الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
العجز عن التغيير باليد أو اللسان
إذا ما كان تغيير المنكر ذا مراتب ثلاث، فإنَّ الرسول صلى الله عليه وسلم قد قيد فرضية التغيير باليد بالاستطاعة، وكذلك التغيير باللسان، فإن عجز عن الأولى، انتقل إلى الثانية، فإن عجز عنها أيضاً انتقل إلى الأخير (التغيير القلبي) .
والعجز نوعان: حسيّ ومعنوي. يكون الحسي ّ لمرض أو فقد الأداة التي يكون بها التغيير، فيقدر العفو بقدر العجز:{بَلِ الْإِنْسَانُ عَلَى نَفْسِهِ بَصِيرَةٌ} {وَلَوْ أَلْقَى مَعَاذِيرَهُ} (القيامة: 14- 15) ، فإن تحقق العجز الحسيّ عن مباشرة التغيير اليدوي أو اللساني بقي وجوب إعانة من هو غير عاجز إعانةً مستطاعةً مثل المناصرة والمؤازرة، وتكثير السواد، والدعاء له بالتوفيق والتثبيت، وإخلافه في أهله إن غاب، ومناصحته والتواصي بالحق وبالصبر.
((عن زيد بن خالد، عن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: «من جهَّز غازيا في سبيل الله فقد غزا» (متفق عليه) .
ويكون العجز المعنوي في صور عديدة، منها ما يملك المرء إزالته والاعتصام منه، ومنها ما لا يستطيع إزالته.
مما يستطاع إزالته: العجز العلمي، فمن لم يستطع تغيير المنكر لجهله به أو بآدابه وضوابطه، وجب عليه السعي إلى أن يتعلم، ما يجهل، حتى يقوم بهذه الفريضة، التي يحسن تحقيقها على نحو يحقق للأمة رسالتها.
وإزالة العجز العلمي قد تيسرت طرائقه، فمنه ما لا يكلف جهداً ولا مالاً لما يبذله أهل العلم من نشر العلم النافع.
ومن العجز الذي قد لا يستطاع إزالته لبعض الأمة: خوف مكروه على النفس أو الأهل، وهو درجات وأحكام:
· إذا خاف المرء على نفسه القتل لذلك، وعلم أن في قتله بذلك نفعاً وأثراً عاجلاً أو آجلاً، فإن كان من أهل العلم المقتدى بهم، فالأعلى والأوجب ألا يصده هذا عن القيام بحق التغيير باليد أو اللسان، فقد ندبت السنة لذلك.
روى الحاكم مرفوعاً عن جابر: «سيد الشهداء حمزةُ بنُ عبد المطلب، ورجلُُ قام إلى إمام جائر فأمره ونهاه فقتله» .
وروى مسلم بسنده عن ((صهيب)) حديثاً طويلاً عن النبي صلى الله عليه وسلم، عن غلام ممن كان قبلنا، بحث عن الحق والهدى حتى علمه وآمن به ودعا إليه، وعاش له، فتوعده الملك إن لم يكف عن دعوته قتله، فوجد أن في قتله نفعاً للدعوة فصبر، يقول الرسول صلى الله عليه وسلم: «فقيل له: ارجع عن دينك، فأبى، فدفعه إلى نفرٍ من أصحابه فقال: اذهبوا به إلى جبل كذا وكذا، فاصعدوا به الجبل، فإذا بلغتم ذروته فإن رجع عن دينه وإلا فاطرحوه، فذهبوا به فصعدوا الجبل فقال:((اللهم اكفنيهم بما شئت)) ، فَرَجَفَ بهم الجبل، فسقطوا وجاء يمشي إلى الملك، فقال له الملك: ما فعل أصحابك؟ قال كفانيهم اللهُ، فدفعه إلى نفر من أصحابه، فقال: اذهبوا به فاحملوه على ((قُرقُورٍ)) فتوسطوا به البحر، فإن رجع عن دينه وإلا فاقذفوه، فذهبوا به، فقال:((اللهم اكفنيهم بما شئت)) فانكفأت بهم السفينة، فغرقوا، وجاء يمشي إلى الملك، فقال له الملك: ما فعل أصحابك؟ قال كفانيهم اللهُ، فقال للملك: إنك لست بقاتلي حتى تفعل ما آمرك به، قال: وما هو! قال: تجمع الناس في صعيد واحد، وتصلبني على جذع، ثمَّ خذ سهما من كنانتي،
ثم ضع السهم في كبد القوس ثم قل: باسم الله رب الغلام، ثم ارمني به فإنك إن فعلت ذلك قتلتني، فجمع الناس في صعيد واحد، وصلبه على جذع ثم أخذ سهما من كنانته، ثم وضع السهم في كبد القوس، ثم قال: باسم الله ربِّ الغلام، ثم رماه، فوقع السهم في صدغه فوضع يده في صدغه في موضع السهم فمات.
