الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
4 -
السير الذاتية؟
نظرة عامة
ليس في الناس من يكره التحدث عن نفسه، حتى الذين يقولون ذلك بألسنتهم إنما يعانون ألماً شديداً لكف أنفسهم عما تشتهيه، إذا هم قدروا على كفها. وكثير منهم من يجعل من ذلك وسيلة إلى التحدث عن ذاته، على وجه يوحي بأنه ينتزع الكلام عنها انتزاعاً، وهو كاره له، وإذا كان الحديث عن النفس بطريقة شفوية عامة حظاً مشاعاً بين أبناء الإنسانية، فإنه من بعض صوره قسمة تختص بالأديب أو الفنان، لأن " الأنا " حاضر لديه مقنعة أو مكشوفة. وهي تتقنع وراء شخصيات المسرحية والقصة، لأن صاحبها يجب أن يخلق المرايا المجلوة وينظر إلى نفسه فيها، وه مكشوفة إذا كان يترجم لذاته، ويتحدث عن سيرة حياته. وليست الترجمة الذاتية حديثاً
ساذجاً عن النفس، ولا هي تدون للمفاخر والمآثر، ومن ثم كنا نستسيغها ونجد فيها متعة عميقة، بينما نهرب من الثرثارين الذي يملأون المجالس بالحديث عن جهودهم ومفاخرهم، وننسبهم إلى الغرور، ونتهكم منهم إذا استطعنا، لأنهم يصدمون فينا إحساسنا الذوقي بالصدق ف الخبر، ويسدون علينا المجالس العريضة حين يملأونها بدعواهم المنتفخة وغورهم العريض. أما كاتب السيرة الذاتية فإنه قلما يصدم مشاعرنا بما يقول إلا أن يطالعنا بمثل ما يقول سبنسر في ترجمته عن نفسه:" كانت لدي قدرة فائقة في العرض، فقد كنت أقدم مقدماتي وتعليلاتي ونتائجي بوضوح ونصوع لا يتمتع به الكثيرون. فمن أين جاءتني هذه المقدرة؟ سرها أن جدي قضى حياته ف التعليم وصرف أبي كل حياته في التعليم أيضاً؟ ولا ستطيع أحد أن ينكر أني بطبعي نقادة؟ " أو كقول نيتشه في ترجمته الذاتية: " لماذا تفوق معرفتي معرفة سائر الناس، ولم أنا في الجملة رجل حاذق (1) ؟ "
فهذا مما تخونه اللباقة، وإن كان حقاً؛ ومثل هذه الأقوال نفسها لا تدمنا كما تفعل قصص المتنفجين عن أنفسهم، لأننا نعترف، ونحن نقرؤها، أن سبنسر كان موهوباً، وأن نيتشه كان عبقرياً، والموهبة والعبقرية يغفران كثيراً من العجب،
(1) Ecce Homo p. 23
وتسجيل هذا اعجب ف كتاب أسهل قبولاً من إشاعته اللسان؛ من ذلك حديث العقاد عن نفسه في " سارة " فإنه أخف مئة مرة، من حديثه عن نفسه للنفر الذي يحضر مجلسه كل جمعة.
وبين المتحدث عن نفسه وكاتب السيرة الذاتية فرق كبير، فالأول لا يزال كلما أمعن في تيار الحديث يثير شكنا، والثاني يستخرج الثقة الممنوحة له منا، خطوة أثر خطوة؛ ولذلك كان الأول شخصاً عادياً أو أقل من العادي في نفوسنا أما الثاني فشيء مغاير له تماماً، لاعتقادنا أنه لم يكتب سيرته لملء الفراغ فحسب، وإنما كتبها لتحقيق غاية كبيرة؛ أبسطها الغاية التي ذكرها سبنسر في سيرته وهي أن يجعل كتبه واضحة لمن يقرؤها؛ أو ليعرف الناس بالكتب التي ألفها والتي يزمع تأليفها، كما فعل ابن الهيثم في سيرته حيث قال: إني لم أزل منذ عهد الصبا مروياً في اعتقادات هذا الناس المختلفة، وتمسك كل فرقة منهم بما تعتقده من الرأي، فكنت متشككاً في جميعه، موقناً بأن الحق واحد وإن الاختلاف فيه إنما هو من جهة السلوك إليه. فخضت لذلك في ضروب الآراء والاعتقادات وأنواع علوم الديانات، فلم أحظ منها بطائل، ولا عرفت منه للحق منهجاً، ولا إلى الرأي اليقيني مسلكاً جدداً، فرأيت أنني لا أصل إلى الحق إلا من آراء يكون عنصرها الأمور الحسية، وصورتها الأمور العقلية
…
فلما تبينت ذلك أفرغت وسعي إلى طلب علوم الفلسفة
…
وأنا أشرح ما صنعته، ليوقف منه على موضع
عنايتي بطلب الحق، وحرصي على إدراكه، فما صنعته في العلوم الرياضية خمسة وعشرون كتاباً.. " الخ: ثم يأخذ في تبيان ذلك على وجهه (1) .
