الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
2 -
نحو السيرة الفنية
ظل أكثر السير في العالم الإسلامي مجموعة من الأخبار المأثورة أو المشاهدات، ليس فيها وحدة البناء ولا الإحساس بالتطور الزمني، ولا تتبع مراحل النمو والتغير في الشخصية المترجمة، وبالاختصار ظلت السير دون شكل تام، ودون محتوى وافٍ كامل، حتى العصر الحديث، حيث واجهت بعض التغير في القاعدة والطريقة، وكان ذلك بتأثير من الثقافة الغربية.
وفي الغرب نفسه لم تكن السير، أحسن حالاً منها في العالم الإسلامي، بل لعل كثيراً من كتاب السير التاريخية عندنا كانوا أسبق إحساساً بمعنى الاعتدال في الحكم والتقدير، واضعين إلى جانب الخطأ حين يتحدثون أو يترجمون
لان " علم الرجال " علمتهم أن هناك جرحاً وتعديلاً، وإن هناك مرتبة وسطى تجمع بين الجرح والتعديل، ولذلك لم تكن السيرة مدحاً مطلقاً أو ذماً مطلقاً بل كثيراً ما كانت تجمع بين هذين في صدق واعتدال. ذلك لأن من طبيعة الخبر أن يجمع هذين النقيضين، وليس للمؤرخ المنصف إلا أن يذكرهما؟ متجاورين أحياناً؟ دون أن يكلف نفسه مشقة الربط والتحليل، تلك ميزة لا نستطيع أن ننكرها في بعض السير، ونستطيع أن نقول أنها ميزة في كثير من المؤرخين المسلمين أثناء العصور الوسطى. أما في الغرب فقد كانت السيرة تشكو إهمال جوانب الضعف والنقص، وكان من الصعب أن يتصور الناس السيرة شيئاً غير تعداد الحسنات أو تعداد السيئات (1) .
وكانت أسوأ المراحل في تاريخ السيرة الغربية يوم أن تسلمها رجال الدين؛ فتحولوا بها إلى ما تحول بها من كتبوا سير الزهاد والمتصوفة في العالم الإسلامي؟ تحولوا بها إلى إبراز كرامات القديسين وخوارق أعمالهم، وجعلوها نماذج ليس فيها من حياة الشخص المترجم أو تجاربه الإنسانية إلا القليل. واتجهوا بها نحو الوعظ والتذكير، وسخروها للعاطفة الدينية. وهذا وهن كبير يصيب السيرة، لأنها من أقرب الأشكال الأدبية صلة بالذهن فإذا سيطرت عليها العاطفة، عصفت بما فيها من صدق، وإذا تحكمت فيها العاطفة الدينية؟ بوجه خاص -
(1) Encyc. Brit (Biography) .
أفسدت عليها الأساس الذي تعتمد عليه (1) ، وإنما أساس السيرة هو الإنسان، أو شخصيته وتجاربه، فإذا وقع الكاتب تحت تأثير العاطفة الدينية قلت رغبته في التجارب الإنسانية، ونظر إلى الآخرة بدلاً من أن ينظر إلى الدنيا، وأبقى ونفى وفقاً لهذه النظرة، وتذمم من أن يذكر بعض الآثام والنقائض، لئلا يرسم للناس القدوة السيئة والمثال المضلل.
غير أن هذا اللون من السير، لم يكن اللون الوحيد في الغرب، بل كانت سير العظماء والملوك تتمشى جنباً إلى جنب مع سير القديسين، وبعد عصر النهضة أصبحت السيرة مجالاً خصباً لتأبين الميت، وخير من كانوا يؤدون هذه المهمة الأقرباء والأصدقاء. وكثيراً ما كان المرء يختار من يكتب له سيرته بعد موته، غير أن النهضة قللت بعض الشيء من طغيان النغمة الدينية في الحياة، وازداد عدد القراء أكثر من ذي قبل، وأخض بصيص من روح الديموقراطية يشع في بعض النفوس، حتى أوحي هذا لبعض الكتاب أن كل شخص يمكن أن تكتب سيرته. ومع كثرة السير وازديادها، كان محورها في الغالب هو النجاح في التجارة أو في الجرائم، لأن هذا اللون كان مثيراً للناس يومئذ (2) .
(1) Nicolson: The Develoment of Eng. Biography p. 111.
(2)
راجع (Biography) Dict. Of World Literary Terms.
ولم تتميز السيرة بوضوح في أدب كما تميزت في الأدب الإنجليزي، وربما لم تصل في غير هذا الأدب، ما وصلته فيه من درجة فنية؛ وكل هذا يشير إلى أن السيرة في شكلها الأدبي، لا تزال حديثة النشأة، وأبعد نماذجها يرجع إلى القرن الثامن عشر. فهو العصر الذي يقع بين الحروب الإنجليزية الأهلية والثورة الفرنسية، وفيه تحسن حال الطبقة الوسطى، وقام مناضلون في سبيل مبادئ جديدة، واصبح هنالك جمهور يحب قراءة هذا النوع من الأدب، لأنه يحب أن يملأ فراغ حياته بشيء جدي، وأخذ حب الاستطلاع يدفع المرء إلى أن يعرف أحوال جاره. فكان ذلك من أشد ما ساعد على إنماء السير والإقبال على إنشائها، وغدت كتابتها مربحة تدر على صاحبها مالاً وفيراً، وهذه شجع أيضاً على كتابة السير الذاتية، فمن استطاع أن يكتب حياته يومئذ بطريقة تبهر القراء أو تهزهم أو تبعث المتعة في نفوسهم، ضمن لنفسه ربحاً جزيلاً.
وفي ذلك اعصر تلقت السيرة مؤثرات من المسرحية إلا أن تأثير القصص فيها أعمق وأبعد مدى، واتجهت يومئذ إلى الذاتية وأصبحت مطولة لا موجزة، ديموقراطية النزعة في اختيار من تكتب سيرهم، وحلت دوافع حب الاستطلاع محل الدوافع الدينية والتعليمية السابقة. وعلى الرغم من أن المحافظة كانت طابع ذلك العصر في كثير من نواحيه، فإن السيرة كانت صورة جديدة للتجربة والاستكشاف، حتى لقد زاد الميل إلى
كتابتها بدقة وأمانة وحيوية. ومن ثم يمكن أن يعد القرن الثامن عشر " عصر النهضة " في تاريخ السيرة الإنجليزية. ومما يدل على الجدية في تناولها، عناية كتابها ونقادها على السواء في تقرير المبادئ اللازمة لبنائها، وتكرير القول في أن كتابة السيرة ليست نثراً لقوال الخفيفة على القرطاس، بل هي ذات أصول لابد من أن تراعى بدقة. (1)
والقرن الثامن عشر هو عصر الدكتور جونسون؟ Dr. Johnson ورفيقه بوزول Boswell، وكلا الرجلين قد أدى لفن السيرة يداً لا تنكر. وواحدهما لا يذكر في تاريخ الأدب منفصلاً عن الآخر. فعن طريق جونسون ذكر الناس بوزول؟ كاتب سيرته؟ وعن طريق بوزول، بقيت صورة جونسون " الإنسان " حية على الزمان؛؟ أما جونسون الرجل العملاق جسماً وأدباً، المطبوع بحكم نشأته الوضيعة على أنواع من الشذوذ كان ينفر من الذوق، الرجل الذي كان يضحك كوحيد القرن، ويلبس ثياباً ممزقة قذرة، وإذا أكل أحدث أصواتاً منفرة ونفرت عروق جبينه وهو مكب على طعامه في صمت؟ هذا الرجل كان بعيد الأثر في تاريخ السيرة لأن حبه للصراحة والصدق، وثورته على التكلف والتزوير، والإلحاح على أن لا تكون السيرة خطبة رثاء أو تأبين؟ كل هذه غيرت من نظرة الناس
(1) باختصار عن كتاب: The Art of Biography in 18th cent. England.
