المَكتَبَةُ الشَّامِلَةُ السُّنِّيَّةُ

الرئيسية

أقسام المكتبة

المؤلفين

القرآن

البحث 📚

‌القول الثاني: أنه لا يشترط إذن السلطان - فقه الإنكار باليد

[ذياب الغامدي]

الفصل: ‌القول الثاني: أنه لا يشترط إذن السلطان

‌القولُ الثاني: أنَّه لا يُشترطُ إذنُ السُّلطان

؛ بل لآحادِ المسلمين تغييرُ المُنْكرِ باليَدِ، وهذا قولُ جمهورِ السَّلفِ والخلفِ، وقد دلَّ على ذلك الكتابُ، والسُّنَّةُ، والإجماعُ.

أمَّا الكتابُ:

ص: 31

فقد قال الله تعالى: {وَلْتَكُنْ مِنْكُمْ أُمَّةٌ يَدْعُونَ إِلَى الْخَيْرِ وَيَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَيَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنْكَرِ وَأُولَئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ} [آل عمران 104] . قال ابنُ كثير رحمه الله في تفسير الآية: " المقصودُ مِنْ هذه الآية أنْ تكونَ فِرْقةٌ من هذه الأمَّةِ مُتَصدِّيةً لهذا الشأنِ، وإن كان ذلك واجباً على كلِّ فردٍ من الأمَّةِ بحسبِه، كما ثبتَ في صحيح مسلم عن أبي هريرة رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «من رأى منكم منكرا فليغيره بيدِه»

" (1) ، ثم ساق الحديث. وقال تعالى: {كُنْتُمْ خَيْرَ أُمَّةٍ أُخْرِجَتْ لِلنَّاسِ تَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَتَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنْكَرِ وَتُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ} [آل عمران 110] . قال أبو بكرٍ الجصَّاصُ بعد أن ذكرَ طائفةً من الآياتِ في هذا الصَّددِ: " فهذه الآي ونظائرُها مُقتضيةٌ لإيجابِ الأمرِ بالمعروفِ والنهي عن المُنكر، وهي على منازلَ أوَّلها تغييرُه باليدَّ ـ إذا أمكن ـ فإذا لم يمكن وكان في نفسِه خائفاً على نفسِه إذا أنكرَ بيدِه، فعليه إنكارُه بلسانِه، فإن تعذَّرَ ذلك لما وصفنا فعليه

(1) انظر «تفسير ابن كثير» (1 / 290) .

ص: 32

إنكاره بقلبِه". (1) إلى غيرِ ذلك من الآيات القرآنية.

والمقصودُ من ذلك أنَّه قد ثَبَتَ بهذه الآياتِ وغيرها وُجُوبُ "الأمرِ بالمعروفِ والنَّهي عن المُنكرِ"، وأنَّه فرضٌ على الكِفايةِ، وهذا الحُكمُ شاملٌ لِكُلِّ مراتبِ التَّغيير، ولا نعلمُ دليلاً واحداً منها يَخُصُّ الحُكَّامَ بمرتبةٍ من هذه المراتبِ، فمن ادَّعى شيئاً من ذلك فعليه الدَّليل!.

أمَّا السُّنَّةُ: فقد روى مسلمٌ عن طارقِ بنِ شِهابٍ قال: " أوَّلُ من بدأ الخُطبةَ قبلَ الصَّلاةِ مَروانُ، فقامَ إليه رجلٌ فقال: الصَّلاةُ قبل الخُطبةِ. فقال: قد تُرك ما هُنالك، فقال أبو سعيدٍ الخُدْري رضي الله عنه: أمَّا هذا فقد قضى ما عليه، سمعتُ رسولَ الله صلى الله عليه وسلم يقول:«من رأى منكم منكرا فليغيره بيده، فإن لم يستطع فبلسانِه، فإن لم يستطع فبقلبِه وذلك أضعفُ الإيمان» م (2) مسلم. وقد دلَّ هذا الحديثُ على أنَّ لآحادِ الرَّعيَّةِ تغييرَ المُنكرِ بأيديهم من وجوهٍ (3) :

(1) ـ انظر «أحكام القرآن» للجصاص (2 / 30) .

(2)

ـ أخرجه مسلم (1 / 69) .