وكاتب السيرة الذاتية قريب إلى قلوبنا، لأنه إنما كتب تلك السيرة من اجل أن يوجد رابطة ما بيننا وبينه، وأن يحدثنا عن دخائل نفسه وتجارب حياته، حديثاً يلقى منا أذناً واعية، لأنه يثير فينا رغبة في الكشف عن عالم نجهله، ويوقفنا من صاحبه موقف الأمين على أسراره وخباياه؛ وهذا شيء يبعث فينا الرضى، وقد يأسرنا فيحول أنظارنا عن نقد الضعيف والواهي في سرده، ويحملنا على أن نتجاوز له عن الكذب، ونتقبل أخطاءه بروح الصديق، وإذا أدى الكاتب هذه المهمة فقد رضي أيضاً عن نفسه لأن دوافعه إلى التحدث هي الدوافع التي تحدو صاحب السر إلى الإفضاء بمكنونات صدره، دون تحرج أو تأثم. وقد يكون العالم الداخلي الذي يطلعنا عليه صورة لصراعه مع الحياة، في الأحوال التي يعدها الناس طبيعية عادية، وقد يكون نتيجة لفترات الاضطراب والحرب ومظاهر الاستبداد، والثورات، فهذه العهود مجال خصب تظهر فيه السير الذاتية بغزارة. وقد دل الاستقصاء على أن فترة الحرب الثانية كانت خصبة وافرة الحظ من السير الذاتية، وإن الكتاب كانوا على
(1) نقل مختصراً عن طبقات ابن أبي أصيبعة 2: 93.
استعداد لتحقيق ذاتياتهم، وإنه كانت لدى القراء رغبة للهرب من الحاضر إلى ذكريات الماضي، وخاصة بين الكبار الذين منعتهم شيخوختهم من الاشتراك في الحرب (1) . ويقودنا هذا إلى التساؤل، لنعرف متى يكتب الكاتب سيرته الذاتية، فتعيين هذا قد يساعدنا على فهم الغايات التي تكتب السير الذاتية من أجلها.
ونستطيع أن نقول في الجواب على هذا السؤال إن كل سيرة فإنما هي تجربة ذاتية لفرد من الأفراد، فإذا بلغت هذه التجربة دور النضج، وأصبحت في نفس صاحبها نوعاً من القلق الفني، فإنه لابد أن يكتبها. والناس مهما يطل عليهم الأبد وتختلف أحوالهم هم أحد رجلين: رجل وصل إلى حيث يؤمل وانتصر على الحياة وصعابها، وأحسن التخلص من ورطاتها وشعابها، ورجل كافح حتى جرحته الأشواك وأدركه الإخفاق. وكلا العاملين، أعني الوصول والخيبة، يبلغان بالتجربة حد النضج على شرط واحد: هو اكتمال التصور لأطراف هذه التجربة ورؤيتها عند التطلع إلى الماضي، على أساس من نظرة ذاتية خاصة، ولولا هذا الشرط لكان كل إنسان قادراً على أن يكتب سيرة حياته. وإنك لتستمع إلى أشخاص يقصون عليك قصصاً من أحداث حياتهم، يمتعك سماعها ويبعث فيك شيئاً من النشوة، ولكنهم يعجزون عن أن يكتبوها سيرة كاملة، لأنهم يعجزون عن أن يروا مكانهم من الحياة، ولا يرى الإنسان مكانه بوضوح إلا
(1) Prose Lit. Since 1939.
إذا أصبحت تجاربه ذات وحدة متكاملة، وكانت لديه قاعدة فلسفية يتقابل بها وجهاً لوجه مع حقائق الوجود الأخرى؛ وهذا فرق أصيل بين الفنان وغيره، وهو سر تفرده في الحياة، كما أنه سر سعادته أو شقائه، أعني ما يصيبه من وصول أو خيبة. ولست أقول إن التجربة في الحياة لا تكون إلا روحية، ولكن التجارب الروحية من أشدها حثاً على كتابة السير الذاتية، ومن أكثر الحوافز خلقاً للسير الذاتية الجميلة؛ ومن هذا القبيل اعترافات القديس أوغسطين واعترافات تولستوي، والانصهار الروحي الذي صوره الغزالي في " المنقذ من الضلال " ومذكرات ماري بشكرتسيف Marie؟ Bashkirseff. وتلي هذه السير القائمة على أساس روحي ما كان صورة لصراع فكري، وهنا تكون السير أقرب النماذج إلى التجرد في الحكم والصدق في الخبر، ومن هذا القبيل سيرة جون ستوارت مل، وسيرة المؤرخ الإنجليزي جبون، وسيرة أدمند غوس Edmund Gosse التي سماها " الأب والابن " وصور فيها صراع جيلين مختلفي الاتجاه والنظرة والميول. وكل هذا يضع هذه السير الذاتية في مرتبة أعلى من أنواع أخرى منها، يكتبها بعض الصحفيين والبحارة والممثلين وأناس اتصلوا ببعض الرجال العظماء فهم يحققون وجودهم عن طريق تاريخ تلك الصلات (1) .