إلى مهمة السير. وقد وضع جونسون في " سير الشعراء " المثال الذي يحتذى في كتابة السيرة، بانياً كل ذلك على أساس من البيان المحكم الرصين، تكتنز الجملة منه حقائق كثيرة قد تشرح في صفحات. وكان يعتقد أن الأدباء في إنكلترا لم تكتب سيرهم كتابة جيدة، ومن أبرز ما يوضح مذهبه في الترجمة قوله وهو يكتب عن شاهر اسمه كولي Cowley:" على الرغم من الفقر الذي تعانيه السير الإنجليزية، فإن حياة كولي قد كتبها الدكتور سبرات Sprat وهو مؤلف وضعه خصب خياله وروعة بيانه عالياً في المرتبة الأدبية. ولكن حماسته في الصداقة أو طموحه نحو الفصاحة، جعلاه يكتب ما هو إلى التأبين أقرب منه إلى التاريخ، فقد كتب عن أخلاق كولي لا عن حياته لأنه يجنح إلى الإيجاز حتى لا يوضح شيئاً، وكل ما يكتبه مغلف بضباب التقريظ؟ أوجز فيه أم أطال: - ولد ابراهام كولي في عام ألف وستمائة وثمانية عشر، وكان والده بقالاً حاول سبرات أن يخفي حاله بقوله أنه كان " مواطناً ". (1)
فإيثار الصدق الصراح؟ كما تبينه هذه الفقرة؟ هو الذي حاول جونسون أن يحققه في كتابة السيرة. وحاول من عاصروه أو جاءوا بعده أن يترسموا فيه خطاه، لأن جونسون كان أكبر شخصية أدبية في عصره.
(1) The Lives of the poets: vol. 1 p. 1.
وتلك الشهرة الأدبية هي التي جذبت بوزول، الذي لا يعرف في تاريخ الأدب إلا بإنه كتب سيرة جونسون. وكان بوزول كرفيقه الأكبر ذا شخصية مثقلة بأنواع الشذوذ؛ ويستطيع من يقرأ ما كتبه أن يلمح فيه نقائض كثيرة ليس أكبرها إدمانه السكر، ولا أقلها فقدانه للشعور بالعزة والكرامة. فكم من إهانة احتملها من أستاذه ورفيقه راضياً، وكم من مرة صرح بضعفه البشري في مواجهة الرذائل. وقد كانت صراحته عن نفسه تشير إلى مقدار ما تشبع به من ميل لذكر الحقائق مجردة دون زخرفة أو تزوير، وكذلك كان شأنه حين أصبح ظلا لجونسون يسجل عنه كل صغيرة وكبيرة بما في ذلك حركة اليد ورفع الصوت وانخفاضه؟ وقلما كان صوت جونسون يتضاءل خافتاً؟ ولون الثياب التي كان يحملها. وكان جونسون شغوفاً بالحديث يستطرفه ولا يمله، ويقضى الساعات الطوال بين أصحابه يحدثهم ويحدثونهن فنقل بوزول كل ذلك نقلاً دقيقاً، وابتعد عما كان يشيع في عصره من ميل إلى التعميم حين اختار هذا التدقيق، وبارح المجرد إلى المحسوس، وكان؟ كأستاذه وصديقه؟ يعتمد الصدق الخالص. إلا أنه فاق أستاذه وفاق كل من كتب في فن السيرة، في دقته المتناهية وواقعيته الفوتوغرافية، ونقله للصغائر والتوافه من أمور الحياة اليومية. ولو وقف بوزول عند هذا الحد لما كان في طريقته شيء غير نقل الحقائق مجردة
ولكنه أضاف إلى الصدق عنصر الحيوية، والانسياب في القص، وكان مندمجاً فيما يكتبه يبعث فيه الحركة والحياة والتنوع، وإثارة حب الاستطلاع والتشويق. وقد استغل كثيراً من هذه الخصائص النية، وبرع في استغلال كل خاصية في موضعها. ولم يتورط في الاستطراد بل كل ما أورده في تلك السيرة الضخمة يدور حول جونسون ويتعلق منه بسبب، ولم يخرجه حبه لجونسون عن الجادة أو يجعله عابداً في محراب أستاذه بل ذكر نقائصه وتوافهه جنباً إلى جنب مع مميزاته، فإذا جونسون في هذه السيرة إنسان تام الخلقة نراه وهو يتحدث ويأكل ويصلي ويضحك ويصخب ويشغب، ونعجب لشخصه بمعزل عن مقدرته الأدبية، ونضحك من بعض تصرفاته، ونندهش لكثير من آرائه ومواقفه وأخطائه. وأكبر الظن أن الفكاهة التي تثور في أنفسنا لم تكن غاية لبوزول، ولكن طريقة نقله لأطوار هذه الشخصية وأحوالها، تجعل المضحك مضحكاً في موضعه، وإن لم يتعمد بوزول ذلك. وليس يعنينا هنا أكان بوزول عبقرياً أم أن المصادفة وحدها؟ المصادفة التي جعلت جونسون موضوعاً لكتاب؟ وهي التي خلدت اسمه، وإنما الذي يعنينا أنه أحدث خطوة كبرى في تاريخ فن السيرة، وقد يؤخذ عليه أنه كان حقوداً خبيثاً يقول جونسون ما لم يقله، وينطقه باتهامات مصوبة إلى بعض رجال عصره، وإن الشكل العام مفقود في سيرته، وإنه حشد فيها الرسائل الكثيرة.
ولكن سيرته باعتراف الدارسين مقل فذ، وامتلاؤها؟ في نظري؟ لا يكسبها الخفة الممتعة، فهي على طرافتها يعيبها ما يعيب الدقة المتطرفة من سأم وإملال، ولأنقل للقارئ فقرتين اثنتين من هذه السيرة لكي يتصور طريقة بوزول في السرد:
(أ) ذكرت مسز مونتاج وهي سيدة عرفت بمقالة كتبتها عن شيكسبير:
رينولدز: أعتقد أن هذه المقالة تعلي من مقامها.
جونسون: نعم يا سيدي أنها تعلي من مقامها هي ولكنها لا تشرف إنساناً آخر؛ حقاً أنني لم أقرأها أبداً ولكني حين انظر إلى زيق قطعة من النسيج وأرى خيوطاً لا أتوقع حين أمد نظري أن أرى تطريزاً. سيدي: بل أغامر فأقول أنه ليس في كتابتها عبارة واحدة من النقد الصحيح.
جاريك: ولكنها؟ يا سيدي؟ تبين كيف أن فولتير أخطأ تقدير شيكسبير، وهذا لم يفعله أحد من قبل.
جونسون: سيدي: لأن أحداً لم يبال به ولم يره أهلاً للنقض. وأي ميزة في هذا؟ إنك إذن تمدح معلماً جلد تلميذاً اعتبره مريضاً. لا يا سيدي، ليس هناك نقد صادق في ذلك؟ لا نقد يصور جمال الفكر.... الخ.. (1)
(1) The Life of Samuel Johnson Vol، 1. P. 366.
(ب) وهذا مثال آخر يختلف قليلاً عن سابقه وهو يصور كيف كان بوزول يغيظ صديقه بإقحام الحديث عن الموت، وكان جونسون يهتز فرقاً من الموت:
" وحين سألته أليس لنا أن نهيئ أذهاننا لاستقبال الموت أجاب في حدة، لا يا سيدي: دع الموت وشأنه فليس يهم كيف يموت الإنسان وإنما كيف يعيش. إن عملية الموت ليست شيئاً هاماً، لأنها تنجز في لحظات. " ثم ردف قائلاً؟ بنظرة جادة؟ " إن الإنسان ليعلم أن الموت كذلك فيعنو له، وليس مما يغني عنه كثيراً أن يجأر بالعويل ".
