الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
تغيير المنكر باللسان: أحواله وآدابه
اللسان وسيلة التعريف والتعليم والمناصحة، والدعوة وبيان الأحكام، وطرق الوقاية من المنكرات، وعلاج ما وقع منها، ووسيلة التخويف من سوء العقبى، في الدارين، لمن ارتكبها، أو أعان عليها، أو علمها ورضي بها.
والتغيير باللسان غير محصور في تأنيب وتعنيف من أقدم على منكر، أو وقع فيه، أو التشهير بمن اتخذ المنكر صناعة ورسالة، فذلك بعض صور التغيير، وليس من أعلاها، بل لتغيير المنكر صورٌ جد كثيرة، منها ما هو مباشر في التغيير، ومنها ما يمكن كل مكلف أن يقوم به، ومنها ما لا يقوم به إلا خاصة من المكلفين المسلمين.
· ما يستطيعه كل مسلم من التغيير باللسان غير قليل:
- منه: تبليغ من يكون قادراً على التغيير باليد، أو غيرها، حين يكون ذلك أنجع.وهو عنه عاجز، كتبليغ ولي الأمر ومن يقوم مقامه بما يراه من منكر.
- ومنه: ذكر الله تعالى بصفات الجلال والقهر وآيات العذاب عند رؤية المنكر وأهله، ذكراً مسموعاً، لينتبه ذو المنكر فيحجم عنه ويكف.
- ومنه: الدعاء لأصحاب المنكرات بالهداية، والعفو عنهم، وتطهير المجتمع من منكراتهم، والدعاء على المصرِّين المحاربين الله تعالى ورسوله صلى الله عليه وسلم الساعين بالفتنة، ليهلكهم الله تعالى، ويزهق باطلهم، فالدعاء، ولا سيما في السحر من الأسلحة الفاعلة، والوسائل الموصلة إلى تغيير المنكر.
· ومما لا يستطيعه إلا من تحققت فيه خصائص التغيير باللسان وآدابه:
- نشر العلم بأسباب الوقوع في المنكر، وعواقبه، وطرائق الوقاية منه، وأفانين المرجفين به في المدينة وأثرهم في الأمة
…
إلخ، سواء كان هذا النشر شفاهياً، أو كتابياً.
- ومنه: التشهير بسير المحاربين الله ورسوله صلى الله عليه وسلم، الساعين في الأرض فساداً، ممن ينتسبون للإسلام جهاراً، ففي كشف هؤلاء، وما يمكرون ويكيدون للمسلمين، ونقض افتراءاتهم ودحضها، تغيير بالغ للمنكر.
والقول بأن تغيير المنكر باللسان، إنما هو للعلماء، منظور فيه إلى بعض صوره التي لا يقوم بحقها إلا العلماء، وليس عاماً في كل صور التغيير باللسان، فإنَّ منها ما يستطيعه كثير من الأمة.
· وللتغيير باللسان أحوال كالتي ذكرناها في التغيير باليد، وآداب لكل حالة:
- إذا كان المغيِّر ذا ولاية خاصة على ذي المنكر كأن يكون المغيِّر هو الوالد أو الزوج، فإنه يقوم بالتغيير باللسان أيضاً، دون إذن من الولي الأعلى، وعليه أن يقوم بكل صور هذا التغيير، متى كان مجيداً لها.
- وإذا كان المغيِّر ذا ولاية عامة على ذي المنكر، فالأمر كذلك، وعليه أن يكلف من الرعية من يقوم بذلك ويرعاه، فإن من حق الرعية على ولي الأمر، أن يحميها من كل ما يوقع بها ضرراً من غيرها، أو من بعض أبنائها.. عليه أن يحمي عقيدتها الصحيحة، وأن ينقيها من كل ما هو غير مشروع، وأن يحمي علمها وثقافتها النافعة، وأن يحمي اقتصادها من الربا والكساد والبوار، وأن يحمي صحتها من الأدواء الفاتكة، وأن يحمي كل شيء فيها من كل ما يمكن أن يلحق بأحد منها ضرراً.
- وإذا كان المغيِّر وذو المنكر، ليس لأحدهما على الآخر ولاية عامة أو خاصة، بل بينهما علاقة الإخاء الإيماني، التي هي أوثق العلائق، فإن لكلّ أن يغير بلسانه منكر غيره، فيما يستطيعه ويجيده، ولا سيما ما يكون عاماً من صور التغيير باللسان، التي سبقت الإشارة إليها، فإن كان من أهل العلم، المشهود لهم من العلماء، فإن عليه فريضة، أن يغير بلسانه المنكر، ولا يحتاج في هذا إلى إذن خاص من ولي الأمر المسلم، المقيم شرع الله تعالى، لأن معه إذناً عاماً، فهذه رسالة أهل العلم التي كلفهم بها الإسلام، ولا يجوز لأحد من أهل العلم، أن يتقاعس أو يتشاغل عن أداء تلك الرسالة. وإن كان الوالي لا يقيم شرع الله، فعلى العلماء أيضاً التغيير باللسان ولا يتوقف هذا على إذن من أحد، متى التزم العالم بأدب التغيير باللسان، وعلى العامة مناصرة العلماء في هذا، حتى لا يسعى مثل ذلك السلطان إلى إلحاق الضرر بهم، أو بأحد من أهليهم، أو منعهم من أداء رسالتهم.
