الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
تمهيد:
هناك لبس فهم من التأريخ لتدوين السنة المشرفة، أدى هذا اللبس إلى أن السنةلم تكتب إلا في نهاية القرن الأول وبداية القرن الثاني الهجريين، وبالتحديد ابتداء من عهد عمر بن عبد العزيز رحمه الله حين أمر بتدوين السنة.
وممن دونها في هذا العهد بأمر من عمر بن عبد العزيز محمد بن مسلم ابن شهاب الزهري (ت124هـ) الذي قال: "لم يدون هذا العلم أحد قبل تدويني"؛ قال ابن حجر (1) : "وأول من دون الحديث ابن شهاب الزهري على رأس المائة بأمر عمر بن عبد العزيز.
"ويقول السيوطي (2) : وأما ابتداء تدوين الحديث فإنه وقع على رأس المائة في خلافة عمر بن عبد العزيز. وفي الحلية عن مالك قال: أول من دون العلم ابن شهاب (3) .
فهم من هذا وغيره أن كتابة السنة لم تكن إلا في عهد عمر بن عبد العزيز وبعده، وأنه كان يعتمد في حفظها قبل ذلك على الصدور.
وتلقف ذلك المستشرقون، فجعلوا ذلك دليلاً على أن السنة كانت عرضة للنسيان والتغيير، ولا يفيدها أنها دونت بعد تسعين عاماً أو أكثر.
(1) فتح الباري (1/208) .
(2)
تدريب الراوي للسيوطي (1/94) .
(3)
حلية الأولياء: (3/362) .
وكان هذا الاتهام في عصرنا، أما المصنفون القدماء فكانوا على يقين أن السنة حفظت؛ سواء كانت في الصدور أو في الصحف والكتب؛ بل كانوا على يقين من أنه كانت هناك كتابات - وكثيرة في هذه السنين، قبل عهد عمر بن عبد العزيز - كما سيتبين في هذه الصفحات.
وكانوا يعنون بتدوين السنة جمعها في دواوين وليس ابتداء كتابتها، كما يدل على ذلك لفظ التدوين فمعناه هو تجميع الصحف في ديوان.
يقول ابن منظور في اللسان (1) : "الديوان: مجتمع الصحف"، فعلى ضوء هذا نفهم أن السنة كانت قبل نهاية القرن الأول في صحف، ثم ابتدئ في تجميعها، أي في تدوينها في عهد عمر بن عبد العزيز، وهذا ما فعله ابن شهاب الزهري، وحق له أن يقول: لم يدون هذا العلم أحد قبل تدويني، أي ما جمعه أحد قبلي، كما سبق.
ولا شك في أن استعمال الكتابة بمعنى التدوين في الأعصر المتأخرة واستعمال التدوين بمعنى الكتابة أسهم في هذا اللبس، وكان مادة خصبة للمستشرقين ومن لف لفهم وسار على تلبيسهم للطعن في السنة والوثوق بها.
ومما يدل على التفرقة بينهما قول ابن حجر: إن آثار النبي صلى الله عليه وسلم لم تكن في عصر أصحابه وكبار من تبعهم مدونة في الجوامع ولا مرتبة (2) .
(1) اللسان: (دون) .
(2)
هدي الساري: ص (6) .
فتأمل في قوله: "مدونة في الجوامع" أي في كتب جامعة. وفي قوله: "ولا مرتبة":
أي ليست مرتبة كما كانت في المصنفات المرتبة بعد هذه الفترة. ولا يعني ذلك أن الحديث لم يكتب في صحف في القرن الأول الهجري ابتداء من عصر رسول الله صلى الله عليه وسلم. ومما يزيد الأمر وضوحاً أن ابن حجر قال بعد هذا: " ثم حدث في أواخر عصر التابعين تدوين الآثار وتبويب الأخبار
…
فأول من جمع ذلك الربيع بن صبيح، وسعيد بن أبي عروبة وغيرهما، وكانوا يصنفون كل باب على حدة، إلى أن قام كبار أهل الطبقة الثالثة، فدونوا الأحكام" (1) .
فهذا النص في غاية من الأهمية في مسألة الكتابة والتدوين والتصنيف، فبالإضافة إلى قوله "مدونة في الجوامع" أي جمعت ما كان موجوداً، وقوله و"تبويب الأخبار" يعني أن هذه المرحلة لم تكن مرحلة الإنشاء، وإنما مرحلة التبويب.
