الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
1 -
تاريخ السير عند المسلمين
القدرة على الإحساس بالتاريخ، كسائر المزايا الإنسانية، موطن للتفاوت بين الأفراد، ومجال تتباين فيه الجماعات والأمم. وقد يقنعنا اشبنجلر (1) Spengle وهو يحاول أن يثبت هذه الميزة لأمة كالمصريين القدماء، وينفيها أو يقلل من أثرها في عالم الحضارة الكلاسيكية؟ اليونانية والرومانية؛ فالأمة التي تحرق جثث رجالها، ولا تعنى بتسجيل أعمالهم، وإذا مضى على وفاة أحد عظمائها ستون سنة لم تستطع أن تتحقق إن كان ذلك العظيم شخصية تاريخية أو خرافية، لهي أمة؟ فيما يراه اشبنجلر؟ ضعيفة الإحساس بالتاريخ؛ كذلك كانت الأمة
(1) Spengler: The Decline of the West، vol، 1، pp. 13، 14.
اليونانية تتخذ تماثيلها من أبطال الأساطير، ولم يحاول أي عظيم فيها أن يكتب مذكرات تعين عينه الداخلية على تركيز شيء من وجوه التجربة، فلم يحدثنا سقراط نفسه عن حياته الذاتية بشيء ذي قيمة، وليس عند أفلاطون تطور واعٍ للأفكار والمبادئ، وكتبه ليست إلا نظرات متباينة من زوايا مختلفة. أما الجماعة التي تعيش في ماضيها ومستقبلها وتدور حياتها على التخليد والتأبيد، وتسجل سير رجالها على الجدران وفي أوراق البردي وتتخذ مادة تماثيلها من حجارة شديدة الصلابة كالبازلت والجرانيت، فإن إحساسها بالتاريخ عميق دقيق.
ويرد مؤرخ آخر (1) هذا الرأي وينكر الإحساس الدقيق بالتاريخ عند المصريين القدماء لأنهم كانوا يتصورون عالمهم ثابتاً لا يتغير، انبثق من يد الإله خلقاً سوياً كاملاً، فلم تعد الأحداث التاريخية فيه الاهتزازات سطحية في نظام مقرر مستقر؛ وكل شيء في الحضارة المصرية من تأليه للحيوانات والملوك، ومن أهرام وتحنيط، ومن أمثال وحكم، وأشكال من الشعر والفن؟ كل شيء من هذه المظاهر الحضارية يدل على أن الثابت كان في نظرهم هو الشيء الهام الحافل بالقيم، وإن ليس من قيمة للماضي والمستقبل إلا بمقدار تجسد الحاضر لهما.
غير أن هذا الخلاف بين العلماء في تمثيل الإحساس بالتاريخ
(1) Frankfort، H.: the Birth of Civilization pp. 29، 21.
عند أمة وأخرى، لن يطمس حقيقة هامة، وهي أن ذلك الحس التاريخي هو الأب المنجب للسير يوم كانت السير جزءاً من التاريخ، ويوم كانت حياة الفرد تمثل جانباً هاماً من تصور الناس للتاريخ، وإيمانهم بإن الفرد هو الذي يكيف الأحداث ويرسم الخطط، ويقوم بالتفكير والتنفيذ، وتتضاءل إلى جانبه؟ أعني جانب الفرد العظيم؟ كل حقيقة أرضية أخرى.
ففي أحضان التاريخ؟ إذن؟ نشأت السيرة وترعرعت، واتخذت سمتاً واضحاً، وتأثرت بمفهومات الناس عنه على مر العصور، وتشكلت بحسب تلك المفهومات، فكانت تسجيلاً للأعمال والأحداث والحروب المتصلة بالملوك عند الصينيين والمصريين والآشوريين، وكانت تفسيراً لبعض المبادئ السياسية عند فلوطارخس Plutarch في كتابه عن عظماء اليونان والرومان؛ وربما نجح فلوطارخس في السيرة نجاحاً أوفى لو أنه قلل الالتفات إلى تصوير حقبة كاملة وزاد من اهتمامه بحركات الأشخاص أنفسهم.
حتى إذا تغيرت النظرة إلى التاريخ وأصبحت له فلسفة خاصة، أخذ بعض الباحثين المحدثين يتساءل: أحقاً أن السيرة جزء من التاريخ؟ وقد أنكر الأستاذ كولنجوود (1)" Collingwood " اعتبار السيرة كذلك، لأنها تفقد القاعدة
(1) The Idea of History، p. 304.
الصحيحة التي يقوم التاريخ عليها، فحدود السيرة هي الأحداث البيولوجية الواقعة بين ولادة شخص وموته، من طفولة ونضج وأمراض وغيرها، فهي صورة للوجود الحيواني الجسماني، وقد يرتبط بها كثير من العواطف الإنسانية، ولكن هذا كله ليس تاريخاً. وإلى مثل هذا يذهب توينبي (1) Toynbee أيضاً فهو يخرج من دائرة التاريخ ما يتصل بالسير الذاتية كاعترافات القديس اوغسطين وروسو، أو حياة الملكة فكتوريا لستراتشي ويقول: إن هذه الكتب تشتبك بالتاريخ لأنها تدور حول أناس لهم قيمتهم في الحياة الاجتماعية، فللقديس اوغسطين مثلاً أثره العميق في الكنيسة المسيحية، ولأفكار روسو أثر في نقل العالم الحديث إلى عالم أحدث، وحيوات هؤلاء الناس هامة في نظر الآخرين، لما كان لهم من ميزة تاريخية وميزة فردية. فإذا علقنا التاريخ بالسيرة وقعنا في الخطأ من حيث الطريقة. ويثني توينبي على ما حققه ليتون ستراتشي في سيرة الملكة فكتوريا لأنه استطاع أن ينتزع تاريخها الفردي من حياة العصر الذي عاشت فيه.
على أنا إذا استبعدنا هذه النظرة الحديثة في فهم التاريخ، وجدنا أن السيرة كانت من ناحية عملية تاريخاً في نشأتها وغايتها، وإننا حين نريد أن نقيسها بمقياس جديد نستطيع أن نقول (2) :
(1) A Study of History. Vol. I. pp.447 - 48.
(2)
Shotwell: The History of History، p. 7.
كلما كانت السيرة تعرض للفرد في نطاق المجتمع، وتعرض أعماله متصلة بالأحداث العامة أو منعكسة منها أو متأثرة بها فإن السيرة؟ في هذا الوضع؟ تحقق غاية تاريخية؛ وكلما كانت السيرة تجتزئ بالفرد، وتفصله عن مجتمعه، وتجعله الحقيقة الوحيدة الكبرى، وتنظر إلى كل ما يصدر عنه نظرة مستقلة، فإن صلتها بالتاريخ تكون واهية ضعيفة.
