المَكتَبَةُ الشَّامِلَةُ السُّنِّيَّةُ

الرئيسية

أقسام المكتبة

المؤلفين

القرآن

البحث 📚

‌ السيرة الذاتية في الأدب العربي - فن السيرة

[إحسان عباس]

الفصل: ‌ السيرة الذاتية في الأدب العربي

5 -

‌ السيرة الذاتية في الأدب العربي

إن تلك الطبيعة الثورية القلقة الجياشة؟ التي شهدنا شيئاً منها في الفصل السابق؟ ليست من المميزات الواضحة في السيرة الذاتية في الأدب العربي. فإن طبيعة الاستسلام أغلب على هذا اللون من الأدب، حتى عند أصلب شخصياته، وأشدها تمرساً بالمصاعب، وهي طبيعة يمثلها ابن خلدون نفسه، على صلابة عوده، لأنه إذا واجه مشكلة تنحى عنها لتمر، أو اختار الهجرة لئلا يضعف إزاءها، وهو يعزل ثم يولى ثم يعزل ثم يولى، ويتقبل هذا الأمور كأنها أحداث تجري بمعزل عنه وعن تفكيره وتقديره؛ ويغرق أهله جميعاً في سفينة قادمة من تونس، فإذا جوابه على هذه الفاجعة أنه يريد زيارة مكة ليتعزى عمن فقدهم. ومعنى هذا أن الإحساس بالصراع الذي يخلق الفن، ضعيف في

ص: 120

تلك السير الذاتية، أما الصراع نفسه فحاضر في كل مرحلة من مراحل الحياة.

ويلي هذا العنصر في القوة، عنصر التعري النفسي والاعتراف المخلص، فهو أقوى ظهوراً من سابقه، وخاصة عند أهل الاتجاه الروحي أو الفكري؛ فابن الهيثم يعترف بأن الإقبال على علوم الديانات لم يفده شيئاً، فاتجه إلى الأمور العقلية، وهذه شجاعة لا يوازيها إلا الاعتراف الغزالي بأنه شك في كل شيء إلا في البديهيات، لولا أن الغزالي عاد من ثورته هذه إلى الاستسلام الذي ألقى به في أحضان التصوف. أما الاعتراف الذي يصيب حقائق الحياة الذاتية، في السلوك العام، وفي الأحداث الخاصة، فشيء قلما يصيبه المرء في هذه السير الذاتية أو المذكرات واليوميات. ولذلك نرى ابن حزم الأندلسي فذاً في تلك النتف الاعترافية التي ضمنها كتابه " طوق الحمامة "، وهو زعيم مذهب، وأخو تشدد بالغ في النظرة الدينية، ومع ذلك نجده يقول:" وعني أخبرك أنني أحببت في صباي جارية لي شقراء الشعر، فما استحسنت من ذلك الوقت سوداء الشعر، ولو أنه على الشمس أو على صورة الحسن نفسه؛ وإني لأجد هذا في أصل تركيبي من ذلك الوقت، لا تؤاتيني نفسي على سواه، ولا تحب غيره البتة، وهذا العارض بعينه عرض لأبي، رضي الله عنه، وعلى ذلك جرى إلى أن وافاه الأجل "(1) .

(1) طوق الحمامة: 28.

ص: 121

ويتعمق ابن حزم استبطان أحواله النفسية في بعض مذكراته كأن يقول " وعني أخبرك أني ما رويت قط من ماء الوصل ولا زادني إلا ظمأ

ولقد بلغت من التمكن بمن أحب أبعد الغايات التي لا يجد الإنسان وراءها مرمى، فما وجدتني إلا مستزيداً، ولقد طال بي ذلك فما أحسسن بسآمة، ولا رهقتني فترة؛ ولقد ضمني مجلس مع بعض من كتب أحب، فلم أجل خاطري في فن من فنون الوصل، إلا وجدته مقصراً عن مرادي، وغير شاف وجدي، ولا قاضٍ قل لبانة من لباناتي، ووجدتني كلما ازددت دنواً ازددت ولوعاً " (1) .

ويتدرج من هذا التعميم أحياناً إلى التفصيل الدقيق للحادثة الواحدة، فيعرضها في صراحة، قل أن تجد لها مثيلا. ولكن مما قلل من صراحته في الكتاب، أنه لم يستطع أن ينسب كثيراً من الوقائع إلى نفسه، فاكتفى بالتلميح أحياناً، وكنى عن أسماء الأحياء مراعاة لمشاعرهم، وفاته كثير من الذكريات لأنه كان كما قال: " فأنت تعلم أن ذهني متقلب، وبالي مهصر بما نحن فيه من نبو الديار، والجلاء عن الأوطان، وتغير الزمان، ونكبات السلطان، وتغير الإخوان، وفساد الأحوال وتبدل الأيام

" (2) ولم يكتب أحد في موضوع الحب كتابة قائمة على التجربة والمشاهدة، والاعتراف وبعض التعمق النفسي، مثلما فعل ابن

(1) طوق الحمامة: 62.

(2)

المصدر نفسه: 154.

ص: 122

حزم الأندلسي، ولولا أنه مزج كتابه بأشعاره الكثيرة، والتزم فيه تقسيمات مصطنعة، لاستوفى المتعة الصحيحة، وما قصر عن الغاية.

وإلى جانب العاملين السابقين وهما روح الثورة والتعري، نجد السير الذاتية والمذكرات واليوميات في أدبنا، مفتقرة إلى العمق النفسي، الذي وجدنا بعض خيوط دقيقة منه عند ابن حزم الأندلسي. وهذا شيء يتمشى مع العنصرين الأولين، ويعتمد إلى حد كبير على التوافق بين الفرد ومجتمعه، ونظرته إلى نفسه وإلى الناس، وهو أعمق بكثير من الفخر الفردي القائم على تعداد المآثر في الذات، وملاحظة السيئات في الآخرين. ولا يزال مجتمعنا حتى اليوم يؤهل لهذه السطحية، لأن التكأة الفلسفية للشخصية فيه ضعيفة أو مكسورة، وقد نجد هناك براعة في نقل الحركة الخارجية في القصة والمسرحية والسيرة، ولا نجد هذا الغوص داخل النفس، إلا قليلاً، وهو عمق تتبلور حوله الشخصيات، وتعيش خالدة متميزة.

ويمكن أن نقسم السير الذاتية وما شابهها، حسب كيانها العام وغايتها، إلى الأصناف التالية:

(1)

الصنف الإخباري المحض، وهو يضم الحكايات ذات العنصر الشخصي سواء أكانت تسجل تجربة أو خبراً أو مشاهدة، كتلك الحكايات التي يقصها الجاحظ وأبو حيان والصلاح

ص: 123

الصفدي والصابي والصولي وغيرهم عن نفوسهم، وعن الأحداث التي صادفتهم، كما تضم بعض المذكرات التي كتبها صاحبها من أجل الغاية التاريخية، وهذا يشمل جانباً من السير التي تحدثت عنها في الفصل الأول، ويشمل " مياومات " القاضي الفاضل، والعناصر الذاتية في كتب الرحلة، كرحلة ابن جبير والشيخ خالد البلوي وابن رشيد والعبدري، ومجموعة من السير الذاتية مثل سيرة ابن سينا، وموفق الدين البغدادي، وعلي بن رضوان الطبيب المصري، وهم كل واحد من هؤلاء أن يعرف الناس أين نشأ، وكيف تعلم، وكيف كانت قابليته للعلم، ومن شيوخه، وما هي الكتب التي ألفها، والبلاد التي زارها متنقلاً.

