المَكتَبَةُ الشَّامِلَةُ السُّنِّيَّةُ

الرئيسية

أقسام المكتبة

المؤلفين

القرآن

البحث 📚

‌ الدرجة الفنية في السيرة - فن السيرة

[إحسان عباس]

الفصل: ‌ الدرجة الفنية في السيرة

3 -

‌ الدرجة الفنية في السيرة

من الضروري أن نستعيد بعض الحقائق التي مرت في الفصلين السابقين لنكون على بينة من أمر السيرة وصلتها بالفن، وفي مقدمة تلك الحقائق أن السيرة التاريخية كان ينقصها البناء الكامل أو الهيكل الواضح، ومعنى هذا إن تزويدها بالهيكل أو البناء أمر لازم لها قبل أن نحكم عليها أهي فن أم لا. لأن كل عمل فني لا بد من أن يكون ذا بناء معين. ثم لا بد من أن تكون غايتها الرغبة في تاريخ حياة فرد من الأفراد؟ أو جانب كبير من حياته؟ لا تحقيقا لنظرة خاصة، أو فلسفة محدودة. وهذا يقتضي كاتب السيرة أن يدير الأحداث حول الشخص المترجم، ولا يسمح لحياة الأشخاص الآخرين بالتحكم في منحى السيرة، ولا يعرض من حياتهم إلا المقدار الذي

ص: 73

يوضح حياة بطل السيرة نفسه. وقد يتجه الكاتب في طريقته نحو التحليل، وقد يتجه نحو التركيب، ولكنه سواء سار في هذه الطريق أو تلك، عليه ألا يسخر الأحكام والأحداث وملابسات الحياة لعاطفته، فإن ازدياد العاطفة ينحرف بالسيرة عن وضعها الطبيعي، بل لا بد له من أن يبني ما يكتبه على أساس متين من الصدق التاريخي، فإذا ضعف عنصر الصدق في السيرة لم تعد تسمى سيرة، لأن الخيال قد يخرجها مخرجا جديدا ويجعلها قصة منمقة ممتعة.

ولنفرض أن سيرة تحقق لها البناء الكامل، وكانت غايتها الرغبة في تاريخ حياة فرد من الأفراد، وكانت حياة هذا الشخص في الداخل والخارج محورا تدور حوله الأحداث، وشخصيته قطبا تلتقي عنده الشخصيات الأخرى: فهل بهذا كله تصبح السيرة عملا فنيا؟ أليس قيامها على عمل الذهن في الاختيار والنفي، وفي محاكمة الروايات وقبول بعضها ورد البعض الآخر، ما يوحي بأنها من هذه الناحية تفارق الفنون الأخرى التي لا بد أن تتدخل العاطفة في بنائها تدخلا مشروعا؟ ثم أليس الالتزام بالصدق التاريخي فيها ملزما للكاتب بأن يكبح جماح الخيال، وأن يقف عند الحقائق، يعرضها ويرتبها ترتيبا خاصا؟ وهذا العرض والترتيب أهما في ذاتها عمل فني تتطلبها السيرة تبعدها من الدائرة الفنية بينا يحاول كاتبها أن يقترب بها من

ص: 74

حرم الفن. بل لو تأمل القارئ عمل ليتون ستراتشي نفسه وهو أكبر قوة خالقة في تاريخ السيرة، لوجده أخضع السيرة لغاية غير الغاية التي تفترض لها، فكان يعيد للأذهان مهمة السيرة عند رجل مثل أفلاطون، حين دون في محاوراته آراء سقراط، أو رجل مثل فلوطرخس يتخذ من السيرة مطية لإظهار المبادئ السياسية التي يؤمن بها؛ ومرة أخرى يظهرنا ما قام به ستراتشي على ابتعاد السيرة عن الفن الخالص، فقد كتب سيرة الملكة فكتوريا وسيرة الملكة أليصبات. أما الأولى فحياتها واضحة، والمعلومات عنها كثيرة، والوثائق المتصلة بعصرها محفوظة، وأما الثانية فإن تراخي الزمان قد جعل حياتها غير واضحة، وأقام سدا كثيفا بين الكاتب وبين عصرها، ورماه بالعجز دون التمثل الصحيح لعلاقات الناس وأذواقهم ومشاربهم في ذلك العصر. فحين كتب ستراتشي حياة فكتوريا تعلق بالحقائق، وزم من خطران الخيال، واختصر الكلام حين كانت تعوزه الشواهد؛ أما حين كتب حياة أليصبات فإنه أطلق العنان لخياله وأفاض واسترسل. فماذا كانت النتيجة؟ نجح هذا الكاتب نجاحا منقطع النظير في سيرة الملكة فكتوريا، وأدركه الإخفاق في سيرة أليصبات، ودل إخفاقه على إن مبارحة الحقائق عند كتابه السيرة، فيه كل الخطر على كيانها العام (1) .

والحرية في الخيال هي التي تضع الحد الفاصل بين القصة

(1) انظر تفصيل هذا عند فرجينيا ولف The Art of Biography.

