المَكتَبَةُ الشَّامِلَةُ السُّنِّيَّةُ

الرئيسية

أقسام المكتبة

المؤلفين

القرآن

البحث 📚

‌ باب القسم - التذييل والتكميل في شرح كتاب التسهيل - جـ ١١

[أبو حيان الأندلسي]

الفصل: ‌ باب القسم

-[ص:‌

‌ باب القسم

وهو صريح وغير صريح. وكلاهما جمله فعلية أو اسمية. فالفعلية غير الصريحة في الخبر كعلمت وواثقت مضمنة معناه، وفي الطلب كنشدت وعمرتك، وأبدل من اللفظ بهذه: عمرك الله بفتح الهاء وضمها، وقعدك الله، وقعيدك الله كما أبدل في الصريحة من فعلها المصدر أو ما بمعناه.]-

ش: القسم استعمل منه فعل غير جار عليه، وهو أقسم، كأشبه وأثنى من الشبه والثناء. ويردافه الخلف، واستعمل منه فعل جار، تقول: حلف. والإيلاء: واستعمل منه فعل جار، قالوا: آلى. والأولية: وليس له فعل جارٍ، إنما الفعل آلى.

اليمين: ولم يستعمل منه فعل لا جارٍ ولا غيره؛ لأنه ليس بمصدر في الأصل فيشتق منه، وإنما هو اسم للجارحة، ثم سمي القسم يميناً؛ لأنهم كانوا إذا تحالفوا أكدوا بأيمانهم بضرب كل واحد منهم بيمينه على يمين صاحبه تأكيداً للعقد؛ حتى سمي الحلف يميناً.

وينحصر الكلام في هذا الباب في القسم، وفي المقسم به، وفي حروفه، وفي المقسم عليه، وفي حروفه، وفي المقسم عليه، وفيما يتلقى به القسم.

فأما القسم فهو جملة تؤكد بها أخرى خبرية غير تعجبية. /فقولنا "جملة" يعني في اللفظ، نحو: أقسمت بالله، أو في تقدير، نحو: بالله، التقدير: أقسمت بالله.

وتشمل الجملة الإنشائية، نحو: أقسمت، والخبرية، نحو: علمت لزيد قائم، وأشهد لعمرو خارج، فالنحويون يقولون في هذا إنه جملة قسمية، والخبرية، نحو: علمت لزيد قائم، وأشهد لعمرو خارج، فالنحويون يقولون في هذا إنه جملة قسمية، وهي جملة خبرية تفيد الإخبار بالعلم وانك شاهد وعالم، لكنها لما جاءت توكيداً وتثبيتاً لمعنى الجملة التي بعدها سميت قسماً.

ص: 329

وقولنا "تؤكد بها أخرى" احتراز من قولنا: زيد قائم زيد قائم، فإنه يصدق عليها أنها جملة، لكنها ليست أخرى، بل هي هي، وقولنا "خيرية" احتراز من غير الخبرية؛ لأنها لا تقع مقسماً عليها. وقولنا "غير تعجبية" احتراز من التعجبية، فإنها خبرية تحتمل الصدق والكذب عند بعضهم، وأما من لا يجعلها خبرية فلا يحتاج إلي ذكرها.

والمقسم به كل اسم معظم إن كان المقسم يريد تحقيق ما أقسم عليه وتثبيته، فإذا كان مقصوده الحنث أقسم بغير معظم، نحو قوله:

وحياة هجرك غير معتمدٍ

إلا ابتغاء الحنث في الحلف

ما أنت أحسن من رأيت، ولا

كلفي بحبك منتهى كلفي

أقسم بحياة هجرها، وهو غير معظم عنده، رغبه في أن يحنث فيموت هجرها. قال ابن عصفور:"إلا أن القسم علي هذا الطريق يقل".

وأما حروفه، والمقسم عليه، وما يتلقى به- فيأتي مفصلاً في شرح كلام المصنف إن شاء الله.

وقسم المصنف القسم إلي صريح وغير صريح، قال: "والقسم الصريح ما يعلم بمجرد لفظه كون الناطق به مقسماً، كأحلف بالله، وانا حالف بالله، ولعمر الله، وايمن الله. وغير ذلك الصريح ما ليس كذلك، نحو: علم الله، وعاهدت، وواثقت، وعلي عهد الله، وفي ذمتي ميثاق، فليس بمجرد النطق بشيء من هذا الكلام يعلم كونه قسماً بل لقرينة، كذكر جواب بعده، نحو: علي عهد الله

ص: 330

لأنصرن دينه، وفي ذمتي ميثاق لا أعين ظالما، وكفوله:(وَلَقَدْ عَلِمُوا لَمَنِ اشْتَرَاهُ مَا لَهُ فِي الآخِرَةِ مِنْ خَلاقٍ)، وكقول الشاعر:

إني علمت على ما كان من خلق

لقد أراد هواني اليوم داود

وكقول الآخر:

أرى محرزا عاهدته ليوافقن

فكان كمن أغريته بخلاف

وقول الآخر:

واثقت مية لا تنفك ملغية

قول الوشاة، فما ألغت لهم قيلا

ومنه (وَإِذْ أَخَذَ اللَّهُ مِيثَاقَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ لَتُبَيِّنُنَّهُ لِلنَّاسِ)، و (نَشْهَدُ إِنَّكَ لَرَسُولُ اللَّهِ).

ويدل على أنه قسم كسر إن بعده، وتسميته يمينا في قوله تعالى:(اتَّخَذُوا أَيْمَانَهُمْ جُنَّةً). ومنه قراءة ابن عباس: (شَهِدَ اللَّهُ أَنَّهُ). وقال الفراء في (وَتَمَّتْ كَلِمَةُ رَبِّكَ لَأَمْلأَنَّ جَهَنَّمَ)((صار قوله (وَتَمَّتْ كَلِمَةُ رَبِّكَ) يمينا، كما

ص: 331

تقول: حلفي لأضربنك، وبدا لي لأضربنك، وكل ما هو بتأويل: بلغني، وقيل لي، وانتهى إلي_ فاللام تصلح فيه)) انتهى.

وقال س: ((يَعْلَمُ اللُّه)). قال الأستاذ أبو علي: ((ليس في هذا قسم لا ملفوظ به ولا مقدر، لكنه لما أشبه القسم من جهة أنه تأكيد للخبر الذي بعده أجيب بجوابه)).

قال ابن خروف: ((دخول معنى القسم في علم ويعلم لا يكون إلا مع اسم الله تعالى، ولا يؤخذ ذلك إلا بالسماع)).

وما ضمن معنى القسم من نحو علمت وأشهد فقيل: الجملة في موضع المعمول لعلمت وأشهد. وقيل: ليست معمولة؛ لأن القسم لا يعمل في جوابه، وهذا مضمون معناه، فلا يعمل، فإن كانت معلقة ولم تضمن معنى القسم فهي في موضع معمول ولا بد.

وقوله وفي الطلب كنشدت قال المصنف في الشرح: ((ومن القسم غير الصريح نشدتك وعمرتك، فللناطق بهما أن يقصد القسم وألا يقصده، فليس مجرد النطق بهما يدل على كونه قسما، لكن يعلم كونه قسما بإيلائه (الله)، نحو: نشدتك الله، وعمرتك الله، ولا يستعملان إلا في قسم فيه طلب، نحو: نشدتك الله إلا أعنتني، وعمرتك الله لا تطلع هواك.

ويستعمل أيضا في الطلب عزمت وأقسمت، لذلك قلت (كنشدت) تنبيها على أن لنشدت من الأفعال أخوات سوى عمرت)) انتهى. وتسمية هذا قسما لم أره إلا لهذا المصنف.

ص: 332

وأما أصحابنا فالجملة المقسم عليها لا تكون إلا خبرية عندهم كما قررنا، فإن كانت غير خبرية لم تقع جوابا للقسم، لا يجوز أن تقول: بالله هل قام زيد، فأما قول الشاعر:

بالله ربك إن دخلت فقل له

هذه ابن هرمة واقفا بالباب

وقول الآخر:

بدينك هل ضممت إليك ليلى

وهل قبلت قبل الصبح فاها

فليسا بقسمين؛ لأن ما بعد المجرور ليس جملة خبرية، والمراد استعطاف المخاطب، وتقديره: أسألك بدينك، وأسألك بالله، أضمروا الفعل لدلالة المعنى عليه.

وقد يحذفون الباء وينصبون ضرورة، وقال:

أقول لبواب على باب دارها

أميرك، بلغها السلام، وأبشر

وفي بعض شروح الكتاب وقد ذكر عمرتك وعمرك وقعدك وقعدك وقعيدك ما نصبه: ((وزعم بعض النحويين أن هذا ليس بقسم كونه لم يجئ في كلام العرب وقوع الحرق الخاص بالقسم، نحو التاء، لم يقولوا: تالله هل قام زيد، وأن الفعل المختص بالقسم

ص: 333

لم تعلق به الباء، فلا يقال: أقسم/ بالله هل قام زيد، وأن القسم لا يخلو من حنث أو بر، ولا يتصور ذلك إلا فيما يصح اتصافه بالصدق والكذب.

فأما قوله:

أجهالا تقول بني لؤي

لعمرك أبيك أم متجاهلينا

وقول الآخر:

أيا خير حي في البرية كلها

أبالله هل لي في يميني من عقل

فف

ف ((لعمر أبيك)) من ألفاظ القسم الخاصة به، وقد جاءت في جملة الاستفهام، و ((بالله)) أتي بعده بجملة استفهامية.

والجواب أن جواب ((لعمر أبيك)) محذوف، تقديره: لتخبرني، وحذف لدلالة الاستفهام عليه؛ لأن المستفهم إنما يستفهم ليخبر. ولم يجعل ((أبالله)) يمينا، وإنما معناه: أسألك بالله هل لي في يميني إن حلفت أنك خير حي من عقل؟ فإذا تقرر هذا فقولهم: نشدتك الله، وعمرتك الله، وقعدك الله_ ليس بقسم؛ لأن ما استفهام، وأمر، ونهي، وأن، وإلا، ولما بمعنى إلا، والأصل في ذلك نشدتك بالله، إي: سألتك به، وطلبت منك به، لأنه يقال نشد الرجل الضالة: طلبها. وكان جوابها تلك لأن الأمر والنهي والاستفهام كلها بمعنى الاستدعاء. وكذلك أن؛ لأنها في صلة الطلب، كقولك: نشدتك الله أن تقوم، وكذلك: نشدتك الله قم، ونشدتك الله لا تقم، ومن كلامهم: أنشدك إلا فعلت، وقال:

ص: 334

عمرتك الله إلا ما ذكرت لنا

هل كانت جارتنا أيام ذي سلم

وقال آخر:

عمرتك الله الجليل، فإنني

ألوي عليك لو أن لبك يهتدي

وقد يحذف هذا الفعل، نحو قوله:

قالت له: بالله يا ذا البردين

لما غنثت نفسا أو اثنين

وإذا كان في الجواب ((إلا)) فالفعل قبلها بصورة الموجب، وهو منفي في المعنى. وقد تقدم كلامنا على ((نشدتك إلا فعلت)) في باب الاستثناء.

قال المصنف في الشرح: ((ومعنى نشدتك الله: سألتك مذكرا الله، ومعنى عمرتك الله: سألت الله تعميرك، ثم ضمنا معنى القسم الطلبي)) انتهى.

فإن عنى المصنف أنه تفسير معنى لا إعراب فيمكن، وإن عنى تفسير إعراب فليس كذلك، بل نشدتك الله انتصاب الجلالة فيه على إسقاط الخافض، لما سقط وصل إليه الفعل فنصبه، فليس منصوبا بمذكر. وأما عمرتك الله فلفظ الجلالة منصوب بإسقاط الخافض، ووصل الفعل إليه، /فنصبه، والتقدير: عمرتك بالله، أي: ذكرتك بالله تذكيرا يعنر القلب ولا يخلو منه.

وقوله وأبدل من اللفظ بهذه عمرك الله بفتح الهاء وضمها الإشارة بهذه إلى قولك عمرتك، وعمرك مصدر على حذف الزوائد، والتقدير: تعميرك الله، أي:

ص: 335

تذكيرك بالله، قال الشاعر:

أيها المنكح الثريا سهيلا

عمرك الله، كيف يلتقيان

وقال آخر:

عمرك الله_ يا سعاد_ عديني

بعض ما أبتغي، ولا تؤيسيني

وقال آخر:

يا عمرك الله إلا قلت صادقة

أصادقا وصف المجنون أم كذبا

وقال آخر:

عمرك الله ساعة حديثنا

ودعينا من ذكر ما يؤذينا

وقال آخر:

عمرك الله، أما تعرفني

أنا حراث المنايا في الفزع

وحكى بعض الثقات عن أعرابي: عمرك الله، برفع الله. قال أبو علي:((والمراد عمرك الله تعميرا، فأضيف المصدر إلى المفعول، ورفع به الفاعل)).

ص: 336

وقال الأخفش في ((الأوسط)): ((أصله: [أسألك] بتعميرك الله، وحذف زوائد المصدر والفعل والباء، فانتصب ما كان مجرورا بها)).

ويدل على ما قاله الأخفش إدخال باء الجر عليه، قال عمر بن أبي ربيعة.

بعمرك هل رأيت لها سميا

فشاقك، أم لقيت لها خدينا

وفي (اللباب): إذا قلت عمرك الله بنصب اسم الله ففي إعرابه وجهان: أحدهما: أن التقدير: أسألك تعميرك الله، أي: باعتقادك بقاء الله، فتعميرك مفعول ثان، والله منصوب بالمصدر.

والثاني: أن يكونا مفعولين، أي: أسأل الله تعميرك)) انتهى.

وحكى ابن الأعرابي: عمرك الله، برفع راء عمرك الله، وعلى النصب رواه أهل العربية.

وفي ((البسيط)): ((وأما ما لم يتصرف فنحو: عمرك الله، وقعدك الله وريحانه، وحنانيك، وهو على الدعاء، أي: عمرك الله، فقيل: هو مصدر محذوف الزوائد، كأنه بدل من قولك: تعميرك الله، وفعله عمر، وهو العامل فيه. ومعنى عمرك الله: سألت الله أن يعمرك تعميرا مثل تعميرك إياه نفسك، أي: مثل سؤالك الله تعمير نفسك، فحذف العامل ومعموله_ وهو التعمير_ وصفته، وأقيم التعمير محذوف الزوائد بمنزلة ذلك، ثم حذفت نفسك، /وأبدلت من إياه الظاهر، وهو اسم الله تعالى، فقلت: عمرك الله، فالكاف للفاعل. وهو تقدير أبي على. وربما حذف

ص: 337

المفعول الثاني؛ لأنه بمنزلة أعطيت، وجاز بناء المصدر على حذف الزوائد كما أنشد أبو علي:

فإن يبرأ فلم أنفث عليه

وإن يهلك فذلك كان قدري

أي: تقديري. ومنه على رأي: قيد الأوابد، أي: تقييد الأوابد)) انتهى.

ولا يقال هو قسم بمنزلة قولك: عمر الله لأفعلن، كما ذهب إليه بعضهم؛ لأن هذا مصدر عمر الرجل يعمر: إذا امتد بقاؤه. ولم يستعملوا في القسم إلا المفتوح، والأول من التعمير، ولا قسم فيه. ويدل على ذلك أنه لا جواب له لا ظاهرا ولا مقدرا، وإنما أنت داع له، كقولك:

...........................

عمرك الله كيف يلتقيان

و:

عمرتك الله الجليل .......

...........................

ويجوز: لعمر الله، وعمر الله لقد كان كذا، ولا يجوز: لعمرك الله.

وقد أجاز أبو العباس وأبو سعيد أن ينتصب هذا أيضا على تقدير القسم، كأنه قال: أقسم عليك بعمرك الله، أي: بتعميرك الله، أي: بإقرارك له بالدوام والبقاء، ويكون محذوف الجواب، فتكون الكاف في موضع رفع.

قيل: ويحتمل أن يكون نصبا على معنى: أسألك تعمير الله إياك فحذف الفاعل، وأضاف إلى المفعول، وانتصب لفظ الجلالة بإضمار فعل آخر. والظاهر من كلام س أنه مصدر موضوع موضع الفعل على أنه مفعول به، كما قال المبرد.

ص: 338

وقال بعض أصحابنا: عمرك الله بمعنى تعميرك، وفعل يأتي بمعنى التفعيل، قال:

فإن ينجو فلم أنفث عليه

وإن يهلك فذلك كان قدري

أي: تقديري. ومعناه: سألتك بعمرك كما تسأل الله بعمره، فهو مصدر تشبيهي على حد: ضربتك ضرب زيد، فالمصدر مضاف إلى الفاعل، والجلالة مفعول، وكأنه قال: سؤالك الله بعمره، أي: ببقائه، فعمرتك متعد إلى واحد، فيكون عمرك الله كذلك.

فإذا قلت عمرتك الله فالكاف مفعولة، والجلالة منصوب بمصدر، كأنه قال:

عمرك الله، ويكون من حذف الموصول وإبقاء الصلة، ولا يجوز إلا في الشعر، هكذا يتنزل إعرابه، وهذا هو المعنى. وقد يكون ((عمرتك الله)) متعديا إلى اثنين، كأنه قال: سألت الله تعميرك مثل ما تسأل الله تعميرك، فيكون ((عمرك الله)) على هذا يحتمل وجهين:

أحدهما: أن تكون الكاف مضافا إليها على أنها فاعلة، وكأنك قلت: سؤالك الله عمرك، ويحذف المفعول الثاني.

