الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
-[ص:
باب حروف الجر سوى المستثنى بها
فمنها "من"، وقد يقال "منا"، وهي لابتداء الغاية مطلقاً على الأصح، وللتبعيض، ولبيان الجنس، وللتعليل، وللبدل، وللمجاوزة، وللانتهاء، وللاستعلاء، وللفصل، ولموافقة الباء، ولموافقة "في"، وتزاد لتنصيص العموم أو لمجرد التوكيد بعد نفي أو شبهه جارة نكرة مبتدأ، أو فاعلاً، أو مفعولاً به، ولا يمتنع تعريفه ولا خلوه من نفي أو شبهه، وفاقاً للأخفش. وربما دخلت على حال. وتنفرد "من" بجر ظروف لا تتصرف، كقبل وبعد وعند ولدى ولدن ومع، وعن وعلى اسمين. وتختص مكسورة الميم ومضمومتها في القسم بالرب، والتاء واللام بـ"الله"، وشذ فيه: من الله، وتربي.]-
ش: الحرف إن لم يختص بما يدخل عليه فالأصل ألا يعمل فيه، نحو: هل، وبل، والهمزة للاستفهام، وإن اختص وتنزل منزلة الجزء مما دخل عليه لم يعمل، كـ"أل" وحرف التنفيس، وإن لم يتنزل منزلة الجزء فإن اختص بالفعل فقياسه أن يعمل الجزم؛ لأن الجزم مختص بالفعل، وإن اختص بالاسم فقياسه أن يعمل الجر؛ لأن الجر مختص بالاسم، فعمل المختص المختص، أي: عمل الحرف المختص الإعراب المختص بما دخل عليه الحرف، وحروف الجر اختصت بالأسماء، فعملت الإعراب الذي اختص بالأسماء، وهو الجر.
ويسميها الكوفيون حروف الإضافة لأنها تضيف الفعل إلى الاسم؛ ألا تراه يربط بين الاسم والفعل، وحروف الصفات لأنها تحدث صفة في الاسم، فقولك: جلست في الدار، فـ"في" دلت على أن الدار وعاء للجلوس.
وعملت هذه الحروف لشبهها بالفعل في الاختصاص بما دخلت عليه. وكان عملها الجر لأن ما دخلت عليه فضلة، فلم تعمل رفعاً؛ لأن الرفع من إعراب العمد، ولم تنصب لأن ما دخلت عليه موضعه نصب؛ بدليل الرجوع إليه في الضرورة، فلو نصبت لاحتمل أن يكون النصب بالفعل، ودخل الحرف لإضافة معنى الفعل إلى الاسم، كما في: ما ضربت إلا زيداً، فلما تعذر الرفع والنصب لم يبق إلا الجر.
وقوله سوى المستثنى بها تقدم ذلك في الاستثناءن وهي: خلا وحاشا وعدا إذا انجر الاسم بعدها، وأن س لا يكون حاشا عنده إلا حرفاً.
وذهب الفراء إلى أنها لا تكون إلا فعلاً، وأن الاسم الذي بعدها إذا انخفض كان على تقدير اللام، والأصل عنده: قام القوم حاشا لزيد، فحذفت اللام، وبقي الاسم مخفوضاً.
وذهب الأخفش والمبرد والزجاج إلى أنها تكون حرفاً، وقد تكون فعلاً. وهو الصحيح لثبوت النصب بها من كلام العرب.
وأما "عدا" فـ"س" يقول: هي فعل، والأخفش يجعلها مثل خلا. وخلا فيها خلاف، ونقل المهاباذي عن الأخفش أنها حرف، وهو نص الأخفش فيها وفي حاشا في كتابه "الوسطى"، قال الأخفش: /"اعلم أن كل ما استثنيته بحاشا وخلا وسوى وسواء فهو جر أبداً". وقد تقدم النقل عن الأخفش أن حاشا تكون فعلاً، فيكون عنه القولان في حاشا، أحدهما موافق لمذهب س.
وذهب الجمهور إلى أن خلا تكون فعلاً وحرفاً، وقد وهم من نقل اتفاق النحويين على أن خلا يكون الاسم بعدها مخفوضاً ومنصوباً، وأن النصب أكثر من الخفض.
وكان ينبغي للمصنف أن يقول: "وسوى ما ذكر في باب الظروف"، وهما مذ ومنذ، فإنه ذكر أنهما حرفان إذا انجر ما بعدهما.
وقوله فمنها من وقد يقال منا من ثلاثية عند الكسائي، وثنائية عندنا، وزعم أن أصلها منا، فحذفت الألف لكثرة الاستعمال. واستدل على هذه الدعوى بقول بعض بني قضاعة:
بذلنا مارن الخطي فيهم
…
وكل مهند ذكر حسام
منا أن ذر قرن الشمس حتى
…
أغاث شريدهم فنن الظلام
قال: فرد من إلى أصلها لما احتاج إلى ذلك لأجل الوزن؛ ألا ترى أن المعنى: من أن ذر قرن الشمس.
وقال المصنف في الشرح: "حكى الفراء أن بعض العرب يقول في من: منا، وزعم أنه الأصل، وخففت لكثرة الاستعمال" انتهى. وأظن الفراء أخذ ذلك من هذا البيت الذي أنشده الكسائي.
وقد تأوله أبو الفتح على أن "منا" مصدر منى يمني: إذا قدر، ويكون مصدراً استعمل ظرفاً، نحو: خفوق النجم، أي: تقدير أن ذر قرن الشمس وموازنته إلى آخر النهار لا يزيد ولا ينقص.
وقوله وهي لابتداء الغاية مطلقاً على الأصح يعني بقوله "مطلقاً" أي: تدخل لابتداء الغاية في المكان والزمان وغيرهما، مثالها في المكان (مِنَ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ إِلَى الْمَسْجِدِ الْأَقْصَى). وكونها لابتداء الغاية في المكان مجمع عليه.
ومثال ابتداء الغاية في الزمان (مِنْ أَوَّلِ يَوْمٍ أَحَقُّ أَنْ تَقُومَ فِيهِ)، (لِلَّهِ الْأَمْرُ مِنْ قَبْلُ وَمِنْ بَعْدُ). وقال الأخفش في "المعاني":"قال بعض العرب: من الآن إلى غد"، وفي الحديث (من نصف النهار إلى صلاة العصر)، وفيه:(من صلاة العصر إلى مغرب الشمس)، وفيه:(فمطرنا من جمعة إلى جمعة)،
ومنه في حديث عائشة (ولم يجلس عندي من يوم قيل في ما قيل)، وقول أنس:"فلم أزل أحب الدباء من يومئذ"، وفيه: قال عليه السلام لفاطمة: (هذا أول طعام أكله أبوك من ثلاثة أيام)، وقال النابغة:
تخيرن من أزمان يوم حليمة
…
إلى اليوم، قد جربن كل التجارب
وقال جبل بن جوال:
وكل حسام أخلصته قيونه
…
تخيرن من أمان عاد وجرهم
وقال الراجز:/
تنتهض الرعدة في ظهيري
…
من لدن الظهر إلى العصير
وقال بعض الطائيين:
من الآن قد أزمعت حلماً، فلن أرى
…
أغازل خوداً، أو أذوق مداما
وقال:
ألفت الهوى من حين ألفيت يافعاً
…
إلى الآن ممنوا بواش وعاذل
وقال:
ما زلت من يوم بنتم والها دنفا
…
ذا لوعة، عيش من يبلى بها عجب
وقال:
ونجوت من عرض المنو
…
ن من الغدو إلى الرواح
وقال:
كأنهما م الآن لم يتغيرا
…
وقد مر للدارين من بعدنا عصر
وقال:
لمن الديار بقنة الحجر
…
أقوين من حجج ومن دهر
وقال:
من غدوة حتى كأن الشمسا
…
بالأفق الغربي تكسى ورسا
وقال:
من الصبح حتى تطلع الشمس لا ترى
…
من القوم إلا خارجياً مسوما
وقال:
أتعرف أم لا رسم دار معطلا
…
من العام تمحاه، ومن عام أولا
وقال:
من عهد عاد كان معروفاً له
…
أسر الملوك وقتلها وقتالها
وكونها لابتداء الغاية للزمان مختلف فيه: منع ذلك البصريون، وأثبته الكوفيون، وهو الصحيح، وقد كثر ذلك في لسان العرب نثرها ونظمها كثرة تسوغ القياس، وتأويل البصريين لذلك مع كثرته ليس بشيء.
وذهب ابن الطراوة إلى أنك إذا أردت الانتهاء في الزمان والابتداء فيه أتيت بإلى ومن؛ كما أن ذلك يكون في المكان كذلك، فلابد من "من" إذا أردتهما.
قيل له: إذا أردت ذلك في الزمان استعملت مذ، فتقول: ما رأيته مذ يوم الجمعة إلى يوم الأحد. فزعم أن هذا لا يجوز؛ لأن قولك: ما رأيته مذ/ يوم الجمعة، يفهم منه أن انقطاع الرؤية اتصل إلى آخر الإخبار، فلا يحتاج هنا إلى حرف
الانتهاء، وإنما يحتاج إليه حرف لا يستغرق الوقت نحو من، فلابد من دخول من على الزمان في هذا الموضع.
ومثال دخولها لابتداء الغاية في غير المكان والزمان: قرأت من أول سورة البقرة إلى آخرها، وأعطيت الفقراء من درهم إلى دينار، وتقول إذا كتبت كتاباً: من فلان إلى فلان، وفي الحديث:(من محمد رسول الله إلى هرقل عظيم الروم).
واختلف النحويون في "من" بعد أفعل التفضيل، نحو: زيد أفضل من عمرو: فذهب س إلى أنها لابتداء الغاية، ولا تخلو من التبعيض. وذهب المبرد والأخفش الصغير إلى أنها لابتداء الغاية، ولا تفيد معنى التبعيض. وصححه بعض أصحابنا. ومنع ابن ولاد في رده على المبرد أن تكون من لابتداء الغاية، واستدل على ذلك بأن ابتداء الغاية لا يكون إلا بأن يكون لها انتهاء، كقولك: خرجت من الكوفة إلى البصرة، ولا يجوز: زيد أفضل منك إلى جعفر.
وزعم س أن من تكون غاية، فقال:"تقول: رأيته من ذلك الموضع، تجعله غاية رؤيتك كما جعلته غاية حيث أردت الابتداء"، يريد أن من هنا دخلت على المحل الذي وقع فيه ابتداء الرؤية وانتهاؤها، ولذلك سماه غاية لما كان محيطاً بغاية الفعل؛ لأن الغاية هي مدى الشيء، أي: قدره، فيمكن أن يكون في: زيد أفضل من عمرو كذلك، أي: ابتدأ التفضيل منه، وانتهى به.
وقال بعض أصحابنا في قولهم: زيد أفضل من عمرو: "أردت أن تعلم أن زيداً يبتدأ في تفضيله من عمرو، ويكون الانتهاء في أدنى من فيه فضل؛ إذ العادة أن يبتدأ في التفضيل مما يقرب من الشيء ويدانيه في الصفة التي تقع فيها المفاضلة". انتهى. وسيأتي الكلام على من في أفعل التفضيل عند تعرض المصنف لذلك في الشرح إن شاء الله.
وقوله وللتبعيض قال المصنف في الشرح: "ومجيء من للتبعيض كثير، كقوله تعالى (تِلْكَ الرُّسُلُ فَضَّلْنَا بَعْضَهُمْ عَلَى بَعْضٍ مِنْهُمْ مَنْ كَلَّمَ)، وكقوله تعالى (خَلَقَ كُلَّ دَابَّةٍ مِنْ مَاءٍ فَمِنْهُمْ مَنْ يَمْشِي عَلَى بَطْنِهِ وَمِنْهُمْ مَنْ يَمْشِي عَلَى رِجْلَيْنِ وَمِنْهُمْ مَنْ يَمْشِي عَلَى أَرْبَعٍ). وعلامتها جواز الاستغناء عنها بـ (بعض)، كقراءة عبد الله (لَنْ تَنَالُوا الْبِرَّ حَتَّى تُنْفِقُوا مِمَّا تُحِبُّونَ) " انتهى.
وفي "البديع": "وقيل: إن من لأقل من النصف، كقوله تعالى (مِنْهُمُ الْمُؤْمِنُونَ وَأَكْثَرُهُمُ الْفَاسِقُونَ) انتهى.
وما ذكره المصنف من أن "من" تأتي للتبعيض ليس متفقاً عليه، زعم المبرد والأخفش الصغير وابن السراج وطائفة من الحذاق والسهيلي من أصحابنا أنها لا
تكون إلا لابتداء الغاية؛ وأن سائر المعاني التي ذكروها راجع إلى هذا المعنى؛ ألا ترى أنك إذا قلت: أكلت من الرغيف، إنما أوقعت الأكل على جزء، فانفصل ذلك الجزء من الجملة، فآل معنى الكلام إلى ابتداء الغاية.
وذهب الفارسي والجمهور إلى أن من تكون للتبعيض. قال ابن عصفور: "وهو الصحيح/ بدليل أنك لو جعلت مكانها بعضاً لكان المعنى واحداً؛ ألا ترى أنه لا فرق بين قولك: أخذت من ماله، وأخذت بعض ماله، وقبضت من الدراهم، وقبضت بعض الدراهم، ولو وضعتها موضع من التي لابتداء الغاية في نحو: سرت من الكوفة - لم يسغ أن تقول: سرت بعض الكوفة" انتهى.
وما ذهب إليه ابن عصفور من أنه لا فرق بين من التبعيضية وبعض رده بعض شيوخنا، فقال: "يتعلق الأكل بالرغيف على وجهين: أحدهما أنه عمه. والثاني أنه خصه، ولم يقع بجملته، فلحقت من لبيان ذلك. وإذا فهمت هذا فهمت الفرق بين من وبعض، فإنك إذا قلت: أكلت بعض الرغيف - فليس الرغيف متعلق الأكل، وإنما متعلقه البعض، وسيق الرغيف لتخصيص ذلك البعض وزوال شياعه.
وإذا قلت: أكلت من الرغيف - فـ"من" دلت على أن الأكل وقع بالرغيف على جهة التبعيض، والرغيف متعلق الأكل، ودلت من على أنه لم يعمه". قال:"وقد صعب هذا على بعض الطلبة، فأراد أن يسوي بين من وبعض، وفيما ذكرته فرق لمن تدبره" انتهى.
ومن قال لا فرق جعلهما مترادفين، ويمتنع الترادف بين مختلفي الحد.
وقوله ولبيان الجنس قال المصنف في الشرح: "ومجيئها لبيان الجنس كقوله تعالى (يُحَلَّوْنَ فِيهَا مِنْ أَسَاوِرَ مِنْ ذَهَبٍ وَيَلْبَسُونَ ثِيَابًا خُضْرًا مِنْ سُنْدُسٍ)، (خَلَقَ الْجَانَّ مِنْ مَارِجٍ مِنْ نَارٍ) " انتهى.
وكونها لبيان الجنس مشهور في كتب المعربين، ويخرجون عليه مواضع من القرآن، وقال به جماعة من القدماء والمتأخرين، منهم النحاس، وابن بابشاذ وعبد الدائم القيرواني وابن مضاء. واستدلوا على ذلك بقوله (فَاجْتَنِبُوا الرِّجْسَ مِنَ الْأَوْثَانِ)، وقوله (وَعَدَ اللَّهُ الَّذِينَ آَمَنُوا مِنْكُمْ)، وقوله (وَيُنَزِّلُ مِنَ السَّمَاءِ مِنْ جِبَالٍ فِيهَا مِنْ بَرَدٍ)؛ ألا ترى أن الأوثان كلها رجس، فأتى بـ"من" ليبين بما بعدها الجنس الذي قبلها، فكأنه قيل: فاجتنبوا الرجس الذي هو الأوثان، أي: الرجس الوثني. وكذلك: الذين آمنوا الذين هم أنتم؛ لأن الخطاب هو مع المؤمنين، فلذلك لم يتصور أن تكون تبعيضية. وكذلك التقدير: من جبال هي برد؛ لأن الجبال هي البرد لا بعضها.
وقد أنكر ذلك أكثر أصحابنا، وزعموا أنها لم ترد لهذا المعنى، ولا قام دليل على ذلك من لسان العرب. وكذلك قال من زعم أنها لا تكون إلا لابتداء
الغاية. وقالوا هي في قوله تعالى (فَاجْتَنِبُوا الرِّجْسَ مِنَ الْأَوْثَانِ) لابتداء الغاية وانتهائها؛ لأن الأوثان نحاس مصنوع أو ذهب أو غير ذلك، فليس الرجس ذاتها، ولا الجنس الذي صنعت منه، وإنما وقع الاجتناب على عبادتها، ووصف بالرجس المعبود منها، وتكون من في الآية كهي في قولك: أخذته من التابوت؛ ألا ترى أن اجتناب عبادة الوثن ابتداؤه وانتهاؤه في الوثن.
/وأما (وَعَدَ اللَّهُ الَّذِينَ آَمَنُوا مِنْكُمْ) فلا يتعين أن يكون الخطاب خاصاً، بل يقدر الخطاب عاماً للمؤمنين وغيرهم. وأما (مِنْ جِبَالٍ فِيهَا مِنْ بَرَدٍ) فـ (مِنْ جِبَالٍ) بدل من (السَّمَاءِ) بدل اشتمال، و (مِنْ بَرَدٍ) بدل من (جِبَالٍ) بدل شيء من شيء، فيؤول التقدير إلى أن يكون المعنى: وينزل من برد السماء، فتكون من فيه للتبعيض.
وأما ما استدل به فـ"من" في (مِنْ ذَهَبٍ) في موضع الصفة، فهي للتبعيض، وكذلك (مِنْ سُنْدُسٍ).
وأما (مِنْ صَلْصَالٍ)، و (مِنْ مَارِجٍ) فلابتداء الغاية، أي: ابتداء خلق الإنسان من صلصال، وابتداء خلق الجان من مارج.
وأما (مِنْ نَارٍ) فللتبعيض.
وأما: أخزى الله الكاذب من زيد وعمرو - ففيها معنى التبعيض، وفيها معنى التبيين، وهي تلزم في اللفظ أو التقدير، وتلزم العطف في الظاهر، ولا تلزم في الضمير؛ لأنك تقول: منا.
وقوله وللتعليل قال المصنف في الشرح: "ومجيئها للتعليل كقوله تعالى: (يَجْعَلُونَ أَصَابِعَهُمْ فِي آَذَانِهِمْ مِنَ الصَّوَاعِقِ)، و (مِنْ أَجْلِ ذَلِكَ كَتَبْنَا عَلَى بَنِي
إِسْرَائِيلَ)، ومنه قول عائشة: (فما أستطيع أن أقضيه إلا في شعبان، الشغل من رسول الله، صلى الله عليه وسلم، وكقول الشاعر:
ومعتصم بالحي من خشية الردى
…
سيردى، وغاز مشفق سيؤوب"
انتهى. وقال الفرزدق:
يغضي حياء، ويغضى من مهابته
…
فما يكلم إلا حين يبتسم
ومنه: مات من علته، وضحك من كلام زيد، وغضب مما قيل له، ومنه (أَطْعَمَهُمْ مِنْ جُوعٍ)، أي: بسبب الجوع. ومن لا يرى ذلك في الآية قال بالتضمين، أي: خلصهم بالإطعام من جوع وبالأمن من خوف.
وقوله وللبدل قال المصنف في الشرح: "التي للبدل كقوله تعالى: (أَرَضِيتُمْ بِالْحَيَاةِ الدُّنْيَا مِنَ الْآَخِرَةِ)، (وَلَوْ نَشَاءُ لَجَعَلْنَا مِنْكُمْ مَلَائِكَةً فِي الْأَرْضِ يَخْلُفُونَ)، ومنه قول الشاعر:
أخذوا المخاض من الفصيل غلبة
…
ظلماً، ويكتب للأمير أفيلا"
وقوله وللمجاوزة فتكون بمعنى عن واستدل على ذلك بعضهم بقوله تعالى: (فَوَيْلٌ لِلْقَاسِيَةِ قُلُوبُهُمْ مِنْ ذِكْرِ اللَّهِ) أي: عن ذكر الله، وقول العرب: حدثته من فلان، أي: عن فلان.
وقال المصنف في الشرح: "ومجيئها للمجاوزة نحو: عذت منه، وأنفت منه، وبرئت منه، وشبعت ورويت. ولهذا المعنى صاحبت أفعل التفضيل، فإن القائل: زيد أفضل من عمرو - كأنه قال: جاوز زيد عمراً في الفضل. وهذا أولى من أن يقال: إنها لابتداء الارتفاع في نحو: أفضل منه، أو الانحطاط في نحو: شر منه، كما زعم س؛ إذ لو كان الابتداء مقصوداً لجاز أن تقع بعدها إلى. وقد أشار س إلى أن ابتداء الغاية قد /يقصد دون إرادة منتهى، فقال:(تقول: ما رأيته مذ يومين، فجعلتها غاية، كما قلت: أخذته من ذلك المكان، فجعلته غاية، ولم ترد منتهى). هذا نصه.
والصحيح أن من في نحو: أخذته من ذلك المكان، للمجاوزة؛ إذ لو كان الابتداء مقصوداً مع أخذت كما هو مقصود مع حملت في قولك: حملته من ذلك المكان - لصدق على استصحاب المأخوذ أخذ كما يصدق على استصحاب المحمول حمل.
وأما مذ في: ما رأيته مذ يومين، ونحوه - فقد جعلها بعضهم بمعنى في وليس كذلك؛ لأن المراد بما رأيته مذ يومين ونحوه نفي الرؤية في مدة أنت في آخرها، والابتداء والانتهاء مقصودان، واليومان معينان. ولو جيء بـ (في) مكان مذ لم يفهم تعين ولا ابتداء ولا انتهاء.
وقد تقع من موقع مذ في مثل هذا، كقول النبي صلى الله عليه وسلم لفاطمة، رضي الله عنها:(هذا أول طعام أكله أبوك من ثلاثة أيام)، فلو كان المجرور بمذ أو منذ حاضراً غير مثنى ولا مجموع صح قصد معنى في، كقوله عليه السلام للملكين:(طوفتماني مذ الليلة). انتهى.
وقد تقدم مذهب س ومذهب المبرد ومن تبعه في "من" التي تكون مع أفعل التفضيل. وما رد به المصنف على س هو قول ابن ولاد. وقد رد على ابن ولاد بأنه لا يلزم من ذكر الابتداء ذكر الانتهاء، فقد لا تذكره، إما لكونك لا تعلم إلى أين انتهى، وإما لكونك لا تريد أن تخبر به، نحو: خرج زيد من البصرة، وكذلك: زيد أفضل من عمرو، يكون الابتداء معلوماً والانتهاء مجهولاً، ويكون ذلك أمدح في حق المفضل؛ إذ لا يقف السامع على محل الانتهاء.
وقال المصنف في الشرح أيضاً: "وأشار أيضاً - يعني س - إلى قصد التبعيض بالمصاحبة أفعل التفضيل، فقال في: هو أفضل من زيد: (فضله على بعض، ولم يعم).
ويبطل كون هذه للتبعيض أمران: أحدهما عدم صلاحية بعض في موضعها. والثاني صلاحية كون المجرور بها عاماً، كقولنا: الله أعظم من كل عظيم، وأرحم من كل رحيم. وإذا بطل كون المصاحبة أفعل التفضيل لابتداء الغاية وللتبعيض تعين كونها بمعنى المجاوزة كما سبق" انتهى.
وما رد به على س لا يلزم؛ لأن س لم يدع في نحو زيد أفضل من عمرو أنها للتبعيض فقط، إنما قال:"إنها لابتداء الغاية، ولا تخلو من التبعيض"، يعني حيث يمكن التبعيض. وتمثيله بقوله: هو أفضل من زيد، وقوله "فضله على بعض، ولم يعم" معناه: فضله على زيد، وهو بعض من الناس. وهذا قول صحيح، لا شك أن زيداً ليس بلفظ عام، وإنما هو بعض من عام.
وأما كونها لا تصلح مكان بعض فقريباً من كلام المصنف قول ابن عصفور، قال:"الصحيح عندي أن التبعيض ليس مفهوماً في أفعل من، وإنما فهم ذلك من جهة أنك إذا أدخلت من التي لابتداء الغاية/ على الموضع الذي ابتدأ منه التفضيل علم أنك لم ترد التعميم في التفضيل؛ وإنما أردت أن تذكر الموضع الذي ابتدأت منه التفضيل، وليست كذلك طريقة من في إفادتها التبعيض، وإنما طريقها أن تدخل على اسم ما تريد بعضه؛ ألا ترى أنك إذا قلت قبضت من الدراهم أفدت بذلك أنك قبضت بعض ما دخلت عليه من؛ وهو الدراهم، وليست كذلك في: زيد أفضل من عمرو، لأنك لم ترد بعض ما دخلت عليه من" انتهى كلام ابن عصفور.
ولم يرد س إلا أن ما دخلت عليه من ليس بعام، وأنك إذا أردت العموم حذفتها، فما دخلت عليه من بعض، لا أنها دلت على التبعيض فيما دخلت عليه، بل ما دخلت عليه هو البعض، فالتبعيض لفظ مشترك، يراد به أن ما دخلت عليه يكون بعضاً من عام، ويراد به أن ما دخلت عليه يكون عاماً، فتفيد تسليط العامل على بعضه.
وأما ما ذكره المصنف من امتناع أن تدل على التبعيض، كقوله: الله أعظم من كل عظيم - فهو قول المبرد في رده على س ادعاءه أنها لا تخلو من التبعيض؛ واستدلاله أنك تقول: زيد أفضل الناس أجمعين، ولم يدع س أنها يصحبها التبعيض في كل مكان، بل قال ذلك حيث أمكن التبعيض، وهو قوله: هو أفضل من زيد، فزيد بعض الناس، وإذا قلت زيد أفضل من العمرين فهما بعض الناس، وإذا قال أفضل من الرجال فقد فضله على جماعة معلومين، فإذا أراد العموم حذف من، فقال: أفضل الرجال، وأفضل الناس، ولذلك جعل س [من] في قولك أفعل من لا يستغني عنها، يريد: إذا أريد معنى التبعيض، فإذا أريد العموم حذفت من كقولهم: هو أكذب من دب ودرج.
وقوله وللانتهاء قال المصنف في الشرح: "ومجيء من للانتهاء كقولك: قربت منه، فإنه مساو لقولك: تقربت إليه. وقد أشار س إلى أن من معاني (من) الانتهاء، فقال: (وتقول: رأيته من ذلك الموضع، فجعلته غاية رؤيتك كما جعلته غاية حين أردت الابتداء). قال ابن السراج: (وحقيقة هذه المسألة أنك إذا قلت: رأيت الهلال من موضعي - فـ (من) لك، وإذا قلت: رأيت الهلال من خلل السحاب - فـ (من) للهلال، فالهلال غاية لرؤيتك، فلذلك جعل س من غاية في قولك: رأيته من ذلك الموضع) " انتهى.
ومن أثبت لـ"من" هذا المعنى - وهم الكوفيون - استدل عليه بقول الشاعر:
أأزمعت من آل ليلى ابتكارا
…
وشطت على ذي نوى أن تزارا
المعنى: أأزمعت إلى آل ليلى. وبقول العرب: شممت الريحان من الطريق، ورأيت الهلال من خلل السحاب، فـ"من" لانتهاء الغاية؛ لأن الشم لم يبتدئ من الطريق، ولا الرؤية ابتدأت من خلل السحاب، إنما ابتدأا من غيرهما، وانتهيا إليهما. ويبين ذلك أنك/ تقول: شممت الريحان من داري من الطريق، ورأيت الهلال من داري من خلل السحاب، فـ"من" الأولى للابتداء، والثانية للانتهاء.
وقد رد أصحابنا هذا المعنى، وقالوا: لا تكون لانتهاء الغاية، فأما تأويل المصنف على س، وأنه أشار إلى أنها للانتهاء - فليس س مصحراً بأنها للانتهاء، إنما قال:"جعلته غاية رؤيتك"، ومعناه أنه محل لابتداء الفعل وانتهائه معاً. وكذلك: أخذته من زيد، زيد أيضاً هو محل ابتداء الأخذ وانتهائه معاً. فتحصل من هذا أن من تكون في أكثر الموضع لابتداء الغاية فقط، وفي بعض المواضع لابتداء الغاية وانتهائها معاً.
وأما البيت فخرج على أن المعنى: أأزمعت من أجل آل ليلى ابتكاراً؟ لأنه إذا أزمع ابتكاراً إليهم فقد أزمعه من أجلبهم، وحذف المضاف لدلالة المعنى سائغ.
وأما قولهم: شممت الريحان من داري من الطريق، ورأيت الهلال من داري من خلل السحاب - فتأولوه على أن كلا منهما لابتداء الغاية، فتكون الأولى لابتداء الغاية في حق الفاعل، والثانية لابتداء الغاية في حق المفعول؛ ألا ترى أن ابتداء وقوع رؤية الهلال من الفاعل إنما كان في داره، وأن ابتداء وقوع الرؤية بالهلال إنما كان في خلل السحاب؛ لأن الرؤية إنما وقعت بالهلال وهو في خلل
السحاب. وكذلك أيضاً ابتداء وقوع الشم إنما كان من الدار، وابتداء وقوعه بالريحان إنما كان من الطريق؛ لأن الشم إنما تسلط على الريحان وهو في الطريق.
ونظير هذا ما جاء في بعض الأثر: (كتب أبو عبيدة بن الجراح إلى عمر بالشام: الغوث الغوث)، وأبو عبيدة لم يكن في وقت كتبه بالشام، بل الذي كان بالشام عمر، فـ"بالشام" ظرف للفعل بالنظر إلى المفعول؛ لأن الكتب إلى عمر إنما كان وعمر بالشام.
وزعم بعض النحويين أن من الطريق، ومن خلل السحاب - من فيهما لابتداء الغاية، إلا أنه جعل العامل محذوفاً، وليس شممت، ولا رأيت، وتقديره: كائناً من الطريق، وظاهراً من خلل السحاب.
قال السهيلي: "ولا حجة في قولهم: شممت الريحان من الطريق، ورأيت الهلال من خلل السحاب؛ لأن معنى الكلام أن الريحان شم من الطريق حتى شممت رائحته، وأن الهلال لاح من خلل السحاب حتى نظرت إليه)) انتهى. فكأنه قال: ناما أو فائحاً من الطريق، ولائحاً من خلل السحاب.
ورد هذا التأويل بعض أصحابنا بأن المحذوف الذي يقوم المجرور مقامه إنما يكون مما يناسب معناه الحرف؛ و"من" الابتدائية لا يفهم منها الكون ولا الظهور، فلا ينبغي أن يجوز حذفهما منه.
وقوله وللاستعلاء قال المصنف في الشرح: "وقد جاء من بمعنى على في قوله تعالى: (وَنَصَرْنَاهُ مِنَ الْقَوْمِ الَّذِينَ كَذَّبُوا بِآَيَاتِنَا)، كذا قال أبو الحسن الأخفش" انتهى. والأحسن ألا يضمن الحرف /معنى الحرف، ويضمن الفعل
معنى الفعل، فتكون من على بابها، ويكون التقدير: ومنعناه بالنصر من القوم الذين كذبوا بآياتنا. وهذا الذي ذكره عن الأخفش هو قول الكوفيين وبعض اللغويين.
وقوله وللفصل قال المصنف في الشرح: "وأشرت بذكر الفصل إلى دخولها على ثاني المتضادين، نحو (وَاللَّهُ يَعْلَمُ الْمُفْسِدَ مِنَ الْمُصْلِحِ)، و (حَتَّى يَمِيزَ الْخَبِيثَ مِنَ الطَّيِّبِ)، ومنه قول الشاعر:
إذا ما ابتدأت امرأً جاهلاً
…
ببر فقصر عن فعله
ولم تره قابلاً للجميل
…
ولا عرف العز من ذله
فسمه الهوان، فإن الهوان
…
دواء لذي الجهل من جهله"
انتهى. ومنه: لا يعرف قبيلاً من دبير. وليس من شرطها الدخول على المتضادين، بل تدخل على المتشابهين، تقول: لا يعرف زيداً من عمرو.
وقوله ولموافقة الباء هذا قول كوفي. قال المصنف في الشرح: (يَنْظُرُونَ مِنْ طَرْفٍ خَفِيٍّ)، قال الأخفش: (قال يونس: أي: بطرف
خفي، كما تقول العرب: ضربته في السيف، أي: بالسيف) " انتهى. يريد أنهم جعلوا من بمعنى الباء كما جعلوا في بمعنى الباء. ولا حجة لما قاله يونس؛ إذ يحتمل أن تكون فيه من لابتداء الغاية، أي: ابتداء نظرهم هو من طرف خفي.
وقوله ولموافقة في وهذا قول كوفي أيضاً. قال المصنف في الشرح: "أشرت إلى نحو قول عدي بن زيد:
عسى سائل ذو حاجة إن منعته
…
من اليوم سؤلا أن ييسر في غد
انتهى. ولا حجة في ذلك؛ إذ يجوز أن تكون من للتبعيض على حذف مضاف، أي: إن منعته سؤلاً من مسؤولات اليوم أو من مسؤولاتك اليوم، يعني: من الأشياء التي تسألها اليوم.
وزعم بعض النحويين أن من تكون بمعنى في، وجعل من ذلك قوله تعالى:(أَرُونِي مَاذَا خَلَقُوا مِنَ الْأَرْضِ)، أي: في الأرض.
وزعم أبو عبيدة أنها تقع بمعنى عند، وجعل من ذلك قوله تعالى:(إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا لَنْ تُغْنِيَ عَنْهُمْ أَمْوَالُهُمْ وَلَا أَوْلَادُهُمْ مِنَ اللَّهِ شَيْئًا).
ولا حجة في شيء من ذلك؛ إذ يحتمل التأويل.
وزعم السيرافي والأعلم وابن طاهر وابن خروف أن "من" إذا كان بعدها "ما" كانت بمعنى ربما، وزعموا أن س يشير بهذا لهذا المعنى كثيراً في كلامه، كقوله في "باب ما يكون في اللفظ من الأعراض":"اعلم أنهم مما يحذفون".
وكان الأستاذ أبو علي لا يرتضي هذا المذهب لكون س إذا ذكر "مما" إنما يريد التكثير، فلا يحسن إذ ذاك استعمال رب إذ كان معناها يناقض المراد.
واحتج الذاهبون إلى ذلك بأنه قد سمع ذلك منهم، قال:/
وإنا لمما نضرب الكبش ضربة
…
على وجهه، تلقي اللسان من الفم
قالوا: المعنى: لربما.
وخرج الأستاذ أبو علي وأصحابه ذلك على أن "ما" مصدرية، و"من" لابتداء الغاية، وكأنهم خلقوا من الضرب لكثرة ما يقع منهم، كما قال تعالى:(خُلِقَ الْإِنْسَانُ مِنْ عَجَلٍ)، جعل كأنه مخلوق من العجل لكثرة وقوع العجل منهم.
فأما قول الشاعر:
نصحت أبا زيد، فأدى نصيحة
…
إلي، ومما أن تغر النصائح
وقول الآخر:
ألا غنيا بالقادسية، إننا
…
على النأي مما أن ألم بها ذكرا
فلا يمكن أن تكون ما مصدرية لأجل أن، قالوا: فمعناها ربما.
وتأوله من منع ذلك على أن ما نكرة موصوفة بالمنسبك من أن وما بعدها، وهو مصدر، كأنه قال: إننا على النأي من شيء إلمام بها ذكره، فجعلهم من إلمامهم ذكراً لكثرة إلمامهم. وكذلك النصيحة للإنسان تشق عليه، فكأن النصح مخلوق مما يشق على الإنسان.
وهذا التأويل بعيد، ولا يجوز الوصف بأن والفعل، لا يجوز: مررت برجل أن يصوم، تريد: برجل صوم. وعلة ذلك أن الوصف بالمصدر هو على سبيل المجاز، ونيابة أن والفعل عنه مجاز، فكثر التجوز، فلذلك امتنع.
والأولى أن ما مصدرية، وجمع بينها وبين أن المصدرية لاختلاف لفظيهما، وذلك في الشعر كما جاء قوله:
فأصبحن لا يسألنني عن بما به
…
............................................
وإذا جمعوا بين حرفي الجر مع كونهما عاملين فلأن يجمعوا بين م لا عمل له - وهو ما المصدرية - وما له عمل - وهو أن - أولى.
وقوله وتزاد لتنصيص العموم أو لمجرد التوكيد بعد النفي أو شبهه جارة نكرة أما ما تزاد لتنصيص العموم فهي الداخلة على نكرة لا تختص بالنفي، نحو رجل وامرأة وغيرهما، فإذا قلت ما قام رجل احتمل نفي الجنس على سبيل التعميم، أي: لم يقم فرد من أفراد الرجال لا واحد ولا أكثر. واحتمل أن يكون النفي سلط على رجل بقيد الوحدة، فعلى الأول تقول: ما قام رجل بل امرأة، وعلى الثاني تقول: ما قام رجل بل اثنان، فإذا أدخلت من زال احتمال نفي الوحدة، ولذلك يخطأ من قال: ما قام من رجل بل اثنان، ودل دخولها على أنه أريد النفي العام.
وأما ما تزاد لمجرد التوكيد فهي الداخلة على نكرة لم تستعمل إلا في النفي العام أو ما يشبهه، نحو أحد الموضوع لعاقل، وديار وطوري، وقد تقدمت في باب العدد في آخر الفصل الثاني منه، فدخولها فيه إنما هو لمجرد التوكيد؛ لأن النفي العام لا يفهم بدونها.
وقال المصنف في الشرح: "وأشار س إلى أن من الزائدة قصد بها التبعيض؛ لأنه قال بعد تمثيله بما أتاني من رجل: (أدخلت من لأن هذا موضع تبعيض، فأراد أنه /لم يأت بعض الرجال)، هكذا قال، يريد أن من دلت على شمول الجنس، فلكل بعض منه قسط من المنسوب إلى جميعها، فالتبعيض على هذا التقدير مقصود. وهذا غير مرضي؛ لأنه يلزم منه أن تكون ألفاظ العموم للتبعيض. وإنما المقصود بزيادة من في نحو ما أتاني من رجل جعل المجرور بها نصاً في العموم، وإنما تكون للتبعيض إذا لم يقصد عموم، وحسن في موضعها بعض، نحو (وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يَقُولُ آَمَنَّا) الآية، و (مِنْهُمُ الْمُؤْمِنُونَ وَأَكْثَرُهُمُ الْفَاسِقُونَ)، و (فَمِنْهُمْ ظَالِمٌ لِنَفْسِهِ وَمِنْهُمْ مُقْتَصِدٌ وَمِنْهُمْ سَابِقٌ بِالْخَيْرَاتِ)، وقد صرح س بهذا المعنى، فقال: (وتكون للتبعيض، نحو: هذا منهم، كأنك قلت: هذا بعضهم) " انتهى.
وما فهمه الشارح المصنف عن س ليس بصحيح؛ لأن س لم يرد بقوله "لأن هذا موضع تبعيض" أنه حين زيدت كان الكلام بزيادتها استفيد منه التبعيض، وإنما يريد أنها زيدت ناصة على العموم؛ لأن الكلام قبل الزيادة كان يفهم منه التبعيض، ولم يكن نصاً على العموم كما هو بزيادتها. وقد يمكن إجراء لفظ س على ظاهره، فيكون قوله "لأن" تعليلاً لدخول من الزائدة، وأنها يستفاد من دخولها
التبعيض، فإذا قلت ما قام من رجل كان نفياً لجنس الرجال أن يقوم أو يقوم منه شيء، فكأنك قلت: ما قام بعض الرجال في حال من الأحوال لا وحده ولا مع غيره.
وتقسيم المصنف وغيره "من" هذه الزائدة إلى أنها تكون لاستغراق الجنس ولتأكيد استغراق الجنس ليس مذهب س؛ بل قولك: ما جاءني من أحد، وما جاءني من رجل، من في الموضعين لتأكيد استغراق الجنس. وهذا هو الصحيح؛ لأن من لم تدخل في قولك ما جاءني من رجل إلا على قولك: ما جاءني رجل، المراد به استغراق الجنس.
وزعم علي بن سليمان أن "من" الزائدة لابتداء الغاية، فإذا قلت ما قام من رجل ابتدأت النفي من هذا النوع دون غيره، ثم عرض لها - وإن كانت لابتداء الغاية - أن يقتصر بها على هذا النوع.
وقال أبو العباس في ما جاءني من رجل: لا ينبغي أن يقال فيها زائدة؛ لأن الزائد لا يفيد معنى، و"من" هنا تفيد استغراق الجنس، فإنك إن حذفتها احتمل الكلام وجوها، ولم يكن نص على استغراق الجنس، فإذا قلت ما جاءني من أحد فهي زائدة؛ لأنك إذا حذفتها لم تخل بمعنى.
قال ابن هشام: وهذا الذي ذكره صحيح، إلا أنها لما كان العامل يطلب موضعها ولم تكن معدية جعلها س بهذا الاعتبار زائدة.
وقوله بعد نفي أو شبهه جارة نكرة مبتدأ وفاعلاً ومفعولاً به يريد بقوله "بعد نفي" سائر أدوات النفي لم ولما وما ولا ولن وإن. وشبه النفي يريد به النهي، وحرفه كما تقرر لا، والاستفهام، وليس ذلك عاماً في جميع أدواته، إنما يحفظ ذلك مع هل، وفي إلحاق الهمزة بها نظر، ولا أحفظه من /لسان العرب، ولو قلت:
كيف تضرب من رجل؟ أو: أين تضرب من رجل؟ أو: كيف خرج من ضيف أتاك؟ لم يجز.