وكثيراً ما ابتعدت السيرة عن هذا الأصل التاريخي، وحين أصبحت غايتها تعليمية أو أخلاقية. وقد تمخضت الاتجاهات الدينية؟ والزهدية منها بوجه خاص؟ عن هذا الانحراف بالسيرة، فكتابة سيرة القديس انتوني، أو سير الآباء في صحراء مصر، أو سيرة القديسة كولمبا أو غيرها من القديسات والقديسين إنما كانت تمليها غايات أخلاقية خالصة. وقد كثر هذا اللون من السير في أدب أوربا المسيحية بالقرون الوسطى حتى غلب على ما عداه. على إن هنا موطناً يحسن التنبه له وهو إن علم الأخبار؟ أو التاريخ نفسه؟ كان في القرون الوسطى يخدم غاية خلقية حتى عند مؤرخ شامل النظرة عميق الفلسفة كابن خلدون، فإن الغاية من التاريخ عنده هي الكشف عن القدوة الحسنة، وتجنب المزالق والاعتبار بأخطاء الماضي. وكذلك هي غاية التاريخ عند رجل يعكس الأثر الديني العميق مثل ابن حزم، فهو ينصح المتعلم بقراءة التاريخ، " ليقف على حمد
المتقين للفضائل فيرغب فيها ويسمع ذمهم للرذائل فيكرهها " (1) ؛ وتلك هي الغاية التي يصادفها كل من يطالع " الإعلان بالتوبيخ " للسخاوي حيث جمع المؤلف مقدمات الكتب التاريخية التي يتحدث فيها المؤرخون عن حد التاريخ وغاياته وفوائده، ويكفي أن أنقل هنا قول ابن الجوزي في مقدمة شذور العقود: " إن التواريخ وذكر السير راحة للقلب وجلاء للهم وتنبيه للعقل فإنه
…
إن شرحت سيرة حازم علمت حسن التدبير، وإن قصت قصة مفرط خوفت من إهمال الحزم " (2) . وفي قول ابن الجوزي دلالة دقيقة وهي اعتقاده أن التاريخ ليس إلا مجموعة متنوعة من السير.
ولم تكن الغاية الخلقية معدومة في نشأة التاريخ والسير عند المسلمين؛ فإن القرآن الكريم؟ وهو الذي عمق الإحساس التاريخي عند العرب حين قص عليهم قصص الأمم الخالية، وحين وصلهم بالأمم وجعل تاريخ الخليقة مجالاً لنظرهم؟ إن القرآن حين فعل ذلك كله، كان يهدف إلى إثارة العبرة في نفوسهم؛ ولكن من المدهش حقاً إن هذه الغاية الخلقية كانت أضعف المظاهر حين بدأ المسلمون بكتابة السير، وقد بدأوها بكتابة سيرة الرسول، وكان هذا البدء يشير إلى درس أخلاقي عميق في حياتهم، لو شاءوا أن يتخذوا سيرة الرسول لتلك
(1) رسائل ابن حزم: 71.
(2)
الإعلان: 21.
الغاية، ولكنهم لم يفعلوا بل كتبوا سيرته تحت مؤثرات أخرى، نفرد منها بالتمييز عاملين كبيرين: الأول أن سيرة الرسول جزء من السنة، فهي والحديث مصدران هامان من مصادر التشريع، ومنهما تستفاد الأحكام، ولذلك فلابد من جلائها في دقة بالغة، لكي تكون أعماله؟ إلى جانب أقواله؟ مشرعاً واضحاً لرجال الشريعة وأهل الإفتاء والقضاء. والثاني: إن المسلمين كانوا قد ورثوا نظرة الجاهلية إلى التاريخ، وهي نظرة قائمة على " الأيام " وطبيعة الحرب وشؤون القتال، ولذلك أهتم كتاب السير قبل كل شيء، بمغازي الرسول وتصوير ذلك الدور الحربي الذي أدى إلى انتصار المسلمين في النهاية، ولم يكن هذا محض تقليد لنظرة الجاهليين بل كان في مستلزمات الجماعة الإسلامية ما يؤيده ويدعو إليه ذلك لأن الفتوحات الإسلامية التي انبثقت عن انتصار الإسلام في الجزيرة، كانت في حاجة إلى سند من سنة الرسول في هذا المجال: كيف يعامل الأسرى والنساء والأطفال ويقسم الفيء، وهل يروى عن الرسول ما يوضح فنون الحصار، وهل تبيح الأعمال الحربية قطع الشجر وتخريب الزروع وقطع المؤن ليلجأ العدو إلى التسليم، وماذا فعل الرسول بالاقطاعات، وعلى أي شيء من الأحكام تحتوي كتبه التي كتبها لوفود العرب جماعات وأفراداً؟ ؟ كان المظهر الأكبر للإسلام هو الجهاد، وإذن فلا غرابة إذا رأينا " السيرة " على يد موسى بن عقبة وابن شهاب
الزهري وغيرهما، ثم على يد ابن إسحاق وريث كتاب المغازي الولين تسجيلاً دقيقاً للمعارك الحربية وما دار فيها من فنون.
وبتأثير العاملين معاً، عدت السيرة جزءاً من الحديث تخضع لأحكام الإسناد خضوعاً دقيقاً، فهي على هذا ليست رواية منطلقة مسترسلة، ولكنها روايات متفرقة مقيدة؛ يجمعها موضوع واحد، ويعوق الإسناد رواتها عن التفسير والتحليل، لأن جهد كاتبيها منصرف إلى الصدق في الخبر؛ ولسنا بسبيل التحدث عن أثر الحديث في طريقة التأليف عند المسلمين أو في اتجاهاتهم ودراستهم، وإنما يستطيع الباحث أن يشير إلى أن الاعتماد على الإسناد ظل بالغ الأثر في تلك الكتب التي ألفت عن الرجال وهي كتب الطبقات والتراجم، التي يمكن أن تعد بحق أغزر نوع من المؤلفات عند المسلمين، وربما لم يتح لأمة أخرى أن تعنى بتأليف المعاجم عن الرجال كما عني المؤلفون المسلمون بها، وتنوعت تلك اكتب وتعددت على مدى العصور حتى أصبح حصرها عبثاً معجزاً. فهنالك معجمات تفرد أصحاب كل علم من نحو وأدب وشعر وفقه وحديث وتصوف وقراءة، وتفرد أهل كل مذهب من شافعية وحنفية ومالكية وحنابلة، ومعجمات محصورة في البلدان كتاريخ بغداد للخطيب وتاريخ دمشق لابن عساكر، وتاريخ أصفهان لأبي نعيم وليست هذه التواريخ إلا تراجم للرجال المشهورين من علماء كل بلد. وهناك الكتب المتسلسلة التي يذيل بها التالي على عمل من تقدمه فيتيمة الدهر
ذيل على البارع، ودمية القصر ذيل اليتيمة، والخريدة ذيل على الدمية؛ وهناك سلسلة في علماء الأندلس تبدأ بجذوة المقتبس للحميدي وتتلوها بغية الملتمس للضبي ثم الصلة لابن بشكوال فالتكملة لابن الأبار وتكملة التكملة وهكذا. وهذه الظاهرة؟ أي اتصال العمل في حقل واحد؟ قل أن تجد لها مثيلاً إلا في بعض التاريخ الكنسي عند المسيحيين. ومن طرائف الأندلس في بعض التاريخ الكنسي عند المسيحيين. ومن طرائف الأندلس إن عائلة واحدة بني سعيد توارثت صنع كتاب واحد هو كتاب " المغرب " في ترجمة رجال الأندلس بعد أن وضع الحجاري أصوله الأولى.