(3)

ـ انظر «حكم تغيير المنكر باليد

» لعبد الآخر الغنيمي ص (17-18) .

ص: 33

الوجه الأول: قولُه صلى الله عليه وسلم: (مَنْ) وهي مِنْ صِيَغِ العُمُومِ، وذلك يعني أنَّ الخطابَ مُوَجَّهٌ إلى كُلِّ فردٍ من الأمَّةِ، وليس إلى طائفةٍ مُعَينةٍ منهم، ومن ادَّعى التَّخصيص فعليه الدَّليل!.

الوجهُ الثاني: قولُه صلى الله عليه وسلم: (منكم) والقائلُ هو النَّبيُّ صلى الله عليه وسلم وهو الحاكمُ، والمُخَاطَبُون بذلك هم الرَّعيَّةُ؛ فلو كان الذي يُغيِّرُ بيدِه هو الحاكمُ وحدَه لما عمَّمَ الحُكْمَ، بل خاطب صلى الله عليه وسلم الرَّعيَّةَ أجمع دون تخصيصٍ.

الوجهُ الثالث: قولُه صلى الله عليه وسلم: (فإن لم يستطعْ) وذلك يقتضي أنَّ المُخَاطبَ بالأمرِ الأوَّلِ هو عينُه المُخاطبُ بالأمرِ الثاني وهو عينُه المخاطبُ بالأمرِ الثالث؛ فهو شَخْصٌ واحدٌ إن لم يستطعْ أن يُغَيِّرَ بيدِه فله أن ينتقل إلى البدلِ، وهو التَّغييرُ باللِّسانِ، فإن لم يستطعْ فله الانتقالُ إلى البدلِ وهو التَّغييرُ بالقلبِ، ويوضِّحُه أيضاً.

ص: 34

الوجه الرابع: قوله صلى الله عليه وسلم: (فإن لم يستطعْ) فلو كان التَّغييرُ باليَدِّ قاصراً على الحاكمِ لما كان لقوله (فإن لم يستطع) معنىً؛ لأنَّ الأصلَ في الحاكمِ أنَّه مُسْتطيعُ التَّغييرِ باليدِّ على كلِّ حالٍ.

وقد مرَّ معنا كلامُ بعضِ أهلِ العلمِ في ما نحنُ بتحريرِه، لا سيما أبو الفضل عياض حيث قال بعد حديث تغيير المنكر " هذا الحديث أصلٌ في صفةِ التَّغيير فحقُّ المُغيِّر أن يُغيِّرَه بكلِّ وجهٍ أمكن زوالُه به، قولاً كان أو فعلاً

". (1) وهو أيضاً قولُ ابنِ رجبٍ، وغيره من أهلِ العلم. (2)

وكذا عن عبدِ الله بنِ مسعودٍ رضي الله عنه أنَّ النبيَّ صلى الله عليه وسلم قال: «ما مِنْ نبي بعثَه الله في أمَّةٍ قبلي إلاّ كان له من أُمَّتِه حَوَارِيُّون، وأصحابٌ يأخذون بسنَّتِه، ويقتدون بأمرِه، ثم إنَّها تَخْلُفُ من بعدِهم خُلُوفٌ، يقولون ما لا يفعلون، ويفعلون ما لا يؤمرون، فمن جاهدهم بيدِه فهو مؤمنٌ، ومن جاهدهم بلسانِه فهو مؤمنٌ، ومن جاهدهم بقلبِه فهو مؤمنٌ، وليس وراء ذلك من الإيمان حبةُ خردلٍ» . (3)

(1) ـ انظر «شرح مسلم» للنووي (2 / 25) .

(2)

ـ انظر «جامع العلوم والحكم» لابن رجب (2 / 246) .

(3)

ـ أخرجه مسلم (1 / 70) .