ص: 75

والسيرة، فالقصصي حر في الخلق والبناء، يملك أن يتخيل مواقف ومحاورات، وله الحق في أن يصف التيار الداخلي في أنفس الشخصيات التي يرسمها، وقد يلجأ في بناء الشخصية إلى بعض العناصر المستمدة من التاريخ، ككاتب السيرة أيضاً، ولكنه كثيرا ما يخلق العناصر التي يراها ملائمة لمواقف شخصياته، فيتقمص هذا وذاك، ويبني عالما جديدا ليس له من صلة بالواقع إلا أنه شبيه به، وأن حدوثه أمر محتمل؛ أما كاتب السيرة فلا بد له من مذكرات ورسائل وشواهد وشهادات من الأحياء؟ أحيانا؟ يعتمد عليها في كل خطوة، وكثيرا ما تعوزه الشواهد في أدق المواقف، وكثيرا ما تكون الشواهد التي يعتمد عليها متناقضة أو ناقصة أو منحرفة عن موضعها، فلا حيلة له في مواطن النقص وانعدام الوثائق، وقد يعجز لقلة الأدوات التي يملكها عن أن يكشف عن درجة التناقض والتحريف، فيقف متكوف اليدين حائرا، وتصبح كتابة السيرة أمرا عسيرا أو مستحيلا؟ يقرأ فيما يقرأه من روايات إن أهل مصر حين زارها أبو نواس، ثاروا على الخصيب أمير الخراج، فخرج أبو نواس إليهم وخطب فيهم وأنهى خطبته بقوله:

فإن يك باقي سحر فرعون فيكم

فإن عصا موسى بكف خصيب فإذا لم يكن كاتب السيرة واعيا بما يعمل فإنه يمر بهذه الحادثة ويقرنها بغيرها من الأحداث، ولكنه إن كان شامل النظرة فيما يزاوله، لا يلبث أن يستكشف كيف أن الروايات

ص: 76

الأخرى حاولت أن تصور أبا نواس منحلا فرديا لا علاقة له بالأحداث من حوله، فموقفه هذا ونجاحه فيه؟ أو عدم نجاحه (من يدري؟) ؟ شيء جديد في سيرته، كيف حدث هذا؟ هل هو من محض الخيال؟ أو هل كان صحوة من سكرة عميقة؟ ويقرأ عن ابن خفاجة الأندلسي نصا غريبا ممعنا في الغرابة لم يتعود العثور بمثله في السير، لأن روح المحافظة حرمت عليها التدخل في الأمور النفسية والأشياء الخصوصية؟ يقرأ أن ابن خفاجة كان يذهب كل يوم إلى مكان بين جبلين ويصيح هنالك " يا إبراهيم! تموت؟ " ويظل يصيح حتى يقع مغشيا عليه، ثم تنقطع الرواية، ثم لا يكون في سيرة ابن خفاجة شيء وراءها يوضح عقدة نفسيه خاصة، وهو في شغفة ليكتب سيرة ابن خفاجة يقف عاجزا عن ذلك، لأنه لا يعرف من أحداث حياته شيئا إلا شيئا يسيرا، لا يصنع سيرة ممتعة. ويرى " في ظلمات وأشعة " رسالة كتبتها مي جعلت عنوانها " أنت أيها الغريب " ثم يقرأ هذه الرسالة نفسها منسوخة من كتاب مي مضمنة في " أوراق الورد " للرافعي، فيظن أن ميا كانت تحب الرافعي، ولولا أنها كانت كذلك لما تجرأ الرافعي على أن ينقل الرسالة من موضعها في كتابها إلى موضع في كتابه، وتنبني أمامه لبنة من لبنات ذلك الحب، ثم لا يلبث أن يجد آخرين يزعمون أن هذه الرسالة إنما كانت موجهة لجبران. للرافعي او لجبران؟ أين هي الحقيقة؟ ماذا كان موقف مي؟ أحقا إنها

ص: 77

كانت تعتمد اللجوء للقضاء من أجل هذه الجرأة التي تطاول بها الرافعي؟ وبينا هو يبني في ذهنه فصلا من حياة الرافعي وعلاقته بمي تجد هذا الفصل أنهار من أساسه، أنه لم يستطع أن يصل فيه إلى الحقيقة الكامنة وراء هذه الظاهرة. ويضرب صفحا عن كتابة سيرة الرافعي لما واجهه من عقبات، ويرمي ببصره إلى المتنبي، الرجل الذي ملأ الدنيا وشغل الناس، وفي نيته وهو يرسم صورته أن يسخر من العظمة والدعوى، وأن يضرب الغرور الإنساني في الصميم، فيجد أن المتنبي في أشد أوقات الصيف حرارة بالعراق كان يلبس قباء من سبع طاقات، وأنه إن دخل عليه ضيف لم يقم له؛ وتسعفه السخرية ليقول:" ولا أدري أهو الكبر الذي منعه من القيام أم ثقل الملابس التي كان قد تدثر بها "، وإلى هذا الحد تراه قد نجا بطريقة لبقة مقبولة من أن يقال له: قد زورت في سيرة أحمد بن الحسين. وبينا هو يجري بالسيرة إلى غاية، تجده بلغ ثنية لا جواز عندها. فكل الظنون تجمعت من هنا وهناك، لتقول له أنه أحمد بن الحسين لم يكن يحب سيف الدولة من أجل الكمال الذي وجده مجسداً على الأرض في شخصه، وإنما كانت دوافع هذا الحب مستمدة من حب آخر، هو هيامه بخولة أخت سيف الدولة. وتلح هذه المسألة على دماغه، ويثور لها خياله، ويقلب المصادر وينقب في الروايات، ويعود وقد امتلأ أسفاً. ولو كان روائياً لم يكتف بهذا الخبر، بل لاخترع منظراً من اللقاء بين المتنبي وخولة

ص: 78

ولصور لنا المتنبي في ساعة من ساعات الحنين، وهو يلوح بسيفه في قتام المعركة، ولتحدث عن نفسية المتنبي حديثاً طويلاً وهو يفارق حبيبته إلى مصر، انقياداً لروح الكبرياء فيه، عارفاً أنها رحلة لا رجعة بعدها.