وقد بدأ ابن سعد التقسين البلداني في الطبقات الكبير حين ترجم (1) للصحابة وكبار التابعين حسب الأمصار التي لحقوا بها أو عاشوا فيها؛ ونظرة واحدة إلى كتابة أو إلى تاريخ بغداد، وتاريخ أصفهان تدل على أن القوة الموجهة لهذه التراجم هي السنة عامة؟ أو علم الحديث خاصة.
هذه لمحة صغيرة جداً عن انشغال المسلمين بكتب الطبقات والتراجم، وهي معاجم للسير، تطول وتقصر وربما تضاءل الخبر فيها إلى جانب الإسناد.
(1) استعملت كلمة ترجمة في هذه الدراسة مرادفة لكلمة سيرة. وقد ألفت كتب مستقلة عنونت بهذه الكلمة في سير بعض الأشخاص وأخبارهم مثل " ترجمة البلقيني "" وترجمة السلفي " وكتب السيوطي ترجمة النووي والبلقيني في أربع ورقات وربما كانت الترجمة تشير هنا إلى السيرة الموجزة.
غير أن السير المستقلة؟ وهي الموضوع الذي يهمنا في هذا المقام؟ تخلصت في وقت مبكر من أثر الإسناد، وهذا هو ما فعله ابن إسحاق في السيرة، ولذلك حل عليه غضب مدرسة المدينة يومئذٍ وعلى رأسها مالك بن أنس، فقد وسع ابن إسحاق المجال للشعر المنحول وغير المنحول، واتهمه النقاد بإنه أفسد الشعر وقبل في نطاق السيرة روايات عن أهل الكتاب وكان يسميهم أهل العلم الأول (1) . وحاول أن يتخلص من الإسناد، وبالجملة كان ابن إسحاق صورة للمؤرخ الذي يستطيع أن يتحلل من طبيعة القصص الجاهلي والأيام، فجاءت السيرة لوناً جديداً في التأليف، وأصبحت هي المصدر الأول عند المسلمين لفهم حياة الرسول وأعماله. ونستطيع أن ندرك قيمة ابن إسحاق في تاريخ السير عند المسلمين إذا نحن عرفنا أن ما كتب بعده لم يختلف كثيراً في جوهره عما كتبه. وقد تعد سيرة ابن إسحاق، والسيرة التي بنى منها ابن سعد الجزأين الأولين من كتاب الطبقات، ومغازي الواقدي، والسيرة التي كتبها البلاذري في أول كتابه " انساب الأشراف "؟ أساساً للمعلومات المقررة المقبولة عن حياة الرسول وأعماله، أما ما كتب بعد ذلك، فإنه كان في أكثره جمعاً لروايات مختلفة أو قبولاً لبعض الأساطير المتأخرة، وربما كان أيضاً شرحاً لبعض الألفاظ والمناسبات، أو نظماً لأحداث السيرة أو تلخيصاً لها. فقد كان كتاب
(1) ابن النديم: 92.
السهيلي " الروض الأنف " شرحاً للسيرة، وكتاب " السيرة الحلبية " مجالاً للأساطير التي نشأت في الأيام المتأخرة، وكتاب سيرة ابن سيد الناس تركيزاً للمعلومات الهامة، وضبطاً للأعلام وأسماء الأماكن، وإمتاع الأسماع للمقريزي تلخيصاً لجميع " أحوال الرسول "، ولكنه تلخيص رجل عارف بحدود موضوعه وإن لم يسلم فيه من المآخذ. وقد أضفت الكتب المتأخرة نوعاً من التقديس على شخصية الرسول لا يلمح في المصادر الأولى، ويظهر الرسول في أكثر الروايات المبكرة كما صوره القرآن " قل سبحان ربي هل كنت إلا بشراً رسولاً "، ثم انصرف الكاتبون في السيرة إلى تدوين دلائل النبوة وشمائل النبي، وبذلك أخذت العناصر التاريخية تتضاءل أمام الغايات الخلقية في كتابة السيرة، واتجه كتاب " الدلائل " من أمثال أبي نعيم والبيهقي، ومؤلفو أعلام النبوة كالسجستاني والماوردي إلى إثبات ما يمكن من المعجزات ونسبتها للنبي.
وتستطيع أن تقول إن هذا الاتجاه حدث تحت ضغط اتجاهات جديدة في العالم الإسلامي، وفي مقدمتها تلك النزعة الزهدية التي أدت إلى التصوف، فقد أصبح الرسول هو الزاهد الأعظم، ولم يقف الأمر عند هذا الحد بل أصبح عند المتطرفين من الصوفية هو " الكلمة "؟ خلق أول كل شيء ومن أجله خلق كل شيء؟ وتمثل كل فريق شخصيته من خلال المعتقدات التي يدن بها، ولم تبق شخصية الرسول على وجه قريب مما
صورته السير الأولى، إلا عند المتمسكين بالحديث، فإنهم على شعورهم بعظمته، ظلوا ينظرون إليه من خلال ما صح من الأحاديث.
ويتبين لنا أن الزمن رفع الغاية الخلقية إلى موضع الصدارة، فأصبحت السير تكتب بدافع من النزعات الأخلاقية، وعلى مر العصور ستجد أن جانباً من السير قد أصبح مجموعة من الحكم والأمثال والأعمال الفاضلة التي تصدر عن أحد الناس، وتقترن الفضيلة في هذه السير بالزهد، ولذلك فإن أوائل السير التي كتبت تناولت أمثال شخصية عمر بن عبد العزيز ومالك بن دينار؛ تأمل سيرة عمر بن عبد العزيز مثلاً، وهو رمز كبير للتقوى والزهد في العالم الإسلامي، تجد أن كثيرين قد توفروا على كتابتها في العصور المختلفة فأفردها بالتأليف بقي بن مخلد، والآجري وابن عبد الحكم وعبد الغني بن عبد الواحد المقدسي، وابن الجوزي والذهبي. وقد أصبح هذا النوع من السير مجموعة من " المناقب "(1) والأقوال، يتأدب بها المتأدبون، ويستغلها الواعظون في استمالة القلوب إلى الخير.