- وإذا كان لذي المنكر ولاية خاصة على من يقوم بالتغيير، كأن يكون والده، أو يكون زوج من تريد تغيير منكره، فإن بعض صور التغيير باللسان لا يجوز للولد أو الزوجة فعلها، كالتعنيف والتشهير وإغلاظ القول، وما شابه ذلك، أما بيان المنكر وعقباه، والدعاء بالهداية والوعظ بالحسنى، فذلك لهما أو عليهما. وكذلك عليهما أو لهما إبلاغ من يحسن القيام بتغيير منكرهما، إذا ما خشي الولد أو الزوجة، أن يتجاوز أحدهما، فإن التجاوز في نفسه منكر يجب مع ظن الوقوع فيه الاستعانة بآخرين.
- وإذا كان لذي المنكر ولاية عامة كالسلطان، فإن تغيير منكره باللسان من الرعية، يرجع إلى نوع المنكر:
إن كان منكره خاصاً به، مستوراً لا يجاهر به، فعلى من يراه ممن حوله من بطانته مناصحته بالحسنى، والدعاء له بالهداية، وبالستر أيضاً، حتى لا تسقط هيبته من قلوب الأمة، إذا ما كان مسلماً يقيم الصلاة.
وإن كان منكره خاصاً غير مستور، فعلى علماء الأمة مناصحته بالحسنى، وبيان الهدى والحق، والدعاء له بالتوبة والصلاح، وتعليم الأمة بغض فعله، دون خروج عليه، ما دام مسلماً يقيم الصلاة، فإن تاب وأناب، نوصر وعزّر، وإن لم يتب سعت الأمة إلى عزله بالحسنى، دون فتنة هي أكبر من منكره، وإلا كان الصبر فريضة حتى يقضي الله أمراً كان مفعولاً.
وإن كان منكره عاماً يتعلق بحق الأمة، ولم يكن منكراً يدخل به باب الكفر المخرج من الملة، فإن على علماء الأمة السعي إليه، لمناصحته وإرشاده وتعليمه، ثم إلزامه بأن يقضي في الأمة بالعدل، وعلى العامة مناصرة العلماء وتأييدهم، ولا يجوز للعلماء مناصحته علانية، متى تيسرت مناصحته سرًّا، فإن مناصحته علانية، أو ذكر مناكيره، تعين العامة على الخروج عليه، كما أن المجاهرة بنصيحة السلطان، تدفعه إلى الاستهتار في المنكر والإصرار عليه.
وليس لعالم، له إلى سلطان سبيل مناصحته في سرٍ، أن يتقاعس أو يتشاغل عن مناصحته، والإخلاص فيها، والاستعداد للوفاء بحقها، وليس له أن يستبدل بهذه المناصحة في السر، مناصحة في العلانية،
((عن شقيق، عن أسامة بن زيد، قال: قيل له: ألا تدخل على عثمان فتكلمه، فقال: أترون أني لا أكلمه إلا أُسِمعكم. والله، لقد كلمته فيما بيني وبينه، ما دون أن أفتتح أمراً لا أحبُّ أن أكون أول من فتحه)) .
وهذا كله إذ أمكن ذلك، فإن لم يمكن الوعظ سرًّا والإنكار، فليفعله علانية لئلا يضيع أصل الحق)) .
وعلى العامة الوقوف مع علماء الأمة ومناصرتهم، والذَّب عنهم وتكثير سوادهم حتى يرسخ في قلوب الولاة هيبتهم، وأنَّ من ورائهم الأمة إذا ما دعوا إلى الحق، فيخضع أولئك الولاة لذلك الحق.
وتاريخ علماء الأمة حافل بالتصدي لقول الحق في وجه الولاة حين ينحرفون علانية عن الحق، وسياق رواية حديث (تغيير المنكر لمن رآه) والذي سبق ذكره، فيه الدلالة على ذلك حيث قام رجل إلى الوالي، حين أراد مخالفة السنة، بتقديم خطبة العيد على صلاتها، فأنكر بلسانه، فقال أبو سعيد الخدري: أما هذا فقد قضى ما عليه.
وفي رواية للبخاري: أنَّ أبا سعيد فعل ذلك أيضا مع مروان، وهو أمير المدينة، فأراد أن يخطب قبل الصلاة، يقول أبو سعيد:((فجبذت بثوبه، فجبذني، فارتفع، فخطب قبل الصلاة، فقلت له: غيّرتم والله، فقال: أبا سعيد، قد ذهب ما تعلم، فقلت: ما أعلم والله خير مما لا أعلم، فقال: إن الناس لم يكونوا يجلسون لنا بعد الصلاة، فجعلتها قبل الصلاة)) .
فأبو سعيد أنكر على مروان، وسعى إلى تغيير منكره باليد وباللسان (فجبذت بثوبه) (فقلت له: غيرتم والله) .
وقد حثَّ النبي صلى الله عليه وسلم على قول الحق لمن جار من الولاة: ((عن أبي سعيد الخدري قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «أفضل الجهاد كلمة عدل عند سلطان جائر)) أو ((أمير جائر» .
فإن كان السلطان لا يقيم الشرع إعراضاً عنه، أو لا يقيم الصلاة، أو ينكر معلوماً من الدين لا يستقيم بدونه إيمان، كصلاة أو صيام أو جهاد، فإن ذلك السلطان كافرٌ كفراً يخرجه من الملة، ولا يليق بالأمة السكوت عليه، ويجب عزله ولو بسيف، إن كان لا بد من السيف، وإلا فغيره أنفع وأحمد سبيلاً إلى عزله.