ولا أظنني متشائماً أو غالياً حين أقرر أن كتابة سيرة لأحد الأقدمين عندنا تعد أمراً معجزاً، وأن أكثر ما يحاوله الكتاب اليوم ليس إلا جهداً مبذولاً لترتيب بعض الروايات أو تصحيحها فليس لدينا الشواهد الضرورية من رسائل ومذكرات، وهناك اضطراب في الأخبار تبعاً لاختلاف الميول عند أصاحبها، وأخذ هذه الأخبار دون تعيين التيارات التي تحركها في الخفاء؟ أو في العلن؟ أمر يقضي على الصحة التاريخية المنشودة في كتابة السيرة. ومن هذه الناحية، يكاد الصدق التاريخي يبدو أمراً مستحيلاً، فنحن عاجزون عن أن نبني سيرة فرد ما، إن كنا لا نعرف من حياته إلا أخباراً متناثرة عن مشاركته في الحياة العامة دون نفسيته، ودخائل حياته بين أصدقائه وأولاده وزوجه وخادمه. ثم هنالك شيء هام لابد أن نتذكره ونحن نعالج سير الأقدمين وهو أنهم لم يكن لديهم خط قوي يفصل بين الخيال والواقع، فهذا الفصل الدقيق سمة من سمات العصر الحديث، ولذلك تمتزج الحقيقة بالخيال في كثير من الأخبار التي وصلتنا، لأن الخبر؟ من حيث هو؟ كان أمراً يستحق التسجيل، دون نظر إلى الظروف الكثيرة من

ص: 79

حوله. ويقابل هذا عند المحدثين قلة اهتمامهم بالوثائق، فقليل هم الذين يحتفظون بالمذكرات والرسائل، وقد قوي الميل أخيراً عند السياسيين أو المتصلين بحياة السياسة وحياة الرقص والغناء إلى كتابة مذكراتهم، وتسجيل الرسائل التي تلقوها أو صدرت عنهم، حتى كأن السير في المستقبل ستكون سهلة ميسورة حين يتناول الكاتب حياة رجل سياسي أو حياة أحد العاملين في ميدان الغناء والتمثيل. أما فيما يتعلق برجال الفكر والأدب فإن الأمر لا يزال غامضاً، وتسجيل المذكرات واليوميات، والاحتفاظ بالرسائل مما لم ينل بعد؟ العناية الكافية.

وعند هذا الحد قد نسمع من يقول: هل يستطيع الكاتب المعني بالسير أن يعالج سيرة أي فردكان، حتى ولو توفرت لديه الشواهد اللازمة؟ وهل كل سيرة تستحق الصياغة والعناية والبناء؟ والجواب على ذلك أن كاتب السيرة جدير بالقدرة على صياغة أي سيرة تعرض له، حين يجد أمامه المسعفات من الشواهد، ولكنه يقبل على السيرة التي تعجبه أو تعجب روح العصر ونزعات القراء، أو تثير لديه رغبة ذاتية، لأن السيرة؟ كما شهد موروا؟ قد تكون تعبيراً ذاتياً عن نفسية كاتبها، وبعض الحماسة للعمل نفسه يبعث وقدة من الحياة فيه. ولذلك كان من الطبيعي ألا يقبل الكاتب على كتابة أي سيرة في الوجود؟ دون تمييز؟ أما أن كل سيرة أن تكتب فأمر كان يقول به جونسون وكولردج، ولكن الواقع ربما أثبت غير

ص: 80

ذلك، فقد يكتب المرء سيرة رجل من النكرات، أو سيرة رجل عادي، ثم ينسى كتابه بعد صدوره بقليل. إن المتعة التي يتبعثها القصة في نفوس القراء، لا تحققها السير إلا أن كانت قائمة على شخصية لها مميزاتها الفارقة، سواء كانت تلك المميزات مستمدة من الأحداث الدائرة حولها، أو من طبيعة السلوك الخلقي والنفسي. وفي حياة كل شخص فترات جامدة متوقفة لا نشاط فيها، ولا يستطيع كاتب السيرة أن يظهر هذه الفترات، فإذا كثرت تلك الفترات الراكدة في حياة أحد الناس، لم تكن حياته صالحة تماماً لأن تصاغ في سيرة، ولو كان شخصاً متألقاً في الحياة الاجتماعية. وإذا كانت حياة إنسان هادئة في الخارج قائمة على الصراع في الداخل، كان من العسير أن يصورها كاتب السيرة لأن الذي يفهم هذا الصراع ويعرف دواعيه وأوقاته هو ذلك الإنسان نفسه، فإذا لم يصرح بها أو يكتب مذكراته عنها، بقيت محجبة عن اعين الجمهور، مجهولة عند كل إنسان، عدا صاحبها. ولذلك كان لا بد لنجاح السيرة من هذا التعاون بين الحيوية الخارجية المتصلة بالمجتمع، والصراع النفسي الداخلي؛ ولا بد من بعض التقلبات والأعاصير التي تحتاج حياة شخص ما لتجعل منها موضوعاً صالحاً للسيرة، مثيراً لشهوة الاستطلاع. إن اندريه مورواً نفسه لا يستطيع أن يكتب أي سيرة أخرى ثلما كتب سيرة شللي، لأن في حياة شللي نفسه من الأحداث والتقلبات والثورات، ما يبث المتعة في