فقال الناس: آمنا برب الغلام، آمنا برب الغلام آمنا برب الغلام، فأتى الملك، فقيل له: أرأيت ما كنت تحذر؟ قد والله نزل بك حذرك، قد آمن الناس، فأمر بالأخدود في أفواه السّكك فخدّت، وأضرم النيران، وقال من لم يرجع عن دينه فاحموه فيها، أو قيل له: اقتحم ففعلوا حتى جاءت امرأة ومعها صبّي لها، فتقاعست أن تقع فيها فقال لها الغلام: يا أمه، اصبري، فإنك على الحق» .
في هذا القصص الحق دلالة باهرة وإيذان بالغ بأن تضحية الداعية والعالم والقدوة بنفسه في سبيل دعوته الحقة ذات أثر عظيم، ونفع عميم للدعوة وتأجيج جذوة الاستمساك بها في صدور الأمة، فيكون ذلك أنفع للدعوة.
والعالم الداعية ذو الحكمة قادر ـ بعون الله تعالى ـ على أن يقدر الأمور بما هو أنفع وأنجع.
وكل ذلك من باب العزيمة التي هي أليق بحال أهل العلم والدعوة، ويبقى لهم باب الفسحة والرخصة مفتوحاً، فمن خاف القتل إن غيّر المنكر، فله أن يدعه حتى يزول خوفه، ولكن الصبر والتضحية أعلن وأسمى.
يقول ((ابنُ بطّال)) : ((النصيحة لازمة على قدر الطاقة إذ علم الناصح أنه يُقبل نصحه ويُطاع أمره، وأمن على نفسه المكروه، فإن خشي على نفسه أذىً، فهو في سعة) .
ويجعلون له في سيدنا ((هارون)) عليه السلام في هذا أسوة، فقد كفّ عن بني إسرائيل، وحملهم عن تغيير منكر عظيم هو عين الشرك حين خشي على نفسه القتل:
{وَلَمَّا رَجَعَ مُوسَى إِلَى قَوْمِهِ غَضْبَانَ أَسِفًا قَالَ بِئْسَمَا خَلَفْتُمُونِي مِنْ بَعْدِي أَعَجِلْتُمْ أَمْرَ رَبِّكُمْ وَأَلْقَى الْأَلْوَاحَ وَأَخَذَ بِرَأْسِ أَخِيهِ يَجُرُّهُ إِلَيْهِ قَالَ ابْنَ أُمَّ إِنَّ الْقَوْمَ اسْتَضْعَفُونِي وَكَادُوا يَقْتُلُونَنِي فَلَا تُشْمِتْ بِيَ الْأَعْدَاءَ وَلَا تَجْعَلْنِي مَعَ الْقَوْمِ الظَّالِمِينَ} {قَالَ رَبِّ اغْفِرْ لِي وَلِأَخِي وَأَدْخِلْنَا فِي رَحْمَتِكَ وَأَنْتَ أَرْحَمُ الرَّاحِمِينَ} (الأعراف: 150 ـ 151) ،
يقول ابن العربي: ((وفي هذا دليل على أن لمن خشي القتل عند تغيير المنكر، أن يسكت عنه)) .
