المَكتَبَةُ الشَّامِلَةُ السُّنِّيَّةُ

الرئيسية

أقسام المكتبة

المؤلفين

القرآن

البحث 📚

‌ باب إعمال المصدر - التذييل والتكميل في شرح كتاب التسهيل - جـ ١١

[أبو حيان الأندلسي]

الفصل: ‌ باب إعمال المصدر

-[ص:‌

‌ باب إعمال المصدر

يعمل المصدر مظهراً، مكبراً، غير محدود، ولا منعوت قبل تمامه، عمل فعله. والغالب إن لم يكن بدلاً من اللفظ بفعله تقديره به بعد "أن" المخففة أو المصدرية أو "ما" أختها. ولا يلزم ذكر مرفوعه. ومعموله كصلة في منع تقدمه وفصله. ويضمر عامل فيما أوهم خلاف ذلك. أو يعد نادراً.]-

ش: قال المصنف في الشرح: "عمل المصدر عمل الفعل لأنه أصل، والفعل فرعه، فلم يتقيد عمله بزمان دون زمان، بل عمل عمل الماضي والحاضر والمستقبل لأنه أصل لكل واحد منها، بخلاف اسم الفاعل، فإنه عمل للتشبيه، فتقيد عمله بما هو شبيهه، وهو المضارع" انتهى.

والذي قال غيره في كونه لا يتقدر عمله بزمان وأنه لا يشترط في عمله أن يعتمد على ما يعتمد عليه اسم الفاعل أنه إنما يعمل بالنيابة عن الفعل؛ والفعل لا يشترط فيه ذلك. والتحرير أنه لم ينب مناب الفعل وحده بل مناب حرف مصدري والفعل.

وحكي لي عن أبي عبد الله بن أبي العافية أنه منع من إعماله ماضياً. ولعل الذي منع ذلك غيره. وغر مانع ذلك قول س: "هذا باب من المصادر جرى مجرى الفعل المضارع في عمله ومعناه". وإنما خص س الفعل المضارع لأنه ذكر قبل هذا الباب اسم الفاعل، وهو إنما يعمل /عمل المضارع، فأجرى هذا عليه. ثم إن س

ص: 55

نص آخر الباب على أنه يعمل ماضياً وحالاً ومستقبلاً، فقال:"وتقول: عجبت له من ضرب أخيه، يكون المصدر مضافاً فعل أو لم يفعل، ويكون منونا" انتهى.

وقد تأول بعض أصحابنا قول س "الفعل المضارع"، وقال:"لا يريد بالمضارع المصطلح على تسميته مضارعاً، وإنما المضارع هنا على إطلاقه لغة، وكأنه قال: جرى مجرى المشابه له، فإن كان ماضياً جرى مجراه، وكذلك إن كان حالاً أو مستقبلاً".

وقوله مظهراً احتراز من ضميره، فإنه لا يعمل، قال المصنف في الشرح:"لما ترتب عمل المصدر على الأصالة اشترط في كونه عاملاً بقاؤه على صيغته الأصلية التي اشتق منها الفعل؛ فلزم من ذلك ألا يعمل إذا غير لفظه بإضمار، ولا بتصغير، ولا برده إلى فعلة قصداً للتوحيد، ولا بنعت قبل تمام مطلوبه" انتهى.

وفي إعماله مضمراً خلاف: ذهب الكوفيون إلى جواز إعماله، فأجازوا: مروري بزيد قبيح وهو بعمرو حسن، فيعلقون "بعمرو" بقوله و"هو"، أي: مروري بعمرو. واستدلوا على ذلك بقول الشاعر:

وما الحرب إلا ما علمتم وذقتم

وما هو عنها بالحديث المرجم

أي: وما الحديث عنها.

وذهب البصريون إلى منع إعمال ضمير المصدر، وتأولوا هذا البيت على أن "عنها" متعلق بمحذوف، تقديره: أعني عنها، أو على أنه متعلق بالمرجم على سبيل الضرورة، أو على أن يكون التقدير: وما هو مرجماً عنها، وحذف لدلالة الثاني عليه.

ص: 56

وحكى عاصم بن أيوب عن الفارسي أنه أجاز أن يعمل المكني في المجرور، وذكر ابن ملكون أنه وقف على إجازة ذلك من كلام أبي علي. وأجاز ذلك الرماني وابن جني في "خصائصه".

ومنع ابن جني عمله في المفعول الصريح، نحو: ضربي زيداً حسن وهو عمراً قبيح.

وقياس عمله في المجرور يوجب عمله في الظرف؛ إذ لا فرق بينهما، وقد أجازه جماعة.

وتأوله المصنف في الشرح على أن يكون التقدير: وما هو الحديث عنها. فيتعلق "عنها" بـ"الحديث"، والحديث بدل من هو، ثم حذف البدل، وترك المتعلق به دالاً عليه. وأشار المصنف إلى تكلف هذا التأويل؛ لأن البدل هو المقصود بالنسبة، ولا يذكر متبوعه غالباً إلا توطئة له، فلا يناسب أن يحذف، ولأنه يلزم من ذلك حذف المصدر وهو موصول وإبقاء معموله، وهو لا يجوز إلا في الضرورة.

والذي يقطع بالكوفيين أنه لا يحفظ من كلام العرب: أعجبني ضرب زيد عمراً وهو بكراً، أي: وضربه بكراً. ثم العجب منهم أنه يحكى عنهم أنهم لا يُعملون صريح المصدر على اختلاف في النقل سيأتي، وأن ما ظهر بعده من العمل إنما هو بفعل مضمر يدل عليه المصدر، ثم يعملون /ضمير المصدر، هذا غريب.

وقوله مكبرا احتراز من أن يكون مصغراً، فلا يقال: عرفت ضريبك زيداً، قال المصنف في الشرح: "لأن التصغير يزيل المصدر عن الصيغة التي هي أصل

ص: 57

الفعل زوالاً يلزم منه نقص المعنى؛ بخلاف الجمع، فإن صيغته - وإن زال معها الصيغة الأصلية - فإن المعنى معها باق ومتضاعف بالجمعية؛ لأن جمع الشيء بمنزلة ذكره متكرراً بعطف، فلذلك منع التصغير إعمال المصدر وإعمال اسم الفاعل، ولم يمنع الجمع إعمال المصدر ولا إعمال اسم الفاعل" انتهى.

أما المصدر إذا كان مجموعاً ففي إعماله خلاف: ذهب قوم إلى جواز ذلك كما ذهب إليه المصنف، وهو اختيار ابن عصفور. وذهب قوم إلى منع إعماله مجموعاً، وإلى ذلك ذهب أبو الحسن بن سيده.

ومما استدل به من أجاز ذلك قول العرب: "تركته بملاحس البقر أولادها"، فملاحس جمع ملحس بمعنى لحس، وقول الشاعر:

وقد وعدتك موعداً، لو وفت به

مواعد عرقوب أخاه بيترب

فمواعد جمع موعد. وقول أعشى قيس يمدح هوذة بن علي الحنفي:

قد حملوه فتي السن ما حملت

ساداتهم، فأطاق الحمل، واضطلعا

وجربوه، فما زادت تجاربهم

أبا قدامة إلا الحزم والفنعا

فتجاربهم جمع تجربة، ونصب به أبا قدامة. وقول ابن الزبير الأسدي:

كأنك لم تنبأ، ولم تك شاهداً

بلائي وكراتي الصنيع ببيطرا

ص: 58

فكراتي جمع كرة، ونصب به الصنيع، وهو اسم فرسه. وقول أعشى قيس أيضاً:

إن عداتك إيانا آتية

حقا، وطيبة ما نفس موعود

فعداتك جمع عدة، وقد أعمله، فنصب به الضمير.

ومن منع إعمال المصدر مجموعاً تأول هذا السماع على أن المنصوب في ذلك ينتصب بإضمار فعل، تقديره: لحست أولادها، ووعد أخاه، وجربوا أبا قتادة، وكررت الصنيع، وإيانا تعد.

وأما قوله "فما زادت تجاربهم أبا قدامة" فلا يتعين أن يكون "أبا قدامة" منصوباً بتجاربهم؛ إذ يحتمل أن يكون أبا قدامة منصوباً بزادت، ويكون من وضع المظهر مكان المضمر على سبيل التفخيم لذكر الممدوح بكنيته. ويحتمل أن يكون أبا قدامة بدلاً من مفعول زادت المحذوف لدلالة الكلام عليه، أي: فما زادته تجاربهم أبا قدامة إلا كذا، كما حذف في: ضربت الذي ضربت زيداً، تريد: ضربته زيداً.

وفي "البسيط": "وقد يخرج إلى ترك العمل بالتثنية والجمع، وكذلك إذا توسع فيه أو وصف، فأما عمله في التمييزات فقد يكون مجموعاً لدلالته على الفعل؛ لأن التمييز قابل لعمل الضعيف فيه كالأحوال والظروف، فتقول: عجبت من تصبباته/ عرقاً؛ لأنه في معنى: من أن تصبب عرقاً. وكذلك في الخبر.

ويحتمل أن يكون منه قوله عليه السلام (ألا أخبركم بأحبكم إلي وأقربكم مني مجالس، محاسنكم أخلاقاً)، فإن المحاسن جمع محسن، لم يتكلم له

ص: 59

بواحد كمذاكير، وهو عامل في التمييز. وإذا كانت الصفة عاملة في التمييز جمعاً فهنا أحرى.

وبالجملة فشرطه بعضهم في العمل - أعني الإفراد - وربما جاء مجموعاً معملاً، كقولهم: أتيته بملاحس البقر أولادها، وقولهم: مواعيد عرقوبن وقول أشجع السلمي:

وما كنت أدري ما فواضل كفه

على الناس حتى غيبته الصفائح"

انتهى.

والقياس يقتضي أنه إذا جمع لا يعمل؛ لأن عمله إنما هو لكونه ينحل بحرف مصدري والفعل، والفعل الذي ينحل إليه إنما يدل على مطلق المصدر، لا دلالة له على خصوصيات، وإذا جمعته زال ذلك الإطلاق، فينبغي ألا ينحل للحرف والفعل، فلا يعمل، وأما أشجع فمولد لا يحتج بشعره.

وقوله غير محدود لا يقال: عجبت من ضربتك زيداً، فإن سمع من موثوق بعربيته حكم بشذوذه، فمن ذلك ما أنشده أبو علي في "التذكرة":

يحايي بها الجلد الذي هو حازم

بضربة كفيه الملا نفس راكب

وقال كثير:

وأجمع هجراناً لأسماء إن دنت

بها الدار، لا من زهدة في وصالها

ص: 60

أنشده المصنف شاهداً على ذلك. والذي يظهر أن زهدة في البيت لا يريد به المرة الواحدة، بل يظهر أنه مرادف لزهد. وفي بيت ابن الزبير في قوله "وكراتي الصنيع" شاهد على إعمال المصدر المحدود؛ لأن كراتي جمع كرة، وهي موضوعة للوحدة.

وقوله ولا منعوت قبل تمامه أي: قبل استيفائه ما يتعلق به من مفعول مجرور وغير ذلك؛ وذلك أن هذا المصدر منحل بحرف مصدري والفعل، ومتعلقاته تتنزل منزلة متعلقات الفعل الموصول، فكما لا يفصل بين الفعل الموصول ومتعلقاته فكذلك لا يفصل بين المصدر ومتعلقاته.