والثاني: أن تكون الكاف مفعولة، وكأن المعنى: سؤالك الله نفسك، أي: حفظ نفسك، ثم قدمت نفسك، فاتصل، وكأنك قلت: تعميرك أنت الله.

وأما ((قعدك الله)) فمتعد إلى اثنين، والمعنى: سألت الله تقعيدك، أي حفظك، كما تسأل الله أنت حفظك، وفسر/ القعيد بالحفيظ؛ لأن اللغة نطقت بذلك، قال تعالى:(عَنِ الْيَمِينِ وَعَنِ الشِّمَالِ قَعِيدٌ (17)

مَا يَلْفِظُ مِنْ قَوْلٍ إِلَّا لَدَيْهِ رَقِيبٌ عَتِيدٌ)، القعيد: الحافظ. وهذا مذهب أبي علي الفارسي.

ص: 339

وقوله وقعدك الله وقعيدك قال المصنف في الشرح: ((قيل: هما مصدران بمعنى المراقبة، كالحس والحسيس. وانتصابهما بتقدير أقسم أي: أقسم بمراقبتك الله. وقيل: قعد وقعيد بمعنى الرقيب الحفيظ، من قوله تعالى: (عَنِ الْيَمِينِ وَعَنِ الشِّمَالِ قَعِيدٌ)، أي: رقيب حفيظ. ونظيرهما خل وخليل، وند ونديد. وإذا كانا بمعنى الرقيب والحفيظ فالمعنى بهما الله تعالى، ونصبهما بتقدير أقسم معدى بالباء، ثم حذف الفعل والباء، فانتصبا، وأبدل منهما الله)) انتهى.

وقال أبو الحسن بن سيده: ((المعنى: أسألك بقعدك الله، وتقعيدك الله ومعناه: بوصفك الله بالثبات والدوام، وهو مأخوذ من القواعد التي هي الأصول لما يلبث ويبقى، ولم يصرف منه فيقال: قعدتك الله، كما قالوا: عمرتك الله؛ لأن العمر في كلام العرب معروف، وهي كثيرة الاستعمال له في اليمين، فلذلك تصرف، وكثر مواضعه)) انتهى. وكلام ابم سيده يدل على أنهما مصدران.

وفي ((البسيط)): ويدل على القسم فيها قولهم: قعدك الله لأفعلن. ويحتمل أن يكون بمعنى عمرك الله في الدعاء، أي: أثبتك الله، وإن لم يتكلم له بفعل من لفظه بمنزلة بهرا المقدر له.

وهو عند س بمنزلة: عمرك الله، وكأنه وضع موضع فعل، كأنه قيل: قعدتك الله، أي: سألتك ببقاء الله وثباته.

وعن الأزهري: قالت قريبة الأعرابية:

ص: 340

قعيدك، عمر الله، يابنت مالك

ألم تعلمينا نعم مأوى المحصب

قال الأزهري: ((ولم أسمع بيتا جمع فيه بين العمر والقعيد إلا هذا)).

وروى أبو عبيد عن الكسائي: يقال: قعدك الله، مثل: نشدتك الله. وقال أيضا: قعدك الله، أي: الله معك. ومثله قعيد، وقيل: القعيد: المقاعد، كأنه قال: أنت مقاعد الله، أي: هو معك. وقال أبو عبيد: يقال: قعيدك لتفعلن كذا. وقال أبو الهيثم: قعيدك وقعدك بفتح القاف، ولا أعرف كسرها. وأنشد:

بقعدك ألا تسمعيني ملامة

.............................

البيت. وأنشده الأصعمي: قعيدك.

ويقال: قعدت الرجل وأقعدته: خدمته، وقال الفرزدق:

قعيدكما الله الذي أنتما له

ألم تسمعا بالبيضتين المناديا

وقال قيس العامري:

قعيدك رب الناس، يا أم مالك

ألم تعلمينا نعم مأوى المحصب

/ وقال آخر:

قعدك الله، هل علمت بأني

في هواك استطبت كل معنى

ص: 341

وقال آخر:

فقعدك ألا تسمعيني ملامة

ولا تنكئي قرح الفؤاد فييجعا

وقوله كما أبدل في الصريحة من فعلها المصدر أو ما ما بمعناه فالمصدر نحو قسم وألية، والذي بمعناه يمين وقضاء ويقين وحق وغير ذلك، قال الشاعر:

قسما لأصطبرن على ما سمتني

ما لم تسومي هجرة وصدودا

وقال:

ألية ليحيقن بالمسيء إذا

ما حوسب الناس طرا سوء ما عملا

وقال:

يمينا لنعم السيدان، وجدتما

على كل حال من سحيل ومبرم

وحكى ثعلب أن العرب تنصب قضاء الله، وتجعله قسما، فتقول على هذا: قضاء الله لأقومن، وقال:

ويقينا لأشربن بماء

وردوه فهاجلا وتئيه

وقال تعالى: (فَالْحَقُّ وَالْحَقَّ أَقُولُ (84) لَأَمْلأَنَّ). فهذه كلها نابت مناب أقسم وأحلف.

ص: ويضمر الفعل في الطلب كثيرا استغناء بالمقسم به مجرورا بالباء، ويختص الطلب بها، وإن جر في غيره بغيرها حذف الفعل وجوبا، وإن حذفا معا نصب المقسم به، وإن كان ((الله)) جاز جره بتعويض ((آ)) ثابت الألف، أو ((ها)) محذوف الألف أو ثابتها، مع وصل ألف ((الله)) وقطعها، وقد تستغنى في التعويض

ص: 342

بقطعها، ويجوز جر ((الله)) دون عوض، ولا يشارك في ذلك، خلافا للكوفيين، وليس الجر في التعويض بالعوض، خلافا للأخفش ومن وافقه.

ش: مثال إضمار الفعل: بالله لا تخالف، بالله وافق، التقدير: نشدتك بالله.

وقوله ويختص الطلب بها يعني بالباء، فلا يستعمل فيه الواو والتاء واللام من حروف القسم.

وقوله وإن جر في غيره بغيرها أي: في غير الطلب بغير الباء من الحروف_ وهي الواو والتاء واللام_ حذف الفعل وجوبا قال تعالى: (وَاللَّهِ رَبِّنَا مَا كُنَّا مُشْرِكِينَ)، (قَالُوا تَاللَّهِ لَقَدْ آثَرَكَ اللَّهُ عَلَيْنَا)، من ربي إنك لأشر، لله لا يؤخز الأجل، وأنشد س لعبده مناة الهذلي:

لله يبقي على الأيام ذو حيد

بمشمخر، به الظيان والآس

وهذا الذي ذكره المصنف من أنه يضمر الفعل وجوبا إذا جر المقسم به بغير الباء في بعضه خلاف: ذهب ابن كيسان إلى أنه يجوز إظهار الفعل مع الواو، فأجاز: حلفت/ والله لأقومن، وأقسمت والله لأخرجن. وهذا لا يحفظه البصريون، فإن جاء تؤول على أن [يكون]((حلفت)) كلاما تاما، ثم أتى بعد ذلك بالقسم، ولا يجعل ((والله متعلقا ب ((حلفت)).

ص: 343

وقوله وإن حذفا معا نصب المقسم به أي: وإن حذف فعل القسم وحرف الجر نصب المقسم به، وهو أعلم من أن يكون المقسم به لفظ الجلالة أو غيره. وظاهر كلام المصنف نصب المقسم به فقط.

وذكر بعض أصحابنا أنه يجوز فيه وجهان: الرفع على الابتداء، والخبر محذوف. والنصب بإضمار فعل القسم، لما حذف حرف الجر وصل إليه الفعل، فتقول: يمين الله لأفعلن، وعهد الله لأقومن، بالرفع، ومن الرفع قوله:

إذا ما الخبز تأدمه بلحم

فذاك، أمانة الله، الثريد

وقيل: هذا البيت مصنوع، صنعه النحويون. وتقول: يمين الله لأقومن، وقال:

فقلت: يمين الله أبرح قاعدا

ولو قطعوا رأسي لديك وأوصالي

روي برفع يمين ونصبه. وقدر بعضهم الرفع على أنه خبر مبتدأ محذوف، أي: قسمي يمين الله.

وزعم ابن عصفور في ((شرح الجمل)) تابعا لابن خروف أنه يجوز فيه إذا نصب أن ينتصب بفعل القسم كما ذكرناه، وأن ينتصب بفعل مضمر يصل بنفسه، تقديره: ألزم نفسي يمين الله.

ص: 344

وإذا نصبت لفظ ((الله))، فقلت: الله لأفعلن_ فيجوز عند ابن خروف أن يكون الأصل: ألزم نفسي يمين الله لأفعلن، ثم حذف المضاف، وأقيم المضاف إليه مقامه.

ورد هذا المذهب بأن ((ألزم)) ليس بفعل قسم، وتضمين الفعل معنى القسم ليس بقياس، وساغ حذف الحروف ووصول فعل القسم بنفسه لكثرة الاستعمال وطول الكلام بالجواب؛ كما ساغ حذف الفعل نفسه لذلك، ولأنه لما قال في كلامهم إضمار الفعل المتعدي بحرف الجر وإبقاء الحرف في غير هذا الباب حذفوا الحرف؛ وأوصلوا الفعل المضمر بنفسه، ولذلك إذا أظهروا لم يحذفوا الحرف. وشبه س ذلك بحذف الحرف في قولهم: إنك ذاهب حقا، والأصل بحق، فحذف الحرف، ونصب الاسم ب (ذاهب). ووجه الشبه أن المحلوف به يؤكد به الحديث كما يؤكد ب (حق) في: إنك ذاهب حقا

وقال الأستاذ أبو علي: ينبغي أن ينصب بفعل من المعنى، كما قال الزجاجي: ألزم نفسي يمين الله. ويضعف أن يقال: ما كان يتعدى إليه بالحرف أوصل بنفسه كما قال الفارسي؛ لأنه لا يعمل ظاهرا إلا بحرف، فكي يكون مضمرا أقوى منه مظهرا وحجة الفارسي في ذلك أن يقول: قد أتسع في هذا الباب كثيرا، ولكن الاولى ما قلنا.

وذكر ابن عصفور في بعض تصانيفه أنه إذا حذف الحرف /ولم يقدر لزم نصب المقسم به بفعل القسم المضمر بعد إسقاط الحرف كما ذكره أبو علي؛ فإذا قلت: الله لأقومن، أو يمين الله لأخرجن، فالتقدير: أحلف الله، وأحلف يمين.

ص: 345

وفي قول المصنف ((وإن حذفا معا)) دلالة على جواز حذف الفعل والحرف. وليس كذلك، بل إنما يجوز حذف الحرف بشرط ألا يدخل الكلام معنى التعجب، فإذا قلت متعحبا: تالله لا يبقى على الأيام أحد، أو لله_ لم يجز حذف التاء ولا حذف اللام.

وقوله وإن كان ((الله)) _ أي: وإن كان المقسم به لفظ ((الله)) _ جاز جره بتعويض ((آ)) ثابت الألف قال في الشرح: ((جاز جره مع تعويض همزة مفتوحة تليها ألف، نحو: الله لأفعلن)). وأصحابنا يعبرون عن هذه الهمزة بهمزة الاستفهام، وليس استفهاما حقيقة.

وقوله أو ((ها)) محذوف الألف أو ثابتها مع وصل الألف وقطعها فتجيء صور أربع: هالله، ها الله، هألله، ها ألله: وأصحابنا يعبرون عن هذا ب ((ها)) للتنبيه.

وقوله وقد يستعنى في التعويض بقطعها يقول القائل: والله لأخرجن، فتقول: أفألله لتخرجن؟ وإن شئت: فألله، بغير همزة استفهام، فهمزة القطع عوض من الحرف 0

ولا تستعمل هذه الأعواض إلا في اسم الله تعالى، ولا يجوز معها إلا الجر، فلو جئت بشيء من هذه الأعواض الثلاثة فيما يقسم به من غير لفظ ((الله))، وحذفت حرف الجر الموضوع للقسم_ لم يكن إلا النصب، تقول: آلعزيز لأفعلن، ومن كلامهم: لا ها الله، وإي ها الله، يريدون، وإي والله. ومن مد، فقال: ها الله، فجمع بين الساكنين لأن الثاني مشدد أجراه مجرى دابة. ومن حذف

ص: 346

الألف فهو القياس؛ لأن العرب لا تجمع بين ساكنين في الوصل والأول حرف مد ولين والثاني مشدد إلا إذا كانا في كلمة واحدة. ومن قال ها ألله فإنه لما قطع همزة الوصل فليس بقياس، وقد حكاه الجرمي، لكنه توهم أن همزة الوصل قد ذهبت ولم تقطع، فحذف.

وقوله ويجوز جر ((الله)) دون عوض حكى س: الله لأفعلن، يريد: والله وحكى الأخفش في معانيه أن من العرب من يجر اسم الله مقسما به دون جار موجود ولا عوض. وذكر غيره من الثقات أنه سمع بعض العرب يقول: كلا الله لأخرجن، يريد: كلا والله. وأنشدوا على جره دون حرف ولا عوض قول الشاعر:

ألا رب من تغتشه_ الله_ ناصح

ومؤتمن بالغيب غير أمين

وأما رفعه فأجازه بعضهم، تقول: الله لأقومن. ومنعه بعضهم. قيل: لأنه لا خبر له. / وليس بشيء؛ لأنه يصح تقدير خبر له، كأنه قال: الله قسمي به.

قال صاحب ((البسيط)): وإنما امتنع لأن هذا الموضع للفعل، فلا يكون فيه من الاسم إلا مافيه معنى الفعل، كباب سقيا ورعيا، ولا تقع فيه الجملة التي مرفوعها ليس بمعنى الفعل ولا صرح فيه بالفعل إلا سماعا، نحو إيمن الله. وقد أجازه الكوفيون في غيره.

ص: 347

وقد لحق هذا اللفظ أنواع من التغيير في القسم، قالوا: وله لا أفعل، ووله لا أفعل، كما غيروا في: لله أبوك، قالوا: لاه أبوك، ووله أبوك، ولهي أبوك، كما قالوا: له ربي، أي: الله ربي.

وقوله ولا يشارك في ذلك، خلافا للكوفيين قال المصنف في الشرح: ((زعم بعض أئمة الكوفة أن الأسماء كلها إذا أقسم بها محذوفا منها الواو تخفض وترفع، ولا يجوز النصب إلا في حرفين، يعني: كعبة الله، وقضاء الله، وأنشد:

لا، كعبة الله، ما هجرتكم

*

إلا وفي النفس منكم أرب

ومذهب البصريين أن المقسم به إذا حذف جاره بلا عوض، ولم ينو المحذوف_ جاز نصبه كائنا ما كان)).

وقال بعض شيوخنا: ولا يجوز إذا أسقطت الفعل إلا النصب في جميع الأسماء. يعني إذا حذف حرف الجر. قال: إلا في اسم الله، فيجوز أن يحذف حرف الجر ويبقي مجرورا، ولا ينبغي أن يقاس عليه جميع الأسماء التي يقسم بها؛ لأن لهذا الاسم اختصاصا في هذا الباب بأشياء لا تكون لغيره لكثرة ما استعملته العرب، فمنها ما ذكرته من حذف حرف الجر وإبقاء عمله.

وجاء الزمخشري، وقاس عليه غيره، وأجاز في جميع ما أقسم به من الأسماء أن يحذف حرف الجر ويبقي مخفوضا. وليس هذا بصحيح، إنما يوقف عند ما سمع، ولا يتعدى؛ إذ لم يجئ على القياس.

ص: 348

وفي ((البسيط)) ما معناه: يجوز الجر في اسم الله من غير عوض، وأما في غيره فلا يجوز على رأي البصريين، ويجوز على رأي الكوفيين وبعض البصريين.

وفي ((الإفصاح)): حكى أبو عمر أن من العرب من يضمر حرف الجر مع كل قسم، كما أضروا رب مع الواو وغيرها.

وقوله وليس الجر إلى آخره: ذكر الأخفش في ((الأوسط)) أن الجر بالعوض، وهو اختيار جماعة، منهم من المتأخريم ابن عصفور وابن أبي الربيع.

وانتصر لهذا القول بأنه شبيه بتعويض الواو من الباء، والتاء من الواو، ولا خلاف في أن الجر بالواو والتاء، فكذلك ينبغي أن يكون الجر بهذه الأعواض.

قال المصنف في الشرح: ((والأصح كون الجر بالحرف المحذوف وإن كان لا يلفظ به، كما كان النصب بعد الفاء والواو وأو وكي الجارة ولام الجحود ب ((أن)) المحذوفة وإن كانت لازمة الحذف)).

وفي البسيط: ((وقد يستغنون عن البدل_ يعني بالبدل ما هو بدل من باء القسم_ بقطع همزة الوصل. وهو عند/ الكوفيين مخفوض بتقدير الباء، والهمزة للاستفهام، يخفضون بالباء بعدها، فإذا قلت (ألله) فكأنك قلت: أبالله، وعليه ينشد قول أبي بكر رضي الله عنه:

أجدك، ما لعينك لا تنام

كأن جفونها فيها كلام))

ص: فإن ابتدئ في الجملة الاسمية بمتعين للقسم حذف الخبر وجوبا، وإلا

ص: 349

فجوازا. والمحذوف الخبر إن عري من لام الابتداء جاز نصبه بفعل مقدر، وإن كان ((عمرا)) جاز أيضا ضم عينه ودخول الباء عليه، ويلزم الإضافة مطلقا.