في هذا الاستدلال نظر مفصل:
إنَّ سيدنا ((هارون)) إنما كف عن منع بني إسرائيل، بعد أن بلغ في ذلك مبلغا عظيما، وخشي على الدعوة، وهو خليفة أخيه ((موسى)) عليهما السلام، فلو أنه قتل، وليس فيهم ((موسى)) عليه السلام لكانت آثار ذلك جدَّ فادحة على الدعوة فأيقن بنور النبوة وحكمتها، أن الصبر عليهم، وترك التصدي لهم، حتى يعود موسى عليه السلام، أنفع وأعلى للدعوة وللأمة، من الإقدام على التصدي والاستشهاد في سبيل الله، فإن في الاستشهاد خيره وحده، وهو إنما يريد الخير للأمة والدعوة، فسيدنا ((هارون)) عليه السلام ما سكت مخافة قتله فقط، ((إنما خشي تفرق الأمة من بعد قتله:{إِنِّي خَشِيتُ أَنْ تَقُولَ فَرَّقْتَ بَيْنَ بَنِي إِسْرَائِيلَ وَلَمْ تَرْقُبْ قَوْلِي} (طه: 94) ، فحرصه على القيام بحق ما كلفه به ((موسى)) عليه السلام، وهو ذاهب إلى الميقات {اخْلُفْنِي فِي قَوْمِي وَأَصْلِحْ وَلَا تَتَّبِعْ سَبِيلَ الْمُفْسِدِينَ} (الأعراف: 142) ، وهو السبب الرئيس إلى كف سيدنا ((هارون)) عليه السلام عن التصدي لهم، من بعد أن بلغ في دعوتهم والتصدي لهم مبلغاً عظيماً.
وللعالم الداعية في ذلك أسوة حسنة، فإذا ما رأى أن تصديه للمنكر وإقدامه على الاستشهاد في سبيل الله تعالى، خسران بالغ للدعوة والأمة، وإن كان فيه نفع له وحده، أن يقدم صالح الدعوة والأمة على صالحه هو، وذلك كأن يكون إماماً في قومه ذا منهج بديع في الدعوة وذا أثر نافذ في القلوب لا يتحقق من غيره كمثل تحققه منه، وأنه يستفاد منه سالماً في الأمة أكثر من استشهاده، فليكن حرصه حينذاك على سلامته من القتل أولى وأعلى من حرصه على استشهاده، حتى يتمكن من تربية قادة يخلفونه وأجيال تحمل أمانة الدعوة من بعده.
أما إن رأى العالم بحكمته أنّ في صبره واستشهاد إلهاباً وتأجيجاً لجذوة الانتصار للحق في قلوب الأمة، وكان في الناس من يخلفه في الدعوة، فالأعلى أن يصبر حتى يقتل.
· وإن كان الخائف على نفسه القتل، ليس من أهل العلم والقدوة، فأحبّ إليّ أن يدع ذلك التغيير حتى يزول ما يخشاه، ما دام في الأمة من يقوم به ممن هو الأعلى منه من أهل العلم، شريطة أن يناصرهم بما يستطيع، وأن يخلفهم في أهليهم.
أما الخوف على الأهل، ولا سيما الوالدان والزوجة والأولاد، فالأحب إليّ أن يقدر العالم القدوة حالهم، فإن كان أهله ممن لا يفتنون في دينهم، وكان القتل أحب إلى نفوسهم، وكان القتل أيضاً أنفذ أثراً في الدعوة، وأهزُّ لعروش الطغيان، فالأولى القيام بحق التغيير، والصبر على الإيذاء والقتل {وَالَّذِينَ جَاهَدُوا فِينَا لَنَهْدِيَنَّهُمْ سُبُلَنَا وَإِنَّ اللَّهَ لَمَعَ الْمُحْسِنِينَ} (العنكبوت: 69) .
أما إن كانوا ممن يخشى عليهم الفتنة في الدين، فالأعلى بل الأوجب حمايتهم من الفتنة، بالكف عما يؤدي إليها من تغيير المنكر باليد أو اللسان، حتى يزول ما يخشاه عليهم وحتى يرقى إيمانهم إلى درجة الرسوخ والصمود أمام المحن.
وإذا ما كان حال الخوف على الأهل، لذوي العلم والقدوة، فإن حال غيرهم من العامة أولى بحمايتهم من الفتنة، بالكف عما قد يسبب تعرضهم للفتنة في دينهم.
