الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
وأما الرضا
فهو القنوع بالشيء والاكتفاء به. يقال: رضيت بالشيء: قنعت به ولم أطلب غيره. ورضيت بالله رباً: اكتفيت به؛ ورضيت بالقضاءك سلمت له، وهو الذي تتضاءل عنده عظام الأمور، وتتصاغر لديه كبار الشرور، ويطيب به عيش صاحبه، وتهون من الدهر نوائبه، لأن من علم أن ما أتاه من موجده وخالقه ومن هو أرحم به من أبيه وأمه كيف لا يرضى بقضائه، ولا يعلم أن الخير فيما ارتضاه، وهل يعترض مالك العبد في تصرفه بعبده ببيع ونحوه؟ فكيف بتصرف العالم بما كان وما سيكون، والعارف بمصالحه القائل:(وَما أَصابَ مِنْ مُصِيبَةٍ فِي الأَرْضِ وَلا فِي أَنْفُسِكُمْ إِلَاّ فِي كِتابٍ مِنْ قَبْلِ أَنْ نَبْرَأَهَا إِنَّ ذَلِكَ عَلى اللهِ يَسير. لِكَيْلا تَأْسَوْا عَلى ما فاتَكُمْ وَلا تَفْرَحُوا بِمَا آتَاكُمْ وَاللهُ لَا يُحِبُّ كُلَّ مُخْتالٍ فَخُورٍ) والقائل: (ما أَصابَ مِنْ مُصِيبَةٍ إلَاّ بإِذْنِ اللهِ وَمَنْ يُؤْمِنْ بِاللهِ يَهْدِ قَلْبَهُ وَاللهُ بِكُلِّ شَيءٍ عَليمٍ) .
قال الزمخشري في الآية الأولى: يعني أنكم إذا علمتم أن كل شيء مقدم مكتوب عند الله قل أساكم على الفائت وفرحكم بالآتي، لأن من علم أن ما عنده مفقود لا محالة لم يتفاقم جزعه عند فقده، لأنه وطّن نفسه على ذلك، وكذلك إذا علم أن بعض الخير واصل إليه، وأن وصوله لا يفوته لم
يعظم فرحه عند نيله. ثم قال: والمراد الحزن المخرج إلى ما يذهل صاحبه عن الصبر والتسليم لأمر الله ورجاء ثواب الصابرين، والفرح المطغي الملهي عن الشكر؛ فأما الحزن الذي لا يكاد يخلو منه الإنسان مع الاستسلام، والسرور بنعمة الله والاعتداء بها مع الشكر فلا باس بهما. انتهى.
ومما يدل على هذا قوله صلى الله عليه وآله وسلم يوم موت إبراهيم:
(عينٌ تدمع وقلب يخشع ولا نقول إلا ما يُرضي الرّبّ، وإنّا لمحزونون عليك يا إبراهيم) ، هذا ونحوه.
وروي عن ابن مسعود في تفسير الآية الثانية قال: (هي المصائب تُصيب الرجل فيعلم أنها من عند الله فيُسلّم لها ويرضى) .
رواه عنه سعيد بن منصور.
وعن ابن عباس رضي الله عنهما في قوله تعالى: (يَهْدِ قَلْبَهُ) قال: (يعلم أن ما أصابه لم يكن ليخطئهُ، وما أخطأه لم يكن ليصيبه) .
رواه ابن حريز وابن المنذر.
وعن رجل من بني سليم أن النبي صلى الله عليه وآله وسلم قال: (إن الله ليبتلي العبد فيما أعطاه فإن رضي بما قسم له بورك له ووسّعه، وإن لم يرضَ لم يبارك له ولم يُزد على ما كُتِبَ لهُ) .
رواه أحمد والبيهقي وروى الترمذي وابن ماجه عنه صلى الله عليه وآله وسلم قال: (إن عظم الجزاء مع عظم البلاء، وإن الله تعالى إذا أحب قوماً ابتلاهم فمن رضي فله الرضى، ومن سخط فله السخطُ) .
وعن أبي هريرة مرفوعاً: (ثلاثٌ من أُوتيهنَّ فقد أُوتي مثل ما أوتي آل داوُد: العدل في الغضب، والرضى والقصد في الفقر والغنى، وخشية الله تعالى في السر والعلانية) .
رواه الحكيم الترمذي.
وعن عمران بن حصين، عنه صلى الله عليه وآله وسلم:(ثلاثٌ يدرك بهن العبد رغائب الدنيا والآخرة، الصبرُ على البلاء، والرضا بالقضاء، والدعاء في الرخاء) .
رواه أبو الشيخ.
وعن معاذ عن النبي صلى الله عليه وآله وسلم: (ثلاثٌ من كن فيه فهو من الأبدال: الرضا بالقضاء، والصبرُ على محارم الله، والغضب في ذات الله عز وجل . رواه الديلمي في مسند الفردوس.