يقول ان سينا في سيراه: " إن أبي كان رجلاً من أهل بلخ، وانتقل منها إلى بخارى في أيام نوح بن منصور، واشتغل بالتصرف وتولى العمل في أثناء أيامه، بقرية يقال خرميثن من ضياع بخارى، وهي من أمهات القرى، وبقربها قرية يقال لها أفشنة وتزوج أبي منها بوالدتي وقطن بها وسكن، وولدت منها بها، ثم ولدت أخي، ثم انتقلنا إلى بخارى وأحضرت معلم القرآن ومعلم الأدب، وأكملت العشر من العمر، وقد أتيت على القرآن وعلى كثير من الأدب، حتى كان يقضي مني العجب وكان أبي ممن أجاب داعي المصريين، ويعد من الإسماعيلية، وقد سمع منهم ذكر النفس والعقل على الوجه الذي يقولونه ويعرفونه هم، وكذلك أخي، وكانوا ربما تذاكروا بينهم وأنا اسمعهم، وأدرك ما يقولونه

ص: 124

ولا تقبله نفسي، وابتدءوا يدعونني إليه أيضاً، ويجرون على ألسنتهم ذكر الفلسفة والهندسة وحساب الهند. وأخذ يوجهني إلى رجل كان يبيع البقل ويقوم بحساب الهند حتى أتعلمه منه، ثم جاء إلى بخارى أبو عبد الله الناتلي، وكان يدعى المتفلسف، وأنزله أبي دارنا رجاء تعليمي منه، وقبل قدومه كنت اشتغل بالفقه والتردد فيه إلى إسماعيل الزاهد، وكنت من أجود السالكين، وقد ألفت طرق المطالبة ووجوه الاعتراض على المجيب، على الوجه الذي جرت عادة القوم به، ثم ابتدأت بكتاب ايساغوجي على الناتلي. ولما ذكر لي حد الجنس: أنه هو المقول على كثيرين مختلفين بالنوع في جواب " ما هو "، فأخذت في تحقيق هذا الحد بما لم يسمع بمثله، وتعجب مني كل العجب، وحذر والدي من شغلي بغير العلم

" (1) .

ويختصر ابن رضوان مراحل تعليمه على هذه الصورة أيضاً من الإيجاز، فيقول في جانب من سيرته: " فلما بلغت السادسة أسلمت نفسي في التعلم، ولما بلغت السنة العاشرة انتقلت إلى المدينة العظمى، وأجهدت نفسي في التعليم، ولما أقمت أربع عشرة سنة، أخذت في تعليم الطب والفلسفة، ولم يكن لي مال أنفق منه فلذلك عرض لي في التعليم صعوبة ومشقة، فكنت مرة أتكسب بصناعة القضايا بالنجوم، ومرة بصناعة الطب، ومرة بالتعليم. ولم أزل كذلك وأنا في غاية الاجتهاد في التعليم إلى

(1) طبقات ابن أبي أصيبعة 2: 2 - 3.

ص: 125

السنة الثانية والثلاثين، فإني اشتهرت فيها الطب، وكفاني ما كنت أكسبه الطب، بل وكان يفضل عني إلى وقتي هذا، وهو آخر السنة التاسعة والخمسين. وكسبت مما فضل عن نفقتي أملاكاً في هذه المدينة، إن كتب الله عليها السلامة وبلغني سن الشيخوخة، كفاني في النفقة عليها. وكنت منذ السنة الثانية والثلاثين إلى ومي هذا أعمل تذكرة لي، وأغيرها في كل سنة، إلى أن قررتها على هذا التقرير الذي استقبل به السنة الستين.... " (1) .

ويذكر عبد اللطيف البغدادي في سيرته كيف تعلم، والكتب التي تعلمها، وشيوخه الذي تلقى عليهم العلم. ويسهب القول في رحلته، وفيمن لقي من الشيوخ، ويقول بعد أن وصف إقامته وتحصيله ببغداد: " ولما كان في سنة خمس وثمانين وخمسمائة، حيث لم يبق ببغداد من يأخذ بقلبي، ويملأ عيني، ويحل ما يشكل علي، دخلت الموصل فلم أجد فيها بغيتي، لكن وجدت الكمال ابن يونس جيداً في الرياضيات والفقه، متطرفاً في باقي أجزاء الحكمة، قد استغرق عقله ووقته في حب الكيمياء وعملها، حتى صار يستخف بكل ما عداها، واجتمع إليّ جماعة كثيرة وعرضت علي مناصب، فاخترت منها مدرسة ابن مهاجر المعلقة ودار الحديث التي تحتها، وأقمت بالموصل سنة في اشتغال دائم ليلاً ونهاراً، وزعم أهل الموصل أنهم لم يروا من أحد من قبلي ما رأوا مني، من سعة المحفوظ، وسرعة الخاطر، وسكون الطائر،

(1) المصدر السابق 2: 99 - 100.

ص: 126

وسمعت الماس يهرجون في حديث الشهاب السهروردي المتفلسف، ويعتقدون أنه قد فاق الأولين والآخرين، وأن تصانيفه فوق تصانيف القدماء، فهممت لقصده، ثم ادركني التوفيق، فطلبت من ابن يونس شيئاً من تصانيفه، وكان أيضاً معتقداً فيها، فوقعت على التلويحات واللمحة والمعارج، فصادفت فيها ما يدل على جعل أهل الزمان، ووجدت لي تعاليق كثيرة لا أرتضيها هي خير من كلام هذا الأنوك، وفي أثناء كلامه يثبت حروفاً مقطعة، يوهم بها أمثاله أنها أسرار إلاهية.... (1) ".

وكل هذه السير، على تفاوت أصحابها في إعجابهم بأنفسهم، وبما حققوه من مجد أو غاية كانوا يسعون إليها، تفيدنا كثيراً لأنها تقرير مباشر عن تجاربهم في الحياة، وعن جهادهم فيها، فإذا لم تكن فيها المتعة الفنية، ففيها المتعة التي يثيرها الخبر الطريف، والتجربة الصادقة، وهذا النوع من السير الأخبارية الصغيرة غير قليل في الأدب العربي، ولكنا نكتفي منه في هذا المجال بالأمثلة السابقة.

(2)

صنف يكتب للتفسير والتعليل والاعتذار والتبرير ومن هذا النوع سيرة المؤيد في الدين هبة الله الشيرازي، وسيرة ابن خلدون، ومذكرات الأمير عبد الله آخر ملوك بني زيري بغرناطة، وكل واحد من هؤلاء كانت تكتنفه ظروف مضطربة

(1) ابن أبي اصيبعة 2: 202 - 204.