(1) انظر مادة Autobiography، في Dictionary of World Lit.
وإذا كانت السيرة عامة تتطلب لرواجها أن يكون بطلها شخصاً ذا تميز واضح في ناحية من النواحي، فإن هذا الشرط أساسي في السيرة الذاتية بخاصة، إذ لابد لشمول الرغبة فيها أن يكون صاحبها ذا صلة دقيقة بأحداث كبرى، أو أن يكون ممن لهم مشاركة في بعض تلك الأحداث، أو أن يكون؟ كما قلت قبل قليل؟ ذا نظرة خاصة إلى الحياة وحقائق الكون، قد تجعله سابقاً لأوانه متقدماً على أبناء عصره، أو ذا غاية كبيرة، أو صاحب أخطاء جسيمة. فإن الجواذب التي تجذب الناس إليه إنسانية أولاً ظاهرة ساطعة ثانياً؛ ولذلك يموت كثير من السير الذاتية لأنها لا تستطيع أن تحيا في نفوس الناس لا من جانبها الإنساني ولا من جانبها الفني.
يقول سلامه موسى: " ولذلك أيضاً يجب ألا نستصغر قيمة السيرة يكتبها المتوسط العادي وحتى المنحط الشاذ، لأن في تخلفه عن اللحاق أو في عجزه عن السبق، عبرة قد يرجع مغزاها إلى المجتمع الذي عاش فيه، فتقع تبعته على بيئته وليس عليه وعندئذ تكون سيرته دعوة إلى هذا المجتمع كي يتغير ويتطور "(1) صحيح أنه يجب علينا ألا نستصغر قيمة سيرة كهذه؛ ولكن ما الذي يدعو إلى قراءة سيرة كتبها ذلك المتوسط العادي أو المنحط الشاذ؟ وإذا كان قد كتب سيرته وكان يحس أنه عاش على خلاف مع بيئته وجعلنا نحس بذلك عينه، فإن هذا التميز
(1) تربية سلامه موسى: 12.
يرفعه عن درجة المتوسط العادي والمنحط الشاذ؛ إن سلامه موسى في سبرته أراد أن يقرر كيف كان شخصه ذات طوابع مفارقة للكثير من مواضعات عصره، وهذا أمر يحسن بالكاتب أن يجعله مستنتجاً من سيرته جملة، لا أن يفرضه على القارئ فرضاً؛ إذ التقرير المحض في هذه الأمور لا يثبت حقيقة ولا ينقصها؛ وسلامه موسى قد يكون سابقاً لعصره في نظر نفسه فقط، ولكنه عاجز عن أن يجعلنا نؤمن بهذا الذي يدعيه مما كتبه في سيرته؟ والقليل من تلك السيرة هو الذي يستدعي منك أن تقرأه، قراءتك لتجربة ذاتية ذات حدود واضحة بين ولادتها واكتمالها، أما أكثر صفحاته فإنه عرض لجوانب تاريخية ومقالات في بعض الموضوعات، ولذلك تراه يستطرد فيه فيترك الحديث عن تجاربه، ليحدثك عن التاريخ والأحداث والآراء التي سمعها أو قرأها، ولولا شعوره بإنه ذو نظرة خاصة إلى الكون والناس، لما كتب سيرته، ولما استحق ما يقرأ منها باسم السيرة الذاتية، فإنها ادخل في باب التاريخ، وأقرب إلى طبيعة التقريرات العلمية.
وسيرة أخرى؟ صاحبها أدنى حظاً من سلامه موسى من حيث صلته بالحياة الأدبية في عصرهن لم تنل شيئاً؟ إلا قليلاً من الذيوع والإقبال، هي " سيرة حياتي "؟ كتبها توفيق فضل الله ضعون، وهو لبناني قضى جانباً كبيراً من حياته متنقلاً بين مصر والسودان وغيرهما، وهي من خير الأمثلة التي يرد
بها علي رأي سلامه موسى، فإن أحداً لا يخطر له أن يقرأها إلا إن كان يكتب في تاريخ السيرة الذاتية، وهي أشبه بمذكرات الرحالة، مع مجموعة من الملاحظ السطحية عن بعض الشخصيات والمشاهدات، ولها في هذا المجال وفي شيء من روح السخرية، متعة لا بأس بها، ولكن لا صاحبها ولا الأحداث المتصلة بحياته، ولا الشخصيات التي ينقلها، ولا طريقته في التعبير عنها، مما يهم المجتمع الذي كتبت له، لأن هذه كلها تعيش على هامش ضيق من الحياة والأدب. وقد كتبت تحت شعور خاطئ بأن أي شيء من الذكريات يكتبه صاحبه فإنه يفيد في إثارة العبرة، وإن كتابة السيرة الذاتية بدعة في الأدب العربي، وهو تعميم له شطر من الصواب، ولكنه خاطئ في جملته.