" وحاولت أن استمر في الحديث، فاستشاط غضباً وقال لي: لا تزد، وانقلب إلى حالة من الاضطراب عبر فيها عن نفسه بطريقة أرعبتني وأحزنتني، ورأيته لا يطيق بقائي فتأهبت لانصرف فناداني بخشونة قائلاً: " لا ترني وجهك غداً " فعدت إلى البيت قلقاً مهموماً، وتجمعت في خاطري كل الملاحظ النابية الجافية التي سمعتها عن أخلاقه وتصرفاته، ورأيتني كأني ذلك الرجل الذي أدخل رأسه في فم الأسد مرات عديدة وأخرجه سالماً، وفي آخر مرة فقد رأسه. وفي اليوم التالي أرسلت إليه وريقة أقول له فيها: قد أكون مخطئاً ولكن عن غير عمد وإنه كان قاسياً في معاملته لي، وإنه على الرغم من اتفاقنا على إن نلتقي ذلك اليوم فقد أمر عليه في طريقي إلى المدينة وأمكث عنده خمس دقائق، وقلت له فيما قلته: " إنك في ذهني منذ الليلة
الماضية مغلف بالسحاب والعواصف، فدعني أبصر لمحة من شعاع الشمس ثم أذهب لطيتي في هدوء وانبساط ".
" ولما دخلت عليه مكتبه سررت لأني لم أجده وحده وإلا كان لقاؤنا مربكاً. كان في صحبته مستر ستيفنز ومستر تيرز وكلاهما أراه معه لأول مرة، وقد دلت سحنته على أن وريقتي هدأت من غضبته لأنه تلقاني باشاً فشعرت بالارتياح، وشاركت في الحديث
…
".
" وتحدث جونسون عن كاتب كثير الإنتاج حديثاً قاسياً فقال: كان يكتب كتباً غفلاً من إمضائه ثم يكتب كتباً أخرى يقرظ فيها الكتب الأولى، وفي هذا العمل شيء من اللؤم والنذالة. فهمست في أذنه قائلاً: " يبدو يا سيدي إنك اليوم طيب الخاطر للدعابة ".
جونسون: هو كما تقول يا سيدي.
وبينا أنا أريد الانصراف وقد بلغت السلم استوقفني مبتسماً وقال: " انصرف
…
إلينا " وكانت عبارة غريبة في دعوتي للبقاء، فبقيت بعض الوقت ". (1)
وسيقدر القارئ ما حققه بوزول إذا عرف أن هذه الصراحة أزعجت كثيرين، وأعجزت كثيرين، وضج الناس ينتقدون تلك الصراحة التي أخذت تستعلن في كتابة السيرة، لأنها تحطم
(1) Op. Cit: pp. 378 - 80.
المثال، وتشوه الأنموذج وتسيء إلى الأخلاق، وترسم القدوة السيئة. وما كاد العصر الفكتوري يرخي أطرافه على الحياة الإنجليزية حتى حاربت روح التبرر والتزمت هذا المنهج الذي سار فيعه بوزول، وعاد كتاب السيرة، إلا قليلاً، يكذبون على أنفسهم وعلى الناس، وعادت العاطفة الدينية تتحكم في توجيه السيرة وفي كتابها. فخالطها شوب من التزوير حرمها كثيراً من النقاء. ولما كتب أحدهم (Frounde) سيرة كارليل في شيء من صراحة بوزول، تنزلت عليه صواعق الذم من كل جانب، واتهم الكاتب بأنه عادم الذوق، خائن وقح، لأن هذا النوع من السيرة كالذي كتب يكشف عن دخائل الحياة الخاصة، ويشهر بها، ويعلن عن أسرار لابد من أن تظل طي الكتمان. (1)
وبعد هذه النكسة أصبح البعث الجديد في حياة السيرة من نصيب من يثور على هذا الاتجاه الفكتوري، ويحطم هذه الأغلال الثقيلة. ووقع القدح الفائز في يد ليتون ستراتشي Lytton Strachey الذي اضطلع بجهد مزدوج، أما أولاً فقد عاد إلى مقياس الدكتور جونسون في الصراحة والصدق، واعناية بإبراز حياة الفرد على طبيعتها، لا صورة المثال، حين ترجم لمشاهير العصر الفكتوري، وأما ثانياً؟ وهذا هو الشيء الجديد الذي حققه؟ فقد أعمل نظرته الساخرة في كتاب السيرة فخلق فيها نوعاً جديداً يمكن أن يسمى " السيرة الساخرة "
(1) The Development of Eng. Biog. Pp. 127 - 31.
Satiric Biography فكان بهذا الاتجاه أقوى ظاهرة في تاريخ السيرة كله. وبدلاً من أن يعتمد طريقة بوزول في الدقة المتناهية لجأ إلى الاختيار، وخاصة في سيرة الملكة فكتوريا، لأنه وجد نفسه أمام إحدى وثمانين سنة، مليئة بالأحداث والأعمال والأشخاص. وقد يختار الكاتب ناحية من حياة صاحب السيرة ويتتبعها مستقصياً، جاعلاً كل شيء ثانوياً بالنسبة لها، محللاً المواقف والنزعات أثناء العرض، ولكن مجال التحليل لم يكن واسعاً أمام ستراتشي، ولذلك أختار التركيب بدلاً من التحليل، وحذف وركز جهده فيما استبقاه، فعرض مادته في لباقة منقطعة النظير. ودون أن يضيف إليها شيئاً من التعليقات، كتب نقداً للحياة من خلال كتابة السيرة، وجعل النمو عالقاً بالحركة الداخلية للشخصية الرئيسية، وأعطى للشخصيات الأخرى في كتابته حظاً من الوجود، يعين على تدرج النمو في الشخصية الرئيسية المترجمة، ولم يلتفت إلى الأحداث الخارجية قدر التفاته إلى النمو الداخلي النفسي؛ ومنح لمقدرته الأدبية مجالها، فأجاد من الزاوية النفسية أيضاً. ولكنه أوقف السيرة في مأزق جديد: هل للكاتب أن يختار جزءاً من حياة أحد الناس محللاً ومفلسفاً ويسمى عمله هذا سيرة؟ هل للكاتب أن يدير حياة شخص حول فكرة يعتنقها، نفسية كانت أو ذهنية أو فنية؟ أليست مثل هذه المحاولة أو تلك، صرفاً للسيرة عن غايتها الأولى وهي: رسم الخط البياني لحياة شخص ما، مع إثاره المتعة التي يثيرها أي عمل أدبي
آخر؛ حقاً إن موقف ليتون ستراتشي كان فذاً في تاريخ السيرة، ولكن براعته البارعة كفلت له النجاح وأخفق كثير من مقلديه في اقتفاء خطواته، فبعضهم استهوته روح التهكم فجر السيرة إلى نوع من الهزلية الساذجة، وبعضهم اختار الحذف والتركيب، فوقع في التحيز والمغالاة؛ وإذا كان ستراتشي قد جدد تجديداً واضحاً في كتابة السيرة، فإنه جعل نموها في هذا الاتجاه عسيراً.
وقد فاض فيض السير بعد ستراتشي، محاكاة لطريقته في البدء، ثم غلب عليها الطابع العلمي، وخاصة تلك السير التي تكتب بروح أكاديمية أو خاضعة لنظريات معينة نفسية أو بيولوجية أو أنثروبولوجية. ولنظريات فرويد أكبر الأثر في اتجاه الكتاب إلى دراسة النواحي النفسية، ومعالجة الأمور المتعلقة بالحياة الجنسية في تحليل علمي أو تحليل مشتبه به، وخاصة عند دراسة شخصيات كان لها نصيب من الشذوذ، مثل بليك وادجار ألان بو وأمثالهما، وفي هذه الناحية كتبت سير كثيرة.