ص: 127

فيها مجال للأخذ والرد والقيل والقال، فكتبوا سيرهم لينصفوا أنفسهم أمام التاريخ، وليبرروا ما جرى لهم من زاوية ذاتية.

أما لمؤيد فكان داعي دعاة الدولة الفاطمية وأحد أقطاب المذهب الإسماعيلي، وهو معروف بالمراسلات التي دارت بينه وبين أبي العلاء المعري، حول تحريم اللحوم والاكتفاء بالنباتات. وللمؤيد هذا شخصية لا تعرف للطموح حداً، فقد عاش في شيراز، في خضم مائج من العواصف السنية المعادية، واستطاع أن يستميل الملك البويهي، أبا كاليجار، إلى مذهبه الإسماعيلي. ثم يغادر فارس إلى مصر، مؤملاً أن يجد فيها الحظوة التي ترفعه إلى أعلى الدرجات. غير أن مصر الفاطمية الغارقة حينئذ في الانحلال، لم تعترف له بعبقريته، فجاهد غير يائس في سبيل الدولة الفاطمية، وتآمر على الدولة العباسية مع البساسيري، واستطاع أن يدعو للخليفة الفاطمي على منابر بغداد، مدة من الزمن. فهذا الدور الذي لعبه المؤيد لم يجد القلم الذي يوضحه، ولا المؤرخ المنصف الذي يجلوه، ولذلك أقبل هو نفسه على كتابة سيرته، لينتصف من خصومه، وليؤكد ما يراه حقاً وصواباً. وقد كانت حياته سلسلة من المغامرة والمصابرة، ويبدو أنه لم يكن لبقاً في أصول الخطاب، أو كان قليل المجاملة في طريقة التعبير، وكان هذا نفسه مزلة في عصره، يتعقبه فيها أعداءه ويكيدون له بها؛ خاطب مرة أبا كاليجار فقال له " ما ينجيني منك سخط ولا رضى، فلقد كنت علي إلباً، قبل المعرفة

ص: 128

قاصداً لروحي بلا بصيرة ولا بينة، وكان يتجافى جنبي عن المضجع رهبة من بغتاتك وخوفاً من سطواتك، فلما سهل الله تعالى، وأيقظك من رقدتك، وجمع بيني وبينك، ففعلت بك ما لم يفعله والدك؟ أعني من طريق الإرشاد والأخذ به من الاختلال في دينه إلى السداد؟ صرت لا أتخلص من أذى من هم حولك، ونصبهم لي أشراك الغوائل، ولقائهم إياي بالخدع والمخاتل " (1) . وقد غضب الملك من قوله له:" فعلت بك ما لم يفعله بك والدك " ونقلها لأصحابه، وهم أعداء المؤيد، فهولوا فيها وقالوا له: هذه لفظة لا تقال للسلطان، حتى اضطر المؤيد إلى الاعتذار عنها.

ويصور حاله بعد أن لم يعد له حيلة في قمع المكايدين له فيقول: " ومضيت أجر رجلي إلى بيتي، وبت ليلة يا لها من ليلة، وصارت بشيراز صيحة واحدة بحديثي وذكري في البيوت والمساجد والمجامع، وتباشر المخالفون في كل بقعة وكل مكان، ونفذت الكتب إلى البلدان الشاسعة بالتهاني، إن الملك رجع عما كان عليه من الضلالة، وقتل فلاناً وجعله قطعة قطعة

" (2) . ولم يبق أمام المؤيد إلا الرحيل فعزم على قصد مصر؛ قال: وعملت على تنكير الزي والهيئة، والدخول في أطمار رثة،

(1) السيرة المؤيدية: 46.

(2)

المصدر السابق: 63.

ص: 129

واستبعت غلامين مجهولين، وسلكت في بعض المجاهل من الطرق، أكثري من مرحلة إلى مرحلة حماراً أركبه أو جملاً أو ثوراً على حسب ما يتفق، وأتحمل في خلال ذلك من مشقة المشي وخوض الأودية والوحول، والصبر على مضض البرد والنزول على المواضع القذرة، ما يكون الموت عند دائه شافياً " (1) . وقد ملأ المؤيد سيرته بالرسائل التي كتبها أو تلقاها، ولكنه؟ على أي حال؟ أراد أن لا يدع التاريخ يغفل فيه دوره، وهو هام في رأيه، وأن يطلع الناس على حقائق، لولاه لظلت مستورة إلى الأبد. وأسلوبه في سيرته غير سهل ولا سائغ، وهو يعتمد السجع الذي أنكره على أبي العلاء، في بعض رسائله.

وأما عبد الله أمير غرناطة فقد كان أحد أمراء الطوائف، وكانت أزمة الأندلس بين أطماع الإسبانيين بقيادة الفونش السادس من جهة، والمرابطين من جهة أخرى، تجعل موقفه حرجاً، فكل عمل يقوم به يساء تفسيره: إذا حصن بلده قيل إنما يقاوم تقدم المرابطين، وإذا زوج أختيه من بعض أقاربه أتهم بأنه إنما يفعل ذلك لئلا يتزوج من إحداهما أمير المرابطين، وإذا هاجم الفونش مدن الأندلس، ولم يهاجم غرناطة ذهب المرجفون يقولون إن ذلك حدث بمؤامرة الأمير عبد الله نفسه؛ كل هذا والأمير يجد نفسه في مأزق ضيق، والثورات في الداخل تتولى عليه، والكارهون يسيئون إلى سمعته عند المرابطين

(1) المصدر السابق: 69.

ص: 130

وأميرهم؛ وأهل بلده يداخلون الأمير على التسليم سراً. ولمواجهة هذه الاتهامات الكثيرة، كان لابد للأمير عبد الله من أن يقص القصة كما يعرفها مخلصاً، بعيداً عن التزيد، موضحاً ما تلبس بسيرته من إشاعات، نثرها المغرضون وأهل الأهواء، فهو يقول في موضع من كتابه: " ولم نعتقد في أمر المرابطين؟ يعلم الله ذلك؟ صدهم عن جهاد، ولا تضافراً مع أحد عليهم، ولا أردت بهم شيئاً من مساءة نسبت إلينا، أكثر من أني جزعت الجزع الشديد مما تقدم ذكره من تلك المعاني التي أبصرتها، وما جرى على ابن رشيق، مع هلعي لذلك وتمكن السوداء مني، وسوء الظن من معاينة اليقين فقلت: ما دام تلتقي الفئتان، نخشى حملة السيل على هذه المدينة، فتحصينها أولى، ولن يضر ذلك. فمتى دعاني أمير المسلمين إلى إعطاء عسكر أو مال اتو ما أشبه ذلك، مما يجب من مشاركته وإنجاده، لم نتأخر عنه

غير أني متى دعاني إلى الخروج إليه بنفسي، نعتذر وندافع ذلك جهدي، فعسى أن يتركني ويقبل عذري، ومتى لم يقبل عذراً، نعلم أنه يريد إخراج أمري إلى حدود الفعل، فهو إذن علي متعسف، لكلام الأعداء والكذب، فلابد لي عند ذلك من الاحتياط على مهجتي والتحصين على نفسي، ونجعله إذ ذاك كسائر من يريد إخراجي من السلاطين، ولي معه الله، إذ لم أنو به سوءاً، ولا واسيت عليه أحداً، ولا صددته عن جهاده " (1) .