وفي قول المصنف "ولا منعوت" قصور، وكان ينبغي أن يقول "ولا متبوع بتابع" ليشمل النعت والعطف والتوكيد والبدل، فلا يجوز: عجبت من ضربك الكثير زيداً، ولا: عجبت من شربك وأكلك اللبن، ولا: عجبت من ضربك نفسه زيداً، ولا عجبت من إتيانك مشيك إلى زيد، فلو أخرت هذه التوابع عن متعلقات المصدر جاز، قال:

إن وجدي بك الشديد أراني

عاذراً من عهدت فيك عذولا

/وقال:

فلو كان حبي أم ذي الودع كله

لأهلك مالاً، لم تسعه المسارح

فـ"الشديد" نعت لـ"وجدي"، و"كله" توكيد لـ"حبي"، وكل منهما قد أخذ معموله. فإن ورد ما يوهم خلاف ذلك تؤول على أن يجعل متعلقاً بفعل يفسره المصدرن كما قال الحطيئة:

ص: 61

أزمعت يأسا مبينا من نوالكم

ولن يرى طارداً للحر كالياس

تقديره: يئست من نوالكم. وقول الآخر:

وإني زعيم إن رجعت مملكا

بسير، ترى منه الفرانق أزورا

على لاحب، لا يهتدى بمناره

إذا سافه العود النباطي جرجرا

أي: أسير على لاحب. وقول الآخر:

ولا تحسبن القتل - محضاً شربته -

نزاراً، ألا إن النفوس إسعاف

أي: قتلت نزاراً؛ لأنه فصل بالمفعول الثاني بين القتل ونزار، فاحتيج إلى التأويل. وقال الآخر:

بضرب يزيل الهام شدة وقعه

بكل حسام ذي صبي ورونق

تقديره: كائن بكل حسام، ولا يجوز أن يتعلق بـ"ضرب"؛ لأنه قد وصف بقوله: يزيل الهام، ولذلك رد أبو علي الفارسي على أبي سعيد السيرافي ما أجازه في قوله:

أرواح مودع أم بكور

أنت، فانظر لأي ذاك تصير

من أن "أنت" مرفوع على الفاعلية بالمصدر، قال: لأن المصدر المنحل لـ"أن" والفعل لا يوصف؛ لأنه كان عند النحويين بمنزلة المضمر، فكما أن المضمر لا يوصف فكذلك هذا.

ص: 62

وزاد الأستاذ أبو علي أن قال: إذا ارتفع أنت على الفاعلية بقي المبتدأ الذي هو المصدر بلا خبر.

وأقول: هذا لا يلزم؛ إذ هو نظير: أقائم الزيدان؟ فالفاعل سد مسد الخبر.

وقال شيخنا الأستاذ أبو الحسن الأبذي: يمتنع أن يكون أنت مرفوعاً على الفاعلية بالمصدر؛ لأنك لا تقول: ضرباً أنت، فيكون فاعلاً، فكذلك لا تقول: أضرب أنت؟ من حيث إن الفاعل شديد الاتصال، والضمير يمكنك اتصاله، فتقول: ضربي زيداً حسن، فيلزم اتصاله لا فصله، كما فعلت العرب في الفعل في: ضربت زيداً؛ لأن التنوين يقطع الاسم عما بعده، فيجب امتناعه.

وقد خرج رفع "أنت" على وجوه: أحدها أنه فاعل بفعل محذوف يفسره قوله "فانظر". أو مبتدأ محذوف الخبر، أي: أنت الهالك. أو خبر محذوف المبتدأ، أي: الهالك أنت. وهذه الأوجه لـ"س".

وأجاز السيرافي والأعلم أن يكون أنت مبتدأ، وخبره رواح، إما على المبالغة، /نحو: زيد رضا، أو على الحذف، أي: أنت ذو رواح.

وقوله عمل فعله فإن كان الفعل قاصراً كان المصدر قاصراً، وإن كان متعدياً بحرف تعدي به، أو إلى واحد أو شبيه بما عدى إلى واحد، نحو كان، أو اثنين أو ثلاثة - فكذلك مصدره، وتمثيل ذلك سهل، وقد مثل ذلك المصنف في الشرح، فذكر أن المصدر يرفع النائب عن الفاعل، نحو: سرني إعطاء الدينار الفقير، وهذه مسألة خلاف، سيأتي الكلام فيها إن شاء الله تعالى.

ص: 63

وقوله والغالب إلى آخر المسألة قال المصنف في الشرح: "وليس تقدير المصدر العامل بأحد الأحرف الثلاثة شرطاً في عمله، ولكن الغالب أن يكون كذلك. ومن وقوعه غير مقدر بأحدها قول العرب: سمع أذني زيداً يقول ذلك، وقول أعرابي:(اللهم إن استغفاري إياك مع كثرة ذنوبي للؤم، وإن تركي الاستغفار مع علمي بسعة عفوك لغي)، وقول الشاعر:

عهدي بها الحي الجميع وفيهم

قبل التفرق ميسر وندام

وقول الراجز:

ورأي عيني الفتى أخاكا

يعطي الجزيل، فعليك ذاكا

وقول الآخر:

لا رغبة عما رغبت فيه

مني، فانقصيه، أو زيديه

ومن أمثلة س: متى ظنك زيداً أميراً؟ وذكر س في (باب من المصادر جرى مجرى الفعل المضارع): عجبت من ضرب زيد عمراً، إذا كان هو الفاعل، ثم قال:(كأنه قال: عجبت من أنه يضرب زيد عمراً)، ولم يقدر في الباب بغير أن

ص: 64

الثقيلة. وإذا ثبت أن عمل المصدر غير مشروط بتقدير حرف مصدري أمكن الاستغناء عن إضمار في نحو: له صوت صوت حمار" انتهى.

والذي تقرر عند أصحابنا أن شرط عمل هذا المصدر أن يقدر بحرف مصدري والفعل، فقدر الحرف س بـ"أن" الثقيلة المسندة إلى ضمير الشأن؛ لأنه يعم أن تكون الصلة ماضية وحالاً ومستقبلة، فتقدر في الماضي: من أنه ضرب زيد عمراً، وفي المضارع: من أنه يضرب؛ لأنه يصلح للحال والاستقبال.

وقدره بعضهم بـ"أن" الناصبة للفعل؛ لأن صلتها تكون بالماضي، نحو: عجبت من أن قام زيد، وبالمضارع فتخلصه للاستقبال، نحو: عجبت من أن يقوم زيد. وبـ"ما"؛ لأنها تصلح للحال، وتوصل به، نحو: عجبت مما تضرب زيداً.

وأما ما زعم أنه لا يتقدر بحرف مصدري فليس كما زعم، بل كلها تتقدر بحرف مصدري والفعل؛ لأن قوله: سمع أذني زيداً يقول ذلك، و"عهدي بها الحي الجميع"، و"رأي عيني الفتى" - من باب: ضربي زيداً قائماً، وهو يتقدر بحرف مصدري والفعل كما يتقدر: ضربي زيداً قائماً. وكذلك "إن استغفاري" و"لا رغبة" /أي: إن أن أستغفرك، ولا أن أرغب. وكذلك: متى ظنك؟ أي: متى أن تظن.

وفي البسيط: "اختلفوا في تقدير الفعل: هل من شرطه تقديره بالحروف السابكة أو ليس من شرطه ذلك؟ فمنهم من يقدر نفس الفعل. ومنهم من يقدره بأن. ومن لم يقدره قال: إنما نقدره حيث يكون المصدر مطلوباً لشيء متقدم؛ لأنه حينئذ إذا نزل منزلة الفعل - والفعل لا يكون معمولاً للأول - يكون مقدراً بأن، وإذا إذا ابتدئ فلا يحتاج إليه. قيل: وهذا أصح للقياس والسماع:

أما القياس فمن حيث إن الفعل إذا قدر بـ"أن" كان معناه المصدر، فلم يقع المصدر موقع الفعل، وإنما وقع موقع نفسه.

ص: 65

وأما السماع فإنا نجوز: ضربي زيداً قائماً، ولو قلت أن أضرب زيداً قائماً لم يكن كلاماً إلا بخير، وإنما كان الحال خبراً مع ظهور المصدر لصحة كون الحال كالزمان، والزمان يكون خبراً عن المصادر، فلما خرج عن لفظه لم يكن ذلك" انتهى.

ولا يلزم من تقدير الشيء كونه ينطق به في الكلام، فكم من مقدر لا ينطق به، وكثيراً ما في كتاب س من تقدير، ويقول:"فهذا تمثيل ولا يتكلم به".

وقوله إن لم يكن بدلاً من اللفظ بفعله سيأتي حكم المصدر الذي هو كذلك.

وقوله تقديره به بعد أن المخففة أو المصدرية أو ما قال المصنف في الشرح: "احترز من المصدر المؤكد والمبين النوع والهيئة، فالمخففة بعد علم - وهو مخصوص بالمخففة - غير صالح للمصدرية، فيجوز مضيه وحضوره واستقباله، فمضيه قول الشاعر:

علمت بسطك بالمعروف خير يد

فلا أرى فيك إلا باسطا أملا

وحضوره قول الراجز:

لو علمت إيثاري الذي هوت

ما كنت منها مشفيا على القلت

واستقباله قول الشاعر:

لو علمنا إخلافكم عدة السلـ

ـم عدمتم على النجاة معينا

ص: 66

وكذا المقدر بـ"ما" المصدرية، فمضيه (كَذِكْرِكُمْ آَبَاءَكُمْ)، وقول الشاعر:

وعذبه الهوى حتى براه

كبرى القين بالسفن القداحا

وقول الآخر:

مدمن الخمر سوف يأخذه با

ريه أخذه ثمود وعادا

وحضوره (تَخَافُونَهُمْ كَخِيفَتِكُمْ أَنْفُسَكُمْ)، وقول الفرزدق:

وددت - على حبي الحياة - لو أنها

يزاد لها في عمرها من حياتيا

واستقباله قول الشاعر:/

ومن يمت وهو لم يؤمن يصل غداً

شواظ نار دوام النار في سقرا

والمقدر بـ"أن" المصدرية ما وقع بعد لولا أو فعل إرادة أو كراهة أو خوف أو رجاء أو طمع أو شبه ذلك، ولا يكون المقدر بهذه إلا ماضي المعنى، كقوله:

أمن بعد رمي الغانيات فؤاده

بأسهم ألحاظ يلام على الوجد

أو مستقبله، كقول الفرزدق:

ص: 67

فرم بيديك هل تستطيع نقلاً

جبالاً من تهامة راسيات"

انتهى ملخصاً.

وجعله المصدرية قسيمة للمخففة ليس بجيد؛ لأن أن المخففة مصدرية أيضاً؛ لأنها مخففة من الثقيلة، والثقيلة مصدرية، والحروف المصدرية هي: أن، وأن، وما، وكي، فلا اختصاص لـ"أن" الموضوعة على حرفين بالمصدرية؛ إذ هو قدر مشترك بين جميع هذه الحروف.

وقوله أختها يعني أخت أن المصدرية، لأن "ما" لها أقسام كثيرة، فمن أقسامها أنها تكون حرفاً مصدرياً، فهي كـ"أن".

وإنما تعاقب المصدر والفعل مقروناً بحرف مصدري لقوة النسبة بينهما؛ إذ في الفعل دلالة على المصدر، والمصدر أيضاً دال على المعنى الذي عمل به الفعل، فانتسبا إلى أصل واحد وإن كان بينهما رتبة بتقدم وتأخر من جهة الاشتقاق؛ وتلك الرتبة أورثته أن لم يحل محل المصدر إلا باقتران حرف معه، ولم يحتج المصدر في تلبسه بأثرة الفعل إلى اقتران حرف به. ولما كان هذا المصدر استعملته العرب في مواضع من الابتداء والفاعلية والمفعولية والإضافة، فصار كالأسماء المتمكنة غير المصادر، ووجدناه مع ذلك ينصب كما ينصب الفعل، فنظرنا هل تلك المواضع يحلها الفعل حتى يكون عمل المصدر بنيابته عنه، فلم يحلها إلا مقروناً بحرف مصدري، فعلمنا أن النصب بعد المصدر إنما هو بمعنى ذلك الفعل المقرون به الحرف المصدري، وذلك التعاقب هو الذي سوغ أن ترد كل عبارة إلى أختها، فتقول مثلاً: الفعل مع أن في تأويل المصدر، وتقول: هذا المصدر يتقدر بأن والفعل.