أما السير ذات الطابع الأدبي فبعضها ظل يثير المتعة بقوة العرض في التركيز والاكتناز، أو في التحليل الدقيق، أو في التراوح بينهما، وفي تهيئة الجو القصصي على مثال ما في القصص، كما هي الحال عند أميل لودفيج E. Ludwig في بسمارك ونابليون والمسيح. وقد اعترف لودفيج أنه كان يعتمد على نجوى الذات، ووصف الحركات النفسية حيث تقل لديه المصادر والوثائق؛
قال في مقدمة كتابه عن كليوبترة: " وما وجدت من نقص في الأسانيد النفسية أباح لي التزام نجوى الذات، ووصف حركات الروح بحرية أعظم مما تسوغه كثرة المصادر عند وجودها، ولما بدأت تاريخي عن غوته في سنة 1919 ولزمت سبيلاً جديداً في ترجمته، رجعت أحياناً إلى مبدأ مناجاة الإنسان نفسه؛ ومثل هذا ما صنعت في كتابي نابليون ثم لم أعد إليه في كتبي الأخيرة قط، بيد أن ما ترى من عدم الوثائق النفسية على الإطلاق، يجعل هذا المنهاج أمراً مستحباً هنا (أي في سيرة كيلوبترة)(1) .
وصرح لودفيج أيضاً في كتابه " نابليون "، بأن ليس في كتابه جملة واحدة مختلقة إلا حديث النفس، أما ما عدا ذلك فكله مقتبس من الوثائق والرسائل؛ أما طريقته في ذلك الكتاب عامة فقد وصفها بقوله " قد حاولت هنا أن أكتب تاريخ نابليون من الباطن "(2) ومن ثم لم يهتم بالحركات السياسية الظاهرة والمعارك الحربية اهتماماً كبيراً، بل وجه همه إلى كل ما يتعلق بشخص نابليون ونفسيته من مثل خلافه مع إخوته وزوجته وحالات اكتئابه وفخره وغضبه، وامتقاع لونه وشره وخيره مع الصديق والعدو.
ومن أشهر الكتاب الذين يمزجون بين الميل القصصي والسرد التاريخي أندريه موروا Andre Maurois فإنه أخرج من سيرة
(1) كليوبترة: 10.
(2)
نابليون: 320.
شللي " Ariel " قصة ممتعة سلسلة يكاد لا يميزها القارئ من أي قصة محكمة النسج والتشخيص، وهذا لا يتيسر دائماً إلا إذا كان المترجم بارعاً في القص مثل موروا، وكان المترجم له شخصاً ذا أحداث وأعاصير تتنازع حياته، مثل شللي. ولا شك أن حياة شللي كما صورها موروا غير متخيلة وإنما هي مستقصاة من الرسائل والوثائق، مكتوبة بشكل يخيل إلى القارئ أنها من اختراع الكاتب نفسه. استمع إليه يقول في وصف حال شللي بعد أن التحق بكلية إيتون:" أغلق شللي كتابه، وتمدد على العشب المشمس المنمق بالازاهير، وأخذ يتفكر في بؤس الإنسان؛ ومن بنايات المدرسة وراءه تأدت إليه همسات أصوات غبية، تضطرب وتتموج على صفحة البر الشجير والماء، ولكنه في جلسته تلك كان قد أمن النظرة الساخرة التي تنفذ إلى نفسه، فانهمرت دموع الغلام، وشد بيديه الواحدة على الأخرى وقال: أقسم أن أكون عادلاً حكيماً حراً، إن كنت أملك هذه القوى، أقسم أن لا أواطئ الأناني والقوي بشيء حتى ولا بالسكوت، إنني أنذر حياتي كلها لعبادة الجمال "(1) ؟ هل حدث كل هذا حقاً؟ هل أغلق على نفسه تلك العهود والنذور أو كان هذا كله من خيال الكاتب؟ ليس ببعيد أن يكون شللي قد كتب رسالة يصف فيها موقفه آنئذ، ولكن الأسلوب الذي اختاره
(1) Ariel: p. 6.
موروا هو الأسلوب الذي ينتحيه القصصي نفسه.
ولو افترضنا أن هذه الحركات البسيطة التي صورها موروا إنما انتزعها من خياله، فليس ثمة شيء فيها يضير الحقيقة كثيراً ولكن يطمئننا من هذه الناحية أيضاً قول أحد النقاد: إن موروا لم يضف إلى الكتاب من خياله ذرة واحدة، وإنما لون الحقائق بفن القصص وحقق ذلك بيد لبيقة وعاطفة حارة، وقد لقيت هذه السيرة من الرواج والثناء ما دل على أن الناس يحبون الحقائق مغلفة بالطلاوة، كما تغلف الأدوية بالحلوى، ولما صدر الكتاب في فرنسا لم يعرف الناس بشللي فحسب، بل أثار اهتماماً بفن السيرة عامة، ومسح الماضي الذي كان مهملاً بلون جذاب. والسحر الذي يتجلى في " آريل " إنما مرده إلى الطريقة في القص وفي التشخيص العذب، وإلى رزانة الأسلوب ورجاحته وإلى صورة المرأتين اللتين تعلقت حياة شللي بهما، وإلى المقارنة بينه وبين لورد بيرون (1) .
ولو قارنا بين ما كتبه موروا على طريقته، وما كتبه مترجم آخر تصدى لحياة شللي بالعرض، لوجدنا حقاً أن الحقائق الأولى موجودة في " آريل ". ولكن هناك خطراً اقتضته الروح القصصية، هو في مدى الاختيار والتحقيق، ولأضرب على هذا مثلاً يتعلق بما حدث لهاريت Harriet زوجة شللي الأولى: فقد صور موروا كيف أن هاريت عندما لم تطق الحياة
(1) عن A Doctor Looks at Biog. 300 - 301 باختصار.
مع شللي، ذهبت تعيش وحدها، وأن العسر المادي انزلق بها إلى حياة الرذيلة، وكان هذا متمشياً مع السياق العام الذي تبرز فيه قسوة شللي أو عدم الانسجام بين الزوجين، ثم إنها وجدت غريقة في إحدى البحيرات. واعتمد موروا في هذا التصوير على بعض المدونات التي قرأها؛ ولما كان ذلك يتمشى مع طبيعة المأساة، لم يحاول أن يحاكم تلك الروايات والمدونات، وربما كان هذا من جناية الروح القصصية؛ غير أن أدموند بلندن Edmund blunden (1) بعد أن فحص هذه الروايات جميعاً، نقض القول بأن هاريت انزلقت في الوحل، ونفى غرقها في البحيرة، وكشف المواطن الضعيفة التي أدت إلى مثل تلك الاستنتاجات الخاطئة.
وقد أقر موروا بأن الكتابة عن شللي كانت ترضي رغبة ذاتية في نفسه وتسمح له بأن يبني شخصيته من خلال شللي (2) فكشف بذلك عن حقيقة هامة في كتابة السيرة؟ كان موروا حين اختار هذا الموضوع حديث عهد بحياة الدراسة مثل شللي مليئاً بالأفكار المثالية في الفلسفة والسياسة، ثم واجه الحياة العملية ورأى آراءه تذوب كما يذوب الحبب في الكاس، فانبعث في نفسه ألم يمض، وأحب أن يخفف الألم عن نفسه بالبوح والإفضاء، فوجد في سيرة شللي هذه المنفذ. ومن يقرأ " آريل " يحس كيف يسخر
(1) Shelley. Pp. 141 - 144.
(2)
Aspects of Biography، 120 - 122.
موروا سخرية دقيقة لاذعة، من شللي الثائر الذي يريد أن يحرر الأرلنديين بطرق صبيانية، ومن شللي الذي أحب جودوين؟ وهو رجل كان له أعمق الأثر في تكوين شللي من خلال أحد كتبه، فلما عرفه شللي وجد البون بين حياته العملية وآرائه النظرية كالبعد بين الأرض والنجوم؟ وهو في أثناء ذلك إنما كان يسخر من نفسه ومن إخفاق نظرياته في مواجهة الحياة العملية.