ش: المتعين للقسم في الجملة الاسمية هو لعمرك ولايمن؛ لأنهما لا يستعملان مقرونين باللام إلا مقسما بهما مرفوعين بالابتداء، فالتزم حذف الخبر لفهم المعنى مع سد الجواب مسده، وكذا غيرهما مما تقترن به قرينة تعينه أن يكون مقسما به يكون مبتدأ محذوف الخبر وجوبا؛ كقول من استحلف: لعهد الله لقد كان كذا.

وإنما أعرب لعمر ولايمن مبتدأ، خبره مضمر، تقديره: لعمرك ما أقسم به، ولم يعرب خبر مبتدأ محذوف_ لدخول لام الابتداء عليه، ولا تدخل على الخبر إلا ضرورة، وليست هذه اللام جوابا لقسم محذوف؛ لأن الجملة التي هي عمرك وخبره المحذوف قسم، والقسم لا يدخل على القسم، كذا قال بعضهم. ورد بقوله:(وَلَيَحْلِفُنَّ إِنْ أَرَدْنَا إِلَّا الْحُسْنَى)، فهذا قسم قد دخل على قسم.

وقوله وإلا فجوازا أي: وإلا يكن المبتدأ به في الجملة الاسمية متعينا للقسم فإنه يحذف الخبر جوازا؛ كقول من لم يتعين عليه يمين: على عهد الله، ويمين الله تلزمني، فيجوز في هذا حذف ((علي)) وحذف ((تلزمني))؛ لأن ذكر الجواب دليل على أنك مقسم، وقد حكى س:((علي عهد الله))، فأظهر الخبر، وهذا نص، فلا يلتفت إلى كلام من أنكر من المتأخرين: علي عهد الله، فيظهر الخبر 0

وقوله والمحذوف الخبر يعني: إذا حذفت اللام من لعمر ولعهد الله وشبههما جاز نصبه بفعل مقدر؛ وهو فعل القسم. وإنما قال ((جاز)) لأنه قد يقر مبتدأ، ويكون خبره محذوفا، قال أبو شهاب الهذلي:

ص: 350

فإنك_ عمر الله_ إن تسأليهم

بأحسابنا إذ ما تجل الكبائر

ينبوك أنا نفرج الهم كله

بحق، وأنا في الحروب مساعر

وقال آخر:

فلا عمر الذي أثني عليه

وما رفع الحجيج إلى إلال

لما أغلفت شكرك، فانتصحني

وكيف، ومن عطائك جل مالي

يروى بنصب عمر ورفعه، فالرفع على الابتداء، والنصب بإضمار أحلف بعد / إسقاط الباء، الأصل: فلا بعمر الذي.

وقال أبو جعفر النحاس: إذا قلت: عمر الله، وعمرك_ جاز الرفع والنصب، وقد يجوز الخفض، تجعل الواو للقسم، وتقول: وعمرك. واستعمال عمر دون لام قليل. فأما قول الطائي:

عمري لقد نصح الزمان، وإنه

لمن العجائب ناصح، لا يشفق

فيحتمل أن يكون مرفوعا على الابتداء، وخبره محذوف. ويحتمل أن يكون منصوبا بفعل محذوف.

وقوله وإن كان عمرا أي: وإن كان الذي كان متعينا للقسم عمرا، وحذفت لامه_ جاز ضم عينه، فتقول: عمرك لقد كان كذا، وكذا كان القياس مع اللام، لكن العرب التزمت الفتح لأنه أخف من الضم.

وقوله ودخول الباء عليه قال:

ص: 351

رقي! بعمركم، لا تهجرينا

ومنينا المنى، ثم امطلينا

وقال آخر:

أأقام أمس خليطنا أم سارا

سائل بعمرك أي ذاك اختارا

وهكذا أنشدهما المصنف شاهدا على أنه تدخل الباء على عمر في القسم.

وهذا كما بيناه أول الباب ليس بقسم، بل هو من باب السؤال والطلب؛ ألا تراه كيف جاء بعد ((بعمركم)) جملة النهي، وهي قوله ((لا تهجرينا))، وكيف قال ((سائل بعمرك))، فعلقه ب ((سائل))، وليس من أفعال القسم.

وقوله ويلزم الإضافة مطلقا يعني إلى الظاهر والمضمر مع اللام ودونها.

وإنما حذفوا خبر ((لعمرك)) لزوما لأنه ليس بخبر حقيقة، إنما يراد به القسم، وهذا من التركيب الذي لفظه لا يكون طبق معناه، بل لوحظ فيه المعنى، وهو أنه مقسم به، فلم يكن له خبر موجود، كما قالوا حسبك، فاستعملوه مبتدأ بلا خبر ملفوظ به لأنه في معنى الأمر.

وفي معنى عمر هنا قولان:

أحدهما: ما ذهب إليه البصريون من أنه بمعنى البقاء، تقول: طال عمرك وعمرك، وألزموه الفتح مع اللام في القسم، فعلى هذا يكون المجرور بعده فاعلا، ويكون المصدر مضافا إليه.

والثاني: ما ذهب إليه بعض الكوفيين والهروي في ((الغريبين)) من أنه مصدر ضد الخلو، من عمر الرجل منزله، والمقسم يريد تعمير القلب بذكر الله تأكيدا للصدق وتحذيرا من الغفلة والوقوع في المأثم والحنث. قال أبو زيد السهيلي:

ص: 352

ولذلك قالوا:

عمرتك الله إلا ما ذكرت لنا

...........................

أي: ذكرتك تذكيرا يعمر القلب، ولا يخلو منه؛ لأن الذكر قد يكون باللسان دون القلب، فعلى هذا لعمر الله ي معنى التذكير به، فهو مفعول في المعنى، أي: ذاكر أو مذكر. ونحو منه: ((قعدك الله))، و:

قعيدكما الله الذي أنتما له

.....................

أي: إنه /ثابت معك، يطلع على عيبك، فاذكره، ولا تحنث.

وهذا القول إذا تدبرته هو لا شك مقصود العرب بهذه الكلمة؛ لأنهم فتحوا أولها كالمصادر الثلاثية، واشتقوا منها الفعل، فقالوا: عمرتك الله، كما يشتق من المصادر. وقوى هذا المعنى قولهم: قعدك الله. ولو كان العمر هنا محلوفا به لقالوا: وعمر الله، كما قالو: وعهد الله، ولو كان صفة الله يحلف بها لوجدت في الكلام في غير القسم، ولو كان بمعنى البقاء لقالوا: وبقاء الله، وهم لا يحلفون ببقائه ولا قدمه، لكن بعزته وعظمته؛ لما في ذلك من التعظيم. وأشنع ما حكى أصحاب هذا القول أن العمر إنما هو للإنسان يعمره الله ما يشاء، ولا يضاف العمر إلى الله، إنما يوصف بالبقاء.

ص: وإن كان ((ايمن)) الموصول الهمزة لزم الإضافة إلى ((الله)) غالبا، وقد يضاف إلى الكعبة والكاف والذي، وقد يقال فيه مضافا إلى ((الله)): ايمن وايمن وايمن وايم وايم وام، و ((من)) مثلث الحرفين، و ((م)) مثلثا، وليست الميم بدلا من واو، ولا أصلها ((من))، خلافا لمن زعم ذلك، ولا ((ايمن)) المذكور جمع يمين،

ص: 353

خلافا للكوفيين. وقد يخبر عن اسم الله مقسما به ب ((لك)) و ((علي)). وقد يبتدأ بالنذر قسما.

ش: يريد: وإن كان المبتدأ في الجملة الاسمية المتعين للقسم ايمن الموصول.

ويعني بالموصول الذي همزته همزة وصل، واحترز من أيمن الذي همزته همزة قطع جماع يمين. وحكمه حكم واحده إذا أقسم به من جواز جره بالحرف، ونصبه إذا حذف الحرف. ويدل على أن همزته همزة وصل سقوطها إذا كان قبلها متحرك، قال الشاعر:

فقال فريق القوم لما نشدتهم:

نعم، وفريق: ليمن الله ما ندري

ولا خلاف نعلمه أن ايمن اسم إلا ما حكى عن الرماني أنه حرف جر، وهذا خلاف شاذ.

وجمهور النحويين على أن ((ايمن الله)) في القسم التزمت العرب فيه الرفع على الابتداء، ولا يستعمل إلا كما استعملته العرب.

وذهب ابن درستويه إلى أنه يجوز أن يجر بواو القسم، قال في كتابه المسمى ب ((الهداية)):((واعلم أن ما عدا الباء والواو والتاء أسماء يقسم بها كما يقسم ب (الله)، وتدخل عليها الواو، إلا من ربي، ومن ربي، فتقول: وأيمن الله، ويمين الله، وعهد الله)). قال:((ومن ربي ومن ربي إنما هما ايمن، حذفت منه الهمزة والياء. وكذلك: ام الله، إنما هي يمين أو ايمن)). قال: ((ولا يدخل على هذه الثلاثة حرف جر؛ لأنها أشبهت حروف المعاني لما حذفت)).

ص: 354

وقال ابن عصفور: وهذا الذي ذهب إليه لم يرد به سماع من كلام العرب، فاجازته لذلك إنما هي بالقياس على الأسماء التي استعملتها العرب في هذا الباب مبتدأة وغير مبتدأة.

والذي عليه جمهور النحويين أنه لا يستعمل في هذا الباب إلا مبتدأ كما استعملته العرب؛ لأنه اسم غير متصرف، ولعدم تصرفه شبه بالحرف، / ففتحت همزة الوصل الداخلة عليه كما تفتح إذا دخلت على الحرف في مثل الرجل والغلام، ووجه الشبه بينهما أن العرب لم تستعمله في موضع من المواضع التي تستعمل فيها الأسماء، فإذا تصرف فيه كما يتصرف في الأسماء، فاستعمل مبتدأ وغير مبتدأ_ لم يكن وجه لفتح همزة الوصل الداخلة عليه

وقوله وقد يضاف إلى الكعبة والكاف والذي تقول: ايمن الكعبة لأقومن، ومن كلام عرورة بن الزبير حين قطعت رجله لداء كان اقتضى قطعها:((ليمنك لئن ابتليت لقد عافيت، ولئن أخذت لقد أبقيت))، وفي الحديث من قول رسول الله (صل الله عليه وسلم):(وايمن الذي نفسي بيده).

وقد أضيفت لغير ما ذكره المصنف. وزعم الفارسي في غير ((الإيضاح)) أنها لا تضاف إلا إلى ((الله)) وإلى ((الكعبة)). وهذا الذي ذكره هو الأكثر، وقد تضاف إلى غيرهما، أنشد الكسائي:

......................

ليمن أبيهم لبئس العذرة اعتذروا

ص: 355

وهي عند البصريين معربة ملتزم فيها الرفع على الابتداء. وقد تقدم مذهب ابن دستورية في جواز جرها بواو القسم 0

وحكى المفضل عن العرب: ليمن الله، بكسر النون إذا لقيها ساكن، فإن لم يلقها ساكن سكنت النون كما في قوله ((ليمن أبيهم))، فعلى هذه الحكاية تكون مبنية. وسبب بنائها هو السبب في فتح همزتها، وهو شبهها بالحرف.

وقد تصرف العرب في لفظ ايمن تصرفا كثيرا، وذلك لكثرة استعمالهم؛ لأن كثرة الاستعمال مدعاة إلى الحذف. فتلخص من كلام المصنف فيه ثلاث عشرة لغة، هي مستخرجة من كلامه.

فأما ايم_ بفتح الهمزة وضم الميم وحذف النون_ فمنقولة عن تميم. وأما ايم_ بكسرها_ فمنقولة عن سليم. وضمة الميم في هاتين اللغتين علامة رفع. وروي: ايم الله، بكسر الهمزة والميم، وكسرة الميم جر عند الأخفش بحرف قسم مقدر، وهو نحو: الله لأقومن. ورد بأنه محذوف من ايمن، والعرب لم تستعمل ايمن في القسم إلا مرفوعا على الابتداء. قال هذا الراد: والوجه عندي أن يكون مبنيا على السكون في لغة من بناها على السكون، وكسرت لالتقاء الساكنين.

وأما ام_ بكسر الهمزة وميم مضمومة_ فمنقولة عن أهل اليمامة. وعن بعض العرب ام، بكسر الهمزة والميم. وعن بعضهم: أم الله، بفتح الهمزة وضم الميم. وعن بعضهم: أم الله بفتح الهمزة وكسر الميم، وفتح الميم وكسرها لالتقاء الساكنين، كما قيل في ايم. ونقل الفارسي: ام الله، وام الله، وام الله، بكسر الهمزة وفتح الميم وضمها وكسرها. وأغربها: هم الله، بإبدال الهمزة هاء، كما أبدلوا في إياك، قالوا: هياك.

ص: 356

/وأما من الله_ بضمهما وفتحهما وكسرهما_ فحكاها الجوهري عن العرب. وقال بعض أصحابنا: ينبغي أن يعتقد في فتح النون وكسرها أن من الله ومن الله مبنيان على السكون كايمن في لغة من بناها على السكون، والفتحة والكسرة حر كتا التقاء الساكنين لا علامتا إعرب؛ لأنهما محذوفان من ايمن.

وأما م الله وم الله فحكاها الكسائي والأخفش، وسئل رجل من بني العنبر: ما الدهدران؟ فقال: م ربي الباطل. وحكى الهروي: م الله، بالفتح. وهو عند الأخفش مبني لأن الميم حرف واحد، قال: وإذا كان الاسم على حرف واحد لم يعرب. فهذه تماني عشرة لغة.

وزعم بعض النحويين أن ((من)) و ((م)) بلغاتها حرفان، وليسا بقية ايمن. واستدب من ذهب إلى أن من حرف جر لا بقية ايمن بأنها لو كانت بقية ايمن لم تستعمل مضافة إلا إلى ((الله)) كما أن ايمن كذلك، وهم يدخلونها على ((الرب))، فيقولون: من ربي لأفعلن. قال المبرد في ((المدخل)): وتقول: الله لأفعلن، ومن الله لأفعلن، ومن ربي لأفعلن. وأيضا لو كانت بقية ايمن لكانت معربة؛ لأن الاسم المعرب إذا حذف منه شيء بقي معربا، ومن مبنية على السكون، ولذلك كسرت حين دخلت على ((الله))، فقالوا: من الله؛ لالتقاء الساكنين. وقال المبرد: إنما دخلت اللام ومن_ يعني في القسم_ لأن حروف الخفض يبدل بعضها من بعض، نحو: فلان بمكة، وفي مكة.

ومن ذهب إلى أنها بقية ايمن قال: قد تصرف في ايمن تصرفا كثيرا، فيكون هذا منه، وهو أولى من إثبات حرف خفض لم يستقر فيها في موضع من المواضع.

ص: 357

واستدل من ذهب إلى أن ((م)) حرف جر بأن الاسم المعرب لا يجوز حذفه حتى لا يبقى منه إلا حرف واحد؛ بل لا يحفظ من ذلك إلا ما حكاه ابن مقسم من قولهم: شربت ما، يريدون: ماء، فبطل أن يكون ((م)) اسما بقية ايمن. وأيضا فالاسم المقسم به إذا حذف منه حرف الجر نصب باتفاق، أو رفع على خلاف سبق ذكره، ولا يجوز جره؛ لأن إ 1 مار الخافض وإبقاء عمله لا يجوز إلا في ضرورة أو نادر كلام، فلو كان ((م)) اسما لكان منصوبا أو مرفوعا، لا يقال بني على الكسر وهو في موضع نصب أو رفع؛ لما تقدم من أن الاسم المعرب إذا حذف منه شيء بقي معربا. وإذا ثبت أن الميم المكسورة حرف خفض فكذلك المضمومة والمفتوحة.

وقوله وليست الميم بدلا من واو يعني من واو القسم. قال المصنف في الشرح: ((وزعم بعضهم أن الميم المفردة بدل من واو (والله)، كالتاء. وليس بصحيح؛ لأنها لو كانت بدلا منها لفتحت كما فتحت التاء، ولأن التاء إذا أبدلت من الواو في القسم فلها نظائر في غير القسم مطردة، كاتصف واتصل، وغير مطردة، كتراث وتجاه، وليس لإبدال الميم من الواو إلا موضع شاذ، وهو فم، وفيه مع شذوذه /خلاف)) انتهى.

أما قوله ((لو كانت بدلا منها لفتحت كما فتحت التاء)) فهو وغيره قد ذكروا الفتح فيها؛ ألا تراه قد قال: ((وم مثلثا))، فهي قد فتحت، ثم تلاعبت العرب بها، فضموها وكسروها.

وأما قوله ((ولأن التاء ....)) إلى آخره فهو مرتب على أن التاء بدل من الواو، وهذا قول غيره من النحويين.

ص: 358

وقال السهيلي: ((يحتمل أن تكون حرفا موضوعا للقسم، خص باسم الله_ تعالى_ كما خص بأشياء لا تكون لغيره)). ثم ذكر أشياء كثيرة مما اختص به هذا الاسم الشريف. ثم قال: ((ويضعف عندي أن تكون بدلا من الواو لما فيها من معنى العطف، وليس ذلك في التاء، ولسر آخر، وهو أن التاء إنما أبدلت من الواو حيث كثرت زيادتها في تصاريف الكلمة؛ كتراث وتخمة وتترى وتولج؛ لأنهم قالوا: توارث توارثا، وتواتر، واتلج يتلج اتلاجا، فكثر في التصاريف حتى قالوا: أتلج أي: أدخل. ونحو منه ريحان، قلبوا الواو ياء لكثرة انقلابها في مادة الكلمة، نحو الريح والرياح ويريح ويستريح، حتى صار كأنه من ذوات الياء، فجعلوا الواو ياء وإن لم يكن قبلها كسرو لما ذكرناه، وواو القسم لا تقلب تاء لعدم هذا الأصل)) انتهى.