وذكره جارة نكرة هذا مذهب جمهور البصريين، وهو أن لزيادتها شرطين:
أحدهما: أن يكون الكلام غير موجب، ويعنون به النفي والنهي والاستفهام على ما شرحناه.
والثاني: أن يكون المجرور بها نكرة.
ومثال زيادتها في المبتدأ (مَا لَكُمْ مِنْ إِلَهٍ غَيْرُهُ)،:
........................................
…
.......... ألا لا من سبيل إلى هند
إلا أن زيادتها بعد لا في المبتدأ قليلة، بخلاف ما. (هَلْ مِنْ خَالِقٍ غَيْرُ اللَّهِ يَرْزُقُكُمْ).
ومثال زيادتها في الفاعل (مَا يَاتِيهِمْ مِنْ ذِكْرٍ مِنْ رَبِّهِمْ مُحْدَثٍ)، وهل قام من رجل؟ ولا يقم من أحد.
وحكم اسم كان وأخواتها حكم الفاعل، فتقول: ما كان من أحد قائماً، وليس من رجل قائماً، قال تعالى:(وَمَا كَانَ مَعَهُ مِنْ إِلَهٍ).
ومثال زيادتها في المفعول (وَمَا أَرْسَلْنَا مِنْ رَسُولٍ إِلَّا بِلِسَانِ قَوْمِهِ)، (هَلْ تُحِسُّ مِنْهُمْ مِنْ أَحَدٍ)، ولا تضرب من أحد.
وشمل قوله المفعول ما سمي فاعله، وما لم يسم فاعله، والمفعول الأول والثاني من باب أعطى، والأول من باب ظن، والأول من باب أعلم. وفي دخولها على ثاني أعلم نظر، ولا تدخل على ثاني ظن، ولا على ثالث أعلم، ولا على خبر كان وأخواتها. وتدخل على المتسع فيه من ظرف ومصدر، نحو: ما ضرب من ضرب شديد، وما سير من ميل، وما صيم من يوم.
فرع: إذا قلت: قلما يقول ذلك رجل، وقلما أضرب رجلاً - إن جعلت قلما مقابلة كثر ما لم يجز دخول من على رجل؛ لأن الكلام موجب، وإن جعلت قلما للنفي المحض جاز زيادة من؛ لأن الكلام غير موجب، واستعمال قلما بالوجهين شائع في كلام العرب.
وزعم بعض البصريين أنها تزاد في لشرط، فيجري مجرى النفي والنهي والاستفهام، ويكون ما تدخل عليه نكرة كهي مع تلك، فتقول: إن قام من رجل قام عمرو، وإن ضربت من رجل ضربك. وحجته أن الضرب غير واقع، كما أنه كذلك في: ما ضربت رجلاً.
والصحيح المنع؛ لأنه وإن لم يكن واقعاً مفروض الوقوع، ولا يمكن أن يفرض إلا ما لا تناقض فيه، فيصير المعنى إن قدر وقوع هذا الخبر: الذي هو قام من رجل قام عمرو، و"قام من رجل" لا يمكن؛ لما قاله بعض أصحابنا من أنه يلزم اجتماع الضدين في الواجب، على ما يتضح عند بيان اشتراط الشرطين عند جمهور أهل البصرة.
فإن كل فعل الشرط منفياً، أو كان قد دخل على النفي ما صيره تقريراً - فيحتاج في دخول من على النكرة - أي في سياق ذلك - إلى نظر، والذي يظهر المنع.
وزعم لكذة - ويقال لغذة - الأصبهاني - واسمه [الحسن بن عبد الله أبو علي]- أن "من" في قول الهذلي:
فما العمران من رجلي عدي
…
وما العمران من رجلي فئام
زائدة، وأن هذا لا يجوز، وأنه منحول، وليس من شعر الهذلي. قال: لأنه لا يقال: ما زيد من رجل الحرب، ولا: ما زيد من رجلي الحرب. وعلة منعه لذلك اعتقاده أن من زائدة في خبر المبتدأ/ إن كانت "ما" تميمية، أو في خبر "ما" إن كانت حجازية، و"من" لا تزاد في الخبر.
وما ذهب إليه في البيت لكذة غير صحيح؛ لأنه بناه على أن "ما" نافية، وهو خلاف ما قصد الشاعر؛ لأنه قصد المدح، فكيف تكون نافية؟ فيصير إذ ذاك هجواً، وإنما "ما" هنا استفهامية، معناها التعجب والتعظيم والتفخيم للشأن، كقولك: عبد الله ما عبد الله، تريد: أي رجل عبد الله، وكذلك أراد الشاعر: أي رجلي عدي، وأي رجلي فئام العمران، و"من" هنا نظيرتها في قول الشاعر:
يا سيداً، ما أنت من سيد
…
موطأ الرحل، رحيب الذراع
فـ"من" داخلة على التمييز؛ إذ يجوز: يا فارساً ما أنت فارساً، و"عدي" في بيت الهذلي في معنى العداة، كما قال الشنفي:
له وفضة، فيها ثلاثون سيحفا
…
إذا ما رأت أولى العدي اقشعرت
وزعم بعض النحويين أن "من" إذا دخلت على قبل وبعد تكون زائدة، وزعم أن المعنى بسقوطها وثبوتها واحد. وليس كما زعم، بل المعنى مختلف، فإذا
قلت جئت من قبل زيد كان مجيئك مبتدأ من الزمان المتعقبه زمان مجيء زيد، فإذا قلت جئت قبل زيد كان مجيئك سابقاً على مجيء زيد، واحتمل أن يكون تعقبه زمان مجيء زيد، أو كان بينهما مهلة كثيرة أو قليلة؛ لأنه يدل على مطلق السبق. وإذا قلت جئت من بعد عمرو ابتدأ مجيئك من الزمان المتعقب زمان مجيء عمرو، وإذا قلت جئت بعد عمرو احتمل أن يتعقب وأن يتأخر بمهلة كثيرة أو قليلة، فـ"من" لابتداء الغاية في القبلية والبعدية، فلو جاء شخص ظهراً وآخر عصراً حسن فيه قبل وبعد، ولم يحسن من قبل ولا من بعد؛ إذ لا اعتقاب في الزمانين.
وقوله ولا يمتنع تعريفه ولا خلوه من نفي أو شبهه وفاقاً للأخفش وافق المصنف الأخفش، وذكر جملة ما استدل به لهذا المذهب في شرحه نثراً ونظماً، فمن ذلك قوله تعالى:(وَلَقَدْ جَاءَكَ مِنْ نَبَإِ الْمُرْسَلِينَ)، (يُحَلَّوْنَ فِيهَا مِنْ أَسَاوِرَ)، (وَيُكَفِّرُ عَنْكُمْ مِنْ سَيِّئَاتِكُمْ)، (يَغْفِرْ لَكُمْ مِنْ ذُنُوبِكُمْ)، (تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ)، وفي لابخاري من كلام عائشة (أن رسول الله صلى الله عليه وسلم كان يصلي جالساً، فيقرأ وهو جالس، فإذا بقي من قراءته نحواً من كذا)، هكذا ضبط بخط من يعتمد. أي: ولقد جاءك نبأ، ويحلون أساور، ويكفر عنكم سيئاتكم، يغفر لكم ذنوبكم، تجري تحتها، فإذا بقي قراءته نحواً من كذا. وقال عمر بن أبي ربيعة:
وينمي لها حبها عندنا
…
فما قال من كاشح لم يضر
وقال جرير:
لما بلغت إمام العدل قلت لهم
…
قد كان من طول إدلاج وتهجير
/وقال آخر:
وكنت أرى كالموت من بين ساعة
…
فكيف ببين كان موعده الحشر
وقال آخر:
يظل به الحرباء يمثل قائما
…
ويكثر فيه من حنين الأباعر
أي: فما قال كاشح، وقد كان طول إدلاج، وكنت أرى بين ساعة، ويكثر فيه حنين [الأباعر].
ورأى زيادة "من" في الإيجاب الكسائي، وخرج عليه "إن من أشد الناس عذاباً المصورون". وابن جني، وخرج عليه قراءة ابن هرمز (لَمَا آَتَيْتُكُمْ مِنْ كِتَابٍ)، تقديره عنده: لمن ما، فأدغمت نون من في ميم ما، فاجتمعت ثلاث ميمات، فحذفت ميم من، وبقيت الثانية التي كان نوناً مدغمة في ما. انتهى ما لخص من شرح المصنف.
وأما الكوفيون فاختلف النقل عنهم: فقال بعض أصحابنا عنهم: إنها تزاد في الواجب وغيره بشرط أن يكون مجرورها نكرة، وحكوا عن العرب من زيادتها في الواجب: قد كان من مطر، وقد كان من حديث فخل عني، أي: كان مطر، وقد كان حديث.
وقال الكسائي وهشام: من زائدة في قوله (يَغْفِرْ لَكُمْ مِنْ ذُنُوبِكُمْ)، (وَلَهُمْ فِيهَا مِنْ كُلِّ الثَّمَرَاتِ)، و (يَغُضُّوا مِنْ أَبْصَارِهِمْ)، (وَعَدَ اللَّهُ الَّذِينَ آَمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ مِنْهُمْ مَغْفِرَةً)، كما قال الأخفش، فلم يشترطا أن يكون المعمول نكرة. ووافقهم الفارسي على زيادتها في قوله:(وَيُنَزِّلُ مِنَ السَّمَاءِ مِنْ جِبَالٍ فِيهَا مِنْ بَرَدٍ)، أي: جبالاً فيها برد.
وجعل أبو عبيدة في "المجاز" له "من" زائدة في قوله: (أَنْ يُنَزَّلَ عَلَيْكُمْ مِنْ خَيْرٍ مِنْ رَبِّكُمْ)، أي: خير من ربكم. واستدل أيضاً على زيادتها بغير الشرطين بقوله: (فَكُلُوا مِمَّا أَمْسَكْنَ عَلَيْكُمْ).
وما احتج به لهم لا حجة فيه:
أما (وَلَقَدْ جَاءَكَ) فالفاعل مضمر، أي: ولقد جاءك هذا النبأ، و (مِنْ نَبَإِ الْمُرْسَلِينَ) في موضع الحال، أي: كائناً من نبأ المرسلين؛ لأن قبله: (وَلَقَدْ كُذِّبَتْ رُسُلٌ مِنْ قَبْلِكَ فَصَبَرُوا عَلَى مَا كُذِّبُوا وَأُوذُوا حَتَّى أَتَاهُمْ نَصْرُنَا)، فأخبره تعالى أن هذا النبأ الذي جاءك هو من نبأ المرسلين، فتأس بما جرى لهم.
وأما (مِنْ أَسَاوِرَ) فـ (مِنْ) للتبعيض.
وأما (وَيُكَفِّرُ عَنْكُمْ مِنْ سَيِّئَاتِكُمْ)، و (يَغْفِرْ لَكُمْ مِنْ ذُنُوبِكُمْ) - فالذي يكفر بعض السيئات، والذي يغفر بعض الذنوب؛ لأن ما كان فيه تبعة لآدمي لا يكفر، ولأن المغفور بالإيمان ما اكتسبوه من الكفر لا ما يكتسبونه في الإسلام، وذلك بعض الذنوب، فـ (مِنْ) فيهما للتبعيض.
وكذا هي للتبعيض في (أَنْ يُنَزَّلَ عَلَيْكُمْ مِنْ خَيْرٍ)، إذ أصله: أن ينزل الله عليكم من خير، أي: بعضاً من خير، ثم بني للمفعول، وأقيم المجرور مقام الفاعل، وجعل الظاهر بدلاً من الضمير لما حذف الظاهر الذي كان يعود عليه الضمير، وهو اسم الله.
وكذا هي للتبعيض أيضاً في (مِمَّا أَمْسَكْنَ عَلَيْكُمْ)؛ لأنه لا يمكن/ أن يأكل كل ما أمسكن؛ إذ منه ما يموت فرقاً، ولم ينفذ مقاتله، ولا أثر فيه بناب ولا ظفر.
وأما (مِنْ تَحْتِهَا) فلابتداء الغاية.
وأما (فإذا بقي من قراءته)، و ((بما قال من كاشح))، و ((قد كان من طول))، و ((يكثر فيه من حنين))، و ((قد كان من مطر))، و ((قد كان من حديث)) - فخرج على أن تكون "من" في ذلك كله مبعضة، ويكون الفاعل مضمراً اسم فاعل يفسره الفعل كما فسر في قوله:(ثُمَّ بَدَا لَهُمْ مِنْ بَعْدِ مَا رَأَوُا الْآَيَاتِ)، أي: هو، أي: البداء، فكذلك يكون التقدير: فإذا بقي هو، أي: باق من قراءته نحواً من كذا، ومما
قال هو، أي: قائل من كاشح، وقد كان هو، أي: كائن من طول، ويكثر فيه هو، أي: كاثر من حنين، وقد كان هو، أي: كائن من مطر، وقد كان هو، أي: كائن من حديث، ومجيء اسم الفاعل فاعلاً يدل عليه الفعل شائع في كلام العرب، قال تعالى:(سَأَلَ سَائِلٌ بِعَذَابٍ وَاقِعٍ)، وقال يزيد بن عمرو بن الصعف:
ونسب ابن عصفور هذا البيت للنابغة، وهو وهم.
وقال بعض أصحابنا في قولهم: قد كان من مطر، وقد كان من حديث:"فحذف الموصوف، وقامت من مقامه؛ إذ هي في موضع الصفة، وذلك يحسن في الكلام وإن كانت الصفة غير مختصة" انتهى. وهذا تخريج فاسد؛ لأنه يلزم من ذلك أن يكون المجرور فاعلاً، والمجرور الذي يجر بحرف غير زائد لا يكون فاعلاً.
وأما "من بين ساعة" فـ"من" للسبب، أي: أرى شيئاً عظيماً كالموت من أجل بين ساعة، فكيف يكون حالي ببين موعده الحشر؟ أي: بسبب بين موعده الحشر.
وأما (إن من أشد الناس عذاباً) ففي إن ضمير الشأن محذوف. وقد خرجه على ذلك المصنف في الشرح في باب "إن". وأيضاً لا يمكن زيادتها من حيث الشرع لأن ثم من هو أشد عذاباً من المصورين، كقتلة الأنبياء ونحوهم، ولا يمكن أن يكون المصورون هم أشد الناس عذاباً.
وأما تخريج ابن جني قراءة ابن هرمز فتخريج أعجمي، لا يحتمل مثله في القرآن، وكونها على ما استقر في لما ظاهر، إما على الظرف، أي: حين آتيناكم، وإما كونها حرف وجوب لوجوب، و (آتيناكم) التفات من الغيبة إلى الخطاب، ولو جرى على الغيبة لكان: لما آتيناهم. ولا يظهر معنى لتخريج ابن جني: لمما آتيناكم من كتاب وحكمة.
وأما قوله (وَلَهُمْ فِيهَا مِنْ كُلِّ الثَّمَرَاتِ) فالتقدير: ولهم فيها مطعوم أو فاكهة من كل لثمرات، لما تقدم ذكر المشروب ذكر المطعوم، وحذف المبتدأ لدلالة المعنى عليه جائز، ولاسيما إذا كانت له صفة.
وأما (يَغُضُّوا مِنْ أَبْصَارِهِمْ) فـ (مِنْ) للتبعيض؛ لأنهم لم يؤمروا بغض الأبصار، وإنما يغض منها ما كان في النظر بها امتناع شرعي.
وكذلك هي للتبعيض في (وَعَدَ اللَّهُ الَّذِينَ آَمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ مِنْهُمْ مَغْفِرَةً).
وأما (وَيُنَزِّلُ مِنَ السَّمَاءِ مِنْ جِبَالٍ فِيهَا مِنْ بَرَدٍ) فتقدم تخريجه.
والشرطان اللذان شرطهما جمهور البصريين إنما ذلك في فصيح الكلام، وأما في ضرورة الشعر فيجيزون زيادتها في الواجب وفي المعرفة والنكرة، نحو قوله:
أمهرت منها جبة وتيسا
وقال بعض أصحابنا: ومما جاءت فيه "مِنْ) زائدة على مذهب الأخفش والكوفيين قول البرج بن مسهر الطائي:
ونعم الحي كلب غير أنا
…
رزئنا من بنين ومن بنات
وقول عنترة:
وكأنما ينأى بجانب دفها الـ
…
ـوحشي من هزج العشي مؤوم
وقول الآخر:
إذا مر من يوم ولم أرج منكم
…
أوائل أيام رجوت التواليا
وقول تأبط شراً:
وإني لمهد من ثنائي فقاصد
…
به لابن عم الصدق شمس بن مالك
وقول الأسود بن يعفر:
هوى بهم من حينهم وسفاههم
…
من الريح، لا تمري سحاباً ولا قطرا
وقول جزء بن ضرار:
أمهرت منها جبة وتيسا
أي: رزئنا بنين وبنات، وينأى هزج العشي.
ويدل أنه في موضع رفع الإبدال منه مرفوعاً في قوله:
هر جنيب، كلما عطفت له
…
غضبى اتقاها باليدين وبالفم
وإذا مر يوم، ولمهد ثنائي، وهوى الريح، وأمهرتها.
ويخرج "من بنين ومن بنات" و"من ثنائي" على أنها للتبعيض، أي: بعضاً من بنين، وبعضاً من ثنائي. وبيت عنترة على أن التقدير: ناء من هزج، وكذا هاو من الريح، ومار من يوم. والمجرورات بـ"مِنْ" كانت في موضع الصفة، ثم أضمر ذلك الفاعل، وصار المجرور في موضع الحال، وقد تقدم أنه لا يستنكر أن يكون الفاعل اسم فاعل يدل عليه الفعل.
واشتراط هذين الشرطين ليس لمجرد السماع، بل قد أبدى بعض أصحابنا لذلك علة أوجبت ذلك، فقال: "أما التزام التنكير فلأن المفرد الواقع بعد (من) الزائدة في معنى جمع، والمفرد لا يكون في معنى جمع إلا إذا كان نكرة، نحو قول العرب: عندي عشرون رجلاً، ولو كان معرفة لم يجز ذلك إلا في ضرورة، نحو:
في حلقكم عظم وقد شجينا
أي: في حلوقكم.
وأما التزام كون الكلام غير موجب فلأنه ينتفي في قولك: ما جاءني من رجل، مجيء واحد ومجيء أكثر من واحد، فلو قلت: جاءني/ من رجل، لزمك أن يكون قولك من رجل على حده بعد النفي، فتكون كأنك قلت في حين واحد: جاءني رجل وحده ولم يجيء رجل وحده بل أكثر من رجل واحد، وذلك تناقض؛
لأنه يلزمك اجتماع الضدين في الواجبن وهو مجيء الرجل وحده مع غيره، ولا يلزم ذلك في غير الواجب إذ قد يجوز اجتماع الأضداد فيما ليس بواجب؛ ألا ترى أنك تقول: ما زيد أسود ولا أبيض، ولو قلت زيد أسود وأبيض لم يتصور ذلك".
وزعم الأخفش الصغير أن السبب في ذلك أن "من" لا تدخل على النوع، فلم يجز أن تقول: جاءني من رجل؛ لآنه لا يجوز أن يجيئك النوع.
وما ذكره لا يطرد؛ بدليل أن العرب لا تقول: يموت من رجل، مع أن موت النوع كله لابد من وقوعه، وإنما السبب ما ذكرناه.
وقوله وربما دخلت على حال مثاله قراءة زيد بن ثابت وأبي الدرداء وأبي جعفر وزيد بن علي والحسن ومجاهد (مَا كَانَ يَنْبَغِي لَنَا أَنْ نَتَّخِذَ مِنْ دُونِكَ مِنْ أَوْلِيَاءَ)، بفتح الخاء وضم النون، أي: أولياء. ومحسن ذلك انسحاب النفي عليه من حيث المعنى كما انسحب عليه في قراءة الجماعة حين كان مفعولاً، شبه ذلك بانسحاب النفي على الفعل المتعدي إلى مفعوله، كقوله تعالى:(مَا اتَّخَذَ اللَّهُ مِنْ وَلَدٍ).
وقوله وتنفرد من بجر ظروف لا تتصرف كقبل وبعد إلى وعلى اسمين زعم المصنف في الشرح أن من زائدة في نحو: من قبل، ومن بعد، ومن لدن، ومن عن، قال:((لأن المعنى بثبوتها وسقوطها واحد)). وقد تقدم لنا الرد على من ذهب إلى أنها زائدة في: من قبل، ومن بعد، وأبدينا فرقاً لثبوتها لا يكون مع
سقوطها، وأنها لابتداء الغاية في قبل وبعد. وكذلك نقول في: من لدن، ومن عن: إنها فيهما لابتداء الغاية، فإذا قلت قعد زيد عن يمين عمرو فمعناه: ناحية يمين عمرو، واحتمل أن يكون قعوده ملاصقاً لأول ناحية يمينه، واحتمل ألا يكون ملاصقاً لأولها، فإذا قلت من عن يمينه كان ابتداء القعود نشأ ملاصقاً لأول الناحية.
وذكر أن دخول من على عند ولدي ومع وعلى لابتداء الغاية، قال: "وعن بعد دخول من بمعنى جانب، وعلى بمعنى فوق، قال جرير:
وإني لعفت الفقر مشترك الغنى
…
سريع - إذا لم أرض داري - انتقاليا
جريء الجنان، لا أهال من الردى
…
إذا ما جعلت السيف من عن شماليا
وقال آخر:
من عن يميني مرت الطير سنحا
…
وكيف سنوح واليمين قطيع
وقال آخر:
ولقد أراني للرماح دريئة
…
من عن يميني تارة وأمامي"
وقال آخر:
فقلت للركب لما أن علا بهم
…
من عن يمين الحبيا نظرة قبل
وقال آخر:
فقلت: اجعلي ضوء الفراقد كلها
…
يميناً، ومهوى النسر من عن شمالك
وقال الراجز:
جرت عليها كل ريح سيهوج
…
من عن يمين الخط أو سماهيج
وقد تجر "عن" بـ"على"، قال الشاعر:
على عن يميني مرت الطير سنحا
…
وكيف سنوح واليمين قطيع
وقال آخر:
وهيف تهيج البين بعد تجاوز
…
إذا نفحت من عن يمين المشارق
وقال آخر:
هوى ابني من على شرف
…
.........................................
وقال آخر:
غدت من عليه بعد ما تم ظمؤها
…
تصل، وعن قيض بزيزاء مجهل
وقال آخر:
غدت من عليه تنفض الطل بعد ما
…
رأت حاجب الشمس استوى، فترفعا
وكان القياس أن يقول: من علاه، كما تقول: فتاه؛ لأن المقصور من الأسماء لا يتغير مع المظهر والمضمر، وإنما روعي أصلها.
وزعم الفراء ومن وافقه من الكوفيين أن عن وعلى إذا دخلت عليهما من حرفان كما كانتا قبل دخولها؛ وزعموا أن "من" تدخل على حروف الجر كلها سوى من واللام والباء وفي. وجاز ذلك عندهم لأنها تسد مسد الاسم المخفوض، فإذا قلت: نظرت إلى زيد - فـ"إلى" عندهم تسد مسد "وجه زيد" أو ما جرى مجراه من المفعولات الخافضة لما يليها. وإذا قلت: زيد في الدار - نابت [في] مناب حال الدار، أو ساكن الدار، أو ناحية الدار، أو جانب الدار، وكذلك يفعلون بسائر الحروف.
ولم تدخل على الباء واللام لقلتهما، ولا على "في" لأنها تدل على كل محل أنه موضع وليس باسم، فلما كان دخولها على الحرف يبعدها من مذاهب الأسماء كانت في أجدى أن تبعد من الأسماء.
وقالوا: لو كانت عن وعلى اسمين إذا دخلت عليهما من كما يقوله البصريون لقيل: عندك مرغوب فيه، يعني به: ناحيتك مرغوب فيها. وهذا لا يلزم
كما لا يلزم في الأسماء؛ إذ فيها /ما لا يتصرف، نحو: ايمن الله، وسبحان الله، ومعاذ الله، ولا يلزم من كون "عن" في معنى ناحية أن يتصرف تصرف ناحية؛ إذ قد يكون الاسمان مترادفين، وأحدهما متصرف، والآخر غير متصرف، مثال ذلك: سبحان، نحو قوله:
....................................
…
سبحان من علقمة الفاخر
فـ"سبحان" لا يتصرف، ومعناه براءة، وبراءة يتصرف.
ويبطل مذهب الفراء من أن عن وعلى إذا دخلت عليهما "من" باقية على أصلها من الحرفية أن من حرف خفض؛ وحروف الخفض لا يجوز قطعها عن الخفض، وإذا كان ذلك لا يجوز كانت عن وعلى في موضع خفض بها، وإذا كانتا في موضع خفض وجب أن تكونا اسمين؛ لأن الحرف لا موضع له من الإعراب.
وما ذكروه من دخول "من" على حروف الجر كلها سوى ما استثنوا لا يعرفه البصريون، فإن ثبت كان ذلك دليلاً على أن جميع الحروف تكون أسماء سوى ما استثنوا.
واستدل الأخفش على اسمية "على" بقول العرب: سويت علي ثيابي. ووجه الدلالة أنه قد تقرر أن فعل المضمر المتصل لا يتعدى إلى مضمره المتصل لا بنفسه ولا بواسطة؛ فلا تقول: زيد ضربه، تريد: ضرب نفسه، ولا فرحت بي، تريد: فرحت بنفسي، وفي "سويت علي" قد تعدى إلى ضميره المتصل، فوجب أن يعتقد في "على" أنها اسم؛ لأنه يجوز: سويت فوقي ثوبي، وسرت أمامي. قال بعض أصحابنا: وكذلك ينبغي أن يجعل "على" اسماً في قول الشاعر:
هون عليك، فإن الأمور
…
بكف الإله مقاديرها
للعلة التي ذكرها الأخفش. وكذلك في قوله:
دع عنك نهبا صيح في حجراته
…
ولكن حديثاً ما حديث الرواحل
وهذا الذي ذهب إليه الأخفش وبعض أصحابنا لا يطرد، بل هو أمر غالب، لكنه قد جاء ذلك التعدي، قال تعالى:(وَهُزِّي إِلَيْكِ)، وقال تعالى:(وَاضْمُمْ إِلَيْكَ جَنَاحَكَ مِنَ الرَّهْبِ)، ومن كلامهم:
....... فيئي إليك .....................
…
.......................................
ولم يذهب أحد إلى أن "إلى" اسم، فكذلك نقول في: سويت علي، وفي: هون عليك، وفي: دع عنك: إنها حروف كـ"إلى"، لكن تلك التعدية قليلة، فلا تكون تلك التعدية دلالة على اسمية عن وعلى.
وما ذكره المصنف من أن "على" إنما تكون اسماً إذا داخل عليها "من" هو مشهور قول البصريين. وذهب ابن الطراوة وابن طاهر وابن خروف وأبو علي الرندي وأبو الحجاج بن معزوز والأستاذ أبو علي في أحد قوليه إلى أنها لا
تكون حرفاً؛ وزعموا أن ذلك مذهب س؛ لقوله في "باب عدة ما يكون عليه الكلم": "وهو اسم، ولا يكون إلا ظرفاً". وقد صنف ابن معزوز جزءاً في عشرين ورقة استدل فيه على أن "على" لا تكون حرفاً بل اسماً.
وأما من أثبت ذلك فاستدل بحذفها في ضرورة الشعر ونصب ما بعدها /على أنه مفعول به؛ نحو قوله:
تحن، فتبدي ما بها من صبابة
…
وأخفي الذي لولا الأسا لقضاني
وقال:
بخلت فطيمة بالذي يرضيني
…
إلا الكلام، وقلما يجديني
وقال الأفوه:
ألا عللاني، واعلما أنني غرر
…
وما - خلت - يجديني الشفاق ولا الحذر
وما - خلت - يجديني أساتي وقد بدت
…
مفاصل أوصالي، وقد شخص البصر
وقال:
ما شق جيب، ولا ناحتك نائحة
…
ولا بكتك جياد عند أسلاب
وقال:
كأنها واضح الأقراب في لقح
…
أسمى بهن، وعزته الأناصيل
أي: لقضى علي، وقلم يجدي علي، ويجدي علي الشفاق، ويجدي علي أساتي، ولا ناحت عليك، وعزت عليه، أي: اشتدت.
وقد أجاز أبو الحسن حذفها في الكلام ونصب ما بعدها مفعولاً به، وجعل من ذلك قوله تعالى:(لَأَقْعُدَنَّ لَهُمْ صِرَاطَكَ الْمُسْتَقِيمَ)، أي: على صراطك. وهذا الاستدلال يمكن أن تتأول فيه الأفعال على تضمين ما لا يتعدى بعلى، فلا يتم الاستدلال.
واستدل أيضاً من أثبت الحرفية بحذفها مع الضمير في الصلة، نحو: ركبت على الذي ركبت، ونحو قوله:
فأصبح من أسماء قيس كقابض
…
على الماء، لا يدري بما هو قابض
أي: عليه. وقوله:
وإن لساني شهدة، يشتفى بها
…
وهو على من صبه الله علقم
أي: عليه. ولو كانت اسماً لم يجز ذلك، لو قلت: قعدت وراء الذي قعدت، تريد: وراءه - لم يجز.
وقال شيخنا أبو الحسين بن أبي الربيع: إذا قلت: جلست فوق زيد - لا يقتضي أنك باشرت زيداً؛ إذ قد تكون في ارتفاع وزيد تحتك، وإنما يطلب الفوق
مكاناً له بنسبة، فجئت بذلك لتخصصه، وجلست على زيد، (على) فيه موصلة الفعل إليه كما توصل حروف الجر، نحو: خرجت من الدار إلى المسجد، وكتبت بالقلم، فالقلم متعلق الكتب، والباء موصلته إليه، والعرب كثيراً ما تخرج الأضعف إلى الأقوى إذا لم يكن بينهما قرب، و (على) وإن خالفت (فوق) فهي قريبة منها؛ لأن (على) تدل على الاستعلاء، و (فوق) تدل على مكان لنسبة الاستعلاء، وقد تقول: جلست فوق زيد، كما تقول: على زيد، وإن كان ذلك لا يفهم من فوق، وإنما يفهم من أمر خارج، فلذلك لقرب أدخلوا عليها /من كما أدخلوها على فوق.
وقوله وتختص إلى بالرب تقول: من ربي لأفعلن، ومن ربي إنك لإنسي، ولا يجوز ضم الميم إلا في القسم، ولا تجر غير الرب فيه.
وذكر المصنف في باب القسم أن "من" مثلت الحرفين، يعني أنه بفتح الميم والنون، أو بكسرهما، أو بضمهما، لكن ظاهر كلامه هناك أن "من" هذه المثلثة الحرفين هي بقية من "أيمن" الداخلة على "الله" غالباً؛ فليست "من ربي" تلك، بل هذه حرف مختص بدخولها على الرب، فيكون هذا مذهباً ثالثاً، وفي المضمومة الميم، وهي أنها اسم بقية "أيمن" إذا كانت مثلثة الحرفين، وحرف إذا كانت مكسورة الميم أو مضمومتها.
والنحويون قد ذكروا الخلاف في "مُن" المضمومة الميم، هل هي بقية أيْمُن، فهي اسم أو حرف جر:
فالذي ذهب إلى أنها بقية ايْمُن استدل عل ىذلك بأن هذه الكلمة قد اتسعت فيها العرب بالتغيير والحذف؛ فقالوا: ايمن وايم وايم، فـ"من" بقية "ايمن"، وهذا أولى من جعلها حرف خفض؛ لأنه لم يستقر ذلك في موضع من المواضع.
واستدل من ذهب إلى حرفيتها بدخولها على "الرب"، وهم لا يدخلون ايمن على الرب، فلو كانت بقية ايمن لما دخلت على الرب. وبأنها لو كانت بقية ايمن لكانت معربة؛ لأن المعرب لا يزيله عن إعرابه حذف شيء منه، فبناؤها على السكون دليل على حرفيتها وأنها ليست بقية ايمن.
وقوله والتاء واللام بـ"الله" أي: مختصان بـ"الله"، فتقول: تالله ليكونن كذا، ولله لا يبقى أحد.
وقوله وشذ فيه: من الله، وتربى أي: شذ في القسم دخول من على "الله"، وشذ دخول التاء على "الرب"، روى ذلك الأخفش.
وما ذكره من شذوذ "من الله" لم يذكره المبرد على سبيل الشذوذ، قال المبرد في "المدخل":"وتقول: لله لأفعلن، ومن الله لأفعلن، ومن ربي لأفعلن". وقال المبرد أيضاً: "وإنما دخلت اللام ومن - يعني في القسم - لأن حروف الخفض يبدل بعضها من بعض، نحو: فلان بمكة، وفي مكة، (وَلَأُصَلِّبَنَّكُمْ فِي جُذُوعِ النَّخْلِ)، أي: على جذوع النخل".
وقال ابن عصفور في "الشرح الكبير": "وتاء القسم لا تجر إلا اسم الله تعالى، وذلك أنها لا تجر إلا بحق العوضية؛ لأنها عوض من الواو التي أبدلت من الباء، فلم يتصرف فيها، واقتصر على اسم الله، وقد حكى دخولها على الرب، قالوا: ترب الكعبة لأفعلن، وذلك قليل جداً".
وقال في "المقرب": "إن التاء تجر اسم الله، وقد حكى دخولها على الرب، ولم يتعرض لقلة ولا شذوذ" انتهى. وقالوا: تالرحمن، وتحياتك.
-[ص: ومنها "إلى" للانتهاء مطلقاً، وللمصاحبة، وللتبيين، ولموافقة اللام، وفي، ومن، ولا تزاد، خلافاً للفراء.]-
ش: قال المصنف في الشرح: "أردت بقولي للانتهاء مطلقاً شيئين: أحدهما عموم الزمان والمكان، كقولك: سرت إلى آخر النهار، وإلى آخر المسافة. والثاني أن منتهى العمل بها قد يكون آخراً وغير آخر، نحو: سرت إلى نصف النهار، وإلى نصف المسافة" انتهى.
وهذا الذي ذكره من أن "إلى" منتهى لابتداء الغاية هو مذهب س والمحقيين، /وظاهر كلام الفارسي يخالفه؛ لأنه قال:"وإلى معناها الغاية"؛ لأن غاية الشيء في اللغة هي مداه، و"إلى" لا تدخل على ما تكون فيه غاية للفعل، وإنما تدخل على ما يكون منتهى لابتداء غاية الفعل. وكلام الفارسي راجع إلى ما ذكره النحويون؛ لأنه إذا جعلت للغاية فهم أن جملة الفعل قد وقعت من أجل أن انتهاء الفعل لا يتصور إلا بوقوع الفعل بجملته، ولا يجوز أن يقال فيها: إنها غاية، بمعنى أنها دخلت على ما يقع فيه ابتداء الفعل وانتهاؤه؛ لأن ذلك لم يثبت فيها.
فأما دعوى ابن خروف ذلك، واستدلاله بقوله تعالى:(وَلَئِنْ أَخَّرْنَا عَنْهُمُ الْعَذَابَ إِلَى أُمَّةٍ مَعْدُودَةٍ) قال: "لأن الأمة المعدودة هي الزمان الذي وقع فيه تأخير العذاب لا الزمان الذي وقع فيه نهاية تأخيره؛ ألا ترى أن المعنى: ولئن أخرنا
عنهم العذاب أمة معدودة" - فدعوى غير صحيحة؛ لأنه يجوز فيها أن تكون إلى لانتهاء الغاية على تقدير حذف مضاف، أي: إلى انقضاء أمة معدودة، وحذف المضاف سائغ إذا دل عليه معنى الكلامن ووجب حمل الآية على ذلك لأن الثابت في كلام العرب أن تكون إلى داخلة على ما يكون منتهى لابتداء غاية الفعل؛ وإذا ثبت أن إلى تكون لانتهاء الفعل فجائز أن تقع على أول الحد، فلا يكون الفعل فيما بعدها. وجائز أن يكون الفعل فيما بعدها، ولكن يمتنع أن يجاوز الفعل ما بعدها؛ لأن النهاية غاية، وما كان بعده شيء لم يسم غاية.
وما ذكره المصنف في الشرح من أن منتهى العمل بها قد يكون آخراً وغير آخر فيه تفصيل واختلاف، فنقول:"إلى" إما أن يقترن بما بعدها قرينة تدل على أنه داخل في حكم ما قبلها أو خارج عنه، إن اقترن بذلك قرينة كان على حسبها، نحو قول الشاعر:
وصرنا إلى الحسنى، ورق كلامنا
…
ورضت، فذلت صعبة أي إذلال
ألا ترى أنه قد دخل في الحسنى. ونحو قولهم: اشتريت الشقة إلى طرفها، فالطرف داخل في الشقة؛ إذ لم يعهد أن الإنسان يشتري الشقة دون طرفها. ونحو و (أَتِمُّوا الصِّيَامَ إِلَى اللَّيْلِ)، واشتريت الفدان إلى الطريق، فالليل غير داخل في الصوم، والطريق غير داخل في الشراء.
وإن لم يقترن به قرينة فالذي عليه أكثر المحققين أنه لا يدخل في حكم ما قبله؛ فإذا قال اشتريت البستان إلى الشجرة الفلانية لم تدخل الشجرة في المشترى.
وذهب بعض النحويين إلى أنها تدخل إذا انتفت القرينة. وقال عبد الدائم القيرواني: "إذا لم تكن قرينة، وكان ما بعدها من جنس ما قبلها - فيحتمل أن يدخل وألا يدخل، والأظهر أنه لا يدخل".
والصحيح المذهب الأول؛ لأن الأكثر في كلامهم إذا اقترنت قرينة ألا يدخل ما بعدها في حكم ما قبلها، تقول: ذهبت إلى زيد، ودخلت إلى بكر، وقمت إليك، فلا يكون ما بعدها داخلاً في الفعل الذي قبلها في شيء من ذلك ولا في أمثاله، وقد يكون بخلاف ذلك، فإذا عري عن القرينة وجب الحمل على الأكثر. وأيضاً فإن ما بعدها منتهى/ لما قبلها، والشيء لا ينتهي ما بقي منه شيء، إلا أن يتجوز فيجعل القريب من الانتهاء انتهاء، وإذا كان ذلك مجازاً وجب أن يحمل على أنه غير داخل؛ لأنه لا يحمل على المجاز ما أمكنت الحقيقة، إلا أنه تقترن قرينة ترجح المجاز عليها، فيحمل عليه.
وقوله وللمصاحبة هذا مذهب الكوفيين، نقله ابن عصفور عنهم وابن هشام، وزاد:"وكثير من البصريين". وقاله المفسرون في قوله تعالى (مَنْ أَنْصَارِي إِلَى اللَّهِ). قال الفراء: "وهو وجه حسن". قال الفراء: "وإنما تجعل (إلى) كـ (مع) إذا ضممت شيئاً إلى شيء، كقول العرب: الذود إلى الذود إبل، فإن لم يكن ضم لم يكن الجمع، فلا يقال في: مع فلان مال كثير: إلى فلان مال كثير". وأنشد المصنف على مجيئها بمعنى مع قول الشاعر:
برى الحب جسمي ليلة بعد ليلة
…
ويوماً إلى يوم، وشهراً إلى شهر
وقال آخر:
ولقد لهوت إلى كواعب كالدمى
…
بيض الوجوه، حديثهن رخيم
وقال آخر:
وإن امرأً قد عاش تسعين حجة
…
إلى مئة لم يسأم العيش جاهل
وقال آخر:
فلم أر عذراً بعد عشرين حجة
…
مضت لي، وعشر قد مضين إلى عشر
وقد استدل على ذلك أيضاً بقوله: (وَلَا تَاكُلُوا أَمْوَالَهُمْ إِلَى أَمْوَالِكُمْ)، وبقول امرئ القيس:
له كفل كالدعص، لبده الندى
…
إلى حارك مثل الغبيط المذأب
وبقول ابن مفرغ:
شدخت غرة السوابق فيهم
…
في وجوه إلى اللمام الجعاد
أي: مع اللمام.
قال بعض شيوخنا: "ذهب البصريون في هذا إلى التضمين، وهو الصحيح". يعني: فتبقى "إلى" على حكمها من انتهاء الغاية، أي: لا تضموا أموالهم إلى أموالكم، فيكون سبباً لأكلها، لما كان المراد ألا يخلط مال اليتيم بماله، وأن يبرزه، محافظة على أن ينمى ولا يتعدى فيه - أتى بـ"إلى" ليدل على هذا المعنى، وهذه فائدة لا تكون مع "مع".
و (مَنْ أَنْصَارِي إِلَى اللَّهِ) المعنى: من يضيف نصرته لي إلى نصرة الله، ولو قلت من ينصرني مع فلان لم يدل على أن فلاناً وحده ينصرك ولابد، بخلاف إلى، فإن نصرة ما دخلت عليه محققة واقعة مجزوم بها؛ إذ المعنى على التضمين: من يضيف نصرته إلى نصرة فلان.
وأما "له كفل" البيت. أي: كفل مضاف إلى حارك؛ لأنه بإضافة حارك على هذه الصفة إلى الكفل حسن الحارك - فلو كان الحارك منخفضاً /والكفل هكذا لكان الفرس قبيحاً، وهذا المعنى لا تحرززه مع؛ لأنه لو قال: له كفل مع حارك - لم يكن فيه إلا أن له عضوين حسنين ليس أحدهما شرطاً في زينة صاحبه.