وكتب موروا سيراً أخرى، مثل حياة دزرائيلي وبيرون على النهج الذي اتبعه في كتابة سيرة " شللي "؛ كما كتب حياة جورج صاند بعنوان " ليليا "(1)، وهو يقول عن هذه السيرة مصوراً جانباً من طريقته:
قال لي بعض القراء: " لقد جعلت جورج صاند جذابة حقاً ولكني لم أفعل ذلك مطلقاً؛ إنما كانت هي جذابة حقاً، فلم يكن يعجب بها موسيه وشوبان فحسب، بل أعجب بها فلوبير ويلزاك وترجنيف ودوستويفسكي. وكانت مهمتي أن أظهر جورج صاند كما رآها هؤلاء وغيرهم "(2) .
ومن البارزين أيضاً في فن السيرة استيفان اتسفايج وقد نشر ثلاث مجموعات من السير، في الأولى ترجمة كليست وهيلدرلن ونيتشه، وترجم في الثانية وعنوانها " أساتذة ثلاثة "
(1) حياة بيرون وجورج صاند لموروا ترجمهما إلى العربية الأستاذ بهيج شعبان ونشرتهما دار بيروت.
(2)
Highlights of Mod. Lit pp. 210 - 11.
لدكنز ويلزاك وتولستوي، وفي الثالثة " بناة العالم " ترجم لتولستوي وكازانوفا واستندال؛ وفي هذه الثالثة بلغت قوة التحليل النقدي عنده مداها، وهو من أكثر كتاب السير تصويراً لذاتيته من خلال حيوات هؤلاء الناس وإنما أعجبه في سيرهم اضطرابهم النفسي وشذوذهم المتميز. ويفترق اتسفايج عن لودفيج " بالعمق وإدراك المعاني الكلية واستخراج النماذج الإنسانية العامة، واستنباط العبرة من كل الأحداث التي يعنى بدراستها، ويمتاز عن موروا إلى جانب العمق وكل هذه المميزات، ببراعة في وصف المناظر الطبيعية التي تجري في داخل إطارها الأحداث "(1) .
ولم تكن السيرة المشبهة للقصة في بمناها، مشمولة بالرضى من جميع الناس؛ بل واجهها كثير ممن يجبون الحقائق الجافة بشيء من الاستنكار، وربما كان للغلو الذي أصابها يد في ذلك؛ فإن الدقة التي كان يحافظ عليها كل من موروا ولودفيج واستفايج، أصبحت معرضة للتهاون على أيدي غيرهم من الكتاب، وغدا الخيال هو القوة التي تصنع جانباً كبيراً من الأشخاص والأحداث، ومن أمثال ذلك سيرة الليدي هاملتون التي كتبتها أ. بارنجتون E. Barrington بعنوان " السيدة المقدسة " The Divine Lady. فصلة هذه السيرة بالقصص أقوى من صلتها بالتاريخ، لا لقوة الخيال وروعة الأسلوب فحسب، بل للإعجاب العاطفي الذي تحملع الكاتبة لبطلة السيرة. ويشبهها في هذه
(1) الموت والعبقرية: 38.
الناحية " حياة شوبان " التي كتبتها الآنسة مارجري ستراتشي بعنوان " العندليب " فقد مزجت فيها حقائق حياته بالقصص الخيالية، ورسمت لذلك العبقري صورة جميلة (1) .
وفي هذا النوع من " السير القصصية " وجد بعض القراء تعويضاً عن القصة نفسها، ذلك لأن كثيراً من هذه السير إنما ينتحي ناحية الاستطراف، وتختار له شخصيات كانت ذات علاقات بارزة عنيفة، مثل شللي والليدي هاملتون وبيرون وشوبان، وكذلك كان اتسفايج يختار للترجمة عباقرة متفردين في شذوذهم، بينما يترجم النفسيون للشخصيات المريضة ويحاولون الكشف عن أسرارها بعون من المبادئ الفرويدية. وكل هذا يشير إلى نوع السير التي أقبلت عليها الجماهير. وفي فرنسا بالذات اتجهت دور النشر إلى تشجيع الكتابة عن الحب في حياة أبطال السيرة دون الفصول الأخرى من حيواتهم. فصدرت سير مثل " قصة حب مدام دي بمبادور " لمارسيل تنيار Marcelle Tinyare و " كازانوفا " لموريس روستاند Maurice Rostand وكتبت قصة حب جوزفين، وغير ذلك كثير. (2)
وفي الفترة الواقعة بين الحربين راجت السيرة التاريخية والأدبية لكثرة الإقبال عليها، وحفز الناشرون الكتاب على
(1) انظر في نقد هاتين السيرتين كتاب The Doctor Looks at Biog ص 301 - 307.
(2)
المصدر السابق 31 - 32.
إنتاجها، غير أن الحرب قللت منها، فاتجه أكثر الميل إلى كتابة السير الذاتية، كما سيتضح في الفصل التالي، وقبل الحرب بقليل أصبح إقبال الكتاب على طريقة ستراتشي الساخرة ضعيفاً، واتجهوا إلى التصوير التقليدي مع شيء من التفسير النفسي. وكثر تقليد الطريقة الفرنسية بإكثار الحوار المتخيل وترجمة الحيوات الرومنطيقية (1) . ولم تسترجع السير الإنجليزية بعد الحرب مجدها الذي بلغته على يدي ليتون ستراتشي من قبل وإن صدر في هذه الفترة عدد كبير من السير، يتمتع كثير منها بالأصالة والأحكام.
تلك هي أبرز المعالم في السيرة الغربية الحديثة، أما في البلاد العربية فإنها لم تبلغ هذا المبلغ من التنوع والإتقان، ولكنها؟ على أي حال؟ باينت السيرة التاريخية والأخلاقية التي رأينا مظاهرها في العصور الوسطى، واتجهت في ظل النهضة الحديثة اتجاهات مقاربة لما في المغرب، فتأثرت بالدراسات النقدية للنصوص، والنظريات النفسية والبيولجية، وأصبح أكثرها أقرب إلى المظهر العلمي منه إلى المظهر الأدبي، وقلت الرغبة في تاريخ الحياة نفسها، وأصبح الحديث عن الأشخاص تأريخاً لآرائهم إن كانوا من الأدباء، أو توضيحاً لدورهم السياسي.
(1) Hayward J. Prose Lit. since 1939، pp. 24 - 25.
وعلاقاتهم الاجتماعية. ولم ينم الميل إلى تبيان الحياة نفسها من حيث نموها ومضاعفاتها وملابساتها، حتى خيل للدارس أن هذه الغاية أصبحت وقفاً على القصة التاريخية. ويمكن أن نميز في ما يكتب من السير ثلاث مدارس: مدرسة ذات طابع أكاديمي تقوم دراستها على التشريح والتحليل والتدقيق في الاستنتاج بعد عرض المتناقض المضطرب من الروايات لاستخلاص الحقائق منها، وتحتاج هذه الدراسة قوة خارقة من النقد اللازم لكل من المؤرخ والأديب، وكثيراً ما تكون هذه الدراسة مخفقة لضعف ملكة النقد، فيجيء تاريخ الحياة روايات قد تكدس بعضها فوق بعض، وغرقت في أثنائها شخصية الدارس، وقد تخرج الدراسة في شكل مجادلات بيزنطية أكثرها رد على آراء قديمة، أو تهكم بأصحابها، ويصبح الشخص المترجم ظلاً باهتاً، لا تمد قوة من حياة، ولا تكشف عنه أصالة من نقد. أما التكوين والبناء الإيجابي، فهما ضعيفان في هذا النوع من الدراسة.
والمدرسة الثانية: مدرسة قديمة في طابعها، لا تؤمن بالدراسة النقدية قدر إيمانها بما قاله القدماء، ولذلك كانت عنايتها بالتراجم لا تتجاوز إعادة ما كتب من قبل، في بيان إنشائي مفكك وحماسة مفتعلة.