ص: 35

وفي شرح هذا الحديث يقول ابنُ رجبٍ رحمه الله: " وهذا يدلُّ على جهادِ الأمراءِ باليدِ

وقد نصَّ على ذلك أحمدُ أيضاً في رواية صالح، فقال: التَّغييرُ باليدِ أنْ يُزِيلَ بيدِه ما فعلُه مِنِ المُنكراتِ، مثل أن يُريقَ خُمُورَهم، أو يَكْسِرَ آلاتِ الملاهي التي لهم، ونحو ذلك، أو يُبْطِلَ بيدِه ما أُمِرُوا بِه من الظُّلْمِ إن كان له قُدرَةٌ على ذلك، وكلُّ هذا جائزٌ، وليس هو من بابِ قِتالِهم، ولا من الخُرُوجِ عليهم الذي وَرَدَ النَّهيُّ عنه، فإنَّ هذا أكْثَرُ ما يُخشى منه أن يَقْتُلَ الآمرَ وحدَه". (1) والنُّصوصُ في وجوبِ الأمرِ بالمعروفِ، والنَّهي عن المنكرِ باليدِّ من الكتابِ، والسنةِ كثيرةٌ، وحسبنا منها ما ذُكِر.

(1) ـ انظر «جامع العلوم والحكم» لابن رجب (2 / 248-249) .

ص: 36

أمَّا الإجماعُ: وقد دَلَّ على وُجُوبِ "الأمرِ بالمعروفِ والنهي عن المنكرِ" إجماعُ الأمَّةِ، كما نقل ذلك الإمامُ النَّوويُّ حيث قال:" وقد تطابق على وُجُوبِ الأمرِ بالمعروفِ والنهي عن المنكر: الكتابُ، والسنةُ، وإجماعُ الأمةِ، وهو أيضاً من النَّصيحةِ التي هي الدِّين، ولم يخالفْ في ذلك إلَاّ بعضُ الرَّافضةِ ولا يُعْتدُّ بخلافِهم". (1) ونقل الإجماع ابنُ عبد البرِّ رحمه الله بقوله: " وأجمع المسلمون على أنَّ تغيير المنكر واجبٌ على من قَدِرَ عليه، وإنَّه إذا لم يلحقه بتغييرِه إلَاّ اللَّوم الذي لا يتعدَّى إلى الأذى فإنَّ ذلك لا يجب أن يمنعه، فإن لم يقدرْ فبلسانِه، فإن لم يقدرْ فبقلبِه، ليس عليه أكثر من ذلك، وإذا أنكر بقلبِه فقد أدَّى ما عليه إذا لم يسْتَطِعْ سوى ذلك". (2) وقد صرَّح به إمامُ الحرمين، كما نقله عنه النووي بقوله: " قال العلماءُ: ولا يختصُّ الأمر بالمعروفِ والنهي عن المنكرِ بأصحابِ الولايات؛ بل ذلك جائزٌ لآحادِ المسلمين، قال إمام الحرمين: والدليل عليه إجماعُ المسلمين؛ فإنَّ غيرَ الوُلاةِ في الصَّدرِ الأولِ، والعصرِ الذي يليه كانوا يأمرون بالمعروفِ ويَنْهَوْن عن المنكرِ مع

(1) ـ انظر «شرح مسلم» للنووي (1 / 22) .

(2)

ـ انظر «الكنز الأكبر» لعبد الرحمن الحنبلي ص (113) .

ص: 37

تقريرِ المسلمين إياهم، وتركِ توبيخِهم على التَّشاغُلِ بالأمر بالمعروف والنهي عن المنكر من غيرِ ولايةٍ". (1)

وقال القرطبي عند تفسير قوله تعالى: {إِنَّ الَّذِينَ يَكْفُرُونَ بِآيَاتِ اللَّهِ وَيَقْتُلُونَ النَّبِيِّينَ بِغَيْرِ حَقٍّ} [آل عمران 21] : " أجمعَ المسلمون فيما ذكره ابنُ عبد البر أنَّ المنكرَ واجبٌ تغييرُه على كُلِّ مَنْ قَدِرَ عليه، وأنَّه إذا لم يلحقْهُ بتغييرِه إلَاّ اللَّومُ الذي لا يتعدَّى إلى الأذى فإنَّ ذلك لا يجبُ أن يمنعه من تغييرِه، فإن لم يقدرْ فبلسانِه، فإن لم يقدرْ فبقلبه ليس عليه أكثر من ذلك". (2) فبهذا الإجماعِ الصحيحِ يدلُّ على وجوبِ تغيير المنكرِ على كُلِّ مَنْ قَدِرَ عليه سواءٌ كان حاكماً أو محكوماً.

(1) ـ انظر السابق (2 / 23)

(2)

ـ انظر «الجامع لأحكام القرآن» للقرطبي (4 / 48) .