وكثير من هذه السير، حين فقد العنصر التاريخي بانتزاع الفرد من مجتمعه، وتصوير حياته " الجسيمة والروحية " من مولده إلى وفاته، لم يتشح بالعنصر الأدبي إلا قليلاً، وظل
(1) الجواهر والدرر للسخاوي ص 511 Mus. Historiography.
أخباراً فردية محدودة أقرب إلى طبيعة الأخبار الخاصة التي يراد منها الفائدة العامة. وبين يدينا من أمثلة هذه السير، " سيرة الحسن البصري " لابن الجوزي، فهو كتاب خلاصته ما قاله الحسن من مواعظ ابتداء، وما أجاب به على ما وجه إليه من أقوال أو ملاحظ أو أسئلة. ولو نزعت اسم الحسن ووضعت في مكان اسمه ابن سبرين أو مالك بن دينار، أو أبا حازم الأعرج لصح ذلك لأن المقصود هو التأثير في الناس بهذه الأقوال دون نظر إلى شخصية الحسن، أو إلى مكانه من عصره. ولم تفقد هذه السيرة كل ميزة بفقدانها للوشيجة التاريخية والأدبية، فإن كثيراً منها ظل يحقق الغاية الأدبية عن طريق التأثير الإيحائي، فكأنه كان بذلك أكثر تشبثاً بالقيمة الأدبية من سائر أدب الوعظ كالخطبة والقصيدة الحكمية، لأن مثل هذه الأنواع ظل جافياً في شكله الأدبي المصطنع، تنقصه القدرة على الإيحاء.
وليس معنى هذا أن اللون التاريخي من السيرة قد انقطع، بل الفضل في بقائه للإحساس القوي بالتاريخ، ولتلك النزعة الدنيوية التي حالت بين المؤرخ وبين أن يصبح واعظاً. وظلت السيرة التاريخية تمثل أقوى نوع من السير عند المسلمين، أما السيرة ذات الطابع الأدبي، فقد بقيت مهملة لم تعالجها الأقلام، وإن المرء ليؤسفه أن يمضي عن كتاب كبار من ذوي الإحساس الدقيق بالشخصيات والأحداث والتجارب، فلا يجد لهم أثراً واضحاً متميزاً في هذه الناحية. فقد مر الجاحظ عن هذا اللون
من الأدب دون أن يعالجه، ولم يقف أبو حيان التوحيدي عنده إلا قليلاً. وكلا الرجلين كان نافذ البصر في طبائع الناس وأحوال المجتمع، أما الجاحظ فانصرف إلى الحكايات التصويرية لنواحي الأخلاق والسلوك في جانبي الاستقامة والشذوذ، وأما أبو حيان فاكتفى " بالرسائل الصغيرة " في ترجمة الأشخاص، منتحياً أسلوباً فنياً حيوياً عامراً بالفتات الدقيقة، أسلوباً ربما لم يرزق مثله أحد من قبله أو من بعده قوة وأصالة وجمالاً. وفضلاً عن هذا كله كان أبو حيان يتفرد بميزتين: الأولى ذلك الخيال اللازم لربط أجزاء السيرة في وحدة كاملة، وهو خيال يضع الكلمة اللازمة والحوار الضروري في كل موقف إذا قصر الواقع، ولا يهتم بالصيغة الأصلية للخبر إلا بمقدار. وهي مقدرة قصصية لا تستغني عنها السيرة حين يراد لها أن تكون أدبية. وأما الميزة الثانية فهي فهمه الدقيق لموقف كاتب السيرة في عدم تحيزه وفي ميله دائماً إلى الإنصاف. وهذا أصل هام صوره أبو حيان بدقة حين سأله الوزير ابن سعدان أن يحدثه عن أخلاق الصاحب ابن عباد ومذهبه وعادته فقال أبو حيان وكانت آماله قد خابت عند الصاحب ورجع عليه ناقماً مشيعاً لمساوئه: " إني رجل مظلوم من جهته وعاتب عليه في معاملتي وشديد الغيظ لحرماني وإن وصفته أربيت منتصفاً، وانتصفت منه مسرفاً فلو كنت معتدل الحال بين الرضى والغضب أو عارياً منهما
جملة، كان الواصف أصدق والصدق به أخلق " (1) وهذا كلام حقيق أن يجعل أساساً من الأسس الضرورية في كتابة السير.
غير أن أبا حيان كتب " مثالب الوزيرين "، وهو أقرب كتبه إلى السيرة الأدبية، لم يستطع أن يخنق صوت الحقد والغيظ في نفسه، وإذا كان قد حاول شيئاً من الإنصاف والاعتذار فقد أخفق في أن يمحو من الأذهان تحيزه السافر. وحين تحدث عن الصاحب في " الإمتاع "، رسم له صورة هي الغاية التي يطمح إليها كتاب السير، ومع أنها أعلق بباب الذم إلا أن سمة الإنصاف لائحة عليها. قال يصور جانباً من شخصية الصاحب:(2)
" قلت: إن الرجل كثير المحفوظ، حاضر الجواب، فصيح اللسان، قد نتف من كل أدب خفيف أشياء، وأخذ من كل فن أطرافاً. والغالب عليه كلام المتكلمين المعتزلة، وكتابته مهجنة بطرائفهم ومناظرته مشوبة بعبارة الكتاب، وهو شديد التعصب على أهل الحكمة والناظرين في أجزائها كالهندسة والطب والتنجيم والموسيقى والمنطق والعدد، وليس عنده بالجزء الإلهي خبر، ولا له فيه عين ولا أثر، وهو حسن القيام بالعروض والقوافي ويقول الشعر، وليس بذاك، وفي بديهته غزارة، وأما رويته فخوارة، وطالعه الجوزاء والشعرى قريبة منه، ويتشيع لمذهب أبي حنيفة ومقالة الزيدية، ولا يرجع إلى الرقة والرأفة
(1) الإمتاع 1: 53 - 54.
(2)
الإمتاع 1: 54 وما بعدها.