ومن اجل هذا أرى أن حظ السيرة الذاتية من البقاء منوط بحظ صاحبها نفسه من عمق الصراع الداخلي أو شدة الصراع الخارجي، وإنه قد تجري حياة فرد عظيم من الناس جريان الماء الرقراق على أرض من الحصباء، ولكن عظمته في مكانه من التاريخ تجعل لسيرته الذاتية قيمة وذيوعاً، سواء أكانت تلك العظمة في دنيا الأعمال أم الأفكار. ولابد لها كي تكتب من أن يتجسد فيها الماضي بخيره وشره، لا على شكل ذكريات متقطعة، ولا على شكل صور خارجية شاهدها الكاتب في الناس والأشياء، بل على أساس من التطور الذاتي في داخل النفس
وخارجها؛ ومن ثم قد تجيء السيرة الذاتية صورة للاندفاع المتحمس والتراجع أمام عقبات الحياة، وقد تكون تفسيراً للحياة نفسها، وقد يميل فيها الكاتب إلى رسم الحركة الداخلية لحياته، مغفلاً الاهتزازات الخارجية فيها إهمالاً جزئياً، وقد تكون مجرد تذكر اعترافي موجه إلى قارئ متعاطف مع الكاتب، وقد تمتزج هذه العناصر على أنصباء متفاوتة. فإذا كان الشخص الذي يترجم لنفسه ذا منزلة خاصة في المجتمع، وكان يرمي إلى إنشاء هذا التعاطف بينه وبين القارئ، وأقام سيرته في بناء فني، لم يغفل فيه قيمة الأسلوب وتأثيره، وكان ماهراً في الربط بين الصورة الداخلية لحياته ومنعكساتها في الخارج، فهنالك تتم سيرة ذاتية مكتملة، وليس ثمة من سبب يحول دون تلقيها بالقبول؛ أما إذا اقتصر الكاتب على تدوين مذكراته أو يومياته، أو وجه سيرته لتصوير أحداث أكثر من تصوير " ذات "، فإن عمله يلتقي مفهوم السيرة الذاتية وليس هو.
والغاية الأولى التي تحققها السيرة الذاتية هي الغاية المزدوجة التي يؤديها كل عمل فني صحيح، أعني تخفيف العبء على الكاتب بنقل التجربة إلى الآخرين، ودعوتهم إلى المشاركة فيها؛ فهي متنفس طلق للفنان، يقص فيها قصة حياة جديرة بأن تستعاد وتقرأ، وتوضح موقف الفرد من المجتمع، كما تمنحه الفرصة لإبراز مقدرة فنية قصصية إلى حد كبير، وتريحه نفسياً لأنها
تستند إلى الاعتراف؛ فإن كان يشعر باضطهاد المجتمع له كما شعر روسو، تخفف من هذا الشعور، وإذا أحس بوقع ذنوبه وآثامه، أراح ضميره بالتحدث عنها، وقمع نفسه بالإعلان عن سيئاتها، ووقف منها موقف المتهم والقاضي معاً. وإذا خرج سالماً من لجة الصراع الروحي والنفسي والفكري إلى ساحل من الطمأنينة، رسم صورة لذلك الصراع، وأنهى قصته بالهدوء الذي يعقب العاصفة، والاستبشار الذي يأتي بعد اليأس؛ وإذا تحول من دين إلى دين، أو من مذهب سياسي إلى مذهب آخر، أو من منتصر إلى منهزم، أو من قاض إلى متهم، أو أخفق في خطة، فلا بد له من أن يرضي ضميره، فيكتب سيرة حياته، منتحلاً ضروباً من التعليل والاعتذار و " التبرير "، ولعل هذا العامل وما يكتنفه من غايات، من أقوى البواعث على كتابة السير الذاتية. وإذا كان متهماً في أنظار الناس بريئاً عند نفسه وعند الحقيقة، وإذا كان يحس بعظم الرسالة التي وكلت إليه، والناس من حوله لا يقدرونها ولا يأبهون بها، كان الكشف عن دخائل الأمور المتصلة بحياته، طريقه الطبيعي إلى إحقاق الحق وإعلان الصدق، ووراء كل سيرة هذا الدافع النفسي أو ذاك؛ وغاية مرصودة، لا يعلن صاحبها عنها، لأنها كالصورة الكلية للعمل الفني، تظل غائمة، حتى تكتمل السيرة.