ص: 38

أمَّا فعلُ الصحابةِ: فعن أبي سعيدٍ رضي الله عنه قال: «كان رسولُ الله صلى الله عليه وسلم الله عليه وسلم يخرجُ يوم الفطر والأضحى إلى المصلَّى، فأوَّلُ شيءٍ يبدأ به الصلاة، ثم ينصرف فيقوم مقابل الناس - والناس جلوس على صفوفهم - فيعظهم ويوصيهم ويأمرهم، فإن كان يريدُ أن يقطعَ بعثا قطعه، أو يأمرَ بشيءٍ أمر به ثم ينصرف. قال أبو سعيد: فلم يزل الناس على ذلك حتى خرجتُ مع مروان - وهو أمير المدينة - في أضحى أو فطرٍ، فلمَّا أتينا المُصَلَّى إذا منبرٌ بناه كثيرُ بنُ الصلت، فإذا مروان يريدُ أن يرتقيه قبل أن يُصلِّي فَجَبَذْتُ بثوبِه فجبذني، فارتفع فخطب قبل الصلاة، فقلت له: غيَّرْتُم والله!، قال: أبا سعيدٍ قد ذهب ما تعلم، فقلت: ما أعلم والله خيرَ ممَّا لا أعلم، فقال: إنَّ الناس لم يكونوا يجلسون لنا بعد الصلاة فجعلتُها قبل الصلاة» . (1) فها هو أبو سعيد الخدري رضي الله عنه قد باشر التَّغييرَ بيدِه فَجَبَذَ بثوبِ مروانَ - وهو الأمير يومئذٍ! -. قال الإمامُ النووي في شرح هذا الحديث: " وفيه الأمرُ بالمعروفِ والنهي عن المنكرِ، وإن كان المنكرُ عليه والياً، وفيه أنَّ الإنكارَ عليه يكون باليدِّ

(1) ـ أخرجه البخاري (956) واللفظ له، ومسلم (889) .

ص: 39

لمن أمكنه، ولا يجزئ عن اليدِّ اللِّسانُ مع إمكانِ اليدِّ". (1) وهناك الكثيرُ من صَنيعِ الصحابةِ رضي الله عنهم ممَّا فيه دلالةٌ واضحةٌ على الإنكارِ باليدِّ على الأراء وغيرهم مع مراعاة جلب المصلحة ودفع المفسدة.

فعلُ التَّابعين: عن إبراهيم قال: " كان أصحابُ عبدِ الله يستقبلون الجواري معهنَّ الدُّفوف في الطُّرقِ فيخرقونها". (2) وعن أبي حصين أنَّ رجلاً كسر طُنْبوراً لرجلٍ، فخاصمه إلى شُريحٍ فلم يُضَمِّنْه شيئاً، (3) وعدم تضمين القاضي شريحٍ لهذا الرجلِ يدلُّ على أنَّه يجوزُ له كسرُ هذا الطنبور.

أقوالُ العلماء:

من الحنفية: قال أبو بكر الجصاص رحمه الله: " الأمرُ بالمعروفِ والنهي عن المُنكرِ لهما حالان: حالٌ يمكن فيها تغييرُ المنكر وإزالته، ففرضٌ على من أمكنه إزالةُ ذلك بيدِه أن يُزِيلَه

". (4)

ومن المالكيَّة: قال أبو بكرٍ الطُّرطُوشي: " فانظروا يرحمكم الله أينما وجدتم سِدرةً أو شجرةً يقصدُها الناس ويُعظِّمُون من شأنِها، ويرجون البُرءَ والشِّفاءَ من قِبلها، وينوطون بها المسامير والخِرقَ فهي ذاتُ أنواطٍ فاقطعوها". (5)

ومن الشافعية:

(1) ـ انظر «شرح مسلم» للنووي (6 / 178) .

(2)

ـ أخرجه ابن جرير في «تهذيب الآثار» (4 / 240) .

(3)

ـ أخرجه البخاري تعليقا (5 / 145) ووصله ابن أبي شيبة (7 / 312) ، وأخرجه ابن جرير في «تهذيب الآثار» (4 / 241) . وإسناده صحيح.

(4)

ـ انظر «أحكام القرآن» للجصاص (2 / 31) .

