤمنين! .

تنبيهٌ: وبعد ما قرَّرناه هنا: مِنْ أنَّ الأصلَ في المسلمين سترُ عيُوبِهم، وإخفاءُ معاصيهم، إلَاّ ما كان مُجاهراً منهم بذنبِه، فهؤلاءِ لا يُسترُ لهم ذنباً، ولا يُشفعُ لهم؛ لأنَّهم مُفْسدون مُتطاولون على أحكامِ الشَّرعِ، فكان في كشفِهم عُقُوبةً لهم وزجراً لغيرهم.

وبعد أن تقرَّرَ لنا هذا الأصلُ؛ نَجدُ بعضاً من المُنتسبين إلى قبيلِ العلمِ مَنْ يعترضُ بقولِه: إنَّنا إذا سلَّمنا بعُمُومِ هذا (الأصلِ) في المُجَاهرين بالكبائرِ ونحوها؛ إلَاّ أنَّه مُقيَّدٌ بِذِي الهيئاتِ من المسلمين، لقوله صلى الله عليه وسلم:«أَقِيلُوا ذَوِي الهيئاتِ عَثَراتِهم» (1) أحمد، وأبو داود، فظاهرُ الحديثِ: عدمُ كشفِ ذُنُوبِ أهلِ الشَّرفِ والجَاهِ بين الناس، وسِتْرُهم عند اقترافِهم المعاصي.

(1) ـ أخرجه أحمد (6 / 181) ، وأبو داود (4375) ، وهو صحيحٌ، كما حسَّنه ابنُ حجرٍ في «الفتح» (12 / 88) ، وكذا صحَّحه الألباني في «السلسلة الصحيحة» (638) .

ص: 66

قلتُ إنَّ الجواب على هذا الحديثِ ليس كما ذهبَ إليه هذا المُعترضُ؛ بل معنى الحديث هو: عدمُ كشفِ ذُنُوبِ أهلِ الشَّرفِ والفضلِ بين الناسِ ممَّن ظهرَ لنا خيرُهم وبِرُّهم، وكان شرُّهم ومُنْكَرُهم مستوراً.

يقولُ ابن القيم رحمه الله: قولُه صلى الله عليه وسلم «أَقِيلُوا ذَوِي الهيئاتِ عَثَراتِهم إلَاّ الحُدُود» قال ابنُ عقيلٍ: المُرادُ بهم الذين دامت طاعاتُهم وعدالتُهم، فزَلَّت في بعضِ الأحايين أقدامُه بورطةٍ.

قلتُ (ابنُ القيم) : ليس ما ذكره بالبيَّنِ، فإنَّ النبي صلى الله عليه وسلم لا يُعبِّرُ عن أهلِ التَّقوى والطَّاعةِ والعبادةِ بأنَّهم ذووا الهيئاتِ ولا عُهِدَ بهذه العبارةِ في كلامِ الله ورسولِه للمُطيعين المتَّقين.

ص: 67

والظاهرُ أنَّهم ذوو الأقدارِ بين النَّاسِ من الجاهِ، والشَّرفِ، والسُّؤدد، فإنَّ الله تعالى خصَّهُم بنوعِ تكريمٍ وتفضيلٍ على بني جنسِهم، فمن كان منهم مستوراً مشهوراً بالخيرِ، حتى كَبَا به جوادُه، ونبا عَضَبُ صبْرِه، وأُديلَ عليه شيطانُه، فلا تُسارع إلى تأنيبِه وعقُوبتِه؛ بل تُقالُ عَثْرتُه، ما لم يكن حداً من حدودِ الله، فإنَّه ينبغي استيفاؤه من الشَّريف

الخ". (1)

وكذا قال ابنُ الأثيرِ رحمه الله: " ذوو الهيئات: هم الذين لا يُعرفون بالشَّرِ، فيزلُّ أحدُهم الزَّلَّة". (2)

وبعد هذا؛ كان من الحكمةِ والبيانِ أن نستُرَ ذَوِي الهيئاتِ من أهلِ الشِّرفِ والفضلِ ممَّن اشْتُهِرَ خيرُهم، وخُفيَ شرُّهم، وألا نكشِفَ سترهم، ونَعجَلَ في عُقُوبتِهم لعمومِ المصلحةِ العائدةِ لهم وللمسلمين، وهذا بعد تَحقُّقِ أربعةِ شروطٍ:

الأوَّلُ: أن يكونوا من ذوي الهيئات.