وليس لدى الكتاب من عمر محدود يقفون عنده لكتابة سيرهم، فإن نيتشه كتب سيرته وهو في الأربعين، وكتبها
سلامه موسى حين بل الستين؛ وأحمد أمين حين تجاوز هذه السن أيضاً؛ ولكن لا ريب في أن الإسراع إلى كتابة الترجمة الذاتية، في سن مبكرة، يفوت على كاتبها أموراً كثيرة، فقد يكتبها قبل أن تتضح له نتائج تطور خطير في حياته، وقد يكتبها قبل أن تقف مبادئه في الحياة واضحة جلية لينيه. وهناك خطر آخر: وهو أنه يحشد في سيرته تجارب كان من الممكن أن يفيد منها في بناء عدة قصص. وفي خلق عدة شخصيات، وفي نظم عدد من القصائد أو استغلالها في أي فن أدبي آخر (1) ؛ وهذا ما وقع فيه الدكتور طه حسين في " الأيام "، فإنه قد " جمد " تجاربه دفعة واحدة، حتى كان هذا الكتاب؟ على أنه من أوائل ما كتب؟ أغنى كتبه وأحفلها وأكثرها إمتاعاً، وأقربها إلى العمل الفني، لا لأن الدكتور طه حسين يحسن هذا النوع وحد من الفن الأدبي، بل لأنه تحول بقلمه إلى نقل واقعه كله، أو أكثره، على هذه الصورة، فهو يتجنب؟ قدر استطاعته؟ أن يعيد هذا الواقع وتلك التجارب إذا كتب قصة أو مقالة من بعد.
من كل ما تقدم يتبين لنا إلى أي حد تعتمد السيرة التي يكتبها الشخص لنفسه على العنصر الذاتي، بينما السيرة العامة، قائمة في المقام الأول، على الاتجاه الموضوعي. فلابد أن يكون
(1) Prose Lit. Since 1939: p. 22.
من يكتب سيرة غيره موضوعياً في النظرة إلى صاحبه، وإلى الأشياء والحقائق المتعلقة به، كما لا يمكن أن يكتب سيرة نفسه إلا إن كان يبصر الحقائق المتعلقة بذاته على نحو ذاتي. وهنا موطن دقيق يحسن التنبه له، وهو أن يكون الكاتب لسيرته الذاتية موضوعياً أيضاً في نظرته لنفسه، بمعنى أن يتجرد من التحيز لنفسه، وهو يذكر موقفه من الناس والحوادث، ولا ينساق مع غرور النفس وتعلقها بذاتها، وحبها لإعلاء شأنها وتنقصها من أقدار الآخرين. وقل من يحسن هذا النوع من التجرد، وكثير من الناس يحتالون عليه، ليمنحوا ما يكتبونه أصالة وصدقاً، ويقع في أنفس القراء موقعاً حسناً، وأعيد القول هنا بأن هذا التجرد كان من نصيب بعض الكتاب المفكرين من مثل جون ستيوارت وإدموند غوس، وهو إلى حد كبير ميزة السيرة التي كتبها أحمد أمين.
ولكن: هل هذا هو كل الفرق بين الترجمة الذاتية والسيرة العامة: أن الأولى ذاتية مع شيء من الموضوعية وأن الثانية موضوعة مع ذرات صغيرة من الذاتية؟
نحن هنا إزاء فريقين يختلفان اختلافاً بيناً: أما الفريق الأول فيرى أن لا فرق بين السيرة الذاتية والسيرة عامة، في الغاية والشكل والمضمون، إلا أن إحداهما تكتب بصيغة المتكلة والأخرى بصيغة الغائب؛ كلاهما فن لا علم والدليل على ذلك أنه لو اجتمع عشرون كاتباً على كتابة سيرة لأحد الناس
لتوفرت لدينا عشرون سيرة مختلفة، على الرغم من أن المواد واحدة متفقة. ولو كتب هؤلاء سير أنفسهم لطالعنا أيضاً مثل ذلك العدد من السير الذاتية المتباينة. ويعتمد القائلون بتشابههما وتقاربهما، في إثبات هذا الرأي، على مثل سيرة جونسون التي كتبها بوزول فيقولون: إن بوزول كان حقاً كاتباً قديراً للسيرة، ولكن ما كتبه ليس إلا صورة مزدوجة فيها سيرة جونسون، وفيها أيضاً سيرة بوزول نفسه؛ ولم يتوفر لذلك الكاتب النجاح فيما كتب، إلا لأنه سعى السعي كله لتحسين نفسه بكتابة سيرته الذاتية، فليست سيرة جونسون إلا ذلك الشخص الذي تجسمت فيه كل أماني بوزول، حين وجد فيه؟ مصادفة لا تعمداً؟ شخصية ترضي كل نزعاته الخلقية رضاء تاماً، فكرس حياته وقلمه من أجله. إذن فالقول بأن صاحب السيرة موضوعي وصاحب السيرة الشخصية ذاتي، تعميم يخرج على منطوقه كثير من الشواهد. والقول بأن الإنسان يعرف ذاته خيراً مما يعرف ذوات الآخرين هو أيضاً قول مرسل لأن قاعدة " أعرف نفسك " لا تزال من أبعد القواعد عن حيز الإمكان (1) .