بالإضافة إلى ذلك نجد أن قوله: "فأول من جمع ذلك" يفيد أن الجمع يعني أكثر من عمل التسجيل، وكأن هناك كتابات جمعت في هذا العصر.
وكذلك قوله "وكانوا يصنفون كل باب على حدة إلى أن قام كبار أهل الطبقة الثالثة، فدونوا الأحكام، فصنف الإمام مالك".
(1) المصدر السابق: ص (6)
فإذاً كانت هذه المرحلة مرحلة ترتيب وتصنيف وجمع كل باب على حِدَة، وهذا غير الكتابة في القرن الأول التي سنجدها واقعاً عملياً إن شاء الله عز وجل.
وهذا على الرغم من أن كلمة التدوين تستعمل بمعنى الكتابة الآن، ولكن هذا لا يحجب عنا الحقيقة، وهي أنهما كانا يستعملان بمعنيين مختلفين.
ومهما يكن من أمر فمن الثابت أن هناك صحفاً كتبت في عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم وصحابته، وذلك ما يُعْنَى به هذا البحث.
وحتى تسلم لنا هذه الحقيقة إجمالاً لابد لنا من التعرض لأمرين:
الأمر الأول النهي عن الكتابة: هو مارُوي من أن النبي صلى الله عليه وسلم نهى عن كتابة السنة.
1-
روى مسلم في صحيحه من طريق زيد بن أسلم عن عطاء بن يسار عن أبي سعيد الخدري، أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال:"لا تكتبوا عني، ومن كتب عني غير القرآن فليمحه"(1) .
2-
وعن سفيان بن عيينة، عن عبد الرحمن بن زيد بن أسلم، عن أبيه، عن عطاء بن يسار عن أبي سعيد الخدري قال: جهدنا بالنبي صلى الله عليه وسلم أن يأذن لنا في الكتاب فأبى (2) .
(1) م: (4/2298)(53) كتاب الزهد والرقائق (16) باب التثبت في الحديث وحكم كتابة العلم.
من طريق زيد بن أسلم، عن عطاء بن يسار، عن أبي سعيد الخدري عن رسول الله صلى الله عليه وسلم به.
(2)
المحدث الفاصل. (ص:379) .
هذا ما هو مرفوع عن النبي صلى الله عليه وسلم في النهي عن كتابة السنة. وهناك آثار في كراهة الكتابة سنعلق عليها فيما بعد.
والحديث الثاني فيه عبد الرحمن بن زيد بن أسلم، وهو ضعيف (1) .
والأول، وإن كان رواه مسلم إلا أن من النقاد من أعله وقال: الصواب وقفه على أبي سعيد. قاله البخاري وغيره (2) .
إلا أننا نميل إلى تصحيح مسلم رحمه الله تعالى، ونسلك سبيل التوفيق بينه وبين أحاديث الإذن بالكتابة، وذلك بعد أن نوردها.
أحاديث الإِذن بالكتابة:
إذا كنا لا نجد إلا حديثاً واحداً في النهي عن الكتابة، رواه مسلم وأعلَّه بعض النقاد بالوقف - فهناك أكثر من حديث في الإِذن بالكتابة، وهناك كتابة للحديث في عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم واقعاً وعملاً.
1-
روى البخاري ومسلم بسنديهما عن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: "اكتبوا لأبي شاه" قالها صلى الله عليه وسلم بعد أن طلب منه أبو شاه أن تكتب له خطبة من خطبه صلى الله عليه وسلم عام الفتح (3) .
(1) عبد الرحمن بن زيد بن أسلم ضعفه أحمد وغيره، وقال ابن معين: ليس حديثه بشيء، توفي اثنتين وثمانين ومائة (التذكرة بمعرفة رجال الكتب العشرة (1/988 رقم 3875) .
(2)
فتح الباري: (1/208) .
(3)
متفق عليه:
خ: (1/56)(3) كتاب العلم (39) باب كتابة العلم. رقم (112)
م: (2/988)(15) كتاب الحج (82) باب تحريم مكة وصيدها. رقم (445/1353)
2-
وكان مع علي بن أبي طالب صحيفة كتبت في عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم فيها أمور كثيرة عنه صلى الله عليه وسلم (1) .
وسنعرض لها إن شاء الله عز وجل وتعالى.