· وإذا خاف المرء على نفسه وأهله التعذيب الجسدي، أو المعنوي الفاتن، فتُقدرُ الأمور بقدرها. إن كان قادراً على الصبر واحتماله، موقناً أنَّه لن يفتن في دينه، فالأعلى له وللدعوة وللأمة أن يستعين بالله تعالى على ذلك، ويصبر، ويصابر فيغير المنكر الذي رآه، سواء كان من العلماء القدوة أو ممن هم دون ذلك ما دام قد تحقق التيقن على الصبر والاحتمال. وأهل العلم وطلابه أولى بذلك من غيرهم، فإن الله تعالى ـ قد نعى على من يدعي الإيمان ولا يصبر على تكاليفه، وعلى مقتضيات الدفاع عنه ونشره.يقول جل جلاله {الم} {أَحَسِبَ النَّاسُ أَنْ يُتْرَكُوا أَنْ يَقُولُوا آمَنَّا وَهُمْ لَا يُفْتَنُونَ} {وَلَقَدْ فَتَنَّا الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ فَلَيَعْلَمَنَّ اللَّهُ الَّذِينَ صَدَقُوا وَلَيَعْلَمَنَّ الْكَاذِبِينَ} (العنكبوت: 1 -3) .
فما كان الإيمان قط كلمات تلوكها الألسنة، وإلا لما توقف في قولها كفار مكة حين طولبوا بالإيمان، وإنما هو تكاليف ومجاهدة ومصابرة.. ودعوى القيام بتلك التكاليف، يحتاج بيان الزائف منها والخالص، إلى ابتلاء وفتنة كمثل فتنة النار الذهب، فلا يبقى منه إلا ما خلص ونصح، فمن أذهبت الفتنة دعوة الإيمان من قلبه، فهو الكذاب الأشر في دعواه الإيمان.
وهذا الأنموذج المتخاذل المستخدم أمام الفتنة والبلاء، شاخص في كل جيل:{وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يَقُولُ آمَنَّا بِاللَّهِ فَإِذَا أُوذِيَ فِي اللَّهِ جَعَلَ فِتْنَةَ النَّاسِ كَعَذَابِ اللَّهِ وَلَئِنْ جَاءَ نَصْرٌ مِنْ رَبِّكَ لَيَقُولُنَّ إِنَّا كُنَّا مَعَكُمْ أَوَلَيْسَ اللَّهُ بِأَعْلَمَ بِمَا فِي صُدُورِ الْعَالَمِينَ} (العنكبوت: 10) .
وما كان الله مصوراً بهذا من ضعف لحظة عن احتمال الفتنة، ولكنه يصور بهذا من جعل فتنة الناس كعذاب الله ذلك الذي اختلطت في حسه الفارقات بين ما هو من عذاب الله، وما هو من فتنة الناس، فحسب أنهما سواء، ومثل هذا لا يقوم في قلب خالطه الإيمان مهما بلغ الناس في فنون الفتنة والتعذيب، فكل فتنة ومصيبة دون النار عافية.
فمن ادعى الإيمان ولم يصبر على الفتنة فيه، كانت دعواه سرابا، ولذا كان من مقتضيات دعوى الإيمان: الثبات عليه، واتخاذ الأسباب المحققة للصبر على تكاليفه، وقد حكى الحق موعظة ((لقمان)) لابنه لنتأسى بها:{يَابُنَيَّ أَقِمِ الصَّلَاةَ وَأْمُرْ بِالْمَعْرُوفِ وَانْهَ عَنِ الْمُنْكَرِ وَاصْبِرْ عَلَى مَا أَصَابَكَ إِنَّ ذَلِكَ مِنْ عَزْمِ الْأُمُورِ} (لقمان: 17) .
فهذه الدعائم الأربع لنجاح الداعية: إقامة الصلاة، بكل ما تتطلبه من مقتضيات في بناء شخصية الداعية، والأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، بكل ما يتطلبانه من زاد وفير لتكوين شخصيته، وتحقيق القيام بتلك الفريضة البالغة الأثر في تحقيق قيام الأمة المسلمة الرائدة القائدة، المخرجة الناس من جور السلاطين إلى عدل الإسلام، ثم الصبر على ما يلقاه الداعية من أهل الباطل من كل صنوف وفنون الافتتان والابتلاء.
وفي قصِ القرآن موعظة ((لقمان)) ابنه، إيذان بالغ بالأمر الإيجابي بما تضمنته من هذه الدعائم الأربع. فإنَّ أهل العلم ليذهبون إلى أنَّ سنَّة البيان القرآني في الأمر بالفعل: الإخبار عنه أو عن صاحبه في سياق المدح، أو الرضا عنه أو عن صاحبه، وذلك ما هو الجلي في القصص القرآني وما يحكيه من أخبار السابقين.