وقال ابن عصفور: أي: ولا تضيفوا أكل أموالهم إلى أموالكم، ومن ينضاف في نصرتي إلى الله. وفي قوله تعالى (إِلَى نِسَائِكُمْ): الإفضاء إلى نسائكم؛ إذ لو لم يكن مضمناً لكان: الرفث بنسائكم، أو: مع نسائكم؛ لأنه إنما يقال: رفث بالمرأة، أو مع المرأة. والذود مضافاً إلى الذود إبل. (وَإِذَا خَلَوْا إِلَى شَيَاطِينِهِمْ)، أي: ساروا إلى شياطينهم.
وأما بيت ابن مفرغ فالمعنى: شدخت غرة السوابق في وجوههم إلى اللمام، أي: ملأت اللمام، أي: ملأت الوجه حتى انتهت إلى اللمم. وقولهم: إن فلاناً لظريف عاقل إلى حسب ثاقب، تقديره: إن فلاناً ينضاف ظرفه وعقله إلى حسب ثاقب. قال: "ولو كانت إلى بمعنى مع لساغ أن تقول: زيد إلى عمرو، تريد: مع عمرو، فلما لم تقل العرب ذلك وأمثاله دل على أنها ليست بمعنى مع، فوجب أن يتأول جميع ذلك".
وقوله وللتبيين قال المصنف في الشرح: "نبهت بقولي وللتبيين على المتعلقة في تعجب أو تفضيل بحب أو بغض مبينة لفاعلية مصحوبها، كقوله تعالى: (قَالَ رَبِّ السِّجْنُ أَحَبُّ إِلَيَّ مِمَّا يَدْعُونَنِي إِلَيْهِ)، وكقول النبي صلى الله عليه وسلم: (وايم الله، لقد كان خليفاً للإمارة، وإن كان من أحب الناس إلي) " انتهى. وتقدم له ذكر ذلك في "باب التعجب".
وقوله ولموافقة اللام قال المصنف في الشرح: "أشرت بموفقة اللام إلى نحو (وَالْأَمْرُ إِلَيْكِ)، واللام في هذا هو الأصل، كقوله تعالى (لِلَّهِ الْأَمْرُ مِنْ قَبْلُ وَمِنْ بَعْدُ)، (وَالْأَمْرُ يَوْمَئِذٍ لِلَّهِ)، و (هَلْ لَنَا مِنَ الْأَمْرِ مِنْ شَيْءٍ قُلْ إِنَّ الْأَمْرَ كُلَّهُ لِلَّهِ).
ومثل "إلى" من (وَالْأَمْرُ إِلَيْكِ) فيم وافقة اللام "إلى" المعدية بعد الهدى، كقوله تعالى:(يَهْدِي مَنْ يَشَاءُ إِلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ)، فإنها موافقة للام (الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي هَدَانَا لِهَذَا)، وللام (قُلِ اللَّهُ يَهْدِي لِلْحَقِّ)، و (إِنَّ هَذَا الْقُرْآَنَ يَهْدِي لِلَّتِي هِيَ أَقْوَمُ) " انتهى.
ولا يتعين في قوله (وَالْأَمْرُ إِلَيْكِ) أن تكون بمعنى اللام، بل هي باقية على معناها من الغاية، أي: الأمر مضاف إليك ومنته إلى رأيك، لما استفتتهم في أمر سليمان عليه السلام، وجعلتهم أهل شورى، وأجابوا بأنهم أولو قوة وأولو بأس شديد، فلنا مقاومة بمن عاداك - أضافوا الأمر إليها أدباً مع ملكتهم، فقالوا (وَالْأَمْرُ إِلَيْكِ) لما قالت (أَفْتُونِي فِي أَمْرِي).
قال ابن عصفور: "وقد تكون إلى لانتهاء الغاية في الأسماء كما تكون لانتهاء الغاية في الأفعال، في نحو قولك: إنما أنا إليك، أي: أنت غايتي".
ومن ذلك قوله تعالى: (فَهِيَ إِلَى الْأَذْقَانِ فَهُمْ مُقْمَحُونَ)، المعنى: فأيمانهم إلى الأذقان، أي: مضمومة إلى الأذقان، وعاد الضمير على الأيمان، ولم تذكر من جهة أن الغل لا يكون إلا في /اليمين والعنق جميعاً، فكفى ذكر أحدهما من صاحبه، كما قال (فَمَنْ خَافَ مِنْ مُوصٍ جَنَفًا أَوْ إِثْمًا فَأَصْلَحَ بَيْنَهُمْ فَلَا إِثْمَ عَلَيْهِ)، فضم الورثة إلى الوصي، ولم يذكروا لأن الصلح إنما يقع بين الوصي والورثة. ويدل
على أن الضمير ضمير الأيمان قراءة عبد الله: (إِنَّا جَعَلْنَا فِي أَعْنَاقِهِمْ أَغْلَالًا فَهِيَ إِلَى الْأَذْقَانِ)، فكفت الأيمان من ذكر الأعناق في قراءة عبد الله كما كفت الأعناق عن ذكر الإيمان في قراءة العامة.
وقوله وفي أنشد المصنف شاهداً على أن "إلى" تكون بمعنى "في" قول النابغة:
فلا تتركني بالوعيد كأنني
…
إلى الناس مطلي به القار أجرب
وقول النمر:
إذا جئت دعداً لا أبين كأنني
…
إلى آل دعد من سلامان أو نهد
سلامان: من طيئ، ونهد: من قضاعة. وأنشد غيره لطرفة:
وإن يلتق الحي الجميع تلاقني
…
إلى ذروة البيت الرفيع المصمد
واستدلوا أيضاً بقوله تعالى (هَلْ لَكَ إِلَى أَنْ تَزَكَّى)، وبقول العرب: جلست إلى القوم، أي: فيهم.
قال ابن عصفور: "لو كانت إلى بمعنى في لساغ أن تقول: أدخلت الخاتم إلى إصبعي، وزيد إلى الكوفة، أي: في إصبعي، وفي الكوفة، فلما لم تقل العرب ذلك
وجب أن يتأول جميع ذلك. فأما الآية فإنه لما كان قوله (هَلْ لَكَ إِلَى أَنْ تَزَكَّى) دعاء منه عليه السلام لفرعون صار تقديره: أدعوك إلى أن تزكى. وضمن مطلياً معنى مبغض؛ لأن الجمل الأجرب المطلي بالقطران يبغضه الناس، ويطردونه خوفاً من عدواه، فأجراه في التعدي مجراه. وكذلك التقدير: وجدتني آوياً إلى ذروة. وجلست مضافاً إلى القوم. وكونها بمعنى في مذهب كوفي" انتهى.
وقوله "من سلامان أو نهد" هما عدوان لآل دعد، فالمعنى: كأنني بغيض إلى آل دعد، كما قال:
لقد زادني حباً لنفسي أنني
…
بغيض إلى كل امرئ غير طائل
قيل: ومنه (لَيَجْمَعَنَّكُمْ إِلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ)، قالوا: التقدير في الناس، وفي آل دعد، وفي ذروة، وفي يوم القيامة.
وهذا الذي ذهب إليه المصنف هو قول القتبي، واستدل بيتي النابغة وطرفة.
وقال بعض شيوخنا: هي لانتهاء الغاية، كأنه قال: وجدتني مضافاً إلى ذروة المجد. وكذلك: كأنني إلى الناس، أي: إنني أشبه الجمل المطلي إذا أخذت مضافاً إلى الناس، ولا أشبهه في غير تلك الحالة، فـ (إلى) متعلق بـ (مضاف)، وحذف لدلالة الكلام عليه بمنزلة قوله تعالى (إِلَى فِرْعَوْنَ وَقَوْمِهِ)، ويكون المضاف المحذوف منصوباً على الحال، /والعامل ما في كأن من التشبيه.
وقوله ومن هذا أيضاً قول الكوفيين والقتبي، زعم أن "إلى" تكون بمعنى "من"، وأنشد هو والمصنف في الشرح وغيرهما شاهداً على ذلك قول ابن أحمر:
تقول وقد عاليت بالكور فوقها
…
أيسقى، فلا يروى إلى ابن أحمرا
أي: فلا يروى مني. ويتخرج على التضمين، أي: فلا يأتي إلي للرواء؛ لأنه إذا كان لا يروى ولا يشفى غلته لم يأت إليه.
وخرجه ابن عصفور على أنه أراد: يسقى فلا يروى ظمؤه إلي، فحذف المضاف، وأقام الضمير مقامه، فاستتر في الفعل. والعامل في "إلي" ظمأ المحذوف، كقولهم: البر أرخص ما يكون قفيزان بدرهم، أي: ملء قفيزين، فالعامل في أرخص ملء المحذوف، ولا يمكن أن يعمل البر ولا القفيزان لجمودهما، ويكون من عمل ظمأ وهو مصدر محذوف، وذلك يجوز في الضرورة.
وقوله ولا تزاد خلافاً للفراء زعم الفراء أنها زائدة في قراءة بعضهم (فَاجْعَلْ أَفْئِدَةً مِنَ النَّاسِ تَهْوِي إِلَيْهِمْ) بفتح الواو، ونظرها باللام في قوله تعالى (رَدِفَ لَكُمْ).
قال المصنف في الشرح: "وأولى من الحكم بزيادتها أن يكون الأصل تهوي، فجعل موضع الكسرة فتحة، كما يقال في رضي: رضا، وفي ناصية: ناصاة، وهي لغة طائية، وعليها قول الشاعر:
نستوقد النبل في الحضيض، ونصـ
…
ـطاد نفوساً بنت على الكرم"
انتهى.
وهذا تخريج لا يجوز؛ لأنه ليس كل ما آخره ياء قبلها كسرة يجوز إبدالها ألفاً وفتح ما قبلها، فليس من لغة طيئ أن تقول في يجري: يجرى، ولا في يرمي: يرمى، ولا في يشتري: يشترى، وقد نقدنا عليه ذاك في قوله في آخر فصل من فصول التصريف، في قوله:"وفتح ما قبل الياء الكائنة لاماً مكسوراً ما قبلها وجعلها ألفاً لغة طائية"، وبينا أن ذلك ليس على إطلاقه، وإنما هو مخصوص بنحو رضي وبنحو الناصية فقط.
وتتخرج هذه القراءة على تضمين تهوى معنى تميل؛ لأن من هوي شيئاً مال إليهه، فكأنه قيل: تميل إليهم بالمحبة والهوى.
وزعم الكوفيون والقتبى أن "إلى" تكون بمعنى "عند"، تقول: هو أشهى إلي من كذا، أي: عندي، قال أبو كبير الهذلي:
أم لا سبيل إلى الشباب، وذكره
…
أشهى إلي من الرحيق السلسل
قال: أراد: أشهى عندي. وأنشد غيره قوله:
لعمرك إن المس من أم خالد
…
إلي - وإن أوقعته - لبغيض
وقال:
ثقال إذا راد النساء، خريدة
…
صناع، فقد سادت إلى الغوانيا
وقال حميد بن ثور الهلالي:
ذكرتك لما أتلعت من كناسها
…
وذكرك سبات إلي عجيب
لما أتلعت: رفعت رأسها، يعني غزالة، والسبات: الأوقات، واحدها سبة.
وقال آخر:
فكان إليها كالذي اصطاد بكرها
…
شقاقاً وبغضاً، أو أطم وأهجرا
أي: فكان عندها.
وخرج قوله "أشهى إلي" على التضمين بمعنى: أقرب إلى اشتهاء. وخرج أيضاً على التضمين، ضمن أشهى معنى أحب. و"سادت" معنى: صارت أحب الغواني إلي. و"بغيض" تعدى إلى قوله "إلي". وأما "فكان إليها" فمتعلق بمضمر تقديره: فكان كرهها إلي؛ لأنه يصف بقرة وحشية أكل السبع ولدها، فتعرض لها ثور كرهته لحزنها على ولدها ككراهية السبع الذي اصطاده، أو أعظم من كراهتها له.
وزعم الأخفش أن "إلى" تأتي بمعنى الباء، وخرج على ذلك قوله تعالى (وَإِذَا خَلَوْا إِلَى شَيَاطِينِهِمْ)، (وَإِذَا خَلَا بَعْضُهُمْ إِلَى بَعْضٍ)، أي: بشياطينهم،
وببعض. وتقول: خلوت إلى فلان في حاجة، أي: بفلان. ويتخرج ذلك على التضمين أيضاً، أي: وإذا انتهوا إلى شياطينهم في الخلوة.
-[ص: ومنها اللام للملك وشبهه، وللتمليك وشبهه، وللاستحقاق، وللنسب، وللتعليل، وللتبليغ، وللتعجب، وللتبيين، وللصيرورة، ولموافقة "في" و"عند" و"إلى" و"بعد" و"على" و"من". وتزاد مع مفعول ذي الواحد قياساً في نحو: (لِلرُّؤْيَا تَعْبُرُونَ)، و (إِنَّ رَبَّكَ فَعَّالٌ لِمَا يُرِيدُ)، وسماعاً في نحو: (رَدِفَ لَكُمْ). وفتح اللام مع المضمر لغة غير خزاعة، ومع الفعل لغة عكل وبلعنبر.]-
ش: مثال اللام للملك: المال لزيد. ومثالها لشبه الملك: أدوم لك ما تدوم لي، وقال الشاعر:
ما لمولاك كنت كان لك المو
…
لى، ومثل الذي تدين تدان
ومن هذا النوع المفهمة ما يحب مقابلة لـ"علي"، كقوله تعالى (مَنْ عَمِلَ صَالِحًا فَلِنَفْسِهِ وَمَنْ أَسَاءَ فَعَلَيْهَا)، وكقول الشاعر:
فيوم علينا، ويوم لنا
…
ويوم نساء، ويوم نسر
ومثال لام التمليك: وهبت لزيد ديناراً. ومثال شبه التمليك (وَاللَّهُ جَعَلَ لَكُمْ مِنْ أَنْفُسِكُمْ أَزْوَاجًا وَجَعَلَ لَكُمْ مِنْ أَزْوَاجِكُمْ بَنِينَ وَحَفَدَةً). ومثال لام الاستحقاق: الجلباب للجارية، والجل للفرس. ومثال لام النسب: لزيد عم هو
لعمرو خال، ولعبد الله ابن هو لجعفر حم. ومثال لام التعليل (لِتَحْكُمَ بَيْنَ النَّاسِ بِمَا أَرَاكَ اللَّهُ)، و (لِتُبَيِّنَ لِلنَّاسِ مَا نُزِّلَ إِلَيْهِمْ)، وقول لشاعر:
ولو سألت للناس يوماً بوجهها
…
سحاب الثريا لاستهلت مواطره
والجارة اسم من غاب حقيقة أو حكماً عن قائل قول يتعلق به، نحو (وَقَالَ الَّذِينَ كَفَرُوا لِلَّذِينَ آَمَنُوا لَوْ كَانَ خَيْرًا مَا سَبَقُونَا إِلَيْهِ)، أي: من أجل، (وَقَالُوا لِإِخْوَانِهِمْ إِذَا ضَرَبُوا فِي الْأَرْضِ)، (الَّذِينَ قَالُوا لِإِخْوَانِهِمْ وَقَعَدُوا)، (وَقَالَتْ أُولَاهُمْ لِأُخْرَاهُمْ)، (وَلَا أَقُولُ لِلَّذِينَ تَزْدَرِي أَعْيُنُكُمْ)، وقول لشاعر:
وقولك للشيء الذي لا تناله
…
إذا ما هو احلولى: ألا ليت ذا ليا
وقال آخر:
كضرائر الحسناء، قلن لوجهها
…
حسداً وبغياً: إنه لدميم
ومثال التبليغ وهي الجارة اسم سامع قول أو ما في معناه نحو: قلت له، وبينت له، وفسرت له، وأذنت له، واستجبت له، وشكرت له، ونصحت له، إلا
أن هذين قد يستغنيان عن اللام، فيقال: شكرته ونصحته، والمختار تعديتهما باللام، وبه نزل القرآن.
ومثال التعجب قول الشاعر:
شباب وشيب وافتقار وثروة
…
فلله هذا الدهر كيف ترددا
ومثله:
فلله عينا من رأى من تفرق
…
أشت وأنأى من فراق المحصب
واللام في القسم بابها التعجب، وقد استعملها بعض العرب مع غير التعجب فيه، حكاه س في آخر "باب الإضافة إلى المحلوف به"، قال س:"ويقول بعض العرب: لله لأفعلن".
ومثال التبيين - وهي الواقعة بعد أسماء الأفعال والمصادر التي تشبهها مبينة لصاحب معناها، والمتعلقة بحب في تعجب أو تفضيل مبينة لمفعولية مصحوبها - نحو (هَيْتَ لَكَ)، و (هَيْهَاتَ هَيْهَاتَ لِمَا تُوعَدُونَ)، وما أحب زيداً لعمرو! (وَالَّذِينَ آَمَنُوا أَشَدُّ حُبًّا لِلَّهِ).
ومثال لام الصيرورة (فَالْتَقَطَهُ آَلُ فِرْعَوْنَ لِيَكُونَ لَهُمْ عَدُوًّا وَحَزَنًا)، وقول الشاعر:
فللموت تغدو الوالدات سخالها
…
كما لخراب الدور تبنى المساكن
ومثله:
لا أرى حصناً سينجي أهله
…
كل حي لفناء ونفد
وموافقة "في"(وَنَضَعُ الْمَوَازِينَ الْقِسْطَ لِيَوْمِ الْقِيَامَةِ)، (لَا يُجَلِّيهَا لِوَقْتِهَا إِلَّا هُوَ)، وقال مسكين الدرامي:
أولئك قومي قد مضوا لسبيلهم
…
كما قد مضى لقمان عاد وتبع
[و]:
وكل أب وابن وإن عمرا معاً
…
مقيمين مفقود لوقت وفاقد
وموافقة "عند" كقراءة الجحدري: (بَلْ كَذَّبُوا بِالْحَقِّ لَمَّا جَاءَهُمْ)، قال أبو الفتح:"أي عند مجيئه إياهم، كقولك: كتب لخمس خلون". وأنشد غير المصنف للعجاج:
تسمع للجرع إذا استحيرا
…
للماء في أجوافها خريرا
/أي: عند الجرع، والاستحارة: الجرع، والخرير: صوت الماء.
وموافقة "إلى"(سُقْنَاهُ لِبَلَدٍ مَيِّتٍ)، (كُلٌّ يَجْرِي لِأَجَلٍ مُسَمًّى).
وموافقة (بعد)(أَقِمِ الصَّلَاةَ لِدُلُوكِ الشَّمْسِ)، أي: بعد زوالها، وقال:
فلما تفرقنا كأني ومالكا
…
لطول اجتماع لم نبت ليلة معاً
أي: بعد طول اجتماع.
وموافقة "علي"(يَخِرُّونَ لِلْأَذْقَانِ سُجَّدًا)، و (دَعَانَا لِجَنْبِهِ)، (وَتَلَّهُ لِلْجَبِينِ)، وقال الشاعر:
تناوله بالرمح، ثم أنني له
…
فخر صريعاً لليدين للفم
وموافقة "من" كقول جرير:
لنا الفضل في الدنيا، وأنفك راغم
…
ونحن لكم يوم القيامة أفضل
أي: ونحن منكم. ومثله ما أنشده ثعلب:
وإن قرين السوء لست بواجد
…
له راحة ما عشت حتى تفارقه
أي: بواجد منه راحة. وقال:
إذا الحلم لم يغلب لك الجهل لم تزل
…
عليك بروق جمة ورواعد
انتهت مثل معاني لام الجر، وهي منقولة من شرح المصنف باختصار.
فأما أن اللام تكون للاستحقاق فهي عبارة س. وعبر عن هذا المعنى الفارسي بالتحقيق، ويريد به أن الشيء حق لهذا، فقولهم: سرج للدابة، أي: حق للدابة أن يكون لها سرج.
وقال المبرد: "معنى اللام جعل الأول لاصقاً بالثاني". وأبطل ذلك بأنها لو كانت للإلصاق لكانت بمعنى الباء؛ لأنها تجعل الأول لاصقاً بالثاني في نحو: أمسكت بزيد، وسطوت بعمرو، وللزم أن تستعمل حيث استعملت الباء، فتقول: سطوت لزيد، ولا يقال ذلك، فدل على بطلانه.
قال بعض أصحابنا: والصحيح ما قاله س من أنها للاستحقاق، وهو معناها العام؛ لأنه لا يفارقها، وإنما جعلت للملك لأنه ضرب من الاستحقاق، وقد تدخلها مع ذلك معان أخر.
وأما كونها للصيرورة - ويعبر عنها أيضاً بالعاقبة والمآل - فأورد ذلك أصحابنا على أنه مذهب مردود، وهو منسوب للأخفش. وتقرير مذهبه أن الالتقاط لم يكن لكونه عدواً لهم وحزناً، بل الالتقاط كان ليكون حبيباً وولداً، فآل أمره إلى أن كان لهم عدواً، فاللام للصيرورة. ورد بأنه حذف السبب وأقيم المسبب مقامه.
وأما كونها بمعنى "على"، وبمعنى "مع"، وبمعنى التعليل، وبمعنى "بعد"، وبمعنى "من"، وبمعنى "في"، وبمعنى "إلى" - فهو مذهب الكوفيين، وتبعهم القتبي.
وأما كونها بمعنى "على"، وبمعنى "مع"، وبمعنى التعليل، وبمعنى "بعد"، وبمعنى "من"، وبمعنى "في"، وبمعنى "إلى" - فهو مذهب الكوفيين، وتبعهم القتبي.
وأرادوا من كونها بمعنى "على" قوله تعالى (لِبُيُوتِهِمْ سُقُفًا)، (وَلَقَدْ سَبَقَتْ كَلِمَتُنَا لِعِبَادِنَا)، (وَلَا تَجْهَرُوا لَهُ بِالْقَوْلِ)، (ذَلِكَ لِمَنْ لَمْ يَكُنْ أَهْلُهُ حَاضِرِي الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ)، (وَلَهُمُ اللَّعْنَةُ)، وفي الحديث:(واشترطي لهم الولاء).
ومن كونها بمعنى "بعد"(صوموا لرؤيته). وبمعنى "إلى": أوحى له، أي: إليه.
وتأول ما استدلوا به بعض شيوخنا، فأما:
..............................
…
فخر صريعاً لليدين وللفم
وما أنشده القتبي من قول الشاعر:
كأن مخواها على ثفناتها
…
معرس خمس، وقعت للجناجن
فلما كانت اليدان تتقدمان سائر البدن صار ذلك شبيهاً بما يسقط بسقوط غيره؛ فدخلت اللام لملاحظة ذلك الشبه. وبهذا يتأول - والله أعلم - (وَتَلَّهُ لِلْجَبِينِ).
وأما "لطول اجتماع" واستدلالهم بأن المعنى: بعد طول اجتماع - فإنما يريد: كأني ومالكاً لم نجتمع، وأوجب له هذا القول وهذا الشبه طول اجتماعهم قبل ذلك، ولولا الاجتماع قبل لما صح أن يقول: كأني ومالكاً لم نبت ليلة معاً، فكأنه قال: أشبهت من لم يجتمع لأجل ما كان منا من طول اجتماع، ولولا ذلك لم يقل أشبهت.
وأما كونها للتعليل في نحو: فعلت ذلك لك، أي: من أجلك، وقول العجاج:
تسمع للجرع إذا استحيرا
…
للماء في أجوافها خريرا
ففيها معنى الملك؛ لأن الشيء إذا وقع بسبب الشيء ومن أجله فهو له.
وأما: كتبته لثلاث خلون، وقول الراعي:
حتى وردن لتم خمس بائص
…
جداً، تعاوره الرياح، وبيلا
وقوله:
خط هذا الكتاب في يوم سبت
…
لثلاث خلون من رمضان
فلأنها لم تخل من معناها؛ لأن الكتب صار متصلاً بالثلاث، و"بعد" لا يفهم ذلك؛ لأنك إذا قلت كتبت بعد كذا لم تقتض الاتصال، وكتبت لثلاث معناه الاتصال بالثلاث، فلما كان لمضي الثلاث وقع الكتب، فكأنها أوجبت الكتب من حيث إنه وجد عندها، فصار شبيهاً بما وجد بوجود غيره، وهذا من طريق الاستعارة لما بينهما من الشبه.
وقال بعض شيوخنا: "اختلف الناس في زيادتها، فأما س فلم يذكر ذلك، وتابعه عليه أبو علي. وذهب أبو العباس إلى زيادتها، واستدل بقوله تعالى: (قُلْ عَسَى أَنْ يَكُونَ رَدِفَ لَكُمْ)، المعنى: ردفكم، وبقوله: (إِنْ كُنْتُمْ لِلرُّؤْيَا تَعْبُرُونَ)؛ لأنك تقول: عبرت الرؤيا، ولا تقول: عبرت للرؤيا، كما لا تقول: ضربت لزيد. ثم تأوله على تضمين ردف معنى تهيأ" انتهى. قال: وفي كتاب البخاري: ردف بمعنى قرب. وهذا يدل على أن مأخذه فيه التضمين.
وأما (لِلرُّؤْيَا تَعْبُرُونَ) فهو مقو لوصول الفعل إلى الاسم لتقدمه، فإذا تأخر /عنه الفعل ضعف، فاحتيج إلى حرف يصل به. ويدلك على أن الفعل إذا تأخر ضعف قولهم: زيد ضربت، ولا تقول: ضربت زيد.
قال بعض أصحابنا: إنما معناها العام الاستحقاق، وإنما جعلها النحويون للملك لأنه ضرب من الاستحقاق، والتي تداخلها مع الملك والاستحقاق معان أخر، فإن الداخل منها على الاسم الصريح خمسة أنواع:
أن تكون للسبب؛ ألا ترى أن المسبب مستحق بسببه.
وللقسم إذا كان في الكلام معنى التعجب، نحو: لله لا يبقى أحد؛ ألا ترى أن اسم الله تبارك وتعالى مستحق لأن يقسم به.
والاستغاثة أو ما يجري مجراها - وهو التعجب - ألا ترى أنه مستحق لأن يستغاث به ولأن يتعجب منه.
ولتقوية عمل العامل، وهي الداخلة على المفعول إذا تقدم على العامل فيه.
وزائدة في باب "لا"، وباب النداء، [نحو]: لا أبا لك، ويا بؤس لزيد، وفي نحو: ضربت لزيد، ونحو قوله:
وملكن ما بين العراق ويثرب
…
ملكاً أجار لمسلم ومعاهد
وأنشد الفراء:
يذمون للدنيا وهم يرضعونها
…
أفاويق حتى ما يدر لها ثعل
وقول الآخر:
فلما أن تواقفنا قليلاً
…
أنخنا للكلاكل، فارتمينا
وقد يجيء ذلك في الكلام إلا أنه قليل لا يقاس عليه، قال تعالى (قُلْ عَسَى أَنْ يَكُونَ رَدِفَ لَكُمْ).
ومما استدل به الكوفيون على أن اللام تكون بمعنى "إلى" قوله تعالى: (بِأَنَّ رَبَّكَ أَوْحَى لَهَا)، وقال تعالى:(وَأَوْحَى رَبُّكَ إِلَى النَّحْلِ)، وبقول العرب: أوحى له، وأوحى إليه، بمعنى واحد، وبقولهم: هداه لكذا، وهداه إلى كذا.
وتأول على أنه إذا عدي بإلى أوحى كان بمعنى: أشار، ومنه:
فأوحت إلينا، والأنامل رسلها
…
...........................................
أي: أشارت. وبمعنى: أرسل، يقال: أوحى إليه بكذا، أي: أرسل إليه. وبمعنى: ألهم، قال تعالى (وَأَوْحَى رَبُّكَ إِلَى النَّحْلِ)، أي: ألهمها؛ لأن الإلهام إشارة في المعنى. ويكون أوحى بمعنى: أمر، فيتعدى إذ ذاك باللام، ومنه (بِأَنَّ رَبَّكَ أَوْحَى لَهَا)، أي: أمرها. وإنما تعدت باللام إذا كانت بمعنى أمر لأن أمر الله - تعالى - للأرض قول في المعنى، قال تعالى:(إِنَّمَا أَمْرُهُ إِذَا أَرَادَ شَيْئًا أَنْ يَقُولَ لَهُ كُنْ فَيَكُونُ)، فكأنه قال: بأن ربك قال لها: حدثي أخبارك.
وكذلك هدى، تكون بمعنى: وفق، فتتعدى إذ ذاك تعديها باللام، فيقال: هداه الله للدين، المعنى: وفقه الله للدين. وبمعنى: بين، فتتعدى تعديها، قال تعالى:(أَوَلَمْ يَهْدِ لَهُمْ)، قال أبو عمرو بن العلاء: معناه أولم يبين لهم. وقد تكون بمعنى: عرف، فتتعدى إذ ذاك إلى مفعولين بنفسها، فتقول: هديته /الطريق، أي:
عرفته الطريق، قال تعالى:(وَهَدَيْنَاهُ النَّجْدَيْنِ). ولا يعديها إلى مفعولين بنفسها إلا أهل الحجاز، وغيرهم من العرب يقول: هديتهم للطريق، يجعلونها بمعنى أرشدتهم. ولا ينكر اختلاف تعدي الفعل بسبب ما يشرب من المعاني؛ ألا ترى أنهم يستعملون "بكيت" غير متعد إذا أشربوه معنى "نحت"؛ لأن البكاء نوح في المعنى، وقد يقال: بكيت زيداً، فيتعدى إلى مفعول واحد إذا أشرب معنى رثيت، وإلى مفعولين، فيقال: بكيت زيداً دماً، يضمنونه معنى: أتبعت زيداً دماً. والدليل على أن دماً مفعول به قوله:
ولو شئت أن أبكي دماً لبكيته
…
عليك، ولكن ساحة الصبر أوسع
فإضماره يدل على أنه ليس من جنس التمييز.
وتأول "فخر صريعاً لليدين وللفم"، و"وقعت للجناجن" على أن اللام تتعلق بمحذوف، أي: مقدماً لليدين، ووقعت مقدمة للجناجن.
وأما بيت متمم فتقديره: لفقد طول اجتماعنا، أو لانقطاع طول اجتماعنا. وأما كتبته لثلاث خلون فهو على تقدير: لانقضاء ثلاث، ولانقضاء تم خمس.
وقوله وتزاد مع مفعول ذي الواحد قياساً قال المصنف في الشرح: "ومن لامات الجر الزائدة، ولا تزاد إلا مع مفعول به بشرط أن يكون عامله متعدياً إلى واحد، فإن كانت زيادتها لتقوية عامل ضعف بالتأخر، نحو (إِنْ كُنْتُمْ لِلرُّؤْيَا تَعْبُرُونَ)، أو بكونه فرعاً في العمل، نحو (إِنَّ رَبَّكَ فَعَّالٌ لِمَا يُرِيدُ) - جاز
القياس على ما سمع منها. وإن كانت بخلاف ذلك قصرت على السماع، نحو (رَدِفَ لَكُمْ)، ومنه قول الشاعر:
ومن يك ذا عود صليب رجا به
…
ليكسر عود الدهر فالدهر كاسره"
انتهى. وقد تقدم الكلام على كونها تكون زائدة والخلاف في ذلك بين س وأبي العباس.
وقوله وفتح اللام مع المضمر لغة غير خزاعة يعني أن لغة العرب غير خزاعة فتح اللام مع المضمر، نحو: لنا، ولكم، ولها، وله. وأما خزاعة فلام الجر عندهم مكسورة كما هي إذا دخلت على المظهر، تقول: لنا، ولكم، ولها وله. وكان ينبغي للمصنف أن يستثني من صور المضمر ياء المتكلم، فإن اللغتين اتفقتا على كسر اللام معها، فيقولون: لي.
ودل كلام المصنف بالمفهوم من نصه هذا أن المظهر متفق على كسر اللام إذا دخلت عليه؛ وقد نص هو في الشرح على ذلك، قال فيه:"وكل العرب يفتحون لام الجر الداخلة على مضمر إلا خزاعة، فإنها تكسرها مع المضمر كما تكسر مع غيره في اللغات كلها" انتهى.
وليس كذلك، بل الكسر مشهور كلام العرب إلا مع المستغاث به غير المعطوف على غيره بغير تكرير ياء فالفتح. وحكى أبو عمرو ويونس وأبو عبيدة
وأبو الحسن أنهم سمعوا العرب تفتحها مع الظاهر على الإطلاق، فيقولون: المل لزيد، بفتح الام. /وما حكاه المصنف عن خزاعة أنها تكسر مع المضمر حكاه اللحياني عن بعض العرب، يقولون: المال له، كما يقولون: به، وذلك قليل جداً.
وقوله ومع الفعل لغة عكل وبلعنبر قال أبو زيد: سمعت من يقول: (وَمَا كَانَ اللَّهُ لِيُعَذِّبَهُمْ) بفتح اللام، وقرأ سعيد بن جبير فيما حكى عنه المبرد (وَإِنْ كَانَ مَكْرُهُمْ لِتَزُولَ مِنْهُ الْجِبَالُ)، وفتحها، حكاه مكي بن أبي طالب عن بني العنبر، كما حكاه المصنف، وأنشدوا:
وتأمرني ربيعة كل يوم
…
لأشريها وأقتني الدجاجا
الرواية بفتح لام لأشريها.
ص: وتساوي لام التعليل معنى وعملاً "كي" مع "أن"، و"ما" أختها والاستفهامية.
ش: قال المصنف في لاشرح: "كي على ضربين: مصدرية تذكر في إعراب الفعل، وجارة تساوي لام التعليل، ولا تدخل إلا على "أن"، كقوله:
فقالت: أكل الناس أصبحت مانحاً
…
لسانك كيما أن تغر وتخدعا
أو على "ما" المصدرية، كقوله:
إذا أنت لم تنفع فضر، فإنما
…
يراد الفتى كيما يضر وينفع
أو على "ما" الاستفهامية، كقولك سائلاً عن العلة: كي مَ فعلته؟ وفي الوقف: كيمة؟ كما تقول: لم فعلت؟ ولمة؟ انتهى". فقوله "إن كي تساوي لام التعليل معنى"، أي: تجيء للتعليل كما تجيء اللام للتعليل.
وقوله وعملاً يعني أنها تكون جارة كما أن اللام جارة، إلا أن اللام تجر الاسم الصريح، وتدخل على المضارع مقدراً أن بينها وبينه، فينصب بإضمار أن، وتكون أن المقدرة والفعل ينسبك منهما مصدر، هو في موضع جر بكي، ولا يجوز أن يصرح به بعد كي.
وما ذكره المصنف من أنها تكون "كي" في أحد قسميها جارة هو مذهب البصريين، إلا أن ظاهر كلامه يدل على أنها لا تكون جارة إلا إذا دخلت على أن لفظاً، وعليه أنشد "كيما أن تغر وتخدعا"، وهذا ليس مذهب البصريين، بل مذهبهم أنها إذا كانت جارة كانت أن مضمرة بعدها وجوباً، وأن العرب التزمت إضمار أن بعدها، فأما "كيما أن تغر" فإنما أظهرت على سبيل الشذوذ ومنبهة على الأصل.
وظاهر كلامه أيضاً أنها تكون جارة إذا دخلت على "ما" المصدرية، وعليه أنشد "كيما يضر وينفع"، فـ"ما" عنده مصدرية، ينسبك منها ومن الفعل بعدها مصدر، يكون في موضع جر بـ"كي"، ولما كانت "أن" عاملة نصبت تغر، و"ما" غير عاملة فارتفع الفعل بعدها، وهو: يضر وينفع.
وما ذهب إليه المصنف من أن "ما" مصدرية في هذا البيتت غير موافق عليه؛ بل ذهب أصحابنا إلى أن "ما" كافة لـ"كي" عن العمل، وأن "كي" في البيت هي الناصبة بنفسها لا الجارة، وأن "ما" كفتها عن العمل كـ"ما" اللاحقة لـ"رب" في قوله:(رُبَمَا يَوَدُّ)، فيكون الفعل الواقع بعدها مرفوعاً، وعليه أنشدوا "كيما يضر وينفع".
وأما إذا انتصب الفعل بعد "كي" المتصل بها "ما" فـ"ما" عندهم زائدة، كما زيدت "ما" بين الخافش ومخفوضه زادوا "ما" بين الناصب ومنصوبه، وكما فصلوا بينهما بـ"لا" النافية، قال تعالى:(لِكَيْ لَا تَاسَوْا عَلَى مَا فَاتَكُمْ)، وقال الشاعر:
أردت لكيما يعلم الناس أنها
…
سراويل قيس، والوفود شهود
وقال آخر:
حبسنا، ولم نسرح لكي لا يلومنا،
…
على حكمه صبراً معودة الحبس
وقال الآخر:
أردت لكيما تجمعيني وصاحبي
…
ألا لا، أحبي صاحبي، وذريني
وقد يفصل بهما معاً، قال:
أردت لكيما لا ترى لي عثرة
…
ومن ذا الذي يعطى الكمال فيكمل
وذهب الكوفيون إلى أن "كي" لا تكون حرف جر، لا إذا دخلت على الفعل ولا إذا دخلت على "ما" الاستفهامية، بل هي حرف نصب على كل حال. وقالوا: إضمار أن وهي مخفوضة قبيح شاذ، ولا يحسن أن تقول: أمرت زيداً بيحسن، فلما جاء الفعل منتصباً بعدها في فصيح الكلام دل على أنها ليست حرف جر.
وأما زعم البصريين أنها تجر اسم الاستفهام في قولهم: كيمه؟ واستدلالهم بذلك على أنها حرف جر - فلا حجة في ذلك؛ لأن "مه" ليست مخفوضة، وإنما هي منصوبة على مذهب المصدر، يقول القائل: أقوم كي تقوم، فيسمعه المخاطب، ولا يفهم تقوم، فيقول: كيمه؟ يريد: كي ماذا؟ أي: كي تفعل ماذا؟ فموضع "مه" نصب بفعل مضمر على جهة المصدر والتشبيه به، وليس لـ"كي" فيه عمل، وقد أجمعنا على أن "كي" هي الناصبة للمضارع في قولك: جئت لكي تغضب، فيلزم على ما ذهبتم إليه من أنها تكون جارة أن تكون من عوامل الأسماء والأفعال؛ وهذا فاسد لأن عوامل كل واحد من صنفي الأسماء والأفعال مختصة به لا تعمل في غيره.
وأما البصريون فاستدلوا على أن "كي" جارة في قولهم "كيمه" بحذف ألف "ما" الاستفهامية، ولا تحذف إلا مع حروف الجر، نحو (عَمَّ يَتَسَاءَلُونَ)، (فِيمَ أَنْتَ مِنْ ذِكْرَاهَا)، (فَنَاظِرَةٌ بِمَ يَرْجِعُ الْمُرْسَلُونَ):
علام تقول الرمح يثقل عاتقي
…
.........................................
فأما قول الشاعر:
ألا مَ تقول الناعيات، ألا مه
…
ألا فانعيا بيت الندى والكرامه
فحذف ألف "ما" الاستفهامية بعد ألا، وليست حرف جر، فإن ذلك على سبيل الضرورة، بخلاف حذف ألفها بعد "كي"، فإنه في فصيح الكلام، ولا يحذف في فصيح الكلام إلا مع حروف الجر. وأيضاً ما ادعاه الكوفيون من إضمار الفعل بعد "كي" في قولهم "كيمه" دعوى. وأيضاً فيلزم من ذلك تقديم الفعل على "ما" الاستفهامية وحذف ألفها بعد غير حرف /الجر، ولا يجوز حذف معمول الحرف الناصب للفعل وإبقاء الناصب، كما لا يجوز حذف معمول الحرف الجار للاسم وإبقاء الحرف.
-[ص: ومنها الباء للإلصاق، وللتعدية، وللسببية، وللتعليل، وللمصاحبة، وللظرفية، وللبدل، وللمقابلة، ولموافقة "عن" و"على" ومن" التبعيضية. وتزاد مع فاعل ومفعول وغيرهما.]-
ش: ظاهر كلام المصنف في معاني هذه الحروف أنها وضعت مشتركة بين ما نذكر أنها وردت له؛ وأصحابنا لا يثبتون ذلك، بل يأتون في أكثرها بأنها يجيء
الحرف منها لمعنى، ثم إنه قد يستعمل لذلك المعنى، وينجر معه معنى آخر، فليس الحرف موضوعاً لتلك المعاني بجهة الاشتراك.
قال أصحابنا: الباء غير الزائدة لا تكون إلا بمعنى الإلزاق والاختلاط حقيقة أو مجازاً، فقد تتجرد لهذا المعنى، وقد تدخلها مع ذلك معان أخر.
وحركة الباء الكسر، وربما فتحت مع الظاهر، فقالوا: بزيد، حكاه أبو الفتح عن بعضهم.
وقوله للإلصاق مثل ذلك المصنف في الشرح، وقال:"هي الواقعة في نحو: وصلت هذا بهذا".
وقال أصحابنا: التي لمجرد الإلزاق والاختلاط نوعان:
أحدهما: الباء التي لا يصل الفعل إلى المفعول إلا بها، نحو: سطوت بعمرو، ومررت بزيد. والإلزاق في مررت بزيد مجاز، لما التزق المرور بمكان بقرب زيد جعل كأنه ملتزق بزيد.
والآخر: الباء التي تدخل على المفعول المنتصب بفعله إذا كانت تفيد مباشرة الفعل للمفعول؛ وذلك نحو: أمسكت بزيد، الأصل: أمسكت زيداً، فأدخلوا الباء ليعلموا أن إمساكك إياه كان بمباشرة منك له، وذلك أنك تقول أمسكت زيداً إذا منعته من التصرف بوجه ما، ولم تكن مباشراً لذلك، فإذا قلت أمسكت بزيد أفدت بالباء أنك باشرت إمساكه. ولم يذكر س للباء معنى غير الإلصاق، وذكر أصحابنا المتأخرون وغيرهم لها معاني غير الإلصاق، ونسرد ما ذكروا منجرا مع كلام المصنف.