وظاهر كلام المصنف في "ألفيته" أنه إذا لم يحل المصدر محل أن أو ما والفعل لم يعمل، وأن ذلك شرط في إعماله، نحو: يعجبني العدل وأكره الجور، وله

ص: 68

ذكاء ذكاء الحكماء، فهذه مصادر قصد بها حقائق مدلولاتها من غير اعتبار علاج، فجرت مجرى الأسماء التي لا يصح لها عمل، والمصدر العامل إنما عمل بالنيابة مناب الفعل المقدر بحرف مصدري، ولا تكون النيابة إلا مع العلاج، ولذا قالوا: إذا قلت سرني ضرب زيد فيحتمل وجوهاً، منها أن يكون زيد معرفاً للضرب، لا يقصد به دلالة المخاطب على أنه/ ضارب ولا مضروب. [5: 63/ب]

وقوله ولا يلزم ذكر مرفوعه وذلك بخلاف الفعل، فإنه لابد له من مرفوع، فقد يستغني عن المرفوع وغيره من معمولاته، كقوله تعالى (وَلَا يَرْضَى لِعِبَادِهِ الْكُفْرَ)، وقد يستغني عنه فقط، ويبقى المعمول، نحو (أَوْ إِطْعَامٌ فِي يَوْمٍ ذِي مَسْغَبَةٍ). وخص المرفوع لأن الاستغناء عن غيره جائز مع كل عامل غير ناسخ. وعم بالمرفوع الفاعل والنائب واسم كان وأخواتها.

ويدل قوله "ولا يلزم ذكر مرفوعه" على أنه ليس كالفعل وما أشبهه مما يعمل؛ لأنه لا يستغني عن مرفوع ظاهر أو مضمر، وأنه يجوز أن يذكر مرفوعه، فيرفع الفاعل بالمصدر المنون، وينصب المفعول أو المفعولان أو الثلاثة على حسب تعدي الفعل الذي هذا مصدره، وإن كان لازماً رفع الفاعل، وتعدى إلى غير المفعول به كتعدي فعله، فيجوز أن تقول: عجبت من قيام زيد، ومن ضرب زيد عمراً، ومن إعطاء زيد عمراً درهماً، ومن ظن زيد عمراً قائماً، ومن إعلام زيد عمراً بكراً قائماً. هذا مذهب البصريين.

وأجاز جمهورهم أن ينوى في المصدر أنه منحل لحرف مصدري والفعل الذي لم يسم فاعله؛ فيرتفع ما بعده على أنه مفعول لم يسم فاعله، فأجازوا أن

ص: 69

تقول: عجبت من جنون بالعلم زيد، ومن أكل الطعام، أي: من أن جن بالعلم زيد، ومن أن أكل الطعام. وجوزوا في عجبت من ضرب زيد أن يكون فاعلاً بالمصدر أو مفعولاً لم يسم فاعله.

وذهب أبو الحسن الأخفش إلى أنه لا يجوز أن ينوى في المصدر انحلاله لحرف مصدري والفعل الذي لم يسم فاعله؛ فإذا قلت عجبت من ضرب زيد فهذا عنده مرتفع على الفاعل لا على أنه مفعول لم يسم فاعله.

وذكر شيخنا أبو الحسين بن أبي الربيع أن مذهب أكثر النحويين أن المفعول به لا يكون مع المصدر المنون إلا منصوباً؛ وإلى هذا كان الأستاذ أبو علي يذهب.

واستدل من أجاز رفعه على المفعول الذي لم يسم فاعله بعد المصدر بقول الشاعر:

إن قهراً ذوو الضلالة والبا

طل عز لكل عبد محق

تقديره: أن يقهر ذوو الضلالة.

وذهب الكسائي إلى أنه لا يجوز ذلك إلا حيث لا يلبس.

وعلى ما تقرر من مذهب البصريين في جواز إعمال المصدر فيجوز عندهم أن تقدم فيه المفعول على الفاعل؛ فتقول: عجبت من ضرب زيداً عمرو. ويجوز عندهم ألا تذكر الفاعل، فتقول: عجبت من ضرب زيداً، قال تعالى (أَوْ إِطْعَامٌ فِي يَوْمٍ ذِي مَسْغَبَةٍ (14) يَتِيمًا)، وقال الشاعر:

ص: 70

فلولا رجاء النصر منك ورهبة

عقابك قد كانوا لنا كالموارد

وقال آخر:/

[5: 64/أ]

بضرب بالسيوف رؤوس قوم

أزلنا هامهن عن المقيل

وقال الفرزدق:

فرم بيديك هل تستطيع نقلا

جبالاً من تهامة راسيات

وقال زياد الأعجم:

ببذل في الأمور وصدق بأس

وإعطاء على العلل المتاعا

وحكى هشام: عجبت من أكل الخبيص، إذا كنت تخاطبه، قال: إلا أنه ينتصب بإضمار تأكل. قال: فإن لم تخاطبه رفعت. قال: وأحب إلى أن يفرق بينهما بشيء.

والبصريون لا يضمرون في مثل هذا ويجيزون النصب وإن كان لغير المخاطب إذا جرى ذكر.

ثم اختلف البصريون في الفاعل: فذهب الجمهور إلى أن الفاعل محذوف، فاعترضوا بإنكارهم على الكسائي حذف الفاعل في باب الإعمال، ففرقوا بين حذفه من المصدر وحذفه من الفعل واسم الفاعل وما جرى مجراه مما يجري مجرى الفعل بأن الموجب لحذفه من الفعل إنما هو جعل ضميره كالجزء من العامل؛ بدليل تسكينهم له آخر الفعل في ضربت، وفصلهم به بين الفعل وإعرابه في نحو يفعلان، فكما لا يجوز حذف الجزء من الكلمة بقياس، فكذلك لا يجوز حذف الفاعل إذا

ص: 71

كان مضمراً متصلاً، ثم حمل الظاهر والضمير المنفصل في امتناع الحذف على المضمر المتصل، فلما كان المصدر لا يتصل به ضمير فاعل لم تكن نسبة فاعلة منه نسبة الجزء من الكلمة فيمتنع حذفه لم يحمل الظاهر والضمير المتصل في امتناع الحذف عليه.

وقد علل المصنف في الشرح كونه لا يذكر معه بل يحذف بخلاف الفعل، وأبدى فرقاً بين الفعل وما أشبهه وبينه بأن الفعل لو ذكر دون مرفوع لكان حديثاً عن غير محدث عنه، وليس كذلك المصدر؛ لأنه إذا عمل الفعل المنسوب إليه بإجماع لم يكن إلا في موضع غير صالح للفعل، فجرى مجرى الأسماء الجامدة في عدم تحمل الضمير، وجاز أن يرفع ظاهراً لكونه أصلاً لما لا يستغني عن مرفوع. انتهى.

ولا يلزم من حذف الفاعل مع الفعل أن يكون حديثاً عن غير محدث عنه؛ لأن المحذوف كالملفوظ به الموجود.

وذهب قوم إلى أن الفاعل مضمر في المصدر، وأن المصدر يتحمل الضمير كما يتحمله اسم الفاعل والصفة المشبهة والظرف؛ لأنه يعمل في الظاهر، فيعمل في المضمر. ونسب ذلك بعض أصحابنا إلى الكوفيين.

قال ابن هشام: "وأهل البصرة متفقون على أن لا إضمار، وأهل الكوفة يضمرون الفاعل، ويقولون: لابد من ذلك؛ لأنه كاسم الفاعل والصفة المشبهة والفعل ما عمل في الظاهر رفعاً، فلابد له أن يرفع ظاهراً أو مضمراً، إلا من رأى منهم أنه لا يعمل.

/وحجة البصريين أنه قد يضاف إلى فاعله، فمحال أن يرفع حينئذ، فقد خرج بهذا عن الفعل وعن كل ما أشبهه، والصفة حين أضيفت لفاعلها تخلصت للموصوف، ورفعت ضميرها، وليس المصدر كذلك" انتهى.

ص: 72

وذهب أبو القاسم خلف بن فرتون الشنتريني - عرف بابن الأبرش - إلى أن الفاعل منوي إلى جنب المصدر، والتقدير: أو إطعام إنسان، ودل عليه ذكر الإنسان قبله. قال: "ولا يجوز أن يقال: إن الفاعل مضمر؛ لأن المصدر لا يضمر فيه؛ لأنه بمنزلة أسماء الأجناس.

فإن قيل: إذا كان بمنزلة أسماء الأجناس فكيف يعمل عمل الفعل؟

فالجواب: أنه عمل عمل الفعل لوجود لفظ الفعل فيه؛ ألا ترى أنه إذا أضمر بطل عمله، ولا يجوز أن يقال: محذوف؛ لأن الفاعل لا يحذف" انتهى كلامه.

وذكرت هذا لشيخنا الأستاذ أبي الحسن بن الضائع، فقال: عجبت من ركوب الفرس، الفاعل هنا ليس منويا، ولا يدل عليه ذكر شيء قبله، بل هو هنا محذوف ولابد.

وذهب السيرافي إلى أنه يجوز ألا يقدر فاعل، بل ينتصب المفعول بالمصدر كما ينتصب التمييز في عشرين درهماً من غير أن تقدر فاعلاً.

ثم اعترض على نفسه، فقال:

فإن قلت: فإذا نصبت يتيماً ولم تقدر فاعلاً في إطعام فقد جعلته تمييزاً.

فالجواب: أنا - وإن نصبناه من غير أن نقدر فاعلاً - فإنما ينتصب تشبيهاً بالمفعول الذي ينصبه الفعل، ولا يلزم من ناصبه أن يكون مثل الفعل في جميع أحكامه، تقول: عجبت من إطعام زيد عمراً، فتنصب عمراً بإطعام، وتقيم زيداً مقام التنوين، وهو مجرور، ولا تقدر فاعلاً غير زيد، فقد بطل في المصدر لفظ الفاعل الذي هو مرفوع في الفعل لا محالة، ولم يكن المصدر بمنزلة الفعل في هذه الحال، فكذلك ما ذكرنا.

ص: 73

ورد على السيرافي بما رد هو على الكسائي في باب الإعمال، وهو أن يقال له: إما أن يكون الفاعل مراداً أو غير مراد، فإن قال إنه غير مراد فهذا باطل بالضرورة؛ لأنه لابد للإطعام من مطعم من جهة المعنى، وإن قال إنه مراد فقد أقر بأن المصدر يقتضيه كما يقتضيه الفعل، وأنه مخالف لعشرين درهماً، فيلزمه أن يكون مقدراً فيه وإن لم يصح إضماره فيه ولا إبراز لفظ المضمر.

وذهب الفراء إلى أنه لا يجوز أن يلفظ بالفاعل بعد المصدر المنون. قالوا: وحمله على ذلك أنه لم يسمع.

ورد البصريون عليه هذا، واستدلوا على ورورد ذلك بقول الشاعر:

حرب تردد بينهم بتشاجر

- قد كفرت آباؤها - أبناؤها

قالوا: التقدير: بتشاجر أبناؤها قد كفرت آباؤها، أي: لبست الدروع.

وهذا البيت لا حجة فيه، بل الظاهر أن قوله "آباؤها أبناؤها" مبتدأ وخبر، أي: آباؤها في ضعف الحلوم مثل أبنائها؛ /ألا ترى أن قبله ما يدل على هذا المعنى، وهو قوله:

ص: 74

هيهات قد سفهت أمية رأيها

فاستجهلت، حلماؤها سفهاؤها

إذ التقدير: حلماؤها مثل سفهائئها، فكذلك يكون تقدير:"آباؤها أبناؤها".

ويلزم أيضاً في تخريج البيت على قول البصريين أن يفصل بين المصدر ومعموله بقوله: "قد كفرت أبناؤها".

والذي يظهر لي مذهب الفراء؛ لأن كل ما أورد س وغيره من المصدر المنون في لسان العرب لم يذكر بعده فاعل، ولم يذكره س إلا في نفس عبارته، قال:"وذلك عجبت من ضرب زيد عمراً"، وليس في لفظه ما يدل على أنه محكي عن العرب، فيحتمل أن يكون ذلك رأياً منه، بل هو ظاهر كلامه وقياس منه؛ لأنه قال:"لأنك كما تقول: عجبت من أن ضرب زيد عمراً ينبغي أن تقول: عجبت من ضرب زيد عمراً". وكأن س لم ير مانعاً يمنع من ذلك إذ نزل منزلة: أن يفعل، والفاعل يظهر مع أن يفعل، فينبغي أن يظهر مع ما نزل منزلته، وكونه يذكر مضافاً إليه المصدر يقضي بذكره معه غير مضاف إذ لا فرق.

