الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
الفصل الأول
التغيير ضرورة وغايةً
بيان السنة ضرورة التغيير
إن منهج الإسلام في بناء المسلم عقيدةً وسلوكا لا يرمي إلى أن يجعله صالحاً في نفسه فحسب، بل يتجاوز ذلك إلى أن يجعله الصالح المصلح، فيه يتحقق الوجود المتمكن للأمة المسلمة، وبه ترتقي الأمة من طور الاتصاف (بالإسلامية) انتساباً إلى أفق (المسلمة) سلوكا ووجودا.
المسلم الصالح في نفسه فحسب، به تكون الأمةُ الإسلامية، ولا تقوم به الأمة المسلمة، فإنَّ المسلمة أمة صالحة في نفسها مصلحة ما حولها. ومن ثمَّ كانت دعوة الإٍسلام رامية دائماً إلى الصلاح والإصلاح معاً، ولن يكون إصلاح البتة إلا بتحقق الصلاح الذاتي وتمكنه.
يقول الله تعالى: {وَالْمُؤْمِنُونَ وَالْمُؤْمِنَاتُ بَعْضُهُمْ أَوْلِيَاءُ بَعْضٍ يَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَيَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنْكَرِ وَيُقِيمُونَ الصَّلَاةَ وَيُؤْتُونَ الزَّكَاةَ وَيُطِيعُونَ اللَّهَ وَرَسُولَهُ أُولَئِكَ سَيَرْحَمُهُمُ اللَّهُ إِنَّ اللَّهَ عَزِيزٌ حَكِيمٌ} (التوبة: 71) .
{وَأْمُرْ أَهْلَكَ بِالصَّلَاةِ وَاصْطَبِرْ عَلَيْهَا} (طه: 132) .
{وَلَيَنْصُرَنَّ اللَّهُ مَنْ يَنْصُرُهُ إِنَّ اللَّهَ لَقَوِيٌّ عَزِيزٌ} {الَّذِينَ إِنْ مَكَّنَّاهُمْ فِي الْأَرْضِ أَقَامُوا الصَّلَاةَ وَآتَوُا الزَّكَاةَ وَأَمَرُوا بِالْمَعْرُوفِ وَنَهَوْا عَنِ الْمُنْكَرِ وَلِلَّهِ عَاقِبَةُ الْأُمُورِ} (الحج:40ـ 41) .
{يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا قُوا أَنْفُسَكُمْ وَأَهْلِيكُمْ نَارًا} (التحريم: 6)
في تلك الآيات وغيرها يمتزج الصالح بالمصلح ليشكل كنه المسلم الذي به تقوم الأمة المسلمة، التي لا تستقيم حركة الحياة بغير قيادتها وريادتها.
وفي السنة أحاديث كثيرة، يمتزج فيها الصلاح بالإصلاح:
عن درة بنت أبي لهب، قالت:«قام رجُلٌ إلى النبيَّ صلى الله عليه وسلم وهو على المنبر فقال: يا رسول الله! أيَّ الإسلام خير؟ فقال صلى الله عليه وسلم: خير الناس أقرؤهم وأتقاهم وآمرهم بالمعروف وأنهاهم عن المنكر وأوصلهم للرحم» . امتزج الصلاح الذَّاتي (أقرؤهم وأتقاهم) بالإصلاح الجمعي (آمرهم بالمعروف وأنهاهم عن المنكر، وأوصلهم للرحم) ، فليس (الإقراء) حسن التلاوة والحفظ فحسب، بل هو إلى ذلك أيضا: حسن فقه ما يقرأ، وحسن تطبيقه وطاعة ما به أمر وعنه نهي.
فالأمة المسلمة لا يكون المرء فيها صالحاً في نفسه، منصرفا عن غيره، مشتغلا بحاله، بل هو صالح في نفسه، ومصلح لما حوله ثانيا: إنسانا وكونا.
والحق عز وجل جعل هذه الأمة خير أمة أخرجت للناس بصلاحها وإصلاحها معاً: {كُنْتُمْ خَيْرَ أُمَّةٍ أُخْرِجَتْ لِلنَّاسِ تَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَتَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنْكَرِ وَتُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ} (آل عمران: 110) .
فهي أمة أخرجت للناس، أي لما فيه صالحهم، وقد جعل قوله:{تَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ}
…
إلخ شرط هذه الخيرية، وبيان كونها أخرجت للناس ولمصلحتهم. وقد فقه الصحابة رضي الله عنهم ذلك فقها بالغاً، فتحققت بهم فقها وسلوكاً الأمة المسلمة، كما يحبها الله تعالى: عن عمر بن الخطاب رضي الله عنه قال: لو شاء الله لقال (أنتم خير أمة) فكنا كلنا ولكن قال (كنتم) فهي خاصة لأصحاب محمد صلى الله عليه وسلم ومن صنع صنيعهم، قوله (من صنع صنيعهم) : بيان أن من تحقق فيه كما تحقق في أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم من الصلاح والإصلاح في القرون التالية إلى يوم القيامة، فهو منهم.
وقد فسرها أبو هريرة أيضا تفسيرا كاشفا عن حقيقة هذه السِّمة الرافعة للأمة من طور (الإسلامية)، إلى أفق (المسلمة) :
روى البخاري عن أبي هريرة رضي الله عنه: {كُنْتُمْ خَيْرَ أُمَّةٍ أُخْرِجَتْ لِلنَّاسِ} قال: خير الناس للناس: تأتون بهم في السلاسل في أعناقهم، حتى يدخلوا في الإسلام.
ليس في هذا دعوة إلى إكراه الناس على الإسلام، وقسرهم عليه، فإن سيدنا أبا هريرة أفقه وأحكم من أن يفسرها تفسيراً يصطدم مع قول الله تعالى:
{لَا إِكْرَاهَ فِي الدِّينِ قَدْ تَبَيَّنَ الرُّشْدُ مِنَ الْغَيِّ} (البقرة: 256) .
ولكنه فسرها تفسير أهل الحكمة والبلاغة العالية: إنه يريد، إنكم تكونون خير الناس للناس، إذا ما دعوتموهم إلى الإسلام بالحكمة والقدوة والأسوة والسلوك الملتزم هدي الله تعالى في كل حال، وبالحلم والأناة والصبر والمصابرة فتأسرونهم وتأخذون بمجامع قلوبهم وعقولهم فقهاً وسلوكاً، فينقادون لكم وللدخول في الإسلام إعجاباً واقتناعاً، كانقياد الأسير المغلول في السلاسل، فهو أسر دعوة وقدوة وأسوة، لا أسر أغلال وأصفاد، فسيدنا أبو هريرة عليم بأن قسر امرئ على عقيدة ما، لا يكون خيراً له، ولو أنه أراد ظاهر عبارته لكان صدرها متناقضاً مع عجزها، كما لا يخفى، وأبو هريرة، أحكم من أن يختلط عليه ما يقول.
ففي الآية بيان حقيقة الأمة المسلمة، وقوامها: فعل الخير والدعوة إليه والإعانة عليه، وترك الشرِّ والنهي عنه، حتى تستقيم حركة الحياة، فإن بذلك بقاء الحياة وصلاحها، ولذلك جعل النبي صلى الله عليه وسلم الحياة في هذه الأرض كمثل الحياة في سفينة تمخر عباب البحر، لا نجاة لها، ولمن فيها، إلا بالدعوة إلى الخير، والأمر بالمعروف، والنهي عن المنكر، والأخذ على أيدي المفسدين.