والرحمة، والناس كلهم محجمون عنه لجرأته وسلاطته واقتداره وبسطته. شديد العقاب، طفيف الثواب، طويل العتاب، بذيء اللسان، يعطي كثيراً قليلاً (أعني يعطي الكثير القليل) مغلوب بحرارة الرأس، سريع الغضب، بعيد الفيئة قريب الطيرة، حسود حقود حديد. وحسده وقف على أهل الفضل، وحقده سار إلى أهل الكفاية، أما الكتاب والمتصرفون فيخافون سطوته، وأما المنتجعون فيخافون جفوته. وقد قتل خلقاً وأهلك ناساً ونفى أمة، نخوة وتعنتاً وتجبراً وزهواً، وهو مع هذا يخدعه الصبي ويخلبه الغبي، لأن المدخل عليه واسع، والمأتى إليه سهل، وذلك بأن يقال: مولانا يتقدم بأن أعار شيئاً من كلامه، ورسائل منثوره ومنظومه. فما جبت الأرض إليه من فرغانة ومصر وتفليس. إلا لأستفيد من كلامه وأفصح به وأتعلم البلاغة منه. لكأنما رسائل مولانا سور قرآن، وفقره فيها آيات فرقان، واحتجابه من ابتدائها إلى انتهائها برهان فوق برهان، فسبحان من جمع العالم في واحد، وأبرز جميع قدرته في شخص. فيلين عند ذلك ويذوب ويلهى عن كل مهم له، وينسى كل فريضة عليه ويتقدم إلى الخازن بأن يخرج إليه رسائله مع الورق والورق، ويسهل له الإذن عليه والوصول إليه والتمكن من مجلسه، فهذا هذا.
ثم يعمل في أوقات كالعيد والفصل شعراً ويدفعه إلى أبي عيسى المنجم ويقول: قد نحلتك هذه القصيدة، امدحني بها في
جملة الشعراء وكن الثالث من الهمج المنشدين، فيفعل أبو عيسى؟ وهو بغدادي محكك قد شاخ على الخدائع وتحنك؟ وينشد فيقول له عند شعره في نفسه ووصفه بلسانه، ومدحه من تحبيره، أعد يا أبا عيسى، فإنك؟ والله؟ مجيد، زه أبا عيسى والله، قد صفا ذهنك وزادت قريحتك وتنقحت قوافيك، ليس هذا من الطراز الأول حين أنشدتنا في العيد الماضي؛ مجالسنا تخرج الناس وتهب لهم الذكاء وتزيد لهم الفطنة وتحول الكودن عتيقاً والمحمر جواداً، ثم لا يصرفه عن مجلسه إلا بجائزة سنية وعطية هنية ويغيظ الجماعة من الشعراء وغيرهم، لأنهم يعلمون إن أبا عيسى لا يقرض مصراعاً، ولا يزن بيتاً ولا يذوق عروضاً.... ".
وواضح إن ما في هذه القطعة من براعة إنما يقوم على التعليل والحوار، والتدقيق في رسم أجزاء الصورة، وفي ضروب من الإبهام بأن الكاتب ينقل الواقع ولا يعدوه. وإذا كان فيها من عيب فهو نظرتها إلى الإنسان في صورة ثابتة لا تطور فيها، وإنما يأتيها هذا العيب لأنها قطعة لا ترجمة كاملة. وهي تعلو في نظرنا بهذه المقدرة التصويرية إذا نحن قارناها بلون أدبي حاول كتاب التراجم أمثال الثعالبي والباخرزي والعماد الأصفهاني أن ينتهجوه، فأفسدوا الترجمة بالتكلف للبلاغة، ولنمثل على ذلك بقول الباخرزي يترجم لأبي الفضل الميكالي (1) : " لو قيل لي من أمير
(1) دمية القصر: 122.
الفضل، لقلت الأمير أبو الفضل، وقد صحبته بعدما أناف على الثمانين، وفارقته وهواي مع الركب اليمانين، ونادمته فلم أقرع على منادمته سن الندم، وقدمت عليه فغمرني إنعامه من الفرق إلى القدم، وجالسته فأحمدته في كل أمر، وكأنني جليس قعقاع بن عمرو، وأما أدبه فقد كان على ذبول عوده غضاً، يكاد يغض من أزهار الربيع غضاً. وأما شعره فقد أعلن أهل الصناعة بشعار الانتماء إليه، ورفرفت الشعراء بأجنحة الاستفادة عليه. وأما رسائله فرسل يدر (1) وسلك لا يخونه الدر، ومن تأمل منثوره في المخزون، علم أنه فرحة المخزون ". فهذا النوع من التراجم قد أصبح معرضاً لتفنن الكاتب، أو تكلفه على وجه الدقة، فلا هو حافل بالخبر ولا هو صورة واضحة الجوانب، ولا فيه تحليل نفسي للشخصية المترجمة، وهو تقريظ محض، لا يرقى إلى النقد. وبين هذه القطعة والقطعة التي اخترناها من أبي حيان بون واسع أساسه المقدرة الفنية في الرسم، ولكنهما تشتركان في أن كلاً منهما ترجمة لأحد المعاصرين الأحياء، وهذا الاتجاه؟ أي كتابة سيرة الرجل قبل موته؟ ملحوظ في تلك الكتب التي يغلب عليها الطابع الأدبي، كيتيمة الدهر ودمية القصر والخريدة، ومثل هذا يحد من قدرة المترجم على أن يوفي من تحدث عنه حقه من نواحٍ مختلفة ولذلك فكثيراً ما تنحو هذه التراجم منحى الإفراط في المدح أو الإفراط في القدح.
(1) الرسل: اللبن، يدر: يغزر.
وتتصل بهذه النزعة الأدبية تلك الحاجة الملحة إلى السمر، ولعلها من أقوى النزعات التي دفعت كتابة السيرة في اتجاه واضح. فكثير من السير ليس فيها الدافع اخلقي ولا فيها الدافع التاريخي، ولا هي عمل أدبي واضح، وإنما هي مجموعة من القصص والمغامرات، والرابطة فيها دورانها حول شخصية واحدة. ويتفاوت فيها عمل الخيال، ولكنها جميعاً مسلية تصاغ في أسلوب مبسط، ولا يرتفع فيها الحوار عن اللغة الدارجة إلا قليلاً. واعتقد أن كثيراً من سير المحبين مع حبيباتهم كان من هذا النوع. ولكن أبرزها سير الفريق الذي يعرف عادة باسم " عقلاء المجانين ". وهذه ناحية التفت إليها الإخباريون منذ عهد مبكر فكتب المدائني كتاباً في أخبار عقلاء المجانين، وسار على نهجه آخرون من المعنيين بالسير والأخبار (1) ومن أبرز الكتب التي وصلتنا في هذه الناحية سيرة " سيبويه المصري " لابن زولاق. وسيبويه هذا من ذلك النفر الواسع الثقافة الذي كان يعتريه طائف من جنون، ويولع به الناس ويغضبونه فيتدفق بكلام مسجوع لا تعدم أن تجد فيه الهجاء المتقن الجارح. أما ابن زولاق أبو محمد الحسن بن إبراهيم فإنه كان ذا عناية خاصة بالسير، ولم يقف نشاطه عند كتابة أخبار سيبويه بل كتب سيراً أخرى لحكام مصر، منها سيرة أحمد بن طولون وسيرة خمارويه وسيرة الأخشيد محمد بن طغج
(1) انظر أخبار سيبويه المصري: 16.