(1) مذكرات الأمير عبد الله: 121.

ص: 131

وهكذا يظل الأمير عبد الله يشرح موقفه موضحاً، حتى لا تتعلق به تهمة؛ ولكن الوشاة أفسدوا الجو عليه، وعلق في مخالب رجل قوي. فهو في جانب من سيرته يصور ما حل به بطريقة تستثير العطف والرثاء؛ وخاصة حين استقصيت أمواله عن آخرها، وأصبح لا يملك من الدنيا شيئاً، وهدد بأنه مطالب هو وأمه، باستخراج كل وديعة لهما عند الناس، وإلا فلا عهد له عند المرابطين قال يصف حاله حينئذ:" ورجعت إلى الوالدة أعظها وأقول لها: أسألك بالله إلا ما أشفقت علي فربما قد أخرجتن شيئاً [من المال] لا أعلمه فيظهر بعدي، ويكون فيه هلاكي وهلاكك، والدنيا أقل من هذا كله، والقوم كما ترين متعلقون بشعرة، يطلقون معنا أرق سبب، فإياك أن تشمتي بي، وإذا تبرأنا له، لا يمكن له تضييعنا، وليس يدخر المال إلا الثلاث: سلطان يجور، أو فتنة تدوم، أو عمر يطول، ونحن في نفر يسير. فلما سمعت ذلك، بكت وقال: نخشى أن نبقى فقراء والموت أهون من الفقر؛ فسهلت عليها الأمر وقلت: إن الله لا يضيع من خلق "(1) . وبين دفع الاتهام وإثارة العطف وتحقيق المسؤولية على وجهها الصحيح، مضى الأمير عبد الله يؤرخ الأحداث التي كان هو محورها، والحق أن الظروف كانت أقوى بكثير من أن تدفعها أو تحولها شخصية ذلك الأمير، فإنه كان امرءاً يستسلم للحوادث، ويحب البقاء، معتقداً أن

(1) مذكرات الأمير عبد الله: 158.

ص: 132

لكل شيء مدة؛ حتى قال فيه أحد المؤرخين يصفه: " كان جباناً مغمد السيف، قلقاً لا يثبت على الظهر، عزهاة لا أرب له في النساء، هيابة مفرط الجزع، يخلد إلى الراحات ويستوزر الأغمار "(1) ومن أجل التاريخ الذي لا يرحم، أراد الأمير عبد الله أن يستثير الرحمة والأنصاف لنفسه بكتابة سيرته.

ولم تكن الأحداث التي عاش ابن خلدون في غمارها أقل تشابكاً واضطراباً، فكتب سيرتهن وضمنها ذكر شيوخه، والكتب التي درسها، والرسائل التي كنبها، والأشعار التي نظمها في المناسبات. ولكن وراء كل ذلك غاية من التبرير والتفسير؛ فقد اتهم ابن خلدون بأنه شارك في بعض الانقلابات، ولما كان في الأندلس، أخذ يتنكر له الناس حتى صديقه لسان الدين ابن الخطيب، ولما كان في مصر ولي القضاء وعزل عنه عدة مرات حتى ليظن الناظر إلى هذا التقلب في حياته، أن العيب في شخصه لا فيمن حوله؛ فكتب سيرته منتصفاً لنفسه، وأبان عن وجه الحقيقة كما كان يراه، ولم تخل سيرته من غرض آخر، هو تصوير تلك الشهرة العريضة، والمنزلة الرفيعة التي نالها في الحياة السياسية والاجتماعية، حتى كان من قفته بنفسه أن سعى لمقابلة تيمورلنك (السلطان تمر؟ كما يسميه -) ، بل إن هذا السلطان نفسه سأل عنه ورغب في لقائه، قال: وأخبرني القاضي برهان الدين أنه سأله عني، وهل سافرت مع عساكر مصر، أو أقمت بالمدينة

(1) المصدر السابق: الملحق الثاني: 208.

ص: 133

فأخبره بمقامي بالمدرسة حيث كنت، وبتنا تلك الليلة على أهبة الخروج إليه، فحدث بين بعض الناس تشاجر في المسجد الجامع وأنكر البعض ما وقع من الاستنامة إلى القول، وبلغني الخبر من جوف الليل، فخشيت الباردة على نفسي، وبكرت سحراً إلى جماعة القضاة عند الباب، وطلبت الخروج أو التدلي من السور، لما حدث عندي من توهمات ذلك الخبر، فأبوا علي أولاً ثم أصغوا لي، ودلوني من السور، فوجدت بطانته عند الباب.. " (1) وموقف ابن خلدون في لقاء تيمورلنك، من أدل المواقف على نفسيته في عهد الشيخوخة، وحرصه على السلامة، وهو يرسم مفارقة واضحة لروحه المغامرة ولصلابته قبل ذلك، في أيام القضاء، وتمسكه التام بما يعتقد أنه العدل والحق، دون أن تأخذه فيه لومة لائم. وقد وصف ذلك أبلغ وصف جاء فيه " فصدعت في ذلك بالحق، وكبحت أعنة أهل الهوى والجهل، ورددتهم على أعقابهم، وكان فيهم ملتقطون سقطوا من المغرب يشعوذون بمفترق من اصطلاحات العلوم هنا وهناك، لا ينتمون إلى شيخ مشهور، ولا يعرف لهم كتاب في فن، قد اتخذوا الناس هزؤاً، وعقدوا المجالس مثلبة للأعراض، ومأبنة للحرم، فأرغمهم ذلك مني، وملأهم حسداً وحقداً علي، وخلوا إلى أهل جلدتهم من سكان الزوايا المنتحلين للعبادة، يشترون بها الجاه، ليجيروا به

(1) التعريف بابن خلدون: 368.

