الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
فإذا كان المقصود بالسلطان والمال هو التقرب إلى الله وإنفاق ذلك في سبيله، كان ذلك صلاح الدين والدنيا. وإن انفرد السلطان عن الدين، أو الدين عن السلطان فسدت أحوال الناس، وإنما يمتاز أهل طاعة الله عن أهل معصيته بالنية والعمل الصالح، كما في الصحيحين عن النبي صلى الله عليه وسلم:«إن الله لا ينظر إلى صوركم ولا إلى أموالكم، وإنما ينظر إلى قلوبكم وأعمالكم» "
(1)
.
-
الناس كأسراب القطا مجبولون على تشبه بعضهم ببعض في الخير والشر، ولكن داعي الخير أقوى:
قال رحمه الله: " وهذا أيضا حال الأمة فيما تفرقت فيه واختلفت في المقالات والعبادات، وهذه الأمور مما تعظم بها المحنة على المؤمنين فإنهم يحتاجون إلى شيئين: إلى دفع الفتنة التي ابتلى بها نظراؤهم من فتنة الدين والدنيا عن نفوسهم مع قيام المقتضي لها؛ فإن معهم نفوسا وشياطين كما مع غيرهم، فمع وجود ذلك من نظرائهم يقوى المقتضي عندهم كما هو الواقع، فيقوى الداعي الذي في نفس الإنسان وشيطانه ودواعي الخير كذلك، وما يحصل من الداعي بفعل الغير والنظير، فكم من الناس لم يرد خيرا ولا شرا حتى رأى غيره؛ لا سيما إن كان نظيره يفعله ففعله؛ فإن الناس كأسراب القطا مجبولون على تشبه بعضهم ببعض، ولهذا كان المبتدئ بالخير وبالشر له مثل من تبعه من الأجر والوزر كما قال النبي صلى الله عليه وسلم:«من سن سنة حسنة فله أجرها وأجر من عمل بها إلى يوم القيامة من غير أن ينقص من أجورهم شيئا، ومن سنة سيئة فعليه وزرها ووزر من عمل بها إلى يوم القيامة من غير أن ينقص من أوزارهم شيئا» ؛ وذلك لاشتراكهم في الحقيقة، وأن حكم الشيء حكم نظيره، وشبيه الشيء منجذب إليه فإذا كان هذان داعيين قويين: فكيف إذا انضم إليهما داعيان آخران؟ وذلك أن كثيرا من أهل المنكر يحبون من يوافقهم على ما هم فيه، ويبغضون من لا يوافقهم، وهذا ظاهر في الديانات الفاسدة من موالاة كل قوم لموافقيهم، ومعاداتهم لمخالفيهم.
(1)
السياسة الشرعية: 238 - 240.
وكذلك في أمور الدنيا والشهوات كثيرا ما يختارون ويؤثرون من يشاركهم: إما للمعاونة على ذلك، كما في المتغلبين من أهل الرياسات وقطاع الطريق ونحوهم، وإما بالموافقة، كما في المجتمعين على شرب الخمر، فإنهم يختارون أن يشرب كل من حضر عندهم، وإما لكراهتهم امتيازه عنهم بالخير: إما حسدا له على ذلك، لئلا يعلو عليهم بذلك ويحمد دونهم، وإما لئلا يكون له عليهم حجة، وإما لخوفهم من معاقبة لهم بنفسه، أو بمن يرفع ذلك إليهم، ولئلا يكونوا تحت منته وخطره ونحو ذلك من الأسباب، قال الله تعالى:{وَدَّ كَثِيرٌ مِّنْ أَهْلِ الْكِتَابِ لَوْ يَرُدُّونَكُم مِّن بَعْدِ إِيمَانِكُمْ كُفَّاراً حَسَدًا مِّنْ عِندِ أَنفُسِهِم مِّن بَعْدِ مَا تَبَيَّنَ لَهُمُ الْحَقُّ} ، وقال تعالى في المنافقين:{وَدُّوا لَوْ تَكْفُرُونَ كَمَا كَفَرُوا فَتَكُونُونَ سَوَاء} . وقال عثمان بن عفان رضي الله عنه: "ودت الزانية لو زنى النساء كلهن".