وقوله وللتعدية قال المصنف في الشرح: "هي القائمة مقام همزة النقل في إيصال الفعل اللازم إلى مفعول به، كالتي في (ذَهَبَ اللَّهُ بِنُورِهِمْ)، و (لَذَهَبَ بِسَمْعِهِمْ وَأَبْصَارِهِمْ) ".
وذكر أصحابنا أن التي تدخلها مع معنى الإلزاق والاختلاط معان أخر ستة أنواع:
أحدها: أن تكون للنقل. قال بعضهم: "وأعني بذلك أن تدخل على الفاعل، فيصير مفعولاً". قال بعض شيوخنا: "وإذا نظرت إلى هذه الباء التي بمعنى الهمزة وجدت فيها الإلصاق والاختلاط؛ لأنك إذا جعلته يدخل فقد ألصقت الدخول به، فالإلصاق عام فيها حيث ما وقعت، وتلك المعاني تصاحب في موضع، وتفارق في آخر، فينبغي أن يدعى أنها وضعت بإزاء المعنى المصاحب في كل حال، لا بإزاء المعنى الذي يكون بحكم الانجرار لا بحكم الوضع" /انتهى.
وقول المصنف في التي للتعدية "إنها هي القائمة مقام همزة النقل في إيصال الفعل اللازم إلى مفعول به" ليست مختصة بالفعل اللازم؛ فقد وجدت في المتعدي، تقول: دفع بعض الناس بعضاً، وصك الحجر الحجرن ثم تقول: دفعت بعض الناس ببعض، وصككت الحجر بالحجر، فتقول من قال "هي الداخلة على الفاعل، فيصير مفعولاً" أسد؛ لأنها وجدت مع الفعل المتعدي كما وجدت مع اللازم.
وقوله وللسببية قال المصنف في الشرح: "هي الداخلة على صالح للاستغناء به عن فاعل معداها مجازاً، نحو (فَأَخْرَجَ بِهِ مِنَ الثَّمَرَاتِ رِزْقًا)،
و (تُرْهِبُونَ بِهِ عَدُوَّ اللَّهِ)، فلو قصد إسناد الإخراج إلى الهاء من قوله (فَأَخْرَجَ بِهِ)، وإسناد الإرهاب إلى الهاء من قوله (تُرْهِبُونَ بِهِ)، فقيل: أنزل ما أخرج من الثمرات رزقاً، وما استطعتم من قوة ترهب عدو الله - لصح وحسن، لكنه مجاز، والآخر حقيقة. ومنه: كتبت بالقلم، وقطعت بالسكين، فإنه يصح أن يقال: كتب القلم، وقطع السكين.
والنحويون يعبرون عن هذه الباء بباء الاستعانة. وآثرت على ذلك التعبير بالسببية من أجل الأفعال المنسوبة إلى الله تعالى، فإن استعمال السببية فيها يجوز، واستعمال الاستعانة فيها لا يجوز" انتهى.
وقال أصحابنا: هي الباء التي تدخل على سبب الفعل، وهو أحد المعاني الست التي تنجر مع الإلصاق، قالوا: نحو عنفت زيداً بذنبه، فالتعنيف اتصل بزيد بسبب ذنبه، ومنه قول لبيد:
غلبت تشذر بالذحول، كأنها
…
جن البدي رواسياً أقدامها
أي: تشذر بسبب الذحول.
قال بعض شيوخنا: ذكر القتيبي أن الباء تكون بمعنى: من أجل، وأنشد بيت لبيد. قال: والإلصاق لا يفارقها؛ لأنها إذا تشذرت - أي: تصعبت - بسبب الذحول فبلا شك أن الذحول هيجها، وجعلها تشذر، فقد صارت الباء هنا بمنزلتها في: تحركت بكذا، وسكنت بكلامك، فكما لا خفاء في هذا أن الإلصاق بها كذلك في البيت.
وما ذهب إليه المصنف من أن ما ذكره النحويون من أن الباء تكون للاستعانة مدرج في باء السببية قول انفرد به؛ وأصحابنا فرقوا بين باء السببية وباء الاستعانة، وجعلوا الاستعانة من المعاني الستة التي انجرت مع الإلصاق، فقالوا في باء السبب ما تقدم من أنها التي تدخل على سبب الفعل، وقالوا في باء الاستعانة: إنها التي تدخل على الاسم المتوسط بين الفعل ومفعوله الذي هو آلة، وذلك: كتبت الكتاب بالقلم، وعمل النجار الباب بالقدوم، وبريت القلم بالسكين، وخضت الماء برجلي، ولا يمكن أن يقال إن سبب كتابة الكتاب هو القلم، ولا سبب عمل النجار الباب هو القدوم، ولا سبب بري القلم هو السكين، ولا سبب /خوض الماء هو الرجل، بل السبب غير هذا، فجعل هذا سبباً ليس بواضح. ومثل أصحابنا باء السبب بقولك: مات الرجل بالغيظ وبالجوع، وحججت بتوفيق الله، وأصبت الغرض بفلان.
وقوله وللتعليل قال المصنف في الشرح: "هي التي تحسن غالباً في موضع اللام، نحو قوله تعالى:(إِنَّكُمْ ظَلَمْتُمْ أَنْفُسَكُمْ بِاتِّخَاذِكُمُ الْعِجْلَ)، و (فَبِظُلْمٍ مِنَ الَّذِينَ هَادُوا حَرَّمْنَا)، و (إِنَّ الْمَلَأَ يَاتَمِرُونَ بِكَ)، وكقول الشاعر:
ولكن الرزية فقد قرم
…
يموت بموته بشر كثير
واحترزت بقولي غالباً من قول العرب: غضبت لفلان، إذا غضبت من أجله وهو حي، وغضبت به، إذا غضبت من أجله وهو ميت" انتهى.
ولم يذكر أصحابنا أنها تكون للتعليل، وكأن التعليل والسبب عندهم شيء واحد، ويدل على ذلك أن المعنى الذي سمى المصنف به باء السبب هو موجود في باء التعليل؛ ألا ترى أنه يصلح أن ينسب الفعل لما دخلت عليه باء التعليل كما يصح ذلك في باء السبب؛ ألا ترى أنه يصح: ظلم أنفسكم اتخاذكم العجل، وحرم على اليهود طيبات ظلمهم.
وأما قوله تعالى (يَاتَمِرُونَ بِكَ) فليست باء التعليل، بل التعليل هو قوله:(لِيَقْتُلُوكَ)، والباء ظرفية، أي: يأتمرون فيك، أي: يتشاورون في أمرك لأجل القتل، ولا يكون للائتمار علتان.
وأما قوله "يموت بموته" فلا شك أن الباء هنا لسبب، ويعكر على ما قعد المصنف من أن هذه الباء يصح أن ينسب الفعل إلى ما دخلت عليه مجازاً؛ لأنه لا يصح ذلك هنا.
وقوله وللمصاحبة قال المصنف في الشرح: "هي التي تحسن في موضعها (مع)، وتغني عنها وعن مصحوبها الحال، كقوله تعالى: (قَدْ جَاءَكُمُ الرَّسُولُ بِالْحَقِّ)، أي: مع الحق، ومحقاً، وكقوله: (اهْبِطْ بِسَلَامٍ مِنَّا)، أي: مع سلام، ومسلماً. ولمساواة هذه الباء (مع) قد يعبر س عن المفعول معه بالمفعول به" انتهى. وهذا المعنى قد ذكره أصحابنا، وهو أحد الستة المعاني التي تنجر مع الإلصاق.
وقوله وللظرفية هي التي تحسن مكانها "في"، كقوله تعالى:(وَلَقَدْ نَصَرَكُمُ اللَّهُ بِبَدْرٍ)، (إِذْ أَنْتُمْ بِالْعُدْوَةِ الدُّنْيَا)، (نَجَّيْنَاهُمْ بِسَحَرٍ). وهذا أحد المعاني الستة التي تنجز مع الإلصاق.
وبقي من المعاني الستة التي ذكرها أصحابنا باء القسم، نحو: بالله لأقومن فهذه الباء ألزقت فعل القسم المحذوف بالمقسم به؛ ألا ترى أن الأصل: أقسم بالله لأقومن، إلا أن فعل القسم لما حذف وقام المجرور مقامه أفادت الباء ما كان يفيده الفعل لو ظهر.
وقوله وللبدل قال المصنف في الشرح: "هي التي يحسن في موضعها (بدل)، كقول رافع بن خديج:(ما يسرني أني شهدت بدراً بالعقبة)، ومثله قول الشاعر:
فليت لي بهم قوماً، إذا ركبوا
…
شنوا الإغارة فرساناً وركباناً
/ومثله قول الآخر:
يلقى غريمكم من غير عسرتكم
…
بالبذل بخلا، وبالإحسان حرماناً"
انتهى.
قال بعض أصحابنا: "وزاد بعض المتأخرين في معاني الباء أن تكون بمعنى البدل والعوض، نحو قولك: هذا بذاك، أي: هذا بدل من ذاك وعوض منه". قال: "والصحيح عندي أن معناها السبب؛ ألا ترى أن التقدير: هذا مستحق بذلك، أي: بسببه".
وقوله وللمقابلة قال المصنف في الشرح: "هي الداخلة على الأثمان والأعواض، كقولك: اشتريت الفرس بألف، وكافأت الإحسان بضعف. وقد تسمى باء العوض".
وقوله ولموافقة "عن"، و"على"، و"من" التبعيضية أما كونها بمعنى "عن" فمنقول عن الكوفيين، وذلك بعد السؤال، ولم يقيد المصنف ذلك بالسؤال.
واستدل الكوفيون على ذلك بقوله تعالى (فَاسْأَلْ بِهِ خَبِيرًا)، وبقول علقمة:
فإن تسألوني بالنساء فإنني
…
بصير بأدواء النساء طبيب
وبقول مالك بن خريم:
ولا يسأل الضيف الغريب إذا شتا
…
بما زخرت قدري له حين ودعا
وبقول الآخر:
دع المغمر، لا تسأل بمصرعه
…
واسأل بمصقلة البكري: ما فعلا
واستدل القتبي بقول ابن أحمر:
تسائل بابن أحمر: من رآه؟
…
أعارت عينه، أم لم تعارا
واستدل المصنف في الشرح بقوله تعالى: (وَيَوْمَ تَشَقَّقُ السَّمَاءُ بِالْغَمَامِ). وبقوله: (يَسْعَى نُورُهُمْ بَيْنَ أَيْدِيهِمْ وَبِأَيْمَانِهِمْ)، [كذا] قال الأخفش. ومثله (فَاسْأَلْ بِهِ خَبِيرًا). ومثله قول الشاعر:
هلا سألت بنا فوارس وائل
…
فلنحن أسرعها إلى أعدائها
وكان الأستاذ أبو علي يتأول، فيقول: اسأل بسببه خبيراً، وبسبب النساء، أي: لتعلموا حالهن، وكذلك بيت ابن أحمر.
قال بعض أصحابنا: ولو كانت الباء بمعنى (عن) لجاز: أطعمته بجوع، وسقيته بعيمة، تريد: عن جوع، وعن عيمة، وتعدية السؤال بالباء على سبيل التضمين، أي: فاعتن به، أو اهتم به؛ لأن السؤال عن الشيء اعتناء به واهتمام.
وأما كونها بمعنى "على" فمنقول عن الكوفيين أيضاً، واستدلوا بقول الشاعر:
بودك ما قومي على أن تركتهم
…
سليمى إذا هبت شمال وريحها
"ما" عندهم زائدة، والمعنى: على ودك قومي على أن تركتهم.
واستدل المصنف في الشرح على ذلك بقوله تعالى: (مَنْ إِنْ تَامَنْهُ بِقِنْطَارٍ)، (مَنْ إِنْ تَامَنْهُ بِدِينَارٍ)، أي: على قنطار، وعلى دينار. قال:"كذا قال الأخفش، وجعل مثله قولهم: مررت به، أي: عليه، قال تعالى: (وَإِذَا مَرُّوا بِهِمْ يَتَغَامَزُونَ)، قال تعالى: (يَمُرُّونَ عَلَيْهَا)، (وَإِنَّكُمْ لَتَمُرُّونَ عَلَيْهِمْ)، (هَلْ آَمَنُكُمْ عَلَيْهِ إِلَّا كَمَا أَمِنْتُكُمْ عَلَى أَخِيهِ مِنْ قَبْلُ) ". وبقول الشاعر:
أرب يبول الثعلبان برأسه
…
لقد هان من بالت عليه الثعالب
وقال بعض أصحابنا: فأما (بودك ما قومي) البيت فليست (ما) فيه زائدة كما ذهبوا إليه؛ ألا ترى أنه لو أراد: على ودك قومي سليمى على أن تركتهم - لم يكن لقوله (إذا هبت شمال وريحها) وجه، وإنما الود والود هنا الصنم، وما: استفهامية، والتقدير: أسألك بودك - أي: بصنمك - ما قومي؟ أي: أي شيء قومي إذا هبت شمال وريحها في وقت اشتداد الزمان، وعنى بريح الشمال النكباء، كما قال:
...................................
…
إذا النكباء ناوحت الشمالا
وقوله "على أن تركتهم" أي: على أن فارقتهم؛ لأن هذا الشاعر يخاطب سليمى، وكانت امرأته، ونشزت عنه، فطلقها، فارتحلت إلى قومها، فسألها بصنمها أن تخبر بما شاهدته من قومه في وقت هبوب الشمال ومناوحة النكباء، وهو وقت اشتداد الزمان.
وأما كونها بمعنى "من" التبعيضية فمذهب كوفي أيضاً، وهو قول القتبي. واستدلوا بقوله تعالى:(يَشْرَبُ بِهَا عِبَادُ اللَّهِ)، وبقول الشاعر:
شربن بماء البحر، ثم ترفعت
…
متى لجج خضر، لهن نئيج
ويقول عنترة:
شربت بماء الدحرضين، فأصبحت
…
زوراء، تنفر عن حياض الديلم
واستدل المصنف في الشرح بقوله:
فلثمت فاها آخذاً بقرونها
…
شرب النزيف ببرد ماء الحشرج
وقال: "ذكر ذلك أبو علي الفارسي في (التذكرة)، وروى مثل ذلك عن الأصمعي في قول الشاعر: شربن بماء البحر. البيت".
قال المصنف في الشرح: "والأجود أن يضمن شربن معنى روين، كما ضمن يحمى معنى يوقد، فعومل معاملته في (يَوْمَ يُحْمَى عَلَيْهَا فِي نَارِ جَهَنَّمَ)؛ لأن المستعمل أحميت الشيء في النار" انتهى.
وقال بعض أصحابنا ما ملخصه: "لو كانت الباء للتبعيض لقلت: زيد بالقوم، تريد: من القوم، وقبضت بالدراهم، أي: من الدراهم، والباء في (يَشْرَبُ بِهَا) ونظيره بمعنى (في)، وهو أولى من قول من جعلها زائدة؛ لأن زيادة الباء في المفعول لا تنقاس" انتهى.
وفي البسيط: "ولم يذكر أحد من النحويين أن الباء للتبعيض. وقيل: تكون له، نحو قولك: مسحت بالمنديل، ومسحت المنديل، و"أخذت زمام الناقة، وأخذت بزمامها" انتهى.
وزعم بعض النحويين - ومنهم ابن هشام - أن الباء تدخل على الاسم حيث يراد التشبيه، نحو: لقيت بزيد الأسد، ورأيت به القمر، أي: لقيت بلقائي إياه الأسد، أي: شبهه. والصحيح أنها للسبب /أي: بسبب لقائه، وبسبب رؤيته.
وزعم أيضاً أنها تدخل على ما ظاهره أن المراد به غير ذات الفاعل أو ما أضيف إلى ذات الفاعل، نحو قوله:
.....................................
…
ولم يشهد الهيجا بألوث معصم
وقوله:
يا خير من يركب المطي، ولا
…
يشرب كأساً بكف من بخلا
فظاهره أن "بألوث معصم" غير فاعل يشهد، وأن ما أضيف إليه الكف - وهو: من بخل - غير فاعل يشرب، والمراد في الحقيقة أن فاعل يشهد هو: ألوث معصم، وفاعل يشرب هو: من بخل، كأنه قال: ولا يشرب من نفسه كأساً بكف من بخل، أي: يشرب كأسه بكفه، وليس ببخيل. والصحيح أنها باء الاستعانة في: بكف من بخل؛ لأنها توسطت بين لفعل ومفعوله كما هي في قولك: شربت بكفي. وكذلك في: بألوث معصم.
وقوله وتزاد مع فاعل ومفعول وغيرهما مثالها مع الفاعل: أحسن بزيد! و (وَكَفَى بِاللَّهِ شَهِيدًا)،:
…
... وحب بها مقتولة
وقول الشاعر:
ألم يأتيك- والأنباء تنمي-
…
بما لاقت لبون بني زياد
ألا هل أتاها- والحوادث جمعة-
…
بأن امرأ القيس بمن تملك بيقرأ
و:
........
…
أودى بنعلي وسرباناليه
وزيادتها مع المفعول {وَلا تُلْقُوا بِأَيْدِيكُمْ} {وَهُزِّي إِلَيْكِ بِجِذْعِ النَّخْلَةِ} {فَلْيَمْدُدْ بِسَبَبٍ} {وَمَنْ يُرِدْ فِيهِ بِإِلْحَادٍ} و {تَنْبُتُ بِالدُّهْنِ} في قراءة ابن كثير وأبي عمرو، و {يَذْهَبُ بِالأَبْصَارِ} في قراءة أبي جعفر، وقول الشاعر:
شهيدي سويد، والفوارس حوله
…
وما ينبغي بعد ابن قيس بشاهد
ومثله:
فلما رجت بالشرب هز لها العصا
…
شحيح، له عند الإناء نهيم
ومثله:
فكفى بنا فضلا على من غيرنا
…
حب النبي محمد إيانا
أي: كفانا
وكثرت زيادتها في مفعول عرف وشبهه، وقلت زيادتها في مفعول ذي مفعولين، كقول حسان:
تبلت فؤادك في المنام خريدة
…
تسقى الضجيع ببارد بسام
ومثال زيادتها في غيرهما: بحسبك، وفيما ذكر في باب "باب كان". وهذا ملخص من كلام المصنف في الشرح.
وقال الفراء: "تقول العرب: هزه، وهز به، وخذ الخطاك وبالخطام، ورأسه وبرأسه، ومده ومد به، ومنه {فَلْيَمْدُدْ بِسَبَبٍ إِلَى السَّمَاءِ} " انتهى.
فأما ما ذكره المصنف من أن الباء {كَفَى بِاللَّهِ} في زائدة فهو مذهب ش. وأجاز ابن السراج، وأجاز وجها آخر، وهو أن تكون غير
زائدة، وفاعل كفى ضمير مستتر عائد على الاكتفاء المفهوم من كفى، كأنه قال: كفى هو بالله. وهذا فاسد لأنه لا يكون للباء ما تتعلق به إلا/ الضمير، والضمير لا يجوز إعماله.
ورد ذلك ابن جنى من جهة أن معمول المصدر من كماله، فهو ومعمول كذلك بمنزلة اسم واحد، فلو أضمرت المصدر، وجعلت المجرور متعلقا بضميره- لأدى ذلك إلى أن يكون بعض الاسم مظهرا، وذلك غير جائز.
قال بعض أصحابنا: "وهذا الاستدلال فاسد؛ لأن الموصولات كلها صلاتها تمام لها، فكان يلزم على هذا ألا يكون في صلة الموصول ضمير يعود عليه؛ لئلا يؤدي إلى أن يكون بعض الاسم مضمرا وبعضه مظهرا، فلما وجدنا الموصول لابد له في صلته من ضمير يعود عليه دل ذلك على بطلان ما استدل به" انتهى
وقد منع س من إعمال المصدر مضمرا، وإعماله مذهب البغداديين وبعض البصريين.
وما ذكره المصنف من زيادة الباء في فاعل "كفى" فقد قيد ذلك أستاذنا أبو جعفر بن الزبير، فقال: "لا تزاد الباء في فاعل كفى إلا إذا كانت بمعنى حسب، وأما إذا كانت بمعنى وقى فلا تزاد، نحو قوله تعالى:{وَكَفَى اللَّهُ الْمُؤْمِنِينَ الْقِتَالَ} انتهى
وأما سياق المصنف الأبيات التي فيها "بما لاقت"، و"بأن امرأ القيس" و"أودى بنعلي" مساق {وَكَفَى اللَّهُ} ، وأحسن بزيد؛ و"حب بها" فذلك عند أصحابنا لا سواء؛ لأن زيادة الباء في الأبيات مخصوص عندهم بالضرورة.
وقد خرج بعض شيوخنا "ألم يأتيك" البيت على الإعمال، فيكون "ربما لاقت" متعلقا ب"تنمي" - أي: ترتفع- ويكون قد أضمر في يأتيك ضميرا يفسره قوله: بما لاقت.
قال بعض أصحابنا: ولا تحفظ زيادتها في المبتدأ إلا في: بحسبك زيد، أي حسبك، وفي قول الراجز:
أضرب بالسيف على نطابه
…
أتى به الدهر بما أتى به
ف "ما" مبتدأ، والباء زائدة، بدليل عودة الضمير عليها من الجملة التي قبلها، فدل على أن النية بها التأخير؛ إذ لو لم يكن منويا بها التأخير لم تجز عوجة الضمير منها على ما بعدها؛ لأن الضمير لا يتقدم على ما يعود عليه لفظا ونية إلا في أبواب معلومة، ليس هذا منها؛ وإذا كانت النية بها التأخير كانت ما مبتدأة، والجملة في موضع خبرها، والتقدير: ما أتى به الدهر أتى به.
وزعم بعض النحويين أن الباء في {بِأَيِّيكُمُ الْمَفْتُونُ} زائدة في المبتدأ، والتقدير: أيكم المفتون. ولا ينبغي حمله على ذلك لقتله.
ويخرج على أن يكون المفتون مصدرا مبتدأ، والخبر في المجرور، والتقدير: بأيكم الفتون، أو صفة، والباء بمعنى في، والتقدير: في أيكم الفريق المفتون.
وأما:
فكفى بنا فضلا على من غيرنا
…
........
فأكثر أصحابنا خرجوه على زيادة الباء في المفعول. وخرجه بعض شيوخنا على أنه من زيادة الباء في الفاعل، وجعل "حب النبي" بدل استمال من المجرور بالباء، والتقدير: فكفينا حب النبي.
وذكروا أيضا من زيادة الباء: قرأت/ بالسورة، وقول الشاعر:
هن الحرائر، لا ربات أحمرة
…
سود المحاجر، لا يقرأن بالسور
وقوله:
نضرب بالسيف ونرجو بالفرج
وقوله:
ضمنت برزق عالينا أرماحنا
…
.......
وخرج الأستاذ أبو علي "قرأت بالسورة" على أن الباء للإلصاق، أي: ألزقت قراءتي بالسورة. وخرج غيره "ونرجو بالفرج" على تضمين: ونطمع بالفرج؛ لأن طمع يتعدى بالباء، قال:
طمعت بليلى أن تريع، وإنما
…
تقطع أعناق الرجال المطامع
وضمنت برزق: تكفلت برزق.
وزعم الأخفش أنها زائدة في خبر المبتدأ في قوله تعالى {جَزَاءُ سَيِّئَةٍ بِمِثْلِهَا} ، أي: مثلها. وأستدل بقوله في الآية الأخرى {وَجَزَاءُ سَيِّئَةٍ سَيِّئَةٌ مِثْلُهَا} .
وخرج على أن التقدير: حاصل بمثلها أو يعلق {بِمِثْلِهَا} بقوله {جَزَاءُ} ، والخبر محذوف، التقدير: ثابت لهم.
ومن زيادة الباء في خبر المبتدأ قول الشاعر:
فلا تطمع- أبيت اللعن- فيها
…
فمنعكها بشيء يستطاع
أي: شيء يستطاع.
وذكر صاحب "البديع" أنها تزاد في المجرور، وقال: "وأما المجرور فقد جاء في الشعر شاذا، أنشد الفارسي:
فأصبحن لا يسألنني عن ما به
…
......
البيت.
وعلى زيادتها خرجه ابن جنى، وسيأتي الكلام فيه
-[ص: ومنها "في" للظرفية حقيقة أو مجازا، وللمصاحبة، وللتعليل، وللمقايسة، ولموافقة "على" والباء.]-
ش: مثال كونها حقيقة: زيد في البيت، والمال في الكيس. ومثال كونها مجازا: زيد ينظر في العلم، {وَلَكُمْ فِي الْقِصَاصِ حَيَاةٌ} ، {لَقَدْ كَانَ فِي يُوسُفَ وَإِخْوَتِهِ آيَاتٌ لِلسَّائِلِينَ} .
وقوله وللمصاحبة هذا مذهب الكوفيين، وتبعهم الفتبي والمصنف.
ومذهب س والمحققين أنها لا تكون إلا للوعاء حقيقة أو مجازا. وأستدل الكوفيون والقتبي على أنها للمصاحبة بمعنى "مع" بقول الآخر:
ولوح ذراعين في بركة
…
إلى جؤجؤ رهل المنكب
أي: مع بركة. وقول خراشة بن عمرو العبسي.
كأن ريقتها بعد الكرى اغتبقت
…
من سكر قد بناه النحل في النيق
أو طعم عادية في جوف ذى حدب
…
من ساكن المزن، يجري في الغرانيق
أي مع الغرانيق، وساكن المزن: المطر، والغرانيق: طير الماء؛ لفرحها به تجرى معه، شبه بقولهم: يمشي في أصحابه. وقد يكون من المقلوب، أي: تجري الغرانيق فيه. وقال/ القتبي: "يقال: فلان عاقل في حلم".
وقال المصنف في الشرح: "، اي: مع أمم، {قَالَ ادْخُلُوا فِي أُمَمٍ} ، {وَنَتَجاوَزُ عَنْ سَيِّئَاتِهِمْ فِي أَصْحَابِ الْجَنَّةِ} ، {وَحَقَّ عَلَيْهِمُ الْقَوْلُ فِي أُمَمٍ} ، {فَخَرَجَ عَلَى قَوْمِهِ فِي زِينَتِهِ} ومنه قول الشاعر:
كحلاء في برج، صفراء في نعج
…
كأنها فضة، قد مسها ذهب
ومثله:
شموس ودو في حياء وعفة
…
رخيمة رجع الصوت، طيبة النشر"
وتأولوا "في بركة" و"في الغرانيق" على حذف مضاف، أي: في جاني بركة، وفي مجرى الغرانيق.
قال بعض شيوخنا: "أما قوله فلان عاقل في حلم ف (في) تفيد هنا ما لا تفيده (مع)؛ لأنك إذا قلت فلان ذو عقل مع حلم لم يقتض أن عقله كان له في
حال اتصافه بالحلم؛ إذ قد يقال هذا لمن حلم في وقت، وظهر فيه عقل في وقت آخر، وإذا قلت فلان عاقل في حلم فالمعنى أن حلمه تصرف بالعقل على حسب مقتضاه، فكأنه دخل فيه.
وأما قول الجعدي (ولوح ذراعين في بركة) فكأنه قال: داخلان في بركة؛ ألا ترى أنه لا يقال في كلام العرب: ولوح ذراعين في كفل؛ لأن الذراعين لا يكونان في الكفل، و (مع) تصلح هنا، لو قلت له ذراعان مع كفل لكان ذلك صحيحا، وتقول: له رجلان في كفل، ولا تقول: رجلان في بركة، ويصلح أن تقول: مع بركة" انتهى.
وأما استدل به المصنف فكله محمول على الظرفية المجازية، ويحتمل أن يكون {فِي أُمَمٍ} على حذف مضاف، أي: في عذاب أمم، ويكون {فِي النَّارِ} بدلا.
وقوله للتعليل قال المصنف في الشرح: "كقوله تعالى، {لَمَسَّكُمْ فِيمَا أَخَذْتُمْ} ، {لَمَسَّكُمْ فِي مَا أَفَضْتُمْ} ، {فَذَلِكُنَّ الَّذِي لُمْتُنَّنِي فِيهِ} (عذبت امرأة في هرة جبستها)، ومنه قوله الشاعر:
فليت رجالا فيك قد نذورا دمي
…
وهموا بقتلي- يا بثين- لقوني
ومثله:
لوى رأسه عني، ومال بوده
…
أغانيج خود، كان فينا يزورها
ومثله:
أفي قملي من كليب هجوته
…
أبو جهضم تغلي على علي مراجله
ومثله:
بكرت باللوم تلحانا
…
في بعير، ضل، أو حانا"
وقوله وللمقايسة قال المصنف في الشرح: "هي الداخلة على تال يقصد تعظيمه وتحقير متلوه، كقوله، {فَمَا مَتَاعُ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا فِي الآخِرَةِ إِلَّا قَلِيلٌ} ، وكقوله عليه السلام:(ما أنتم في سواكم من الأمم إلا كالشعرة البيضاء في جلد الثور الأسود)، وكقول الخضر لموسى عليه السلام:(ما علمي وعلمك في علم الله إلا كما أخذ هذا الطائر بمنقاره من البحر)، ومنه قول الشاعر:/
وما جمعكم في جمعنا غير ثعلب
…
هوى بين لحيي أخزر العين ضيغم
ومثله:
كل قتيل في كليب حلام
…
حتى ينال القتل آل همام"
انتهى. ولا تظهر لي المقايسة في هذا البيت الأخير، والحلام: الجدي.
وقوله لموافقة على هذا مذهب الكوفيين، وتبعهم الفتبي، واستدلوا بقوله تعالى {وَلَأُصَلِّبَنَّكُمْ فِي جُذُوعِ النَّخْلِ} ، أي: على جذوع النخل. وبقول امرأة من العرب:
هم صلبوا العبدي في جذع نخلة
…
فلا عطست شيبان إلا بأجدعا
أي: على جذع نخلة. وببقوله عنترة:
بطل، كأن ثيابه في سرحة
…
يحذي نعال السبت، ليس بتوءم
أي: على سرحة. وبما حكي يونس عن العرب من أنها تقول: نزلت في أبيك، يريدون: على أبيك. وقال القتبي: "تقول: لا يدخل الخاتم في إصبعي، أي: على إصبعي" وقال المصنف: "ومنه قول حسان:
بنو الأوس الغطارات، أزرتها
…
بنو النجار في الدين الصليب
قال بعض أصحابنا: ولو كانت (في) بمعنى (علي) لجاز أن تقول: في زيد دين، أي: على زيد دين، فأما الآية والأبيات فإن جذع النخلة بمنزلة المكان والمحل للمصلوب لاستقراره فيها، فصلح لذلك دخولها عليه كما تدخل على الأمكنة. وأما ما حكاه يونس فعلى حذف مضاف، والتقدير: نزلت في كنف أبيك أو في ذرا أبيك ف "في" للوعاء، ولم تخرج عن بابها. وأما (أدخلت الخاتم في إصبعي) فقال بعض شيوخنا: إذا دخل على الأصبع فهو بلا شك.
وقوله والباء هذا أيضا مذهب كوفي، وتبعهم القتبي وهذا المصنف. واستدلوا على ذلك بقول زيد الخيل:
ويركب يوم الروع فيها فوارس
…
بصيرون في طعن الأباهر والكلى
أي: بطعن الأباهر. وبقول الآخر:
وخضخضن فينا البحر حتى قطعنه
…
على كل جال من غمار ومن وحل
أي: بنا البحر. وبقول الآخر، وهو أحد طيئ:
نلوذ في أم لنا ما تغتضب
…
من السحاب ترتدي وتنتقب
أي: بأم يعني: بأم سلمى أحد جبي طيئ. وبقول أعشى بني بكر:
ربي كريم، مما يكدر نعمة
…
وإذا تنوشد في المهارق أنشدا
/أي: بالمهارق. تنوشد: حلف له، والمهارق: صحف الأنبياء.
واستدل المصنف في الشرح بقوله تعالى {يَذْرَؤُكُمْ فِيهِ} ، أي: به وبقول الأفوه الأودي:
أعطوا غواتهم جهلا مقادتهم
…
فكلهم في جبال الغي منقاد
ومثله:
وأرغب فيها عن لقيط ورهطه
…
ولكنني عن سنبس لست أرغب
أي: بحبال، وأرغب بها، وحكى يونس، عن بعض العرب: ضربته في السيف، أي: بالسيف.
فأما "بصيرون في طعن" فقال بعض أصحابنا: ضمن معنى ما يصل ب "في" والتقدير: ماهرون أو متقدمون على غيرهم في طعن الأباهر والكلى؛ لأن البصير بالشيء ماهر فيه ومتقدم فيه على غيره.
وقال بعض شيوخنا: إذا كانوا عارفين بذلك، وأنه أحسن الطعن وأثبته كما قال الأفوه:
تخلى الجماجم والأكف سيوفنا
…
ورماحنا بالطعن تنتظم الكلى
فهم لا شك ناظرون فيه في وقت الطعن؛ لأنهم يعلمون أن ذلك الطعن أثبت. وفي جعل (في) في هذا الموضع فائدة ليست للباء لو ذكرت؛ لأنه لو قال بصيرون بطعن لم يقتضى أكثر من العلم به، وقد يكون بصيرا به، فإذا كان وقته ذهل خاطره عن ذلك لما هنالك من الشدة، فيصفهم مع معرفتهم بأن الطعن في الأباهر أعظم الطعن بأنهم ثابتو الخواطر عند الطعن، و (في) تقتضي ثبوت خواطرهم. انتهى.
وقال لنا الأستاذ أبو جعفر: ضمن بصيرون معنى متحكمون؛ لأن من كان له بصر بالشيء كان له فيه تحكم، فكأنه قال: متحكمون في طعن الأباهر والكلى.
وأما قوله "وخضخضن فينا البحر" فحمله بعض أصحابنا على تقدير مضاف، أي: في سيرنا البحر، ف "في" للوعاء على بابها. وكذا تأوله ابن جنى، قال:"في سيرهن بنا"
وأما قوله "نلوذ في أم" فخرج على أنه ضمن ما يتعدى ب"في" وكأنه قال: نسمك أو نتوقل في أم لنا ما تغتضب؛ لأنه عنى بالأم سلمى أحد جبلي طيئ، وإذا لاذ بها فقد سمك وتوقل فيها.
وأما "وإذا تنوشد في المهارق" فخرج على أن "في المهارق" في موضع الحال، والمجرور الذي يطلبه تنوشد محذوف، والتقدير: وإذا تنوشد بكلام الله- تعالى- في المهارق، اي: مكتوبا في المهارق، وأنشد أي: أجاب، فيكون مثل قول الآخر:
يعثرن في حد الظبات، كأنما
…
كسيت برود بني تزيد الأذرع
أي: يعثرن بالأرض في حد الظبات، اي: وهن في حد الظبات، ف "في" للوعاء.
قال بعض شيوخنا: "وإذا حلفوا في المهارق- وهي الصحائف المكتوبة- فقد جعلوا أيمانهم، إلا أن ل "في" معنى لا تقتضيه الباء، وذلك أنه لو قال حلف بالمصحف فيقتضي أنه/ أحضر له المصحف عند اليمين" انتهى
وأما "فكلهم في حبال الغي منقاد" فمضمن معنى موثق، وموثق يتعدى بـ"في" قال:
...................... وموثق في حبال القد مسلوب
وأما "وأرغب فيها عن لقيط" فهو على حذف مضاف، أي: وأرغب في إمساكها عن لقيط.
وزعم الكوفيون والقتبي أن "في" تكون بمعنى إلى. واستدلوا على ذلك بقوله تعالى {فَرَدُّوا أَيْدِيَهُمْ فِي أَفْوَاهِهِمْ} ، أي: إلى أفواههم.
وخرج على وجهين، كلاهما فيه "في" باقية على بابها:
أحدهما: أن يرد بالأيدي الجوارح، ويكون معنى الآية: إذ ردوا أيديهم في أفواههم، وعضوا أناملهم لما نالهم من الغيظ، كما تعالى {عَضُّوا عَلَيْكُمُ الأَنَامِلَ مِنَ الغَيْظِ} ، ومحال أن يعضوا أناملهم بأفواههم إلا بعد إدخالها في الأفواه
والآخر: أن يراد بالأيدي النعم، ويعني ب هنا بلغتهم الرسول عن الله- تعالى- من الأمر بما فيه خير لهم، والنهي عما فيه شر لهم؛ لأن ذلك نعمة، فلما لم يقبلوا الكلام من الرسل صاروا كأنهم ردوا كلامهم في أفواههم، والعرب تقول: رد كلام فلان، إذا لم يقبل منه.
وقال بعض شيوخنا: " المعنى: أدخلوا أيديهم في أفواههم؛ لأن رد اليد إلى الفم يكون على وجهين: أحداهما بالإدخال، والثاني بغير ذلك، ولو قال: فردوا أيديهم إلى أفواههم- لم يكن فيه ما يدل على أنهم أدخلوا أيديهم في أفواههم، وإدخال اليد في الفم أدخل في الرد" انتهى
والذي أقوله: إن هذه كناية عن عدم قبولها ما جاءت به الرسل، أي: صيروا أيديهم في أفواه الرسل، بمعنى: أسكتوهم، وسدوا أفواه الرسل بأيديهم
وأبطلوا ما تكملوا به، فكأنهم لم يسمعوا منهم كلاما؛ لأن أفواههم مسدودة بأيديهم.
وزعك الكوفيون أيضا والقتبي والأصمعي أنها تأتي بمعنى "من" واستدلوا على ذلك بقول امرئ القيس:
وهل يعمن من كان أحدث عصره
…
ثلاثين شهرا في ثلاثة أحوال
أي: من ثلاثة أحوال
وخرجه ابن جنى على حذف مضاف، والتقدير عنده: في عقب ثلاثة أحوال.
قال بعض أصحابنا: "والصحيح عندي أن تكون الأحوال جمع حال لا جمع حول، وكأنه قال: في ثلاثة حالات، ويكون المراد بالأحوال الثلاثة: نزول الأمطار بها، وتعاقب الرياح فيها، ومرور الدهور عليها". قال: "وإنما لم يسغ عندي ما ذهب إليه أبو الفتح لأن المضاف لا يحذف إلا كان عليه دليل، ولا دليل في البيت على ذلك المضاف الذي ادعى حذفه؛ لاحتمال أن يكون كراده ما ذكرناه فلا يحتاج إذ ذاك إلى حذف"
وقال بعض شيوخنا: "إنما يريد أن أحدث عهده خمس/ سنين ونصف، فلذلك قال: في ثلاثة أحوال، أي: مداخلة فيها، انتهى
وزعم بعض أصحابنا- وتبع أبا علي- أن "في" تأتي زائدة في ضرورة الشعر، قال: "ومن ذلم قول سويد بن أبي كاهل:
أنا أبو سعد إذا الليل دجا
…
تخال في سواده يرندجا
قال: "ألا ترى أن المعنى: تخال سواده يرندجا، إلا أن ذلك من القلة بحيث لا يقاس عليه"
-[ص: ومنها "عن" للمجاوزة، وللبدل، وللاستعلاء، وللاستعانة، وللتعليل، ولموافقة "بعد" و "في". وتزداد هي و "علي" و "الباء" عوضا.]-
ش: قال المصنف رحمه الله في الشرح: "استعمال عن للمجاوزة أكثر من استعمالها في غيرها، ولاقتضاها المجاوزة عدي بها صد وأعرض وأضرب وانحرف وعدل ونهى ونأى ورحل واستغنى وغفل وسها وسلا؛ ولذلك عدى بها رعب ومال ونحوهما إذا قصد ترك المتعلق به، نحو: رغبت عن الأمر، وملت عن التواني. وقالوا: رويت عن فلان، وأنباتك عنه، لأن المروى والمنبأ بهم جاوز لمن أخذ عنه.
ولاشتراك عن ومن في معنى المجاوزة تعاقبا في تعدية بعض الأفعال، نحو: كسوته عن عري، ومن عري، وأطعمته عن جوع، ومن جوع، ونزعت الشيء عنه ومنه، وتقبل عنه ومنه، ومنع عنه ومنه، ومن هذا قراءة بعض القراء:{فَوَيْلٌ لِلْقَاسِيَةِ قُلُوبُهُمْ مِنْ ذِكْرِ اللَّهِ} ، فأوقع عن موقع من، والمعنى الواحد، والله أعلم" انتهى
ونقول: عن جرف جر بدليل حذفها مع الضمير في نحو: رضيت عمن رضيت، تريد: عنه، فلو كانت اسما لم يجز حذفها مع الضمير ولا حذف الضمير وحده، لو قلت صعدت فوق الذي صعدت فوقه لم يجز حذفه "فوقه" ولا حذف
الضمير وحده، وبدليل جواز حذفها ووصول الفعل إلى ما دخلت عليه كما يحذف غيرها من الحروف، وذلك في ضرورة الشعر، قال:
تمرون الديار، ولم تعوجوا
…
كلامكم على إذا حرام
أي: عن الديار، وليس المعنى: بالديار؛ لقوله: ولم تعوجوا. وقال الآخر:
كأن عيني وقد بانوني
…
غربان في جدول منجون
أي: بانوا عني
ولا تخرج عن الحرفية إلا بدليل، وذلك إذا دخل عليها "من" أو "على" ويدل على أنها الغالب عليها الحرفية أنهم إذا جعلوها اسما لم يعربوها، بل يقرونها على ما كانت عليه من البناء.
ومعناها اسما كانت أو حرفا المجاوزة، فإذا قلت: أطعمته عن جوع - فقد جعلت الجوع مجاوزا له ومنصرفا عنه. وكذلك: سقيته عن العمية، / وكسوته عن العري، ورميت عن القوس، فالعمية والعري قد تراخيا عنه، وقذفت سهمك عن القوس فجاوزها، وجلست عن يمينه أو من عن يمينه: تراخيت عن يمينه وجاوزتها. وقد تقدم ذكر الخلاف فيها إذا دخل عليها حرف الجر.