ص: 81

أكثر أجزائها، ولا أظن كاتب السيرة تستهويه قصة حياة أحمد لطفي السيد، أو أمد شوقي، إلا من قبيل الوصل بين الحياة والإنتاج الفكري والأدبي، ولكنه قد ينجح إذا كتب حياة جمال الدين الأفغاني، وربما فضل شخصيات ذات نهاية تراجيدية، أو شبه تراجيدية فكتب عن مصعب بن عمير ذلك الفتى المدلل الذي ثار على سلطة الأبوين، واعتنق الإسلام، وكان كل من يراه يلبس جلد الضأن بعد العز والغنى، يهز رأسه دهشة لهذا التغير في حياته، ولكن أي كاتب يحاول ذلك سيصدم بقلة الأخبار عنه. وقد يختاره سيرة الحسين بن علي لأنتهاء حياته على شكل مروع ولكنه يفقد النمو الأول الذي منح الحسين نظرته السياسية، وفكرته عن طبيعة الصراع الدنيوي بين الناس. وهو شيء لن يفقده في سيرة علي بن أبي طالب، فإن الخط البياني في حياته واضح، ونقطة الانحناء في ذلك الخط هي وفاة الرسول صلى الله عليه وسلم. وليس من العسير أن يلمح كاتب السيرة ذلك الصراع النفسي الذي شغل حياة علي في مرحلته الثانية، ولا طبيعة التغير الذي نقل الفارس المحارب إلى قائد يرسم الخطط، ولا تلك الوقفة المزدوجة بين السعي لبلوغ الغاية، والندم على طبيعة الوسيلة، ولا ذلك العرق التراجيدي الخالص الذي يختم الصراع بين الشعور بالحق والمصالح المجتمعة. وقد يجد في سيرة المنصور بن أبي عامر، حاجب الأندلي ووارث الدولة الأموية، شيئاً من " الوصولية "، ولكنه لن يعدم أن يرى فيها قوة

ص: 82

الشخصية، وستتيح له كتابتها تصوير بين ذوي الطموح في المجالات المختلفة.

وأم ما يلحظه الكاتب في السيرة، النمو والتطور والتغير في الشخصية، مع مراحل التقدم في السن، ولذلك كان من المحتوم عليه أن يتتبع التدريج التاريخي، وأن يلحظ بدقة تأثير الأحداث في الخارج والداخل على نفسية صاحبها؛ فليس أبو حيان التوحيدي الذي كان يطوف البلاد على قدميه في زي صوفي، هو نفسه الذي كان يطوف بين مجالس الفلسفة ببغداد، وليس ابن تومرت الفتى المغربي المغترب، هو نفس ابن تومرت بعد أن لقي الغزالي وتخرج في المدرسة النظامية. وهناك فرق واسع بين المعتمد بن عباد في اشبيلية، والمعتمد في اغمات، ومن واجب الكاتب أن ينمي عند القارئ مقدار الشعور بهذا الفرق، في طريقة إيحائية لبقة بارعة.

وإذا كان كاتب السيرة غير محتاج إلى قوة كبيرة من الخيال الخالق، فانه لا يستطيع الاستغناء عن الإطلاع الواسع؛ فكل رواية، وأحياناً كل مكلمة، لها قيمة في إنماء تصوره، وفي تجلية السيرة التي يريد أن يكتبها. فمما يفيده حقاً أن يعرف من طريقة الحسن البصري في الجواب، ابتداءه حديثه في الرد بكلمة " ويحك

" أو أن يسمع أبا حيان التوحيدي يقول عن نفسه: " قدمت مضيرة على مائدة الصاحب فأمعنت فيها " فإن كلمة " أمعنت " هذه تنقل له صورة، ربما لم تسعفه على تكوينها صفحات

ص: 83

كثيرة من الأخبار. وكتاب مثل طبقات ابن سعد يفيده كثيراً لأنه يعني بدقائق الأمور، كالثياب التي كان يلبسها المترجم له، وثمنها ولونها وطريقة لبسها، وطريقة اللقاء والتحدث، ووصف القامة واللون والمشية، وهي دقائق يعز وجودها في مصادر أخرى.

ولا بد له من يقظة ذهنية مستمرة، مشفوعة بإرهاف خاص في التمييز والحدس والترجيح، ذلك لأن مهمة كاتب السيرة كمهمة أي فنان بعد أن تصبح المادة جاهزة لديه؟ مهمته هي أن يقرب ويبعد، ويستبقي ويرفض، وأن يضع ميزان الأختيار أمامه، فما كل شيء يستحق التسجيل، وليس يكفيه أن يكون له ما للمؤرخ من قوة ناقدة، تعرف أين هو موطن الضعف، وتفرز الرواية المغرضة من الرواية الصحيحة. بل لا بد له من إدراك ذوقي دقيق، يعرف ما يحسن أن يبقيه أو ينفه من الصحيح نفسه. فقد يجد ي الروايات أن عمر بن عبد العزيز أتى يوماً بمسك من الفيء، فوضع بين يديه فوجد ريحه، فوضع يده على أنفه، وقال: أخروه حتى لم يجد له ريحاً (1) ، فإذا قبل هذه الرواية، واطمأنت إليها نفسه، فأرى له ألا يثبتها لأنها لا تثير في نفس السامع الحديث إلا الضحك، وإذا أبى إلا إثباتها فعليه أن يمهد لها في نفس القارئ، بما يصيب المقاييس من تغيير وما يلحق المفهومات من تفاوت مع الزمن. وفي المصادر العربية خاصة لا توجد في غيرها، وربما كانت من سيئاتها لا من حسناتها

(1) ابن عبد الحكم: 44.

ص: 84

وهي أن ليس هناك حد لاستيفاء الأخبار عن هذا الشخص أو ذلك، على وجه قارب، لأن الأخبار مبعثرة في صفحات الكتب وجمعها عمل شاق ضروري معاً، وهو السبيل الوحيد لضبط التصوير والتقدير. فلو أن كاتباً أراد أن يترجم للزبير ابن العوام، ولم يقع على الرواية التي تصور كيف كانت أمه تقسو عليه في طفولته، وتضربه ضرباً مبرحاً، لكان قد فقد شيئاً هاماً حقاً، يفيده في الحكم على طفولته البير، وعلى ما يلي فترة الطفولة.