والمشاركة قد يختارونها في نفس الفجور، كالاشتراك في الشرب والكذب والاعتقاد الفاسد، وقد يختارونها في النوع، كالزاني الذي يود أن غيره يزني، والسارق الذي يود أن غيره يسرق أيضا، لكن في غير العين التي زنى بها أو سرقها.
وأما الداعي الثاني: فقد يأمرون الشخص بمشاركتهم فيما هم عليه من المنكر، فإن شاركهم وإلا عادوه وآذوه على وجه ينتهي إلى حد الإكراه، أو لا ينتهي إلى حد الإكراه، ثم إن هؤلاء الذين يختارون مشاركة الغير لهم في قبيح فعلهم أو يأمرونه بذلك ويستعينون به على ما يريدونه: متى شاركهم وعاونهم وأطاعهم انتقصوه واستخفوا به، وجعلوا ذلك حجة عليه في أمور أخرى، وإن لم يشاركهم عادوه وآذوه، وهذه حال غالب الظالمين القادرين.
وهذا الموجود في المنكر نظيره في المعروف وأبلغ منه، كما قال تعالى:{وَالَّذِينَ آمَنُوا أَشَدُّ حُبًّا لِّلّهِ} ؛ فإن داعي الخير أقوى، فإن الإنسان فيه داع يدعوه إلى الإيمان والعلم، والصدق والعدل، وأداء الأمانة، فإذا وجد من يعمل مثل ذلك صار له داع آخر، لا سيما إذا كان نظيره، لا سيما مع المنافسة، وهذا محمود حسن، فإن وجد من يحب موافقته على ذلك ومشاركته له من المؤمنين والصالحين ويبغضه إذا لم يفعل، صار له داع ثالث، فإذا أمروه بذلك ووالوه على ذلك وعادوه وعاقبوه على تركه صار له داع رابع.
ولهذا يؤمر المؤمنون أن يقابلوا السيئات بضدها من الحسنات، كما يقابل الطبيب المرض بضده، فيؤمر المؤمن بأن يصلح نفوسه، وذلك بشيئين: بفعل الحسنات، وترك السيئات، مع وجود ما ينفي الحسنات ويقتضي السيئات، وهذه أربعة أنواع:
ويؤمر أيضا بإصلاح غيره بهذه الأنواع الأربعة بحسب قدرته وإمكانه، قال تعالى:{وَالْعَصْر * إِنَّ الإِنسَانَ لَفِي خُسْر * إ إِلَاّ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ وَتَوَاصَوْا بِالْحَقِّ وَتَوَاصَوْا بِالصَّبْر} . وروي عن الشافعي رضي الله عنه أنه قال: "لو فكر الناس كلهم في سورة: والعصر، لكفتهم". وهو كما قال، فإن الله تعالى أخبر أن جميع الناس خاسرون إلا من كان في نفسه مؤمنا صالحا، ومع غيره موصيا بالحق موصيا بالصبر، وإذا عظمت المحنة كان ذلك للمؤمن الصالح سببا لعلو الدرجة وعظيم الأجر، كما سئل النبي صلى الله عليه وسلم:«أي الناس أشد بلاء؟ قال: الأنبياء، ثم الصالحون، ثم الأمثل فالأمثل، يبتلى الرجل على حسب دينه، فإن كان في دينه صلابة زيد في بلائه، وإن كان في دينه رقة خفف عنه، ولا يزال البلاء بالمؤمن حتى يمشي على وجه الأرض وليس عليه خطيئة» ، وحينئذ فيحتاج من الصبر ما لا يحتاج إليه غيره، وذلك هو سبب الإمامة في الدين، كما قال تعالى:{وَجَعَلْنَا مِنْهُمْ أَئِمَّةً يَهْدُونَ بِأَمْرِنَا لَمَّا صَبَرُوا وَكَانُوا بِآيَاتِنَا يُوقِنُون} "
(1)
.
والله أعلم وصلى الله وسلم على نبينا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين.
(1)
الاستقامة: 2/ 254 - 260.