ص: 134

على الله؛ وربما اضطر أهل الحقوق إلى تحكيمهم، فيحكمون بما يلقي الشيطان على ألسنتهم، يترخصون به للإصلاح، لا يزعهم الدين عن التعرض لأحكام الله بالجهل، فقطعت الحبل في أيديهم، وأمضيت أحكام الله فيمن أجاروه، فلم يغنوا عنه من الله شيئاً، وأصبحت زواياهم مهجورة، وبئرهم التي يمتاحون منها معطلة، وانطلقوا يراطنون السفهاء في النيل من عرضي، وسوء الأحدوثة عني، بمختلق الإفك وقول الزور، يبثونه في الناس، ويدسون إلى السلطان التظلم مني، فلا يصغي إليهم، وأنا في ذلك محتسب عند الله ما منيت به من هذا الأمر، ومعرض فيه عن الجاهلين، وماض على سبيل سواءٍ من الصرامة، وقوة لشكيمة، وتحري المعدلة، وخلاص الحقوق، والتنكب عن خطة الباطل متى دعيت إليها، وصلابة العود عن الجاه والأغراض متى غمزني لامسها، ولم يكن ذلك شأن من رافقته من القضاة، فنكروه علي، ودعوني إلى تبعهم، فيما يصطلحون عليه من مرضاة الأكابر، ومراعاة الأعيان، والقضاء للجاه بالصور الظاهرة أو دفع الخصوم إذا تعذرت، بناءً على أن الحاكم لا يتعين عليه الحكم مع وجود غيره، وهم يعلمون أن قد تمالأوا عليه

فأبيت في ذلك كله إلا إعطاء العهدة حقها، والوفاء لها ولمن قلدنيها، فأصبح الجميع علي إلباً، ولمن ينادي بالتأفف مني عوناً، وفي النكير علي أمة.... " (1)

(1) التعريف بابن خلدون: 257 - 258.

ص: 135

(3)

وصنف ثالث، يصور الصراع الروحي، وهو ملموح في سيرة ابن الهيثم، وفي بعض ما كتبه المحاسبي في " كتاب النصائح "(1) وواضح في " المنقذ من الضلال " للغزالي. وليس هذا الكتاب سيرة ذاتية بالمعنى الدقيق. لأنه لا يصور إلا جانباً من أزمة روحية. تعرض لها الغزالي، دون نظر إلى ما عداها؛ ولكنه رسم هذه الأزمة بدقه فقال: " ولم أزل في عنفوان شبابي؟ منذ راهقت البلوغ قبل العشرين إلى الآن، وقد أناف السن عل الخمسين؟ اقتحم لجة هذا البحر العميق، وأخوض غمرته خوض الجسور، لا خوض الجبان الحذور، وأتوغل في كل مظلمة، وأتهجم على كل مشكلة، وأتقحم كل ورطة، وأتفحص عن عقيدة كل فرقة، واستكشف أسرار مذهب كل طائفة، لأميز بين محق ومبطل، ومتسنن ومبتدع، لا أغادر باطنياً إلا وأحب أن أطلع على بطانته، ولا ظاهرياً إلا وأريد أن أعلم حاصل ظهارته، ولا فلسفياً إلا وأقصد الوقوف على كنه فلسفته، ولا متكلماً إلا واجتهد في الاطلاع على غاية كلامه ومجادلته، ولا صوفياً إلا وأحرص على العثور على سر سفوته، ولا متعبداً إلا وأترصد ما يرجع إليه حاصل عبادته، ولا زنديقاً معطلاً إلا وأتجسس وراءه، للتنبه لأسباب جرأته في تعطيله وزندقته، وقد كان التعطش إلى درك حقائق

(1) انظر المنقذ من الضلال (المقدمة) : 33 وما بعدها.

ص: 136

الأمور دأبي وديدني، من أول أمري وريعان عمري، غريزة وفطرة من الله وضعتا في جبلتي لا باختياري وحيلتي، حتى انحلت عني رابطة التقليد، وانكسرت علي العقائد الموروثة على قرب عهد من الصبا. " (1) .

والغزالي صريح في تفسير حالة الشك التي وقع فيها؛ ولكن لابد أن نذكر أنها صراحة لم تكن ضارة بسمعته بين الناس حينئذ، على عكس صراحة ابن الهيثم، ذلك لأن الغزالي خرج من لجة الاضطراب إلى ساحل التصوف المطمئن، وانتقل من الشك العقلي إلى الإيمان التسليمي، وهو يقول في وصف حالته النفسية حين أقبل على التصوف: " فلم أزل أتردد بين تجاذب شهوات الدنيا ودواعي الآخرة، قريباً من ستة أشهر، أولها رجب سنة ثمان وثمانين وأربعمائة، وفي هذا الشهر جاوز الأمر حد الاختيار إلى الاضطرار، إذ أقفل الله على لساني حتى اعتقل من التدريس، فكنت أجاهد نفسي أن أدرس يوماً واحداً تطبيباً لقلوب المختلفة إليّ (2) ، فكان لا ينطق لساني بكلمة واحدة، ولا أستطيعها البتة، حتى أورثت هذه العقلة في اللسان حزناً في القلب، بطلت معه قوة الهضم ومراءة الطعام والشراب، فكان لا ينساغ لي ثريد ولا تنهضم لي لقمة، وتعدى إلى ضعف القوى حتى قطع الأطباء طمعهم من العلاج، وقالوا: هذا أمر نزل بالقلب ومنه

(1) المنقذ من الضلال: 51.

(2)

أي الطلبة الذين يدرسون عليه.

ص: 137

سرى إلى المزاج، فلا سبيل إليه بالعلاج، إلا بأن يتروح السر عن الهم الملم. ثم لما أحسست بعجزي، وسقط بالكلية اختياري، التجأت إلى الله تعالى التجاء المضطر الذي لا حيلة له. فأجابني الذي يجيب المضطر إذا دعاه، وسهل على قلبي الإعراض عن الجاه والمال والأولاد والأصحاب " (1) .

(4)

: صنف يقص قصة المغامرات في الحياة، وما يلاقيه المرء من تجارب، وليس لدينا من هذا الصنف سيرة ذاتية بالمعنى الدقيق، ولكن من أقرب النماذج إليها، مذكرات أسامة بن منقذ التي سماها " كتاب الاعتبار "، ففيه يتحدث أسامة عن حياة حافلة بالتجارب والمشاهدات والمغامرات، في أسلوب بسيط ينقل الحوار باللغة الدارجة في ذلك العصر، ولا يبرز الكتاب قوة الصراع من الناحية الفكرية، إلا أنه يحاول أن يستخرج العبرة من الأحداث نفسها؛ وأكبر قاعدة فلسفية فيه أن الإنسان لو طوح بنفسه على الموت لما تيسر له أن يموت، قبل أن يحل أجله. ولكنه في جملته يصور حياة أسامة في نشأته واختبارته الحربية، وشجاعته في محاربة الإنسان والحيوان، وفيه دراسة لبعض الطبائع والنفسيات، بين الرجال والنساء من المسلمين والصليبيين. ولا أعرف لهذا الكتاب ضريباً في نوع المتعة التي ينقلها إلى القارئ، وفي

(1) المنقذ من الضلال: 90 - 91.