وقوله وللبدل استدل المصنف في الشرح على كونها للبدل بقوله تعالى: {وَاتَّقُوا يَوْمًا لا تَجْزِي نَفْسٌ عَنْ نَفْسٍ شَيْئًا} ، وبقولهم: حج فلان عن أبيه، وقضى عنه دينا، وقول الشاعر:
كيف تراني قالبا مجني
…
قد قتل الله زيادا عني
أي: كان قتل الله زيادا بدل قتلي إياه. ومثله قول الآخر:
حاربت عنك عدا قد كنت تحذرهم
…
فنلت بي منهم أمنا بلا حذر
وما استدل به المصنف يحتمل التأويل؛ ألا ترى أنه يقال: ضمن قتل الله معنى صرف، أي: صرف الله بقتله زيادا عني. وكذلك: حاربت عنك: صرفت بالمحاربة عنك.
وقوله وللاستعلاء هذا مذهب كوفي، وقال القتبي وهذا المصنف، واستدلوا بقول الشاعر:
لاه ابن عمك لا أفضلت في حسب
…
عني، ولا أنت دياني، فتخزوني
أي: على. وقال آخر:
لو أنك تلقي حنظلا فوق بيضهم
…
تدحرج عن ذي سامه المتقارب
أي: على سامه. واستدل المصنف بقولهم: بخل عنه، أي: عليه.
وخرج ذلك على التضمين، فقال بعض أصحابنا: ضمنه معنى: ما انفردت بحسب عني؛ إذا أفضل عليه في الحسب- أي: زاد- فقد انفرد عنه بتلك الزيادة
وأما "عن سامه" فباقية على موضعها؛ لأن تدحرجه؛ لأن تدحرجه عن ذي سامه المتقارب انتقال عن بعضه إلى بعض.
وقال بعض شيوخنا: "إذا كان أفضل، وكان فوقه في الحسب، فقد زال عنه وصار في حيز، فكأنه قال: لاه ابن عمك ما زال قدرك عن قدري، ولا ارتفع شأنك عن شأني" انتهى.
وأما "بخل عنه" فالتقدير: بخل بماله عنه، فضمن بخل معنى: رغب بماله عنه، أو كف ماله عنه، وكل منهما يتعدي ب"عن".
وقوله وللاستعانة هذا مذهب كوفي أيضا، وقال القتبي وهذا المصنف، زعموا أنها تكون بمعنى الباء. واستدلوا على ذلك بقوله تعالى:{وَمَا يَنْطِقُ عَنِ الْهَوَى} ، أي: بالهوى، وبقول امرئ القيس:
تصد وتبدي عن أسيل، وتتقي
…
بناظرة من وحش وجرة مطفل
أي: بأسيل.
وقال المصنف في الشرح: "واستعمال عن للاستعانة كقول العرب:/ رميت عن القوس، كما يقولون: رميت بالقوس، حكى ذلك الفراء/ وحكى أيضا: رميت على القوس، وأنشد:
أرمي عليها، وهي فرع أجمع
…
وهي ثلاثة أذرع وإصبع
ونازعهم البصريون فيما استدلوا به، فقال بعض أصحابنا في قوله:{وَمَا يَنْطِقُ عَنِ الْهَوَى} "عن فيه باقية على معناها؛ لأن المعنى: ما صرف نطقه عن الهوى".
وقال بعض شيوخنا: "هو بمنزلة: أطعمتك عن جوع؛ لأنه نفى- تعالى- عن رسوله صلى الله عليه وسلم أن يكون نطقه كنطق غيره الذين ينطقون عن الهوى، فهو كما تقول: ما تكلم عن حرج".
وأما "عن أسيل" فليست عن فيه متعلقة ب"تصد" كما توهموا، بل ب" تبدي"، وكأنه قال: وتبدي عن أسيل، كما قال الآخر:
يهيل، ويبدي عن عروق، كأنها
…
أعنة خزار جديدا وباليا
وإنما عدى تبدي ب"عن" لأنه إذا أبدى عن الشيء فقد صرف عنه ما يستره. ويرجح كون "عن أسيل" متعلقا ب"تبدي" لا ب"تصد" أنه يؤدي إعمال تصد فيه أن يحذف معمول تبدي، وذلك لا يجوز إلا في ضرورة، ولا حاجة تدعو إلى ارتكابها.
وقال بعض شيوخنا: "وأما البصيرون فيذهبون إلى التضمين؛ لأنه إذا أبدت فقد أزالت الستر، فكأنه قال: تصد وتزيل الستر عن أسيل"
وأما ما استدل به المصنف من قول العرب: رميت عن القوس، ورميت بالقوس، بمعنى واحد، وأن عن للاستعانة- فغير مسلم، وقد بينا كون عن في رميت
عن القوس للمجاوزة. وأما رميت بالقوس فالباء فيه للاستعانة، فكل واحد منها موضوع في مكانه.
وقوله وللتعليل قال المصنف في الشرح: " واستعمال عن للتعليل كقوله تعالى: {وَمَا كَانَ اسْتِغْفَارُ إِبْرَاهِيمَ لِأَبِيهِ إِلَّا عَنْ مَوْعِدَةٍ وَعَدَهَا إِيَّاهُ} ، وقوله تعالى:{وَمَا نَحْنُ بِتَارِكِي آلِهَتِنَا عَنْ قَوْلِكَ} ،ومنه قوله ضابئ البرجمي:
وما عاجلات الطير تدني من الفتى
…
نجاحا، ولا عن ريثهن يخيب"انتهى
وهذا الذي ذكره المصنف هو مذهب للكوفيين، زعموا أن "عن" تكون بمعنى: من أحل، قالوا: ومن ذلك: أطعمه عن جوع، أي: من أجل جوع، وقول الشاعر:
بسير، تقلص الغيطان عنه
…
يبذ مفازة الخمس الكمال
يريد: من أجله، وقول الآخر
ولقد شهدت إذا القداح توحدت
…
وشهدت عند الليل موقد نارها
عن ذات أولية أساود ربها
…
وكان لون الملح فوق شفارها
يريد: من أجل ذات أولية، والأولية: جمع ولي، وهو الثاني من الوسمي، ويريد به الربيع الذي يكون عنه.
وتابع أبو بكر بن السراج على كون "عن" بمعنى "من أجل" في قولهم: أطعمنهم عن جوع.
وليس على ما ذهبوا إليه، بل كل واحدة من "عن" و "من" باقية على معناها، فإذا/ قالوا: أطعمته من جوع- فإنما يريدون: من أجل الجوع، وإذا قالوا: أطعمه عن جوع- فإنما أتوا ب "عن" لأن الإطعام بعد الجوع، وإذا كان بعد الجوع فقد تجاوز وقته وقت الجوع.
وكذلك "بسير تقلص الغيظان" لأنها إنما تقلص بعد وقوع السير، فقد تجاوز وقت القلوص وقت السير.
وأما "عن ذات أولية" ف"عن" فيه متعلقة بأساود، وأساود مضمن معنى أسائل؛ ومساودته له في حقها سؤال عنها. ويمكن أيضا أن يضمن أساود معنى أخادع؛ لأنه إنما ساود ربها ليخدعه عنها، قاله بعض أصحابنا.
وأما ما استدل به المصنف من قوله تعالى: {إِلَّا عَنْ مَوْعِدَةٍ} ، و {عَنْ قَوْلِكَ} ، وقول ضابئ "ولا عن ريثهن يخيب"- فمتأول على أن المعنى: إلا بعد موعده، وبعد قولك، وبعد ريثهن، وإذا كان ذلك بعد فقد تجاوز الوقت الوقت.
وقوله ولموافقة بعد هذا أيضا مذهب كوفي، وتبعهم القتبي وهذا المصنف. واستدلوا بقوله تعالى:{لَتَرْكَبُنَّ طَبَقًا عَنْ طَبَقٍ} ، أيه: بعد طبق، وقول امرئ القيس:
وتضحى فتيت المسك فوق فراشها
…
تؤرم الضحى، لم تنطق عن تفضل
يريد: بعد تفضل، وقول الآخر:
ومنهل وردته عن منهل
يريد: بعد منهل. قال المصنف: ومنه قول الشاعر:
قربا مربط النعامة مني
…
لقحت حرب وائل عن حيال
ومثله:
لئن منيت بنا عن غب معركة
…
لا تلفنا عن دماء القوم ننتفل
أي: ننثني
قال بعض شيوخنا: "والذي يظهر أن الانتطاق لما كان بعد التفضل صار شبيها بما يكون مسببا عنه، فصار يقرب من قولك: كلمته عن حرج، وأكلت عن جوع، وشربت عن عطش. وكذا الكلام في قوله:
ومنهل وردته عن منهل
وينبغي على قول الكوفيين ومن تبعهم أن تكون عن ظرفا؛ لأنها بمعنى بعد، ولا أعلم أحدا قال فيها إنها اسم إلا إذا دخل عليها حرف الجر" انتهى
وقال بعض أصحابنا: "وقعت في هذه المواضع (عن) موقع (بعد) لتقارب معنييهما؛ لأن (عن) تكون لكل عدا الشيء وتجاوزه، و (بعد) لما تبعه وعاقبه، فإذا جاء الشيء بعد الشيء فقد عدا وقته وقته وتجاوزه" انتهى. وهذا التأويل سائغ في: "عن حيال"، و"عن غب معركة".
وقوله وفي قال المصنف في الشرح: "واستعمال عن موافقة ل (في) كقول الشاعر:
وآس سراة الحي حيث لقيتهم
…
فلا تك عن حمل الراعة واني
أي: في حمل الرباعية وانيا. وجعلت هنا الأصل (في) كقوله تعالى: {وَلا تَنِيَا فِي ذِكْرِي} " انتهى.
وتعدية وني ب (عن) مستعمل في لسان العرب، وفرق بين: ونى عن كذا، وونى في كذا، فإذا قلت ونى عن ذكر الله فالمعنى المجاوزة وأنه لم يذكره، وإذا قلت ونى في ذكر الله فقد التبس بالذكر، ولحقه فيه فتور وأناة.
قال بعض أصحابنا: "وهذا الذي ذهب إليه الكوفيون باطل؛ غذ لو كانت لها معاني هذه الحروف لجاز أن تقع حيث تقع هذه الحروف، فكنت تقول: زيد
عن الفرس، تريد: على الفرس، وجئت عن العصر، تريد: بعد العصر، وأتيك عن زيد، تريد من أجل زيد، وتكلم عن خير، تريد: بخير. فلما لم تفعل العرب ذلك دل على أنها ليست لها معاني هذه الحروف، وإذا لم تكن لها معاني هذه الحروف وجب أن يتأول جميع ما استدل به الكوفيون.
وقوله وتزداد هي وعلى الباء عوضا أنشد المصنف على زيادة عن عوضا
قول الشاعر:
أتجزع إن نفس أتاها حمامها
…
فهلا التي عن بين جنبيك تدفع
وقال: "قال ابن جنى: (أراد: فهلا عن التي بين جنبيك تدفع، فحذف عن، وزادها التي عوضا) ".
وأنشد على زيادة "على" عوضا قول الراجز:
إن الكريم- وأبيك- يعتمل
…
إن لم يجد بوما على من يتكل
وقال: "قال ابن جنى: (أراد: إن لم يجد يوما من يتكل عليه، فحذف عليه، وزاد على قبل من عوضا) " انتهى
ولا يتعين هذا التأويل؛ لاحتمال أن يكون الكلام تم عند قوله: إن لم يجد يوما، أي: إذا لم يجد ما يستعين به اعتمل بنفسه، ثم قال: على من يتكل؟ و"من" استفهامية، كأنه قال: على أي شخص يتكل؟ أي: لا أحد يتكل عليه،
فيحتاج أن يعتمل بنفسه لإصلاح حاله، ف "على" من قوله "على من" ب"يتكل
وأنشد المصنف على زيادة الباء عوضا قول الشاعر:
ولا يواتيك فيما ناب من حدث
…
إلا أخو ثقة، فأنظر بمن تثق
وقال:"أراد: من تثق به، فحذف (به) وزاد الباء قبل من عوضا" انتهى.
ولا يتعين هذا التأويل الذي ذكره لاحتمال أن يكون الكلام تم عند قوله "فانظر"أي: فانظر لنفسك، ولما تقدم أنه لا يواتيه إلا أخو ثقة استدرك على نفسه، فاستفهم على سبيل الإنكار على نفسه حيث قرر وجود أخي ثقة، فقال: بمن تثق، أي: لا أحد يوثق به، فالباء في بمن متعلقة ب"تثق".
قال المصنف في الشرح: "ويجوز عندي أن تعامل بهذه المعاملة: من واللام وإلى وفي، قياسا على عن وعلى الباء، فيقال: عرفت ممن عجبت، ولمن قلت، وإلى من أويت، وفيمن رغبت، والأصل: عرفت من عجبت منه، ومن قلت له، ومن أويت إليه، ومن رغبت فيهن فحذف ما بعد من، وزيد ما قبلها عوضا". انتهى
وهذا الذي أجازه المصنف قياسا لم يثبت الأصل الذي يقاس عليه؛ ألا ترى إلى ما ذكرناه من التأويل فيما استدل به، ولو كانت لا تحتمل التأويل لكانت من الشذوذ والندور والبعد من الأصول بحيث لا يقاس عليها ولا يلتفت إليها.
وما ذهب إليه المصنف من أن "عن" و"على" تكونان زائدتين ليس بصحيح، وقد نص س على أن "عن" و"على" لا يزادان لا عوضا ولا غير عوض. فأما قول الشاعر:
فأصبحن لا يسألنه عن ما به
…
أصعد في غاوي الهوى أم تصوبا
فالذي ينبغي أن يحمل عليه البيت أن الباء زائدة التوكيد؛ لأن الباء معهود زيادتها، ولم يعهد زيادة عن، وإنما زيدت للتأكيد لأنك تقول: سألت عنه، وسألت به"، فمعناها قريب من معنى. وقد نص ابن جنى على زيادة الباء في "عن بما في" كما زادوا اللام للتأكيد في قول الشاعر:
فلا والله لا يلفى لما بي
…
ولا للما بهم أبدا دواء
-[ص: ومنها للاستعلاء حسا أو معنى، وللمصاحبة، وللمجاوزة، وللتعليل، وللظرفية، ولموافقة "من" و "الباء" وقد تزاد تعويض.]-
ش: أي: ومن الحروف الجر "على". وهذا الذي ذكره من أن "على" حرف جر هو لمشهور عند النحاة، وقد مر ذكر الخلاف فيها ومذهب من زعم أنها لا تكون أبدا إلا اسما.
وقال في "الإفصاح" وقد اختلف أشياخنا إذا كانت اسما أمعربة هي أم مبنية؛ فقال أبو لقاسم بن القاسم: هي مبينية، والألف فيها كالألف في هذا وما؛ بدليل عن إذا كانت اسما وكاف التشبيه ومنذ ومذ، يبنى كل واحد منهما لتضمنه معنى الحرف الذي يكونه؛ لأنهما بمعنى واحد.
وكذا كان يقول أبو الحسن بن خروف، كان يقول: لا تكون إلا اسما، وكل من أدركنا ممن يقول لا تكون إلا اسما يجعلها معربة، وهو القياس؛ لأنها تخرج عن شبه الحرف؛ إذا لا حرف في معناها، وقلة تصرفها لا توجب لها البناء، كعند وذات مرة وبعيدات بين.
وقد قال بعض أشياخنا: "هي معربة وإن كانت تكون حرفا؛ لأنه لم تظهر فيها علامة البناء، فينبغي أن تحمل على أصل الأسماء من الإعراب، وما ذكره أبو القاسم هو الوجه والقياس" انتهى
ومثال الاستعلاء حسا قوله تعالى: {كُلُّ مَنْ عَلَيْهَا فَانٍ} ، {وَعَلَيْهَا وَعَلَى الْفُلْكِ تُحْمَلُونَ} . ومثاله معنى {تِلْكَ الرُّسُلُ فَضَّلْنَا بَعْضَهُمْ عَلَى بَعْضٍ} ، {وَلَهُنَّ مِثْلُ الَّذِي عَلَيْهِنَّ} / {بِالْمَعْرُوفِ وَلِلرِّجَالِ عَلَيْهِنَّ دَرَجَةٌ} .
قال المصنف في الشرح: "ومن هذا النوع المقابلة اللم المفهمة ما يحب،
كقول الشاعر:
فيوم علينا، ويوم لنا
…
ويم تساء، ويوم نسر
ومثله قول الآخر:
عليك لا لك من يلحاك في كرم
…
مخوفا ضرر الإملاق والعدم
ومثله:
لك لا عليك من استغنت، فلم يعن
…
إلا على ما ليس فيه ملام
ومن هذا النوع وقوع (على) بعد وجب وشبهه؛ لأن وجب عليك مقابلة لوجب لك. وكذا وقوعها بعد كذب وشبهه.
ومن الاستعلاء المعنوي وقوعها بعد كبر وصعب وعسر وعظم مما فيه ثقل. وكذلك ما دل على تمكن، نحو {أُوْلَئِكَ عَلَى هُدًى مِنْ رَبِّهِمْ} ، (وأنا على عهدك ووعدك ما استطعت) " انتهى
قال بعض أصحابنا: وقد يعرض فيها إشكال في بعض المواضع، فيظن أنها فارقت معنى الاستعلاء وليس كذلك، فمن تلك المواضع: زوت زيدا على مرضي، وأعطيته على أنه شتمني، ومنه قول فيس الرقيات:
ألا طرقت من آل بثنة طارقة
…
على أنها معشوقة الدل عاشقة
وخفي على كذا، وأشكل على كذا، وتقول عليه، وحمل عليه كذا، قال:
وما زالت محمولا على ضغينة
…
ومضطلع الأضغان مذ أنا يافع
واتصل بي هذا على لسان فلان، وجازاه على كذا، وعاقبه على كذا، وكر عليه، وعطف عليه، ورجع عليه، وحنى عليه. وهذا كله من المجاز وتشبيه المعقول بالمحسوس.
وقوله وللمصاحبة هذا مذهب كوفي، وقال به الفتبي وهذا المصنف، واستدل في شرحه بقوله تعالى:(وءاتى المال على حبه ذوي القربى)
{وَإِنَّ رَبَّكَ لَذُو مَغْفِرَةٍ لِلنَّاسِ عَلَى ظُلْمِهِمْ} ، {الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي وَهَبَ لِي عَلَى الْكِبَرِ إِسْمَاعِيلَ وَإِسْحَاقَ} ، {فَجَاءَتْهُ إِحْدَاهُمَا تَمْشِي عَلَى اسْتِحْيَاءٍ} ، {أَوَعَجِبْتُمْ أَنْ جَاءَكُمْ ذِكْرٌ مِنْ رَبِّكُمْ عَلَى رَجُلٍ} ،.ومنه (وبشره بالجنة على بلوى تصيبه)، أي: مع بلوى تصيبه. انتهى ما استدل به.
واستدل الكوفيون والقتبي بقول لبيد:
كأن مصفحات في ذاره
…
وأنواحا عليهن المآلي
أي: معهن المآلي، وقول الآخر:
وبردان من خال وسبعون درهما
…
على ذاك مقروظ من القد ماعز
أي: مع ذلك.
وتأول أصحابنا ما استدلوا به، فقال بعضهم:"عليهن المآلي"، "على" فيه/ على معناها؛ لأن العرب تجعل ما أشرف على جزء من الجسم مشرفا على الجسم
كله، فتقول: جاء زيد وعليه خف. ويمكن أن يكون على حذف مضاف، أي على أيديهن المآلي، وعلى رجليه خف.
وأما "على ذاك" فهو خبر لمقروظ، فيتعلق بمحذوف، والتقدير: زائد على ذلك مقروظ، هذا إذا كان مراده أن يعطي مع الأشياء التي ذكرها قبل جلدا مقروظا، أي: مدبوغا بالقرظ. وإن كان مراده عيبة من جلد مدبوغ بالقرظ فيه البردان والسبعون درهما كانت (على) في موضعها؛ أنها إذا كانت في المقروظ فالمقروظ عليها.
وقال بعض شيوخنا في قول لبيد:
كأن مصفحات في ذراه
…
وأنواحا عليهن المآلي
هذا عند البصريين على التضمين؛ لأنه يصف سحابا، والذرا: أعالي السحاب، والأنواح: جمع نوح، وهي النائحات، والمآلي: الخرق التي تجفف بها الخرق، وهي عليها، لأنهن إذا بكين وجففن عيونهن بالمآلي وضعنها على أكتافهن وعلى وجوههن ف"على" في موضعها، وهذا من عكس التشبيه؛ لأن الدموع هي التي تشبه بالأمطار، كما قال امرؤ القيس:
فدمعها سكب، وسح، وديمة
…
ورش، وتوكاف، وتنهلان
وأما ما استدل به المصنف فلا دليل فيه، ويمكن حمل "على" في ذلك على موضعها مجازا.
وقوله وللمجاوزة هذا أيضا مذهب كوفي، وتبعهم القتبي وهذا المصنف، قال في الشرح: "واستعمالها للمجاوزة موقوعها بعد بعد وخفى وتعذر واستحال وحرم وغضب وأشباهها، ولمشاركتها عن في المجاوزة تعاقبتا في بعض المواضع، نحو: رضي عنه وعليه، وأبطأ عنه وعليه، وأحال بوجهه عنه وعليه: إذا عدل عنه، وولى بوده عنه وعليه، قال الشاعر:
وإن بشر يوما أحال بوجهه
…
عليك فحل عنه وإن كان دانيا
وقال آخر:
إذا ما أمرؤ ولى على بوده
…
وأدبر لم يصدر بإدباره ودى
ويروى: لم يدبر.
إذا رضيت على بنو قشير
…
لعمر الله أعجبني رضاها
وقوله:
أرمي عليها وعي فرع أجمع
وقوله:
لم تعقلا جعفرة على، ولم
…
أوذ صديقا، ولم أكن طبعا
وقوله:
إذا ما أمرؤ ولى على بوده
…
......
وتأول البصريون ذلك: فأما "إذا رضيت علي" فمضمن معنى العطف، لأنه إذا رضي عنه فقد عطف عليه. أو أجرى رضي مجرى ضده، وهو سخط، فعداه تعديته، فكما يقال سخط عليه قيل رضي عليه.
وأما "أرمى عليها" فيه على بابها؛ لأنه إذا رمى بالقوس جعل سهمه عليها، فكأنه قال: أرمى السهم بالرمي عنها. ومن قال رميت بالقوس، فأدخل الباء على القوس لأنها آلة للرمي.
وأما "لم تعقلا جفرة علي" ف"على" متعلقة بفعل محذوف، كأنه قال: لم تعقلا جعفرة تعتدان بها علي، ف"على" باقية فيه على بابها.
وأما "ولى على بوده" فمضمن معنى ما يتعدى بعلى- وهو بخل- لأنه إذا ولى بوده عنه فقد بخل به عليه.
وقوله وللتعليل قال المصنف في الشرح: "كقوله تعالى {وَلِتُكَبِّرُوا اللَّهَ عَلَى مَا هَدَاكُمْ} ، ومنه قول الشاعر:
على مورثات المجد تحمد، فاقنها
…
ودع ما عليه ذم من كان قد ذما
وعليه قول الآخر:
على م تقول الرمح يثقل عاتقي
…
إذا أنا لم أطعن إذا الخيل كرت
أي: لأي سبب؟ ومنه قول ضريب بن أسد القيسي:
على م قلت نعم حتى إذا وجبت
…
ألحقت (لا) بـ (نعم)، ما هكذا الجود"
انتهى.
وزعم الكوفيون والقتبي أن "على" تكون بمعنى اللام، واستدلوا بقول الراعي:
رعته أشهرًا، وخلا عليها
…
فطار الني فيها، واستعارا
أي: خلا لها.
وتأوله البصريون على تضمين "خلا" معنى وقف؛ لأنه إذا خلا لها فقد وقف عليها. يصف إبلًا سمنت بسرعة، والني: الشحم، واستعار: يريد استعر من السعير، وهو افتعل، أشبع الفتحة، فتولد منها ألف.
وقوله وللظرفية هذا مذهب كوفي، وتبعهم القتبي وهذا المصنف.
واستدلوا بقوله: {وَاتَّبَعُوا مَا تَتْلُوا الشَّيَاطِينُ عَلَى مُلْكِ سُلَيْمَانَ} ، أي: في ملك سليمان، وبقوله:{وَدَخَلَ الْمَدِينَةَ عَلَى حِينِ غَفْلَةٍ} ، وقال الشاعر:
يمرون بالدهنا خفافًا عيابهم
…
ويخرجن من دارين بجر الحقائب
على حين ألهى الناس جل أمورهم
…
فندلًا-زريق-المال ندل الثعالب
وتأول البصريون (تتلو) على تضمينها معنى تتقول وتكذب، وتقول: قال عليه ما لم يقل، أي: كذب عليه؛ لأنها إذا تلت فيه ما ليس بصحيح فقد تقوله، وقالت/عليه ما ليس بصحيح.
وأما ((على حين)) فللاستعلاء المجازي، لما تمكن من الدخول أو الخروج في ذلك الوقت صار مستعليًا عليه على سبيل المجاز.
وقوله ولموافقة من هذا مذهب كوفي أيضًا، وتبعهم القتبي وهذا المصنف.
واستدلوا بقوله: {إِذَا اكْتَالُوا عَلَى النَّاسِ يَسْتَوْفُونَ} ، أي: من الناس، وقوله:{وَالَّذِينَ هُمْ لِفُرُوجِهِمْ حَافِظُونَ، إِلَّا عَلَى أَزْوَاجِهِمْ} ، المعنى: من أزواجهم.
فأما {إِذَا اكْتَالُوا عَلَى النَّاسِ} فعلى ما ذكره الفراء، وهو أن من وعلى اعتقبا مع اكتال؛ لأنه حق [عليه]، فإذا قال اكتلت عليك فكأنه قال: أخذت ما عليك، وإذا قال اكتلت منك فكأنه قال: استوفيت منك.
وقال بعض شيوخنا: "والبصريون يذهبون إلى التضمين، وكأن المعنى-والله أعلم-: إذا حكموا على الناس في الكيل استوفوا؛ لأن ذلك لا يكون حتى يلوا الكيل بأنفسهم" انتهى.
وأما {إِلَّا عَلَى أَزْوَاجِهِمْ} فضمن {حَافِظُونَ} معنى: قاصرون-والله أعلم-
أي: والذين هم قاصرون فروجهم إلا على أزواجهم، تقول: قصرت أمري على فلان.
وقوله والباء هذا أيضًا مذهب كوفي، وتبعهم القتبي وهذا المصنف.
واستدلوا بقوله تعالى: {حَقِيقٌ عَلَى أَنْ لا أَقُولَ عَلَى اللَّهِ إِلَّا الْحَقَّ} ، أي: بألا أقول. وقرأ أبي بن كعب: {أَنْ لا أَقُولَ} ، فكانت قراءته مفسرة لقراءة الجماعة، وبقول أبي ذؤيب:
وكأنهن ربابة، وكأنه
…
يسر يفيض على القداح ويصدع
وبقول الآخر:
شدوا المطي على دليل دائب
…
من أهل كاظمة بسيف الأبحر
أي: يفيض بالقداح، وبدليل دائب. وقالت العرب: اركب على اسم الله، أي: باسم الله.
فأما {حَقِيقٌ عَلَى أَنْ لا أَقُولَ} فخرج على تضمين (حقيق) معنى حريص، أي: حريص على ألا أقول على الله إلا الحق.
وأما "يفيض على القداح"، و"على دليل"، و"على اسم الله"-فخرج على تعليق ((على)) بمحذوف، أي: يفيض صائحًا على القداح، واركب معتمدًا على اسم الله، وشدوا المطي معتمدين على دليل.
وقوله وقد تزاد دون تعويض إنما قال "دون تعويض" لأنه كان قد قدم أن عن وعلى والباء تزاد عوضًا، وتقدم لنا تأويل ما استدل به، ودعواه زيادة "عن"و"على" مخالف لنص س، قال س: عن وعلى لا يزادان.
واستدل المصنف بقول حميد بن ثور:
أبى الله إلا أن سرحة مالك
…
على كل أفنان العضاه تروق
قال: ((وزاد على لأن راق متعدية مثل أعجب، تقول: راقني حسن الجارية، وأعجبني عقلها، وفي الحديث (من حلف على يمين)، والأصل: حلف يمينًا، قال/النابغة:
حلفت يمينًا غير ذي مثنوية ..................................))
انتهى.
ولا دليل فيما استدل به؛ لأنه يحتمل التضمين، فضمن تروق معنى تفضل وتشرف، أي: تشرف على كل أفنان العضاه. وأيضًا فنسبة إعجابها كل أفنان العضاه لا تصح إلا بمجاز بعيد؛ لأن الأفنان لا تعجب، لو قلت: أعجبت شجرتك هذا الشجر-لم يصح إلا بتكلف جعل الشجر نزل منزلة العاقل حتى يصير يعجب.
وأما (من حلف على يمين) فإن صح أنه من لفظ الرسول فهو مضمن معنى جسر، أي: من جسر بالحلف على يمين.
قال بعض أصحابنا فيما ذهب إليه الكوفيون ومن تبعهم من أن (على) تأتي بمعنى عن، ومعنى اللام، ومعنى الباء، ومعنى مع، ومعنى في، ومعنى من: لو كان لها هذه المعاني لوقعت موقع هذه الحروف، فكنت تقول: زلت عليه، أي: عنه، وعلى زيد مال، أي: لزيد مال، وكتبت على القلم، أي: بالقلم، وجاء زيد على عمرو، أي: مع عمرو، والدرهم على الصندوق، أي: في الصندوق، وأخذت الدرهم على الكيس، أي: من الكيس، فلما لم تقل العرب ذلك دل على أنها ليست لها معاني هذه الحروف، فوجب أن يتأول جميع ما استدلوا به.
-[ص: ومنها "حتى" لانتهاء العمل بمجرورها أو عنده، ومجرورها إما بعض لما قبلها من مفهم جمع إفهامًا صريحًا أو غير صريح، وإما كبعض. ولا يكون ضميرًا، ولا يلزم كونه آخر جزء أو ملاقي آخر جزء، خلافًا لزاعم ذلك.
ويختص تالي الصريح المنتهي به بقصد زيادة ما، وبجواز عطفه، واستئنافه. وإبدال حائها عينًا لغة هذيلية.]-
ش: "حتى" عاطفة، ويأتي حكمها في حروف العطف.
وحرف ابتداء، يجيء بعدها المبتدأ والخبر، وهل ذلك المبتدأ والخبر في موضع جر أو لا موضع له من الإعراب؟ الأول مذهب الزجاج وابن درستويه،
والثاني مذهب الجمهور، وسنتكلم على ذلك إن شاء الله تعالى آخر كلام ((حتى)) الابتدائية.
وجارة، وهي على قسمين:
تارة تدخل على الفعل المضارع المنصوب، كقوله تعالى:{حَتَّى يَتَبَيَّنَ لَكُمُ الْخَيْطُ الأَبْيَضُ} ، فيكون المجرور مصدرًا مقدرًا، وحكمها مذكور في الحروف التي ينتصب الفعل بإضمار أن بعدها، وقد أمعنا الكلام فيها هناك.
وتارة تدخل على الاسم الصريح، فتجره، وهي التي نتكلم فيها هنا، نحو قوله تعالى:{سَلامٌ هِيَ حَتَّى مَطْلَعِ الْفَجْرِ} ، و {لَيَسْجُنُنَّهُ حَتَّى حِينٍ} . وكونها جارة بنفسها هو مذهب البصريين.
وقال الفراء في "كتاب الحدود": "حتى خافضة لنيابتها عن (إلى)، كما في واو القسم لنيابتها عن الباء، وواو رب، وربما أظهروا (إلى) في بعض المواضع، قالوا: جاء الخير حتى إلينا، وجمعوا بينهما بتقدير إلغاء أحدهما، وقد يجمعون بين الحرفين إذا اختلف اللفظان، فيقولون: رأيتك/من غير لا فحش ولا ريبة، وقالوا: جئت لكي تقوم، فجمعوا بين اللام وكي، وأنشدني أبو ثروان:
أرادت لكيما لا ترى لي غفلًة
…
ومن ذا الذي يعطي الكمال فيكمل
وقد جمعوا بين ثلاثة أحرف لمعنى، أنشدني الكسائي:
أردت لكيما أن تطير بقربتي
…
فتتركها شنا ببيداء بلقع
وأنشدني بيتًا فيه:
لا إن ما رأيت .............................
…
............................
جمع بين ثلاثة أحرف للجحد".
وقوله لانتهاء العمل بمجرورها أو عنده قال في الشرح: "نحو: ضربت القوم حتى زيد، فزيد مضروب، انتهى الضرب به، ويجوز أن يكون غير مضروب، لكن انتهى الضرب عنده، وإذا كان انتهاء الضرب به ففي ذكر القوم غنًي عن ذكره، لكن قصد التنبيه على أن فيه زيادة ضعف أو قوة أو تعظيم أو تحقير"انتهى.
وقال صاحب "الذخائر": "إذا جرى على الغاية فيحتمل أن يكون ما بعدها داخلًا فيما قبلها أو غير داخل؛ لأن المعنى الانتهاء، فإذا قلت: ضربت القوم حتى زيد-فمعناه: حتى انتهى إلى زيد، فيجوز أن يكون معهم وألا يكون، إلا أن يدل دليل عليه" انتهى. يعني أنه على حسب الدليل من دخول أو خروج.
وجماع القول في حتى هذه بالنسبة إلى ما يجوز في الاسم بعدها من الإعراب أن الاسم الواقع بعدها إما أن يقع بعده ما يصلح أن يكون خبرًا أو لا؛ إن لم يقع فإما أن يتقدم ما يصلح أن يكون ما بعد حتى غاية له أو لا يتقدم، إن لم يتقدم نحو: العجب حتى الخز يلبس زيد-فأجاز الجر فيه الكسائي والفراء، ومنعه البصريون.
وإن تقدم ما يصلح أن يكون ما بعد حتى غاية فإما أن يكون جزءًا لما قبلها أو لا، إن لم يتقدم ما يصلح أن يكون جزءًا له فالجر، نحو: نمت حتى الصباح. أو تقدم واحتفت به قرينة تدل على أنه غير داخل في حكم ما قبله فالجر، نحو: صمت
الأيام حتى يوم الفطر، أو لم تحتف به قرينة فالجر، وحمل على تشريكه لما قبله في الحكم، ويجوز العطف، وهو لغة ضعيفة، فيتبع، إلا إن اقترنت به قرينة تدل على أن المراد العطف، فلا يجوز الخفض إذ ذاك، نحو: ضربت القوم حتى زيدًا أيضًا؛ لأن "أيضًا" تدل على إرادة تكرار الفعل، وهذا المعنى لا يعطيه إلا العطف، كأنك قلت: ضربت القوم حتى ضربت زيدًا أيضًا.
ولا يجيز البصريون رفعه على الابتداء والخبر محذوف، وأجازه بعض الكوفيين. ورد بأنه لم يسمع، والقياس يأباه.
قال الأستاذ أبو علي: لأن حتى مهيأة للعمل في الاسم من حيث هو مفرد، ثم قطعتها عنه، ولأنه يلزم من ذلك إعمال العامل المعنوي وترك العامل اللفظي مهيأ للعمل فيه؛ واللفظي أقوى من المعنوي.
أو وقع اسمًا مفردًا فلا يجوز إلا أن تكون حرف ابتداء، نحو: ضربت القوم حتى زيد مضروب. أو ظرفًا أو مجرورًا فالابتداء والجر والعطف، /نحو: القوم عندك حتى زيد عندك، والقوم في الدار حتى زيد فيها.
أو جملًة اسمية وما بعدها شريك لما قبلها في المعنى فتلك، نحو: ضربت القوم حتى زيد هو مضروب، أو غير شريك فالرفع بالابتداء لا غير، نحو: ضربت القوم حتى زيد أبوه مضروب. وأجاز الكوفيون الجر في نحو: ضربت القوم حتى زيد فتركت. ومنعه البصريون.
أو فعليًة وهو غير شريك فالابتداء والحمل على إضمار فعل يفسره ما بعد حتى؛ نحو: ضربت القوم حتى زيد ضربت أخاه. أو شريك والفعل عامل في ضمير الاسم الذي قبل حتى فالجر والعطف، نحو: ضربت القوم حتى زيد ضربتهم، أو في
ضمير ما بعد حتى فالابتداء، والجملة خبره، وحمله على إضمار فعل يفسره الفعل بعده، فالجر والعطف، نحو: ضربت القوم حتى زيد ضربته، ومن ذلك:
ألقى الصحيفة كي يخفف رحله
…
والزاد حتى نعله ألقاها
وزعم بعض شيوخ الأندلس أن الخفض والعطف في هذه المسألة لا يجوزان، وزعم أن الضمير في "ألقاها" عائد على الصحيفة، ولا يجوزان إلا إذا كان الضمير عائدًا على ما قبل حتى.
والصحيح جواز ذلك، وتكون تأكيدًا معنويا من حيث كان زيد شريكًا لهم في الضرب، فضربته توكيد لما اقتضاه معنى الكلام من أنك ضربت زيدًا.
وزعم الكوفيون أنه لا يجوز الجر في نحو: ضربت القوم حتى زيد ضربته، إلا أن تقول: فضربته. وأجاز الجر فيهما البصريون.
قال المصنف في الشرح: "ويجوز كون تالي الصريح منتهًى عنده لا به كما يجوز مع إلى، فإنهما سواء في صلاحية الاسم المجرور بهما للانتهاء به والانتهاء عنده؛ أشار إلى ذلك س والفراء وأبو العباس أحمد بن يحيي، وقال أحمد بن يحيي:(قوله {إِلَى الْمَرَافِقِ}) مثل حتى للغاية، والغاية تدخل وتخرج، يقال: ضربت القوم حتى زيد، فيكون مرة مضروبًا وغير مضروب، فيؤخذ هنا بالأوثق). يريد أن
كون المرافق مدخلة في الغسل هو المعمول به؛ لأنه أحوط الحكمين. ومن شواهد استواء حتى وإلى أن قوله تعالى: {فَمَتَّعْنَاهُمْ إِلَى حِينٍ} ، قرأه عبد الله {فَمَتَّعْنَاهُمْ إِلَى حِينٍ} ومن شواهد خروج ما بعد حتى مع صلاحيته للدخول قول الشاعر:
سقى الحيا الأرض حتى أمكن عزيت
…
لهم، فلا زال عنها الخير محدودا"
انتهى. وقد تقدم من قولنا أنه إذا لم تحتف قرينة تدل على أن ما بعد حتى إذا كان مجرورًا غير داخل في حكم ما قبلها فإنه يكون داخلًا في حكم ما قبلها، نحو: ضربت القوم حتى زيد، ولا حجة له في قراءة عبد الله {فَمَتَّعْنَاهُمْ إِلَى حِينٍ} ؛ لأنه لم يذكر قبل حتى ما يصلح أن يكون ما بعدها جزءًا له، فهو من التالي غير الصريح، كقولك: نمت حتى الصباح، /فالصباح لم يقع فيه نوم. وكذلك لا حجة في البيت وإن كان قد تقدم ما يصلح أن يكون ما بعد حتى جزءًا؛ لكن احتفت به قرينة تدل على عدم دخوله في حكم ما قبل حتى، وهي قوله:"فلا زال عنها الخير محدودا".
قال أصحابنا: وما بعد (حتى) لا يكون إلا داخلًا في معنى ما قبلها، إلا أن تقترن بالكلام قرينة تدل على خلاف ذلك.
وفي "الإفصاح": اختلف الناس فيما بعد حتى إذا كانت جارة هل يدخل فيما قبلها أم لا: فمذهب أبي العباس وأبي بكر وأبي علي أنه داخل على
كل وجه. وقال الفراء والرماني وجماعة: يدخل ما لم يكن غير جزء منه، نحو قولهم: إنه لينام الليل حتى الصباح.
واتفقوا على أنها إذا عطفت دخل ما بعدها فيما قبلها. واتفقوا على أنها لا تعطف إلا حيث تجر، ولا يلزم العكس. واتفقوا على أنه إذا لم يكن قبلها ما يعطف عليه لم يجز إلا الخفض، نحو {حَتَّى مَطْلَعِ الْفَجْرِ} ، و {حَتَّى حِينٍ} . وصرح س أن ما بعدها داخل فيما قبلها ولابد، لكنه مثل بما هو بعض مما قبله.
وقال أبو العباس: "أكلت السمكة حتى رأسها، فالرأس قد دخل في الأكل؛ لأن معناها عاملًة وعاطفًة واحد".
وقوله ومجرورها إلى قوله أو غير صريح قال المصنف في الشرح:
"وعنيت بالصريح كونه بلفظ موضوع للجمعية، فيدخل في ذلك الجمع الاصطلاحي واللغوي كرجال وقوم. وعنيت بغير الصريح ما دل على الجمعية بغير لفظ موضوع لها، كقوله تعالى: {لَيَسْجُنُنَّهُ حَتَّى حِينٍ}، فإن مجرور حتى فيه منتهًى لأحيان مفهومة غير مصرح بذكرها".
وقوله وإما كبعض مثاله:
ألقى الصحيفة ............................
…
.................................