وعن أبي هريرة مرفوعاً بلفظ: (اتقل المحارم تكن أعبد الناس، وارض بما قسم لك تكن أغنى الناس، وأحسن إلى جارك تكن مؤمناً، وأحب للناس ما تُحبُّ لنفسك تكن مسلماً، ولا تُكثر الضحك فإن كثرة الضحك تُميت القلب) .
رواه أحمد والترمذي والبيهقي.
وعن ابن عمر رضي الله عنه قال قال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم: (خمسٌ من الإيمان من لم يكن فيه شيء منهن فلا إيمان له: التسليم لأمر الله، والرضا بقضاء الله، والتفويض إلى الله، والتوكل على الله، والصبر عند الصدمة الأولى) .
رواه البزار.
وعن سعد مرفوعاً بلفظ: (من سعادة ابن آدم استخارة الله، ومن شقاوة ابن آدم سخطه مما قضى اللهُ) .
رواه الترمذي والحاكم.
وعن أبي هند الداري قال: (قال الله تعالى: (مَنْ لَمْ يَرْضَ بقَضائي وَلَمْ يَصْبِرْ عَلى بَلائي فَلْيَلْتَمِسْ رَبّاً سِوائي)) .
رواه الطبراني. وللبيهقي عن أنس نحوه، وفيهما ضعف.
وعن ابي أمام، عنه صلى الله عليه وآله وسلم:(قُلِ اللهمَّ إني أسألك نفساً مطمئنةً تؤمن بلقائك وترضى بقضائك وتقنع بعطائك) .
رواه الطبراني والضياء.
وأما التوكل فهو تفويض الأمر إلى الله في جميع الأمور.
قال ابن عباس في تفسير قوله تعالى: (إِنَّما الْمُؤْمِنونَ الَّذِينَ إذا ذُكِرَ اللهُ وَجِلَتْ قُلُوبُهُمْ وَإِذا تُلِيَتْ عَلَيْهِمْ آيَاتُهُ زَادَتْهُمْ إِيماناً وَعَلى رَبِّهِمْ
يَتَوَكَّلُونَ) قال: يعني لا يرجون غيره، والآيات في ذكر التوكل كثيرة.
وهو كما قال ابن عباس رضي الله عنه لأنه إذا اتّكل على الله ولم يرجُ سواه لم يخف شيئاً، ولم يحزن على شيء لأنه إذا كان ما يريده مطلوباً فقد رجا من لا يخيب أمله، وإن كان محذوراً فقد التجأ إلى خير حافظ.
وعن عمرو بن العاص رضي الله عنه، عنه صلى الله عليه وآله وسلم:(إن من قلب ابن آدم بكل وادٍ شعبةٌ فمن اتبع قلبه الشعب كلها لم يبال الله بأي وادٍ أهلكهُ، ومن توكل على الله كفاه التشعّب) .
رواه ابن ماجه.
وعن عمر رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم: (لو توكلتم على الله حقَّ توكّله لرزقكم كما يُرزقُ الطير تغدو خماصاً وتروح بطاناً) .
رواه أحمد والترمذي وابن ماجه.
وعن ابن عباس رضي الله عنه مرفوعاً: (من سرّه أن يكون أقوى الناس فليتوكل على الله) .
رواه ابن أبي الدنيا.
وعن عمران بن حصين رضي الله عنه، عنه صلى الله عليه وآله وسلم:(يدخل الجنة من أمتي سبعون ألفاً بغير حساب. قالوا: ومن هم يا رسول الله؟ قال: هُمُ الذين لا يسترقون ولا يتطيرون وعلى ربهم يتوكلون) .
رواه مسلم وغيره.
قال الهروي في شرح هذا الحديث: واختلف العلماء من السلف والخلف في حقيقة التوكل فحكى الإمام أبو جعفر الطبري عن طائفة من السلف أنهم قالوا: لا يستحق اسم التوكل إلا من لم يخالط قلبه خوفُ غير الله من سبع أو عدوٍّ حتى يترك السعي في طلب الرزق بضمان الله له رزقه واحتجوا بما جاء في ذلك من الآيات.
وقالت طائفة: حدّه الثقة بالله والإيقان بأن قضاءه نافذ واتباع سنة نبيه صلى الله عليه وآله وسلم في السعي فيما لا بد منه من المطعم والمشرب والتحرز من العدو، كما فعله الأنبياء صلوات الله عليهم.
قال القاضي عياض: وهذا المذهب هو اختيار الطبري وعامة الفقهاء الأول مذهب بعض المتصوفة وأصحاب علم القلوب والإشارات. وذهب المحققون منهم إلى مذهب الجمهور ولكن لا يصح عندهم اسم التوكل