والذي ينبغي أن يعول عليه مذهب الفراء؛ لأنه سامع لغة من العرب، وقد نفى ذلك عن لسانهم، مع أن الكوفيين أوسع سماعاً وأتبع لشواذ كلام العرب من البصريين.

وللفراء أن يقول: المصدر - وإن نزل منزلة أن يفعل - فليس ينبغي أن تجرى عليه أحكام لفظه من ذكر الفاعل معه وغير ذلك، إنما يتبع في ذلك موجب الأدلة السمعية، فليس موضع قياس، ومع أن المصدر اسم صراح لم يبن للفاعل، ولا وضع له - فذكر الفاعل بعده بمثابة ضم اسم إلى اسم من غير جامع بينهما، فإذا أضيف

ص: 75

إليه أمكن اتصاله به، وصارت بينهما علاقة من جهة اللفظ مع العلاقة التي من جهة المعنى، فأمكن ذلك، ولذلك سمع مضافاً إلى الفاعل، ولم يسمع غير مضاف والفاعل مذكور بعده.

وقوله ومعموله كصلة يعني أن المصدر لكونه ينحل لحرف مصدري والفعل هو كالموصول، ومعموله كالصلة، فكما أن صلة الموصول لا تتقدم عليه، فكذلك معمول هذا المصدر لا يتقدم عليه. وأيضاً فكما لا يفصل بين الموصول وصلته بأجنبي فكذلك لا يفصل بين المصدر ومعموله.

وقوله ويضمر عامل فيما أوهم ذلك أو يعد نادراً أي: فيما أوهم تقديم المعمول أو أوهم الفصل، فمما أوهم تقديم المعمول قول تميم العجلاني:

لقد طال عن دهماء لدي وعذرتي

وكتمانها أكني بأم فلان

وقول عمر بي أبي ربيعة:

ظنها بي ظن سوء كله

وبها ظني عفاف وكرم

وقوله:

طال عن آل زينب الإعراض

للتعزي، وما بنا الإبغاض

/وقول الآخر:

وبعض الحلم عند الجهـ

ـل للذلة إذعان

ومما أوهم الفصل قوله تعالى (إِنَّهُ عَلَى رَجْعِهِ لَقَادِرٌ (8) يَوْمَ تُبْلَى السَّرَائِرُ)، فظاهره أن (يوم) منصوب بـ (رجعه)، وقد فصل بينهما بقوله (لقادر)، وهو أجنبي منهما،

ص: 76

فيضمر عامل يتعلق به: عن دهماء وبي، وعن آل، وللذلة، وهو مصدر يفسره المصدر بعد هذه المجرورات، ويقدر: يرجعه يوم تبلى السرائر، أو يعلق بنفس المصدر على نية التقديم والتأخير، أو على أنه يجوز في المصدر ذلك وإن لم يجز في الموصول، كما جاز حذف معموله وإن لم يجز حذف صلة الموصول.

فأما قوله:

فهن قيام، ينتظرن قضاءه

بضاحي عذاة أمره، وهو ضامز

فـ"بضاحي" متعلق بـ"قضاءه" لا بـ"ينتظرن". وأما قوله:

ليت شعري إذا القيامة قامت

ودعا للحساب أين المصيرا

فقال الشجري: "التقدير: ليت شعري المصير أين هو، فحذف المبتدأ، وفصل المصدر مما عمل فيه".

قال المصنف في الشرح: "وأسهل من ذلك أن يكون التقدير: أين يصير المصير، أو: أين هو؟ أعني المصير" انتهى.

وقول المصنف "وأسهل من ذلك" دليل على تجويز ما قاله الشجري، وهو لا يجوز؛ لأن "شعري" في "ليت شعري" إنما استعملته العرب معلقاً عن جملة الاستفهام، ولم تلفظ له بمنصوب، فتجويزهما أن يكون "المصير" معمولاً لـ"شعري" خطأ وخروج عن لسان العرب، فيتعين على هذا أن ينتصب المصير بفعل محذوف.

ص: 77

وأما قول الشاعر:

وإني لأبكي اليوم من حذري غدا

فراقك، والحيان مجتمعان

فالظاهر أن "غدا" ظرف لقوله "فراقك"، وذلك لا يجوز. وتخريجه على أن يكون "غدا" مفعولاً بـ"حذري"، و"فراقك" بدل منه بدل اشتمال.

وقد تساهل بعض النحويين في الجار والمجرور والظرف، فجوز تقديمهما على المصدر المقدر بحرف مصدري والفعل دون الحرف المصدري والفعل. وعن الأخفش نقل غريب، وهو أنه يجيز تقديم المفعول به على المصدر، فيقول: يعجبني عمراً ضرب زيد.

-[ص: وإعماله مضافاً أكثر من إعماله منوناً، وإعماله منوناً أكثر من إعماله مقروناً بالألف واللام. ويضاف إلى المرفوع أو المنصوب، ثم يستوفى العمل كما كان يستوفيه ما لم يكن الباقي فاعلاً فيستغنى عنه غالباً، وقد يضاف إلى ظرف فيعمل بعده عمل المنون.]-

ش: قسم هذا/ المصدر إلى مضاف ومنون ومعرف بأل، ولا خلاف في إعمال المضاف بين البصريين والكوفيين، وفي كلام بعض أصحابنا ما ظاهره خلاف هذا، قال ما نصه:"مذهب البصريين أنه يعمل على جميع وجوهه، ومن الكوفيين من يرى أن إعماله باللام لا يجوز، ومنهم من يرى أنه لا يعمل على كل حال، وما وجد بعده من العمل فبإعمال فعل دل عليه".

وقوله أكثر من إعماله منونا هذا راجع إلى الاستقراء. قال المصنف في الشرح: "وإعمال المضاف أكثر من إعمال غير المضاف؛ لأن الإضافة تجعل

ص: 78

المضاف إليه كجزء من المضاف، كما يجعل الإسناد الفاعل كجزء من الفعل، وتجعل المضاف كالفعل في عدم قبول التنوين والألف واللام، فقويت بها مناسبة المصدر الفعل، فكان إعماله أكثر من إعمال عادم الإضافة، وهو المنون والمقترن بالألف واللام، إلا أن في المنون شبها بالفعل المؤكد بالنون الخفيفة، استحق به أن يكون أكثر إعمالاً من المقترن بالألف واللام" انتهى.

وذهب الزجاج والفارسي والأستاذ أبو علي والأكثرون إلى أن أقوى عمله إذا كان منوناً؛ لأن ما شبه به نكرة، فكذلك ينبغي أن يكون نكرة. وهذا لا تحقيق فيه؛ لأن عمله ليس بالشبه إنما هو بالنيابة عن حرف مصدري والفعل، وذلك المنوب عنه في رتبة المضمر.

وذهب الفراء وجماعة إلى أن الأحسن المضاف ثم المنون؛ لأن المصدر ما عمل للشبه، والأصل في عمل الأسماء الإضافة، فصار المضاف أولى لوجود أصل العمل الخاص بالأسماء، والمنون دونه لوجوده على حالة ليست للأسماء بالأصالة. قال الفراء: ولذلك لا تجد المنون في كتاب الله تعالى إلا بفاصل؛ لأنه يبعد من العمل المخالف للإضافة. قال: ولم تجده إلا في الشعر. قال: وأما المضاف فكثير، قال تعالى (لَا يَسْأَمُ الْإِنْسَانُ مِنْ دُعَاءِ الْخَيْرِ)، (وَلَوْلَا دَفْعُ اللَّهِ النَّاسَ)، و (مَكْرُ اللَّيْلِ)، و (لَقَدْ ظَلَمَكَ بِسُؤَالِ نَعْجَتِكَ). وأما المنون المنفصل فقوله (أَوْ

ص: 79

إِطْعَامٌ فِي يَوْمٍ ذِي مَسْغَبَةٍ (14) يَتِيمًا)، وقوله (مَا لَا يَمْلِكُ لَهُمْ رِزْقًا مِنَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ شَيْئًا). انتهى من البسيط.

وذهب بعض النحويين إلى أن إعماله مضافاً ومنوناً على حد سواء.

وذكر بعض النحويين أن المصدر إذا قصد به المضي كان الخفض أحسن حملاً بوجه ما على اسم الفاعل، والمنون في الاستقبال أحسن منه في المضي، وخفض المفعول أحسن من الفاعل حملاً على ذلك.

وذهب الأستاذ أبو الحسن بن عصفور إلى أن إعمال المعرف بالألف واللام أقوى من إعمال المضاف في القياس؛ وأطال الاحتجاج في ذلك بما لا يجدي نقله كبير فائدة.

وترك إعمال المضاف وذي أل عندي هو القياس؛ لأنه قد دخله خاصة من خواص الاسم، فكان قياسه ألا يعمل، وكذلك المنون؛ لأن الأصل في الأسماء ألا تعمل، فإذا التقى /الاسم بالاسم على سبيل التعلق فالأصل الجر بالإضافة، ولذلك تصح الإضافة بأدنى ملابسة.

وأما المصدر المنون ففي إعماله خلاف: ذهب البصريون إلى جواز إعماله، فيرفع به الفاعل، وينصب المفعول أو المفعولان أو الثلاثة على حسب الفعل الذي هو مصدره، وتقدم ذكر الخلاف في كونه ينحل لحرف مصدري والفعل المبني للمفعول.

وفي الإفصاح: "أجاز جماعة أن يذكر مرفوعاً ويقدر بأن والفعل المسند للمفعول. ومن الناس من منعه، وهو الصحيح؛ لأن ما يرفع الفاعل من الفعل

ص: 80

والصفة لا يكون على صيغة ما يرفع المفعول، والمصادر لا تختلف صيغها، فلا يصلح فيها ذلك. وكان ابن خروف يقول: يجوز ذلك إذا لم يقع لبس. وهذا كله خطأ؛ لأنه لم يسمع، والقياس يبطله" انتهى.

وذهب الكوفيون إلى أن المصدر المنون لا يجوز إعماله، وأنه إن وقع بعده مرفوع أو منصوب فإنما هو محمول على فعل مضمر يفسره المصدر من لفظه؛ فإن وجد مثل عجبت من ضرب زيد عمراً فالتقدير: ضرب زيد عمراً. وقالوا في قوله تعالى (أَوْ إِطْعَامٌ فِي يَوْمٍ ذِي مَسْغَبَةٍ (14) يَتِيمًا ذَا مَقْرَبَةٍ): إن التقدير: يطعم. وقالوا: المصدر إذا نون انقطع عن أن يحدث إعراباً، وصارت قصته قصة زيد وعمرو.

وقال الفراء: "إن نونت فليس من كلام العرب إلا مستكرها في الأشعار، فإذا رأيته في شعر فهو على نية كلامين" انتهى. ويرد عليه وجوده في أفحص كلام منوناً كما مر من قوله (أَوْ إِطْعَامٌ).

ومن فروع مذهب الكوفيين أنه يختار في المنون أن يكون السابق المفعول والمتأخر الفاعل، نحو: يعجبني ضرب في الدار زيداً عمرو، قاله هشام.

ومن فروعهم أنه إذا نون المصدر، وجرى بعده الفاعل والمفعول - فسبيله أن يفصل بينهما وبينه، فيقال: يعجبني قيام أمس زيد، وهو أحسن من قولك: قيام زيد.

ومن فروعهم أنه إذا رفع الاسم بعد المصدر المنون المحجوز اختير أن يكون ذلك في المدح والذم؛ كقولك: عجبت من قراءة في كل حال القرآن، أي: يقرأ

ص: 81

القرآن، وأنكرت صيدا في كل ساعة صلاة ظبي، أي: يصاد ظبي، فهذا أجود عندهم من قولك: يسوءني ضرب في كل حال زيد، أي: يضرب زيد.

وذهب الكوفيون إلى إجازة خفض الاسم بعد المصدر المنون، فتقول: يعجبني ضرب زيد، التقدير: ضرب ضرب زيد، فحذف الثاني لدلالة الأول عليه. ولا يجوز ذلك عند البصريين.