الثاني: أن يُشْتهرَ بين النَّاسِ خيرُهم وصلاحُهم.

الثَّالثُ: ألَاّ يكونوا من المُجاهرين بمعاصيهم.

الرَّابعُ: ألَاّ يكونَ ذنبُهم في حدٍّ من حُدُودِ الله ما لم تُرفع للسُّلطان.

(1) ـ انظر «بدائع الفوائد» لابن القيم (3 / 138) .

(2)

ـ انظر «النهاية» لابن الأثير (5 / 285) .

ص: 68

وبعد هذا؛ كان علينا أن نُدركَ معنى الحديثِ على الوَجْهِ الشَّرعي الصَّحيحِ، وألَاّ نخلِطَ بين معنىً وآخر، فمن كان من ذوي الهيئاتِ إلَاّ أنَّه لم يكنْ من أهلِ الخيرِ والصَّلاحِ، مع اشتهارِه بالشَّرِ والفسادِ فحرامٌ علينا والحالةُ هذه أن نستُرَه أيَّاً كان حالُه أميراً كان أو سفيراً أو نحوهم مع مُراعاةِ المصلحةِ الشَّرعيَّةِ في ذلك، فإن كان في إشهارِه وإظهارِ أمْرِه مصلحةٌ شرعيَّةٌ وجبَ ذلك، وإن كان في ذلك فسادٌ ظاهرٌ فستْرُه حينئذٍ أسلم، لا إعمالاً بالحديثِ النَّبوي؛ لأنَّه ليس دليلاً في محلِّ النِّزاعِ؛ بل من بابِ تحقيقِ قاعدة " درءُ المفاسدِ مُقدَّمٌ على جلبِ المصالح". والله المُوَفِّق والهادي إلى سواءِ السَّبيل.

ص: 69

قلتُ: لاشكَّ أنَّ الإنكارَ ما هو إلَاّ وسيلةٌ شرعيَّةٌ، فإذا عُلِمَ هذا كان له حُكمُ المقاصِدِ؛ لأجلِ هذا كان من الخطأ البيِّنِ أن نُصْدِرَ حُكماً عاماً مُطَّرِداً: بأنَّ الأصلَ في الإنكارِ السِّرُّ أو العلانيةُ!، لذا كان من تحقيقِ المقاصدِ الشَّرعيةِ أن تُناطَ المسألةُ بذاتِ المُنكرِ القائمِ سراً أو علانيةً، فإذا كان المُنكرُ سِراً كان الإنكارُ سِراً، وما كان علانيةً كان الإنكارُ علانيةً، وعند هذا يكون الأصلُ حينئذٍ في الإنكارِ بحسبِه سِراً أو علانيةً.

لذا؛ فإنَّ المُنكراتِ التي يُتَعرَّضُ لها بالإنكارِ هي المُنكراتُ الظَّاهرةُ المُعْلَنةُ، أمَّا المُنكراتُ الباطنةُ فإنَّ أمْرَها مَوْكُولٌ إلى صاحبِها، وإذا ظَهَرتِ المُنكراتُ التي أنكرتْها الشَّريعةُ وَجَبَ إنكارُها بقطعِ النَّظرِ عن سَرِيرَةِ صاحبِها أو نِيَّتِه فيها، فعند ذلك لا يجوزُ إعلانُ البدعِ والمنكراتِ، أو ما هو مُخالفٌ للشرع؛ فإذا أُعْلِنت وجبَ إنكارُها علانيةً، وعُقُوبةُ مُعْلِنها علانيةً أيَّاً كان، كلُّ هذا حفاظاً على شرائعِ الإسلامِ، وهذا ما عليه أهل العلم كافَّةً.