فكاتب السيرة أديب فنان كالشاعر والقصصي في طريقة العرض والبناء، إلا أنه لا يخلق الشخصيات من خياله، ولا يعتمد الشخصية الأسطورية، ككاتب المسرحية، فهو لا يستطيع أن يقول شيئاً عن أوديب أو يمليخاً أو شهرزاد، لأن شخصياته تتصل بالمكان والزمان، ولا توجد إلا بوجودهما؛ ومن ثم كان في طريقته أقرب إلى المعماري، وهو كالمؤرخ في قوة النقد، وكالعالم في القدرة على التصنيف والتقسيم. وإذا أنشأ سيرة ووفق في إنشائها حقق غاية كالتي يحققها القصصي، أو زاد عليه، لأنه يمتع قراءة بصورة الواقع الملوس. ولإعادة الحياة كما عاشها أحد الناس المرموقين في ذهن القارئ، سحر لا ينكر، ولكن العيب في شخصياته أنها غير طويلة العمر، لأنه أعاد فيها عمل الطبيعة دون أن يضيف إليه، ولم يمنح الشخصية وجوداً جديداً إلا بمقدار محدود.

وقد تعترضه مشكلة هامة إذا كان يكتب سيرة أديب أو

ص: 85

شاعر. فأمامه الوثائق الجانبية، وعنده أيضاً آثار ذلك الشاعر أو الأديب، فإلى أي حد يستطيع أن يستغل القصائد والروايات المسرحية في كتابته للسيرة؟ ليس ثمة من ينكر أن القصيدة تحوي التعبير عن نفس الشاعر، وأنه قد يكون في جانب من القصة جزء من شخصية كاتبها، وأن المسرحي قد يوزع بعض خصائصه على عدد من الشخصيات في الرواية، أو يخص بها إحداها. ولكني لا أرى أشد تضليلاً ن هذا العنوان " حياة فلان من شعره "، كما فعل العقاد في كتابه عن ابن الرومي. والخطأ عند العقاد في العنوان لا في الكتاب، فهو قد قام بحق التاريخ، حين جمع الأخبار الممكنة عن الشاعر، ثم حاول أن يجد في الشعر صورة لشخص ابن الرومي، وبعض أخباره. ولا ريب في أن أي دارس يستطيع أن يقول: إن ابن الرومي فقد ابنه الاوس ثم ابنيه الآخرين و.. فإذا كانت هذه هي الحياة المقصودة فاستنتاجها من الشعر ميسور، أما أن يترجم أحد الدارسين لشاعر، بالاعتماد على شعره فحسب، فتلك مسألة لا يمكن تحقيقها، لأن الشعر لا يصور إلا حالة وجدانية أو شبيهة بها، في لحظات معدودات من حياة قد تكون غير قصيرة. وكذلك أخطأ الذين حاولوا أن يكتبوا حياة شيكسبير بالاعتماد على مسرحياته، وأن يلموا عناصر شخصيته، من العناصر المكونة لشخصياته في الروايات (1) . بل أن العمل الفني حين يحتوي على عناصر من حياة

(1) انظر Theory of Literature PP. 66 - 71.

ص: 86

الفنان نفسه أو شخصيته فإن هذا لا يعني أن من حقنا إخراج هذه العناصر، وإدراجها في سيرة نكتبها، لأن هذه العناصر حين دخلت في البناء فقدت معناها الفردي الشخصي وأصبحت مادة إنسانية محسوسة. وشيء آخر وهو أن ما يصرح به الفنان، ربما لم يكن مما حدث له، بل مما يحلم به ويتمناه، وربما كان قناعاً يخفي وراءه شخصيته الحقيقية. فالعمل الفني ليس وثيقة من الوثائق التي تستعمل في كتابة السيرة، وإذا أخذ شيء من ذلك فلا بد أن يؤخذ بحذر بالغ.

وأنا اتهم الطريقة التي قد يراها بعض الناس صواباً، والتي تريد أن تكشف عن توفيق الحكيم أو تيمور أو غيرهما في شخصياتهما الروائية أو القصصية. بل أذهب إلى أبعد من ذلك، حين أرى أننا لا عرف المازني من " إبراهيم الكاتب "، ولا توفيق الحكيم من " عودة الروح " ولا العقاد من " سارة "، ذلك لأن هؤلاء حاولوا أن ينسجوا جانباً من تراجم الذاتية نسيجاً قصصياً، وللقصة مبناها، ومتطلباته وأحكماها، فكم أجرى هؤلاء من تغيير الواقع حتى تتلاءم قصصهم وتنسجم أجزاؤها؟ وكما أضافوا إليها من خيالهم؟ وكم موقف سابق فسروه، من بعد، التفسير الذي يلائم ما طرأ عليهم من نمو عاطفي وذهني؟ غير أنا قد نفيد من هذه الكتب لتعزيز الشواهد الأخرى، من رسائل ومذكرات وروايات شفوية. أما أن نكتفي بهذه الكتب وحدها، فأمر يشوه الحقائق، ويباعد بيننا

ص: 87

وبين الصدق التاريخي.