وسيرة جوهر وأخبار الماذرائي وسيرة المعز لدين الله الفاطمي (1) وقد ضاعت أكثر السير التي كتبها باستثناء أخبار سيبويه وأجزاء من سيرة الأخشيد نقلها ابن سعيد الأندلسي في كتاب " المغرب " وقطع أخرى نقلها من جاء بعده من المؤرخين. ولكن هذه البقية الباقية، تدل على أنه من أطراف كتاب السير وأنفذهم نظراً، مع بساطة في التعبير، وروح قصصية عذبة، واهتمام عارض بشيء من النواحي الاجتماعية أو ما يمكن أن نسميه طبيعة الحياة اليومية للعصر الذي عاش فيه، ففيه يقظة الفنان ودقة المؤرخ وتحريه. وقد سيطرت عليه في ترجمته لسيبويه المصري طريقته في كتابة التاريخ ولعله كان معنياً بتسجيل مشاهداته ومسموعاته تسجيلاً فوتوغرافياً دقيقاً، ومن هنا جاءت السير لديه أشبه المذكرات.
ولم يكتب ابن زولاق سيرة سيبويه للسمر فحسب، بل كان مؤمناً بسيبويه مندهشاً لكثرة الفوائد التي يمكن أن يتلقها الإنسان منه إذا أغضبه. وقد دخل سيبويه في حياة ابن زولاق، كما دخل في حياة غيره من معاصريه، وكان ذلك المؤرخ الدمث الوديع يخافه ويتقي شره، ويحاول إرضاءه بالسكوت، ويستجيب لطلبه لئلا تصيبه جوارح هجائه. قال محدثاً عن نفسه " ولقيني سيبويه يوماً آخر عند دار الشمشاطي
(1) السخاوي: الجواهر والدرر (في Mus. Historiography ص 515) .
عند العشاء فقال إلى أين؟ فقلت أريد الجامع. فقال لي: أريد حمارك هذا أركبه إلى منزلي فركبه، وجلست في المسجد حتى عاد الحمار " (1) . وتسجيله لأخبار سيبويه يعو أيضاً إلى إعجابه بالتناقض في شخصيته وإلى " عقدة " ولدها سيبويه في نفس ابن زولاق، الرجل الوديع التقي، الذي لا يحب أن يغلظ لأحد في القول، ويدهشه أن يرى سيبويه يتطاول على الأمير والوزير وصاحب الخراج، وعلى ابن زولاق نفسه.
ولشخصيات " عقلاء المجانين " صلة واشجه بشخصية المتصرف أو " المجذوب ". غير أن الذين كتبوا في سيرة المتصوفة، اهتموا بالكرامات، وابتعدوا عن دائرة الواقع، الذي كان ابن زولاق يقترب منه أو يعيش فيه، ولذلك أصبحت سير المتصوفة " نماذج " ميتة لا سيرا عامرة بالحياة. ولا نخطئ كثيرا إذا لم نسمها سيرا لأنها متوجهة بكاملها إلى الابتعاد عن تصوير الحياة الإنسانية، من حيث هي معرض للضعف والقوة، والعجز والقدرة، والخطأ والصواب
…
بينما القارئ لسيرة كسيرة سيبويه يجد شذوذا ولكنه شذوذ يثير الضحك والرثاء، والاهتمام بهذا النوع من الشخصيات أدخل في مجال السير شخصيات كوميدية هزلية، مثل سيبويه واشعب وأبي العبر وجحا وماني الموسوس.
(1) أخبار سيبويه: 50.
وليس هناك دافع يؤدي إلى الكتابة عن مثل هذه الشخصيات إلا الميل إلى الإمتاع وإثارة الدهشة والتحبيب بالفكاهة وكلها غايات كان يتهيأ لها السمر، وتدعو إليها مجالس الأنس. ولهذا السمر نفسه أثر قوي في نشأة تلك السيرة الخيالية أيضاً التي بارحت عالم السيرة الحقيقي وأصبحت نوعا من القصص البطولية مثل سيرة عنترة ومهلهل وسيف بن ذي يزن وأشباهها وكما صادفتنا شخصيات هزيلة في سيرة عقلاء المجانين، تصادفنا هنا صورة للبطولة العاتية، وموضع النقص في هذه السير إنها أيضاً مثل سيرة المتصوفة تعتمد " المثال "؛ أي لا تجعل لعتنرة قيمة إلا لأنه مثال البطولة، ولا تعنى بالحياة الطبيعية لأبي زيد الهلالي، وإنما تفيض عليه من خيالها ما يجعله " مثالا "؟ أو أنموذجا؟ عاليا للشجاعة، وإن كانت في جملتها أقرب إلى الواقع من سير المتصوفة والزهاد، لأنها تصور البطل أحيانا في حالات من الضعف والاستئسار والميل إلى البكاء.
