الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
أخي المسلم: من ذلك الهدى النبوي الوضَّاء استنار الصحابة الأطهار رضي الله عنهم، فكانوا سادة الزاهدين .. ضربوا الدنيا بسيف الزهد فولَّت هاربة لا تلوي على شيء .. فعاشوا رضي الله عنهم يضعون البذر في مزرعة الآخرة ليحصدوا {مَنْ كَانَ يُرِيدُ حَرْثَ الْآَخِرَةِ نَزِدْ لَهُ فِي حَرْثِهِ
…
} [الشورى].
فهذا الفاروق عمر أمير المؤمنين رضي الله عنه
- لما قدم الشام قَدَّموا له برذونًا لما ركبه هَزَّه فنزل عنه، فَعَرَضَتْ له مخاضة، فنزل عن بعيره وأخذ بخطامه ونزع موقيه (خفيه) فأخذهما بيديه وخاض الماء قال أبو عبيدة:«صنعت اليوم صنيعًا عظيمًات عند أهل الأرض» فصكَّ عمر في صدره فقال: «إنه لو غيرك يقول هذا، إنكم كنتم أقل الناس وأذل الناس وأضعفهم فأعزكم الله بالإسلام، فمهما تطلبوا العز بغيره يذلكم» .
وعندما نصحوه رضي الله عنه أن يأكل طعامًا طَيبًا
. قال: «قد علمت نصحكم ولكني تركت صاحبيَّ على جادة فإن تركت جادتهما لم أدركهما في المنزل» . وكان رضي الله عنه كثيرًا ما يقول: إن الله ذمَّ أقوامًا في كتابه فقال: {أَذْهَبْتُمْ طَيِّبَاتِكُمْ فِي حَيَاتِكُمُ الدُّنْيَا وَاسْتَمْتَعْتُمْ بِهَا} [الأحقاف]. فرضى الله عن الفاروق فقد أبت نفسه إلا سؤددًا وعلوًا، وإلا فلو طعم طعامًا طيبًا، ولبس لباسًا لينًا، وركب مركبًا وثيرًا، لما كان في ذلك جناح؛ ولكنها أخي هي الهمة التي تبلغ بالصالحين منازل الثريا .. وحقًا إن حسنات الأبرار سيئات المقربين! !
ولك أن تعجب أخي أيضًا عندما أقف بك عند زهد أبي السبطين علي بن أبي طالب رضي الله عنه. فقد خرج ذات مرت إلى السوق بسيفه وقال: «من يشتري مني سيفي هذا؟ فلو كان عندي أربعة دراهم أشترى بها إزارًا ما بعته! » وهو يومها أخي أمير المؤمنين! ورآه بعضهم ذات مرة وقد ركب حمارًا ودلَّى رجليه إلى موضع واحد! ثم قال: «أنا الذي أهنت الدنيا» .
ثم أخي وهذا رجل دخل على أبي ذر رضي الله عنه فجعل يقلب بصره في بيته فقال: يا أبا ذر ما أرى في بيتك متاعًا ولا غير ذلك من الأثاث! فقال أبو ذر: إن لنا بيتًا نوجه إليه صالح متاعنا! فقال الرجل: إنه لابد لك من متاع ما دمت ها هنا فقال أبو ذر رضي الله عنه: «إن صاحب المنزل لا يدعنا فيه! ! » .
أخي في الله: إنها كلمات أقوام ليس للدنيا إلى قلوبهم سبيل .. فما أبهاها وما أنضرها إذ تخرج من تلك الأفواه الطاهرة ..
وأعجب معي أخي من أمير المدائن وسيدها الذي كان يعيش من صناعة القفاف! ! إنه سلمان الفارسي رضي الله عنه. كان يشتري الخوص بدرهم فيبيعه بثلاث دراهم، فيعيد درهمًا فيها، وينفق درهمًا على عياله ويتصدق بدرهم! مع أن عطاءه رضي الله عنه بلغ خمسة آلاف درهمًا. وكان يخطب الناس في عباءة. وكان يفرش نصفها ويلبس نصفها! فكان إذا خرج عطاؤه أمضاه وأكل من سفيف يده رضي الله عنه.
إني رأيت عواقبَ الدنيا
…
فتركتُ ما أهوى لما أخشى
فكَّرتُ في الدنيا وجدَّتها
…
فإذا جميعُ جديدها يَبْلَى
كلُّ امرئ في شأنه يَسعَى
وبَلوتُ أكثر أهلها فإذا
ولقد طلبتُ فلم أجدْ كَرمًا
…
أعلى بصاحبه من التَّقوى
أخي المسلم: لن تنقضي رحلتنا إلا بعد أن أتحفك بتحف نفيسة تحكى تلك التحف، التي جلوت بها ناظريك .. ولكن هذه المرأة أخي سأتحفك بصورة من زهد أقوام آخرين .. إنهم أولئك الذين انتفعوا بهدى الصالحين .. وسمت الزاهدين .. فكانوا مثلهم في الزهد ورفض الدنيا رحمهم الله تعالى.
لما ولى سليمان بن عبد الملك أقطع الناس الاقطاعات فقال ابن للحسن البصري لأبيه: لو أخذنا كما يأخذ الناس؟ فقال: أسكت ما يسرني لو أن لي ما بين الجسرين بزنبيل تراب.
وقال مالك بن دينار: «يقولون مالك زاهد، أي زهد عند مالك وله جبة وكساء؟ ! إنما الزاهد عمر بن عبد العزيز أتته الدنيا فاغرة فاها فتركها» .
وهذا معروف الكرخي أوصى في علته فقال: «إذا متُّ فتصدقوا بقميصي هذا فإني أحب أن أخرج من الدنيا عريانًا كما دخلت غليها عريانًا» .
ودخل بعضهم على داود الطائي وهو في دار واسعة خربة ليس فيها إلا بيت وليس على بيته باب فقال له بعض القوم: أنت في دار وحشة فلو اتخذت لبيتك هذا بابًا أما تستوحش؟ فقال: «حالت وحشة القبر بيني وبين وحشة الدنيا» .