والمدرسة الثالثة هي التي تنتحل السيرة الأدبية أو شكلاً مقارباً لها، ولما كانت هذه المدرسة هي التي تتصل بهذا الكتاب
فإني أحاول هنا أن أفردها بالحديث وأجلو بعض مميزاتها. والرابطة الجامعة لأصحاب هذا الاتجاه هي عنايتهم بالفرد وإنسانيته، على أساس من الجو التاريخي، في تطور حياته وشخصيته وتكاملها، وكل ما خرج عن هذا النطاق ابتعد عما نفهمه من معنى السيرة الفنية أو السيرة الأدبية، فحياة محمد لهيكل مثلاً أو كتاب " محمد علي الكبير " لشفيق غربال، لا يزالان أقرب إلى التاريخ، وإن زاد الأول على الثاني بجلبة الأسلوب ورنين التعبير. ومثل ذلك يقال أيضاً في كثير من هذه السير والتراجم التي لا تزال تعرض تاريخ فترة كاملة تحت اسم فرد واحد، ومن الخطأ أن يتناول النقاد هذه الكتب بالنقد مثلما يتناولون الأثر الفني، بل النقد إنما ينصب فيها على الرواية التاريخية، والإنصاف في الحكم، والقدر على التعليل.
ومن أبين المحاولات ذات الطابع الأدبي في السيرة الحديثة، " حياة الرافعي " للعريان، وعبقريات العقاد، وما يلحق بها من سير للمؤلف نفسه، و " جبران " لميخائيل نعيمه؛ و " منصور الأندلس " لعلي أدهم. وتتباين هذه السير فيما بينها، وتختلف في مدى اقترابها من الطريقة الأدبية في كتابة السيرة وفي مدى ابتعادها عنها.
أما " حياة الرافعي " للعريان فينقصه العنصر الهام الكبير الذي يجب أن تقوم عليه السيرة وهو التمشي مع حركة النمو والتطور في البناء؛ فقد جمع العريان فيه الفصول عن الرافعي جمعاً؛ وميز وحدد، فلم يرسم للرافعي صورة متدرجة مكتملة.
ولكن " حياة الرافعي " لا يزال يتميز بقسط كبير من الصراحة؛ وهي صفة عزيزة في كثير من السير؛ ولعل العريان من أول من شجعوا كتاب السيرة على اعتناق هذا المبدأ، حين تحدث حديثاً صريحاً عن حب الرافعي وعن بعض علاقاته بالأشخاص. وعلى الرغم من امتلاء نفسه بالحب للرافعي، استطاع أن يتحدث عن بعض عيوبه؛ ولكن هذا العطف أفقده روح التهكم والسخرية، فدافع عن تلك النقائض، وجرى معه التمويه في عرضها؛ وفاته وهو المحافظ في نظرته إلى الأشياء والناس أن ينتقد ما لا يمكن أن يفوت عين الناقد. خذ مثلاً حديثه عن موقف الرافعي في الوظيفة، وتغيبه عنها وعدم التزامه بالحضور في الساعات المعينة حيث يقول:" لم يكن للرافعي ميعاد محدود يذهب فيه إلى مكتبه أو يغادره، فأحياناً كان يذهب في التاسعة أو العاشرة أو فيما بين ذلك، فلا يجلس إلى مكتبه إلا ريثما يتم ما أمامه من عمل على الوجه الذي يرضيه، ثم يخرج فيدور على حاجته فيجلس في هذا المتجر، وقتاً ما، وعند هذا الصديق وقتاً آخر، ثم يعود إلى مكتبه قبيل ميعاد الانصراف لينظر فيما اجتمع عليه من العمل في غيبته وقد لا يعود.... "(1) تجد أن العريان يتحدث عن شيء كأنه أمر طبيعي، دون أن يثير في نفس القارئ امتعاضاً لهذا الذي كان يحدث، أو يتهكم تهكماً خفياً بفهم الرافعي لمعنى حرية الأديب أو العبقري. غير أنه
(1) حياة الرافعي: 93.
قد يمس هذه الناحية مساً خفيفاً في مثل قوله: " على أن الرافعي كان له مرتب آخر من عمله في المحكمة هو ثمن ما كان يبيع من كتبه للموظفين والمحامين وأصحاب القضايا الذين يقصدون إليه في مكتبه لعمل رسمي؛ وكانت ضريبة فرضها الرافعي من طريق الحق الذي يدعيه كل شاعر على الناس، أو فرضها أصحاب الحاجات على أنفسهم التماساً لرضاه. ليت شعري، أكان على الرافعي ملام أو معتبة أن يفعل ذاك؟ "(1) وليست المسألة مسألة ملام أو معتبة، ولكن الكاتب كان يحس إحساساً خفياً بأن في موقف الرافعي ما ينتقد، ثم لا يستطيع أن يعتذر عنه اعتذاراً قوياً. وأحسب أن العريان في هذا الكتاب لم يتحرر تحرراً كاملاً في عرضه لجوانب الضعف في الرافعي، ولكنه؟ مع ذلك؟ أعطانا صورة حية لا أنموذجاً جامداً، وانتفع كثيراً أثناء المصاحبة الشخصية لصديقه، من اعترافات الرافعي نفسه، ومن المشاهدة، ومن بعض الوثائق، ومن صلاته بمن يعرفون الرافعي. غير أنه تعجل كتابة هذه السيرة ولم يكن قد خف حزنه على صديقه، فلم يستطع أن يسلم من بعض الميل، وفاته بعض الوثائق اللازمة، كرسائل الرافعي إلى الشيخ أبي رية، وهي رسائل نشرت بعد صدور الكتاب، ولم يطلع العريان عليها. ومهما يكن من نقائص هذا الكتاب فإن العريان في محاولته أن يفرد الرافعي بالتقدير، وأن يعطيه ما يعطي العباقرة من تمييز، قد حقق -
(1) حياة الرافعي: 42.
عامداً أو عامد؟ أمراً آخر؛ وذلك أنه قرب المسافة بين الرافعي والقراء بدلاً من أن يباعدها، فإذا الرافعي إنسان طبيعي يهدأ ويثور، ويضعف ويقوى، ويرضى ويسخط، ويضحك ويعبس، وبينه وبين القراء وشائج تختلف كثيراً عن الوشائج الأدبية التي تربطه بهم.
وعلى العكس من هذا موقف العقاد في " العبقريات "، فإن أشخاصه في حقيقتهم إنما يعرفون بهذا الوضع الطبيعي الذي يخلطهم بالناس ليميزهم منهم، ويحكم لهم بالعظمة من اجل هذا الموقف نفسه أيضاً؛ ولكنهم، حين يتحدث العقاد عنهم، يبتعدون كثيراً فإذا هم صنف آخر من البشر. وقد حد العقاد من حريته في الكتابة ثلاث مرات: مرة حين افترض القداسة فيمن يترجم لهم، وحاول أن يبرر ما يحسبه الناس خطأ، ومرة أخرى حين اختار أن يتحدث عن العباقرة لا عن الناس العاديين، وثالثة حين اختار للكتابة شخصيات لا يملك الشواهد لدقيقة عنها، فإذا وجدها، وجد الاضطراب الكثير. ونجم عن هذا كله أنه لم يكتب سيرة، وإنما كتب فصولاً بعضها يتميز بالنظر الدقيق النافذ، وبعضها يعتمد على قوة الذكاء في الفحص والتبرير، كما هي الحال في كتابته " عبقرية محمد " فليس هو العقاد الناقد الطليق؛ وقد أصاب سيد قطب في بعض قوله عن هذه العبقريات: " هي ليست سيرة على طريقة السيرة العربية
وليست ترجمة على طريقة التراجم في اللغات الأوروبية، إنما هي صورة تتألف من بضعة خطوط سريعة حاسمة يبرز من خلالها إنسان " (1) ؟ أصاب في بعض هذا القول حين ذكر أن عبقريات العقاد ليست سيراً، وأخطأ في قوله إنه أراد أن يبرز من خلالها إنساناً، فالصورة الإنسانية لا تبرز بمثل هذه التقريرات الحاسمة التي يرسلها العقاد، ولا تبرز بتلك المقدمات التي يدبجها في أول كل فصل، ولا تظهر بوضوح من وراء تعالي العقاد نفسه في عرض شخصياته؟ ذلك التعالي الذي يجعله أسير الفذلكة الذهنية، والتمحل الشديد؛ فعمر رجل عظيم والنبي إنسان عظيم، ومعاوية رجل قدير لا عظيم، - كل هذا تمحل فارغ يدل على نشاط ذهني ولكنه نشاط مضيع، فإن الرجل العظيم لا يكون عظيماً إلا بعنصر الإنسانية فيه، والقدرة صورة من صور العظمة، ومن كان كمعاوية، في نظر معاصريه، أسود (2) من عمر نفسه لا تثبت له القدرة لتنفى عنه العظمة، ولكن تمحل العقاد يجيء في بعض الأحيان ممجوجاً. هذا وإن محمداً عليه السلام حاضر في أنفسنا بسيرته من حيث هو صديق وأب وزوج ورئيس، على وضع طبيعي بسيط حي صادق قريب، فلا يكون موقف العقاد في عرضه لهذه الخصائص من شخصية الرسول إلا موقف النائي الذي يقرر وينشئ أحكاماً وقواعد ملزمة، ويبعد عن الحادثة التصويرية، ويستل قلمه للمناقشة
(1) كتب وشخصيات: 315.