3-
وكتب عبد الله بن عمرو عن رسول الله صلى الله عليه وسلم صحيفة سماها الصادقة فيها الكثير من الأحاديث التي روى منها الكثير الإمام أحمد في مسنده (2) ، والتي رواها عنه حفيده عمرو بن شعيب عن أبيه عن جده عبد الله بن عمرو.
وقد أشار إلى ذلك أبو هريرة حين قال: ما من أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم أحد أكثر حديثاً عنه مني إلا ما كان من عبد الله بن عمرو، فإنه كان يكتب ولا أكتب (3) .
4-
ولما اشتد بالنبي صلى الله عليه وسلم وجعه قال: ائتوني بكتاب أكتب لكم كتاباً لا تضلوا بعده.
قال عمر: إن النبي صلى الله عليه وسلم غلبه الوجع، وعندنا كتاب الله، حسبنا، فاختلفوا، وكثر اللغط، قال: قوموا عني، ولا ينبغي عندي التنازع.
فخرج ابن عباس يقول: إن الرَّزية كل الرزية ما حال بين رسول الله صلى الله عليه وسلم وبين كتابه (4) .
(1) متفق عليه.
خ: (1/56)(3) كتاب العلم (39) باب كتابة العلم. رقم (111) .
م: (2/995)(15) كتاب الحج (85) باب فضل المدينة. رقم (467/1370) .
(2)
انظر مسند أحمد (11/ 240-386) – أرقام: (6659-6772) .
(3)
خ: (1/57) الكتاب والباب السابقين. رقم: (113) .
(4)
متفق عليه:
خ: (1/57) في الكتاب والباب السابقين: رقم: (114) .
م: (3/1257/1258)(25) كتاب الوصية (5) باب ترك الوصية لمن له شيء يوصي عنه. رقم: (20/1637) .
وغير ذلك من الأحاديث القولية والعملية التي تثبت أن أحاديث كتبت في عهده صلى الله عليه وسلم.
وهذا جعل العلماء يوفقون بين هذه الأحاديث وبين نهي رسول الله صلى الله عليه وسلم في حديث أبي سعيد الخدري عن الكتابة.
وقد أوجز ذلك ابن حجر بقوله: "والجمع بينهما أن النهي خاص بوقت نزول القرآن خشية التباسه بغيره، والإذن في غير ذلك".
"أو أن النهي خاص بكتابة غير القرآن مع القرآن في شيء واحد والإذن في تفريقهما".
"أو النهي متقدم والإذن ناسخ له عند الأمن من الالتباس، وهو أقربها مع أنه لاينافيها".
"وقيل: النهي خاص بمن خُشِي منه الاتكال على الكتابة دون الحفظ، والإذن لمن أُمِن منه ذلك"(1) .
واختار ابن القيم النسخ وفصَّل فيه فقال: "قد صح عن النبي صلى الله عليه وسلم النهي عن الكتابة والإذن فيها، والإذن متأخر، فيكون ناسخاً لحديث النهي؛ فإن النبيَّ صلى الله عليه وسلم قال في غزاة الفتح: "اكتبوا لأبي شاه" - يعني خطبته التي سأل أبو شاه كتابتها، وأذن لعبد الله بن عمرو في الكتابة، وحديثه متأخر عن النهي؛ لأنه لم يزل يكتب، ومات وعنده كتابته، وهي الصحيفة التي كان يسميها الصادقة، ولو كان النهي عن الكتابة متأخراً
(1) فتح الباري (1/208) .
لمحاها عبد الله؛ لأمر النبي صلى الله عليه وسلم بمحو ما كتب عنه غير القرآن، فلما لم يمحها وأثبتها دلَّ على أنَّ الإذن في الكتابة متأخر عن النهي عنها. وهذا واضح والحمد لله" (1) .
ومهما يكن من أمر فقد ثبتت كتابة أحاديث في عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم.
ومما يثبت أن النهي لم يكن قائماً - كما قررت في دراسة سابقة - أن بعضاً من الصحابة كرهوا كتابة الحديث، لكن أغلبهم لم يعلل هذه الكراهة بكون رسول الله صلى الله عليه وسلم نهى عن الكتابة، وإنما كانوا يعللون بعلل أخرى. ومن يتأمل تقييد العلم للخطيب البغدادي يتأكد من ذلك (2) .
وقد بيَّن الخطيب البغدادي في "تقييد العلم" الأسباب التي كره من أجلها بعض السلف الكتابة، فلم يذكر منها أن رسول الله صلى الله عليه وسلم نهاهم إلا ما كان في أول الإسلام؛ لقلة الفقهاء والمميزين بين الوحي وغيره.