ص: 138

البساطة المتناهية التي يتلقاه بها؛ مع عدم اعتداد بالنفس أو تبجح بها، حيث لا يستنكر الاعتداد والتبجح؛ ومن أصدق الانطباعات عنه قول الدكتور حتى في المقدمة:" وفي مجمل معاملاته مع أصدقائه واخصامه يدهشنا هذا الرجل بميله للنصفة والعدالة "(1) ؛ فهو نموذج للإنسان الحديث الذي نحب أن نراه كاملاً في روحه الرياضية، وإيجابيته، واحترامه للمرأة، ومشاعره الإنسانية، وفي ترفعه عن أن يلوث يديه بما ينقص من عزته النفسية وكرامته. وليس من السهل أن يصح للقارئ انطباع صادق عن الكتاب باقتباس أو اثنين منه، لأن حكاياته الصغيرة كلها مجتمعة هي التي ترسم انطباعاً كاملاً؛ ولكن لا أخلي هذا المكان من بعض النماذج المتصلة بأسامة نفسه: فمن ذلك تصويره للطريقة التربوية التي نشأ عليها: " وما رأيت الوالد، رحمه الله، نهاني عن قتال ولا ركوب خطر مع ما كان يرى في وأرى من إشفاقه وإيثاره لي

ومرة كنت معه، رحمه الله، وهو واقف في قاعة داره، وإذا حية عظيمة قد أخرجت رأسها على إفريز رواق القناطر التي في الدار، فوقف يبصرها، فحملت سلماً كان في جانب الدار أسندته تحت الحية، وصعدت إليها وهو يراني فلا ينهاني، وأخرجت سكيناً صغيراً من وسطي، وطرحتها على رقبة الحية وهي نائمة، وبين وجهي وبينها دون الذراع، وجعلت أحز رأسها، وخرجت التفت على يدي،

(1) الاعتبار، المقدمة: ش.

ص: 139

إلى أن قطعت رأسها، وألقيتها، إلى الدار، وهي ميتة " (1) .

ومثل آخر يصور العلاقة بينه وبين الصليبيين: " كان في عسكر الملك فلك بن فلك فارس محتشم أفرنجي، قد وصل من بلادهم يحج ويعود، فأنس بي، وصار ملازمي يدعوني " أخي " وبيننا المودة والمعاشرة. فلما عزم على التوجه في البحر إلى بلاده قال لي: يا أخي، أنا سائر إلى بلادي، وأريدك تنفذ معي ابنك (وكان ابني معي وهو ابن أربع عشرة سنة) إلى بلادي يبصر الفرسان، ويتعلم العقل والفروسية، وإذا رجع كان مثل رجل رجل عاقل. فطرق سمعي كلام ما يخرج من رأس عاقل، فإن ابني أو أسر، ما بلغ به الأسر أكثر من رواحه إلى بلاد الأفرنج، فقلت: وحياتك هذا الذي كان في نفسي، لكن منعني من ذلك أن جدته تحبهن وما تركته يخرج معي حتى استحلفتني أني أرده إليها، قال: وأمك تعيش؟ قلت: نعم. قال: لا تخالفها. "(2)

وهناك سير ذاتية أخرى بعضها إخباري محض أورد ياقوت منها في معجمه نماذج كثيرة. ولحنين بن إسحاق رسالة تحدث فيها عما أصابه من المحن، وقد ذكرها ابن أبي أصيبعة في ترجمة حنينن ولكن الأستاذ روزنتال يرى أنها منحولة. وللرازي سيرة سماها " السيرة الفلسفية "، ولعمارة اليمني سيرة فيما سماه

(1) الاعتبار: 103.

(2)

الاعتبار: 132.

ص: 140

" النكت العصرية " أما سيرة لسان الدين بن الخطيب التي صور فيها دوره في الحياة السياسية والأدبية فأنها لا تزال مخطوطة، وهناك سير ذاتية أخرى ذكرها السخاوي في " الدرر "، ولا نعرف عنها وعن مصيرها شيئاً.

ولعل أول سيرة ذاتية ظهرت في العصر الحديث هي " كتاب الساق على الساق فيما هو الفارياق " للشيخ أحمد فارس الشدياق، وفيها حديث عن تنقلات الشدياق وبعض أحواله، ولكن هذا كله غارق في غمار الاستطرادات والمترادفات اللغوية، وفي السخرية والمجون، وهما من أبرز خصائص الكتاب، ومما يمزي الشدياق رحابة صدره لتلقي المدينة الحديثة، ونظرته إلى المرأة، وسخريته برجال الدين، ونقده لبعض العادات عند الغربيين والشرقيين على السواء، ولكن غرامه باللغة، وانقياده لطبيعة المقامة، وإسرافه في التورية والتلميحات الجنسية، كل هذه تفسد عليه الاسترسال، وتعرقل المتعة في السرد. ومن باب المبالغة المسرفة قول مارون عبود في هذا الكتاب: " لم يكتب مثله شرقي كما يقصر عنه الكثيرون من نوابغ الغرب فأيام طه حسين، وكتاب الفونس دوديه مثلاً؟ أُلهية بالقياس إليه

ص: 141

وربما كان بينه وبين اعترافات روسو القرابة الدموية (1) " حقاً أن الشدياق كان سابقاً لأوانه في نفاذ نظرته، مشرفاً كالعملاق الساخر على عيوب عصره، متحدياً بالقدرة اللغوية اليازجي ومن نسج اليازجي على منوالهم، كل هذا موطن للإعجاب، ولكن حين نضع كتابه إلى جان الأيام، واعترافات روسو، فإننا نفترض أنه سيرة ذاتية مكتملة، وفي هذا إسراف في التقدير، لأن الجوانب الخيالية، والمشاهد المصنوعة فيه تربو بكثير على الأمور الواقعية، كما أن الاستطراد في اللغة والنقد والسخرية والحوار المصنوع، كل هذه تخرجه عن أن يكون سيرة ذاتية بالمعنى الفني.

ولذلك أرى أن " للأيام " في السير الذاتية الحديثة مكانة لا تتطاول إليها أي سيرة ذاتية أخرى، في أدبنا العربي، وخاصة في الجزء الأول منه، مزايا كثيرة منها: تلك الطريقة البارعة في القص، والأسلوب الجميل، والعاطفة الكامنة في ثناياه المستعلنة أحياناً حتى تطغى على السطح؛ وتلك اللمسات الفنية في رسم بعض الصور الكاملة للأشخاص، والقدر على السخرية اللاذعة في ثوب جاد حتى تظهر وكأنها غير مقصودة.

وكتاب " الأيام " صورة واعية للصراع بين الإنسان وبيئته، وكاتبه يعمد عمداً إلى تصوير ذلك الصراع، ولا

(1) المكشوف: ع 170: 2.