ص: 70

لذا كان من الخطأ البيَّنِ أن نخلِطَ بين هذه المفاهيمِ الشَّرعيَّةِ في تحقيقِ شعيرةِ "الأمرِ بالمعروفِ والنَّهي عن المُنكر"!. ولقائلٍ يقول: إنَّ الأصلَ في المسلمين سِتْرُ عُيُوبِهم!، قلتُ: لا شكَّ في ذلك، وهذا ليس على عمومِه بل يُستثنى منه من كان مُجاهراً بفسقِه، مُعْلِناً بمعاصيه، فهذا ليس له من السِّترِ شيءٌ؛ بل يجبُ الإنكارُ عليه، سِراً أو علانيةً، قوَّةً أو ضعفاً؛ حتى يعُودَ إلى قافلةِ التَّائبين، مُتدثِّراً بجلبابِ الحياءِ بين المسلمين، مُتزَمِّلاً باحترامِ شعائرِ الدِّين.

وحاصلُ ما هنالك: أنَّ المُنكرَ إذا كان مَسْتوراً فمصيبتُه على صاحبِه خاصةً، فإذا أظْهرَه صاحبُه كان ضرَرُه عاماً، فمن ابْتُليَ بفعلِ المعاصي سِراً فَعَلِمَ شخصٌ مِنَ أمْرِه ما عَلِمَ، فنصحَه سِراً وسَترَ عليه فلم يَنْتهِ، وَجَبَ على النَّاهي أن يفعلَ ما يَنْكَفُّ به المنكرُ من الهجرِ، أو غيره إذا كان ذلك أنفعُ في الدِّين، أمَّا إذا أظْهَرَ المُنْكَرَ فإنَّه يَجِبُ الإنكارُ عليه علانيةً. (1)

(1) ـ انظر «مجموع الفتاوى» لابن تيمية (28 / 105،217-218) ، (23 / 175) .

ص: 71

إنَّ هذا المسائلَ في غيرِها من المسائلِ المُهمَّةِ (المُسْتجدَّة) سوف نثني عنها القلمَ هنا، خشيةَ الإطالة التي ستُخْرِجُنا عن شرطِنا، في حين أنَّنا سنقوم إن شاء الله بجمعها وبحثها في كتابِ مُستقلٍ بعنوان (فقه المنكر بين السَّلف والخلف)(1) ، واللهَ أسألُ أن يُيسِّر إتمامَه!.

والحمدُ لله ربِّ العالمين، والصَّلاةُ على عبدِه ورسولِه الأمين.

كتبه: ذيادُ بنُ سَعَدٍ آل حمدانَ الغَامِدي

الطائف

(1) ومن هذه المسائل لا كُلها: هل التَّحدُّثُ عن المُنكراتِ وبيانُ خُطُورتِها وتحذيرُ المسلمين منها على المنابرِ أو غيرِها يُعتبرُ (تهييجا) للعامَّة؟!، وهل الإنكارُ على الحُكَّام يعتبرُ (خروجا) عليهم؟!، وهل الإنكارُ عليهم يكونُ علانيةً أو سِرا، وما الضَّابط في ذلك؟!، وكذا بيانُ الفرقِ بين النَّصيحةُ والإنكار، وهل هنالك فرقٌ بين المُحتسبِ والمُتطوِّع من حيث الإنكارِ باليدِّ؟، وبيانُ الأوقات التي يتعيَّنُ فيها الإنكارُ على عمومِ المسلمين، كلُّ هذا وغيرُه سنُضمِّنُه في كتابِنا «فقه المنكر بين السَّلف والخلف» إن شاء الله

ص: 72