المسلم القوي الإيمان، جدير بأن يصبر على الفتنة والابتلاء، وجدير به قبل التصدي للدعوة إلى الله تعالى، وإلى تغيير المنكر بيده، أو لسانه، أن يدرب نفسه وأهله على الصبر على الابتلاء، وعلى الصمود أمام المحن، وأهوال التعذيب، الذي يبدع فيه الطواغيت وشياطينهم.
إنَّ صبر الدعاة وأهليهم على تعذيب الطغاة، لينكأ في سويداء الطواغيت أعظم من السهام المسمومة، وإنَّ مضاجعهم لتُقضُّ بهم من مصابرة الدعاة ومرابطتهم واحتسابهم ما يلقونه من تعذيبهم ونكالهم.
وفي القرآن حث بالغ على الصبر والمصابرة في سبيل الإيمان، والدعوة إليه، والدفع عنه، وتغيير المنكر:{يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اسْتَعِينُوا بِالصَّبْرِ وَالصَّلَاةِ إِنَّ اللَّهَ مَعَ الصَّابِرِينَ} (البقرة: 153) .
{يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اصْبِرُوا وَصَابِرُوا وَرَابِطُوا وَاتَّقُوا اللَّهَ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ} (آل عمران: 200) .
وعلى الرغم من ذلك، فقد جعل الله لمن خشي على نفسه، أن يمسك عن التغيير باليد أو اللسان، بل أذن له فيما فوق ذلك: أذن له أن يكفر بلسانه وحده مع اطمئنان قلبه بالإيمان إذا ما خشي على نفسه: {مَنْ كَفَرَ بِاللَّهِ مِنْ بَعْدِ إِيمَانِهِ إِلَّا مَنْ أُكْرِهَ وَقَلْبُهُ مُطْمَئِنٌّ بِالْإِيمَانِ وَلَكِنْ مَنْ شَرَحَ بِالْكُفْرِ صَدْرًا فَعَلَيْهِمْ غَضَبٌ مِنَ اللَّهِ وَلَهُمْ عَذَابٌ عَظِيمٌ} (النحل: 106) .
· فإذا خاف المرء على عرضه أو عرض أهله، بانتهاك حرمته، كمثل ما يفعل الطواغيت الآن في المعتقلات والسجون، فإنّ الأعلى في هذه الحال أن يكف المسلم عن تغيير المنكر بيده أو لسانه، ويقيم على تغييره بقلبه، على النحو الذي وضّحناه، فإن حفاظ المسلم على عرضه وعرض أهله أولى وأوجب من الحفاظ على نفسه وأهله وماله.
والطواغيت اليوم يعلمون أنه لا يفت في عضد الدعاة كمثل ما يلم بأعراضهم، فإذا بهم اليوم يسلكون ذلك المسلك الماحق:{وَقَدْ مَكَرُوا مَكْرَهُمْ وَعِنْدَ اللَّهِ مَكْرُهُمْ وَإِنْ كَانَ مَكْرُهُمْ لِتَزُولَ مِنْهُ الْجِبَالُ} {فَلَا تَحْسَبَنَّ اللَّهَ مُخْلِفَ وَعْدِهِ رُسُلَهُ إِنَّ اللَّهَ عَزِيزٌ ذُو انْتِقَامٍ} (إبراهيم: 46 ـ 47) .
{أَفَأَمِنَ الَّذِينَ مَكَرُوا السَّيِّئَاتِ أَنْ يَخْسِفَ اللَّهُ بِهِمُ الْأَرْضَ أَوْ يَأْتِيَهُمُ الْعَذَابُ مِنْ حَيْثُ لَا يَشْعُرُونَ} {أَوْ يَأْخُذَهُمْ فِي تَقَلُّبِهِمْ فَمَا هُمْ بِمُعْجِزِينَ} {أَوْ يَأْخُذَهُمْ عَلَى تَخَوُّفٍ فَإِنَّ رَبَّكُمْ لَرَءُوفٌ رَحِيمٌ} (النحل: 45 ـ 47) .