ص: 142

يدعه ليستنتج من طبيعة السيرة نفسها؛ فهو يصف مراحله ويتدرج بها، معتمداً على أن حياته خير مثل للانتصار على البيئة، " والوصول " في النهاية، ولكن طبيعة الثورة عنده ليست قوية، ولا هي مما يؤكد صبغة النصر النهائي، وربما أضافت الحلقات التالية من الأيام قوة إلى هذه الحقيقة، وجعلتنا نحس بمعنى التحرر من قبضة البيئة والظروف إحساساً عميقاً، أما الآن فأقوى صور الثورة الإيجابية في الكتاب وقفة الصبي من والده، وتهكمه بقراءة " دلائل الخيرات "، وسخريته ممن يلجأون إلى الأولياء، ثم تلك الغضبة التي أعلنها الطالب على أستاذه فقال له:" إن طول اللسان لا يمحو حقاً ولا يثبت باطلا "، ووقفته التي أدت إلى الصدام السافر بينه وبين الأزهر حينما كان يدرس على الشيخ سيد علي المرصفي، فنواة الثورة كما ترى موجودة، ولكنها في جانبها الإيجابي لا تزال أضعف منها في الجانب السلبي، وتتجمع العاصفة في نفس الصبي عن طريق الصدمات التي يتلقاها من الناس ومن المجتمع، بطريقة سلبية، فهو قد حرص على عرض تلك المواقف التي جرح فيها إحساسه وأهينت كرامته، فصمت عجزا، ومضى يختزن المرارة مع الأيام إلى أن تتحول المرارة إلى نقمة بالغة، ليمهد للانفجار الذي نتصوره في حلقة أخرى من حياته لم يقصها بعد. أم هو من جهة أخرى يمهد لإحقاق الانتصار الذاتي الذي أحرزه، بتصوير الإخفاق الذي كان من نصيب الشخصيات

ص: 143

الأخرى، فأكثر الشخصيات التي يرسمها من ذلك الفريق الذي ينقطع قبل نهاية الشوط، لا لسوء الظروف فحسب، بل للعجز الطبيعي عن بلوغ الغاية.

وقد تدرج الكاتب تدرجا قويا ساطعا مع نمو سوء الظن في نفسه، وارتيابه فيما يدعيه الناس من حق وصدق وتدين، لأنه ركز اهتمامه في نقل صورة مريرة من النفاق والكذب، وخاصة في البيئة الدينية، وكان من ثمرة هذا التصوير اقتراب النفس التي عانت حفظ القرآن سنوات طوالا فلم تحفظه، - اقترابها من حومة العقل، لأن ذلك النوع من التدين في تلك البيئة، لم يغرس شيئا من الفضيلة لا في نفوس أصحاب الطرق، ولا شيوخ الريف ولا " سيدنا "، ولا طلبة العلم، ولا أساتذته، ولم يعلم هؤلاء الناس مرة واحدة معنى الرفق، ولم يعمق في نفوسهم مشاعر إنسانية كبيرة بحيث يستنكف أكبرهم عمامة وأوسعهم قفطانا من أن يقول له:" يا أعمى!! ".. وتحوله إلى العقل مشوب بالعاطفة، وسيظل هذان العنصران غير منفصلين في نظرته إلى الناس والأشياء: وقد أحب الكاتب الريف أكثر مما أحب بيئة الربع والأزهر، فكان في تصويره للأول، وسخريته بما فيه، ورسم صورة " سيدنا "، أقدر منه على رسم الثاني، ومن العجيب أن تعمق السخرية حيث يعمق الحب، ولكنه في الجزء الثاني صرف جهدا كثيرا في رسم

ص: 144

الشخصيات التي عرفها في الربع، فكانت الوحدة المستقطبة حول الذات في الجزء الأول أوضح منها في الثاني؛ وعلى الرغم من بعض المواقف العاطفية في الكتاب؛ فإن طبيعة الانسياب فيه، وسرده في ضمير الغائب، قد حققا شيئا من التجرد في الحكم. وباستعمال ضمير الغائب، برئ من مظنة العجب والدعوى والتمجد بالنفس وغير ذلك من الصفات التي يوحى بها ضمير المتكلم. ومما قلل من صراحته إخفاؤه الأسماء، - أسماء الأماكن والناس؟ فأضعف القيمة المكانية وشيئا من القيمة التاريخية في قصة حياته، وأبدى أنه لا يستطيع الجهر بأشياء كثيرة، لأن نفسه منذ الصغر طبعت على الاستحياء والتواري، وانجذبت إلى الرزانة وشدة التحرج:" كان قليل الأكل لا لأنه كان قليل الميل إلى الطعام، بل لأنه كان يخشى أن يوصف بالشره أو أن يتغامز عليه إخوته..... وكان يستحي أن يشرب على المائدة، مخافة أن يضطرب القدح من يده، أو ألا يحسن تناوله حين يقدم إليه "(1) ، وله في هذه النشأة عذر جلي، ولكن هذا لا يعفيه من أمر القوة في الصراحة؛ كما أن ذاكرته متحيزة، لأن طبيعته الحزينة جعلته يذكر كل ما كان ينمي عنده سوء الظن والنقمة، على مر الأيام. غير أن هذا التحيز في التذكر أو التحيز في الاعتراف، ليس غلوا إذا قسناه بما في " ذكريات

(1) الأيام 1: 23.

ص: 145

الطفولة " لإبراهيم " عبد الحليم من تحيز مسرف، فهنا نجد أن ذاكرة الفل لا تعي إلا جانب الفساد في الناس، من أغنياء وفقراء، ورجال ونساء، وصغار وكبار، حكوميين ومدنيين، ومع كل هذا الظلام المحيط بعهد الطفولة يريدنا الكاتب أن نؤمن بالمعجزة فنخرج من هذا الجو القاتم إلى الإيمان بالإنسان، دون أن تكون لهذا الإيمان أسبابه ومقدماته، يريدنا أن نثور على فلسفة الصبر والقناعة كما ثار، وهو قد جعل من صلابة الأم ومن صبر الأخت خير ثمرة بالصراحة من كتاب " الأيام "، ولكن يعوزه ما للأيام من قوة في البناء والنمو في الشخصية.

وقد تأثر الأستاذ أحمد أمين بكتاب الأيام حين كتب سيرته في كتاب أسماه " حياتي "، وليس سبب هذا التأثر ما أحرزه كتاب الأيام من شهرة أدبية فحسب، بل هو في تلك النشأة الأزهرية المشابهة لنشأة صاحب الأيام، وفي العلاقة بين الأديبين؛ ففي " حياتي " يصف أحمد أمين صورة أزهرية أخرى، ويقف، عند بعض العناصر التي وقف عندها طه حسين، ولكن إسهاب طه في تحليل شخصيات الطلبة بالربع، والأساتذة في حلقات الدرس، صرف أحمد أمين عن الاستقصاء في هذه الناحية، وجعله يتجه إلى وصف الشخصيات التي عرفها في الحي، ويحاول أن يرسم لها صورا متنوعة، كالتي رسمها زميله وصديقه من قبل. وكما أطنب طه في وصف فقده لأخيه، وتأثره العميق لفقده

ص: 146

عرج أحمد أمين على حادثة مشابهة، فوصفها بتأثر شديد، وربما كان هذا من قبيل المصادفة والاتفاق. وانفرد صاحب " حياتي " بالإطناب في الحديث عن الشخصيات التي أثرت في نفسه حتى اكتملت له شخصية " الفتى المثقف "، فجمع إلى صورة أبيه؟ في هذه الناحية؟ صور كبار الأساتذة وخاصة سيدتين إنجليزيتين، كان لكل واحدة منهما أثر في نفسيته وشخصيته، وكما مضى الدكتور طه يصف الصدمات التي كانت تدفع به إلى الثورة، مضى أحمد أمين يصف الخطوات الإيجابية التي أدت به إلى الوصول، وغايته أن يصف كيف وصل:" وكنت وصرت، وكنت وصرت، مما يطول شرحه، فما أكثر ما يفعل الزمان "(1) . وإدراكه لهذا الفرق بين " كان " و " صار " هو الذي دفعه بقوة لكتابة سيرته الذاتية.