(2)
أي واضح في خصائص السيادة.
والحساب، لا للبناء الإيجابي، ويستطيع القارئ العادي أن يحس بوجود " محمد الصديق "؟ مثلاً؟ من الحكايات البسيطة الواردة عن مواقفه مع أصحابه، أكثر مما يحس به في فصل يكتبه العقاد عن هذه الناحية. ومن هنا يتبين لنا خطأ سيد قطب حين يقول:" فتتعرف على الفور من هو هذا الإنسان الذي يحدثك عنه، وتتبين سماته وملامحه من بين الملايين أو من بين الألوف التي ينتمي إليهم ويندمج فيهم، كما تستطيع أن تجزم بصحة الأخبار والحوادث والأعمال التي تنسب إليه وعدم صحتها، ولو لم ترد في دراسة العقاد له، لأنك أصبحت تعرفه وتدرك خصائصه وتلحظ مزاجه "(1) . وهذا كلام مدخول من ناحيتين: الأولى أن العقاد لا يكتب سيرة على الوجه الكامل حتى يقدم لك صورة إنسان، والثانية أن من المستحيل أن تجزم بصحة الأخبار والحوادث التي تنسب لبطل السيرة لأنك لا تعرفه إلا من خلال نظرات العقاد وترجيحاته، وهي ترجيحات تتسق مع مقدمات وضعها بنفسه، واختار من الشواهد ما يناسبها. وهذه ناحية تتضح حين تنتفي صفة القداسة عن الشخصية المترجمة، ويقف العقاد منها حراً في حبه وبغضه، ففي هذا الكتاب أبرز مثل على اختيار العقاد للرواية التي تناسب فكرته وتصوره، دون تمحيص، وعلى نفي كل ما لا يلائم السياق العام في
(1) المصدر السابق: 315.
فكرته. فمثلاً افترض العقاد أن معاوية قدير لا عظيم، ثم ذهب يستعرض صفاته وأخلاقه على هذا الأساس، فقبل روايات ضعيفة مدخولة، واستشهد بتلك المواقف الخطابية التي ألفت بعد عهد معاوية، كمواقف بكارة الهلالية وغيرها؛ واقتضاء فرضه الأول أن يثبت لمعاوية نوعاً من الدهاء الذي يستعمله جواسيس الاستعمار في شراء بعض الذمم الخاوية، كما اقتضاه أن يقلل من قيمة صفة الحلم عنده فيصف حلمه بأنه امتناع غضب، ليشفع ذلك بفصل يستنتج فيه أن الأمويين لم يعرفوا الشجاعة أبداً. فإذا اصطدم بيزيد بن أبي سفيان مثالاً على حب الاستشهاد، قال أنه لم يكن أخاً شفياً لمعاوية. وهكذا هو، يظل يلتوي ويتمحل ويفترض، وإنما جاءه الخطأ من التحيز في التقدير، ومن العيب في تصور الناس والعصر، وليس يسيء شيء إلى التاريخ كهذا الذي فعله العقاد، وليس يشوه الحقيقة مثل قبول الروايات دون نظر، أو وضع الافتراضات دون برهان. ونقطة واحدة لا أريد أن أشفعها بغيرها في هذا المقام، توضح ما أعنيه وذلك هو قوله:" ومعاوية كان يريد النزاع بين اليمانية والمضرية، ولم تكن له من خطة ثابتة فيه غير التفرقة بينهم، تارة إلى هؤلاء وتارة إلى هؤلاء "(1) وإرسال هذا القول على هذه الطريقة مخل بالأمانة، فاضح لأمر الهوى، وليس هناك من يحترم الصدق التاريخي فيقدم على هذه الدعوى؛ ولقد كان العقاد قادراً على أن يرسم من معاوية ظلاً
(1) معاوية بن أبي سفيان: 7.
ضئيلاً ونهازاً كبيراً، ويجرده من كل خير دون أن يسمع من ضميره منبهاً أو يجد من نفسه زاجراً، ولكنه أراد أن يظهر بمظهر المنصف، فكانت محاولته سمة من سمات الظلم العبقري. لأنه إنما ابتدأ يحاكم شخصية معاوية، وهو مبغض له، وأول شرط في النظر إلى الأشخاص أن نحكم عليهم وقد تجردنا قدر الإمكان من الحب والبغض، أو أن نعالج سيرهم بشيء من التعاطف، أما الكراهية واعتماد الذم والتحقير، وتصغير الجوانب العظيمة في أحد الناس، فأمور منافية لروح التاريخ أولاً ولكتابة السير ثانياً.
فالعبقريات أو ما كتبه العقاد على مثالها، ليست سيراً بالمعنى الدقيق، ولكنها تفسير لبعض مظاهر الشخصيات الكبيرة والأحداث والأقوال المتعلقة بها، على قاعدة شبيهة بالتحليل النفسي وليست هو، وإنما هي لباقة في العرض، ومهارة في اللمح والتفسير. ولا يستقصي العقاد في هذه النماذج، وإنما يتناول المتعارف المشهور بتفسير جديد، وهذا تقصير شديد إذا اغتفر في بعض النواحي فلا يغتفر في دراسة الشخصيات الإسلامية لأن الروايات عنها مبثوثة في مصادر كثيرة، وبعضها يكمل بعضاً أو ينقصه، فالاكتفاء بالحدود المشهورة لا يغني الدراسة في شيء، فكم من صور وشخصيات شوهتها الروايات المشهورة ومن خطر هذه الطريقة أن يستعملها من لم يؤت ذكاء العقاد، وقوة سفسطائيته، وشيئاً من فهمه النفسي، فتصبح كتابة السيرة
دجلاً يزور به التاريخ، وتنحدر معه مكانة الحقيقة الموضوعية. وكتاب العقاد عن سعد زغلول أقرب كتبه إلى السيرة الصحيحة، فهنالك كان يملك من المقومات ما يفتقده في دراسة شخصيات الأقدمين، من مصاحبة لسعد، وفهم لطبيعة العصر وشخصية الأمة، ومسايرة الأحداث، واطلاع على الوثائق الضرورية. ولكنه أيضاً في هذا الكتاب نفسه، رسم تاريخ فترة من حياة مصر، ولذل افتقد كتابه الروح الفنية وسيطرت عليه الجهامة والجفاف، وأصبح مضطرباً للأحداث المتعاقبة، مع افتقار إلى الفهم الدقيق للشخصية المصرية والعوامل المكونة لنفسية سعد وشخصيته (1) .