وزعم جمهور النحويين أن الواو بدل من الباء، وأن الباء هي الأصل في حروف القسم، قالوا: ((وإنما أبدلت منها لأمرين:

أحدهما: أن معنى الباء قريب من معنى الواو؛ لأن الواو للجمع، والباء للإلصاق، والإلصاق جمع في المعنى.

والثاني: أنها من حروف مقدم الفم.

ولما كانت بدلا منها لم تتصرف تصرف الباء؛ لأن الفرع لا يتصرف تصرف الأصل فجرت الظاهر خاصة، ولم تجر المضمر)).

وقال بعض أصحابنا: ليست الواو بدلا من الباء؛ إذ لو كانت بدلا ما اختلفنا في الحركة، كما لم تختلف حركة الهمزة المبدلة من الواو في وشاح حين قالوا إشاح. وأيضا لم توجد قط الواو بدلا من الباء؛ لأنها ليست من مخرجها، ولما بينهما من المضادة؛ إذ في الواو لين، وفي الباء شدة.

ص: 359

وزعم السهيلي ان واو القسم هي في الأصل واو العطف كواو رب، تعطف على منوي إيجازا، إذ كانوا يحلفون بأسماء كثيرة كما جاء في القرآن 0 قال: ((ويقوى ذلك أن واو العطف لا تدخل على مضمر مخفوض البتة، وكذا واو القسم.

فإن قلت: فكيف تقول: ووالله لأفعلن؟ فالجواب أن الواو إنما دخلت على الفعل المضمر، فكأنك قلت: وأحلف بالله، ثم عطفت)) انتهى.

وهو قول متكلف جدا؛ إذ يحتاج في كل مكان يبدأ فيه بالقسم بالواو أن يتكلف قبل ذلك مقسم به محذوف وهو والفعل الذي يتعلق به حرف الجر؛ وهذا بعيد جدا.

وقوله ولا أصلها من، خلافا لمن زعم ذلك قال المصنف في الشرح:((وزعم الزمخشري أنها (من) المستعملة مع (ربي)، فحذفت نونها. وليس بصحيح؛ لأنها لو كانت إياها لاستعملت في النقص مع استعملت في التمام على الأشهر، كما لم / تستعمل ايمن في النقص إلا مع ما استعملت في التمام على الأشهر.

واحترزت ب (الأشهر) من رواية الأخفش عن بعض العرب: من الله، ومن: ايمن الكعبة، وايمنك، وايمن الذي بيده.

وقال الزمخشري في م الله: (ومن الناس من زعم أنها من ايمن). قلت: لم يعرف من الذي زعم ذلك، وهو س، فإنه قال في (باب عدة ما يكون عليه الكلم):(واعلم أن بعض العرب يقول: م الله لأفعلن، يريد: ايم الله). وفي عدم معرفة الزمخشري بأن صاحب هذا القول هو س دليل على أنه لم يعرف من كتابه

ص: 360

إلا ما يعرف بتصفح وانتقاء لا بتدبر واستقصاء؛ فما أوفر تبجحه وأيسر ترجحه! عفا الله عنا وعنه)) انتهى كلام المصنف في الشرح.

وما رد به على الزمخشري غير صحيح، وعنى أنه لو كانت محذوفة من ((من)) الداخلة على الرب لدخلت على الرب، ولم يقولوا: م ربي، وقد تقدم لنا أن بعض العرب قال ((م ربي الباطل)) حين سئل: ما الدهدران؟ فقد دخلت ((م)) على ما دخلت عليه ((من)) من لفظ ((الله)) ولفظ ((الرب)).

وأما قوله ((إن الزمخشري لم يعرف من الذي زعم ذلك، وهو س))؛ لقوله: ((ومن الناس من زعم أنها من ايمن)) - فليس كما ذكر المصنف، بل لا يدل ذلك على الجهل بقائله، بل الظاهر أنه لما كان عنده هذا القول ضعيفاً تأدب مع س، فقال:((ومن الناس))، ولم يصرح باسمه إعظاماً له لما خالفه.

وأما قول المصنف عن الزمخشري: ((إنه لم يعرف من كتابه- يعني س- إلا ما يعرف بتصفح وانتقاء لا بتدبر واستقصاء)) فهو كما قال، ولذلك وقع في ((مفصله)) أغلاط ومخالفة لـ ((س))، وقد رد الناس عليه ذلك. لكن ما ذكره المصنف عن الزمخشري هو مشارك له فيه، فكم مكان خالف فيه نصوص س عن العرب، وكم نقل جهله عنه، وكم مفهوم فهمه خلاف ما فهمه المعتنون بكتاب س والتفقه فيه، على أنه رحمه الله لم يقرأ كتاب س على أحد، إنما كان يتصفح منه مواضع، وقد رحل الزمخشري من خوارزم إلى مكة قبل العشرين وخمس المئة لقراءة كتاب س على رجل من أصحابنا من أهل الأندلس، يعرف بأبي بكر بن طلحة

ص: 361

اليابري، كان مجاوراً بها، عالماً بكتاب سيبويه، وله تصانيف، فقرأ عليه الزمخشري جميع الكتاب.

وأما قوله ((فما أوفر تبجحه وأيسر ترجحه))! فهو كما قال وافر التبجح، يسير الترجع، معظم نفسه على طريقة أمثاله من أهل بلاده.

وقوله ولا ايمن المذكور جمع يمين، خلافاً للكوفيين قال المصنف في الشرح:((رأيهم في هذا ضعيف؛ لأن همزة الجمع مقطوعة، وهذه همزة وصل لسقوطها مع اللام في: ليمنك، وليمن الله، وليس هذا بضرورة لتمكن/ الشاعر من إقامة الوزن بتحريك التنوين والاستغناء عن اللام، ولأن من العرب من يكسر الهمزة في الابتداء، وهمزة الجمع لا تكسر، ولأن منهم من يفتح الميم، فوزته افعل، ولا يوجد ذلك في الجوع)) انتهى.

وما نسبه المصنف للكوفيين من أن ايمن جمع يمين صحيح، لا خلاف عنهم في ذلك، وإن كان أبو القاسم الزجاجي نسب ذلك إلى الفراء، فما ذلك- والله أعلم- إلا لأنه هو الذي أثاره، وشهر به.

وقال بعض شيوخنا: ((لو كان ايمن جمع يمين لجاز فيه من الإعراب ما جاز في يمين، وهم قد رفعوا ونصبوا في يمين، والتزموا الرفع في ايمن)) انتهى.

ولا حجة في ذلك؛ لأنهم قد يختصون بعض الألفاظ بأحكام، كما اختصوا غدوة بأن نصبوها بعد لدن، وكما اختصوا بكرة وغدوة بمنع الصرف دون ضحوة، وكما اختصوا لعمرك بفتح العين.

واحتج للكوفيين بأن همزتها مفتوحة، وهمزة الوصل في الأسماء لا تكون مفتوحة، وبأنها على وزن أفعل، وأفعل بناء جمع، لا يزجد في أبنية الأسماء أفعل

ص: 362

مفرداً، وقال س: لا يكون أفعل مفرداً.

وأما وصل همزتها في نحو لا يمن فإنما وصلت لكثرة الاستعمال، على أن وصلها ليس حتماً، حكى أبو الحسن في ألفه القطع، وزعم أنه جمع يمين وإن كان س قد حكى الوصل، فتحصل بحكايتهما أن للعرب فيها الوصل والقطع. ويدل على أن أصلها القطع كونهم أبدلوا منها الهاء، فقالوا: هيم الله، لو كانت في الأصل همزة وصل لم تبدل منها الهاء.

وأما كسرها في قولهم ايمن فهذا لا يدل على أنها ليست في الأصل أفعل الجمع؛ لأن العرب تلاعبت بهذه الكلمة حتى غيرتها نحواً من ثمانية عشر تغييراً على ما حكيناه، فهذا من بعض تلك التغييرات.

وزعم أبو الحسن فيما حكاه عنه بعضهم أن همزة ايم الله همزة وصل، وهمزة إيم الله همزة قطع، قال: ولا أحملها على ايم الله؛ لأن تلك قد علمت أنها وصل بقولهم: ليم الله، وليست همزة الوصل مطردة في الاسماء.

قال بعض أصحابنا: ((والصواب أن يعتقد فيها أن ألفها موصولة؛ لأنه لا يحفظ من كلامهم لإيم الله بإثبات الهمزة)). قال: ((وكذلك ينبغي أن يعتقد في ايمن الله؛ لأنه لا يحفظ من كلامهم لإيمن الله)).

وقال بعض شيوخنا: وأما ايمن الله -بكسر الهمزة- فلا أعلم خلااً أن الألف فيها ألف وصل؛ لأنها لو كانت جمعاً لما أمكن كسر الهمزة، ولأن إفعلاً ليس في الكلام، لا مفرداً ولا جمعاً، ولا صفة ولا مصدراً، ولا اسماً ولا فعلاً، وأما

ص: 363

ما حكوه من إصبع فلم يثبت عند النظار في الأبنية.

وقال بعض أصحابنا: ((فإن قال قائل: لا حجة في حذف همزتها في الدرج على أنها همزة وصل لاحتمال أن تكون حذفت/ تخفيفاً لكثرة الاستعمال.

فالجواب أن تقول: التزام حذفها في الدرج يدل على أنها همزة وصل؛ إذ لو كانت همزة قطع إلا أنها حذفت تخفيفاً لجاءت مثبتة في الوصل في بعض الأحوال؛ ألا ترى أنالعرب لما حذفت همزة ((شيء)) مع ((أي)) في قولهم: أيش لك؟ تخفيفاً، وويلمه- لم تلتزم ذلك فيه؛ بل يجوز أن تقول: أي شيء لك؟ وويل أمه، وكذلك جميع ما حذف تخفيفاً يسوغ إثباته)) انتهى.

وما ذكره من أنه لم تقطع همزته ليس بصحيح؛ إذ قد حكى الأخفش فيها القطع، وقد تقدم لنا ذكر ذلك. وأما دعواه أن جميع ما حذف تخفيفاً يسوغ إثباته فليس بصحيح؛ ألا ترى أن قيودة ونظائرها هي في الأصل فيعلولة على مذهب البصريين، فالأصل قيودودة، اجتمعت وارو وياء، وسبقت إحداهما بالسكون، فأدغمت، فصارت قيدودة، ثم خففت بحذف عين الكلمة، فصار قيدودة، ومع هذا فلا يجوز فيه ولا في نظائره أن يرد إلى أصله فيقال قيدودة بالإدغام.

وقال الأستاذ أبو علي: ايمن مغير كامرئ وابن، فلا يطالب بوزنه وأنه ليس في الكلام مثله، كما لا يطالب بذلك في ابن وامرئ إلا أنه لم ينطق بالأأصل. فقال أبو بكر بن طاهر: هو عنده- أي عند س -مغير من يمين. وقال غيره: بل هو مغير من فعل، اسم مشتق من اليمن، كامرئ المغير عن مرء، وهو أظهر. وقال ابن خروف: قال الأخفش: إن سميت بايمن ثم صغرته قلت يمين. وهو قول صحيح.

ص: 364

وقوله وقد يخبر عن اسم الله مقسماً به بـ ((لك)) و ((علي)) مثال ذلك قول الشاعر:

لك الله لا ألفى لعهدك ناسياً

فلا تك إلا مثل ما أنا كائن

وقول الآخر:

لقد حليتك العين أول نظرة

فأعطيت مني- يا بن عم- قبولاً

أميراً على ما شئت مني مسلطاً

فسل- فلك الرحمن- تمنع سولا

أي: لا تمنع سولا. وقول الآخر:

نهى الشيب قلبي عن صباً وصباية

ألا- فعلي الله - أوجد صابيا

أي: لا أوجد صابيا.

وقوله وقد يبتدأ قسماً مثاله قول الشاعر:

علي إلى البيت المحرك حجة

أوافي بها نذراً، ولم أنتعل نعلا

لقد منحت ليلى المودة غيرنا

وإن لها منا المود ة والبذلا

وقال آخر:

على أخد من كل نذر هدية

تحلله ما قلتها يا مهاجر

/ص: المقسم عليه جملة مؤكدة بالقسم، تصدر في الإثبات بلام مفتوحة، أو ((إن)) مثقلة أو مخففة، ولا يستغن ى عنهما غالباً دون استطالة، وتصدر في

ص: 365

الشرط الامتناعي ب ((لو)) أو ((لولا))، وفي النفي ب ((ما)) أو ((لا)) أو ((إن))، وقد تصدر ب ((لن)) اة ((لم))، وتصدر في الطلب بفعله أو بأداته أو ب ((إلا)) أو ((لما)) بمعناها. وقد تدخل اللام على ((ما)) النافية اضطرارا.

ش: الذي يتلفى به القسم في الإثبات هو اللام المفتوحة وإن، وفي النفي ((ما)) و ((لا)) و ((إن))، وذكر المصنف أنها قد تصدر بلن ولم. وفي الشرط الامتناعي بلو أو لولا، ويأتي الكلام على ذلك مفصلا، إن شاء الله.

وزعم الأخفش أن القسم يجوز أن يتلقى بلام كي، وجعل من ذلك قوله تعالى:(يَحْلِفُونَ بِاللَّهِ لَكُمْ لِيُرْضُوكُمْ)، وقوله تعالى:(وَلِتَصْغَى إِلَيْهِ أَفْئِدَةُ الَّذِينَ لا يُؤْمِنُونَ بِالآخِرَةِ)، والمعنى عنده: ليرضنكم ولتصغين، وقال ابن عناب الطائي:

إذا قال: قدني قلت: بالله حلفة

لتغني عني ذا إنائك أجمعا

واختلف قول أبي علي: فأجاز ذلك في ((العسكريات))، ورجع عن ذلك في ((البصريات)) و ((التذكرة))، قال في ((العسكريات)): قول ابن عناب: ((بالله خلفة لتغني)) بالله: قسم، وهو مبتدأ به فلا بد له من جواب، وليس متوسطا

ص: 366

فيحذف جوابه، نحو: زيد_ والله_ منطلق، ولا جواب له في هذا البيت ولا فيما بعده، فتعين أن يكون الجواب ((لتغني))، ولا يمنع من ذلك كونه في تقدير مفرد؛ لأن الفعل والفاعل اللذين جريا في صلة ان سدا مسد الجملة، كما سد في قوله:(الم (1) أَحَسِبَ النَّاسُ أَنْ يُتْرَكُوا)، وعلمت أن زيدا منطلق، ولو أنك جئتني لأكرمتك، وأقائم زيد)).

وقال في ((البصريات)): لا يجوز تلقي القسم كي، ولا ورد منه شيء في كلام العرب، ف ((ليرضوكم)) متعلق ب ((يحلفون))، ولم يرد القسم، إنما أراد أن يخبر أن الذين يؤذون النبي يحلفون بالله للمسلمين ما عابوا النبي ليرضوهم بذلك.

وأما (ولتصغي) فمحمول على ما قبله من المصدر، وهو (غرور)، والتقدير: للغرور ولتصغي.

وأما (لتغني عني) فيحتمل أن يكون ((بالله)) متعلقا بفعل مضمر لا يكون قسما، أي: حلفت بالله لتغني عني. ويحتمل أن يكون قسما، وجوابه محذوف، أي: لتشربن لتغني عني، وحذف الجواب لدلالة الحال عليه، فيكون إذ ذاك نحو ما حكى أبو الحسن من قولهم: أما والله، ويحذفون ما يقسم عليه.

ورواه أبو علي في ((البصريات)):

إذا قال قدني قلت آليت حلفة

..................................

فيحتمل أن يكون ((لتغني)) متعلقا بآليت، ولا يراد بها القسم بل الإخبار.

ص: 367

ورواه ثعلب ((لتغنن عني))، وهي لام الأمر، وجاء على لغة طيئ، ولغة غيرهم: لتغنين عني، والمعنى: أغنين عني، فآليت لا يراد بها القسم.

وزعم بعض القدماء من النحويين أن القسم قد يتلقى ب ((بل))، واستدل بقوله تعالى:(ص وَالْقُرْآنِ ذِي الذِّكْرِ).

وهذا /باطل؛ لأنه بنى جواز ذلك على الآية، ولا حجة فيها؛ إذ يحتمل أن يكون الجواب قوله:(كَمْ أَهْلَكْنَا مِنْ قَبْلِهِمْ مِنْ قَرْنٍ)، وحذف اللام_ أي: لكم_ لطول الفصل، كما حذفها من قوله تعالى:(قُتِلَ أَصْحَابُ الأُخْدُودِ)، وهو جواب:(وَالسَّمَاءِ ذَاتِ الْبُرُوجِ).

وقال الفراء: ((ص معناها: وجب والله، ونزل والله، وحق والله، فهي جواب لقوله (وَالْقُرْآنِ)، كما تقول: نزل والله)). يريد أنها جواب للقسم من جهة المعنى لا من جهة اللفظ، بل الجواب محذوف لدلالة (ص) عليه، كما أن الجواب في قولك نزل والله محذوف لدلالة نزل عليه.