البيت؛ لأن النعل ليست بعضًا من الصحيفة والزاد، لكنها كبعض باعتبار أن إلقاء الصحيفة والزاد إنما كان ليخلو من ثقل وشاغل، والنعل مما يثقل ويشغل، فجاز عطفها لذلك؛ لأنه بمنزلة أن تقول: ألقى ما يثقله حتى نعله. ويروي "نعله" بالأوجه الثلاثة.
وقوله ولا يكون ضميرًا أي: ولا يكون المجرور بحتى ضميرًا. هذا مذهب س. وأجاز الكوفيون والمبرد جرها للمضمر، واستدلوا بقول الشاعر:
فلا والله لا يلقى أناس
…
فتى حتاك، يا بن أبي يزيد
وهذا البيت عند البصريين ضرورة. ومن أجاز أن تجر المضمر أدخلها على المضمرات المجرورات كلها، نحو: حتاي وحتاه وحتاهما وحتاكما وحتاكم وحتاهم وحتانا وحتاكن. ولا ينبغي القياس على حتاك من هذا البيت، فيقال ذلك في سائر الضمائر. وانتهاء الغاية في حتاك هنا لا أفهمه، ولا أدري ما غيي هنا بحتاك، فلعل هذا البيت مصنوع.
وقوله ولا يلزم إلى قوله خلافًا لزاعم ذلك قال المصنف في الشرح:
"والتزم الزمخشري كون/مجرورها آخر جزء أو ملاقي آخر جزء، وهو غير لازم، ومن دلائل ذلك قول الشاعر:
إن سلمى من بعد يأسي همت
…
بوصال، لو صح لم يبق بوسا
عينت ليلًة، فما زلت حتى
…
نصفها راجيًا، فعدت يؤوسا"
انتهى.
وما نقله عن الزمخشري هو قول أصحابنا، قال بعضهم:"ولا يكون الاسم الذي انجر بها إلا آ×ر جزء من الشيء، نحو قولك: أكلت السمكة حتى رأسها، أو ملاقيًا لآخر جزء منه، نحو قولك: سرت النهار حتى الليل، ولو قلت: أكلت السمكة حتى وسطها، وسرت النهار حتى نصفه- لم يجز ذلك، بل إذا أردت ذلك المعنى أتيت بإلى، فقلت: أكلت السمكة إلى وسطها، وسرت النهار إلى نصفه، فـ (إلى) في استعمالها لانتهاء الغاية أقعد من (حتى)؛ لأنها تدخل على كل ما جعلته انتهاء غاية، وسواء في ذلك أن يكون آخر جزء من الشيء أو ملاقيًا لآخر جزء، أو لا يكون، ولما كانت أقعد منها في ذلك جروا بها الظاهر والمضمر، ولم يجروا بحتى إلا الظاهر" انتهى.
وما استدل به المصنف من قوله "عنيت ليلةً" البيت، لا حجة فيه؛ لأنه لم يتقدم حتى ما يكون ما بعدها جزءًا له، ولا ما يكون ما بعدها ملاقيًا لآخر جزء منه في الجملة المغيا العامل فيها بحتى، فليس البيت نظير ما مثل به أصحابنا من قولهم: أكلت السمكة حتى وسطها؛ لأنه تقدم السمكة في الجملة المغيا العامل فيها بحتى، وليس الوسط آخر جزء في السمكة ولا ملاقيًا لآخر جزء منها، فلو صرح في الجملة بذكر الليلة فقال: فما زلت راجيًا وصلها تلك الليلة حتى وسطها-كان ذلك حجة على الزمخشري.
ونحن نقول: إذا لم يتقدم في الجملة المغياة بحتى ما يصح أن يكون ما بعد حتى آخر جزء منه، أو ملاقيًا آخر جزء منه-جاز أن تدخل على ما ليس بآخر جزء ولا ملاق آخر جزء إذا تقدم على الجملة مالغياة ما يصلح أن يكون ما بعد حتى جزءًا من ذلك السابق على الجملة، ولا يعتبر فيه كونه آخر جزء منه ولا ملاقيًا لآخر جزء منه، كذلك البيت الذي أنشده المصنف.
وقوله ويختص إلى بزيادة ما قد تقدم شرح المصنف لهذه الزيادة بأنها ضعف أو قوة أو تعظيم أو تحقير.
وقوله وبجواز عطفه العطف لغة ضعيفة، وستأتي أحكامها في العطف إن شاء الله تعالى.
وقوله واستئنافه قال المصنف في الشرح: "نحو: ضربتهم حتى زيد، فزيد مبتدأ محذوف الخبر، ويروي بالأوجه الثلاثة قول الشاعر:
عممتهم بالندى حتى غواتهم
…
فكنت مالك ذي غي وذي رشد
ويروى بالأوجه الثلاثة أيضًا قوله:
................
…
................... حتى نعله ألقاها"
انتهى.
وقد تقدم لنا أن البصريين لا يجيزون فيه أن يكون مبتدأ إلا إذا كان ما بعده يصلح أن يكون خبرًا، وأن مجيز ذلك بعض/الكوفيين، وذكرنا علة امتناع ذلك. وإن صح في ((غواتهم)) الرفع عن العرب كان حجة لهذا المذهب. وأما "حتى نعله ألقاها" فلا حجة فيه؛ لأنه صرح بما يصلح أن يكون خبرًا للنعل، وهو قوله: ألقاها.
وقوله وإبدال حائها عينًا لغة هذيلية كرر المصنف إبدال حائها عينًا في الفصل الرابع من "باب تتميم الكلام على كلمات مفتقرة إلى ذلك"، فقال حين تكلم على نعم:"وكسر عينها لغة كنانية، وقد تبدل حاء، وحاء حتى عينًا"، لكنه هنا نسب الإبدال إلى لغة هذيل.
وقال المصنف في الشرح: ((وفي قراءة ابن مسعود: {لَيَسْجُنُنَّهُ حَتَّى حِينٍ} ، وسمع عمر-رضي الله عنه-رجلًا يقرأ:{حَتَّى حِينٍ} ، فقال: من أقرأك؟ قال: ابن مسعود. فكتب إليه: إن الله أنزل هذا القرآن، فجعله عربيًا، وأنزله بلغة قريش، فلا تقرئهم بلغة هذيل، والسلام" انتهى.
وأما "حتى" الابتدائية فهي التي تجيء بعدها الجملة من المبتدأ والخبر، أو الشرط والجزاء، أو الفعل ومرفوعه، فمن مجيء المبتدأ والخبر قول الشاعر:
فيا عجبا، حتى كليب تسبني
…
كأن أباها نهشل أو مجاشع
وقول الآخر:
فما زالت القتلى تمج دماءها
…
بدجلة، حتى ماء دجلة أشكل
وقول الآخر:
سريت بهم حتى تكل مطيهم
…
وحتى الجياد ما يقدن بأرسان
وقال ابن طاهر: إنها في "حتى كليب" عاطفة، والمعنى: يسبني الناس حتى كليب. وقال في "وحتى الجياد": إن العطف للواو، وجردت حتى للغاية كما تجرد لا للنفي في: ما قام زيد ولا عمرو، ولكن للاستدراك في: ما قام زيد ولكن عمرو.
ومن مجئ الشرط قوله تعالى: {وَابْتَلُوا الْيَتَامَى حَتَّى إِذَا بَلَغُوا النِّكَاحَ فَإِنْ آنَسْتُمْ} . وهذا أول موضع وقع في القرآن من دخول حتى على إذا، وهو كثير
في القرآن، وتقدم لنا الرد على المصنف في زعمه أن إذا مجرورة بحتى، وذلك في الفصل الأول من باب المفعول المسمى ظرفًا.
ومن مجئ الفعل ومرفوعه قوله تعالى: {ثُمَّ بَدَّلْنَا مَكَانَ السَّيِّئَةِ الْحَسَنَةَ حَتَّى عَفَوا} . وكذلك إذا جاء المضارع بعدها مرفوعًا، نحو قوله:{وَزُلْزِلُوا حَتَّى يَقُولَ الرَّسُولُ} ، وقولهم: سرت حتى تطلع الشمس، بالرفع.
وليس معنى قولهم "حرف ابتداء" أنه يصحبها المبتدأ دائمًا، إنما معناه أنها بصدد أن يأتي بعدها المبتدأ، كما قال: هي ولكن وبل من حروف الابتداء، وإن كان يقع بعدها غير المبتدأ، وإنما المعنى أنها يصلح أن يقع بعدها المبتدأ.
وقد وقع للمصنف وهم في أول شرحه في حتى، فقال:"والجارة مجرورها إما اسم صريح، نحو {لَيَسْجُنُنَّهُ حَتَّى حِين}، و {سَلامٌ هِيَ حَتَّى مَطْلَعِ الْفَجْرِ}، أو مضارع، نحو: {حَتَّى يَتَبَيَّنَ لَكُمُ} ". فزعم أن مضمرة بعد حتى في قوله (حتى عفوا).
ونحن نقول: إنها حرف ابتداء، والذي نقول: إنها في مثل هذا حرف ابتداء، ولولا ظهور النصب في المضارع بعد حتى لم ندع أن مضمرة بعدها، ولهذا قال بعض شيوخنا:"ضابط حتى أن تقول: إذا كان بعدها مفرد مخفوض أو فعل مضارع منصوب فهي حرف جر، وإذا وقع بعدها اسم مفرد مرفوع أو منصوب فهي حرف عطف، فإن وقع بعدها جملة فهي حرف ابتداء".
وقال أيضًا: "اعلم أنها إذا كانت حرفًا من حروف الابتداء فإنها تقع بعدها جملة من فعل وفاعل، وجملة من مبتدأ وخبر. وإذا وقع بعدها إن كانت مكسورة، بخلاف الجارة والعاطفة، فإنها تكون مفتوحة. وإذا قلت: سرت حتى أدخل المدينة، ورفعت أدخل-كانت حتى حرف ابتداء، وكان معناها معنى الفاء، كأنك قلت: سرت فأنا الآن أدخلها لا أمنع من ذلك، وسرت فدخلتها، ثم وضع المضارع موضوع الماضي، كما جاء:
لعمري لقوم قد ترى أمس فيهم ................................... "
انتهى.
وقد تقدم لنا ذكر الخلاف في الجملة الابتدائية أهي في موضع جر أم لا موضع لها من الإعراب، ومذهب الجمهور أنها لا موضع لها من الإعراب. وإنما لم يجز أن تكون الجملة في موضع جر لأن الجمل لا تدخل عليها حروف الجر في فصيح الكلام، لا يقولون: عجبت من يقوم زيد، ولا: عجبت من زيد قائم؛ لأن ذلك ضرب من تعليق حروف الجر، وحروف الجر لا تعلق؛ ألا ترى كيف فحش س: أشهد بلذاك.
-[ص: ومنها الكاف للتشبيه، ودخولها على ضمير الغائب المجرور قليل، وعلى أنت وإياك وأخواتهما أقل. وقد توافق "على". وقد تزاد إن أمن اللبس. وتكون اسمًا، فتجر، ويسند إليها. وإن وقعت صلًة فالحرفية راجحة. وتزاد بعدها "ما" كافًة وغير كافة، وكذا بعد "رب"و"الباء"، وتحدث في الباء المكفوفة معنى التقليل، وقد تحدث في الكاف معنى التعليل، وربما نصبت حينئذ مضارعًا، لا لأن الأصل "كيما". وإن ولي ربما اسم مرفوع فهو مبتدأ بعده خبره، لا خبر مبتدأ محذوف و ((ما)) نكرة موصوفة بهما، خلافًا لأبي علي في المسألتين. وتزاد "ما" غير كافة بعد "من" و"عن".]-
ش: أي: ومن حروف الجر الكاف. والدليل على حرفيتها وصلهم الموصول بها في حال السعة، تقول: جاءني الذي كزيد، كما تقول: جاءني الذي في الدار.
وليست الكاف كعلي وعن وفي ونحوها من الحروف التي تجر المضمر، فيجوز حذفها وحذفه في الصلة، نحو: غضبت علي الذي غضبت، تريد: عليه؛ لأن جرها المضمر لا يكون إلا ضرورة. ولا هي/مما إذا جرت الظاهر يجوز حذفها، فيصل الفعل إلى مجرورها، فينصبه نصب المفعول، كما قال:
................................
…
......... لقضاني
يريد: لقضى علي، فيستدل على حرفيتها بأحد هذين، فلذلك عدل النحويون إلى الاستدلال على حرفيتها بكونها يوصل بها في فصيح الكلام.
وقد استدل أيضًا على حرفيتها وانتفاء كونها اسمًا بمجيئها على حرف واحد؛ ولا تجيء على حرف واحد الأسماء الظاهرة إلا محذوفًا منها وعلى سبيل الشذوذ؛ وسيأتي خلاف الأخفش فيها إن شاء الله تعالى. والدليل القاطع على حرفيتها زيادتها، ولا يزاد إلا الحروف.
ومن حيث هي حرف جر لابد لها مما تتعلق به. وذهب الأخفش-وتبعه ابن عصفور في بعض تصانيفه-إلى أن الكاف لا تتعلق بشيء، قال ابن عصفور: "جاءني الذي كزيد، ليس للكاف ما تتعلق به ظاهرًا؛ إذ ليس في اللفظ ما يمكن أن يعمل فيه، ولا مضمرًا؛ إذ لا يحذف ما يعمل في المجرور إذا وقع صلة إلا ما يناسب الحرف، نحو: جاءني الذي في الدار، تريد: الذي استقر في الدار؛ لأن (في) للوعاء، والاستقرار مناسب للوعاء، ولو قلت: جاءني الذي في الدار، تريد: الذي ضحك في الدار، أو أكل في الدار- لم يجز؛ لأنه ليس في الكلام ما يدل على ذلك، فلا يمكن أن يكون المحذوف مع الكاف إلا الذي يناسبها، وهو التشبيه. ولو قلت:
جاءني الذي أشبه كزيد-لم يجز؛ لأن أشبه لا تتعدى بالكاف بل بنفسها، وأيضًا فإن العرب لم تلفظ بالشبه ولا بما تصرف منه مع الكاف في موضع أصلًا، فدل ذلك على أن الكاف لا تتعلق بشيء" انتهى.
وما ذهب إليه ليس بصحيح، بل العامل في الكاف مضمر في المثال الذي ذكره، فإذا قلت جاءني الذي كزيد فالعامل فيه مضمر، وهو الكون المطلق، وهو الذي يقدر مع سائر الحروف إذا وقعت أخبارًا وكانت تامة، نحو: زيد كعمرو، وزيد من بني تميم، وزيد على الفرس، والأمر إليك، والمال لزيد، فجميع هذا وأمثاله العامل فيه مضمر، وهو الكون المحذوف المطلق، فإذا قلت زيد كعمرو فتقديره: زيد كائن كعمرو، وكذلك جاءني الذي كزيد، تقديره: جاءني الذي كان كزيد، فإن كان حرف الجر ناقصًا لم يعمل فيه إلا الكون المقيد، ولا يجوز حذفه إلا إن أتى ضرورة، كما أنه لا يثبت الكون المطلق إلا في قليل من الكلام، لو قلت: زيد عنك، تريد: راض عنك، وزيد فيك، تريد: محب فيك-لم يجز.
وقوله ودخولها على ضمير الغائب المجرور قليل قال المصنف في الشرح:
"الكاف من الحروف التي تجر الظاهر وحده كـ (حتى)، واستغنى في الغاية مع المضمر
بإلى عن حتى، واستغني في التشبيه مع المضمر بـ (مثل) عن الكاف، إلا أن الكاف خالفت أصلها في بعض الكلام لخفتها، فجرت ضمير الغائب المتصل، كقول الشنفرى:
لئن كان من جن لأبرح طارقا
…
وإن كان إنسا ما كها الإنس تفعل
/أي: ما مثلها الإنس تفعل. ومثله قول الراجز في وصف حمار وحش وآتن:
ولا ترى بعلا ولا حلائلا
…
كه ولا كهن إلا حاظلا"
انتهى.
وقد تقدم لنا ذكر الخلاف في جر حتى المضمر وأنه مذهب الكوفيين والمبرد.
ودل كلام المصنف في المتن وفي الشرح أنه يجوز أن تجر الكاف مضمر الغائب على قلة، وأصحابنا يخصونه بالضرورة، ولا يخصون الجر في الضرورة بمضمر الغائب، بل يطلقون المضمر، وأنشدوا:
وأم أوعال كها أو أقربا
وقال آخر:
وإذا الحرب شمرت لم تكن كي
…
حين تدعو الكماة فيها: نزال
أدخل كاف التشبيه على ضمير المتكلم. وشذ إدخالها أيضا عليه وعلى ضمير المخاطب في قول الحسن: أنا كك وأنت كي.
وأما ما استدل به هو وبعض أصحابنا من قوله:
كه ولا كهن إلا حاظلا
فلا حجة فيه؛ إذ يحتمل أن يكون الأصل: كهو، فسكن، وحذف، و"هو" ضمير رفع، كما قالوا: ما أنا كأنت ولا أنت كأنا.
وحركة الكاف الفتح إلا مع الياء للمتكلم إذا دخلت عليه في الضرورة فالكسر، وقال س:"كي، وكي خطأ".
وقوله وعلى أنت وإياك وأخواتهما أقل قالت العرب: ما أنا كأنت ولا أنت كأنا، وقال الشاعر:
قلت: إني كأنت، ثمت لما
…
شبت الحرب خضتها، وكععتا
وأنشد الكسائي:
فأحسن وأجمل في أسيرك إنه
…
ضعيف، ولم يأسر كإياك آسر
وأخوات أنت هي الضمائر المرفوعة المنفصلة، وأخوات إياك هي الضمائر المنصوبة المنفصلة، ولا يعني بـ"أخوات أنت" ضمير المخاطب المرفوع المنفصل، وبـ"إياك" ضمير المخاطب المنصوب المنفصل.
والحكم بالأقلية على أنت وإياك وأخواتهما، وعلى ضمير الغائب المجرور بالقليلية، ليس كما ذكر. أما دخولها على إياك وأخواته فهو أقل من دخولها على
ضمير الغائب المجرور، وأما دخولها على أنت وأخواته فليس أقل من دخولها على ضمير الغائب المجرور، ودخولها على أنت إن لم يكن أكثر من دخولها على ضمير الغائب المجرور فلا أقل من أن يكونا سيين.
وفي البسيط: "وقد ورد أيضا في ضمير الرفع أيضا في قولهم: أنت كأنا، وأنت كهو، قال الشاعر:
فلولا المعافاة كنا كهم
…
ولولا البلية كانوا كنا
وأنكر الكوفيون، وقال الفراء: البيت مولد لا حجة فيه" انتهى. وعلى تقدير أنه من كلام العرب لا حجة في البيت؛ لأن "هم" و"نا" مشتركة بين ضمير الرفع والنصب والجر، فلا يتعين أن يكون "هم" و"نا" ضميري رفع، بل يجوز أن يكونا ضميري جر.
وقوله وقد توافق على هذا/ مذهب للكوفيين والأخفش، زعموا أن الكاف تجيء بمعنى "على". وحكى الأخفش عن بعض العرب أنه قيل له: كيف أنت؟ فقال: كخير. وحكى الفراء: كيف أصبحت؟ فقال: كخير، يريد: على خير. وعلى هذا خرج الأخفش قولهم: كن كما أنت. قال: ولا يتصور أن تكون الكاف للتشبيه؛ لأنه لا يشبه بحاله، والتقدير: كن كالحال الذي أنت عليه، والكاف بمعنى على، و (ما) موصولة، و (أنت) مبتدأ محذوف الخبر، والجملة صلة لـ (ما).
ولا حجة في هذا كله. أما "كخير" فيحتمل أن يكون على حذف مضاف، لما قيل له: كيف أنت؟ قال: كخير، أي: كصاحب خير.
وأما ((كن كما أنت)) فتحتمل "ما" أن تكون زائدة، "وأنت" في موضع خفض بالكاف، ووقع ضمير الرفع المنفصل بعد الكاف، كقولهم: ما أنا كأنت، وتقدم ذلك، ومنه قوله:
..................................
…
وأكرومة الحيين خلو كما هيا
وقوله:
.................................
…
فتتركه الأيام، وهي كما هيا
وقد زيدت "ما" بين الكاف ومجرورها، قال الكميت:
يركضن في المهمه اليباب كما
…
أقرب أرض منها أباعدها
أي: كأقرب أرض لها أبعد أرض منها. وقال الأعشى:
كما راشد تجدين امرأ
…
تفكر، ثم ارعوى، أو قدم
وتكون على هذا شبهته فيما يستقبل بنفسه بما قبل ذلك، ولا ينكر تشبيه الشيء بنفسه في حالين مختلفين.
ويحتمل أن تكون"ما"كافة لها عن العمل ومهيأة لها الدخول على الجمل، مثلها في ربما، وأنت مبتدأ، والخبر محذوف، والتقدير: كن كما أنت عليه. وقدره بعض شيوخنا: كما أنت كائنه، أو كائن إياه. وقدره بعضهم: كما أنت معلوم، وحذف الخبر، ونظيره قول الشاعر:
وإن بنا - لو تعلمين - لغلة
…
إليك، كما بالحائمات غليل
والكاف لتشبيه معنى الجملة التى قبلها بمعنى الجملة التى بعدها، وكأنه أمره أن يكون منه فيما يستقبل كون يشبه كونه في الحال، وتكون المسألة نظير قوله:{اجْعَل لَنَا إِلَهًا كَمَا لَهُمْ آلِهَةٌ} فوقع بعد الكاف جملة يفهم منها ما كان يفهم من المنخفض بها من التشبيه.
ويحتمل أن تكون (أنت) مرفوعة بفعل مضمر، التقدير: كن كما كنت، فلما حذف العامل انفصل الضمير، ونحو ذلك ما رواه هشام من قول الشاعر:
وما زرتنا في الدهر إلا تعلة
…
كما القابس العجلان، ثم يغيب
أي: كما يزور القابس العجلان؛ ألا ترى قوله (ثم يغيب)، معطوف على ذلك الفعل المحذوف. والكاف في هذا الوجه أيضا على معناها من التشبيه. وقيل: التقدير: كالذي هو أنت، مثل قراءة من قرأ {تَمَامًا عَلَى الَّذِي أَحْسَنَ} .
وقوله وقد تزاد إن أمن اللبس مثاله/ {لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ} ، أي: ليس مثله شيء، ولا يجوز ألا تكون زائدة؛ لأنه يقتضي إثبات مثل الله، ولا مثل له تعالى.
ومن الناس من جعل مثلا في الآية زائدة، وزعم أن مثلا تزاد، ومنه قول العرب: مثلك يفعل هذا، تريد: أنت تفعل هذا. وهذا ليس بشيء، فر من زيادة الحرف إلى زيادة الاسم، وهو مبني على مذهب الكوفيين من أن العرب قد تزيد
الأسماء، وجميع ما استدلوا به متأول. وأما مثلك يفعل هذا فكلام صحيح، و"مثلك" فيه باقية على مدلولها؛ لأن المقول له هذا له مثل موجود أو مقدر، بخلافه في الآية.
ويحتمل ألا تكون الكاف في الآية زائدة، ويراد بـ"مثل" الصفة؛ لأن مثلا ومثلا قد يراد بهما الصفة، ولما كان قد تقدمت أشياء من صفاته تعالى قيل: ليس شيء - أي: من الصفات - كصفته {وَهُوَ السَّمِيعُ البَصِيرُ} ، فنفى شبه صفات العالم لصفته تعالى، وهذا معنى صحيح.
فأما قوله تعالى {وَحُورٌ عِينٌ، كَأَمْثَالِ اللُّؤْلُؤِ الْمَكْنُونِ} فزعم المصنف في الشرح أن الكاف زائدة، كهي في قوله {لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ} . وكذلك زعم أنها زائدة فيما روي في الحديث (يكفي كالوجه واليدين)، يريد: يكفي الوجه واليدان، وهي الرواية الأخرى.
وزيادتها لا تنقاس، فتارة تزاد خارجة عن معنى التشبيه، قال:
لواحق الأقراب فيها كالمقق
المعنى: فيها مقق، أي: طول؛ لأنه إنما يقال: في الشيء طول، ولا يقال: فيه كالطول.
ومثله ما حكاه الفراء من أنه قيل لبعض العرب: كيف تصنعون الأقط؟ فقال: كهين. يريد: هينا.
وتارة يراد بها إذا زيدت التأكيد للتشبيه، كقوله:
فصيروا مثل كعصف مأكول
زاد الكاف لتأكيد التشبيه المدلول عليه بمثل، والكاف مع ما جرته في موضع خفض بمثل.
وأما قوله:
وصاليات ككما يؤثفين
فالكاف الثانية زائدة لتأكيد التشبيه.
وذهب بعض شيوخنا إلى أن الزائدة للتأكيد هي الأولى، والثانية هي اسم بمعنى مثل، وزعم أن "ما" موصولة، قال: وذلك أنه يريد أن يشبه أثافي قد قدمت بأثافي مستعملة، فيكون التقدير: وصاليات مثل اللائي يؤثفين الآن، أي: ينصبن، فيوقد عليهن؛ لأن هذه قد انتقل أهلها عنها، وبقيت لا يوقد عليها، إلا أنها مسودات، ومعها رمادها لم يتغير، فصارت بذلك مشبهة لما يوقد عليه منها، والضمير في يؤثفين راجع إلى "ما" على المعنى. قال: وهذا أحسن من أن تجعل ما مصدرية، فيكون التقدير: كإثفائهن، وفيه تشبيه العين بالمعنى، فيحتاج إلى تأويل في اللفظ وحذف مضاف، وعلى جعل"ما" موصولة اسمية لا تقدير فيه ولا حذف.
وقوله وتكون اسما/ فتجر، ويسند إليها لا خلاف نعلمه في أن كاف التشبيه تكون حرفا إلا ما ذهب إليه صاحب كتاب "المشرق" - وهو أبو جعفر بن
مضاء - من أن الأظهر في الكاف أن تكون اسما أبدا؛ لأنها بمعنى مثل، وما هو بمعنى اسم فهو اسم. وقد تقدم لنا ذكر الدليل على حرفيتها.
واختلفوا هل تكون اسما في الكلام؟ فأثبت ذلك الأخفش، وهو اختيار المصنف وظاهر قول الفارسي. وذهب س إلى أنها لا تكون اسما بمنزلة مثل إلا في ضرورة الشعر. فمما جاءت فيه مجرورة بالحرف قول الشاعر:
بكاللقوة الشغواء جلت، فلم أكن
…
لأولع إلا بالكمي المقنع
وقول الآخر:
وزعت بكالهراوة أعوجي
…
إذا ونت الرياح جرى وثابا
وقول الآخر:
ورحنا بكابن الماء، يجنب وسطنا
…
تصوب فيه العين طورا، وترتقي
وقول الآخر، وهو ذو الرمة:
أبيت على مي كئيبا، وبعلها
…
على كالنقا من عالج يتبطح
وقول الآخر:
على كالخنيف السحق، يدعو به الصدى
…
له قلب عفى الحياض أجون
وقول الآخر:
قليل غرار العين، حتى تقلصوا
…
على كالقطا الجوني، أفزعه الزجر
وقول الراجز:
يبسمن عن كالبرد المنهم
ومما جاءت فيه مجرورة بالإضافة قول الشاعر:
تيم القلب حب كالبدر، لا بل
…
فاق حسنا من تيم القلب حبا
ومثال كونها يسند إليها فاعلة قول امرئ القيس:
وإنك لم يفخر عليك كفاخر
…
ضعيف، ولم يغلبك مثل مغلب
وقول الأعشى:
أتنتهون، ولن ينهى ذوي شطط
…
كالطعن، يذهب فيه الزيت والفتل
وقول الآخر:
فيا عجبا! إن الفراق يروعني
…
به كمناقيش الحلي قصار
/وقول الآخر:
وما هداك إلى أرض كعالمها
…
وما أعانك في غرم كغرام
وتقع اسم كان، قال:
لو كان في قلبي كقدر قلامة
…
فضلا لغيرك ما أتتك رسائلي
ومبتدأة، قال:
بنا كالجوى مما نخاف، وقد نرى
…
شفاء القلوب الصاديات الحوائم
وقال امرؤ القيس:
متقلدا عضبا مضاربة
…
في متنه كمدبة النمل
وقال بعض شيوخنا: إنها تكون مفعولة، وذلك في قول النابغة:
لا يبرمون إذا ما الأفق جلله
…
برد الشتا من الأمحال كالأدم
وقوله:
وإني لأقى من ذوي الضغن منهم
…
وما أصبحت تشكو من الوجد ساهرة
كما لقيت ذات الصفا من حليفها
…
وما نفكت الأمثال في الناس سائرة
فالكاف في "كالأدم" مفعولة ب"جلله" وفي "كما لقيت" مفعولة بقولة "لألقى".
ومن النحويين من تأول هذا السماع جميعه على حذف الموصوف وإقامة المجرور الذي هو صفته مقامه، وقد أجاز ذلك الفارسي.
فمن نظر إلى كثرة هذا السماع استدل به على اسمية الكاف في الكلام.
ومن نظر إلى أنه لم يقع في النثر خص ذلك بالشعر، أو تأوله، فقدره: بفرس كالقوة، وكالهراوة، وكابن كالقطا، وعن ثغر كالبرد، وحب محبوب كالبدر، وفاخر كفاخر ضعيف، وناه كالطعن، ومروع كمناقيش، وهاد كعالمها، وموضع كقدر قلامة، وبنا حب كالجوى، وأثر كمدبة.
والذي أختاره ذلك في الكلام على قلة؛ لأن هذا تصرف كثير فيها من كونها تكون فاعلة واسم كان ومفعولة ومبتدأة ومجرورة بحرف جر وبإضافة؛ وهكذا شأن الأسماء المتصرفة، تتقلب عليها وجوه الإسناد والإعراب. وفي
"البديع": "مثل س على اسميتها: كلا كزيد أحدا، بالنصب على أنه بدل من الكاف"
وقوله وإن وقعت صلة فالحرفية راجحة مثال وقوعها صلة قول الراجز:
ما يرتجي وما يخاف جمعا
…
فهو الذي كالغيث والليث معا
قد تقدم لنا الدليل على حرفيتها كونها تقع صلة في فصيح الكلام، بخلاف مثل؛ لأنها حرف جر، وحرف الجر يقع صلة في فصيح الكلام، وأما مثل فلا تقع صلة لأنها مفردة، فإن/ جاء مثل "جاءني الذي مثل عمرو" فهو على إضمار مبتدأ، ولا تقع إلا شذوذا أو نادرا إذا لم يكن في الكلام طول، ولا وقع في صلة، أي: على ما قرر في الموصولات.
وقوله وتزداد بعها "ما" كافة وغير كافة فإذا كانت كافة وليتها الجمل الاسمية، وتكون من حروف الابتداء، قال الشاعر:
أخ ماجد، لم يخزني يوم مشهد
…
كما سيف عمرو لم تخنه مضاربه
وقال الآخر:
ألم تر أن البغل يتبع إلفه
…
كما عامر واللؤم مؤتلفان
وقال الآخر:
وإن بنا- لو تعلمين- لغلة
…
إليك كما بالحائمات غليل
وقال آخر:
لقد علمت سمراء أن حديثها
…
نجيع كما ماء السماء نجيع
وقال زياد الأعجم:
لعمرك إنني وأبا حميد
…
كما النشوان والرجل الحليم
أريد هجاءه، وأخاف ربي
…
وأعلم أنه عبد لئيم
وكون "ما"تكون كافة إذا وليتها الجملة الاسمية هو مفرع على أن"ما" المصدرية لا توصل إلا بالجملة الفعلية؛ أما إذا فرعنا على أنها توصل بالجمل الاسمية فإن"ما" لا تكون كافة في نحو هذه الأبيات، بل تكون مصدرية ينسبك منها مع الجملة التي بعدها مصدر، يكون في موضع جر بالكاف، وتكون إذ ذاك الكاف غير مكفوفة، وإذا كانت كافة انجر الاسم بكاف التشبيه، وقد تقدم لنا ذكر ذلك في بيتي الأعشى والكميت. وأنشد أبو علي القالي:
وننصر مولانا، ونعلم أنه
…
كما الناس مجروم عليه وجارم
قال س: "وسألته عن قولهم: هذا حق كما أنك هاهنا، فزعم أن العامل في (أن) الكاف، و (ما) لغو، إلا أنها لا تحذف كراهة أن يجيء لفظها كلفظ كأن".
وقد كررت «ما» بعدها زائدتين، قال:
كما ما امرئ في معشر غير قومه
…
ضعيف الكلام، شخصه متضائل
وقوله وكذا بعد رب والباء يعني أن "ما" تزداد بعد رب وبعد الباء كافة وغير كافة، فمثال زيادتها بعد رب وهي كافة قول أبي دواد:
ربما الجامل المؤبل فيهم
…
وعناجيج، بينهن المهار
وسيأتي الخلاف في هذه المسألة.
ومثالها غير كافة قوله:
ماوي، يا ربتما غارة
…
شعواء كاللذعة بالميسم
وقوله:
ربما ضربة بسيف صقيل
…
بين بصري وطعنة نجلاء
وقوله:
لقد رزئت كعب بن عوف، وربما
…
فتى لم يكن يرضى بشئ يضيمها
وقد اقتصروا بـ"ربما" عن ذكر شيء بعدها، كقوله:
فذلك إن يلق الكريهة يلقها
…
حميداً، وإن يستغن يوما فربما
وقد اقتفى ذلك أبو تمام، فقال:
عسى وطن يدنو بهم، ولعلها
…
وإن تعقب الأيام فيهم فربما
ومثال زيادتها كافة بعد الباء قوله:
فلئن صرت لا تحير جواباً
…
لبما قد ترى وأنت خطيب
ومثال زيادتها غير كافة قوله تعالى: {فَبِمَا رَحْمَةٍ مِنَ اللَّهِ} ، {فَبِمَا نَقْضِهِمْ مِيثَاقَهُمْ} .
وقوله وتحدث في الباء المكفوفة معنى التقليل قال المصنف في الشرح: «وتحدث (ما) الكافة في الباء معنى ربما، فمعنى لبما قد ترى وأنت خطيب: ربما قد ترى. ومثله قول كثير:
مغان بهيجن الحليم إلى الهوى
…
وهن قديمات العهود دواثر
بما قد أرى تلك الديار وأهلها
…
وهن جميعات الأنيس عوامر
أراد: ربما أرى، و"قد" مع المضارع تفيد هذا المعنى، ولكن اجتمعتا توكيدا كما اجتمعت عن والباء التي بمعناها في قول الشاعر:
فأصبحن لا يسألنه عن بما به .................................. " انتهى.
وما ذهب إليه من أن «ما» فيما ذكر كافة وأنها أحدثت معنى التقليل غير صحيح، بل «ما» في ذلك مصدرية، والباء للسببية المجازية، والمعنى على التكثير لا على التقليل، ونظيره قول الآخر:
فلئن فلت هذيل شباه
…
لبما كان هذيلا يفل
والفعل الذي تتعلق به الباء مقدر مما قبلها، والتقدير: لانتفاء إحارتك جوابا برؤيتك وأنت خطيب، وهن قديمات العهود دوائر برؤيتي تلك الديار، لفلته بما كان يفلها. والسببية ظاهرة في هذا البيت، وأما في البيتين قبله فسبب خرسه بالموت كونه كان خطيبا في الحياة؛ إذ ينشأ عن الحياة الموت؛ إذ مصير كل حي إلى الممات. وكذلك البيت الثاني، سبب دثور الديار كونها كانت عامرة بأهلها؛ إذ مصير العمران للخراب، ولذلك جاء:
لدوا للموت، وابنوا للخراب ................................
وقوله وقد تحدثت في الكاف معنى التعليل/ يعني: وقد تحدثت «ما» الكافة في الكاف معنى التعليل، فتخرج بذلك عن التشبيه. ومثل ذلك المصنف في الشرح بقوله تعالى:{وَاذْكُرُوهُ كَمَا هَدَاكُمْ} . وتقل ذلك عن الأخفش في قوله: {كَمَا أَرْسَلْنَا فِيكُمْ رَسُولًا} الآية، أي: كما أرسلنا فيكم
رسولا فاذكروني، [أي]: لما فعلت هذا فاذكروني. وعن ابن برهان في {وَيْكَأَنَّهُ لا يُفْلِحُ} ، أي: أعجب لأنه لا يفلح.
ومثل بعضهم بقوله تعالى: {وَنُقَلِّبُ أَفْئِدَتَهُمْ وَأَبْصَارَهُمْ كَمَا لَمْ يُؤْمِنُوا بِهِ أَوَّلَ مَرَّةٍ} ، وقوله {اجْعَل لَنَا إِلَهًا كَمَا لَهُمْ آلِهَةٌ} ، ومثل: جئني كما جئتك.
وزعم الخليل أن الكاف إذا لحقها إذا "ما" الكافة قد تجعلها العرب بمعنى لعل، وتصيرها"ما" للفعل كما صيرت ربما للفعل، وجعل من ذلك قولهم: انتظرني كما آتيك، قال:"والمعنى: لعلي آتيك". وجعل من ذلك قول الشاعر:
قلت لشيبان: ادن من لقائه
…
كما نغدي القوم من شوائه
أي: لعلنا. وقول الآخر:
لا تشتم الناس كما لا تشتم
أي: لعلك لا تشتم. وحكى س: "كما أنه لا يعلم فتجاوز الله عنه"، أي: لأنه لا يعلم.
وذهب الفراء إلى أن قولهم: "انتظرني كما آتيك"، و «"لا تشتم الناس كما لا تشتم"، الكاف فيهما للتشبيه، والكاف صفة لمصدر محذوف، أي: انتظرني انتظارا
صادقا مثل إتياني لك، أي: ف لي بالانتظار كما أفي لك بالإتيان، وانته عن شتم الناس كانتهائهم عن شتمك، وتشبيه الحدث بالحدث في مجرد كونه حدثا أمر مستبرد، إلا أن س نقل عن العرب أن من معاني «مررت برجل مثلك»: تشبيه بأنه رجل كما أنك رجل، فالتشبيه في مجرد الجنسية، ولو كانت للتشبيه حقيقة لصرحوا بالمصدر؛ إذ "ما" مصدرية، ولم يظهروه قط فيقولوا: انتظرني كإتيانك، فلو كان الفعل هنا مع "ما" بمعنى المصدر لنطق به يوما ما، فهذا حمل س والخليل على أنها بمعنى لعل.
والكاف في قولهم "انتظرني كما آتيك" عند الخليل وس غير جارة وغير متعلقة بشيء لكونها قد جعلت بمنزلة لعلما، وهو مذهب ابن طاهر وتلميذه ابن خروف.
وقال الزجاج: يشير س إلى الكاف غير عاملة، وقال: عي عندي عاملة في الموضع، مثل: مررت برجل يقوم، فـ"يقوم" في موضع جر.
وزعم بعض النحويين أن «كما» تأتي ظرفا، قالوا: ائت المسجد كما يؤذن المؤذن، أي: حين يؤذن، واخرج كما يسلم الإمام، أي: حين يسلم.
وقوله وربما نصبت مضارعا لا لأن الأصل كيما يعني أنها حين إذ حدث فيها معنى التعليل تنصب المضارع، وقد تقدم في "كما آتيك" و "كما لا تشتم" مجيء المضارع بعدها مرفوعا.
وقال المنصف في الشرح: "وإذا حدث فيها معنى التعليل، ووليها مضارع- نصبته لشبهها بكي، كقول الشاعر:
وطرفك إما جئتنا فاصرفنه
…
كما يحسبوا أن الهوى حيث تنظر
/وزعم الفارسي أن الأصل كيما، فحذفت الباء. وهذا تكلف لا دليل عليه، ولا حاجة إليه» انتهى.
وكان ينبغي أن يقول «ووليها مضارع نصبته على قله» كما قال في المتن "وربما" عن تقييده في الشرح.
وقوله "وزعم الفارسي» هذا الذي ذهب إليه الفارسي هو مذهب الكوفيين، زعموا أن "كما نغدي" من قوله:
كما نغدي القوم من شوائه
في موضع نصب بـ"كما"، و"كما" محذوفة من كيما، وسكنوا ياء نغدي ضرورة. واستدلوا بقوله «كما يحسبوا» ، يريد: كيما يحسبوا، ولذلك حذف النون.
وقوله "وهذا تكلف لا دليل عليه، ولا حاجة إليه" ليس كما ذكر، بل هو تأويل عليه دليل، وإليه حاجة، وذلك أنه لم يثبت النصب بـ"كما" في موضع خلاف هذا المختلف فيه، فيحمل هذا عليه، والنصب ثابت بـ"كيما". والعلة في كيما أصل، وفي كاف التشبيه المكفوفة بـ"انتظرني كما آتيك" بين الخليل والفراء، فالأولى أن يعتقد أن أصلها كيما لظهور التعليل فيها، ولثبوت النصب بكيما.
وقوله وإن ولي ربما اسم مرفوع إلى آخر المسألة: هذا الذي ذهب إليه المصنف هو مذهب المبرد، زعم أنه تليها الجملة الاسمية والفعلية نحو إنما، تقول: ربما قام زبد، وربما زيد قائم، كما تقول في إنما.
قال المصنف في الشرح: "زعم- يعني الفارسي- في قول الشاعر:
ربما الجامل المؤبل فيهم
…
وعناجيج، بينهن المهار
أن «ما» فيه نكرة موصوفة بمبتدأ مضمر وخبر مظهر. والصحيح أن «ما» فيه زائد كافة، هيأت رب للدخول على الجملة الاسمية كما هيأتها للدخول على الجملة الفعلية في قوله تعالى:{رُبَمَا يَوَدُّ الَّذِينَ كَفَرُوا لَوْ كَانُوا مُسْلِمِينَ} ، وفي قول الشاعر:
لا يضيع الأمين سرا، ولكن
…
ربما يحسب الخؤون أمينا» انتهى.