وليس من ريب في إن " سارة " أو " عودة الروح " أو " عصفور من المشرق " أو " إبراهيم الكاتب " تتضمن نواة من حياة أصحابها وبعض الأحداث التي وقعت لهم، ومعالم من شخصياتهم وذواتهم، لأن هؤلاء كتاب ذاتيون في هذه الكتب على وجه الخصوص، فمحسن في عودة الروح يمثل كثيراً من توفيق الحكيم، ولكنه ليس توفيق الحكيم، لأنك تستطيع أن تقف عند كل نظر في القصة وتتساءل: أحدث هذا حقاً على هذه الصورة التي يصفها الكاتب؟ أجرى هذا الحوار تماماً كما جرى في الواقع؟ أحقاً أن الكاتب يستعيد مشاعره كما أحسها في تلك السن؟ وإذا كنت تقطع جازماً بان " محسن " هو الحكيم في هذه القصة فما صلة لحكيم بشخصية مصطفى؟ إنه يتحدث عن مشاعره وحركاته كما لو كان يتحدث عن نفسه، ولا يستطيع شخص ثان أن يرى ما كان يتحدث لمصطفى، إلا إن كان ظلاً له. فإذا استباح الحكيم أن يقص قصته الذاتية على حالها فهل كان دقيقاً في استقصاء الواقع حين اخذ يتحدث عن مصطفى كأنه هو؟ أليس هذا الجزء من القصة يدل على أن الحكيم تخيل ما شاء له التخيل، لا في مواقف مصطفى فحسب بل في سائر قصته؟ ها هو ذا يقول واصفاً مصطفى، وهو ينتظر ظهور سنية: " فتململ في مكانه وأخرج منديل الصدر الجميل الذي بلون بذلته، فمسح به جبينه، ثم شمر عن معصمه الأيسر، ونظر في ساعة اليد الذهبية، وقد خيل

ص: 88

إليه أنه جلس قرناً، ثم تأكدت في رأسه فكرة أنه لن يراها اليوم، فتحرك في كرسيه، قائلاً في نفسه: أنه ما دام يعلم ذلك فلماذا يجلس بالقهوة الآن " (1) ثم يحلل ما يدور في نفس مصطفى من هواجس، ويتبعه في كل زاوية ومنعطف، ويجريه أنى شاء، ويخلق له المشكلات ويحلها، حتى كأنه هو مصطفى نفسه. وهذه الطريقة القصصية تجعلنا نعتبر حديثه عن حسن أيضاً مزيجاً من الواقع والخيال. فإذا وجدت شواهد يقينية فإنها تفيدنا في معرفة العناصر الذاتية التي انتزعها الحكيم من نفسه، وأضفاها على شخصية محسن، أما أن يقال إن " محسن " هو توفيق الحكيم، وأن ما جرى له في " عودة الروح " جرى للحكيم نصاً وروحاً. فهذه غفلة تؤدي إلى التفاهة في الأحكام.

وفي دافيد كوبر فيلد شيء كثير من حياة دكنز، ولكن ذلك القصصي لم يلتزم أيضاً بالموازاة الدقيقة بين نفسه وشخصية كوبر فيلد، بل خضع للروح القصصية، فمثلاً تزوج دافيد من اجنس Agnes في القصة مع إن هذا هو عكس ما حدث في الواقع (2) .

يقول توماس هاردي في نقد من يعتمد على قصص الكاتب لاستنتاج العناصر الذاتية منها: " لا يزال مستر هحكوك يعتمد على قصصي في وصف شخصيتي، وتحليله ليس من الذوق الحسن في شيء، وأنا ما زال حياً، حتى ولو كان ما يقوله صحيحاً،

(1) عودة الروم 2: 134.

(2)

Aspects، p. 91.

ص: 89

وهو تحليله قائم في الحقيقة على الأحداث والشخصيات في قصصي وكلها من صنع الخيال. واعتماد المستر هجكوك على القصص يؤدي إلى أخطاء عديدة، من ذلك قوله انني نشأت أتكلم اللهجة المحلية، وهذا خطأ، فقد كنت أعرفها ولكني لم أتكلمها فأمي لم تكن تستعملها إلا حين تتحدث إلى الفلاحين، وأبي لم يستعملها إلا مع من كانوا يعملون عنده. وحديثه عن تعليمي مليء بالأخطاء، فهو يقول أنني درست في مدرسة ابتدائية ثم حرمت من الدراسة الكلاسيكية. وحقيقة الأمر أنني درست سنة أو اثنتين في المدرسة الابتدائية، حتى بلغت العاشرة، وبدأت تعلم اللاتينية وأنا في سن الثانية عشرة

" (1) .

وخلاصة القول: أن السيرة فن لا بمقدار صلتها بالخيال، وإنما لأنها تقوم على خطة أو رسم أو بناء، وعلى ذلك فهي ليست من الأدب المستمد من الخيال، بل هي أدب تفسيري، وهذا النوع من الأدب كالأدب الذي يخلق خلقاً، من حيث أن صاحبه معني بغاية محدودة تهديه في اختياره وترتيبه للحقائق، وهو كالروائي والقاص أيضاً، يحاول أن يكشف عن الصراع بين بطل سيرته والطبيعة، وصراعه مع الناس الآخرين ومع نفسه وهو يحاول أن ينقل إلى القراء حقيقة ذات قبول عام، ولكنه لا يستطيع أن يحكم خياله في أجزائها، وبدلاً من أن يقف موقف

(1) من قطعة اقتبسها موروا في كتابه " Aspects of Biog. P. 89 ".