وزعم ابن عصفور أن من الحروف التي تربط القسم بالمقسم عليه ((أن))، قال في ((المقرب)):((وأما الحروف التي تربط المقسم به بالمقسم عليه ف (أن) إن كانت

ص: 368

الجملة الواقعة جوابا للو وما دخلت عليه؛ نحو قوله:

أما والله أن لو كنت حرا

وما بالحر أنت ولا القمين))

ورد عليه شيخنا أبو الحسن بن الضائع، فقال:((نص س على أن أن في جواب القسم كاللام الأولى في: والله لئن فعلت لأفعلن، فليست الرابطة للجواب بالقسم، وإنما جواب القسم على هذا ما زعم ابن عصفور أنه جواب لو، ولذلك لم تدخل اللام عليه في قوله تعالى: (أَنْ لَوْ كَانُوا يَعْلَمُونَ الْغَيْبَ مَا لَبِثُوا فِي الْعَذَابِ الْمُهِينِ)؛ لأنه جواب القسم. ويدل على صحة ذلك أن لو كـ (إن)، فكما لا يجوز أن تكون (إ،) وجوابها جواباً للقسم فكذلك لو، بل يكون جوابهما هو جواب القسم. وأما امتناع: والله لقام زيد لو قام عمرو، وجواز: والله ليقومن زيد إن قام عمرو- فالمضي والاستقبال فعلا ذلك؛ لأنه يجوز: يقوم زيد إن قام عمرو، ولا يجوز: قام زيد لو قام عمرو. وأظن هذا هو الذي غلطه، على أن في لفظ السيرافي ما يقتضي أن أن مع لو جواب كما زعم ابن عصفور، فلينظر)) انتهى.

وقوله ((بل يكون جوابهما هو جواب القسم)) يريد به: بل ما كان يكون جوابهما لولا القسم هو جواب القسم، ولا يريد أن نفس جواب إن ولو هو بعينه جواب القسم.

ص: 369

وقد رجع ابن عصفور عما في ((المقرب)) إلي ما قاله س، فقال:((وقد يدخلون أن على لو توطئه يجعل الفعل الواقع بعدها جوابا للقسم، كما يدخلون اللام على إن الشرطية؛ أقسم أن لو قام زيد لقام عمرو، ومن ذلك قوله: فأقسم أن لو التقينا وأنتم لكان لنا يوم من الشر مظلم)) انتهى.

والذي يظهر من نص س أن أن ليست رابطة كما ذهب إليه ابن عصفور في ((المقرب))، ولا توطئة كما ذكره شيخنا ابن الضائع وابن عصفور في ثاني قوليه، بل زائدة، دخولها كخروجها. قال في ((هذا باب أن وإن)) بعد كلام ذكر فيه بعض أقسام أن، فقال:((ووجه آخر تكون فيه لغوا)). ثم قال: ((فأما الوجه الذي تكون فيه لغوا فنحو قولك: لما أن جاء [ذهبت]، وأما والله أن لو فعلت لأكرمتك)) انتهى.

وقوله/ وتصدر في الإثبات بلام مفتوحة ظاهر هذا الكلام إطلاق الإثبات في الجملة الاسمية والفعلية، وكلامه في الشرح، وفي قوله بعد:((وإن كان أول الجملة مضارعا))، وقوله بعد:((ولا يخلو دون استطالة الماضي المثبت)) _ يدل على أنه هنا عنى الجملة الاسمية، قال في الشرح: ((كقوله تعالى: (ثُمَّ لَنَحْنُ

ص: 370

أَعْلَمُ)، وكقول حسان:

فلئن فخرت بهم لمثل قديمهم

فخر اللبيب به على الأقوام

(إِنَّ سَعْيَكُمْ لَشَتَّى)، (إِنْ كُلُّ نَفْسٍ لَمَّا عَلَيْهَا حَافِظٌ). ويستغنى عنهما قليلا دون استطالة في المقسم به، كقول أبي بكر:(والله أنا كنت أظلم منه))).

وذهب بعض النحويين إلى أنه لا يتلقى القسم ب ((إن)) إلا إذا كان في خبرها اللام، فإن لم تكن اللام فتحت أن، وتقدم لنا نقل المذاهب في ذلك في الفصل الأول من ((باب إن وأخواتها)).

وقوله دون استطالة إن كان طال ما بين القسم وجوابه فظاهر كلام المصنف انه يستغنى عن إن وعن اللام. وليس كذلك، بل الأكثر الفصيح أنه لا بد من أحدهما، وقد توسغ الاستطالة الحذف.

وقال في الشرح: ((فلو كان فيه استطالة لحسن الحذف، وكان جديرا بكثرة النظائر، كقول بعض العرب: (أقسم بمن بعث النبيين مبشرين ومنذرين، وختمهم بالمرسل رحمة للعالمين، هو سيدهم أجمعين)، وقول ابن مسعود رضي الله عنه:(والذي لا إله غيره هذا مقام الذي أنزلت عليه سورة البقرة)، والأصل: لهذا،

ص: 371

فحذف اللام لاستطالة القسم والخبر بالصلتين، ومن قول الشاعر:

ورب السموات العلا وبروجها

والأرض وما فيها المقدر كائن

أي: للمدر كائن)).

ولم يذكر أحد من أصحابنا الاستغناء عن اللام أو عن إن في الجملة الاسمية، فينبغي أن يحمل ذلك على الندور بحيث لا يقاس عليه.

وقوله وتصدر في الشرط الامتناعي بلو أو لولا تقدم لنا أن اصحابنا لا يجعلون لو شرطا إلا إذا كانت بمعنى إن، وأما إن كانت تعليقا في الماضي فليست شرطا. ومن التصدير ب ((لو)) قول سويد بن كراع:

فتالله لو كنا الشهود وغبتم

إذا لملأنا جوف خبرائهم دما

ومن التصدير ب ((لولا)) قول عبد الله بن الزبير:

فوالله لولا خشية النار بغتة

علي لقد أقبلت نحري مغولا

وقالت امرأة:

فوالله لولا الله تخشى عواقبه

لزعزع من هذا السرير جوانبه

/وقال راجز:

والله لولا الله ما اهتدينا

وكلام المصنف يقتضي أن جواب القسم لو ولولا وما دخلتا عليه،

ص: 372

وكلامه في الفصل الأول من ((باب عوامل الجزم)) يقتضي أن جواب القسم محذوف يغني عنه جواب لو، وأن الجواب ل ((لو)) في نحو: والله لو قام زيد لقام عمرو، ول ((لولا)) في: والله لولا زيد لأكرمتك، فاضطرب كلام المصنف في هذه المسألة، وقد تكلمنا عليها هناك حيث تعرض المصنف لها.

ونقول: إن كلام أصحابنا نص في أن القسم ولو أو لولا إذا اجتمعا وتقدم القسم كان الجواب له؛ كتقدمه على أداة الشرط، فليست الجملة المتصدرة لو أو لولا جوابا له، ولا الجواب للو ولا للولا، ولكنه للقسم، ويلزم أن يكون ماضيا، فوجب أن يكون الدال عليهما ماضيا، فتقول: والله لو قام زيد لقام عمرو، ووالله لو قام بكر ما قام خالد، وكذلك لولا.

قال بعض أصحابنا: وقد يحذفون القسم قبل لو ولولا، ويكون مرادا، وذلك إذا كان الجواب موجبا، ودخلت عليه اللام، فتكون اللام والفعل جواب القسم المحذوف، ولا يجوز موجبا، ودخلت عليه اللام، فتكون اللام والفعل جواب القسم المحذوف، ولا يجوز حذفها، ويدل على حذف القسم قبل لولا إدخالهم لام التوطئة الدالة على القسم المحذوف عليها كما تدخل على إن الشرطية، قال:

للولا حصين عينه أن أسوءه

وأن بني سعد صديق ووالد

وقال آخر:

للولا قاسم ويدا بسيل

لقد جرت عليك يد غشوم

إلا أن ذلك لم يجئ إلا في الشعر كراهيو اجتماع لامين. وإن لم تقدر قبلهما قسما محذوفا كانت اللام جوابا لهما، ويجوز حذفها إذ ذاك.

ص: 373

فلو كان الجواب منفيا ب ((ما)) لم يجز حذف القسم؛ لأنه لا يحذف إذا كان جوابه منفيا، فقولك: لو قام زيد ما قام عمرو، هو جواب للولا لقسم محذوف، ولو قلت: لو قام زيد لما قام عمرو كان جواب لو؛ لأنه إذا كان جواب قسم لم تدخل اللام على ((ما)) إلا في ضرورة، وهم يقولون لو قام زيد لما قام عمرو في فصيح الكلام وفي الشعر، ومنه قول الشاعر:

ولو نعطى الخيار لما افترقنا

ولكن لا خيار مع الليالي

ولو قلت: لو قام زيد لم يقم عمرو، كان جواب لو؛ لأن القسم لا يجاب بلم. انتهى، وفيه بعض تلخيص.

وقوله وفي النفي ب ((ما)) أو ((لا)) أو ((إن)) أما الجملة الاسمية فتنفي ب ((ما)) ولا ننفي ب ((لا))، والنظر يقتضي أن تنفى ب ((إن))، فتقول: والله إن زيد قائم، أي: ما زيد /قائم. وذكر المصنف في ((شرح الشافية الكافية)) له أن الجملة الاسمية تنفي بما وإن ولا، قال:((لا فرق في ذلك بين الجملة الفعلية والاسمية، إلا أن الاسمية إذا نفيت ب (لا)، وقدم الخبر، أو كان المخبر عنه معرفة_ لزم تكرارها في غير الضرورة، نحو: والله لا زيد في الدار ولا عمرو، ولعمري لا أنا هاجرك ولا مهيينك)) انتهى. وكون الجمله الاسمية تنفى ب ((لا)) غلط ووهم.

والثلاثة تنفة بها الجملة الفعلية، إلا أن ((لا)) لا تدخل على الماضي، فلا تقول: والله لا قام زيد. وزعم المصنف في الشرح أنه ينفى ب ((لا))، قال:((ومن وروده في المنفى ب ((لا)) قول الشاعر:

ردوا، فوالله لا ذدناكم أبدا

ما دام في مائنا ورد لنزال))

ص: 374

وقد بحتنا معه في تأويل هذا البيت في آخر الباب الأول من هذا الكتاب بما يوقف عليه هناك.

وإذا تقدم الماضي المنفي بما أو بإن قسم يليه شرط صار ذلك الماضي مستقبل المعنى، كقوله:(وَلَئِنْ أَتَيْتَ الَّذِينَ أُوتُوا الكِتَابَ بِكُلِّ آيَةٍ مَا تَبِعُوا قِبْلَتَكَ)، وقوله (وَلَئِنْ زَالَتَا إِنْ أَمْسَكَهُمَا مِنْ أَحَدٍ مِنْ بَعْدِهِ).

وقوله وقد تصدر بلن أو لم قال المصنف في الشرح: ((وندر نفي الجواب بلن في قوله أبي طالب:

والله لن يصلوا إليك بجمعهم

حتى أوارى في التراب دفينا

وب ((لم)) فيما حكى الأمعي أنه قال لأعرابي: ألك بنون؟ قال: نعم، وخالقهم لم تقم عن مثلهم منجبة)) انتهى. لا يقاس على شيء من ذلك البتة.

وليس للمتصف سلف فيمن أجاز ذلك إلا ما حكى عن ابن جني أنه زعم أنه قد يتلقى القسم بلم وبلن في الضرورة. واستدل على ذلك بقول زياد بن منفذ.

ص: 375

رويق! إني وما حج الحجيج له

وما أهل بجنبي نخلة الحرم

لم ينسني ذكركم مذ لم ألاقكم

عهد، سلوت به عنكم، ولا قدم

وبقول الأعشي:

أجدك لم تغتمض ساعة

فترقدها مع رقادها

أجدك عنده من قبيل الأقسام. وقال آخر:

أجدك لن ترى بثعيلبات

ولا بيدان ناجية ذمولا

وهذا غلط من ابن جني؛ لأن القسم بعد إن يجوز فيما بعده أن يكون خبرا لأن، ويحذف جواب القسم، ويجوز أن يكون جوابا للقسم، فيكون القسم وجوابه في موضع خبر إن. وقوله ((لم ينسني)) ليس جوابا للقسم، بل هو خبر إن، وجواب القسم محذوف، فهو نظير قولك: إن /زيدا_ والله_ لقائم، فقوله ((لم ينسني)) لا يصلح أن يكون جوابا للقسم كما لا يصلح ((لقائم))، وفي قولك: إن زيدا والله ليقومن، فيتعين أن يكون ليقومن جواب القسم. ومنه ما يحتمل الوجهين، نحو قول طرفة:

إني وجدك ما هجوتك والـ

ـأنصاب يسفح بينهن دم

يجوز أن يكون ((ما هجوتك)) خبرا لإن، ويحتمل أن يكون جوابا للقسم.

وقال الكميت:

إني لعمر أبي سوا

ك من الصنائع والذخائر

ص: 376

وقال الآخر:

إنك والله لذو ملة

يطرفك الأدنى عن الأبعد

فهذا يتعين أن يكون خبرا لإن.

وأما قول العرب: أجدك لم تفعل كذا، ولن تفعل كذا، فلا يراد به القسم، وهو عند س من باب ما ينتصب من المصادر توكيدا لما قبله، نحو قولك: هذا عبد الله حقا، قال س في هذا البا:((ومثل ذلك في الاستفهام: أجدك لا تفعل كذا؟ كأنه قال: أحقا لا تفعل كذا))؟ قال: ((وأصله من الجد، كأنه قال: أجدا؟ ولكنه لا يتصرف، ولا يفارق الإضافة، كما كان ذلك في لبيك ومعاذ الله)).

قال بعض أصحابنا: ((وإنما جعله_ يعني س _ من هذا الباب وإن كان أجدك ليس قبله كلام يؤكد؛ لأن الكلام الذي بعده النية به أن يكون مقدما عليه من جهة أن المصدر في هذا الباب منصوب بفعل مضمر تدل عليه الجملة التي المصدر توكيد لها؛ وذلك الفعل احق أو ما جرى مجراه، وذلك أنك إذا قلت (هذا عبد الله) فالظاهر أن يكون هذا الكلام قد جرى على يقين منك وتحقيق، فدل الكلام بظاهره على أحق أو ما في معناه، فلما كانت الجملة دالة على الفعل المضمر الناصب للمصدر كان الوجه فيها ان تكون متقدمة على المصدر؛ لأن الدليل بابه

ص: 377

أن يكون متقدما على المدلول، وإنما التزم في أجدك لا تفعل كذا تقديم المصدر لأنه خالف المصادر المؤكدة لما قبلها في التزامهم فيه الإضافة؛ والتغيير كثيرا ما يأنس بالتغيير، فلم يتصرفوا فيه لذلك، بل ألزموه طريقة واحدة، فجعلوه مجاورا لهمزة الاستفهام مقدما على ما يؤكده، وصار التقديم الذي كان في غيره ضعيفا لا يجوز غيره فيه)) انتهى.

والمحفوظ أن الفعل المنفي بعد أجدك يكون نفيه ب ((لم)) وب ((لن)) كما أنشدنا قبل، وب ((لما))، قال زهير:

أفي كل أخدان وإلف ولذة

سلوت، وما تسلو عن ابنة مدلج

وليدين، حتى قال من يزغ الصبا:

أجدك لما تستحي أو تحرج

وب ((لا)) كما قال س: أجدك لا تفعل كذا؟.

/ وأما ما استدل به المصنف من قول العربي ((نعم، وخالقهم لم تقم عن مثلهم منجبة)) فليس ((لم تقم)) جوابا للقسم، بل جواب القسم محذوف، يدل عليه سؤال السائل: ألك بنون؟ فقال: نعم، وخالقهم لبنون لي، ثم أستأنف مدحهم، وأخبر أنه لم تقم عن مثلهم منجبة.

فهذا الذي ذهب إليه المصنف من أنه قد تصدر في النفي بلم ولن لا سلف له فيه إلا ابن جني، فإنه أجاز ذلك في الضرورة، واستدل بما ذكرناه، وتقدم الرد عليه.

ص: 378

وكان أبو عبد الله محمد بن خلصة الكفيف يجيز أيضا أن يتلقي القسم بلم. وقد رد عليه ذلك أبو محمد بن السيد 0

واعتلوا لكون ((لن)) لم يتلق بها القسم_ وإن كانت ك ((لا)) في نفي المستقبل_ بأن قولك ((لن يفعل)) نفي ل ((سيفعل))، فلما كانت في مقابلة السين لم يتلقوا بها القسم كما لا يتلقى بالسين.

وقوله وتصدر في الطلب بفعله أو بأداته أو بإلا أو لما بمعناها تقدم لنا الكلام على ما يكون جوابا لفعل الطلب وأنه ستة أشياء في أوائل هذا الباب؛ ومثال فعل الطلب قول الشاعر:

بعيشك_ يا سلمى_ ارحمي ذا صبابة

أبي غير ما يرضيك في السر والجهر

ومثال الاداة قوله:

بربك، هل للصب عندك رأفة

فيرجو بعد اليأس عيشا مجددا

ومثاله بإلا قوله:

بالله ربك إلا قلت صادقة

هل في لقائك للمشغوف من طمع

ومثال لما:

قالت له: بالله_ ياذا البردين_

لما غنثت نفسا او اثنين

وقوله وتدخل اللام على ((ما)) النافية اضطرارا مثاله قول الشاعر:

ص: 379

لعمرك_ يا سلمى_ لما كنت راجيا

حياة، ولكن العوائد تخرق

وقال النابغة:

فلا عمر الذي أثني عليه

...........................