وهذا الذي قاله عن الفارسي هو مذهب الجمهور.
وابن عصفور خرج البيت تخريج أبي علي، وهو الصحيح؛ إذا لو كان على ما اختاره المصنف لسمع من كلامهم: ربما زيد قائم، بتصريح المبتدأ والخبر، ولم يسمع ذلك فيما أعلم، فوجب تخريج البيت على ما خرجه الفارسي وابن عصفور.
ومثل قوله: ربما الجامل
…
البيت قول الآخر:
طالعات ببطن فقرة بدى
…
ربما ظاعن بها ومقيم
وقول الآخر:
أم الصبيين! ما بدربك أن ربما
…
عيطاء، قلتها شماء قرواح
العيطاء: الهضبة، وشماء: مرتفعة، وقرواح: جرداء. ويتأول هذان البيتان تأويل: /ربما الجامل.
ومذهب س أنها إذا كفت بـ «ما» فلا يليها إلا الفعل، ولا تدخل على الجملة الابتدائية. وظاهر كلامه جواز دخولها على المستقبل، وقاله كثير من النحويين.
وزعم جماعة أن "ربما" لا تكون إلا للماضي، كقول الشاعر:
ربما أوفيت في علم
…
ترفعن ثوبي شمالات
وقال ابن يسعون في قوله تعالى: {رُبَمَا يَوَدُّ} : "قد تكون (ما) نكرة موصوفة، أي: رب ود يوده الذين كفروا".
قال ابن هشام: وهذا باطل؛ لأن (لو) تحتاج على هذا التقدير إلى جواب، ولا يكون إذا من جنس ما قبلها، ولا يصح هنا، وإنما هي بمنزلة أن معمولة لما قبلها، كقوله تعالى:{وَدُّوا لَوْ تُدْهِنُ} ، و {يَوَدُّ الَّذِينَ كَفَرُوا وَعَصَوُا الرَّسُولَ لَوْ تُسَوَّى بِهِمُ الأَرْضُ} ، و {وَدَّ الَّذِينَ كَفَرُوا لَوْ تَغْفُلُونَ}. وقال الفراء: هي بمنزلة أن.
وقال بعض شيوخنا: "وأما إذا كانت كافة"، يعني ما إذا جاءت بعد رب، قال:«فإنها حينئذ تصير من الحروف الطالبة بالجمل الفعلية، فلا يقع بعدها إلا الفعل، ولا يكون إلا ماضيا، ولا يكون إلا مقدما، نحو: ربما قام زيد، وربما ضربت زيدا، ولا تقول: ربما عمرا ضربت إلا أن تأتي في الشعر، فيقصر على موضعه، ولا تجد من حروف الجر ما كف عم مجروره إلا رب وكاف التشبيه على أحد الوجهين في قوله: كن كما أنت. وأكثر ما يكون الكف في الحروف الداخلة على الجمل المؤثرة فيها» .
وقال أيضا: "إلا أن العرب تدخلها على المضارع، فيصير ماضيا" انتهى.
وقال الشاعر:
ربما أوفيت في علم
…
ترفعن ثوبي شمالات
وتلخص من كلام أشياخنا أن رب إذا كفت بـ"ما" فلا تليها الجملة الاسمية، بل الفعلية المصدرة بماض أو مضارع في معنى الماضي. ومن أجاز أن تدخل رب على ما يكون العامل فيها مستقبلا لم يحتج إلى تأويل في قوله تعالى:{رُبَمَا يَوَدّ}
ومن خصه بالماضي- وهم أكثر النحويين- قالوا: لا تخرجها (ما) عن المضي، كما لم يخرج "لم" إلحاق (ما) الزائد عن الدخول على لفظ المضارع، تقول: لم تقم، ثم تقول: لما تقم، وتأول الآية على أنها حكاية حال تكون، وساغ دخول ربما على يود لصدق الوعد وقرب الدنيا من الآخرة من حيث لا فصل بينهما، فجعل لذلك ودهم بمنزلة الماضي الواقع.
والكوفيون يجعلون ذلك على إضمار كان، أي: ربما كان يود. وبه قال أبو بكر. ولا يجوز ذلك على مذهب س.
وقوله وتزداد "ما" غير الكافية بعد «من» و «عن» مثاله بعد من {مِمَّا خَطِيئَاتِهِمْ أُغْرِقُوا} . ومثاله بعد عن قوله: {عَمَّا قَلِيلٍ لَيُصْبِحُنَّ نَادِمِينَ} ، وقال الشاعر:
وأعلم أنني عما قريب
…
سأنشب في شبا ظفر وناب
وإذا كانوا قد زادوا "ما" بين المضاف والمضاف إليه مع شدة الاتصال بينهما لأنه كالجزء منه فلأن يزيدوها بين حرف الجر والمجرور أولى؛ ومن ذلك قول سحيم:
مساعير ما حرب وأيسار شتوة
…
إذا الريح ألوت بالكنيف المستر
وقول الخرنق:
من غير ما فحش يكون بهم
…
في منتج المهرات والمهر
-[ص: ومنها "مذ" و "منذ"، وقد ذكرا في باب الظروف. ومنها "رب"،
ويقال: رب ورب ورب وربت وربت وربت ورب ورب وربت. وليست اسما، خلافا للكوفيين والأخفش في أحد قوليه، بل هي حرف تكثير وفاقا لسيبويه، والتقليل بها نادر. ولا يلزم تصديرها وتنكير مجرورها. وقد يعطف على مجرورها وشبهه مضاف إلى ضميريهما.]-
ش: تقدم الكلام على مذ ومنذ كما ذكر المصنف
وقوله ومنها رب أي: من حروف الجر، ويأتي ذكر الخلاف فيها أهي اسم أم حرف. وذكر المصنف في الشرح أن "في رب عشر لغات: أربع بتشديد الباء، وست بتخفيفها، وقد ذكرت" انتهى. وضيطها على ما يناسب: رب وربت ورب وربت ورب وربت ورب وربت ورب ورب.
وزاد غيره رب وربتا. وهذه أوردها من أوردها من النحويين على أنها لغات في رب.
وزعم أبو الحسن علي بن فضال المجاشعي- وهو صاحب كتاب "الهوامل والعوامل"- أن فتح الراء في الجميع شاذ، وأن أبا حاتم نقل فتح الراء وتخفيف الباء مع فتحها ودون التاء ضرورة لا لغة. واستدل على ذلك بأن كل حرف على حرفين لا يكون إلا ساكن الثاني، نحو هل وبل.
ولا حجة فيما ذكر؛ لأنا لا ندعي أن أصل رب وضع على حرفين، بل هي ثلاثية الوضع، وخففت، بخلاف هل وبل ونحوها، فإنها وضعت في أصل الوضع على حرفين. وإذا وقفت على ما فيه التاء منها فالوقوف بالتاء، خلافا لمن يقلبها هاء.
وقوله وليست اسما خلافا للكوفيين هكذا نقله عنهم غيره، ووافقهم على ذلك ابن الطراوة، فهي عندهم اسم مبني يحكم على موضعه بالإعراب كسائر الأسماء المبنية. واستدلوا على ذلك بالإخبار عنها، قال الشاعر:
إن يقتلوك فإن قتلك لم يكن عارا عليك، ورب قتل عار
فـ «رب» عندهم مبتدأ، وعار: خبره.
وفي الإفصاح: زعم الفراء وجماعة من الكوفيين أن رب اسم معمولة لجوابها كـ"إذا" و "حين" في الظروف، وتقدمت عندهم لاقتضائها/ الجواب. وهي مبنية؛ بدليل أن من العرب من يسكن آخرها. فقالوا: وقد يبتدأ بها، فيقال: رب رجل أفضل من عمرو، ويقال: رب ضربة ضربت، بتقدير المصدر، ورب يوم سرت، بتقدير الظرف، ورب رجل ضربت، مفعول، ورب رجل قام، مبتدأ، كما يكون ذلك في كم.
وأجيب بأنه لا يمتنع أن يخبر عن مجرورها بخير مفرد، فـ"رب قتل" مبتدأ، دخل عليه حرف الجر، و"عار" خبره، وكذلك أفضل. ورب ضربة ضربت، منصوب بضربت، وكذا باقيها.
وذهب البصريون إلى أن "رب" حرف. واستدلوا على بطلان مذهب الكوفيين بأنها لو كانت اسما لتعدى إليها بحرف الجر الفعل المتعدي بالحرف، فكما تقول في المعتدي: رب رجل أكرمت، فتكون رب مفعولا بها على زعمهم، فكان ينبغي أن يجوز: برب رجل عالم مررت؛ إذ ليس في كلامهم اسم يتعدى إليه الفعل بنفسه إلا ويجوز أن يتعدى إليه الفعل المتعدي بحرف الجر به. وبأنه لو كانت اسما لأخير عنها، وأضيف إليها، وعادت الضمائر عليها، فجميع علامات الأسماء اللفظية منتفية عنها.
وأما ما استدلوا به على اسميتها فلا حجة فيه؛ لأن الرواية المشهورة هي «وبعض قتل عار» ، ولئن صحت تلك الرواية فعار خبر مبتدأ محذوف، تقديره: هو عار، والجملة في موضع الصفة لقتل، أي: ورب قتل هو عار أوقعته بهم، وقد أظهر هذا المبتدأ المضمر في قول الشاعر:
يارب هيجا هي خير من دعه
وهذا على تقدير القول بأن معمول رب تلزمه الصفة، وأما على مذهب من لا يلزمه الصفة فـ «عار» خبر عن مجرور رب، إذ هو في موضع مبتدأ. وكذلك الجملة من قوله "هي خير من دعه" هي: خبر عن هيجا المجرورة برب.
ومثال حذف الضمير المبتدأ الواقع هو وخبره صفة قول الشاعر:
قلت: أجيبي عاشقا
…
بحبكم مكلف
أي: هو بحبكم مكلف.
وقال الأستاذ أبو علي: ومن الدليل على أنها حرف أنهم وبين المجرور كما فصلوا بين كم وما تعمل فيه في الخبر مع الجر.
وقوله بل هي حرف تكثير وفاقا لسيبويه والتقليل بها نادر هذا خلاف ما يذهب إليه أصحابنا من أنها حرف تقليل. قال المصنف في الشرح: "وأكثر النحويين يقولون: معنى رب التقليل". وكذا ذكر غيره أنه مذهب الجمهور. وقال بعض شيوخنا: هو مذهب البصريين.
وزعم صاحب كتاب العين أنها للتكثير، ولم يذكر أنها تجيء للتقليل.
وذهب الفارسي في "كتاب الحروف" له إلى أنها تكون تقليلا وتكثيرا. وهو مذهب الكوفيين.
وذهب بعض النحويين إلى أنها حرف إثبات، ولم توضع لتقليل ولا تكثير، بل ذلك مستفاد/ من سياق الكلام.
وأصحابنا يزعمون أنها للتقليل في جنس الشيء أو لتقليل نظيره.
وزعم بعضهم أنها تكون للتكثير في مواضع المباهاة والافتخار.
فتلخص فيها أقوال: للتقليل، للتكثير مطلقا. للتكثير في مواضع الافتخار، لهما، لم توضع لهما، بل حرف إثبات.
والذي نختاره هذا المذهب، وهو أنه لا دلالة لها على تكثير ولا تقليل، وإنما يفهم ذلك من خارج. فمثال ما فهم من السياق التقليل قوله:
ألا رب مولود، وليس له أب
…
وذي ولد لم يلده أبوان
وذي شامة غراء في حر وجهه
…
مجللة، لا تنقضي لأوان
يعني عيسى وآدم- عليهما السلام والقمر. وقول الآخر، وهو زهير:
وأبيض فياض، يداه غمامة
…
على معتفيه، ما تغب فواضله
يعني حصن بن حذيفة بن بدر الفزاري؛ بدليل قوله:
حذيفة ينميه وبدر كلاهما
…
إلى باذخ، يعلو على من يطاوله
وقول خوات بن جبير:
وذات عيال واثقين بعقلها
…
خلجت لها جار استها خلجات
يعني ذات النحيين وحدها. وقول صخر بن الشريد:
وذي أخوة قطعت أقران بينهم
…
كما تركوني واحدا لا أخا ليا
يريد بيذي الأخوة دريد بن حرملة المري، وهو الذي قتل أخاه معاوية، فلما قتله بأخيه قال هذا الشعر، وقوله "كما تركوني واحدا لا أخا ليا" يبطل توهم الكثرة هنا؛ لأن الذين تركوه بلا أخ هم بنو حرملة، ولم يكن أخ قتل غير معاوية وحده. ونسبه المصنف في الشرح لعمرو بن الشريد أخي الخنساء، كذا قال. ونسبه ابن عصفور لصخر بن الشريد كما نسبناه نحن. وقول الآخر:
ونار قد حضأت بعيد وهن
…
بدار، ما أريد بها مقاما
يصف قصة جرت له وحده مع الجن على زعمه. وقول الآخر:
ويوم على البلقاء، لم يك مثله
…
على الأرض يوم في بعيد ولا دان
يريد يوما كانت وقعة بين غسان ومذحج في يوم يعرف بالبلقاء. وقال أبو طالب يمدح رسول الله - صل الله عليه وسلم:
وأبيض يستسقي الغمام بوجهه
…
ثمال اليتامى، عصمة للأرامل
/ ومما جاء فيه رب لتقليل النظير قول امريء القيس:
وإن أمس مكروبا فيا رب قينة
…
منعمة أعملتها بكران
وقول أبي كبير الهذلي:
أزهير! إن يشب القذال فإنه
…
رب هيضل مرس لففت بهيضل
ومما ظاهره استعمال رب في التكثير قول عمارة بن عقيل بن بلال بن جرير ابن الخطفي:
فإن تكن الأيام شبين مفرقي
…
وأكثرن أشجاني، وفللن من غربي
فيا رب يوم قد شربت بمشرب
…
شفيت به عني الصدى، بارد عذب
وكم ليلة قد بتها غير آثم
…
بساجية الحجلين مفعمة القلب
ومن تأول ذلك جعل رب لتقليل النظير، وراعى في كم التكثير.
وقال المصنف في الشرح: "الصحيح أن معنى رب التكثير، ولذا تصلح كم في كل موضع وقعت فيه رب غير نادر". وأنشد عدة أبيات، يصلح وضع كم فيها موضع رب. ونسب هو وابن خروف هذا المذهب إلى س، واستدلا على ذلك بقوله في "باب كم ": "أعلم أن لكم موضعين: أحدهما
الاستفهام، والآخر الخبر. ومعناها معنى رب". بقوله في الباب:"واعلم أن كم في الخبر لا تعمل إلا فيما تعمل فيه رب؛ لأن المعنى واحد، إلا أن كم اسم، ورب غير اسم".
قال المصنف في الشرح: "وهذا نص س، ولا معارض له في كتابه، فعلم أن مذهبه كون رب مساوية ل"كم"الخبرية في المعنى، ولا خلاف في أن معنى كم الخبرية التكثير. والذي دل عليه كلام س من أن معنى رب التكثير هو الواقع في غير النادر من كلام العرب نثره ونظمه، فمن النظم الأبيات التي تقدم ذكرها، ومن النثر قوله- عليه السلام "يارب كاسية في الدنيا عارية يوم القيامة"، وقوله- عليه السلام: "رب أشعث أغبر، لا يؤبه له، لو أقسم على الله لأبره"،ومنه قول الأعرابي الذي سمعه الكسائي يقول بعد الفطر: رب صائمه لن يصومه، وقائمه لن يقومه. وقال الفراء: يقول القائل إذا أمر فعصى: أما والله لرب ندامة لك تذكر قولي فيها"
انتهى.
أما قول المصنف "وهذا نص س، ولا معارض له في كتابه" فقال صاحب "البسيط": "س يصرح في مواضع من كتابه بأن كم بمنزلة رب، وكذلك في كائن، فيحتمل أن يريد في الجر، أو في جميع أحوالها معنى ولفظا" انتهى. وإذا كان كلام س محتملا فكيف يقول المصنف: إنه نص.
وقال في "البسيط": ذهب/ البصريون إلى أنها للتقليل، كالخليل وسيبويه وعيسى بن عمر ويونس وأبي زيد وأبي عمرو بن العلاء وأبي الحسن الأخفش والمازني وابن السراج والجرمي والمبرد والزجاج والزجاجي والفارسي والرماني وابن جني والسيرافي، وجملة الكوفيين كالكسائي والفراء وابن سعدان وهشام، ولا مخالف لهؤلاء إلا صاحب العين، فإنه صرح بكونها للتكثير دون التقليل، ولا ذكره لغيره. وذكر الأعلم أنها للتقليل، إلا أن التقليل يكون للذات تارة وللوجود أخرى وإن كثرت ذاته وعظمت، كقوله مفتخرا: رب غارة أغرت، ورب ناقة كوماء نحرت.
وقال ابن السيد: الشيء الذي له نقيض مستعمل في التقليل، [نحو]: ربه رجلا- على أصله، وهو كثير في كلامهم. وأما موضوع التفخيم والتعظيم، نحو: رب يوم سرور شهدت- فهو للتكثير، ومنه:
ألا رب يوم صالح لك منهما
…
..............................................
وفي "الإفصاح": مذهب أبي عثمان وأبي العباس وأبي بكر وأبي إسحاق والرماني وابن جني والصيمري والسيرافي وأبي على أنها للتقليل، وهو قول عيسى بن عمر ويونس وأبي زيد الأنصاري وأبي عمرو بن العلاء والأخفش والجرمي، وجلة الكوفيين، كالكسائي والفراء ومعاذ الهراء وهشام وابن سعدان.
وبه قال من المتأخرين الزمخشري.
وقيل: أنها للتكثير. وبه قال جماعة، منهم صاحب العين وابن درستويه، ويروى عن الخليل، وقال به كثير من المتأخرين.
وقال بعض المتأخرين: هو من الأضداد، يكون للتقليل والتكثير.
وقال ابن الباذش: هي لمبهم العدد، تكون تقليلا وتكثيرا. وبه قال ابن طاهر. وقال بعض أصحابنا: أكثر ما تقع للتقليل. وبنحو هذا قال أبو نصر الفارابي في "كتاب الحروف" له.
وقوله ولا يلزم وصف مجر ورها، خلافا للمبرد ومن وافقه من وافقه هم ابن السراج والفارسي والعبدي وأكثر المتأخرين، منهم الأستاذ أبو علي. وفي "البسيط" أنه رأي البصريين.
وذهب الأخفش والفراء والزجاج وأبو الوليد الوقشي وابن طاهر وابن خروف إلى أنه لا يلزم الوصف. قيل: وتضمين رب القلة والكثرة يقوم مقام الوصف. ووافقهم هذا المصنف. وهو ظاهر مذهب س، ونص الأخفش والمبرد فيما نقل ابن هشام، واختيار ابن عصفور.
واحتج من قام بلزوم الوصف بأن رب أجريت مجرى حرف النفي، وحكم حرف النفي أن يدخل على جملة، فالأقيس في المجرور أن يوصف بجملة لذلك، وقد يوصف بما يجري مجراها من ظرف أو مجرور أو اسم فاعل أو مفعول. ويدل على جريانها مجرى حرف النفي أنها لا تقع إلا صدرا، ولا يتقدم عليها ما يعمل في الاسم المجرور/ بعدها، بخلاف سائر حروف الجر، وأن المفرد الذي يجوز جمعه إذا وقع بعدها قد يدل على أكثر من واحد كما يكون ذلك في النفي.
وقالو أيضا: رب للتقليل، والنكرة بلا صفة فيها تكثير بالشياع والعموم، ووصفها يحدث فيها التقليل بإخراج الخالي منه، فلزم الوصف لذلك. وأيضا فقولك رب رجل عالم لقيت رد على من قال: ما لقيت رجل عالما، فلو لم تذكر الصفة لم يكن الرد موافقا.
وقال العبدي: "إنما وجب الوصف على طريق العوض من العامل المحذوف". يعني أن العامل الذي يتعلق به مجرور رب محذوف في الغالب، فلزمه الوصف ليكون عوضا منه متى حذف.
وما استدلوا به لا حجة فيه، أما قولهم "إنما جرت مجرى حرف النفي لكونها لا تقع إلا صدرا" فليس بصحيح، وقد وقعت خبرا ل"إن"، وخبرا ل"أن" المخففة من الثقيلة، قال الشاعر:
أماوي إنى رب واحد أمه
…
أخذت، فلا قتل لدى ولا أسر
وقال الآخر:
تيقنت أن رب امريء، خيل خائنا،
…
أمين وخوان يخال أمينا
وأما قولهم "إنه لا يتقدم عليها ما يعمل في الاسم المجرور" فهو تفريغ على أن ل"رب" ما تتعلق به؛ وهو شيء مختلف فيه، وسيأتي، وعلى تقدير أنها لها ما تتعلق به فلا يدل عدم تقدمه عليها على أنها مشبهة بحرف النفي؛ لأن لنا ما لا يتقدم على المجرور الذي يتعلق به، ولا يلزم أن يكون جاريا مجرى حرف النفي، نحو قولك: بكم درهم تصدقت، تريد الخبرية. وأيضا فحرت النفي على قسمين: منه"ما"، وهو الذي امتنع أن يتقدم عليها ما يعمل في الاسم المجرور. ومنه ما ذلك فيه هو الوجه، نحو: لم ولما ولن ولا وإن، نحو: لم أمر بزيد.
وأما قولهم "إن المفرد إذا وقع بعد رب قد يدل على أكثر من واحد كما يكون ذلك في النفي" فالقلة والكثرة لا تدل عليهما رب بالوضع؛ وإنما ذلك يفهم من سياق الكلام، كما يراد العموم من النكرة في المثبت في نحو قوله تعالى:{عَلِمَتْ نَفْسٌ مَا أَحْضَرَتْ} ، وليس ذلك من مدلول النكرة في الإثبات، كذلك النكرة في رب.
وأما قولهم "رب للتقليل" إلى آخر الاستدلال بذلك فقد تقدم النزاع في أنها وضعت للتقليل.
وأما قول العبدي ودعواه أن العامل الذي تتعلق به رب محذوف في الغالب، والوصف عوض عنه- فليس ذلك بصحيح، بل الغالب ذكره لا حذفه، ولو كانت الصفة عوضا من المحذوف ما اجتمعا، وقد اجتمعا، فدل على أنه ليس بعوض.
وأما قولهم: "إنها جواب لمن قال: ما لقيت رجلا عالما"- قال المصنف في الشرح: "والصحيح أن تكون جوابا وغير جواب، وإذا كانت/ جوابا فقد تكون جواب موصوف، وجواب غير موصوف، فيكون لمجرورها من الوصف وعدمه ما للمجاب، فيقال لمن قال: ما رأيت رجلا: رب رجل رأيت، ولمن قال: ما رأيت رجلا عاما: رب رجل عالم رأيت. وإذا لم تكن جوابا فللمتكلم بها أن يصف مجرورها وألا يصفه. ومن وقوعه غير موصوف قول أم معاوية:
يارب قائلة غدا
…
يالهف أم معاوية
ومثله:
ألا رب مأخوذ بإجرام غيره
…
فلا تسأمن هجران من كان مجرما
ومثله:
رب مستغن، ولا مال له
…
وعظيم الفقر وهو ذو نشب"
انتهى.
وهذه الأبيات التي أنشدها دلالة على أن مجرور رب لا يحتاج إلى صفة لمدع أن يقول: إن الموصوف محذوف لفهم المعنى؛ ألا ترى أن جميع ذلك صفات، وهي: قائلة، ومأخوذ، ومستغن، فالتقدير: يارب امرأة قائلة، ورب إنسان مأخوذ، ورب إنسان مستغن.
واستدل ابن طاهر على أنه لا يلزمه الوصف بقوله:
ألا رب مولود، وليس له أب
ألا ترى أن مولودا لم يوصف.
قال ابن عصفور: ومما يبين أنه لا يلزمه الوصف أنك تجد أماكن إن جعلت ما بعد المخفوض صفة لم يبق للمخفوض ما يعمل فيه لا في اللفظ ولا في التقدير؛ لأن معنى الكلام لا يقتضي عاملا محذوفا، بل تجد المعنى مستقلا من غير حذف، نحو قول امريء القيس:
فيارب يوم قد لهوت وليلة
…
بآنسة، كأنها خط تمثال
ألا ترى أن المعنى مستقل بما في اللفظ خاصة، وإن رمت أن تتكلف حذف عامل، فقدرت: ظفرت بهما، أو تمتعت بهما- كانت زائدة غير مفيدة؛ لأن ذلك المعنى حاصل من غير حذف؛ لأن لهوك بالآنسة في ذلك اليوم وتلك الليلة ظفر بهما وتمتع.
ومما يدل على ذلك أيضا أنك متى وصفت المخفوض برب. بما لا يحتمل غير الوصف تعلقت النفس بزيادة بيان؛ ولم تكتف بالصفة؛ ألا ترى أنك إذا قلت رب رجل قائل ذلك لم يجز الاكتفاء، بل لا بد من عامل مقدر، به يتم الكلام. وإذا قلت رب رجل يقول ذلك وجدت اللفظ مستقلا غير مفتقر إلى حذف.
وكون رب قد عوملت معاملة حرف الفنفي لا يلزم عنه لزوم الوصف للمخفوض بها؛ لأن العامل في الاسم المجرور بها يتنزل منها منزلة الجملة المنفية من حرف النفي.
وهذا الذي ذكرناه من/ أن المخفوض برب لا يلزمه الوصف هو الذي يعطيه كلام س؛ ألا ترى أنه قال في "باب الجر": "وإذا قلت رب يقول ذلك فقد
أضفت القول إلى الرجل برب"، فدل ذلك من كلام س على أنه لم يجعل "يقول ذلك" صفة ل"رجل"؛ لأن اتصال الصفة بالموصوف يغني عن ذلك.
وقال المصنف في الشرح: "والذي يدل على أن وصف مجرورها لا يلزم عند س تسويته إياها ب"كم"الخبرية، ووصف مجرور كم الخبرية لا يلزم، فكذا وصف ما سوي بها، وتصريحه بكون "يقول" مضافا إلى الرجل برب مانع كونه صفة؛ لأن الصفة لا تضاف إلى الموصوف، وإنما يضاف العامل إلى المعمول، ف"يقول"إذا عامل في "رجل" بواسطة رب، كما كان مررت من مررت بزيد عاملا في زيد بواسطة البادء، وكما كان أخذت من أخذته من عبد الله عاملا في عبد الله بواسطة من، وهما من أمثلة س في باب الجر" انتهى.
وكان الأستاذ أبو علي يتأول كلام س بأن يقول: لا يصح أن يكون إلا صفة لرجل، لأن فعل المضمر لا يتعدى إلى ظاهرة؛ ألا ترى أنك لا تقول: بزيد افتخر، تريد: بنفسه افتخر زيد؛ لأن فاعل افتخر ضمير يعود إلى زيد، فكذلك فاعل "يقول"ضمير يعود إلى رجل، فكيف يتعدى إلى رجل بحرف الجر، فلا بد من متعلق محذوف إلا أنه لم يظهر، ونابت الصفة منابه، فلما كان كذلك قال س: إن رب وصلت يقول إلى رجل وإن كانت إنما وصلت وجدت المحذوفة، ونابت يقول منابها.
ومن النحويين من خطأ س في تمثيله: رب رجل يقول ذلك.
وقال ابن خروف: قول س"فقد أضفت القول إلى الرجل برب" كلام حسن، وهو كقوله:"فقد أضفت الكينونة إلى الدار بفي"، وكقوله:"فقد إليه الرداءة بفي"، يعني قوله: أنت في الدار، وفيك خصلة سوء، فرب أوصلت القول إلى قليل الرجال وكثيرهم كما أوصلت في الكينونة إلى الدار، واستقرار الرداءة إلى المخاطب. وموضع المخفوض برب مبتدأ، ويقول: خبره، فكأنه على تقديره: كثير من الرجال يقول ذلك.
وقال المصنف في الشرح: "وقد يسر لي- بحمد الله- تخريجه بوجه لا تخطئة فيه ولا تكلف، وذلك بأن يجعل يقول مضارع قال، بمعنى: فاق في المقاولة، ويجعل ذلك فاعلا أشير به إلى مرئي أو مذكور، كأنه قال: رب رجل تفوق ذلك الرجل في المقاولة. فيهذا التخريج يؤمن الخطأ والتكلف، ويثبت استغناء مجرور رب عن الوصف" انتهى.
وإنما أمن من الخطأ لأنه يكون إذ ذاك الفاعل غير ضمير رجل، فيكون رب رجل يقول ذلك كقوله: رب رجل ضرب زيد، فلم يتعد فعل فاعل الضمير المتصل إلى ظاهره.
لكن هذا التخريج بعيد إرادته من قول/ س: "رب رجل يقول ذلك"، بل المتبدر إلى الذهن أن "ذلك"منصوب لا مرفوع، وأن الفاعل ب"يقول" هو ضمير عائد على رجل، ولما كانت رب حرفا محكوما له بحكم الزيادة لم يتنزل منزلة الحرف الذي لم يحكم له بحكم الزيادة، لم يتنزل منزلة الحرف الذي لم يحكم له بحكم الزيادة، فاحتمل أن عاد الضمير فاعلا على مجرورها، فليس نظير: بزيد افتخر؛ لأن بزيد في موضع نصب، وهذا ليس في موضع نصب، بل في موضع رفع بالابتداء، ورب كأنها حرف زائد.
وقال ابن خروف أيضا: "لا يفتقر إلى الصفة كما زعموا؛ لأن معنى التقليل والتكثير الذي دلت عليه يقوم مقام وصف مخفوضها كما كان ذلك في كم؛ ولذلك قلت: كم غلام عندك، فابتدأت بنكرة". يعني أن ما دلت عليه كم من التكثير سوغ الابتداء بها مع أنها نكرة.
وقوله ولا مضى ما تتعلق به اختلفوا في زمان ما تتعلق به رب: فالمشهور أنه ماضي المعني، وهو مذهب المبرد والفارسي، واختاره ابن عصفور، وتأول قوله {رُبَمَا يَوَدُّ} ، وسيأتي الكلام عليه.
وذهب بعض النحويين إلى أنه يجوز أن يكون مستقبلا وحالا، والمضي أكثر. وهو اختيار المصنف، قال في الشرح: "وأما كونه- يعني المضى- لازما لا يوجد غيره فليس بصحيح، بل قد يكون مستقبلا، كقول جحدر اللص:
فإن أهلك فرب فتي سيبكي
…
على مذهب اللص رخص البنان
وكقول هند أم معاوية:
يارب قائلة غدا
…
يالهف أم معاويه
وكقول سليم القشيري:
ومعتصم بالحي من خشية الردى
…
سيردى، وغاز مشفق سيؤوب
وقال الراجز:
يارب يوم لي، لا أظللله
…
أرمض من تحت، وأضحى من عله
وقال آخر:
يارب غابطنا لو كان يطلبكم
…
لاقى مباعدة منكم وحرمانا
قال: "وقد يكون ما وقعت عليه رب حالا، كقولك لمن قال: ما في وقتنا امرؤ مستريح: رب امريء في وقتنا مستريح، ومنه قول ابن أبي ربيعة:
فقمت ولم تعلم على خيانة
…
ألا رب باغي الربح ليس برابح
/ ومثله:
ألا رب من تغتشه لك ناصح
…
ومؤتمن بالغيب غير أمين"
وقد تأول بيت جحدر من ذهب إلى التزام مضيه بأن يكون على حكاية المستقبل بالنظر إلى المضى؛ قال: "وكأنه قال: فإن أهلك فرب فتى بكي علي فيما مضى وإن كنت لم أهلك، فكيف يكون بكاؤه على إذا هلكت؟ فأوقع سيبكي موقع بكى لأجل الحكاية، وحذف ما يتم به الكلام لفهم المعنى. والدليل على أن
المستقبل قد يحكى بالنظر إلى ما مضى أنك تقول: لم تركت زيدا وقد كان سيعطيك؟ ومن ذلك قول امرأة من العرب ترثي زوجها:
ياموت لو تقبل افتداء
…
كنت بنفسي سأفتديه
وهذا التأويل إنما يحتاج إليه إن قدر سيبكي جوابا لرب لا صفة للمخفوض بها؛ وأما إن قدرته في موضع الصفة للمخفوض برب، وجعلت لها جوابا نحذوفا يراد به المضي- فلا يحتاج إليه، ويكون التقدير إذ ذاك: فرب فتى سيبكي على مخضب رخص البنان لم أقض حقه، فحذف ذلك لدلالة ما بعده عليه، وهو قوله بعد:
ولم أك قد قضيت حقوق قومي
…
ولاحق المهند والسنان"
انتهى
وأما استدلال المصنف بقول أم معاوية فقولها "يارب قائلة غدا" هو من الوصف بالمستقبل لا من باب تعلق رب. بما بعدها. وأما "ومعتصم" فإن "سيردي" محتمل أن يكون صفة لا متعلقا به رب. وأما "لا أظله" فهو صفة أيضا. وكذلك "يارب غابطنا". فجميع ما استدل به على استقبال ما تتعلق به رب لا دليل فيه.
وأما قوله "فقمت" البيت، وقوله "ألا رب"البيت- فهما مما وصف فيهما المجرور بالحال لا مما تعلقت به رب.
وفي قول المصنف "ولا مضى ما تتعلق به" نص على أنها تتعلق كحروف الجر غير الزوائد، وهذه مسألة اختلف فيها:
فذهب الرماني وابن طاهر إلى أنها لا تتعلق بشيء، وحكاه شيخنا أبو الحسين بن أبي الربيع عن بعض المتأخرين، قال: "إذا قلت: رب رجل عالم قد
لقيته- فرب حرف دخل على المبتدأ وخفضه، وهو بمنزلة: بحسبك زيد، فدخل حرف الجر، فانخفض المبتدأ، فكما أن المجرور هنا لا يحتاج إلى متعلق كذلك رب رجل عالم لا يحتاج إلى متعلق".
وذهب الجمهور إلى أنه يتعلق.
واختلفوا في موضع المجرور بها: فذهب الزجاج إلى أنه في موضع نصب أبدا، فإذا قلت: رب رجل قد ضربت، ورب رجل قد أتاني- كانت في موضع نصب بضربت وأتاني. وإن جعلتهما صفة كانت في موضع نصب بعامل محذوف.
ورد على ذلك بأنه يؤدي إلى تعدي الفعل المتعدى بنفسه إلى مفعوله/ بواسطة رب، وهو لا يحتاج في تعديه إليها.
وأجاب الرماني بأنها دخلت على معمول الفعل كما دخلت اللام في "إن كنتم للرءيا تعبرون"، لكن هذا على سبيل الجواز لما كان التقديم والتأخير جائزين، ولما وجب تقديم الفضلة المجرورة برب على الفعل وجب دخول رب عليها.
ورد بأن العامل إذا تقدم معموله عليه لم يقو في وصوله إليه باللام.
ورد أيضا مذهب الزجاج بأنه يؤدي إلى تعدي الفعل المتعدي إلى ضمير المفعول وإلى ظاهره في نحو: رب رجل عالم لقيته، ولا يجوز: بزيد لقيته، وبأنه إذا كان المفعول يلزم تقديمه لم يلزم أن يقوى بالحرف، فيجوز: لأي رجل ضربت؟
وأي رجل ضربت؟
وذهب الأخفش والجرمي إلى أنها تزاد في الإعراب، ويحكم على موضع مجرورها بالنصب والرفع على حسب العامل بعدها، ويجوز فيه الاشتغال إذا كان العامل قد عمل في ضميره أو سببه نصبا، ويعطف على لفظه وعلى موضعه، فإن كان رفعا رفع المعطوف، أو نصبا نصب. قال ابن عصفور: "ومن العطف على الموضع قول الشاعر:
وسن كسنيق سناء وسنما
…
ذعرت بمدلاج الهجير نهوض
عطف سنما على موضع سن لأنه في موضع نصب على المفعول".
وقال الأعلم: "السناء: الارتفاع، وكذلك، فعلى هذا يكون وسنما معطوفا على سناء".
وقال أبو بكر عاصم بن أيوب البطليوسي: "من جعل سنما اسما للبقرة عطفه على موضع وسن؛ لأنه في موضع المفعول بذعرت؛ أراد: ذعرت بهذا الفرس ثورا وبقرة، وهو بعيد عند بعض النحويين أن يجعل لرب موضع من اإعراب. انتهى".
ويدل هذا على أنها زائدة في الإعراب قولهم: رب رجل عالم يقول ذلك، فلولا أن "رب" زائدة فب إعراب ما جاز ذلك؛ لما يلزم من تعدي فعل الضمير المتصل إلى ظاهره، فجعل "رب رجل" في موضع رفع بالابتداء هو الذي سوغ ذلك. لا يقال: كيف يقال في رب إنها زائدة في إعراب وهي تدل على معنى زائد؛ لأن الزائد على قسمين: قسم إذا أزيل لم يتغير المعنى؛ لأنه إنما جيء [به] للتأكيد،
وقسم إذا أزيل تغير المعنى، ويسمى زائدا في الاصطلاح باعتبار أنه يتخطى العامل إليه. مثال الأول: ليس زيد بقائم، ومثال الثاني: جئت ليلا بلا زاد، فيقول النحويون إن "لا زائدة، وهي لو أزيلت لتغير المعنى من النفي إلى الإثبات. ف"رب" إذا كان معمولها مبتدأ لا تتعلق بشيء، ونظيرها في ذلك "لولا" مع المضمر، و"لعل" في لغة من جر بها في أنهما لا يصل بهما عامل إلى معموله، وكذلك رب رجل عالم في الدار ف "في الدار"خبر عن "رجل"، ولم يصل ب"رب"عامل إلى معموله. فأما رب رجل عالم لقيت فإنما قلنا إن رب رجل في موضع مفعول لأن العامل في ذلك يطلبه/ على جهة المفعولية، بخلاف "لولا" مع المضمر، و"لعل" في لغة من جر بها، فإنه لا يكون ذلك أبد إلا في موضع لا يتعلق فيه بعامل.
وأما قول س في رب رجل يقول ذلك: "إنك قد أضفت القول إلى الرجل برب"- فمعناه أن يقول: إضافته رب إلى الرجل على معنى التقليل أو التكثير على الخلاف، كما تقول في لعل زيد قائم: إن لعل أضافت القيام إلى زيد على طريق الترجي.
وحروف الجر غير الزائدة متعلقة كانت أو غير متعلقة معناها الإضافة، فإن كانت متعلقة أضافت العامل إلى المعمول، وإن كانت غير متعلقة أضافت الابتداء إلى المخفوض بها على المعنى الذي لها.
وحذف الفعل الذي يكون خبرا لمجرور رب، أو عاملا في موضعه، أو مفسرا لعامل- نادر وفاقا ل"س"والخليل، لا كثير، خلافا للفارسي والجزولي، ولا ممنوع، خلافا للكذة الأصبهاني؛ إذ زعم أن ذكره واجب، ولحن ما ورد من ذلك، وزعم أنه منحول للعرب.
قال س في باب ما يجزم من الجوابات: "وزعم الخليل- رحمه الله أنه وجد في أشعار العرب رب لا جواب لها، ومن ذلك قول الشماخ:
ودوية قفر تمشي نعامها
…
كمشي النصارى في خفاف اليرندج
ألا ترى أنه قد علم أن مراده: قطعتها، أو نحوه ".
وقول الخليل يدل على بطلان ما قاله الفارسي ولكذة. ومما يرد على لكذة قولهم: رب رجل قائم، ورب ابنة خير من ابن، وفي المثل السائر: رب لائم مليم، وقول الشاعر:
ألا رب من تغتشه لك ناصح
…
ومؤتمن بالغيب غير أمين
وقال أبو الحسين بن أبي الربيع: ((لا يمكن أن تجعل رب زائدة؛ لأنها تحزر معنى، والزائد لا يحزر معنى، وإنما هو مؤكد، ولا كل حرف خافض لا يكون إلا موصلا، وإنما خفض إذا كان زائدا ليبقى عليه عمله الذي أنس به، وما زادته العرب للتوكيد وليس له أصل فلا يكون خافضا؛ لأنه ليس موصلا، و"رب" خافضة، فلابد أن تكون موصلة، أو منقولة منها إن جعلتها زائدة، فقد صح. بما ذكرته أنها لا بد لها من فعل تتعلق به، فلابد أن يكون ظاهرا أو محذوفا، وإذا كان محذوفا فيكون على وجهين:
أحدهما: أن يكون قد ناب منابه شيء، فلا يظهر.
الثاني: ألا ينوب منابه شيء، فيجوز أن يظهر، ويجوز أن تحذفه، فيكون ظاهرا إذا لم يكن معك ما يدل عليه، وإذا كان معك ما يدل عليه، ولم تكن الصفة تقوم مقامه- فانت بالخيار، إن شئت حذفته وإن شئت أظهرته. وإذا كانت الصفة تقوم مقامه فلا يجوز إظهار الفعل.
فمثال ما أنت فيه بالخيار أن تسمع إنسانا يقول لك: ما لقيت رجلا عالما، فتقول: رب رجل عالما لقيت، ولك ألا/ تذكر لقيت، فتقول: رب رجل عالم، وتكتفي بكونه جوابا. فإن كان ذلك منك ابتداء فلابد من إظهار الفعل. وأكثر ما تكون جوابا، وإذا كانت غير جواب فهي تقدير على ذلك، إلا أن الفعل يظهر لأ سامعك لا يعلم ذلك الفعل إذا حذفته.