ومن يقرأ سيرة أحمد أمين يجد أن الكاتب يتصور نتيجة التغير، وينص عليها، دون أن يجعل من أحداث حياته ما يفسر هذا التغير فهو أشبه بمن يقول لك " هكذا جرت الأقدار " أما من يقرأ " الأيام " فيجد فيه أن كاتبه كتبه وهو يريد أن يقرن بين الوصول والثورة، فأحمد أمين يمثل دور المستفيد الذي يسمع ويقرأ ويلتقي الناس، وتتكيف حياته من نفسها دون دوافع ذاتية قوية، أما طه فيصطدم بالناس، ويقلق وينزعج ويسوء ظنه فيهم. وهو يحس أن كل المنغصات

(1) حياتي: 344.

ص: 147

الخارجية ترسب في ذاكرته، فتظل تبتعد به عنهم، وتحفزه إلى الهجوم عليهم حين تحين الفرصة.

ثم هنالك ذلك البون البعيد بين الكتابين في طريقة القص، فأحمد أمين تقريري يميل إلى ذكر الحقيقة، كما هي، وطه يميل إلى تصويرها كما أحسها ذات يوم، ولذلك جاء كتاب " حياتي " مرحلة وسطى بين الأيام وبين " تربية سلامه موسى "، وخصوصاً حين أدرج فيه صاحبه مذكرات كتبها عن مقامه بمنطقة البحيرات، وعن رحلته إلى سورية واستانبول وأوروبة، مما جعل الحديث عن فترات الحياة غير متناسب.

وكتاب " حياتي " يصور فترى أطول من التي تصدى لها الدكتور طه في جزأين من " الأيام "، وصاحبه يحاول أن يصف ما أداه في عالم الحياة العملية والعلمية. وصلته بالحياة العملية تبدأ في دور مبكر جداً، فكأن ما يوازي عهد الطفولة وعهد التلمذة؟ وهما موضوعا كتاب " الأيام "؟ ليس إلا جزءاً صغيراً في الكتاب، ومن ثم افترقا في طبيعة ما يقصانه، فصاحب " الأيام " يصور نموه النفسي الداخلي وصاحب " حياتي " بصور علاقاته الخارجية بالناس والأماكن. وبينا تستطيع أن تبني من كل " الأيام " صورة لشخصية كاتبه، تجد أن أحمد أمين رسم صورته وطبيعته في بعض صفحات (1) . وهذا الفرق أيضاً يطغى

(1) انظر حياتي ص 330 - 336.

ص: 148

على الأسلوب الأدبي، فأسلوب طه حسين موسيقي مرنم، تصويري، كثير التكرار، باعث على الاسترخاء، وأسلوب أحمد أمين بسيط هادئ إخباري. والحقيقة أن أحمد أمين قد عاد بالسيرة الذاتية إلى التاريخ، وابتعد عن الناحية الفنية، التي تجعل من السير الذاتية ينبوعاً يتدفق من النفس، ويفيض على ما حولها. على أنا لا ننكر أن الصراحة توفرت في " حياتي " على وجه قريب لا استعلاء فيه، وأن الالتفات إلى الدقائق الصغيرة، وإن ملأ الكتاب بالعادي المبتذل من الأخبار، فقد كان كثير من الأحيان مفيداً، ومن نظر إلى الكتاب بعين الإنصاف فإنه يكبر صراحة رجلٍ يقول:

" لكم تمسكت في شبابي بالمبدأ وإن ضرني، واستقلت من عمل يدر علي الربح لأني رأيته يمس كرامتي، وبنيت آمالاً واسعة على ما أستطيعه من إصلاح وما أحققه من أعمال ثم رأيت كثيراً من هذه الآمال يتبخر، وما أنوي من أعمال يتعثر، وها أنا ذا في شيخوختي قد أقبل ما كنت أرفض، وقد أتنازل عن بعض المبادئ التي كنت ألتزم "(1) .

وقد أملى أحمد أمين أكثر كتابه من الذاكرة، ففوت عليه تراخي الزمن بعض الأمور، وأعتقد كما قلت في غير هذا

(1) حياتي: 345.

ص: 149

المكان (1) ، " أن الكتاب تأخر قليلاً عن أوانه؟ تأخر حتى أصبح الأستاذ أحمد أمين يعاني المرارة التي يخلقها المرض والشعور بتغير الناس وتنكر الأهل والأبناء والأصدقاء ".

وقد استطاع أن يحتفظ للكتاب بروح التواضع التي كانت من أظهر خصائصه الخلقية، إلا أن اتصال حياته بكثير من الأحياء جعله أيضاً يتغاضى عن بعض ما يسيء إليهم، ويحذف ما لا تطاوعه نفسه على إثباته، من ذلك مثلاً أنه تحدث عن وقفته إلى جانب الأستاذ أمين الخولي، حين كانا زميلين بمدرسة القضاء، ولكنه أغفل الحديث عن نهاية ما كان بينهما من علاقة حين أصبحا معاً في الجامعة، وحين تعرض لذكر العلاقة بينه وبين الدكتور طه حسين، حاول أن يجد للخلاف الأخير بينهما أساساً نفسياً وفكرياً، وأعرض عن تفصيل الأمور التي جرت إلى ذلك في النظرة، والإنصاف في الحكم، وهذا شيء عسير لا يمكن أن يبلغ الإنسان فيه حد الكمال.

ولست أعني بهذين الكتابين لأنهما كل ما كتب في أدبنا المعاصر من سير ذاتية، وإنما أعرض بهما اتجاهين متفاوتين، فكتاب " حياتي " ذو صلة بالتاريخ والمذكرات، وهو يقف في صف مع مذكرات محمد كرد علي ومذكرات الرافعي ومحمد

(1) انظر الأبحاث، السنة 8 كانون الأول 1955 (ص 495) .

ص: 150

شفيق باشا، ومذكرات الملك عبد الله، ومحمد حسين هيكل، وتربية سلامه موسى وما أشبه، إلا أن العنصر الذاتي فيه أقوى وأوضح.

وكتاب " الأيام " سيرة ذاتية فنية أدبية، إذا تحولت عناصره بعض التحول، أصبح قصة كما فعل توفيق الحكيم في " عودة الروح " والمازني في " إبراهيم الكاتب " والعقاد في قصة " سارة "، ففي هذه الكتب شيء غير قليل من العناصر الذاتية والترجمة الشخصية، غير أنه موضوع في إناء قصصي، ممزوج بقسط غير قليل من الخيال، فهي كتب لاحقة بالقصص لا بالسير الذاتية، وفي هذا الموقف المتوسط بين طرفين يظل كتاب " الأيام " أكمل ترجمة ذاتية أدبية في أدبنا الحديث، مثلما كان كتاب " جبران " لنعيمه أكمل سيرة أدبية.

ص: 151