البيتان، وتقدم إنشادهما 0

-[ص: وغن كان أو الجملة مضارعا مثبتا مستقبلا غير مقارن حرف تنفيس ولا مقدم معمولة لم تغنه اللام غالبا عن نون توكيد؛ وقد يستغني بها عن اللام، وقد يؤكد المنفي ب ((لا)). ويكثر حذف نافي المضارع المجرد مع ثبوت القسم، ويقل مع حذفه. وقد يحذف نافي الماضي إن امن اللبس، ويكثر ذلك لتقدم نفي على القسم، وقد يكون الجواب مع ذلك مثبتا. وقد يحذف لأمن اللبس نافي الجملة الاسمية، /وقد يكون الجواب قسما.]-

ش: قال المصنف في باب نوني التوكيد ما نصه: ((وهما خفيفة وثقيلة، تلحقان وجوبا المضارع الخالي من حرف تنفيس المقسم عليه مستقبلا مثبتا غير متعلق به جار)) فكرر معظم أحكام المضارع، وخالفه بأنه قال هناك ((تلحقه وجوبا))، وقال هنا ((لم تغنه اللام غالبا)). وقال هناك ((غير متعلق به حار)) وقال هنا ((ولا مقدم معموله)). وقد شرحنا ما في باب نوني التوكيد، ونتكلم على هذا هنا، فنقول:

اخترز بقوله ((مثبتا)) من أن يكون منفيا، وذكر بعد أنه قد يؤكد المنفي ب ((لا)). واحترز بقوله ((مستقبلا)) من أن يكون حالا. قال المصنف في الشرخ. ((فإن أريد به الحال قرن باللام، ولم يؤكد بالنون؛ لأنها مخصوصة بالمستقبل، فمن

ص: 380

شواهد إفراد اللام لكون الحال مقصودا قول الشاعر:

لئن تك قد ضاقت عليكم بيوتكم

ليعلم ربي أن بيتي واسع

ومثله:

لعمري لأدري ما قضى الله كونه

يكون، وما لم يقض ليس بكائن

ومثله:

وعيشتك_ يا سلمى_ لأوقن أنني

لما شئت مستحيل ولو أنه القتل

ومثله:

يمينا لأبغض كل امرئ

يزخرف قولا، ولا يفعل))

انتهى.

واورد المصنف هذه المسألة كأنها مجمع عليها، وهي مسألة خلاف:

فمنهم من قال: إن الحال لا يجوز أن يقسم عليه؛ لأن مشاهدته أغنت عن أن يقسم عليه 0 وحكاه الزجاج عن المبرد، قال: ولذلك لم تدخل عليه إحدى النونين. ورد ذلك عليه بأن قال: لو كان امتناع دخول النون على الحال لأنها لا يحلف عليها لكان كل من يحلف عند القاضي لا يجب أن تقبل يمينه؛ لأنه يحلف أنه في حال ليس عليه شيء، ولامتنع قولك: والله لأنت أفضل الناس؛ إذ هو في حال فضل، وقولك: والله لزيد يصلي بحذائي ولامتنع (وَاللَّهُ يَشْهَدُ إِنَّ الْمُنَافِقِينَ لَكَاذِبُونَ).

ص: 381

وقال ابن عصفور وقد ذكر مذهب من منع ان يقسم علي الحال، قال: "وهذا باطل؛ لأنه قد يعوق عن المشاهدة عائق، فيحتاج إذ ذاك إلي القسم، نحو قولك: والله إن زيداً في حال قيام، لمن لا يدرك قيام زيد. والصحيح انه يجوز أن يقسم عليه، إلا أنه إن كان موجباً فإنك تنشئ من الفعل اسم الفاعل، وتصيره خبر المبتدأ، ثم تقسم علي الجملة الاسمية، فتقول: والله غن زيداً لقائم، والله إن زيداً قائم، والله لزيد قائم. وإنما لم يجز ان تبقي الفعل علي لفظه وتدخل اللام لأنك لو قلت والله ليقوم زيد لأدى ذلك إلي الإلباس/ في لعض المواضع؛ وذلك أنك إذا قلت والله ليقوم زيد لأدى ذلك إلي الإلباس/ في بعض المواضع؛ وذلك أنك إذا قلت إن زيداً والله ليقوم لم يدر هل يقوم خبر إن أو جواب القسم. ولا يجوز إدخال النون فارقة فتقول: إن زيداً والله ليقومن؛ لأن النون تخلص للاستقبال.

وقد تدخل عليه اللام وحدها، ولا يلتفت إلي اللبس، إلا أن ذلك قليل جداً، بابه الشعر، قال الشاعر:

تألى ابن أوسٍ حلفةً ليردني

إلي نسوةٍ، كأنهن مفائد"

وقال ابن عصفور أيضاً: "وإن كان المقسم عليه حالاً موجباً دخلت عليه اللام، ومن ذلك قراءة قنبل {لا أُقْسِمُ بِيَوْمِ الْقِيَامَةِ}، والأكثر فيه إذ ذاك أن يجعل خيراً لمبتدأ، فتصير الجملة اسمية".

وقال في "المقرب": "وإن كان موجباً فلابد من وقوعه خبراً لمبتدأ، فتكون الجملة إذ ذاك اسمية، نحو: والله إن زيداً ليقوم الآن".

وقال ابن أبي الربيع: "وأما في الإيجاب فترد الفعلية اسمية بتقديم الفاعل،

ص: 382

فتقول: والله لزيد يقوم".

وقال أيضاً: "وقد ياتي قليلاً: والله ليقوم زيد، كما قال:

كذبت، لقد أصبي علي المرء عرسه

وأمنع عرسي أن يزن بها الخالي"

وقوله غير مقارن حرف تنفيس احتراز من أن يقترن به حرف تنفيس، فإنه إن اقتران به دخلته اللام فقط، قال تعالى:{وَلَسَوْفَ يُعْطِيكَ رَبُّكَ فَتَرْضَى} ، وقال الشاعر:

فوربي لسوف يجزى الذي أسلفه المرء سيئاً أو جميلاً

وحكم السين في ذلك حكم سوف، فتقول: والله لسيقوم زيد. هذا مذهب البصريين، قالوا ذلك بالقياس علي سوف، ولم يسمع.

ولا يجيز ذلك الفراء، قال: لأن اللام كالجزء مما تدخل عليه، ولذلك جاز في فصيح الكلام: لهو قائم، بتسكين الهاء تخفيفاً إجراء لها مجرى عضد، فلو قلت والله لسنقوم لأدى ذلك إلي توالي أربعة أحرف بالتحريك فيما هو كالكلمة الواحدة، وذلك مرفوض في كلامهم، ولذلك سكنوا آخر الفعل في ضربت.

قال بعض أصحابنا: "والصحيح جوازه بدليل قول العرب: (والله لكذب زيد كذباً ما أحسب أن الله يغفره له)، فكما احتملوا ذلك في هذا وامثاله، ولم يجعلوا اللام كالجزء من الكلمة- فكذلك يجوز: والله لسيقوم زيد" انتهى.

ص: 383

وينبغي أن يزيد: "ولا قد"، فإنه تدخله اللام فقط، نحو: والله لقد يقوم زيد، حكم قد حكم سوف.

وقوله ولا مقدم معموله احتراز من أن يتقدم المعمول، فإنه إن تقدم دخلته اللام فقط، ومنه قوله تعالى:{لَإِلَى اللَّهِ تُحْشَرُونَ} ، وقال الشاعر:/

يميناً ليوم يجتني المرء ما جنت

يداه، فمسرور ولهفان نادم

وقال الآخر:

جواباً به تنجو اعتمد، فوربنا

لعن عملٍ أسلفت لا غير تسأل

وقال آخر:

قسما لحين تشب نيران الوغي

يلفي لدي شفاء كل غليل

ولو قال المصنف "غير مفصول بينه وبين اللام لم تغنه غالباً" كان أخصر واحصر؛ إذ نقصه أن يقترن ب "قد".

وقوله لم تغنه اللام غالباً عن نون توكيد هذا الذي اختاره هو مذهب الكوفيين، وأما البصريون فلابد عندهم من اللام والنون إلا في الضرورة، فقد يستغنى بإحداهما عن الأخرى.

وتبع أبو علي الكوفيين، فأجاز أن تذكرهما معاً أو أحدهما معاً أو احدهما، أي شيء أردت منهما.

وادعى ابن هشام الإجماع على انه لابد منهما، وأن أبا علي لم يسبقه أحد إلي ما ذهب إليه. وليس كما ذكر؛ إذ مذهب الكوفيين جواز تعاقبهما كما ذكرنا، ونصوص س علي لزومهما معاً.

ص: 384

فمثال ما النفي فيه باللم وحدها قول الشاعر:

تألى ابن أوسٍ حلفة ليردني

.........................

وقد تقدم إنشاد ابن عصفور هذا على أن "ليردني" فعل حالٍ دخلت عليه اللام، وذلك قليل جداً، وأنشده علي أنه فعل مستقبل، فاضطرب في فهمه فيه.

قال المصنف في الشرح: "وقلت (في الغالب) احترازا من قول النبي- صلي الله عليه وسلم- (ليرد علي أقوام أعرفهم ويعرفوني)، ومن قول الشاعر:

تألى ابن أوس حلفة ليردني ..................................

ومن قول ابن رواحة رضي الله عنه:

فلا وأبي لنأتيها جمعياً

ولو كانت بها عرب وروم"

وقوله وقد يستغنى بها عن اللام مثاله قوله:

وقتيل مرة أثأرن، فإنه

فرغ، وإن اخاكم لم يثأر

ص: 385

وأنشده الأستاذ أبو علي "وإن أخاكم لم يضهد"، وأنشده غيره "لم يقصد"، وأنشد قبله:

ولأثأرن بمالكٍ وبمالكٍ

وأخي المروراة الذي لم يسند

وقال آخر:

وهم الرجال، وكل ملك منهم

تجدن في رحبٍ وفي متضيق

وقال آخر:/

ليت شعري! وأشعرن، إذا ما قربوها منشورة، ودعيت

وقال آخر:

فليأزلن، وتبكأن لقاحه

ويعللن وليده بسمار

وقد اعتل الفارسي في "تذكرته" لعدم دخول إحدى النونين مع السين

ص: 386

وسوف حين يتقدم المعمول، نحو {لَإِلَى اللَّهِ تُحْشَرُونَ} ، ومع "قد" علي المنفي ب "لا"- بما ملخصه:"أن كلا من السين وسوف ولا تخلص الآتي من فعل الحال، فاستغنى عن النون إذ هي مخلصة أيضاً، وبأن قد حرف غير عامل كالسين وإن كانت قد خالفتها في أنها لا تدل علي الاستقبال" انتهى. ويعني أن "قد" حرف مختص بالفعل، جعل كالجزء منه كالسين.

وقوله وقد تؤكد المنفي ب "لا" قال المصنف في الشرح: "إن كان المضارع المجاب به القسم منفياً لم يؤكد بالنون إلا إن كان نفيه ب "لا"، فحينئذ قد يؤكد بها، كقول الشاعر:

تالله لا يحمدن المرء محتنبا

فعل الكرام وإن فاق الورى حسبا

والأكثر الا يؤكد، كقوله تعالى:{وَأَقْسَمُوا بِاللَّهِ جَهْدَ أَيْمَانِهِمْ لا يَبْعَثُ اللَّهُ مَنْ يَمُوتُ} " انتهى.

ولو حذفت "لا" كان كإثبات في تأكيد الفعل بنون، كما قال الشاعر:

بإصر يتركني ...................

..........................

وقوله ويكثر إلي قوله مع حذفه مثاله قوله تعالى: {تَاللَّهِ تَفْتَأُ تَذْكُرُ يُوسُفَ} ، وقال حسان:

ص: 387

أقسمت أنساها، وأترك ذكرها

حتى تغيب في الضريح عظامي

ولو كان الفعل المنفي ب "لا" مركداً بالنون لم يجز حذف "لا" لإلباسه بالمثبت؛ بل الذي يتبادر إلي الذهن هو الإثبات.

وقد أطلق المصنف في نافي المضارع المجرد مع ثبوت القسم، ولا يخلو من ان يكون النافي "لا" أو "ما"، فإن كان "لا" فالحكم كما ذكر، وإن كان "ما" فمن النحويين من أجاز حذفهما حملاً علي "لا"، ومن النحويين من منع ذلك لعدم ورود السماع به، ولما فيه من اللبس؛ لأنه لا يعلم إذا حذفت هل القسم علي النفي في الحال أو في المستقبل.

ومثال حذف "لا" والقسم محذوف قول الشاعر:

وقولي إذا ما أطلقوا عن بعيرهم

تلاقونه حتى يؤوب المنخل

أراد: والله لا تلاقونه. إلا أنه لا يجوز حذفها والقسم محذوف غلا إذا كان المعنى لا يصح إلا بتقدير النفي، كالبيت الذي أنشدناه، هكذا قال المصنف، وفهم ان قبل "تلاقونه" قسماً محذوفاً.

وقال بعض اصحابنا: "ولا يجوز حذفها منه- أي حذف/ لا من المضارع- في غير القسم إلا في ضرورة؛ لأنه لا يوجد فيه من كثرة الاستعمال والتفرقة اللازمة بين الإيجاب والنفي ما يوجد في القسم. ومما جاء من ذلك قول النمر بن تولب:

وقولي إذا ما أطلقوا .............. .....................................

البيت. يريد: لا تلاقونه. وقول الآخر:

ص: 388

تنفك تسمع ما حييت بهالك حتى تكونه

يريد: لا تنفك" انتهى. فلم يجعل تلاقونه ولا تنفك جواب قسم محذوف.

وقوله وقد يحذف نافي الماضي إن أمن اللبس مثاله قول أمية بن أبي عائذ الهذلي:

فإن شئت آليت بين المقا

م والركن والحجر الأسود

نسيتك ما دام عقلي معي

أمد به أمد السرمد

قال المصنف في الشرح: "أراد: لا نسيتك، فحذف النافي لأن المعنى لا يصح إلا بتقديره، وأنه لو أراد الإثبات لقال: لقد نسيتك، أو لنسيتك. وهذا النوع مع ظهور المعنى دون تقدم نفيٍ آخر علي القسم قليل" انتهى.

وقال بعض أصحابنا: إن دخلت علي لفظ الماضي، نحو قولك: والله لا فعلت هذا أبداً- لم يجز حذفها إلا في ضرورة، لا يجوز ان يقال في الكلام: والله فعلت هذا أبداً. ومما جاء في الضرورة قوله:

فلا وأبي دهماء زالت عزيزة

علي قومها ما فتل الزند قادح

يريد: فلا وأبي دهماء لا زالت عزيزة.

وزعم الكوفيون أن "لا" غير محذوفه في البيت، وإنما هى مقدمة من تأخير، والتقدير: فوأبي دهماء لا زالت عزيزة.

وما ذهبوا إليه باطل؛ لأن الحروف التي يتلقى بها القسم لا يجوز تقديمها علي القسم. ومما يدلك علي أن "لا" محذوفة في البيت رواية من روى:

لعمر أبي دهماء زالت عزيزة

...................................................

ص: 389

وقوله ويكثر ذلك لتقدم نفي علي القسم أي: ويكثر حذف نافي الماضي، قال:

فلا والإله نادى الحي ضيفي

هدوا بالمساءة والعلاط

أي: فلا والإله لا نادى، فحذف الثاني استغناء عنه بالأول. وقد يجتمعان، قال تعالى:{فَلا وَرَبِّكَ لا يُؤْمِنُونَ} ، وكقول أبي ذر:(فلا والله لا أسألهم دنيا، ولا أستفتيهم عن دين).

وقوله وقد يحذف لأمن اللبس نافي الجملة الاسمية مثاله قول الشاعر:

فوالله ما نلتم، وما نيل منكم

بمعتدل وفق ولا متقارب

أراد: ما ما نلتم، فحذف "ما" النافية، وأبقى "ما" الموصولة، وجاز ذلك لدخول الباء الزائدة/ في الخبر ولدلالة العطف.

ويجوز علي مذهب الكوفيين أن تكون "ما" الباقية النافية والمحذوفة الموصولة، ولا يجوز هذا علي مذهب البصريين؛ لأنهم لا يجيزون بقاء الصلة بلا موصول في اللفظ وغن دل عليه دليل، قاله المصنف في الشرح.

ص: 390

ونصوص أصحابنا علي أن "ما" و"إن" النافية إذا دخلتا علي الجملة الاسمية لا يجوز حذف واحدة منهما؛ فلا يجوز في: والله ما زيد قائم، ولا: والله إن زيد قائم، أن تقول: والله زيد قائم.

وقوله وقد يكون الجواب قسماً مثاله قوله تعالى: {وَلَيَحْلِفُنَّ إِنْ أَرَدْنَا إِلَّا الْحُسْنَى} ، التقدير: والله ليحلفن.

منع بعض أصحابنا أن يكون القسم جواباً للقسم، قال: لأن القسم لا يدخل علي القسم، قال ذلك في لعمرك، وقد تقدم.

-[ص: ولا يخلو دون استطالة الماضي المثبت المجاب به من اللام مقرونة ب "قد" أو "ربما" أو "بما" مرادفتها إن كان متصرفاً، وإلا فغير مقرونة، وقد يلي "لقد" و "لبما" المضارع الماضي معني، ويجب الاستغناء باللام الداخلة علي ما تقدم من معمول الماضي كما استغني بالداخلة علي ما تقدم من معمول المضارع.]-

ش: قال "دون استطالة" لأنه إذا كان ثم استطالة جاز حذف اللام، كقوله تعالي:{قُتِلَ أَصْحَابُ الأُخْدُودِ} ، وهو جواب لقوله {وَالسَّمَاءِ ذَاتِ الْبُرُوجِ} ، وقوله {قَدْ أَفْلَحَ مَنْ زَكَّاهَا} جواب {وَالشَّمْسَ} .