وأما الفريق الآخر فيقول: إن بينهما شركة كالتي بين كثير من الفنون الأدبية، ولكن القول باتفاقهما
(1) The Art of Biography in the 18th. Cent. England، pp. 411 - 14.
التام خاطئ أو بعيد عن الصواب. لأن الترجمة الذاتية نقل مباشر أما الترجمة الغيرية؟ أي ترجمة حياة الآخرين؟ فإنها نقل عن طريق الشواهد والشهادات والوثائق، وشتان ما هما؛ ثم إن الصفات التي تجعل السيرة الذاتية عظيمة ليست هي نفس الصفات التي تجعل السيرة الغيرية عظيمة: وفي رأس تلك الصفات أن يكون كاتب السيرة موضوعياً، يلمح بسرعة ويفهم بأحكام ويلم الحقائق، ويحكم عليها، ويمزجها مزجاً متعادلاً منسجماً، ويصبغها بأسلوبه. أما كاتب السيرة الذاتية فإنه ذاتي قبل كل شيء، ينظر إلى نفسه ويسلط أضواء النقد ودقة الملاحظة على شخصيته؛ ومترجم غيره يقف موقف الشاهد لا القاضي أما مترجم نفسه فإنه يجمع بين الصفتين. فليس للأول أن يحمل فكرة مقررة سابقة عمن يترجم له، وإنما من واجبه أن ينقل صورته إلى الخلف، كما كانت تلك الصورة معروفة بين معاصريه.
ومثل هذا التقييد لا يمكن فرضه على من يترجم لنفسه فما يقوله يقبل على وجهه. ونتيجة لهذه الفروق تنبع السيرة الذاتية من الداخل، متجهة نحو الخارج، على عكس الاتجاه الذي تمشي فيه السيرة غير الذاتية. ونجاح المترجم الذاتي يقاس بنسبة الذاتية فيما كتب، أما نجاح من يكتب سيرة فيره فيقاس بمقدار تجرده وغيرته (1) .
ويبدو من هذا الجدل حول الموضوع أن القول
(1) باختصار عن كتاب The Doctor Looks at Biog ص 43 - 46.
باشتراكهما التام مصحوب بالغلو، ولكن اتفاقهما في كثير من المظاهر والعناصر أمر طبيعي؛ وكلما أصبحت السيرة تعبيراً ذاتياً عن نفس كاتبها وظروفه، وكانت الشخصية التي يتحدث عنها هي مثله الأعلى، قلت نسبة الفرق بين هذين الفنين.
ونخلص من هذا إلى أن كاتب السيرة الذاتية لا يصور نفسه فحسب، وإنما يحكم عليها ويحاول أن يتجرد من الرابطة العاطفية التي تشده بها، فإلى أي حد يمكن أن يكون هذا الكاتب الذاتي صادقاً؟ وبعبارة أخرى، ما هي درجة الصدق في السيرة الذاتية، وهل من الممكن للصدق التام أن يتحقق فيها؟ والجواب على هذا التساؤل سهل لا يحتاج كثيراً من التدقيق. فالصدق الخالص أمر يلحق بالمستحيل، والحقيقة الذاتية صدق نسبي، مهما يخلص صاحبها من نقلها على حالها؛ ولذلك كان الصدق في السيرة الذاتية " محاولة " لا أمراً متحققاً. وقد عرض موروا للحوائل التي تحول دون تحقق الصدق في السير الذاتية: فعد منها النسيان الطبيعي، والنسيان المتعمد، فنحن لا نذكر من عهود الطفولة إلا القليل، وبعض ما نذكره أحياناً نحاول إخفاءه لأنه لا قيمة له، وما دمنا ننشئ فناً فإن عملية الاختبار هي التي تتحكم فيما نعمله، فنحذف ما نحذفه ونبقي ما نبقيه، خضوعاً لتلك الحاسة الفنية فينا. وهناك أشياء نستحي من ذكرها، كبعض العلاقات الجنسية، وقليلون هم الذين لديهم جرأة روسو، بل كثيرون هم الذين يخجلون من أن يقروا روسو
على تلك الصراحة. ثم إن الذاكرة لا تنسى فحسب بل هي تفلسف الأشياء الماضية، وتنظر إليها من زوايا جديدة، وتهدم وتبني حسبما يلائم تجدد الظروف وتغيرها، وتجد التعليل والمعاذير لأشياء سابقة، لأنها في عملية كشف دائم؛ ومعنى ذلك أن الماضي شيء لا يمكن استرجاعه على حاله، ولا مناص من تغييره، بوعي أو بغير وعي، ومن ضروب التغيير الواعي فيما نذكره ونكتمه أننا لا نقول كل ما نعرفه عن الأحياء، لئلا ينالهم الأذى من صراحتنا (1) . فليست هناك سيرة ذاتية تمثل الصدق الخالص، ولذلك كان جوته محقاً؟ كما قال موروا؟ حين سمى سيرته " الشعر والحقيقة " إشارة منه إلى أن حياة كل فرد إنما هي مزيج من الحقيقة والخيال (2) .