وقد رد بعض أصحابنا على الكوفيين في دعواهم أن ما جاء بعد المصدر المنون من فاعل ومفعول هو على إضمار فعل يفسره المصدر؛ وأن ذلك معمول للمصدر نفسه، فقال: الدليل على صحة ذلك أنه لا يجوز: عجبت من ضرب أمس زيد عمراً أول من أمس، تريد: عجبت أمس من ضرب زيد عمراً أول من أمس، فدل ذلك على أن ما بعد المصدر معمول له، فلذلك لم يستجيزوا الفصل بينه وبين المصدر بمعمول الفعل، ولا ورد شيء من ذلك في كلامهم، ولو كان ما بعد المصدر معمولاً/ لفعل مضمر من لفظ المصدر لم يمنع من ذلك مانع؛ لأنه لا يلزم من تأخير معمول الفعل بعد المصدر فصل ما بين الموصول وما هو من صلته.

وأما المصدر المعرف بأل ففيه مذاهب:

أحدها: مذهب س، وهو إجازة إعماله كالمصدر المنون، فيرتفع به الفاعل وينتصب المفعول، فتقول: أعجبني الضرب زيد عمراً، ولا قبح في ذلك، وصححه بعض أصحابنا.

الثاني: مذهب الكوفيين، وهو أنه لا يجوز إعماله كالمنون، وما ظهر بعده من معمول فإنما هو على إضمار فعل يفسره المصدر كما قالوا في المنون؛ حتى إنهم أجازوا خفض الاسم بعده على حذف مصدر، قالوا: قالت العرب: يعجبني

ص: 82

الإكرام عندك سعد بنيه، أي: إكرام سعد بنيه. وحكى الفراء عن العرب: أما والله لو تعلمون العلم الكبيرة سنه الدقيق عظمه، أي: علم الكبيرة سنه. ولا يجيز البصريون ذلك.

ووافق الكوفيين على منع إعماله معرفاً بأل جماعة من البصريين، منهم ابن السراج، وإن اختلفوا في استدلال المنع.

ونقل أبو إسحاق بن أصبغ في "مسائل الخلاف" من تأليفه أن مذهب الفراء جواز إعماله بأل كمذهب س وكافة البصريين، وأن ذلك مستقبح. ومنع البغداديون إعماله البتة.

الثالث: مذهب الفارسي وجماعة من البصريين، وهو جواز إعماله على قبح.

الرابع: مذهب ابن الطراوة وأبي بكر بن طلحة، وهو التفصيل بين أن تكون أل معاقبة للضمير فيجوز إعماله، نحو: إنك والضرب خالداً لمسيء إليه، أو لا تكون معاقبة للضمير، فلا يجوز إعماله، نحو: عجبت من الضرب زيد عمراً. وهذا المذهب هو الصحيح على ما يتضح إن شاء الله.

ونحن نذكر ما وقفنا عليه من الشواهد السمعية، فمن ذلك ما أنشد س للمرار الأسدي:

لقد علمت أولى المغيرة أنني

كررت، فلم أنكل عن الضرب مسمعا

وأنشد س أيضاً:

ص: 83

ضعيف النكاية أعداءه

يخال الفرار يراخي الأجل

وقال أمية بن أبي عائذ:

فأصبحن ينشرن آذانهن

في الطرح طرفاً يميناً شمالاً

وقال علي بن أمية:

وداعي الصباح يطيل الصياح السـ

ـلاح السلاح، فما يستفيق

وقال كثير:

تلوم امرأً في عنفوان شبابه

وللترك أشياع الصبابة حين

وقال الأخطل:

فإنك والتكليف نفسك دراماً

كشيء مضى لا يدرك الدهر طالبه

وقال آخر:

فإنك والتأبين عروة بعد ما

دعاك وأيدينا إليه شوارع

/لكالرجال الحادي، وقد تلع الضحى

وطير المنايا فوقهن أواقع

وقال آخر:

فإلا يكن جسمي طويلاً فإنني

له بالفعال الصالحات وصول

ص: 84

وقال آخر:

وقد يحسن التيمي عقد نجافه

ولا يحسن العقد القلادة بالمهر

وقال آخر:

.......................................

وكيف التوقي ظهر ما أنت راكبه

وأنشد القالي في أماليه:

قل الغناء إذا لاقى الفتى تلفا

قول الأحبة: لا يبعد، وقد بعدا

أي: قل أن يغني قول الأحبة شيئاً إذا لاقى الفتى تلفا، رفع به الفاعل، ونصب به الظرف، وحذف المفعول المنصوب، وهو شيئاً.

فهذه مصادر معرفة بأل، وهي معاقبة فيها للضمير، وانتصب بعدها المفعول، التقدير: فلم أنكل عن ضربي مسمعا، وضعيف نكايته أعداءه، وفي طرحهن طرفا، وصياحه السلاح السلاح، ولتركه أشياع، وتكليفك نفسك، وتأبينك عروة، وبفعالي الصالحات، وعقده القلادة، وتوقيك ظهر.

ولم يرد ما ظاهره رفع الفاعل بعد المصدر المعرف بأل فيما وقفنا عليه غير بيت واحد، أنشده صاحب "المرشد" وغيره، وهو قول الشاعر:

ص: 85

عجبت من الرزق المسيئ إلهه

وللترك بعض المحسنين فقيرا

بنصب المسيء ورفع إلهه بالرزق، وهو مصدر رزقه يرزقه رزقاً كذكرا، ورزقا كضربا.

وقد أنكر ابن الطراوة وغيره أن يكون رزقا بكسر الراء مصدراً، وقالوا: الرزق بمعنى المرزوق كالرعي والطحن، وردوا على الفارسي في زعمه أن رزقاً مصدر ينصب شيئاً في قوله تعالى:(مَا لَا يَمْلِكُ لَهُمْ رِزْقًا مِنَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ شَيْئًا)، فعلى ألا يكون الرزق مصدراً، ويكون بمعنى الذي يرزقه الإنسان - ينتصب المسيء، ويرتفع إلهه بإضمار فعل يفسره الرزق، أي: يرزق المشيء إلهه، ويكون البيت لا حجة فيه على رفع الفاعل بالمصدر؛ إذ الرزق ليس بمصدر. وقوله "وللترك بعض" أل فيه معاقبة للضمير، أي: ولتركه بعض.

و"أل" هذه الداخلة على المصدر لا نعلم خلافاً في أنها للتعريف، إلا ما ذهب إليه صاحب "الكافي في الإفصاح" من أنها في المصدر المقدر بحرف مصدري والفعل ينبغي أن يدعى زيادتها كما يدعى في الذي والتي وما جرى مجراهما؛ وكذلك "الآن"، قال:"لأن التعريف /في هذه الأشياء بغير أل، فيدعى فيها الزيادة؛ إذ لا يجتمع على الاسم تعريفان".

قال صاحب "الكافي": "المصدر المقدر بأن والفعل معرفة - وإن كان منونا - لأنه في معنى ما هو معرفة؛ بدليل الإخبار عنه بالمعرفة في غير ما موضع، قال

ص: 86

تعالى (إِنَّمَا كَانَ قَوْلَ الْمُؤْمِنِينَ إِذَا دُعُوا إِلَى اللَّهِ وَرَسُولِهِ لِيَحْكُمَ بَيْنَهُمْ أَنْ يَقُولُوا سَمِعْنَا وَأَطَعْنَا)، وقال تعالى (ثُمَّ كَانَ عَاقِبَةَ الَّذِينَ أَسَاءُوا السُّوأَى أَنْ كَذَّبُوا بِآَيَاتِ اللَّهِ)، فالألف واللام الداخلتان على المصدر كالألف واللام الداخلتين في الذي والتي؛ لأن تعريف هذا بالصلة، وكذلك في (الآن)؛ لأن تعريفها بالإشارة كتعريف ثم، فإذا صح التعريف بغير الألف واللام ثبت أنهما زائدتان. وهذا الذي ذكرته في المصدر المقدر بأن والفعل.

وأما إذا قلت: أعجبني العلم، ولم تأخذه في شخص بعينه - فيلزم لذلك ألا يقدر بأن والفعل، وكذلك الحلم والعقل، وكرهت البذاء، وما أحسن الحياء! وكما جاء في الأثر (الحياء من الإيمان)، فالألف واللام هنا للتعريف بمنزلتهما إذا دخلتا على جميع الأسماء، نحو: الرجل خير من المرأة، والتمرة خير من الجرادة. وهذا المصدر الذي لم يوجد لشخص بعينه، وإنما أخذ حقيقة مجردة عن موادها - لا يعمل لا برفع ولا بنصب، ويكون معرفاً بالألف واللام على طريق الجنس.

وإذا صح أن الألف واللام زائدتان في هذا المصدر المقدر بأن والفعل صح أن وجود المصدر دونهما أحسن من وجودهما فيه. وكذلك إذا صح أن الإضافة هنا تخفيف صح أن وجود هذا المصدر منونا أحسن وأقوى في القياس، إلا أن الإضافة للتخفيف أقرب من زيادة الألف واللام، ولذلك كان إعمال هذا المصدر بالألف واللام ضعيفاً".

ص: 87

وقال أيضاً في المصدر المضاف: "هذه الإضافة المقصود بها التخفيف، والمعنى في: عجبت من قيام زيد، ومن قيام زيد - سواء؛ لأن الموصول لا يكون إلا معرفة؛ ألا ترى أنك إذا قلت: يعجبني أن يقوم زيد - فأن يقوم في تقدير مصدر معروف" انتهى كلامه.

وفي دعواه أن المصدر المنون معرفة، وأن ما فيه أل معرفة بغير أل، وفي أن الإضافة في المضاف للتخفيف مع كون المصدر معرفة - نظر، وقد نص النحاة على أنه إذا كان منوناً نكرة، وأن الإضفة محضة، وأن أل معرفة.

وقوله ويضاف إلى المرفوع أو المنصوب مثال إضافته إلى المرفوع قوله تعالى (فَاسْتَبْشِرُوا بِبَيْعِكُمُ)، (وَمَا كَانَ اسْتِغْفَارُ إِبْرَاهِيمَ)، (وَكَذَلِكَ أَخْذُ رَبِّكَ إِذَا أَخَذَ الْقُرَى وَهِيَ ظَالِمَةٌ إِنَّ أَخْذَهُ أَلِيمٌ شَدِيدٌ)، (لَذُو مَغْفِرَةٍ لِلنَّاسِ عَلَى ظُلْمِهِمْ)، (يَفْرَحُ الْمُؤْمِنُونَ (4) بِنَصْرِ اللَّهِ). ومثال إضافته إلى المفعول (لَا يَسْأَمُ الْإِنْسَانُ مِنْ دُعَاءِ الْخَيْرِ)، (لَقَدْ ظَلَمَكَ بِسُؤَالِ نَعْجَتِكَ).

وقوله ثم يستوفى العمل كما كان يستوفيه العمل أي: إن أضيف إلى /فاعل انتصب بعده المفعول، نحو قوله تعالى (كَذِكْرِكُمْ آَبَاءَكُمْ)، (وَلَوْلَا دَفْعُ اللَّهِ

ص: 88

النَّاسَ)، (وَأَخْذِهِمُ الرِّبَا وَقَدْ نُهُوا عَنْهُ وَأَكْلِهِمْ أَمْوَالَ النَّاسِ)، (وَأَكْلِهِمُ السُّحْتَ)، ونحو ذلك مما يكثر وجوده.

وإن أضيف إلى مفعول ارتفع الفاعل، وهذا ليس بالكثير، ولم يجيء في القرآن منه إلا ما رواه يحيى بن الحارث الذماري عن ابن عامر أنه قرأ:(ذِكْرُ رَحْمَةِ رَبِّكَ عَبْدَهُ زَكَرِيَّا)، بضم الدال والهمزة، وفي الحديث "وحج البيت من استطاع إليه سبيلاً"، وقال الأقيشر الأسدي:

أفنى تلادي وما جمعت من نشب

قرع القواقيز أفواه الأباريق

وقال آخر:

رد إضناؤك الغرام الذي كا

ن عذولا ممهدا لك عذرا

وقال آخر:

ألا إن ظلم نفسه المرء بين

إذا لم يصنها عن هوى يغلب العقلا

وقال آخر:

أمن رسم دار مربع ومصيف

لعينيك من ماء الشؤون وكيف

ص: 89

فمربع مرفوع برسم، ورسم مصدر عند أبي علي، وقد تؤول على خلاف هذا.