(5)

ـ انظر «الحوادث والبدع» للطرطوشي ص (105) .

ص: 40

وقد مرَّ معنا كثيرٌ من كلامِ أئمَّةِ الشِّافعية، لا سيما الغزَّالي، والنَّووي، ومن كلامِ النَّووي ما ذكره بقولِه:" قال إمام الحرمين رحمه الله: ويسوغ لآحادِ الرعيةِ أن يَصُدَّ مُرتكبَ الكبيرةَ، إن لم يندفعْ عنها بقولِه ما لم ينته العمل إلى نصبِ قتالٍ وشَهْرِ سلاحٍ، فإن انتهى الأمر إلى ذلك، رُبِطَ الأمرُ بالسُّلطان". (1)

وقال أيضاً رحمه الله عند ذكره لدرجاتِ الحسبة: " الدرجة السابعة: مُباشرةُ الضَّربِ باليدِّ والرِّجلِ وغيرِ ذلك ممَّا ليس فيه شَهْرُ سِلاحٍ، وذلك جائزٌ للآحادِ بشرطِ الضَّرورةِ والاقتصارِ على قَدْرِ الحاجةِ في الدَّفعِ، فإذا اندفع المنكرُ فينبغي أن يَكُفَّ". (2)

(1) ـ انظر «شرح مسلم» للنووي (2 / 25) .

(2)

ـ انظر «إحياء علوم الدين» للغزالي (2 / 332) .

ص: 41

أقوال الحنابلة: قال ابنُ القيم رحمه الله: " وقال إسحاقُ بنُ إبراهيم: سئل أحمدُ عن الرَّجلِ يَرى الطُّنبورَ، أو طبلاً مُغطَّى أيَكْسِرَه؟ قال إذا تَبَيَّنَ أنَّه طُنْبورٌ أو طَبْلٌ كسرَه ". (1) وقال أيضاً: " وقال المروزي: قلت لأبي عبد الله: دُفِعَ إليَّ إبريقُ فضةٍ لأبيعَه، ترى أن أكسِرَه أو أبيعه كما هو؟ قال: أكْسِرْهُ

وقال: بعثني أبو عبد الله إلى رجلٍ بشيءٍ فدخلت عليه، فأتى بمكحلةٍ رأسُها مُفَضَّضٌ فقطعتُها، فاعجبَهُ ذلك وتبسم. وقال ابنُ القيم بعد هذا:" ووجهُ ذلك أنَّ الصِّنَاعةِ مُحَرَّمةٌ فلا قيمةَ لها، ولا حُرْمةَ، وأيضاً فتعطيلُ هذه الهيئةِ مطلوبٌ فهو بذلك مُحْسنٌ، وما على المحسنين من سبيل". (2)

(1) ـ انظر «الطرق الحكمية» لابن القيم ص (271،272) .

(2)

ـ انظر السابق ص (274، 275) .

ص: 42

وهذا الإمامُ ابنُ قدامة رحمه الله يقولُ عند حديثِه عن الوليمةِ، وما يفعلُه مَنْ دُعيَ إليها فوجد فيها تصاوير:" وإن كانت (الصور) على السُّتُورِ والحِيطانِ، وما لا يُوطأ، وأمكنَهُ حَطُّها أو قَطْعُ رؤوسِها فَعَلَ وجَلَس، وإن لم يكنْ ذلك انصرفَ ولم يجلسْ، وعلى هذا أكثرُ أهلِ العلم". (1) وقال ابنُ القيم عند حديثِه عن الأنصابِ: " وقد كان بدمشق كثيرٌ من هذه الأنصابِ، فَيَسَّرَ الله سبحانه وتعالى كسرَها على يدِ شيخِ الإسلامِ، وحزبِ الله المُوحِّدين". (2) وقال ابنُ كثيرٍ رحمه الله: " وفي بُكرةِ يوم الجمعةِ المذكورِ دارَ الشيخُ تقيُّ الدِّين ابن تيمية رحمه الله، وأصحابُه على الخَمَّاراتِ والحاناتِ فكسروا آنيةَ الخُمُورِ، وشَقَّقُوا الظُّرُوفَ، وأراقُوا الخُمُورَ، وعَزَّرُوا جماعةً من أهلِ الحاناتِ المُتَّخَذةِ لهذه الفواحشِ، ففرح الناسُ بذلك". (3)

(1) ـ انظر «المغني» لابن قدامة (8 / 111) .