وفي السير الذاتية بالغرب معالم كبيرة كان لكل معلمٍ منها أثره في كتابة السيرة الذاتية وطريقتها، وفي طليعة تلك السير " اعترافات القديس اوغسطين " فإنها فتحت أمام الكتاب مجالاً جديداً من الصراحة الأعترافية، وشجعت الميل إلى تعرية النفس، في حالات كثيرة تلتبس بالآثام، أو يثقل فيها عناء الضمير. ثم هنالك " اعترافات روسو " وقد خطت بالصراحة المكشوفة
(1) انظر Aspects of Biography: 149 - 165 وقد نقل الدكتور بدوي هذا الجزء عن موروا، فيما يظهر، انظر صفحة 44 - 47 من كتاب " الموت والعبقرية ".
(2)
Aspects of Biog. P. 179.
خطوة جديدة، وكان صاحبها حين بدأ كتابتها يشعر أنه يقوم بعمل لم يسبقه إليه أحد، ولن يوجد من يقدر على محاكاته فيه، وقد عني روسو فيها عناية فائقة بالصراع الداخلي، دون تفلسف كثير حول ذلك الصراع، فجاءت اعترافاته مثلاً ساطعاً على نقلها الواقعي للحياة. وقد كان يظن أنها أصدق سيرة كتبت، ولكن الدراسة المتعمقة قد دلت على أن روسو كان أكبر مشوه للحقائق، وهو أخلص الناس في نقلها. وثمة معلم ثالث له أثره أيضاً في السير الذاتية بالغرب، وهو يوميات أندريه جيد، وقد انفق فيها السنوات الطوال، يحاول أن ينقل صورة نفسه بأخطائها ووصماتها، ولكنه مع ذلك، من أقرب كتاب اليوميات إلى الصراحة الكاذبة، فقد شهد صديق من أصدقاء جيد، موثوق بقوله، إنه ليس في كتاب الاعترافات كاتب مثل جيد، تحيل في الصراحة، ليكيف في شكل التمثال الذي ينصبه لنفسه، كلما تقدم في العمر، ويضع له قاعدة صلبة (1) .
ويطول بنا القول كثيراً لو أننا تناولنا أشهر السير الذاتية التي كتبت في الغرب؟ دع عنك إحصاءها؟ ولكن المتطلع إلى قراءة هذا النوع من الفن الأدبي لابد أن يعرف السير التي مرت أسماءها في هذا الفصل، هذا إن لم يغيره حب الاستطلاع بقراءة سير ذاتية أخرى، فإن من التنوع والخصب ما
(1) Highlights of Modern Lit. p. 213.
يجعلها من أغنى الكتب بالتجارب الإنسانية. فإن كان يعجبه أن يتعرف إلى النفوس الكبيرة والعبقريات الفذة في صراعها وتقلبها وأخطائها، فهو واجد في اعترافات تولستوي وأشباهها، ما يرضيه. وإن كان يريد أن يحس كيف تتمخض النفس الإنسانية من خلال التيار العاطفي لمعانقة الفكر، وتعيش في جحيم العاطفة العاتية لتبلغ المجرد، وتبتدع لنفسها الحياة المرجوة من خلال الحياة نفسها، وتشك أو تؤمن تحت وطأة التشاؤم والتفاؤل، ففي مذكرات ماري بشكرتسيف أروع قصة لأغرب حياة نفسية، عاشتها فتاة أكرانية مسلولة، تحلم بالمجد وتعيش من أجله، وتتخذ من كل شيء، صغيراً كان أو كبيراً، موضوعاً للتأمل والتحليل، وقد كتبت مذكراتها لتقص للناس " التاريخ الكامل لامرأة، بكل أفكارها وآمالها، وما عانته من خيبة وأمل، وما أدمى قلبها من خسة الناس ولؤم طباعهم، وما نعمت به من جمال واستشعرته من مباهج وأحزان. "(1)
وإذا كانت تستهوي القارئ صورة الصراع بين الجيل الفاني والجيل الصاعد، بين الأب والابن، بين النظرة الدينية المستسلمة وحرية الفكر، فإن كتاب " الأب والابن " لادمند غوس، كفيل بتبليغ هذه الرسالة في صدق وتجرد، مع قسط لازم من روح السخرية المغموس في غمار المأساة، أثناء ذلك الصراع. لقد كان
(1) الموت والعبقرية: 67 وفيه فصل ممتع عن ماري بشكرتسيف: 57 - 72.