ونستطيع أن نقرر في غير تعميم، بأن السيرة التاريخية ظلت حتى العصر الحديث أقوى أنواع السير عند المسلمين، وهي تجمع أحيانا بين الغابة الخلقية وغاية المتعة التي تحققها السير الأدبية، ولكنها قد تكون منبعثة عن مجرد الرغبة في التاريخ، أي تكون غاية في نفسها، لأن المؤرخين المسلمين كانوا يرون السيرة جزءا من التاريخ بل يرون أن التاريخ ليس إلا سير الحاكمين. والشخصيات التي عالجتها تلك السير تتباين تباينا واضحا، وقد
تكون سيرة عمر بن الخطاب وعمر بن عبد العزيز ونور الدين وصلاح الدين الأيوبي قائمة على التاريخ الممزوج بالتوجيه الخلقي، ولكن الأمر على غير ذلك في سيرة ابن طولون والأخشيد وجوهر الصقلي وجلال الدير منكبرتي. فبعض هذه السير لم تتوجه له همة المؤرخ إلا بطلب، كسيرة الأخشيد التي كتبت بطلب من ابنه، وبعضها يكتبه من يعيش في ظل الوالي أو السلطان اعتذاراً عنه وتوجيهاً لبعض ما اشتهر من سيئ أعماله، أو تقديراً للرابطة التي بينهما، أو إظهاراً لخارجيته وعصاميته إن كان عصامياً، أو لغير ذلك من أسباب. فوراء كل سيرة دافع مباشر، هو الذي حدا بالمؤرخ إلى تسجيلها. تأمل مثلاً سيرة رجل مثل ابن طولون، تجد أن توفر المؤرخين على كتابتها أمر يبعث حقاً على التوقف؛ فقد كتبها أحمد ابن يوسف وابن زولاق وأبو محمد البلوي. أتراهم كتبوها لمميزات فارقة في شخصية ابن طولون نفسه؟ وإذا كان الاثنان الأولان قد كتباها لصلتهما بابن طولون فلم عاد البلوي إلى كتابة تلك السيرة من جديد؟ ألأن كتاب أحمد بن يوسف (ابن الداية) كما يزعم البلوي لم يكن مرتباً، ولا مستوفى؟ ؟ لاشك أن لشخصية ابن طولون مميزاتها الواضحة، وسيرته عند مؤرخي عصره تعني تاريخاً لمصر وجوانب الحياة فيها من سياسية واجتماعية، وقد عاصر ابن طولون يقظة خاصة على تاريخ مصر وشخصيتها وأدبها، ونمى هو هذه النزعة حين أثار الشعور
بالمنافسة بين مصر والعراق، فتعصب لكل ما هو مصري، وبث الثقة في نفوس أناس عاشوا على التبعية السياسية والأدبية مدة طويلة من الزمن، ولكن لو أسقطنا كل ذلك من حسابنا لظل من شخصية ابن طولون ما يدفع لكتابة سيرته. وتفسير ذلك فيما أراه أن ابن طولون يمثل؟ إلى جانب طموح مصر السياسي حينئذٍ، شخصية الشاب الأمين الفقير الأصل، الذكي الذي تتوازى هذه الأخلاق فيه مع إقبال السعد، وكل ذلك قائم على مبادئ من الزهد، لأن ابن طولون كان في شبابه مرابطاً في أحد الثغور. هذه الشخصية التي لا يصدمها القدر ولا تحاول هي أن تثور عليه محببة إلى نفوس الشرقيين، وإذا أدركنا هذا الميل العميق في تلك النفوس، عرفنا لمَ لم يترعرع في تلك البيئة شخصيات تراجيدية بالمعنى الدقيق. وظلت كتابة السيرة تجذب إليها اهتمام المسلمين، وتقف عوضاً عن القصة والمسرحية في حياتهم الأدبية والتاريخية معاً. لقد ثار العباس ابن أحمد بن طولون على أبيه، وكانت هذه الحادثة منغصاً له في نهاية حياته، ولو أن الولد انتصر في ثورته تلك لأدخل المؤرخون ذلك في باب الحوادث، ولم يفيضوا في إفاضة السير، أما انتصار الأب فإنه يستحق التسجيل، وتجمع له الوثائق من رسائل ووصايا وما إلى ذلك لأنه أمر يصير العبرة، وهي أجل عندهم من الأثر التراجيدي الخالص.
وفي السيرة التاريخية التي تدور حول الحكام ورجال السياسة
ميزة ربما لم تتوفر في سير الأدباء والعلماء، وتلك هي العناية بالأحداث الخارجية المتصلة بهم، أما في سيرة العالم أو الفقيه فإن المهم هو سرد أسماء الأساتذة الذين علموه والأماكن التي زارها والأحاديث التي رواها (1) . وتتفق أكثر السير الإسلامية في سرد الصفات الخلقية والعقلية أما بالتنويه بها أو بإيراد القصص المختلفة التي تصورها (2) . وحتى السير التي تعالج حياة الحاكم أو السياسي تختلف اختلافاً بيناً فيما بينها من نواحٍ متعددة. فمنها السير التي تقص في أسلوب هادئ بسيط، لا مبالغة فيه ولا تزيد كسيرة ابن طولون للبلوي، وكتابات ابن زولاق، وسيرة السلطان يوسف للقاضي بهاء الدين بن شداد، وبعضها متكلف الأسلوب مثل سيرة السلطان جلال الدين للنسوي؛ وأكثرها يصور النواحي البارزة في العلاقات والأحداث السياسية، فتجيء تصويراً لأحداث فترة كاملة. وسيرة السلطان يوسف وجلال الدين والملك الظاهر وسيرة عم ابن عبد العزيز لابن عبد الحكم من هذا القبيل، وقلما تجد في تلك السير حديثاً عن دقائق الحياة الخاصة المتصلة ببطل السيرة، إلا أن كانت تلك الدقائق تبرز صفة من الصفات الخلقية التي يحاول الكاتب توضيحها كالعدل والشجاعة والكرم. ولا ينكر إن في أكثر هذه السير من الوثائق والأخبار ما يصلح لأن
(1) Rosenthal: Mus. Hist.: p. 91.
(2)
المصدر السابق.
يكون أساساً لدراسات أكثر عمقاً وأظهر ترتيباً. وعقدة العقد في السير؟ أو في أكثرها؟ هي مسألة الأخطاء والعيوب، فهذه أمور كثيراً ما يتحاشاها الكاتب، أو يعتذر عنها إذا اضطر إلى ذكرها، ويفتن بعض الكتاب في التبرير والاعتذار. وهنا موطن يجب أن ينتبه له الدارسون حين يتناولون هذه السير، ويتخذونها أساساً لفهم أحد العصور أو إحدى الشخصيات، فأكثرها قائم على ميل من كاتب السيرة نحو صاحبها وعلى ولاء له وهذا شيء لا نعفي منه رجلاً نزيهاً مثل القاضي بهاء الدين بن شداد في سيرة صلاح الدين، فإنه يقول في الحديث عن وفاة صلاح الدين:" وبالله لقد كنت أسمع من بعض الناس أنهم يتمنون فداءه بنفوسهم، وما سمعت هذا الحديث إلا على ضرب من التجوز والترخص، إلا في ذلك اليوم فإني علمت من نفسي ومن غيري أنه لو قبل الفداء لفدي بالنفس "(1) ، ولست أتهم القاضي بهاء الدين بالتحيز ولكن هذا الولاء الشديد يجب أن يقابل بالحذر الشديد. على أن في شخصية صلاح الدين، رحمه الله، ما يبرر شدة هذا الولاء. فأما مع الكثيرين غيره فإن هذا الولاء مدخول مصطنع. استمع إلى النسوي وهو ساذج صادق يروي كسف أن السلطان جلال الدين منكبرتي فر أمام الترتر ووقف بقرب آمد ثم يقول: " وشرب تلك الليلة فسكر فناله من سكرة خماره دوار الرأس وقطع الأنفاس، فلا صحو إلا إذا نفخ في الصور، وبعثر ما في
(1) المحاسن اليوسفية: 250.