ولا يحتاج إلي هذا القيد، فقد جاء في كلام الفصحاء حذف هذه اللام وإبقاء "قد"، قال الشاعر، وهو زهير:

ص: 391

تالله قد علمت قيس إذا قذفت

ريح الشتاء بيوت الحي بالعنن

أن نعم معترك الحي الجياع إذا

خب السفير ومأوى البائس البطن

وقال أيضاً:

تالله قد علمت سراة بني

ذبيان عام الحبس والأصر

أن نعم معترك الجياع إذا

خب السفير وسابئ الخمر

واحتراز بقوله "المثبت" من المنفي، فإنه لا تدخله اللام إلا اضطراراً، وتقدم ذكره، ولا ينفى إلا ب "ما" و "إن"، ولا يجوز نفيه ب "لا"؛ لأن "لا" لا ينفى بها الماضي في غير القسم إلا في قليل من الكلام أو في ضرورة شعر، فلم يسمع لذلك نفي الماضي بها في القسم إلا أن يكون الماضي واقعاً موقع المستقبل، فيجوز أن ينفى ب "لا" رعيا لمعناه، فتقول: والله لا فعلت كذا أبداً، أي: لا أفعل.

وقوله مقرونة بقد مثاله {تالله لقد ءاثرك الله} . وظاهره أنك مخير أن تأتي ب "قد" وحدها أو اللام. وغيره يقول: ويجوز أن تصل اللام بقد إذا كنت مخاطباً لمن يتوقع خبرك، فتقول: والله لقد قام زيد.

ومثال اقتران اللام بربما قول الشاعر:/

لئن نزحت دار لليلى لربما

غنينا بخير، والديار جميع

وقوله أو ب "ما" مرادفتها انشد شاهداً علي ذلك قول عمر بن أبي ربيعة:

فلئن بان أهله

لبما كان يؤهل

وتقدم لنا الكلام في نظائر هذا البيت في حروف الجر عند قوله "وكذا بعد رب والباء، وتحدث في الباء المكفوفة معنى التقليل".

ص: 392

وملخص ما ذكرناه أن ثم بعد اللام فعلاً محذوفاً لدلالة ما قبله عليه، وتقديره في هذا البيت: لبان بما كان يؤهل، فاللام دخلت علي ذلك الفعل المحذوف، والباء سببية، و "ما" مصدرية، فعلى هذا لا تكون "لبما" بمعنى ربما.

وقوله إن كان متصرفاً احتراز من ان يكون جامداً، فإنه لا يقرن ب "قد" ولا ب"ربما" ولا ب "ما"، ولا كان غبر متصرف، فتقول: والله لقام زيد، قال تعالى:{وَلَئِنْ أَرْسَلْنَا رِيحًا فَرَأَوْهُ مُصْفَرًّا لَظَلُّوا} ، وفي الحديث من كلام امرأة من غفار (والله لنزل رسول الله- صلي الله عليه وسلم- إلي الصبح فأناخ)، وفي حديث سعيد بن زيد:"أشهد لسمعت رسول الله- صلي الله عليه وسلم- يقول: (من اخذ شبرا من الأرض ظلماً) " الحديث، وقال الشاعر:

لكلفتني ذنب امرئ، وتركته

كذي العر، يكوى غيره، وهو راتع

وحكى س، "والله لكذب". ولا يجوز حذف اللام و "قد"، فتقول: والله كذب.

وفصل ابن عصفور، فقال: "إن كان قريباً من زمان الحال أدخلت عليه

ص: 393

اللام وقد، فقلت: والله لقد قام زيد؛ لأن قد تقربه من زمان الحال. وإن كان بعيداً أتيت باللام وحدها، فقلت: والله لقام زيد، قال:

حلفت لها بالله حلفة فاجرٍ

لناموا، فما إن من حديث ولا صال

ومن النحويين من ذهب إلي أنها لابد أن تصحبها "قد" ظاهرة أو مقدرة، وقاسها علي اللام الداخلة علي خبر إن، فكما لا تدخل تلك علي الماضي كذلك لا تدخل هذه".

ورد ذلك بأن لام إن قياسها ألا تدخل علي الخبر إلا إذا كان هو المبتدأ في المعنى، نحو: إن زيداً لقائم، أو مشبهاً بما هو المبتدأ في المعنى، نحو: إن زيداً ليقوم؛ وذلك أنه لما تعذر دخولها علي المبتدأ دخلت علي ما هو المبتدأ في المعنى أو ما هو مشبه به، وليست كذلك اللام التي في جواب القسم.

قال ابن عصفور: "وأيضاً فغن قد تقرب من زمان الحال، فإذا /أردنا القسم علي الماضي البعيد من زمن الحال لم يجز الإتيان بها".

وقوله وقد يلي لقد ولبما المضارع الماضي معنى مثال "لقد" قوله:

لئن أمست ربوعهم يبابا

لقد بدعو الوفود لها وفودا

ومثال "لبما" قوله:

فلئن تغير ما عهدت ....

.............................

البيتان.

ص: 394

وتقدم لنا تأويل لبما.

وقوله ويجب الاستغناء باللام الداخلة علي ما تقدم من معمول الماضي مثاله قول أم حاتم:

لعمري لقدما عضني الجوع عضة

فآليت ألا أمنع الدهر جائعا

وقوله في مثل هذا "إنه استغناء باللام" ليس استغناء، بل هذه اللام هي الداخلة علي الماضي، فصل بينهما بمعموله.

وقوله كما استغني بالداخلة علي ما تقدم من معمول المضارع قال المصنف في الشرح: "وقد اجتمع في قول عامر بن قدامة:

فلبعده لا اخلدن، وما له بدل إذا انقطع الإخاء، فودعا شذوذان: أحدهما عدم الاستغناء بتقدم اللام عن النون، والثاني دخولها علي جواب منفي، فلو كان مثبتاً لكان دخولها عليه مع تقدم اللام اسهل" انتهى. يعني لو قيل: زيد والله لبعده أقوم- كان أسهل.

ص: وإذا توالى قسم وأداة شرط غير امتناعي استغني بجواب الأداة مطلقاً إن سبق ذو خبر؛ وإلا فبجواب ما سبق منهما، وقد يغني حينئذ جواب الأداة مسبوقة بالقسم.

وقد يقرن القسم المؤخر بفاء، فيغني جوابه. وتقرن أداة الشرط المسبوقة بلام مفتوحة تسمى الموطئة، ولا تحذف والقسم محذوف إلا قليلاً. وقد يجاء ب "لئن" بعد ما يغني عن الجواب، فيحكم بزيادة اللام.

ص: 395

ش: كرر المصنف مسألة توالي القسم وأداة الشرط في الفصل الأول من "باب عوامل الجزم" فقال: "وإن توالى شرطان أو قسم وشرط استغني بجواب سابقهما، وربما استغني بجواب الشرط عن جواب قسم سابق، ويتعين ذلك إن تقدمهما ذو خبر أو كان حرف الشرط لو أو لولا" انتهى ما ذكر في هذه المسالة في ذلك الفصل، وكنا شرحناه في "كتاب التكميل لشرح كتاب التسهيل"، ونحن نتكلم علي ما ذكر هنا، وغن كان قد تكلمنا عليه هناك، فلعلنا نأتي بمزيد في الشرح، فنقول:

قوله غير امتناعي هو قوله هناك "أو كان حرف الشرط لو أو لولا"، ومذهبه في ذلك انه يستغنى بجواب لو ولولا فالجواب للقسم، وجواب لو ولولا محذوف /لدلالة جواب القسم عليه.

وقوله مطلقاً إن سبق ذو خبر يعني أن الجواب لأداة الشرط سواء أتقدم القسم علي الشرط عليه إذا تقدمهما ذو خبر؛ وهو قوله هناك: "ويتعين ذلك- أي الاستغناء بجواب الشرط- إن تقدمهما ذو خبر". وتمثيل ذلك: زيد والله إن يقم أقم معه، وزيد إن يقم والله أقم معه.

وذكر غيره ان ذلك ليس علي سبيل التعيين بل علي سبيل الجواز، فيحوز أن تقول: زيد والله إن قام يقم عمرو، وزيد والله إن قام ليقومن عمرو.

وقال المصنف في الشرح: "فإن تقد عليهما ذو خبر استغني بجواب الشرط، تقدم علي القسم أو تقدم القسم عليه. وكان الشرط حقيقاً بأن يغني

ص: 396

جوابه مطلقاً لأن تقدير سقوطه مخل بالجملة التي هو منها، وتقدير سقوط القسم غير مخل لأنه مسوق لمجرد التوكيد، والاستغناء عن التوكيد سائغ، ففضل الشرط بلزوم الاستغناء بجوابه مطلقاً إذا تقدم عليه وعلي القسم ذو خبر".

وقوله وإلا فبجواب ما سبق منهما وهذا هو قوله هناك

"استغني بجواب سابقهما". ومعنى قوله "وإلا" أي: وإلا يسبق ذو خبر. مثاله: والله إن قام زيد لأقومن، وإن قام زيد والله أقم.

وإذا أغنى جواب القسم عن جواب الشرط لزم أن يكون جواب القسم مستقبلاً؛ لأنه مغن عن مستقبل ودال عليه، ولزم أن يكون فعل الشرط بصيغة الماضي او منفياً بلم؛ لما تقرر من ان جواب الشرط لا يحذف إلا إذا كان فعل الشرط علي ما ذكر، فلا يجوز أن تقول: والله إن يقم زيد لأقومن، ولا: والله إلا يقم زيد لأقومن، ولا: والله إن قام زيد لقمت، إلا أن يكون الماضي وقع موقع المستقبل، نحو قوله تعالى:{وَلَئِنْ أَرْسَلْنَا رِيحًا فَرَأَوْهُ مُصْفَرًّا لَظَلُّوا} ، أي: ليظلن.

وإذا تقدم علي القسم وحده ما يطلب خبراً أو ما يطلب صلة جاز أن يبنى ما بعده علي طالب الخبر وطالب الصلة؛ وجاز أن يبنى علي القسم، ففي الأول يكون جواب القسم محذوفاً لدلالة الخبر والصلة عليه، وفي الثاني يكون الخبر والصلة القسم وجوابه. مثال ذلك: زيد والله يقوم، وجاءني الذي والله يقوم، وزيد والله ليقومن، وجاءني الذي والله ليقومن.

وقوله وقد يغني حينئذ جواب الأداة مسبوقة بالقسم هذا هو قوله هناك: "وربنا استغني بجواب الشرط عن جواب قسم". قال المصنف في الشرح: "ولا يمتنع الاستغناء بجواب الشرط مع تأخره، ومن شواهد ذلك قول الفرزدق:

ص: 397

لئن بل لي أرضي بلال بدفعة

من الغيث في يمنى يديه انسكابها

أكن كالذي صاب الحيا أرضه التي

سقاها، وقد كانت جديبا جنابها

ومنها قول ذي الرمة:/

لئن كانت الدنيا علي كما أرى

تبارح من مي فللموت أروح

ومنها قول الأعشى:

لئن منيت بنا عن غب معركةٍ

لا تلفنا عن دماء القوم ننتفل"

انتهى.

وهذا الذي اجازه المصنف هو مذهب الفراء، وقد منعه اصحابنا والجمهور، وقالوا: لا يجوز جعل الفعل جواباً للشرط المتوسط بينه وبين القسم. قالوا: فأما قول الأعشى: لئن منيت بنا. البيت، وقول امرأة فصيحة من بني عقيل:

لئن كان ما حدثته اليوم صادقاً

أصمم في نهار القيظ للشمس باديا

وأركب حماراً بين سرج فروةٍ

وأعر من الخيتام صغرى شماليا

فاللام في "لئن" ينبغي أن تكون زائدة كالتي في قوله:

..............................

....................... أمسى لمجهودا

وكالتي في قراءة سعيد بن جبير: {إِلَّا إِنَّهُمْ لَيَاكُلُونَ الطَّعَامَ} ، وكالتي في قوله:

ص: 398

طعامهم لئن أكلوا معن

وما إن تحاك لهم ثياب

وعلي ذلك حملها الفارسي.

وأما قول الآخر:

حلفت لها إن تدلجي الليل لا يزل

أمامك بيت من بيوتي سائر

فليس "حلفت" فيه قسماً كما ذهب إليه الفراء، بل هو خبر محض غير مراد به معنى القسم إذا تقدم علي الشرط بني الجواب عليه، ولم بين علي الشرط. وإنما لم يبن الجواب علي المتأخر منهما لأنك لو فعلت ذلك لكنت قد حذفت جواب الأول لدلالة الثاني علي؛ والباب في المحذوفات التي يفسرها اللفظ ألا يحذف منها شيء إلا لتقدم الدليل عليه.

وقوله وقد يقرن القسم المؤخر بفاء، فيغني جوابه قال المصنف في الشرح: "فيجب الاستغناء بجوابه؛ لأن الفاء تقتضي الاستئناف وعدم تأثر ما بعدها بما قبلها، ومنه قول قيس بن العيزارة:

فإما أعش حتى أدب علي العصا

فوالله أنسى ليلتي بالمسالم

وأجاز ابن السراج أن تنوى هذه الفاء، فيعطى القسم المؤخر بنيتها ما أعطي بلفظها، فأجاز أن يقال: إن تقم يعلم الله لأزورنك، علي تقدير: فيعلم الله لأزورنك، ولم يذكر عليه شاهداً، فلو لم تنو الفاء لألغي القسم، فقيل: إن تقم يعلم الله أزرك" انتهى.

ص: 399

وقول المصنف "فيغني جوابه" وقوله في الشرح "فيجب الاستغناء بجوابه" يدل علي أن للشرط جواباً محذوفاً؛ أغنى عنه جواب القسم. وليس كذلك، بل الجملة القسمية هي نفس جواب الشرط، ولذلك دخلت الفاء، ولم يغني عنه جواب الشرط لأنه مصرح به، فكيف يقال إنه يغني عنه جواب الشرط، وذلك أن جواب الشرط قد يكون بالقسم، /نحو: إن تجئني فو الله لأكرمنك، فلذلك لزمت الفاء؛ لأنها تلزم كل جواب لا يمكن أن تباشره أداة الشرط.

وأما تجويز ابن السراج حذفها فينبغي ألا يجوز؛ لأن حذف فاء جواب الشرط لا يجوز غلا في الضرورة، نحو قوله:

من يفعل الحسنات الله يشكرها ............................................

وقوله وتقرن أداة الشرط إلي قوله إلا قليلاً أداة الشرط أعم من أن تكون إن أو غيرها، إلا أن قرنها بإن كثير، قال تعالى:{لَئِنْ جَاءَتْهُمْ آيَةٌ لَيُؤْمِنُنَّ بِهَا} ، {لَئِنْ أُخْرِجُوا لا يَخْرُجُونَ مَعَهُمْ} .

ومثال رزقت ليأتينك سيبه

جلبا، وليس إليك ما لم ترزق

وقول الآخر:

ص: 400

لمتى صلحت ليقضين لك صالح

ولتجزين إذا جزيت جميلا

وعلي ذلك حمل المصنف وغيرها تعالى {النَّبِيِّينَ لَمَا آتَيْتُكُمْ مِنْ كِتَابٍ وَحِكْمَةٍ ثُمَّ جَاءَكُمْ رَسُولٌ مُصَدِّقٌ لِمَا مَعَكُمْ لَتُؤْمِنُنَّ بِهِ وَلَتَنْصُرُنَّهُ} .

وقوله المسبوقة أي: بقسم ملفوظ به أو مقدر، فالملفوظ به {وَأَقْسَمُوا بِاللَّهِ جَهْدَ أَيْمَانِهِمْ لَئِنْ أَمَرْتَهُمْ} ، والمقدر {لَئِنْ لَمْ يَنْتَهِ الْمُنَافِقُونَ} الآية.

وقوله تسمى الموطئة أي: وطأت الجواب للقسم المذكور قبلها أو المنوي، وتسمى أيضاً المؤذنة، أي: آذنت بالقسم.

وقوله ولا تحذف والقسم محذوف إلا قليلاً وقال س: "فلابد من هذه اللام مظهرة او مضرة". وقال أصحابنا: أنت بالخيار في إدخال هذه اللام علي الأداة. ومن حذفها قوله تعالى: {وَإِنْ لَمْ يَنتَهُوا عَمَّا يَقُولُونَ لَيَمَسَّنَّ} ، {وَإِنْ أَطَعْتُمُوهُمْ إِنَّكُمْ لَمُشْرِكُونَ} ، {وَإِنْ لَمْ تَغْفِرْ لَنَا وَتَرْحَمْنَا لَنَكُونَنّ} ، وقال الشاعر: فإن لم تغير بعض ما قد صنعتم

لانتحين العظم ذو أنا عارقه

لم يقل: فلئن.

ص: 401

وقد شبه بعضهم إذ يإن، فأدخل عليها هذه اللام، قال:

غضبت علي وقد شربت بجزةٍ فلإذ غضبت لأشربن بخروف وهذه اللام زائدة للتأكيد، وموطئة لدخول اللام علي الجواب، ودالة على القسم إذا حذف، وليست التي يتلقى بها القسم، هذا مذهب البصريين.

وزعم الفراء أن هذه اللام لما دخلت علي الشرط أجيبت بجواب القسم.

واستدل لمذهب البصريين بجواز إسقاطها، وبرفع الفعل بعدها في نحو قول كثير:

لئن عاد لي عبد العزيز بمثلها

وأمكنني منها إذا لا أقيلها

فرفع أقيلها يدل علي اعتماد القسم عليه، ولو كانت لام لئن هي جواب القسم لانجزم: لا أقيلها، كما تقول: إن تقم إذا لا أقم.