وحيث أخفق العقاد نجح ميخائيل نعيمة في سيرة جبران، لأنه استوفى فيه عناصر السيرة الفنية ببراعة تتضاءل عندها اللمحات الذهنية التي يمضغها العقاد في كتبه مضغاً. وفيه اكتمل للسيرة وجودها في الأدب العربي الحديث، من حيث الغاية والتطبيق. فقد كتبه كاتبه حين رأى أن جبران كاد يكون، بعد وفاته بعام، أسطورة من الأساطير، قال:" فهو ليس جبران الذي رافقته خمس عشرة سنة وخبرت أحلامه وآلامه، وقاسمني أشواقه وأفكاره، وشاركته في أفكاري وأشواقي "(2) واعتمد الصراحة
(1) انظر مقالة لإسماعيل أدهم في نقد هذا الكتاب (مجلة الإمام عدد 8 ص 581 أغسطس 1936) .
(2)
جبران: 6.
في تصوير صديقه، وهو في صراع متطور مع الحياة، وعرض لجبران في ضعفه وقلقه، وكشف عن البون الواسع بين حياته العملية ونظراته المثالية. ولم يخجل من أن ينظر بعين الناقد الساخر إلى كثير من متناقضات جبران، كل ذلك في بناء فني جميل لا تشوبه إلا بعض المقدمات التي يتورط العقاد في مثلها إلى حد الإملال. ولكنه في أغلب فصول كتابه يجعلنا نعيش مع جبران ونحس به في صراعه مع الحياة إحساساً دقيقاً، مستعيناً بفهمه النفسي الذي يتغلغل إلى أعماق الأمور فيفسرها ويجلوها ويربط بين ظواهرها المتناقضة. وقد قدر لنعيمه أن يبرز الحقائق عارية دون أن يحاول الاعتذار أو يختفي وراء الروابط العاطفية، فجاء كتابه حياً خفاقاً بالحيوية، كاملاً في تدرجه ونموه.
ولا شك في أن هذا اللون من السيرة كان جديداً على الناس في العالم العربي، غريب الوقع في نفوسهم؛ فمن قائل: إن نعيمه أراد أن يظهر نفسه على حساب جبران، ومن قائل إنه أساء لصديقه وشان سمعته، ورماه بنقائض خلقية يستبعد مثلها من مثله؛ وكل هؤلاء إنما كانوا ينظرون إلى جبران من خلال مثاليته في آرائه، فلما نزل نعيمه بجبران من سحب المثالية إلى أرض الواقع، هوت آمالهم، وأصيبت نفوسهم بصدمة عنيفة، وتمنوا أن يظل لهم جبران كما عرفوه أثيرياً روحانياً. وهم معذورون في شعورهم إلى حد ما، فإن تحطم المثال أمر يزعزع الثقة في نفوس المتطلعين عليه، ويهوي بالأساس الفلسفي الذي أقاموه عليه
حياتهم، فكيف إذا كان يحمل الفأس بيده إنساناً صديقاً لذلك المثال الذي يتعبدون له؟ ويمثل هؤلاء الثائرين على كتاب نعيمه وطريقته؛ فهو ينكر عليه أن يملأ الفراغ بحوار يضعه على لسان جبران والأشخاص المتصلين به، ويقول " فإن الطريقة الروائية إذا صحت في الأساطير والأقاصيص عن أشخاص مجهولين أو مختلفين اختلافاً، فإنها لا تصح مطلقاً في سرد الوقائع عن رجل معروف ملك البيان بأطرافه، وليس سواه أن يتولى الكلام عنه في أي موقف من مواقفه تجاه ربه أو تجاه نفسه أو تجاه أي كان "(1) .
وقد يكون في هذا بعض الحق، لأن نعيمه أسرف في الحوار محاولاً أن يتقمص جبران، ولكن فليكس يتعدى هذا أيضاً فلا يقبل أن يصدق الأحداث التي يسردها الكاتب عن حياة جبران. فهو مثلاً لا يستطيع أن يصدق قصة جبران مع الفتاة ميشلين التي حملت منه، وطالبته بتزوجها فأبى ذلك؛ ثم إنه تعلق بماري التي كانت تعينه مادياً مع أنها قبيحة الشكل وتكبه بعشر سنوات، بل يصمم في مرحلة من حياته على أن يتخذها زوجة شرعية له؟ لا يصدق فليكس ذلك كله لأنه يريد أن ينزه جبران عن موقفه من ميشلين، ولأنه يريد أن ينزهه عن فساد الذوق في تعلقه بالمرأة الأخرى، ويقول في حيرة وجزع: " جبران أخي
(1) رسالة المنبر: 950.
أصحيح أنك فعلت ما يرويه صديقك الحميم عنك، فتركت من لجأت إليك لتدعوك إلى إتمام واجبك تخرج من بابك هاربة فازعة إلى الضلال منك، حاملة في دمها قطرات دمك، وفي أنفاسها لهاث أنفاسك
…
أصحيح أنك تركتها وبدلاً من أن تلحق بها لتقف دونها ودون الانتحار، ارتميت على فراشك تنتحب كالأطفال؟
…
أصحيح إنك رأيت جرمك مائلاً أمامك بهذه الصورة المخوفة، ولم تتحرك لرد ما سلبته الفتاة المسكينة ونفسك الأشد مسكنة؟ " (1)
وليس فليكس فارس في هذه النظرة إلا رمزاً لتلك الموجة العاتية المستنكرة التي كانت تريد نعيمه أن كتب أمثولة أخلاقية عن جبران يستر فيها العيوب، وإن كانت حقيقة، لأنه لا يجوز أن نصور الرجل الذي وقف قلمه للدفاع عن الخير والفضيلة، غارقاً في حياة كلها قبح وشر. وتعود المشكلة من جديد في صورة ثورة على الصراحة، وذكر العيوب أو تصور الإنسان في حدود إنسانيته من نواحيها المختلفة، ومن اجل هذه الشجاعة والصراحة نستطيع أن نقول إن نعيمه قد حقق ما يعجز عنه غيره، حين واجه الناس بما ينفرون منه دون رياء أو مواربة، فوضع في السيرة العربية، ما وضعه ستراتشي في السيرة الإنجليزية، وأدى للفن شيئاً أسمى بكثير من الدرس التعليمي أو الأنموذج الجامد، وخلق إنساناً تام الخلق، ولم يخلق مثالاً أو تمثالاً.
(1) رسالة المنبر: 173 - 174.
ومن السيرة المقبولة سيرة " منصور الأندلس " لعلي أدهم، فإنها تتمتع بالبناء المتدرج وتدل على الفهم العميق لنفسية بطل السيرة وما يدور حوله من ملابسات، ولكنها هادئة بطيئة الحركة وينقصها الحماسة الكامنة في إخلاص نعيمه، ووقدة الذهن التي نحس بها فيما كتبه العقاد. ولا ريب في أن الذين يزاولون كتابة السير كثيرون، ولكني إنما أعرض نماذج متفاوتة، وعلى تفاوتها فإن أصحابها يشتركون في خاصية واحدة، هي اتصال إنتاجهم الأدبي بالذهن أكثر من اتصاله بالخيال. فالعريان حين انتقل إلى كتابة القصص التاريخية لم يبعد كثيراً عن مجال السيرة وإنما استغل الخيال المرتب بطريقة مشابهة أو مقاربة، والعقاد أخفق في كتابة القصة حين أنشأ " سارة "، فعزف عنها، ووجد خياله الذهني؟ إن صحت التسمية؟ مجاله الرحب في التراجم والمحاكمات العقلية. وعلي أدهم من التشريحيين الذين يحللون كل شيء كما يفعل الكيمياوي في معمله، مع هدوء أشبه بالتقرير العلمي، ونعيمه ناقد قبل أن يكون فناناً، وإذا كان هو أبرزهم قدرة على الخلق فما ذلك إلا لطبيعة الصلة بينه وبين جبران، ولعله لا يبلغ هذه القدرة لو حاول أن يكتب سيرة شخص آخر. ولم لا نقول إنه أجاد إنما كان يسخر من نفسه وصوفيته الحالمة، ومن تناقضاتها مع حاجاته المادية وهو يحاول أن يعري حقيقة جبران، كما فعل موروا عندما كتب عن شللي وعن مثاليته الثائرة التي ارتطمت بصخرة الواقع.