فأما قول الحطيئة:

أرسم ديار من هنيدة تعرف

بأسقف من عرفانها العين تذرف

فخرجه ابن عصفور على أنه من باب إضافة المصدر للمفعول به ورفع الفاعل بعده.

ولا يتعين ما قاله؛ إذ يحتمل أن تكون العين مبتدأ، وفاعل عرفانها محذوف، وهو ضمير المخاطب، والإضافة إلى المفعول مع وجود الفاعل جائزة، لكن إضافته إلى الفاعل مع وجود المفعول أحسن؛ لأنه لا يتصور ذلك حتى يزال الفاعل عن رتبته فيقدم عليه المفعول، ولشدة طلب المصدر للفاعل استسهل الفصل بالمفعول بينه وبين الفاعل مبقى على اقتضائه من إضافته إليه، وجعلوه كلا فصل.

وذهب بعض النحويين إلى أن إضافته للمفعول ورفع الفاعل بعده لا تجوز إلا في الشعر. وقال أبو الحسين بن أبي الربيع: "لا أعلمه جاء في القرآن، لكنه جاء في الشعر وفي قليل من الكلام" انتهى. وقد نص س على إجازة ذلك في الكلام.

ص: 90

وفي "البسيط": وإذا حصر الفاعل والمفعول فالأحسن الإضافة إلى المفعول. قال: وفيه نظر، ولم يظهر من كلام س ترجيحن ورجح بعضهم إضافته إلى الفاعل؛ لأنه أخص به من المفعول؛ إذ المفعول كالفضلة، ولأنه مستبد بالفاعل بالاتصالز وكذلك/ يضاف إلى ما أقيم مقام الفاعل، كقوله تعالى (وَهُمْ مِنْ بَعْدِ غَلَبِهِمْ سَيَغْلِبُونَ)، ويجوز تقديم أحدهما على الآخر حيث لا يلبس.

وقوله ما لم يكن الباقي فاعلا فيستغنى عنه غالباص تقدم تمثيله في نحو (لَا يَسْأَمُ الْإِنْسَانُ مِنْ دُعَاءِ الْخَيْرِ).

وقوله وقد يضاف إلى ظرف فيعمل بعده عمل المنون المصدر يضاف إلى الظرف كثيرا، نحو قوله تعالى (تَرَبُّصُ أَرْبَعَةِ أَشْهُرٍ)، (فَصِيَامُ شَهْرَيْنِ)، (بَلْ مَكْرُ اللَّيْلِ وَالنَّهَارِ)، وذلك على حسب التوسع في أن اجري المصدر في التوسع مجرى الفعل، لا أن ذلك على تقدير الإضافة بـ"في" كما ذهب إليه المصنف في باب الإضافة، وسيأتي الكلام معه - إن شاء الله - على ذلك.

وإذا أضفت المصدر إلى الظرف فإنه يجوز لك أن تكمل عمله بالرفع والنصب معاً إن شئت؛ قال الشاعر:

رب ابن عم لسليمى مشمعل

طباخ ساعات الكرى زاد الكسل

ص: 91

وتقول: عرفت انتظار يوم الجمعة زيد عمراً، ذكره س. ومن منع من ذكر الفاعل والمصدر منون منع هذه المسألة ونحوها.

-[ص: ويتبع مجروره لفظاً ومحلاً ما لم يمنع مانع. فإن كان مفعولاً ليس بعده مرفوع بالمصدر جاز في تابعه الرفع والنصب والجر.

ويعمل عمله اسمه غير العلم، وهو ما دل على معناه، وخالفه بخلوه لفظاً وتقديراً دون عوض من بعض ما في فعله، فإن وجد عمل بعد ما تضمن حروف الفعل من اسم ما يفعل به أو فيه فهو لمدلول به عليه.]-

ش: الإتباع يشمل النعت والتأكيد والبدل والعطف، والمجرور يشمل الفاعل الذي أضيف إليه المصدر، والمفعول الذي أضيف إليه. ومثال إتباعه لفظاً: يعجبني أكل زيد الظريف الطعام، وأكل زيد نفسه الخبز، وأكل زيد أخيك الخبز، وأكل زيد وعمرو الخبز. ويعجبني شرب اللبن الصرف زيد، وشرب اللبن كله زيد، وشرب اللبن لبن الضأن زيد، وشرب اللبن والعسل زيد.

وقوله ومحلا يعني أنه إن كان المضاف إليه المصدر فاعلاً رفعت التابع، أو مفعولاً نصبت التابع، وإن اعتقدت في المصدر أنه يضاف إلى المفعول الذي لم يسم فاعله - وهو مذهب المصنف - رفعت التابع أيضاً، فتقول: يعجبني اكل زيد الظريف الخبز، ويعجبني شرب اللبن الصرف زيد، ويعجبني ركوب الفرس المسرع، وكذلك في باقي التوابع.

وظاهر كلام المصنف جواز مراعاة المحل في جميع التوابع، وهذه مسألة خلاف، فيها ثلاثة مذاهب:

أحدها: مذهب س ومحققي البصريين، وهو أنه لا يجوز فيه الإتباع على المحل.

ص: 92

والثاني: مذهب الكوفيين وجماعة من البصريين، وهو أنه يجوز الإتباع على المحل، وقد ذكرنا/ أنه ظاهر كلام المصنف، إلا أن الكوفيين في الإتباع على محل المجرور المفعول يلتزمون ذكر الفاعل، ولا يجوز عندهم هنا حذف الفاعل، فتقول: عجبت من شرب الماء واللبن زيد.

والثالث: مذهب أبي عمر، وهو التفصيل، فأجاز ذلك في العطف والبدل، ومنع ذلك في النعت والتوكيد. وحجته في ذلك أن العطف والبدل عنده من جملة أخرى، فالعامل في الثاني غير العامل في الأول، وأما الصفة والتأكيد فالعامل فيهما واحد، ومحال - وهما شيء واحد - أن يكون الشيء مجروراً مرفوعاً أو مجروراً منصوباً.

وأما مذهب س فمبني على أن الحمل على الموضع إنما يكون حيث محرز الموضع لا يتغير عند التصريح بالموضع، وهنا لو صرحت برفع الفاعل أو نصب المفعول لتغير العامل بزيادة تنوين فيه.

وأما مذهب الكوفيين ومن وافقهم من البصريين فاستدلوا على ذلك بالسماع، قرأ الحسن (أُولَئِكَ عَلَيْهِمْ لَعْنَةُ اللَّهِ وَالْمَلَائِكَةِ وَالنَّاسِ أَجْمَعِينَ)، قال الفراء:"هو جائز كقولك: أن يلعنهم الله"، وقال زياد العنبري:

ص: 93

قد كنت داينت بها حسانا

مخافة الإفلاس والليانا

يحسن بيع الأصل والقيانا

وقال لبيد:

حتى تهجر في الرواح وهاجه

طلب المعقب حقه المظلوم

وقال امرؤ القيس:

أحار ترى برقاً أريك وميضه

كلمع اليدين في حبي مكلل

يضيء سناه أو مصابيح راهب

أهان السليط في الذبال المفتل

وقال النابغة:

فانشق عنها عمود الصبح جافلة

عدو النحوص تخاف القانص اللحما

تحيد من أستن سود أسافله

مشي الإماء الغوادي تحمل الحزما

أو ذو وشوم بحوضى بات منكرسا

في ليلة من جمادى أخفضلت ديما

وقال:

ص: 94

يا، لعنة الله والاقوام كلهم

والصالحون على سمعان من جار

في رواية من رفع "والأقوام". وقال:

هويت ثناء مستطابا مؤبداً

فلم تخل من تمهيد مجد وسؤددا

وقال:

لقد عجبت، وما في الدهر من عجب

أني قتلت وأنت الحازم البطل

/السالك الثغرة اليقظان سالكها

مشي الهلوك، عليها الخيعل الفضل

وقال:

ما جعل امرأ لقوم سيدا

إلا اعتياد الخلق الممجدا

وفي الحديث (أمر بقتل الأبتر وذو الطفيتين). وقال الفراء: عجبت من تساقط البيوت بعضها على بعض، الخفض على اللفظ، والرفع على المعنى.

فقوله (والملائكة) عطف على محل (الله)، و"الليانا" عطف على محل "الإفلاس"، و"القيانا" عطف على محل "الأصل"، و"المظلوم" نعت على محل "المعقب"، و"أو مصابيح" عطف على محل "اليدين"، و"أو ذو وشوم" عطف على محل "النحوص"، و"الأقوام" عطف على محل "الله"، و"سؤددا" عطف على محل "مجد"، و"الفضل" نعت على محل "الهلوك"، و"الممجدا" نعت على محل "الخلق"،

ص: 95

و (ذو الطفيتين) عطف على محل (الأبتر)، و"بعضها" بدل على محل "البيوت". فظاهر ما ورد عن العرب من هذا كله يجوز الإتباع على المحل، ويحتاج مانع ذلك إلى تأويل.

وقد تؤول ذلك على إضمار فعل يفسره المصدر. وتأول السيرافي "والليانا" على أنه معطوف على "مخافة"، على تقدير حذف مضاف، أي: ومخافة الليان، فحذف المضاف، وأقيم المضاف إليه مقامه. وتأوله ابن يسعون على أنه مفعول معه، أي: مخافة الإفلاس مع الليان.

وتأول قاسم بن ثابت السرقسطي رفع "المظلوم" على أنه فاعل بطلب، و"المعقب" مفعول بطلب، والمعقب: هو الماطل في هذا التأويل. وتأوله أبو حاتم على أنه بدل من الضمير المستكن في المعقب. وتأوله أبو علي في "التذكرة" على أنه فاعل بقوله: حقه، وحقه: فعل ومفعول، والمظلوم: فاعل.

وتؤول "أو مصابيح" على أنه عطف على "سناه" على التشكيك، وهو منزع عجيب، من "البديع".

وتؤول "أو ذو وشوم" على أن التقدير: أو عدوها عدو ذي وشوم، فحذف المبتدأ، وأبقى خبره، وحذف المضاف، وأقيم المضاف إليه مقامه.

وتأول بعضهم رفع "الفضل" على أنه مرفوع على الجوار، كما خفضوا على الجوار في قولهم: هذا جحر ضب خرب.

ص: 96

ومن جوز الإتباع على المحل من البصريين فالاختيار عندهم الحمل على اللفظ، وأما الكوفيون فكذلك إن لم يفصل بين التابع والمتبوع بشيء، فإن فصل اعتدل عندهم الحمل على اللفظ والحمل على الموضع، نحو: يعجبني ضرب زيد عمرو وبكراً، بنصب بكر وخفضه، وقيامك في الدار نفسك ونفسك، بالجر والرفع على حد سواء في الجودة.

هذا ما لم يكن المفعول المضاف إليه المصدر ضميراً، فالعطف على الموضع، ولا يجوز على الخفض إلا في ضرورة الشعر، نحو: يعجبني إكرامك زيد وعمراً، بنصب عمرو خاصة، وكذلك: /يسرني جلوسك عندنا وأخوك.

قال ابن الأنباري: لو قيل قيامك في الدار وزيد كان مكروهاً مستقبحاً بملاصقة الكاف وبالبعد عنها؛ لقبح عطف ظاهر على مكني مخفوض، وليس بمستحيل؛ لأن بعض العرب قاله. وقرأ قارئون:(تَسَاءَلُونَ بِهِ وَالْأَرْحَامَ)، عطف على الهاء.

وقال الفراء: عجبت من ضرب عبد الله ومحمد - مستكره، ويجوز في الشعر. وكذا النعت والتوكيد عنده، فإن فرقت حسن عنده، فقلت: عجبت من ضرب عبد الله زيداً ومحمد. وقال هشام نحوه، إلا أنه لم يقل: يجوز في الشعر، فكأنه جائز عنده في الشعر وفي غيره.