ادموند غوس ابناً لرجل عالم متدين وأم متدينة؛ ومنذ البدء نذره هذان الأبوان، للحياة الدينية الخالصة، وعودا نفسه الوقوف عند الحدود الصارمة، والاكتفاء بالكتب الدينية التي يريانها مفيدة له، وإبعاد كل ما قد يقربه إلى حب الحياة الدنيا من كتب ولدات؛ وفي الثانية عشرة من عمره كان أبوه قد " عمده " في المذهب الذي يعتنقه، واعتبره مسؤولاً عن توجيه الاتباع وهدايتهم، وقراءة الصلوات لهم، وهو يصف تدرج نفسه وتفتحها، واصطدامها بهذا الواقع الذي رسمه أبوه مرحلة مرحلة، موضحاً إلى جانب هذا التغير النامي، قوة الثبات، بل التراجع، في نفسية أبيه، وانقطاعها عن العالم، وازدراء الشهرة، والتوفر على شؤون المذهب، والارتياح لكل بادرة من التغير تظهر في أعمال ذلك الابن وأقواله. ولما وضح أن الابن أخذ يضيق ذرعاً بالتزمت، وتتجه نفسه إلى الأدب والحياة بأقوى من اتجاهها إلى الدين، وتحاول أن تستكشف العوالم التي أخفاها ذلك الخناق الضيق في النظرة والنشأة، عمل الأب؟ في فزع لا يخفى؟ على أن يوجهه فيما يعتقده أنه الطريق السوي، ناسياً أن " التدين ليس أمراً وراثياً وإن ظل يرجو أن يحققه عن طريق القهر "(1) . وأخيراً، كتب لابنه رسالة يقول فيها " عندما جئت إلينا في الصيف، وقعت علي نازلة ثقيلة، فقد استكشفت مدى ابتعادك عن الله. لا أقول إنك استسلمت للتيار القوي من
(1) Father and Son p. 294.
دم الشباب، ووقعت ضحية لشهوات الجسد، فلو حدث هذا، وهو أمر مؤسف، لارتفع صوت ضميرك الحي جهراً، ولوجدت الهداية بالعودة إلى الدم الذي ينقي خطايانا جميعاً، وإلى الاعترافات وقتل الذات، وإلى العفو والإنابة إلى الله. لم يحدث لك شيء من ذلك، ولكن ما حدث كان أسوأ، وهو ذلك الجحود الراعب، الذي ثار في عقلك وقلبك بقوة مخيفة. وإنما أقول إنه أسوأ لأنه ينحت أسس الإيمان التي يقوم عليها كل دين صحيح، وكل توجه حقيقي إلى الله " (1) . حينئذ كان الابن قد بلغ الحادية والعشرين، ورأى أن كتاب أبيه لم يدع مجالاً للتفاهم، ولم يبق للصلح موضعاً، فاختار أن يرفع نير الاستسلام عن عنقه، ومضى دون أن يثير عاصفة أو يحس ندماً، يشق طريقه في الحياة، مستقلاً في تكييف ذاته، وبناء معتقده، وحياته الخاصة.
ومن أحدث ألوان السيرة الذاتية في الغرب، اللون القصصي الذي يمثله كتاب " في البحث عن زمن ضاع " لمارسيل بروست، و " صورة الفنان في شبابه " لجيمس جويس، وكلاهما يتميز بالمزج بين الحركة الشعورية واللاشعورية في القول والعمل. ويتسم الكتاب الأول بالاتساع الذاتي لشمول النظرة التحليلية حتى للشخصيات التافهة، ذات الدور الثانوي في الحياة، كما
(1) Op. Cit. P. 309.
يختص الثاني بالاندفاع المتحمس الذي يشبه التيار المتدفق في استعراض حياة الصبا وفورة الشباب، والثورة على نظام المدرسة، والتزمت الديني، وهو في ناحيته الأخيرة قريب الشبه بكتاب " الأب والابن " لادمند غوس، لأنه صورة للقلق الفكري، الذي ينبع من محاولة الانطلاق، وراء حدود التربية الدينية الصارمة.