ص: 90

الخلاق تراه يقف موقف المستكشف المفسر لأشياء وأشخاص وجدوا في الحقيقة (1) . ولا بأس إذا وضع شيئا من الحرارة في الحوار الذي يجريه في السيرة، فذلك مع البناء العام لها، كفيل أحيانا أن يحقق الخطة المؤثرة، وأن يثير العطف على بطل السيرة، كما يستثير الروائي العطف على البطل التراجيدي. وإذا استكنه القارئ هذه الحقائق الموجزة استطاع أن يجد السر في تفضيلنا لسيرة جبران، كما متبها ميخائيل نعيمه، فإن العناصر من صراع بين بطل السيرة والناس، وصراعه مع نفسه، والحرارة التي حاول أن يبعثها في الحوار، وذلك البناء الذي يتميز بقسط كبير من الأحكام؟ كل هذه تجعل مما كتبه نعيمه سيرة جميلة ممتعة فنية في كيانها العام؛ ولكن هل حقق نعيمه في تلك السيرة ما يسمى " الخطة المؤثرة "؟ والجواب على ذلك بالإيجاب، على قدر ما تسمح به حياة جبران ونهايته؛ ومن كان يظن أن الكاتب قد أثار كراهية الناس لما انطوت عليه حياة جبران من تناقض مع فلسفته ونظرياته، فإنه مخطئ، عاجز عن تذوق الحرارة على مرارتها، وليس لديه القلب الذي يرى في الخطيئات الإنسانية جانبها الطبيعي المقبول.

وحياة " الملكة فكتوريا " لستراتشي من الأمثلة البارزة أيضاً على إحكام القدرة على التأليف بين متعارضين، هما التفسير الخيالي

(1) Conoiiy، F.: The Types of Literature pp. 441 - 412.

ص: 91

والحقيقة التاريخية، أو كما تقول فرجينيا وولف:" لقد استغل [ستراتشي] كل قدرة المترجم في الاختيار والترتيب، وتشبث بكل قوته، بعالم الحقائق ". وسيظل هذا من أهم العناصر في السيرة، لأنه يمثل الحد القوي بين انجذابها مرة إلى التاريخ ومرة إلى القصة المتخيلة. والوثوق من هذه النقطة يخفف من الزلل أو الالتواء أو الانطلاق وراء الخيال، كما يخفف من جفاف الحقيقة ويسمح بالتخلي عن حقائق غير ضرورية.

فإذا شاء القارئ أن يرى الحد الفاصل بين السيرة وما يسمونه " القصة التاريخية " فانه واجد في الثانية حرية أكثر في الخيال، وشخصيات وأحداثاً مخترعة، وتشكيلاً جديداً، ويختلط كل ذلك بشيء من التاريخ، قائم على فهم عام لروح العصر وطبيعة ناسه. وقد يكتفي القاص باستيحاء التاريخ، ومفهوماته عن العصور، فيكتب تحت تأثير ذلك الاستيحاء من خياله، على أن يكون صادقاً مخلصاً في التعبير عن روح الزمان والمكان، دون تسوية للحقائق الكبرى، والمشاكل العظمى. فجوهر القصة التاريخية متخيل، والأحداث الهامة فيها حقيقة، وليس هدفها أن ترسم حياة شخص ما، كما تفعل السيرة، بل هدفها أن تستعيد صورة الماضي لإثارة بعض المتعة التي لا يحققها التاريخ (1) في نفوس أناس ربما لم تسمح لهم ظروفهم وميولهم، أو هما معاً، بالدراسة التاريخية الجادة. أما

(1) Clark: Studies in Literary Modes p. 3.

ص: 92

السيرة فإنها تزاوج متعادل بين حقائق التاريخ والقوة المتخيلة البارعة في الحذف والإثبات والبناء.

ويتمايز كتاب السير، بعد هذا كله بالطريقة والأسلوب، فقد يختار الواحد الطريقة الدرامية كما فعل ستراتشي في حياة الملكة فكتوريا، ومثل ذلك فعل جرارد ولتر Gerard Walter في كتابه " يوليوس قيصر "؛ إذ يكاد يكون كتابه هذا مسرحية ذات ثلاث فصول: جعل قيصر في الأول منها وعنوانه " المؤامرة " هو البطل، واتخذ كاشيوس وبروتس لتصوير المقاومة، وكشف عن طبيعة المؤامرة، وعن الدوافع عند كل من كاشيوس وبروتس، ثم أثار عطف القارئ على قيصر الذي يترقبه الموت، وفي القسم الثاني وهو " الاغتيال "؟ صور كيف كاد قيصر ينجو من الفخ المنصوب، بعون من إيحاءات نفسه وأحلام زوجه، ثم كيف يقنعه بروتس بالذهاب إلى مجلس الشيوخ حيث يقتل. وفي القسم الثالث تصوير لما نجم عن مقتل قيصر، وللتناحر المزري على السلطة، وارتفاع شأن انطوني (1) . وقد يختار الكاتب الطريقة الحكائية السردية، كما فعل بوزول حين كتب سيرة جونسون. وربما وجد من الأنسب أن يستعمل طريقة التفسير والشرح وذلك جانب مما اهتم به نعيمة في سيرة ج؟؟؟؟؟؟ بران. وقد يمزج بين واحدة وأخرى من هذه الطرق، حسب ما تمليه عليه طبيعة الموضوع، إذ ليس من مرشد إلى الطريقة المثلى إلا حس الكاتب

(1) The Types of Literature p؛ 412.

ص: 93

نفسه، ففي هذا وفي الأسلوب موطن للتفرد الذاتي. وقد تكون الحقائق التي يوردها كاتب السيرة معروفة مشهورة، فميزته الفارقة تتضح في طريقة قولها؟ اعني في أسلوبه الأدبي؟ هذا عنصر هام لا بد منه في السيرة الأدبية، فأكثر الحقائق التي يعرضها العقاد في العبقريات معروف؟ كما قلت من قبل؟ للكثير من الناس، ولكن طريقة عرض العقاد لها، بذلك الأسلوب التقريري الحاد هو الشيء الجديد الذي يملك به القارئ أو يكسب ثقته، لأنه في أسلوبه يوحي بان ما يقوله هو الصدق عينه، لقيامه على ما يعتقده أنه المقرر المرسوم من حقائق العلم والطبيعة الإنسانية. ويفتن نعيمه في إظهار مقدرته الأسلوبية في كل فصل من فصول كتابه، ويتردد فيه بين الاستعلاء الذي يشبه الحذلقة، والبساطة الجميلة، في حالي الابتعاد عن الموضوع والاقتراب منه.