يقول الخطيب: "فقد ثبت أن كراهة مَنْ كره الكتاب من الصدر الأول إنما هي لئلا يُضاهى بكتاب الله تعالى غيره، أو يشتغل عن القرآن بسواه، ونهى عن الكتب القديمة أن تتخذ (التوراة والانجيل) لأنه لا
(1) تهذيب مختصر سنن أبي داود، مع المختصر. (5/245) .
هذا ومع وضوح أن الإذن كان متأخرًا وكون بعض ما هو مكتوب كان في قائم سيف - رسول الله صلى الله عليه وسلم، وعزم رسول الله صلى الله عليه وسلم على أن يكتب لهم كتابًا مع وضوح كل ذلك يرى رشيد رضا أن النهي هو المتأخر، ويكون بالتالي ناسخًا للإذن! (مجلة المنار 10/767) .
وتلقف ذلك محمود أبو رية في كتابه أضواء على السنة المحمدية، ص (48) .
(2)
تقييد العلم: (ص 36 – 60) وانظر مزيدًا في هذا الباب في توثيق السنة في القرن الثاني الهجري (ص:43 – 56) .
يعرف حقها من باطلها، وصحيحها من فاسدها، مع أن القرآن كفى عنها، وصار مهيمناً عليها، ونهى عن كتْب العلم في صدر الإسلام وَجِدَّتِهِ؛ لقلة الفقهاء في ذلك الوقت، والمميزين بين الوحي وغيره؛ لأن أكثر الأعراب لم يكونوا فقهوا في الدين، ولا جالسوا العارفين، فلم يؤمن أن يلحقوا ما يجدون من الصحف بالقرآن، ويعتقدوا أن ما اشتملت عليه كلام الرحمن" (1) .
الأمر الثاني: الذي نتعرض له حتى يسلم لنا أن السنة ابتدئ في كتابتها في عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم وما بعده هو أن المكتوبات من السنة في هذا العهد وكذلك عهد الصحابة رضوان الله عليهم لم ينص على أنها مكتوبة عند رواية أحاديثها.
ولنأخذ مثالين على ذلك في عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم: صحيفة عبد الله بن عمرو رضي الله عنهما، وصحيفة همام بن منبه في عهد الصحابة رضوان الله عليهم.
أما صحيفة عبد الله بن عمرو فتروى أحاديثها منها دون إشارة إلى أنها كانت مكتوبة في عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم.
ولولا أنه قد أثيرت قضية أن أحاديثها: هل هي متصلة أو منقطعة نقلت من كتاب لم نعرف أن شعيباً حفيد عبد الله بن عمرو أخذها كتابة من صحيفة جده.
(1) تقييد العلم: (ص: 57) .
هذا مع إجماع كل من الفريقين على أنها نقلت كتاباً، والاختلاف في كون هذه الصحيفة نقلت سماعاً والتقى شعيب بجده أولا.
أما صحيفة همام بن منبه فمن الواضح أن المصنفين بعدها تداولوها صحيفة كالبخاري ومسلم، ومن هنا نشأ الكلام في كيفية رواية أحاديث من هذه الصحيفة وأمثالها، وكانت للبخاري مثلاً طريقته، ولمسلم طريقته في ذلك (1) .
لكن واحداً منهما أو من غيرهما لم يذكر عند هذه الأحاديث أنها من صحيفة، ذلك أن الاهتمام كله كان منصبَّا على إظهار الالتقاء والسماع، واتصال الأسانيد، ولم يكن منصبَّا على الكتابة التي قد يصاحبها الوجادة، ورواية الأحاديث بها، وبخاصة في الأعصر المتقدمة غير مشروع، وغير معترف به طريقاً لنقل الأحاديث موثقة عند جمهورهم.
وهذا نتذكره دائمًا عند الكلام على صحيفة ما، ولا نجد إلا إشارات عن الكتابة في قليل من أسانيدها.
وعلى هذا فلا يعطي عدم ذكر الكتابة في رواية الأحاديث دليلاً على أن الأحاديث كانت غير مكتوبة.
وفي ظني أنه لولا هذا لظهر كثير مما كتب، مما روي سماعاً في عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم وعهد صحابته رضوان الله تعالى عليهم.
(1) تدريب الراوي: (1/553/554) .