تلك الأحوال الثلاثة، التي ينظر في أثرها في من يقوم بتغيير المنكر، بيده أو بلسانه، كفاً عنه، أو إبلاغاً في القيام به: حال الخوف من القتل على نفسه أو أهله، حال الخوف على النفس أو الأهل من انتهاك العرض.
أما دون ذلك من صور الخوف وأحواله، كإيذاء في مال أو عمل أو غير ذلك، فإن الذي تقتضيه المسؤولية الإيمانية الجهادية على كل مسلم ومسلمة الحرص البالغ على الانتصار للدعوة، والقيام بحق تغيير المنكر بما يسع المرء من يد أو لسان، واحتساب كل ما يلقاه من إيذاء وأضرار دنيوية في ماله وعمله وجاهه وراحته وطمأنينته وحريته المكفولة له شرعاً، فلا يليق بمسلمٍ يعتز بإسلامه أن يجعل حرصه على ماله أو وظيفته أو تجارته
…
إلخ أحبَّ إليه وأعزَّ عليه من الله عزَّ وعلا، ومن رسوله صلى الله عليه وسلم وتطهير الأمة من المنكر.
((وهذا التجرد لا يطالب به الفرد وحده، إنما تطالب به الجماعة المسلمة، فما يجوز أن يكون هناك اعتبار لعلاقة أو مصلحة، يرتفع على مقتضيات العقيدة في الله ومقتضيات الجهاد في سبيل الله.
وما يكلف الله الفئة المؤمنة هذا التكليف، إلا وهو يعلم أنَّ فطرتها تطيقه.. فالله لا يكلف نفساً إلا وسعها، وإنه لمن رحمة الله، بعباده أن أودع فطرتهم هذه الطاقة العالية من التجرد والاحتمال، وأودع فيها الشعور بلذة علوية لذلك التجرد لا تعدلها لذائذ الأرض كلها.. لذَّة الشعور بالاتصال بالله، ولذة الرجاء في رضوان الله، ولذة الاستعلاء على الضعف والهبوط والخلاص من ثقلة اللحم والدم، والارتفاع إلى الأفق المشرق الوضيء، فإذا غلبتها ثقلة الأرض، ففي التطلع إلى الأفق ما يجدد الرغبة الطامعة في الخلاص والفكاك)) .
وفي قوله تعالى: {فَتَرَبَّصُوا حَتَّى يَأْتِيَ اللَّهُ بِأَمْرِهِ} ، تهديد بالغ لمن لم ينعتق من أسر حبَّ الأهلين، ومتاع الحياة الدنيا، وتفضيله على حبَّ الله تعالى ورسوله صلى الله عليه وسلم، والجهاد في سبيل الله جل جلاله.
وفي هذا إيذان عظيم بأن الجهاد في سبيل الله تعالى، ومنه تغيير المنكر، لا يعفي منه الخوف على الأهلين فيما دون القتل والفتنة في الدين والعرض:
((عن أبي سعيد الخدري أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قام خطيباً فكان فيما قال: «ألا، لا يمنعنَّ رجلا هيبةُ الناس أن يقول بحقَّ إذا علمه» ، قال: فبكى أبو سعيد: وقال: قد والله رأينا أشياء فهبنا)) .
وعن عبادة بن الصامت قال: «بايعنا رسول الله صلى الله عليه وسلم على السمع والطاعة، في العسر واليسر، والمنشط والمكره، وأن لا ننازع الأمر أهله، وأن نقول بالحق حيثما كنا، ولا نخاف في الله لومة لائم» .
وعن أبي سعيد قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «لا يُحقِر أحدُكم نفسه)) ، قالوا: يا رسول الله، كيف يحقر أحدنا نفسه؟ قال: ((يرى أمرا لله عليه فيه مقال، ثم لا يقول فيه، فيقول الله عز وجل له يوم القيامة: ما منعك أن تقول في كذا وكذا، فيقول خشيت الناس، فيقول: فإياي كنت أحقُّ أن تخشى» .
ومجمل الأمر: أن الخوف على عرض من أعراض الحياة الدنيا، ليس من صور العجز المانع من الاستطاعة التي هي شرط التكليف بتغيير المنكر باليد أو اللسان، ولم يجعل لمن خاف على عرض من دنياه، فسحة في أن يدع تغيير ما يراه من منكر بيده أو لسانه إذا ما كان أهلاً للتغيير اليدوي أو اللساني.