وفي البناء والطريقة، يختار الكاتب التقسيم الذي يريده، فليس عند بوزول مثلاً تقسيمات موضوعية كما إن كتاباً آخرين قد يقسمون حياة بطل السيرة إلى مراحل: أولى وثانية وثالثة الخ

وآخرون يخرجون على هذا النوع التقليدي، كما صنع جرارد ولتر في سيرة قيصر، ومورواً في سيرة شللي، وقد افتتح نعيمة كتابه بتصوير جبران على فراش الموت أي بدأ بالنهاية، فلم ينقص هذا كثيراً من حب الاستطلاع لمعرفة التدرج في حياته، بعد أن عرفت نهايتها ابتداء. وبدأ جلبرت هجت

ص: 94

Gilbert Highet سيرة أوسلر بقوله:

" منذ ما يزيد على ثلاثين عاماً يوم كانت أكسفورد مدينة هادئة جميسلة، مات رجل كبير ذو وجه في خضرة الزيتون، بعد أن ظل يعاني آلام الزكام والتهاب الشعبتين طوال حياته، ولما أن هاجمه الالتهاب الرئوي الهجوم الأخير عرف أنه هموماً كان حينئذ " صديقه القديم "؟ كان رجلاً على حظ من القوة فدافع المرض عدة أسابيع، حتى أعجزه التهاب ذات الجنب والأنفلونزا، عندئذ أدرك أن النهاية قد دنت، وكان هو نفسه طبيباً فلما أراد الطبيب الذي يتعهده أن يشرح له بعض الأعراض قال له: يا لك من مجنون، لقد ظللت أرقب هذه الحالة شهرين، وأنا آسف لأني لا أستطيع أن أقوم بالتشريح بعد الموت. وبعد بضعة أيام توفي مخلفاً وراءه ما تخلفه شخصية غريبة، لكنها كثيراً ما كانت محببة إلى النفوس ".

واذن فلا قيد على الكاتب من هذه الناحية، فذلك جزء من حريته التي لا ينازع فيها؛ وللكاتب أيضاً أن يرسم للسيرة طولاً يسمح باكتمالها، ولكن الطول في السيرة ليس شيئاً صارماً كما هي الحال في المسرحية والقصة، على أن الإتقان في تقدير الطول أمر هام أيضاً، ولكن استفاضة السير، وخاصة عند الغربيين، أمر ملحوظ. ومن النادر أن تجد سيرة قصيرة، فبعضها يتجاوز المجلدين، ويصل أحياناً ستة مجلدات ضخمة، ومن عرف " نابليون " أو " بسمارك " لاميل لدفيج، يدرك أن

ص: 95

السير المكتوب في الأدب العربي، صغيرة بالنسبة لغيرها من السير، وقد يكون الطول فيها حائلاً دون إقبال القراء عليها.

وينص مورواً على ملاحظ صغيرة يجدر بكاتب السيرة أن ينتبه لها، فمن ذلك أنه لا يجوز له أن يسبق الزمن فيقول في حديثه عن شاعر مثلاً: " ولد هذا الشاعر الكبير

الخ " لأنه لم يكن شاعراً ولم يكن كبيراً يوم ولد، وعليه أن لا يقيم السيرة على إحدى المشكلات أو المعظلات، فإن التجربة قد دلت على أن هذا النوع من السير ربما لم يلاق نجاحاً، لأن خير السير ما أوحى بالدرس الخلقي ولم ينص عليه، وإلا حالت السيرة قطعة تعليمية باردة. وثمة مطلب آخر قد يخطئ فيه المتمرسون بكتابة السير، وهو دور الشخصيات الثانوية في السيرة، فلا بد من بعث الحياة فيهم، وتحريكهم والسير بهم في مراحل الحياة، مع سير بطل السيرة نفسه، ولا يجوز الاستخفاف بهم، أو جعل أدوارهم طاغية تتجاوز ما قدر لهم ي واقع الحياة (1) .

ولا ريب في ان السيرة تتدرج من النمو إلى الفناء، ومن المهد إلى اللحد، فهي ترسم فناء قد يشيع فينا الحزن والأسى، وربما مهد لليأس طريقاً إلى نفوسنا، لأن واقعية السيرة هي واقعية على وجهها الظاهر المجرد المعني بالحركة في ارتفاعها ثم انحدارها وتلاشيها، وستظل السيرة كذلك ما دامت هذه هي الطبيعة

(1) Highlights of lit. p. 211.

ص: 96

الحياة الإنسانية، ولكن القيمة الحقيقية إنما هي في الصراع، وفي مدى القوة التي تمنحها القراء، وهي تقدم لهم مثالاً حياً من أنفسهم. حقاً إن من يقرأ قصة حياة شللي سيحزن كثيراً لذلك الموت المبكر الذي بدد الجهد والحيوية والطموح، ومن يقرأ سيرة جبران سيشعر بشيء قريب من ذلك، غير أن في أدوار حياة كل من هذين الرجلين، ما يغرس الثقة في النفس الإنسانية، وما يوحي بأن دور كل منا يجب ألا يمر يائساً خاملاً، على الرغم من النهاية المحتومة.

ص: 97