ومثال ما يكون الفعل فيه لا يظهر لأن الصفة تقوم مقامه قولك: رب رجل يفهم هذه المسألة، لمن يقول لك: قد فهمتها، فالتقدير: رب رجل يفهم هذه المسألة وجدت، لكن مثل هذا لا يظهر. وبهذا كان الأستاذ أبو علي يتأول كلام س، وهو:"إذا قلت: رب رجل يقول ذلك، فقد أضفت القول إلى الرجل برب"،فكان يقول: إن يقول لا يصح أن يكون إلا صفة لرجل؛ لأن فعل المضمر لا يتعدى إلى ظاهره، فلابد من متعلق محذوف، إلا أنه لا يظهر، ونابت الصفة منابه، فلما كان كذلك قال س: إن رب وصلت يقول إلى رجل، وإن كانت إنما وصلت وجدت المحذوفة، ونابت يقول منابها"، انتهى ما نقلناه من كلام أبي الحسين.
فصارت المذاهب في الفعل المقدر عاملا في رب بالنسبة إلى الحذف خمسة: الندور، وهو مذهب س والخليل. والكثرة، وهو مذهب الفارسي. والمنع، وهو
مذهب لكذة. ونقل صاحب "البسيط" عن بعضهم أنه يلزم الحذف، فقال:"وادعى بعضهم لزوم الحذف لأنه معلوم، كما حذف في: باسم الله، وتالله لأفعلن". والتفصيل، وهو ما ذهب إليه ابن أبي الربيع.
وقوله بل يلزم تصديرها إن عني أنه يلزم تصديرها علي ما تتعلق به علي ما تتعلق به علي ما زعم فهو صحيح، لا يوجد في كلامهم: لقيت رب رجل عالم. وإن عنى أنه يلزم تصديرها أول الكلام فقد بينا أن ذلك ليس بصحيح، وأنها قد وقعت خبراً ل "إن" ول "أن" المخففة من الثقيلة.
وقوله وتنكير مجرورها يعني أن ذلك ليس بصحيح، وأنها قد وقعت خبراً ل "إن" ول "أن" المخففة من الثقيلة.
وقوله وتنكير مجرورها يعني أنه إذا كان مجرورها ظاهراً فإنه يكون نكرة، سواء أكان معرباً أم مبنياً، نحو:
رب من أنضجت غيظاً صدره ................................
وزعم بعض النحويين أنها تجر الاسم المعرف بأل، فتقول: رب الرجل لقيت، وأنشدوا في ذلك قوله:
ربما الجامل المؤبل فيهم وعناجيج بينهن المهار بخفض الجامل.
وقال من منع ذلك: الرواية الجامل بالرفع علي أن تكون ما في موضع اسم نكرة، والجامل خبر مبتدأ محذوف، أي: هو الجامل، والجملة في موضع الصفة ل "ما". وقد تقدم تخريج المصنف الرفع علي أنه مبتدأ، و "ما" كافة ل "رب".
قالوا: فإن صحت وراية الجر خرج علي زيادة أل، كأنه قال: ربما جامل مؤبلٍ فيهم، كما قالوا: إني لأمر بالرجل مثلك فأكرمه، أي: برجل مثلك.
وقوله وقد يعطف علي مجرورها وشبهه مضاف إلي ضميريهما مثال ذلك: رب رجلٍ وأخيه رأيت. وشبه مجرورها هو المجرور بعد كم، نحو: كم عبد وأخيه أعتقت، وقال الشاعر:
وكم دون بيتك من مهمه
…
وكداك رمل وأعقادها
وكذا أي وكل، قال:
فأي فتى هيجاء أنت وجارها
…
....................
وكذلك كل، قالوا: كل شاة وسخلتها بدرهم.
وشرط جواز ذلك أن يكون في العطف من التوابع، وأن يكون العطف بالواو خاصة. وزعم الفارسي أنه يجوز ذلك في البدل، وأنشد:
كأنهم صابت عليهم سحابه
…
صواعقها "لطيرهن دبيب" جملة في موضع الصفة، والجملة نكرة وصفت بها المعطوف، فدخله حكم المعطوف عليه" انتهي.
ولا يثبت مثل هذا الحكم بهذا التأويل؛ لأن الأولي والظاهر أن يكون صواعقها مبتدأ لا بدلاً، و "لطيرهن دبيب" خبره، والجملة من "صواعقها" وخبره صفة لسحابة.
وسوغ دخول رب المضاف إلي ضمير مجرورها لأن الإضافة غير محضة، فلم تتعرف النكرة بإضافتها إلي المعرفة، والعرب لا تحكم للمضاف إلي ضمير النكرة بحكم النكرة إلا بشرط أن يكون بعد لفظ يطلب بالتنكير، ك "رب" و "كل" و "أي" فيما ذكرنا، وشرط أن يكون المضاف إلي النكرة معطوفاً علي نكرة متقدمة معمولة ل "رب" و "كم" و "أي" و "كل".
وقال س: "وهو علي ج=وازه ضعيف". وحكى الأصمعي ما هو أشد من هذا، وهو مباشرة رب للمضاف إلي الضمير، قال: قلت لأعرابية: ألفلان أب أو أخ؟ قالت: رب أبيه، رب أخيه، تريد: رب أخ له، رب أب له، فجعلت إضافتهما إلي الضمير في نية الانفصال. ووجه ذلك أن الأخ والأب لما كانا من الأسماء التي يجوز الوصف بها قدر فيهما الانفصال، كما قالوا: مررت بفرس قيد الأوابد، إلا أن هذا من القلة بحيث لا يقاس عليه باتفاق. وكذلك: رب واحد أمه.
ولو كان العطف بالواو في غير رب وكل وأي وكم، نحو قولك: هذا رجل وأخوه، تريد به الانفصال، أي: وأخ له، ويكون الأخ نكرة- ففي ذلك خلاف، قبل: والصحيح أنه يجوز؛ لأنه قد يشترك المعطوف مع المعطوف عليه، فينسحب عليه حكم ما عطف عليه، إلا أنه لا يثبت بذكر مثل هذا نصاً كما يثبت برب وكم وأي وكل؛ لأن هذه لا تدخل إلا علي نكرات، فيتبين فيها نصاً التنكير، ولا يتبين في مثل: هذا رجل وأخوه
-[ص: وقد تجر ضميراً لازماً تفسيره بمتأخرٍ منصوب علي التمييز مطابقٍ للمعني. ولزوم إفراد الضمير وتذكيره عند تثنية التمييز وتأنيثه أشهر من المطابقة.]-
ش: أجروا "ربه رجلاً" في الإضمار قبل الذكر علي شريطة التفسير مجرى نعم لتقارب معنييهما، من حيث كان ربه رجلاً يستعمل في الثناء والمدح، كما أن نعم رجلاً كذلك.
وقال الزجاج: "قولهم ربه رجلاً معناه: أقلل به في رجال، وإنما فعلوا ذلك لما في الإضمار قبل الذكر من الإبهام، والإبهام كثيراً ما يستعمل في موضع التعظيم" انتهي. ف "ربه رجلاً" أفخم وأمدح من: رب رجل.
وفي قول المصنف "وقد تجر" إشعار بأن ذلك قليل، بل قد نص في غير هذا الكتاب من مصنفاته أن جر رب المضمر شاذ.
والنحويون أوردوا ذلك علي سبيل الجواز وأنه فصيح لا شاذ ولا قليل، إلا إن كان عنى بالشذوذ شذوذ القياس، وبلقلة بالنسبة إلي جرها الظاهر، فهو صحيح؛ لأن القياس في مضمر الغائب أن يتقدمه مفسره، وجرها الظاهر النكرة أكثر من جرها الضمير.
وقد اختلفوا في هذا الضمير أنكرة هو أو معرفة: فذهب الفارسي وكثير من النحاة إلي أنه معرفة، وجرى مجرى النكرة في دخول رب عليه لما أشبهها في أنه غير معين ولا مقصود قصده.
وذهب بعض النحويين إلي أنه نكرة، وهو اختيار ابن عصفور، قال ما ملخصه: "ضمير النكرة معرفة إذا فسرته نكرة متقدمة عليها لنيابتها مناب
المعرفة، نحو: لقيت رجلاً فضربته؛ لأنه نائب مناب: فضربت الرجل، فأضمروه فراراً من التكرار. فإن فسر بنكرة متأخرة فقد تضعه العرب موضع ظاهر معرفة، فيكون معرفة لوقوعه موقعها، نحو: نعم رجلاً زيد، فالضمير في نعم واقع موقع ظاهرٍ معرف بألٍ أو مضافٍ إلي ما هي فيه. وقد تضعه موضع موضع ظاهر نكرة، فيكون نكرة لوقوعه موقعها، وذلك: ربه رجلاً؛ لأن المخفوض ب (رب) إذا كان ظاهراً لا يكون إلا نكرة، وكأنك قلت: رب شيء، ثم فسرت الشيء الذي تريده بقولك رجلا" انتهى.
وقد خالف الفارسي في: نعم رجلاً زيد، فزعم أن المضمر فيه لا يجوز إظهاره، وأن قولك: نعم الرجل زيد- ليس إظهاراً للضمير الذي في: نعم رجلاً.
واستدل علي ذلك بقولهم: ربه رجلا، من جهة أن الضمير معرفة، فلو كان واقعاً موقع الظاهر لوجب أن يكون ذلك الظاهر معرفة، و "رب" لا تعمل في المعارف. وما ذهب إليه الفارسي من كون هذا الضمير معرفة هو الجاري علي مهيع النجاة من أن الضمير معرفة.
وقوله لازماً تفسيره هذا التفسير مخالف لتفسير الضمير في نعم؛ لأنه في نعم قد روي حذفه لدلالة الكلام عليه، وهنا لا يجوز حذفه، لو قيل ذلك: هل رأيت رجلاً عالماً؟ لم يجز أن تقول: ربه، وأنت تعني: ربه رجلاً عالماً رأيت.
وقوله بمتأخر منصوب قال:
ربه امرأ بك نال أمنع عزةٍ
…
وغنى بعيد خصاصة وهوان
ونصب هذا التمييز هو المعروف في لسان العرب، وقد سمع جره، قال:/
واهٍ رأبت وشيكاً صدع أعظمه وربه عطب أنقذت من عطبه ووجه الجر أنه نوى من، كأنه قال: وربه من عطب، كما قالوا: نعم من رجل، وذلك علي سبيل الشذوذ، لا أنه جائز في الكلام.
وقوله مطابقاً للمعنى أي: مطابق للذي يقصده المتكلم من إفراد وتذكير وغيرهما، فليس مطابقاً للفظ الضمير؛ لأن لفظ الضمير مفرد مذكر، والتمييز مطابق لما يريده من المعنى بالنسبة إلي التأنيث والتثنية والجمع.
وقوله ولزوم إفراد الضمير إلي آخره مذهب البصريين أن الضمير مفرد مذكر وإن كان مميزاً بمؤنث أو مثنى أو مجموع؛ فتقوله: ربه رجلاً، وربه رجلين، وربه رجالاً، وربه امرأة، وربه امرأتين، وربهن نساءً.
قال ابن عصفور: "وأجاز أهل الكوفة تثنية وجمعه قياساً، وذلك عندنا لا يجوز؛ لأن العرب استغنت بتثنية التمييز وجمعه عنه، كما استغلوا بترك عن وذر وودع" انتهى.
ولم يجتزه الكوفيون قياساً، بل حكوه عن العرب. ومثال قولهم ربه رجالاً قول الشاعر:
ربه فتية دعوت إلي ما يورث الحمد دائماً، فأجابوا
ومن ذهب إلى أن مجرور رب النكرة لابد له من الوصف لم يذهب إلي ذلك في: ربه رجلاً. وسبب ذلك فيما ذكره ابن أبي الربيع أنه استغنى بما دل عليه الإضمار من التفخيم عن الوصف، فصار قولك ربه رجلاً بمنزله رب رجلٍ عظيمٍ لا أقدر علي وصفه.
وما يتعلق به ربه رجلاً حكمه عندي حكم رب رجل من ان حذفه ينبغي أن يكون ناداً؛ إذ ظاهر قوله "ربه امرأ" وما رووا أيضاً من قوله "وربه عطباً أنقذت من عطبه" بالنصب والجر، وقوله "ربه فتية" الأبيات- فيه ذكر الفعل الذي تتعلق به رب.
وزعم ابن أبي الربيع أن حذف هذا الفعل في ربه رجلاً لازم، قال:"يحتاج إلي ما تتعلق به رب في ربه رجلاً كما تحتاج: رب رجل، وما تتعلق به محذوف، تقديره علي حسب ما يكون جواباً له، إلا أنه لا يظهر؛ لأن الحذف في رب رجلٍ عالمٍ أكثر من الإظهار، فلزم في ربه رجلاً لما فيه من زيادة التعظيم".
-[ص: قد يلي عند غير المبرد "لولا" الامتناعية الضمير الموضوع للنصب والجر والمجرور الموضع عند سيبويه؛ مرفوعه عند الأخفش والكوفيين.
ويجر ب "لعل" و "عل" في لغة عقيل، وب "متى" في لغة هذيل.]-
ش: المشهور أنه إذا ولي لولا الامتناعية ضمير أن يكون ضمير رفع منفصلاً؛ لأنه ناب مناب الظاهر، والظاهر مرفوع، فوجب أن يكون/ ضمير رفع، قال تعالى:{لَوْلا أَنْتُمْ لَكُنَّا مُؤْمِنِينَ} . والخلاف فيه كالخلاف
في
الظاهر، أهو مرفوع بلولا، أو مرفوع بفعل محذوف، أو مبتدأ أغنى الجواب عن خبره، أو خبره محذوف لزوماً، أو فيه تفصيل.
وقوله عند غير المبرد زعم أن ذلك لحن، وأن النحويين أخذوا ذلك من قوله يزيد بن الحكم، وقد أنشده س.
وكم موطن لولاي طحت كما هوى
…
بأجرامه من قلة النيق منهوي
قال: "وهذه القصيدة فيها لحن كثير".
قال الأستاذ أبو علي: "اتفق أئمة البصريين والكوفيين، كالخليل وسيبوبه، والكسائي والفراء- علي رواية لولاك عن العرب؛ فإنكار المبرد هذيان، وإن يكن يزيد بن الحكم لحاناً كما قال فقد قال رؤبه:
لولاكما لخرجت نفساهما"
انتهى.
وأنشد الفراء: أتطمع فينا من أراق دماءنا
…
ولولاك لم يعرض لأحسابنا حسن
وأنشد أيضاً:
......................
…
لولاك هذا العام لم أحجج
وقال الأخطل:
أستمعتكم يوم ادعو في موداة
…
ولاكم شاع لحمي عندها ودمي وقال آخر:
ويوم بجي تلافيته
…
ولولاك لاصطلم العسكر
وقال جحدر:
خليلي! إن العارمي لعارم
…
ولولاه ما قلت لدي الدراهم
ويحتمل أن يكون "ولولاه" من باب:
فبينا هـ يشري ................... ......................
أي: فبينا هو يشري. فأما قوله:
ولولا هم لكنت كحوت بحرٍ
…
هوى في مظلم الغمرات داج
فيحتمل "هم" أن يكون ضمير رفع وضمير جر؛ لأن "هم" ضمير يكون مرفوعاً ومنصوباً ومجروراً. وعلي هذه اللغة تقول: لولاي ولولانا، ولولاك ولولاك ولولاكما ولولاكم ولولاكن، ولولاها ولولاهما ولولاهم ولولاهن.
وقول الامتناعية احتراز من "لولا" التحضيضية، فإن التحضيضية لا يليها غلا الفعل ظاهراً أو مضمراً أو معموله.
وقوله مجرور الموضع عند سيبويه لأن هذا الضمير لا جائز أن يكون منصوباً؛ لأنه لو كان منصوباً لجاز أن توصل بنون الوقاية ياء المتلكم كالضمائر المتصلة بالحروف، ولا جائز أن يكون مرفوعاً؛ لأنها ليست من ضمائر الرفع، فتعين الجر.
وقوله مرفوعه عند الأخفش والكوفيين/ ذهبوا إلي أنه مما استعير الضمير المجرور عوضاً عن الضمير المرفوع، كما عكسوا في قولهم: ما أنا كأنت، ولا انت كأنا. وفي هذا المذهب إقرار "لولا" علي ما استقر فيها من مجيء المرفوع، كما عكسوا في قولهم: ما أنا كأنت، ولا أنت كأنا. وفي هذا المذهب إقرار "لولا" علي ما استقر فيها من جيء المرفوع بعدها، ويترجح بهذا وبأن الضمير فرع عن الظاهر، وإذا لم تجر الاصل فكيف تجر الفرع، وبانك لو جعلتها حرف جر احتاجت إلي شيء تتعلق به، ولا شيء تتعلق به، ولأن مدلول لولا أنت ولولاك واحد، وفي لولا أنت يكون الكلام جملتين، وفي لولاك يكون الكلام جملة واحدة.
وقال المصنف في الشرح: "وفي ذلك- أي في الجر مع شذوذه- استيفاء حق ل (لولا)، وذلك أنها مختصة يالاسم غير مشافبهة للفعل، ومقتضي ذلك أن تجر الاسم مطلقاً، لكن منع من ذلك شبهها بما اختص بالفعل من أدوات الشرط في ربط جملة بجملة، وأرادوا التنبيه علي موجب العمل في الأصل، فجروا بها المضمر المشار إليه" انتهى.
وقوله "إنها مختصة بالاسم" ليس كذلك؛ لأنها إنما هي داخلة علي الجملة الابتدائية، فلم تختص بالاسم، وإذا لم تكن مختصة بالاسم فليس مقتضى ذلك أن تجر الاسم كما ذكر.
وإذا قلنا بأن الضمير في لولاك وشبهه مجرور لولاك فذكر بعضهم أنها لا تتعلق بشيء، وهو مشكل؛ لأن حرف جر ليس بزائد لابد أن يتعلق.
وذهب بعضهم إلي أنها تتعلق بفعل واجب الإضمار، فإذا قلت: لولاي لكان كذا- فالتقدير: لولاي حضرت، فألزقت ما بعدها بالفعل علي معناها من امتناع الشيء، ولا يجوز أن يعمل فيها الجواب؛ لأن ما بعد اللام لا يعمل فيها قبلها.
انتهى.
وكأنه لما رأى أن لولا إذا ارتفع ما بعدها كان الخبر واجب الإضمار جعل الفعل الذي تتعلق به لولا واجب الإضمار. وما ذهب إليه فاسد لأن في ذلك التقدير تعدي الفعل الرافع للضمير إلي مضمره المجرور، وهو يجري مجرى المنصوب، فلا يجوز: في فكرت، ولا يجوز: لولاي حضرت.
والذي يظهر أنها لا تتعلق بشيء؛ ألا ترى أن لعل إذا جرت لا تتعلق بشيء، ولا يلزم من عمل الحرف الجر أن يتعلق بشيء وغن كان الغالب التعلق؛ ألا ترى أن الزائد لا يتعلق بشيء، فكذلك بعض الحروف التي ليست بزائدة، والعمل إنما هو تأثير لفظي، فجاز أن يكون المجرور بعد لولا كالمرفوع؛ ألا ترى أن الفراء ذهب إلى أن المرفوع بعد لولا هو مرفوع بها، فكذلك يكون مجروراً بها، ولا يحتاج إلي تقدير، كما لا يحتاج المرفوع عند الفراء إلي تقدير شيء محذوف.
وقوله ويجر بلعل وعل في لغة عقيل تقدم له الكلام في ذلك في آخر الفصل الرابع من باب إن وأخواتها، وذكرنا أن بعض النحويين أنكر ذلك، وتأول قول الشاعر:
.............................. لعل أبي المغوار منك قريب
والصحيح ثبوت ذلك لغة، حكاها الاخفش والفراء، وذكر أبو زيد أنها لغة عقيل./ وقد قال أبو موسى الجزولي في "قانونه":"وقد جروا بلعل منبهة على الأصل".
وقوله وبمتى في لغة هذيل أما متى فإنها ظرف زمان، وتكون شرطاً واستفهاماً، ونقل بعضهم أن متى تكون بمعنى وسط، فتجر ما بعدها، وحكى: وضعها متى كمه، أي: وسط كمه.
وقال أبو سعيد السكري: "متى بمعنى من"، ولم ينسبها لهذيل، وأنشد لأبي ذؤيب: شربن بماء البحر، ثم ترفعت
…
متى لجج خضر لهن نئيج وأنشد أيضاً لغيره:
متى ما تعرفوها تنكروها
…
متى أقطارها علق نفيث
قال أبو سعيد: "أي: من لجج، ومن أقطارها" انتهى.
ويحتمل أن تكون هنا في البيتين بمعنى وسط، فتبقى علي ما استقر فيها من الظرفية وإن لم تكن شرطاً ولا استفهاماً.
وقال المصنف في الشرح: "وأما متى فهمي في لغة هذيل حرف جر بمعنى من، ومنه قول الشاعر:
شربن بماء البحر ......................
…
................................... "
البيت.
قال: "ومن كلامهم: أخرجها متى كمه، أي: من كمه".
-[ص: فصل
في الجر بحرف محذوف
يجر برب محذوفة بعد الفاء كثيراً، وبعد الواو أكثر، وبعد بل قليلاً، ومع التجرد أقل. وليس الجر بالفاء وبل باتفاق، ولا بالواو، خلافاً للمبرد ومن وافقه.]-
ش: مثال الجر بعد الفاء قول امرئ القيس:
فمثلك حبلى قد طرقت ومرضعاً
…
فألهيتها عن ذي تمائم مغيل وقول ربيعة بن مقروم:
فإن أهلك فذي حنق لظاه
…
يكاد علي يلتهب التهابا
وقول بعض طيئ:
إن يثن سلمى ابيضاض الفود عن صلتي
…
فذات حسن سواها دائماً أصل
وقول الهذلي:
فإما تعرضن- أميم- عني
…
وينزعك الوشاة أولو النباط
فحورٍ قد لهوت بهن عينٍ
…
نواعم، في المروط وفي الرياط
وقوله وبعد الواو أكثر هذا لا يحتاج إلي مثال؛ لأن دواوين العرب ملأى منه.
وقول المصنف يجر برب محذوفة بعد الفاء كثير، بل هو قليل، يكاد ألا يوجد منه إلا هذا الذي أنشدناه.
ومصال ذلك بعد بل قول الراجز:
بل جوز تيهاء كظهر الحجفت
/وقول الآخر:
بل بلد ملء الفجاج قتمه
…
لا يشترى كتانه وجهرمه
/وقوله الآخر:
بل بلد ذي صعد وأصباب
وقوله ومع التجرد أقل يعني: ومع التجرد من الفاء والواو وبل، ومثاله قول
ذي الرمة:
أصهب، يمشي مشية الأمير
…
لا أوطف الرأس ولا مقرور
وقول الآخر:
رسم دار وقفت في طلله
…
كدت اقضي الغداة من جلله
أي: رب أصهب، ورب رسم دارٍ.
وقوله وليس الجر بالفاء وبل بالاتفاق قال المصنف في الشرح: "ولا خلاف في أن الجر في (فذي حنقٍ)، و (بل بلدٍ)، و (رسم دارٍ)، وأشباهها- برب المحذوفة" انتهى. زقال ابن عصفور: "ولم يختلف أحد من النحويين في أن الخفض بعد الفاء وبعد بل بإضمار رب". فعلى هذين النقلين يظهر وهم من عد الفاء وبل في حروف الجر، وأن الجر بها لنيابتها مناب رب.
وذكر صاحب "كتاب الكافي" أنه لا يعلم خلافاً بين النحويين في أن الجر بعد الفاء برب مضمرة لابالفاء. وذكر أن العرب تحذفها، وتبقي عملها بعد واو العطف، ولا يجوز إظهارها بعدها، قال:"وقد أجرت العرب الفاء مجرى الواو، فحذفت بعدها رب". قال: "وقد حذفت قليلاً بعد ثم، والأصل في هذا كله واو، والعرب أقامتها مقام رب في الموضع الذي ذكرت، ثم أجرت العرب الفاء مجرى الواو، وكذلك أجرت العرب ثم. وسبب ذلك أن هذه الثلاثة من حروف العطف ليست بجامعة إلا في اللفظ".
وقوله ولا بالواو خلافاً للمبرد قال المبرد: الواو بمنزلة رب، والخفض بها، ولا ينكر أن يكون للحرف الواحد معان كثيرة. ويدل علي أنها ليست للعطف مجيئها في أول القصيدة، نحو قوله:
وقاتم الأعماق خاوي المخترق
ووافق المبرد لعض الكوفيين.
ورد ذلك بأنها لو كانت بمنزلة رب، ولا تقول: ووخصم، وليس امتناع ذلك كراهة اتفاق اللفظين؛ لأنهم قد قالوا: ووالله، فأدخلوا واو العطف علي واو القسم. وبأنها قد أضمرت بعد الفاء وبل وثم، ولم يختلفوا أن الجر بها لا بهذه الحروف، فللواو أسوة بها. ولا يمنع كونها للعطف مجيئها في أوائل القصائد؛ لإمكان إسقاط الراوي شيئاً قبلها من القصيدة، أو لإمكان عطفه علي ما في خاطره مما يناسب ما عطف عليه، ومثال ذلك قول زهير: دع ذا، وعد القول في هرم .....................................................
العرب تنشد هذه القصيدة، وأولها عندهم: دع ذا، ولا يعرفون قبلها شيئاً، فهذا قد أشار ب "ذا" إلي شيء في نفسه؛ إذ كانوا يستفتحون القصائد بذكر شيء من الغزل وذكر الأطلال وغير ذلك مما يجري في أوئل/ قصائدهم. ومن العرب من يجعل أول قصيدة زهير.
دع ذا، وعد القول في هرم
…
.......................................................
العرب تنشد هذه القصيدة، وأولها عندهم: دع ذا، ولا يعرفون قبلها شيئاً، فهذا قد أشار ب "ذا" إلي شيء في نفسه؛ إذ كانوا يستفتحون القصائد بذكر شيء من الغزل وذكر الأطلال وغير ذلك مما يجري في أوائل /قصائدهم. ومن العرب من يجعل أول قصيدة زهير:
لمن الديار بقنة الحجر
…
.............................................................
والحجة في رواية من روى أولها: "دع ذا وعد القول في هرم". وإضمار رب بعد الواو والخفض بها مضمرة مذهب البصريين.
-[ص: ويجر بغير رب أيضاً محذوفاً في جواب ما تضمن مثله، أو في معطوف على ما تضمنه بحرف متصل، أو منفصل ب "لا"، أو "لو"، أو في مقرون بعد ما تضمنه بالهمزة، أو "هلا"، أو "إن" أو الفاء الجزائيتين. ويقاس علي جميعها، خلافاً للفراء في جواب نحو: بمن مررت؟]-
ش: هذه مسائل ذكرها المصنف، وزعم أنه يجوز حذف حرف الجر فيها وإبقاء عمله. مثال الأولى: زيد، في جواب من قال: بمن مررت؟ قال: "ومنه قوله- عليه السلام: (أقربهما منك باباً)، جواباً لمن قال له: فإلى أيهما أهدي؟ وكذلك: بلى زيد، لمن قال: ما مررت بأحد، أو هل مررت بأخذ؟ ".
ومثال الثانية قوله تعالى: {وَاخْتِلافِ اللَّيْلِ وَالنَّهَارِ} ، وفي آخر الآية قوله:{آيَات} ، فجر {اخْتِلافِ} ب "في" لاتصاله بالواو لتضمن {وَفِي خَلْقِكُمْ وَمَا يَبُثُّ} لفظ في. ونظيره: في الدار زيد والقصر عمرو، أي: وفي القصر. ومثله قول الشاعر:
ألا يا لقومي، كل ما حم واقع
…
وللطير مجرى، والجنوب مصارع
وقول الآخر:
أخلق بذي الصبر أن يحظى بحاجته
…
ومدمن القرع للأبواب أن يلجا
وقول الآخر:
كالتمر أنت إذا ما حاجة عرضت
…
وحنظل كلما استغنيت خطبان
وقول الآخر:
حبب الجود للكرام، فحمدوا
…
وأناسٍ فعل اللئام فليموا
وقول الآخر:
لك مما يداك تجمع ما تن
…
فقه، ثم غيرك المخزون
وقال المصنف في الشرح: "ومن شواهد إضمار الجار في العطف بغير الواو
قول الشاعر:
أية بضمرة أو عوف بن ضمرة أو
…
أمثال ذينك، أية تلف منتصرا"
قال: "أراد: أو بأمثال ذينك اية".
ولا يتعين ما قال؛ إذ يحتمل أن يكون "أو أمثال ذينك" معطوفاً علي ما قبله، و "أيه" توكيد لقولك "أيه" المتقدمة.
ومثال الثالثة قول الراجز:
ما لمحب جلد إن هجرا
…
ولا حبيب رأفة فيحبرا
ومثال الرابعة قول الشاعر:
متى عذتم بنا ولو فشة منا
…
كفيتم، ولم تخشوا هواناً ولا هنا
وحكى الأخفش في "المسائل" أنه يقال: جئ يزيد أو عمرو ولو كليهما، وأجاز في كليهما الجر علي تقدير: ولو بكليهما، والنصب بإضمار ناصب، والرفع بإضمار رافع.
قال المصنف في الشرح: "وأجود من هذا المثال الذي ذكر الأخفش أن يقال: جئ يزيدٍ وعمروٍ ولو احدهما؛ لأن المعتاد في مثل هذا النوع من الكلام ان يكون ما بعد لو أدنى مما قبلها في كثرة وغيرها، /كقول النبي- صلي الله عليه وسلم-: (التمس ولو خاتماً من حديد)، وكقولهم: اثنتي بدابة ولو حماراً". وجوز س الجر علي ضعف.
ومثال الخامسة: يقال: مررت بزيد، فتقول: أزيد بن عمرو؟
ومثال السادسة: يقال: جئت بدرهم، فتقول: هلاً دينار. حكاهما الأخفش في "المسائل"، قال: وهذا كثير.
ومثال السابعة قولهم: مررت برجل صالح غلا صالح فطالح، علي تقدير: إلا أمر بصالح فقد مررت بطالح، حكاه يونس، وأجاز: امرر بأيهم هو أفضل إن
زيد وإن عمرو، علي معنى: إن مررت بزيد وإن مررت بعمرو. قال س: "وهو قبيح". قال المصنف في الشرح: "وجعل س إضمار الباء بعد إن لتضمن ما قبلها إياها أسهل من إضمار رب بعد الواو، فعلم بذلك اطراده عنده.
وشبيه بما روى يونس ما في البخاري (من كان عنده طعام اثنين فليذهب بثالث، وإن أربعة فخامس او سادس)، ويجوز رفع (أربعة) على حذف المضاف وإقامة المضاف إليه مقامه، وجرها علي حذف المضاف وإقامة المضاف إليه مقامه، وجرها علي حذف المضاف وبقاء عمله، ونظائر الرفع أكثر".
وقوله خلافاً للفراء قال المصنف في الشرح: "ومنعه الفراء في نحو: زيد، لمن قال: بمن مررت؟ والصحيح جوازه كقوله- عليه السلام: (وأقربهما منك باباً) - بالجر- إذ قيل له: فإلي أيهما أهدي؟ وكقوله العرب: خير- بالجر- لمن قال: كيف أصبحت؟ بحذف الباء وبقاء عملها؛ لأن معني كيف: بأي حال؟ فجعلوا معني الحرف دليلاً، فلو لفظ به لكانت الدلالة أقوى، وجواز الجر أولى".
انتهت هذه المسائل التى ذكرها المصنف، وينبغي أن يتثبت في جوازها؛ لأن أصحابنا نصوا علي أنه لا يجوز حذف حرف الجر وإبقاء عمله إلا إذا عوض منه،
وذلك في "باب القسم" و "باب كم" علي ما قرر في "باب كم"، ويقرر في "باب القيم"، وعلي خلاف في ذلك. وجعلوا قول العرب:"خير، عافاك الله"، جواب: كيف أصبحت؟ من النادر الشاذ الذي لا يقاس عليه.
وفي "البسط": "الهمزة لا يحكى بها، ولا يرفع ما بعدها علي لغة بني تميم لأنها حرف، فإذا استثبت بها فلك أن تعيد عامل الرفع وعامل النصب، ولك ان تحذفهما، فتقول في ضربت زيداً، أضربت زيداً؟ وأزيداً، وكذلك في الرفع. فأما من قال: مررت بزيد- فتقول إذا حذفت الفعل: أبزيد؟ ولا يجوز غيره، بخلاف المحكي" انتهى. يعني أنه لا يجوز حذف حرف الجر، فلا تقول: أزيد؟ بخلاف المحكي، فإنه يجوز أن تقول لمن قال مررت بزيد: من زيد، وما ذكره مخالف لما قرره المصنف من جواز: أزيد بن عمرو؟ لمن قال: مررت بزيد، فتحذف حرف الجر بعد الهمزة.
وقال في "البسيط": "إذا أردت استئناف الجملة بأسرها فلا يكون إلا بالهمزة وحدها، نحو: أضربت زيداً؟ " انتهى. ويجوز ب "هل"، فتقول: هل ضربت زيداً؟
-[ص: وقد يجر بغير ما ذكر محذوفاً، ولا يقاس منه إلا علي ما ذكر في باب "كم"، و "كان"، و "لا" المشبهة بإن، وما يذكر في "باب القسم". وقد يفصل في الضرورة بين حرف جر ومجرور بظرف أو جار ومجرور بظرف أو جار ومجرور، وندر في النثر الفصل /بالقسم بين حرف الجر والمجرور، والمضاف والمضاف إليه.]-
ش: مثال الجر بغير ما ذكر محذوفاً قول الشاعر:
وكريمة من آل قيس ألفته
…
حتى تبذخ، فارتقى الأعلام
وقول الآخر:
إذا قيل: أى الناس شر عصابة
…
أشارت كليب بالأكف الأصابع
وقول الآخر:
سألت الفتى المكي ذا العلم ما الذي
…
يحل من التقبيل في رمضان
فقال لي المكي: أما لزوجة
…
فسبع، وأما خلة فئمان
أى: في الأعلام، وإلى كليب، ولخلة.
قال المصنف في الشرح: "وهذا أجود؛ لأن فيه حذف حرف ثابت مثله فيما قيله، ولكن لا يقاس عليه لكون العاطف مفصولاً بأما، وهي تقتضي الاستئناف".
وقال أيضاً في الشرح: "وفي صحيح البخاري قول النبي- صلى الله عليه وسلم:
(صلاة الرجل في جماعة تضعف على صلاته في بيته وسوقه خمسٍ وعشرين ضعفا)، بخفض خمس، على
تفدير الباء. ومثله في (جامع المسانيد) على أحد الوجهين قول النبي- صلى الله عليه وسلم:
(خير الخيل الأدهم الأقرح الأرثم المحجل ثلاث)، على أن يكون المراد: المحجل في ثلاث. والأجود أن يكون أصله: المحجل محجل ثلاث، فحذف البدل، وبقي مجروره، كما فعل بالمعطوف في نحو: ماكل سوداء تمرة ولا بيضاء شحمة)) انتهى. وهذا على عادته بإثبات القواعد النحوية بما روته رواة الحديث، وقد تكلمنا معه في هذه المسألة.
مسألة: قالت العرب: لاه أبوك، يريدون: لله أبوك، حذف لام الجر وأل، وهو شاذ لا يقاس عليه. ثم قالوا: لهي أبوك، وأصله لاه أبوك، قلبوا، وأبدلوا من الألف باء، كما قالوا في قلب قفا: قوف، ووجه: جاه، ردوا اللام إلى موضع العين. وإنما قلبوا إلى الباء لأنهم لما أرادوا أن يكون على بناء لاه لزم تحريك الألف، وكانت إلى حرف الياء أخف، والفتح للبناء كأين، فصارت اللام في لهي فاء الكلمة؛ لأنه لا يصح أن تكون للتعريف؛ لأن الاسم تضمنها، فلا تظهر، ولا تكون الجاوة؛ لأنها تكسر مع المظهر، وهذه مفتوحة. ولا يقال: فتحت لأجل الألف في لاه؛ لأنا نقول: يجب أن تكسر في لهي أبوك لزوال الألف. ولا يقال: لما قلب روعي بناء الكلمة الأولى وأصلها؛ لأنا نقول: لا يراعى في القلب ذلك؛ إذ لا يلزم في القلب أن يكون الثاني على مثال الأول؛ لأنهم قد قالوا في قلب قفا: قوف، فثبت أنها فاء الكلمة. من ((البسيط)).
وزعم ابن ولاد أن قولهم ((لاه أبوك)) محذوف من إله، ثم قالوا لهي أبوك، قلب، وشبهت الألف الزائدة بالمنقلبة عن الأصل. وهذا فاسد؛ لأن الزائدة لا يفعل بها هذا، ولا دليل/عليه.
وزعم المبرد أن المحذوف من لاه أبوك لام التعريف ولام الأصل، والباقية لام الجر، وبقي من الكلمة حرفان أصليان، وهما ما الألف منقلبة عنه والهاء. قال: لأن لام الجر لمعنى، وفتحت للألف، وهذا أولى من أن يقال: حذف حرف المعني- وهو حرف الجر- وأبقى عمله. وأيضاً فإن حذف حرف الجر شاذ جداً خارج عن
القياس، وهو أيضا حرف معنى، فلا يحذف. وأما اللام الأصلية فتحذف تخفيفا لأنها لا تحرز في الموضع معنى، وفد يحذفون من الأصول كثيرا، كيد ودم، وأما لام التعريف فلا معنى تحرزه في الموضع؛ لأن الكلمة قد صارت علما، فلا تفتقر إليها.
ورد على المبرد بقولهم: لهي أبوك؛ إذ كان ينبغي أن ترجع اللام لأصلها من الكسر، وقد نص س على أن هذه اللام الباقية هي الأصلية، وأن المحذوف لام الجر ولام التعريف. وقد استدل ل ((س)) ببناء لهي، ولا وه لبنائه إلا تضمنه معنى حرف الجر المحذوف، كما بنوا أمس لتضمنه معنى لام التعريف.
ولأبي العباس أن يقول: بني لكثرة ما تصرف فيه من الإخراج عن وضعه، وإذا كانوا يبنون ((أيهم)) لخروجه عن نظائره فأحرى هذا، وكان بناؤه على الفتح تخفيفاً؛ إذ كان آخره باء.
وقوله ولا يقاس منه إلا على ما ذكر في ((باب كم)) ذكر في "باب كم" أنه يجوز الجرب ب ((من)) مضمرة في تمييز الاستفهامية إذا دخل عليها حرف جر؛ خلافا لأبي إسحاق؛ إذ الجر فيه عنده بإضافة كم إليه، وأنه يجوز جر تمييز الخبرية بإضمار من على مذهب الفراء.
وقوله و ((كان)) مثل المصنف هذا بقوله ((ولا سابق شيئا))، وذلك في بيت زهير:
بدا لي أني لست مدرك ما مضى
…
ولا سابق شيئا إذا كان جائيا
وتقدم لنا الكلام علي هذا البيت، وأنه من العطف علي التوهم، وأن العطف علي التوهم لا ينقاس، فقياس المصنف ذلك ليس بجيد.
وقوله و "لا" المشبهة بإن مثل المصنف ذلك في الشرح بقوله:
إلا رجل جزاه الله خيراً ..............................
وهذا من الندور والشذوذ بحيث لا يقاس عليه، والتقدير: ألا من رجل. وهذا المصنف كثيراً ما يتبع الشواذ والنوادر، ويقيس عليها.
وقوله وما يذكر في بابا القسم هو لفظ الجلالة دون عوض، ويأتي ذكر الخلاف للكوفيين إن شاء الله.
وقوله وقد يفصل إلى ومجرور مثال الفصل بالظرف ما أنشده أبو عبيدة:
إن عمراً لا خير في- اليوم- عمرو
…
إن عمراً مخبر الأحزان
ومثاله بالجار والمجرور قوله:
مخلقة، لا يستطاع ارتقاؤها
…
وليس إلي- منها- النزول سبيل/ وقوله:
رب- في الناس- مؤسرٍ كعديم
…
وعديم يخال ذا إيسار
وقول الآخر:
يقولون: في الأكفاء أكبر همه
…
ألا رب- منهم- من يعيش بمالكا
وأبعد من ذلك الفصل بالمفعول بينهما، قال الفرزدق:
وغني لأطوي الكشخ من دون من طوى
…
وأقطع بالخرق الهبوع المراجم
أي: وأقطع الخرق بالهبوع المراجم.
وقوله وندر في النثر إلي آخره: حكى الكسائي الفصل بين الجار والمجرور
بالقسم، نحو: اشتريته بوالله درهم، وهذا غلام- والله- زيد. وحكى أبو عبيدة: إن الشاة تعرف ربها حين تسمع صوت- والله- ربها. انتهى.
ولا يجوز الفصل بالقسم بين رب ومجرورها، وأجاز الأحمر الفصل به بينها وبين المجرورها النكرة، نحو: رب- والله- رجل عالم لقيت. والأحمر هذا هو علي بن المبارك الاحمر الكوفي تلميذ الكسائي ومسائل سيبوية مع الفراء في المجمع الذي جرى فيه ذكر المسألة الزنبورية.
ووهم ابن عصفور، فنسب هذا المذهب لأبي محرز خلف الأحمر البصري، فقال:"وأجاز خلف الأحمر". ووهمه في ذلك إطلاقهم الأحمر، فظن أنه خلف. ولا يبعد ما قاله الأحمر من جواز الفصل بين رب ومجرورها النكرة بالقسم؛ لأنه قد فصل به بين الباء ومجرورها في النثر مع أن الباء علي حرف واحد، ورب ثلاثية الوضع. وأيضاً فقد فصل بينهما بالجار والمجرور غير القسم، فلأن يفصل بالقسم أقرب، ولكن الاحتياط ألا يقدم علي ذلك إلا بسماع من العرب.