(2)

ـ انظر «إغاثة اللهفان» لابن القيم (1 / 212) .

(3)

ـ انظر «البداية والنهاية» لابن كثير (14 / 12) .

ص: 43

أقوال الظاهرية: قال الإمامُ ابن حزمٍ رحمه الله: " مسألةٌ: والأمرُ بالمعروفِ والنهي عن المنكرِ فرضٌ على كلِّ مسلمٍ إن قَدِرَ بيدِه فبيدِه، وإن لم يقدْر بيدِه فبلسانِه، وإن لم يقدرْ بلسانِه فبقلبِه ولا بُدَّ، وذلك أضعفُ الإيمان، فإن لم يفعلْ فلا إيمان له، ومن خافَ القتلَ أو الضَّربَ، أو ذَهابَ المال فهو عُذْرٌ يُبِيحُ له أن يُغيرَ بقلبِه فقط، ويسكت عن الأمرِ بالمعروف وعن النهي عن المنكر فقط

". (1) وقال الإمامُ الشوكاني رحمه الله: "

ثم إذا كان قادراً على تغييرِه (أي المنكر) بيدِه كان ذلك فرضاً عليه ولو بالمقاتلةِ، وهو إن قُتِلَ فهو شهيدٌ، وإن قتَلَ فاعلَ المنكرِ فهو بالحقِّ والشرعِ قتَلَه، ولكنه يُقَدِّمُ الموعظةَ بالقولِ اللَّيِّنِ، فإن لم يُؤَثِّرْ ذلك جاء بالقولِ الخَشِنِ، فإن لم يُؤثِّرْ ذلك انتقلَ إلى التغييرِ باليدِّ، ثم المقاتلةِ إن لم يمكن التغيير إلا بها، فإذا كان غيرَ قادرٍ على الإنكارِ باليدِّ أنكرَ باللِّسانِ فقط وذلك فرضٌ، فإن لم يستطعْ الإنكارَ باللِّسانِ أنكرَ بالقلبِ، وهذا يقدرُ عليه كُلُّ أحدٍ، وهو أضعفُ الإيمانِ، كما أخبر الصادقُ المصدوقُ صلى الله عليه

(1) ـ انظر «المحلى» لابن حزم (9 / 361) .

ص: 44

وسلم". (1) فهذه أقوالُ العلماءِ من فقهاءِ المذاهب الأربعةِ وغيرِهم، تُبَيِّنُ بوضوحٍ وجلاءٍ جوازَ تغييرِ المنكرِ باليدِّ لآحادِ الرعيةِ، وإنَّما وقع الخلافُ فيما لو وصل التغييرُ باليدِّ إلى جمعِ الأعوانِ وشَهْرِ السِّلاحِ، ففيهم من أجاَز التغييرَ عند ذلك كالغزَّالي، ومنهم من مَنَعَ التَّغييرَ حينئذٍ كالإمامِ الجويني وغيره من أهلِ العلمِ.

وفي مثل هذا الخلاف يمكننا - والله أعلم - أن نجمع بين الرأيين؛ وذلك بالنظر إلى جسامةِ المنكر وخطورتِه، فإذا كان المنكرُ من الجسامةِ بحيث يترتَّبُ على بقائِه مفسدةٌ أكبرُ من تلك التي تُتَوَقَّعُ من تغييرِه عن طريقِ شهرِ السلاحِ وجمعِ الأعوانِ، فلا بأسَ حينئذٍ من شهر السلاح في التَّغييرِ، أمَّا إنْ كان المنكرُ أهونَ من ذلك، أو كان في إشهار السلاح مفسدةٌ أعظمُ من المنكرِ فلا يلجأُ حينئذٍ إلى تلك الوسيلةِ، وهذا يدخلُ في بابِ تحقيقِ "المصالحِ والمفاسدِ" ففي ما ذكرناه هنا جمعٌ بين الأقوال، (2) والله أعلم.

(1) ـ انظر «السيل الجرار» للشوكاني (4 / 586) .

(2)

ـ انظر «حكم تغيير المنكر

» لعبد الآخر (41) .

ص: 45