وقوله ما لم يمنع مانع احتراز من نحو: عرفت قربك، فإنه لابد في العطف عليه من إعادة المضاف.

وقوله فإن كان إلى قوله والجر أي: فإن كان المجرور بالإضافة مفعولاً - مثاله: عرفت تطليق المرأة - فيجوز في نعتها والعطف عليها والبدل والتوكيد الجر

ص: 97

على اللفظ، والنصب على تقدير المصدر بفعل الفاعل، والرفع على تقديره بفعل ما لم يسم فاعله. وهذا الذي ذكره هو على ما اختاره من جواز الإتباع على المحل، ومن جواز اعتقاد بناء المصدر للمفعول الذي لم يسم فاعله.

وقوله ويعمل عمله اسم غير العلم أي: اسم المصدر، واسم المصدر على ضربين: علم، وغير علم:

فالعلم: ما دل على معنى المصدر دلالة مغنية عن أل لتضمن الإشارة إلى حقيقته، كيسار وبرة وفجار، فهذه وأمثالها لا تعمل عمل الفعل؛ لأنها خالفت المصادر الأصلية بكونها لا يقصد بها الشياع، ولا تضاف، ولا تقبل أل، ولا توصف، ولا تقع موقع الفعل ولا موقع ما يوصل بالفعل، ولذلك لم تقم مقام المصدر الأصلي في توكيد الفعل وتبيين نوعه أو مراته.

وغير العلم: ما ساواه في المعنى والشياع وقبول أل والإضافة والوقوع موقع الفعل وموقع ما يوصل بالفعل

وقوله وهو ما دل على معناه إلى قوله في فعله يعني أن اسم المصدر غير العلم هو ما دل على معنى المصدر، وخالفه في اللفظ أو في التقدير من بعض ما في الفعل، كوضوء وغسل، هما مساويان للتوضؤ والاغتسال في المعنى والشياع وجميع ما نفي عن العلم، وخالفاه بخلوهما من بعض ما في فعلهما، وهما توضأ واغتسل، وحق المصدر أن يتضمن حروف الفعل بمساواة، كتوضأ توضؤا، أو بزيادة عليه، كأعلم إعلاماً، ودحرج دحرجة.

واحترز بقوله لفظاً وتقديراً من فعال مصدر فاعل كقتال، فإنه مصدر مع خلوه عن المدة الفاصلة بين فاء فعله وعينه؛ لأنها حذفت لفظاً، واكتفي بتقديرها بعد الكسرة، وقد تثبت فيقال: قيتال.

ص: 98

واحترز بقوله دون عوض من عدة، فإنه مصدر وعد مع خلوه من الواو؛ لأن التاء التي في آخره عوض /منها، فكأنها باقية. وكذا: تعليم، فإنه مصدر علم مع خلوه من التضعيف، فكأنه باق، ولذلك إذا جيء بالمصدر مضعفاً ككذب كذاباً استغني عن التاء. ونسب التعويض إلى تاء تعليم دون يائه لأن ياءه مساوية لألف إكرام واستماع وانطلاق واستخراج ونحوها من المدات التي قصد بها ترجيح لفظ المصدر على لفظ الفعل الزائد على ثلاثة أحرف دون حاجة إلى تعويض.

ومن المحكوم بمصدريته مع خلوه من بعض حروف فعله كينونة وثواب وعطاء وطاعة وطاقة وجابة، الأصل كيونونة وإثواب وإعطاء وإطاعة وإطاقة وإجابة، فهذه وأمثالها مصادر لقرب ما بينها وبين أصلها، بخلاف ما بينه وبين الأصل بعد وتفاوت، كعون وعشرة وكبر وعمر وغرق وكلام، بالنسبة إلى: إعانة ومعاشرة وتكبر وتعمير وإغراق وتكليم، فهذه وأمثالها أسماء مصادر.

وأما ما ليس فيه إلا غرابة وزنه، كدعابة ورغباء وغلواء - فهو مصدر، وجعله اسم مصدر تحكم بغير دليل.

ومن إعمال "ثواب" قول حسان:

لأن ثواب الله كل موحد

جنان من الفردوس فيها يخلد

ومن إعمال "عطاء" قول القطامي:

أكفراً بعد رد الموت عني

وبعد عطائك المئة الرتاعا

وفي حديث الموطأ (من قبلة الرجل امرأته الوضوء)، ومنه قول الشاعر:

ص: 99

إذا صح عون الخالق المرء لم يجد

عسيراً من الآمال إلا ميسراً

وقول الآخر:

بعشرتك الكرام تعد منهم

فلا ترين لغيرهم ألوفا

وقول الآخر:

قالوا: كلامك دعدا وهي مصغية

يشفيك، قلت: صحيح ذاك لو كانا

انتهى الكلام على اسم المصدر، وهو من كلام المصنف في الشرح، وفي بعض ما ذكر خلاف، فنقول:

اسم المصدر يقال باصطلاحين:

أحدهما: ما ينقاس بناؤه من الثلاثي على مفعل، ومما زاد على صيغة اسم المفعول على ما تقرر في بابه، وهذا يعمل عمل المصدر، قال:

ومغزاه قبائل غائظات

على الذهيوط في لجب لهام

وقال:

ص: 100

فظلت بملقى واحف جرع المعى

قياماً تفالى مصلحما أميرها

وقال:

/ومجنبنا جرداً إلى أهل يثرب

عناجيج، منها متلد ونزيع

وقال:

جزى الله أبناء العشيرة لامة

بمتركهم آثارنا يوم قطقط

وقال:

كأن مجره الأبطال قسراً

إلى أشباله حطب رفيت

وقال:

ومفحصها عنها الحصى بجرانها

ومثنى نواج، لم يخنهن مفصل

وقال:

ألم تعلم مسرحي القوافي

فلا عيابهن ولا اجتلابا

وقال:

ص: 101

أظلوم إن مصابكم رجلاً

أهدى السلام تحية ظلم

وقال:

يا دار مية من محتلها الجرعا

هاجت لي الهم والأحزان والوجعا

وقال:

فأصبح في مداهن باردات

بمنطلق الجنوب على الجهام

وقال:

مستعان العبد الإله يريه

كل مستصعب من الأمر هينا

ولا خلاف بين البصريين والكوفيين أن كل فعل تجاوز ثلاثة أحرف فإنه يجوز أن يأتي اسم مصدره على قياس مفعوله قياساً مطرداً. فهذا النوع من اسم المصدر يجري مجرى المصدر في جميع أحكامه.

والاصطلاح الثاني: ما كان أصل وضعه لغير المصدر كالثواب والعطاء والدهن والخبز والكلام والكرامة والكحل والرعي والطحن ونحوها، وهي الأسماء التي أخذت من مواد الأحداث، فهذه وضعت لما يثاب به، ولما يعطى، ولما يدهن به، وللجمل المقولة، ولما يكرم به، ولما يكحل به، ولما يرعى، ولما يطحن. فهذا النوع من اسم المصدر فيه الخلاف بين البصريين والكوفيين:

ص: 102

ذهب البصريون إلى أن شيئاً من هذه لا يعمل.

وذهب الكوفيون والبغداديون إلى جواز إعمالها، فأجاز الكسائي والفراء وهشام: عجبت من كرامتك زيداً، ومن طعامك طعاماً.

واستثنى الكسائي من ذلك ثلاثة ألفاظ، فلم يعملها، وهي الخبز والقوت والدهن، فلا /تقول: عجبت من خبزك الخبز، ولا عجبت من دهنك رأسك، ولا من قوتك عيالك. وأجاز ذلك الفراء. وقال هشام: ولا يمتنع القياس. وقال الفراء: سمعت أبا ثروان يقول: أتيته لكرامته إياي. وجاء أيضاً ما أنشدنا من قوله:

.......................................

وبعد عطائك المئة .............

و:

لأن ثواب الله كل موحد

......................................

و:

قالوا: كلامك دعدا ........................

........................................

وقول ذي الرمة:

ألا هل إلى مي سبيل وساعة

تكلمني فيها من الدهر خاليا

فأشفي نفسي من تباريح ما بها

فإن كلاميها شفاء لما بيا

ولا يجوز هذا عند البصريين إلا إن اضطر شاعر، فيستعمل اسم المصدر استعمال المصدر.

وتحقيق الخلاف بين الفريقين هل ينقاس أن يطلق اسم المصدر مجازاً على المصدر ويعمل عمل المصدر أم لا؟ فقال البصريون: لا يجوز إلا إن اضطر شاعر إلى ذلك، فيطلقه عليه، ويعمله. وقال الكوفيون والبغداديون: ينقاس ذلك.

ص: 103

وما ذكرناه من أن ثواباً وعطاء وكلاماً هو من اسم المصدر مخالف لما ادعاه المصنف أنها مصادر. وكذلك دعواه أن عوناً وعشرة وكبراً وعمراً وغرقاً وكلاماً أسماء مصادر، ليس عندنا كذلك، بل هي مصادر جاءت على غير قياس، وليس كل ما خالف القياس من المصادر يقال فيه: إنه اسم مصدر، وإلا كانت أسماء المصادر أكثر من المصادر.

والذي أذهب إليه في هذا المسموع من هذا النوع أن المنصوب بعده ليس منصوباً باسم المصدر، ولا أجري مجرى المصدر في العمل، لا في ضرورة ولا في غيرها، بل هو منصوب بإضمار فعل يفسره ما قبله، كما أذهب إلى أن المصدر الذي لفعل لازم إذا جاء بعده مفعول لم يكن منصوباً بذلك المصدر؛ إذ ليس هو مصدراً للفعل المتعدي، وذلك نحو ما حكى الكسائي عن العرب: الحمد لله على غناه إياي، التقدير: أغناني، فلما حذف العامل الذي هو أغنى انفصل الضمير.

وجعل ابن عصفور "أظلوم إن مصابكم رجلاً" من اسم المصدر الذي لا يعمل إلا حيث سمع. وذلك وهم فاحش؛ لأن مصاباً من اسم المصدر القياسي من أفعل المعتل العين؛ ألا ترى أن فعله أصاب، فهو من المقيس الذي أجمع عليه البصريون والكوفيون.

وذكر ابن المصنف في شرحه أرجوزة أبيه أن اسم المصدر هو ما أوله ميم مزيدة لغير مفاعلة، كالمضرب والمحمدة، أو كان لغير ثلاثي بوزن ما للثلاثي، كالغسل والوضوء، وهذا الثاني عندنا مصدر لا اسم مصدر.

ص: 104

وقوله فإن وجد إلى آخر المسألة مثال ما يفعل به: الدهن، والكحلن يطلق على ما يدهن بهن وما يكحل به. ومثال ما يفعل فيه ما استعمل اسم مكانن نحو (كِفَاتًا) من قوله تعالى:(أَلَمْ نَجْعَلِ الْأَرْضَ كِفَاتًا (25) أَحْيَاءً وَأَمْوَاتًا).

ونقص /المصنف أن يقول: أو من اسم ما يفعل، نحو الخبز والطعام والطحن والرعي.

وقوله فهو لمدلول به عليه أي: لفعل دل عليه باسم ما يفعل به أو فيه، وكل هذا يطلق عليه اسم مصدر، ومعناه اسم أصل وضعه ألا يكون مصدراً بل مفعولاً به أو فيه من حيث الوضع الأول، ثم أطلق ويراد به المصدر مجازاً، فهذا هو الذي وقع في إعماله الخلاف الذي تقدم ذكره، وقد روي عن العرب مثل: أعجبني دهن زيد لحيته، وكحل هند عينها، وقال تعالى:(أَلَمْ نَجْعَلِ الْأَرْضَ كِفَاتًا (25) أَحْيَاءً وَأَمْوَاتًا)، فالدهن والكحل والكفات ليس مصادر؛ إذ الدهن ما يدهن به، والكحل ما يكحل به، والكفات ما تكفت فيه الأشياء، أي: تجمع وتحفظ، فهذا ونحوه محمول على إضمار فعل، أي: دهن لحيته، وكحلت عينها، وتكفت أحياء وأمواتاً.