القبور. وأتاه وهناً من الليل شخص تركماني وقال: إني رأيت في منزلك الذي كنت أمس فيه نازلاً به عسكراً زيهم غير زي عسكرك، بخيل أكثرها شهب، فكذبه وقال: هذه حيلة ممن لا يختار توسطنا هذه البلاد.... وكنت قد سهرت تلك الليلة للكتابة فغلبتي النوم في أخرياتها فلم أشعر إلا بالغلام ينبهني ويقول: قم فقد قامت القيامة، فلبست سريعاً وخرجت هريعاً، وتركت في المنزل ما ملكته جميعاً.... " وبعد هذا التفريط يقبض على جلال الدين ويقتل، ويأتي الخبر إلى مستشاره الهارب النسوي فيؤنبه بقوله: " فأضحى به جيب الزمان مشقوقاً، وسكر الحدثان مبثوقاًن ولواء الدين مخفوضاً، وبناء الإسلام منقوضاً، واقشعت سماء شام أبناء الدين وبوارقها، وخاف أحزاب الكفر والجحود صواعقها ".... (1) فقول ابن شداد إذا وضع إلى جانب هذا الكلام ظهر في غاية الاعتدال. وإذا كانت بعض السير ترتيباً وجمعاً للأخبار المتعلقة بشخص واحد، فإن سيرة القاضي بهاء الدين صورة للمذكرات كتلك السير التي كتبها ابن زولاق من قبل. صحيح أنه صور صلاح الدين فيها مقالاً للحاكم المسلم؟ وربما لم يكن هذا بعيداً عن الواقع؟ ولكنه أيضاً عرض صلاح الدين من خلال أعماله دون تزيد أو إغراق، ولم يهتم بالمقدمات الفضفاضة عن أولية الأيوبيين كما فعل النسوي أو العيني في السيرة المسماة " السيف المهند في تاريخ
(1) سيرة السلطان جلال الدين: 378 - 282.
الملك المؤيد ". فإنه بدأها بالكلام على توزيع البشر ثم في وصف القبائل التركية والجركسية ونسب المؤيد ثم في مميزات كل شخص لقب بالمؤيد، والسر الكامن وراء كون المؤيد تاسع تسعة منالحكام الأتراك بمصر، وميزة تاريخ اعتلائه العرش. ثم سرد لأحداث وقعت في عصر المؤيد، على شكل ركام من الأخبار؟ وأكثره تافه؟ لا رابطة فيه من قدرة على الترجمة أو قدرة على التاريخ. وقد يكون هذا نقصاً في كاتب السيرة، ولكن لا شك في أن كثيراً من السير كتب على هذا النحو وقليل منها هو الذي حاذى في طبيعته سيرة بهاء الدين ابن شداد. (1)
ومن يتتبع كتابة السيرة التاريخية، يجد أنها لم تخضع للتطور إلا في أمور شكلية بسيطة، وإنما كان تفاوتها رهناً بالتفاوت بين كاتب وآخر؛ وهو قبل كل شيء تفاوت في الإحساس بمعنى التاريخ نفسه. فسيرة ابن طولون للبلوي؟ مثلاً؟ أجل فائدة من حيث تصوير النواحي الاجتماعية بمصر، وسيرة ابن شداد أكثر اهتماماً بالأحداث الحربية التي خاضها صلاح الدين.
وليس من السهل أن نحصر التأليف في السيرة أثناء العصور الإسلامية. فبعد سيرة ابن إسحاق، طغى سيل التأليف في هذه الناحية وكثرت السير كثرة واضحة. وقد يقال أنه كان لمصر نصيب وافر في هذا الاتجاه؛ فهناك سيرة عمر بن عبد العزيز
(1) Rosenthal: Mus. Hist.: p. 93.
لابن عبد الحكم، والسير التي كتبها ابن زولاق وابن الداية والبلوي، وسيرة اليازوري وزير المستنصر، والنوادر السلطانة للقاضي بهاء الدين؛ واشتد الميل إلى كتابة السير بمصر أيام المماليك، فكتب محيي الدين بن عبد الظاهر سيرة الظاهر بيبرس وكتبها أيضاً عز الدين بن شداد. وكتب ابن دقماق سيرة الظاهر برقوق وترجم العيني للملك المؤيد والملك الأشرف، وأفرد غيره من المؤرخين سيرة لكل من الظاهر ططر والأشرف برسباي (1) . وقد يشجع على هذا الظن أن مصر عرفت عبادة الفرد منذ أزمنة قديمة، ودار تاريخها حول تخليد الحاكم. والحق أن الاستقراء الدقيق يدل على أن البلاد الإسلامية شاركت مصر في هذا النشاط حتى أربت عليها، وشاركتها الشعور بقيمة الفرد المتسلط والميل إلى تمجيده وتخليده. ولكن أكثر السير المصرية؟ إن صحت التسمية؟ لم يطو مع الزمن، وأحيت المطبعة الحديثة عدداً غير قليل منه، ولبست ميزة هذه السير في كثرتها، بل ميزتها الصحيحة في ذلك الأسلوب المستوي البسيط الذي كتبت به، وتلك الحيوية الجميلة التي تشيع في السرد والقصص؛ نعم إن السيرة أصيبت بما أصاب الأدب عامة بعد القرن السادس من تكلف والتواء، ولكن بعضاً من السير التي كتبت بمصر سلمت من هذا الداء، واحتفظت بأسلوب مقارب لا هو بالأسلوب
(1) الجواهر والدرر: 516 وكذلك كشف الظنون.
المصنوع ولا هو بالركيك الضعيف، وليس من موضوع هذه الدراسة أن تتناول هذه السير من جانبها الأسلوبي ولكني؟ على ذلك؟ أستطيع أن أقول إنها تحتفظ بصورة صادقة للحوار الشعبي والكلام الدارج مع المحافظة على قسط كبير من السلامة اللغوية، وهذا هو سرها بالإضافة إلى ما تقدمه من فوائد للدارس الاجتماعي وما استطاع أن يقدمه الجاحظ للأدب في العراق من نقل أمين لصور من حياة ذلك البلد في نماذج من أشخاصه وأخلاقهم، استطاعت مصر أن تقدمه في السيرة التاريخية؟ أعني في ذلك الجانب الممتع منها. ولكن هذه السير عامة لم تتخذ طابعاً يمكن أن نسميه " فنياً " إلا في أجزاء قليلة منها.