قال المصنف في الشرح: "ولك أن تنصب أحياءً وأمواتاً على التمييز؛ لأن كفات لشيء مثل وعائه، والموعى ينتصب بعد الوعاء على التمييز" انتهى.

وأما قول النابغة:

ص: 105

كأن مجر الرامسات ذيولها

عليه حصير، نمقته الصوانع

فيتخرج على حذف من الأول، أو حذف العامل، فتقدره: كأن موضع مجر الرامسات ذيولها، فيكون مجر اسم مصدر، وانتصب به ذيولها. أو يكون تقديره: تجر ذيولها، ويكون مجر اسم مكان. وكذلك قوله:

كأن مجره الأبطال ...........

................................

وأما قوله:

فظلت بملقى واحف جرع المعى

..................................

فتقديره: بموضع لقاء واحف جرع المعى.

والمصدر الذي يجعل زماناً لا يقوى قوة المصدر، ولا يعمل عمله؛ لأنه قد انتقل معناه، نحو: أتيتك خلافة بني العباس، وخفوق النجم.

* * *

ص: 106

-[ص: فصل

يجيء بعد المصدر الكائن بدلاً من الفعل معمول، عامله على الأصح البدل لا المبدل منه، وفاقاً لسيبويه والأخفش.]-

ش: هذا هو المصدر الذي أشار إليه بقوله في أول الباب "إن لم يكن بدلاً من اللفظ"، ولكونه بدلاً من العامل لا يظهر معه ناصبه، ولا يتقدر معه بحرف مصدري، وتقدمت مواقعه في باب المفعول المطلق، وهنا يبين مواقعه متعدياً.

واختلف في هذا المصدر هل ينقاس أم لا على ثلاثة مذاهب:

أحدها: ما ذهب إليه أكثر المتأخرين من أن مذهب س أنه لا ينقاس، وأنه يقصره كله على السماع.

والمذهب الثاني: أنه ينقاس في الأمر والدعاء والاستفهام بتوبيخ وبغيره، وفي التوبيخ بغير استفهام، وفي الخبري المقصود به الإنشاء أو الوعد، وهو اختيار المصنف في الشرح، وزعم أن في كلام س ما يدل على أنه منقاس فيما كان منها أمراً أو دعاء أو توبيخاً أو إنشاء.

والمذهب الثالث: أنه ينقاس في الأمر والاستفهام فقط، وبه قال بعض أصحابنا، وحكاه المصنف في باب ظن عن الأخفش والفراء.

فمما جاء منه أمراً قول /الشاعر، أنشده س:

ص: 107

على حين ألهى الناس جل أمورهم

فندلاً - زريق - المال ندل الثعالب

وقول الآخر:

هجراً المظهر الإخاء إذا لم

يك في النائبات جد معين

ودعاء قول الشاعر:

يا قابل التوب غفراناً مآثم، قد

أسلفتها، أنا منها مشفق وجل

وقول الآخر:

إعانة العبد الضعيف على الذي

أمرت، فميقات الجزاء قريب

واستفهاماً بتوبيخ قوله:

أعلاقة أم الوليد بعد ما

أفنان رأسك كالثغام المخلس

وقوله:

أبغياً وظلما من علمتم مسالماً

وذلا وخوفاً من يجاهركم حربا

وقوله:

أبسطاً بإضرار يميناً ومقولاً

ومدعياً مجداً تليداً وسؤددا

وتوبيخاً بغير استفهام قوله:

وفاقاً بني الأهواء والغي والونى

وغيرك معني بكل جميل

على هذا أنشده المصنف في الشرح، ويحتمل أن يكون حذفت منه همزة الاستفهام، والتقدير: أوفاقاً؟

ص: 108

قال المصنف في الشرح: "ويكثر أيضاً وقوعه موقع فعل خبري مقصود به الإنشاء، كقول من أبصر ما يتعجب منه: عجباً، وكقول المعترف بالنعمة: حمداً وشكراً لا جحوداً وكفراً، ومنه قول الشاعر:

حمداً الله ذا الجلال وشكراً

وبداراً لأمره وانقيادا

وقد يقع الخبر به وعداً، كقوله:

قالت: نعم، وبلوغاً بغية ومنى

فالصادق الحب مبذول له الأمل

وهذه الأنواع عند الأخفش والفراء مطردة صالحة للقياس على ما سمع منها. وبذلك أقول لكثرته في كلام العرب ولما في ذلك من الاختصار".

وهذه المصادر التي هي بدل من اللفظ بالفعل منصوبة بأفعل منها واجبة الإضمار؛ فإذا قلت: ضرباً زيداً، بمعنى: اضرب زيداً - فالناصب للمصدر اضرب واجبة الإضمار، وانتصابه/ على أنه مصدر.

وفي الإفصاح: "إن ما كان بمعنى الأمر، نحو: ضرباً زيداً، وشتماً عمراً - فالمعنى: اضرب زيداً، واشتم عمراً، الناصب له عند س الزم ضرباً زيداً، فهو مفعول بإضمار فعل لا يجوز إظهاره، وناصب لأنه صار عوضاً من اضرب. وغيره يرى أن الناصب له: اضرب".

وقوله عامله على الأصح البدل إلى آخره اختلف في العامل في المعمول: فذهب س والأخفش والزجاج والفارسي إلى أن المصدر نفسه هو الناصب للمفعول، لما جعلته العرب بدلاً منه ورث العمل الذي كان للفعل. وإلى هذا مال حذاق المتأخرين.

ص: 109

وذهب المبرد والسيرافي وجماعة إلى أن النصب في المفعول هو بالفعل المضمر الناصب للمصدر.

وذكرت هذين المذهبين لشيخنا الأستاذ أبي الحسن بن الضائع، فرجح مذهب س، وقال:"الدليل على أن انلعامل في المنصوب بعد المصدر هو المصدر إضافته إليه".

وانبنى على هذا الاختلاف الاختلاف في تقديم المنصوب على هذا المصدر؛ فمن رأى النصب بـ"اضرب" المضمرة أجاز التقديم، فيقول: زيداً ضرباً. وممن يرى جواز التقديم أبو العبس وأبو بكر وعبد الدائم القيرواني، وقد تؤول ذلك على س.

ومن جعل العمل للمصدر لنيابته مناب الفعل، وهو مذهب أبي الحسن والفراء، قال أبو الحسن في هذا الباب: وكل شيء كان في موضع الفعل فلا يجوز أن تأمر به لغائب، ولا تقدم فيه. قيل: وهذا ظاهر مذهب س. ونقل ابن أصبغ عن أبي الحسن جواز التقديم، فيكون عنه القولان.

وقد أجاز بعض من رأى العمل للمصدر تقديم مفعوله عليه. وفي "الإفصاح": "ومن يضمر الزم، ويعمل ضرباً بالنيابة - لا يرى تقديم معموله، وقد رأى بعضهم تقديمه على هذا الوجه" انتهى.

ص: 110

وفي البسيط: "وأما كونه نائباً عن فعله في الدعاء والأمر، نحو: ضرباً زيداً، وسقياً زيداً - فقيل: يعمل لأنه ناب عن فعله، فهو أقوى منه إذا كان غير نائب، فلا يشترط فيه أن، وإذا عملت الحروف بالنيابة فالمصادر أولى، هذا إن جعلته نائباً عن اضرب.

وأما إن جعلت المصدر منصوباً بفعل غيره، كالزم ونحوه مما ترك إظهاره - وقد نسب هذا القول إلى س في الأمر - فلا يبعد تقديره هنا بأن والفعل، فيكون التقدير: الزم أن تضرب زيداً، ولا يبعد حمل الدعاء عليه؛ لأن الدعاء بصيغة الأمر.

فإن كان العامل المصدر بالنسابة صح تقديم معموله عليه، نحو: زيداً ضرباً، وإن كان عاملاً هنا لا بالنيابة بل بأنه في تأويل أن - وهو معمول للفعل - لم يجز التقديم. فأما قوله تعالى (فَضَرْبَ الرِّقَابِ) فليس على معنى: فاضربوا الرقاب. وقال المبرد: هو على معنى: (فاضربوا الرقاب ضرباً). وقيل: فاضربوا ضربا مثل ضرب الرقاب. وقال س في قوله:

أعلاقة أم الوليد ...............

........................................

(ناب عن: أتعلق أم الوليد). وقد قيل: لا يعمل. /والأول أصح" انتهى.

ونص س على قبح: زيداً حذرك، وجعله في القبح مثل: زيداً عليك. وقال الأستاذ أبو علي: منع س من تقديم منصوب حذرك لأنه لم يستعمل إلا في الأمر، ولم يفارقه، فصار بمنلة: عليك زيداً، الذي لا يجوز تقديم الاسم فيه. والأحوط أنه لا يقدم على التقديم في نحو ضرباً زيداً إلا بسماع من العرب.

ص: 111

وقد جاء المصدر خبراً صرفاً عارياً مما ذكر، ومنه:

وقوفاً بها صحبي على مطيهم

يقولون: لا تهلك أسى، وتجمل

تقديره: وقف وقوفاً بها صحبي. ولا ينقاس مثل هذا لقلته.

وأما قول الشاعر:

عهدي بها الحي لم تخفف نعامتهم

........................................

فجعله المصنف من المنصوب المراد به الماضي، أي: عهدت. ويحتمل أن يكون مرفوعاً، ويكون من باب: ضربي زيداً قائماً، والجملة من قوله "لم تخفف نعامتهم" في موضع الحال.

وقد جاء نوع من هذا المصدر النائب عن الفعل مصغراً، وذلك قولك رويداً في أحد استعمالاته، فيعرب إذ ذاك، وتجوز إضافته إلى الفاعل، فتقول: رويداً زيداً، ورويدك زيداً. وتجوز أيضاً إضافته إلى المفعول، فتقول: رويد زيد.

واختلفوا في النصب به: فذهب المبرد إلى أنه لا يجوز؛ لأن تصغيره يمنع من ذلك كما منع اسم الفاعل من العمل؛ لأن التصغير من خواس الأسماء، فالنصب بعده إنما يكون بالفعل الناصب لرويداً. وذهب غيره إلى أنه يجوز النصب به.

واختلفوا في السبب الذي عمل لأجله وهو مصغر، ولم يعمل اسم الفاعل المصغر: فذهب الفارسي إلى أنه إنما عمل وهو مصغر حملا ًعلى رويد اسم الفعل، لما شابهه في اللفظ عمل، كقوله:

ص: 112

رويد عليا، جد ما ثدي أمهم

إلينا، ولكن ودهم متماين

وهذا يقتضي أن أبا علي يمنع من إعمال المصدر الموضوع موضع الفعل المصغر فيما عدا رويداً.

وزعم أبو بكر بن طاهر وابن خروف أن السبب في جواز إعماله أن عمله ليس بالشبه كاسم الفاعل، وإنما عمل لوضعه موضع الفعل، فلا يقدح التصغير في إعماله، بخلاف اسم الفاعل، فعمله لشبهه بالفعل المضارع، والتصغير يبعده عن شبه الفعل، فوجب ألا يعمل مصغراً.

قال بعض أصحابنا: وهذا هو الصحيح عندي، وسواء في ذلك رويداً وغيرها من المصادر المصغرة الموضوعة موضع الفعل.

مسألة: اختلفوا في حذف المصدر وإبقاء معموله، فمنهم من منع ذلك لأنه موصول، والموصول لا يحذف. ومنهم من أجاز حذفه إذا كانت الدلالة عليه قوية؛ لأنه في معنى المنطوق، كما قد يحذف المضاف لدلالة الأول عليه، ويبقى عمله في المضاف إليه، قيل: ومنه قوله تعالى: (هل تستطيع ربك)، على قراءة الكسائي، التقدير: هل تستطيع سؤال ربك، حذف سؤال، وأقام ربك مقامه، فأعربه بإعرابه، و (أَنْ يُنَزِّلَ) معمول للسؤال المحذوف؛ /لأنه لا يتعلق بـ (تستطيع)؛ لأن الفعل للغير، ولا يقال: هل تستطيع أن يقوم زيد، فدل على تعلقه بالسؤال المحذوف.

* * *

ص: 113