وقال بعض أصحابنا: "ومما يدل للبصريين أن الفعل الواقع جواباً للقسم المحذوف إذا كان منفياً لم يجز حذفها إذ ذاك؛ لأنها لو حذفت /لم يكن في اللفظ ما يدل علي القسم المحذوف، فإذا وجد من كلام العرب (إن قام زيد لا يقوم عمرو) لم يحمل علي القسم، بل لابد من إدخال اللام علي أداة الشرط إذا أريد به معنى القسم، كما جاء في بيت كثير، وقوله تعالى: {لَئِنْ أُخْرِجُوا لا يَخْرُجُونَ مَعَهُمْ وَلَئِنْ قُوتِلُوا لا يَنْصُرُونَهُمْ} " انتهى.

وينبغي أن يقيد قول المصنف "ولا تحذف والقسم محذوف إلا قليلاً" بهذه المسألة السابقة؛ إذ يجب إثباتها، وذلك إذا كان الفعل الواقع جواباً منفياً بـ"لا".

ص: 402

وقوله وقد يجاء بلئن إلي أخره: مثال ذلك قول عمر بن أبي ربيعة:

ألمم بزينب، إن البين قد أفدا

قل الثواء لئن كان الرحيل غذا

وقول الآخر:

فلا يدعني قومي صريحاً لحرة

لئن كنت مقتولاً ويسلم عامر

اللام في لئن زائدة، وما قبل لئن دليل علي جواب الشرط المحذوف.

-[ص: لا يتقدم علي جواب قسم معموله إلا إن كان ظرفا أو جاراً ومجروراً. ويستغنى للدليل كثيراً بالجواب عن القسم، وعن الجواب بمعموله أو بقسم مسبوق ببعض حروف الإجابة، والأصح كون "جير" منها، لا اسماً بمعنى حقاً، وقد تفتح راؤها، وربما أغنت هي و "لا جرم" عن لفظ القسم مراداً، وقد يجاب ب"جير" دون إرادة قسم.]-

ش: قال المصنف في الشرح: "إن تعلق بجواب القسم جار ومجرور أو ظرف جاز تقديمه عليه، كقوله {عَمَّا قَلِيلٍ لَيُصْبِحُنَّ نَادِمِينَ}، وكقول الشاعر: رضيعي لبنا ثدي ام، تحالفا بأسحم داجٍ عوض لا نتفرق فغن تعلق به مفعول لم يجز تقديمه، فلا يجوز في والله لأضربن زيداً: والله زيداً لأضربن" انتهى.

وقد أطلق المصنف في جواب القسم، وجواب القسم إن كان ب "ما" أو ب "إن" فلا يجوز أن يتقدم المعمول عليهما، فإذا قلت: والله ما يقوم زيد الآن، أو في

ص: 403

البيت أو: والله إن زيداً قائم الآن، او في البيت- لم يجز تقدم "الآن" ولا "في البيت" علي "ما يقوم"، ولا علي "إن زيداً قائم".

وإن كان ب "لا" داخلة علي الموضوع ففي المسألة خلاف: منهم من أجاز تقديم المعمول مطلقاً من ظرف ومجرور ومفعول عليه. ومنهم من منع ذلك مطلقاً، وهو الصحيح.

و'ن كان باللام داخلة علي جملة اسمية فلا يجوز التقديم أيضاً مطلقاً. هذا نص أصحابنا.

وإن كان ما دخلت عليه اللام مضارعاً فالنص من أصحابنا انه لا يجوز مطلقاً. وأجاز هذا المصنف ذلك، ومثل به في قوله:{عَمَّا قَلِيلٍ لَيُصْبِحُنَّ نَادِمِينَ} .

وفي "البسيط": "وهذه اللام لا يعمل ما بعدها فيما قبلها، /وقد أجازه الفراء وابو عبيدة، ومنه قوله تعالى {فَالْحَقُّ وَالْحَقَّ أَقُولُ} {لَأَمْلأَنّ}، جوزوا في الاول أن يكون منصوباً ب {لَأَمْلأَنّ}، كأنه قال: لأملأن حقاً. والصواب انه منصوب بفعل القسم، أما اللام فهي لام الجواب، وليست لام الابتداء" انتهى.

وقوله ويستغنى للدليل كثيراً بالجواب عن القسم قال المصنف في الشرح: "كوقوعه بعد (لقج)، أو بعد (لئن)، أو مصاحباً بلام مفتوحة نون توكيد" انتهى.

ووجدت بخطي أن ذلك لا يجوز إلا بشرط أن يكون الجواب باللام أو بإن،

ص: 404

فليس يحذف القسم إذا كان متلقى بحرف غيرهما، ك "ما" و "لا" و "إن".

وقد اختلف في نحو قولك "لزيد منطلق" من غير قسم في اللفظ: فالمنقول عن البصريين أنها ليست لام قسم بل لام ابتداء. وقال الكوفيون: هي لام قسم. قالوا: والدليل عليه أنها تدخل علي الفضلات، كقولك: لطعامك زيد آكل، وليس الطعام بمبتدأ. وحجة البصريين أن اللام إذا دخلت علي مفعول ظننت ارتفع بالابتداء، ولا يمكن تقدير القسم فيه لأن ظننت لا يلغى بالقسم، فعلم ان تعليق ظننت لتحقق الابتداء كما تعلق بالاستفهام، كقولك: علمت أيهم قائم، وأما قولهم لطعامك زيد آكل فإنما جاز لأنها في حيز الخبر؛ إذ كان معموله متقدماً عليه، فكأنها داخلة علي المبتدأ.

وقوله وعن الجواب بمعموله قال المصنف في الشرح: "ويستغنى عن الجواب بمعموله، كقوله تعالى: {يَوْمَ تَرْجُفُ الرَّاجِفَةُ}، أي: لتبعثن يوم ترجف الراجفة" انتهى.

ولا يتعين ما قاله في الآية، ولا يثبت هذا الحكم بمحتمل؛ إذ يجوز أن يكون جواب {وَالنَّازِعَاتِ} ، قوله: لتبعثن، حذف لدلالة ما بعده عليه، ولا يكون {يَوْمَ تَرْجُفُ} معمولاً لقوله لتبعثن، حذف لدلالة ما بعده عليه، ولا يكون {يَوْمَ تَرْجُفُ} معمولاً لقوله لتبعثن، بل منصوباً بقوله {تَتْبَعُهَا الرَّادِفَةُ} . ويجوز أن يكون منصوباً بقوله {وَاجِفَةٌ} من قوله {قُلُوبٌ يَوْمَئِذٍ وَاجِفَةٌ} ، وكرر {يَوْمَئِذٍ} علي سبيل التوكيد.

ويحتمل أن يكون جواب القسم قوله {قُلُوبٌ يَوْمَئِذٍ وَاجِفَةٌ} ، وحذف اللام لطول الكلام، أي: والنازعات لقلوب يومئذ واجفة، ويكون {يَوْمَ تَرْجُفُ الرَّاجِفَةُ} {6} {تَتْبَعُهَا الرَّادِفَةُ} اعتراضاً بين القسم وجوابه. ويجوز أن يكون معمولاً ل {وَاجِفَةٌ} ، وسهل تقديمه كونه ظريفاً، وكون اللام التي هي في الجواب محذوفة.

ص: 405

وقوله أو بقسم مسبوق ببعض حروف الإجابة قال المصنف في الشرح: "وهي: بلى، ولا، ونعم، ومرادفاتها: إي وإن واجل وجير، كقوله تعالى: {أَلَيْسَ هَذَا بِالْحَقِّ قَالُوا بَلَى وَرَبِّنَا}، وكقولك لمن قال: أتفعل كذا؟ لا والله، ونعم والله، وإي والله، وإن والله، وأجل والله، وجير والله" انتهى. وتقدم لنا ذكر الخلاف في "إن"، هل تكون من حروف الإجابة، في شرح أول الفصل الثالث من "باب الأحرف الناصية الاسم الرافعة الخبر".

/وظاهر كلام المصنف أنه يستغنى عن الجواب بأحد هذين، إما بالمعمول أو بقسم مسبوق ببعض حروف الإجابة. والضابط انه لا يستغنى عنه إلا إذا وقع القسم بين متلازمين، كالشرط وجزائه، والمبتدأ وخبره، والموصول وصلته، وما أشبه ذلك، أو عقب كلام يدل عليه.

وقوله والأصح كون جير منها لا اسماً بمعنى حقاً، وقد تفتح راؤها قال المصنف في الشرح: "زعم قوم أن جير اسم بمعنى حقاً. والصحيح أنها حرف بمعنى نعم؛ لأن كل موضع وقعت فيه جير يصلح أن توقع فيه نعم، وليس كل موضع وقعت فيه يصلح أن توقع فيه حقاً، فإلحاقها بنعم أولى. وأيضاً فإنها أشبه بنعم الاستعمال، ولذلك بنيت، ولو وافقت حقاً في الاسمية لأعربت، ولجاز أن تصحبها الألف واللام، كما أن حقاً كذلك، ولو لم تكن بمعنى نعم لم يعطف عليها في قول بعض الطائيين:

أبي كرماً، لا آلفا جير أو نعم

بأحسن إيفاء، وأنجز موعد

ص: 406

ولا أكدت "نعم" بها في قول طفيل الغنوي:

وقلن علي البردي أول مشرب

نعم، جير، إن كانت رواء أسافله

ولا قوبل بها (لا) في قول الراجز:

إذا يقول (لا) أبو العجير

يصدق، لا إذا يقول (جير)

فهذا تقابل ظاهر، ومثله في التقدير قول الكميت:

يرجون عفوي، ولا يخشون بادرتي

لا جير لا جير، والغربان لم تشب

أراد: لا يثبت مرجوهم، نعم تلحقهم بادرتي. وقريب منه اجتماع (أجل) و (لا) في قول ذي الرمة:

تري سيفه لا ينصف الساق نعله

(أجل)(لا)، ولو كانت طوالا محامله"

انتهى.

وكان قد شنع علي الزمخشري في قوله "ومن الناس" بأنه جهل من هو قائل ذلك، وهوس، فيقال له: وأنت أيضاً جهلت من قال فيها "إنها اسم"- وهو س- بقولك: "وزعم قوم". وقد استدل علي أنها اسم بتنوينها.

ص: 407

قال الأستاذ أبو علي: "ويمكن أن يكون التنوين في جير في البيت جاء شاذاً كمجيء التنوين في اسم الفعل في الخبر في قولهم: فداء لك، بكسر الهمزة. وأيضاً فيمكن أن يكون من تنوين الترنم الذي يلحق القوافي عوضاً من ياء، ولابد منها في الوزن".

وقال بعض أصحابنا: "وأما عوض وجير فمبنيان، حذف منهما حرف القسم، فيجوز أن يحكم علي مواضعهما بالنصب بإضمار فعلٍ، أو بالرفع علي الابتداء أو علي خبر ابتداء مضمر، قياساً علي نظائرهما من الأسماء المحذوف منها حرف القسم. /وما ذكره الزجاجي من أن عوض تستعمل في القسم مذهب كوفي، والبصريون لا يعرفون القسم به" انتهى.

ومما لخصته من كتاب "الملخص": "يعوض من القسم (عوض) اسم دهر مبنياً علي الضم لقطعه عن الإضافة، أو علي الفتح لأنه اخف، كحيث، ولا يقال: عوض والله لأفعلن، وإن جاء فقليل إذ هو الأصل، وفيه الجمع بين العوض والمعوض منه.

و (جير)، وليست حرفاً بمعنى نعم لتنوينها، خلافاً لزاعمه. وقيل: مصدر، والمعنى: حقاً لأفعلن. وبنيت لقلة تمكنها؛ لأنها لآ تستعمل إلا في القسم، بخلاف سبحان؛ لأنها لا تخص باب التعظيم، قد توجد تعجباً وإنكاراً.

ص: 408

وقيل: اسم فعل، وبنيت لأنه الأصل علي الكسر، علي أصل التقاء الساكنين.

وقيل: ظرف، وبني لقلة تمكنه، وكأنه قال: لا أفعل هذا أبداً، وتكون بمنزلة عوض.

وهذه الأقوال [الثلاثة] تتقارب، والأول يبعد لأن تنوينها للتنكير، وهو لا يوجد إلا في الصوت واسم الفعل، فيغلب علي الظن أنها اسم فعل" انتهى.

والذي يظهر أنها من حروف الإجابة للدلائل التي استدل بها المصنف.

وقوله وربما أغنت هي و "لا جرم" عن لفظ القسم مراداً مثال الاستغناء ب "جير" قول الشاعر:

قالوا: قهرت، فقلت: جير ليعلمن

عما قليل أينا المقهور

وحكي الفراء أن العرب تقول: لا جرم لآتينك، ولا جرم لقد أحسنت.

يريد أنهم يستغنون بها عن القسم قاصدين بها معنى حقاً، وقد صرح بعض الأعراب

بالقسم مع: لا جرم، قال لمرداس: لا جرم والله لا فارقتك.

فاما قوله تعالى {لا جَرَمَ أَنَّ لَهُمُ النَّارَ} ، ف (لا) عند الخليل وسرد، و (جرم) فعل، فاعله أن وما بعدها. وقال الكوفيون: لا: نافية، وجرم: اسم لا، وأن علي تقدير من.

ص: 409

وقوله وقد يجاب ب"جير" دون إرادة قسم قال الشاعر:

وقائلة: أسيت، فقلت: جير

أسي، إنني من ذاك إنه

يجاب بها كما يجاب بأخواتها إلا "إي"، فلا يعلم استعمالها إلا مع قسم.

مسألة: قالت العرب: لا ها الله ذا، فالخليل يجعل ذا من جملة ما أقسم عليه، والتقدير: للأمر ذا. والاخفش يجعله توكيداً للقسم، كانه قال: ذا قسمي.

ويدل علي صحة هذا القول ذكر المقسم عليه بعد "ذا"، فيقولون: لا ها الله ذا ما كان كذا، وإتيانهم بعده بالمقسم عليه نفياً، ولو كان هو المقسم عليه لم يكن مطابقاً، وأنشد س:

تعلمن ها- لعمر الله- ذا قسماً

فاقدر بذرعك، وانظر أين تنسلك

أي: لعمر الله للأمر ذا أقسم قسماً، فتأكيد القسم بعده يدل علي انه المحلوف عليه.

/وقال الأستاذ أبو علي: "وأما قولهم (ذا) فزعم غير الخليل أنها من جملة ما أكد المقسم به، أي: هذا ما أقسم به، فإن جاء بعده جواب صح هذا القول، وإن لم يجيء عنهم أصلاً صح قول الخليل.

وتلخيصه ان أصل الكلام: إي والله للأمر هذا، ثم حذف حرف القسم،

ص: 410

وقدمت "ها" من "هذا" كما قدمت في: ها أنا ذا، وحذفت لام القسم مع المبتدأ وإن كانت لا تحذف وحدها، وهذا له نظائر لحذف الشيء الذي لا يجوز حذفه مفرداً إذا حذف معه ما يسوغ حذفه، نحو قوله تعالى:{فَأَمَّا الَّذِينَ اسْوَدَّتْ وُجُوهُهُمْ أَكَفَرْتُمْ} ، هذا مذهب الخليل". انتهى.

وقال أبو عمرو بن تقي: جعلها الخليل إشارة إلي المحلوف عليه، وهو الجواب، أشار إليه قبل ذكره لأنه أمر وشأن. وجعلها الأخفش إشارة إلي المقسم به؛ لأن موضع الإشارة إنما هو الأسماء لا الجمل.

وقال أبو عمرو بن تقي: جعلها الخليل إشارة إلي المحلوف عليه، وهو الجواب، أشار إليه قبل ذكره لأنه امر وشأن. وجعلها الأخفش إشارة إلي المقسم به؛ لأن موضع الإشارة إنما هو الأسماء لا الجمل.

وقال السيرافي: " وأبو الحسن يجعل ذا هو المحلوف به، وهو من جملة القسم، والتقدير عنده:

ها الله ذا قسمي. قال: والدليل علي ذلك أنهم يقولون: ها الله ذا لقد كان كذا، وها الله ذا لتفعلن".

وقال الفارسي في "التذكرة": "الذي يعضد مذهب الخليل انه قد ورد: لا ها الله ذا، فهذا إن كانت فيه ذا كما قال أبو الحسن فسيكون كمن يقول (والله)، ولا يأتي بالمقسم عليه، وهذا لا يجوز، فتعين انه مقسم عليه، فأما (لا ها الله ذا لأفعلن) فعلى قسم آخر، كما يجوز أن تقول مبتذئاً: لأفعلن". انتهى.

والذي أختاره مذهب الأخفش، ويدل عليه مجيء المقسم عليه بعده، وحمله علي إضمار قسم آخر خلاف الظاهر، وقال زهير:

تعلمن ها لعمر الله ذا قسما ....................................................

وجوابه قوله بعد ذلك:

ليأتينك منى منطق قذع ........................................................

ص: 411

ووجه الدلالة أنه أكد مضمون الجملة القسمية- وهي: لعمر الله ذا- بقوله "قسما"، كما تقول: له علي دينار اعترافاً. وجاز ذلك بعد قوله "ذا"، فلو كان "ذا" من الجملة المقسم عليها لم يفصل بين جملة القسم ومصدره المؤكد به بالجملة المقسم عليها، فدل علي أن "ذا" إشارة إلي القسم وتوكيد له كما أكد بقوله قسماً. ويحققه الإتيان بجواب القسم بعده.

وأما إن سمع "لا ها الله ذا" مقتصراً عليه فإنما ذلك من حذف الجملة المقسم عليها لدلالة معنى الكلام عليه؛ وعليه (لا ها الله ذا لا يعمد إلى أسد من أسد الله يقاتل في سبيل الله، فيعطي غيره سلبه)، وهو من كلام أبي بكر الصديق، فالظاهر أن "لا يعمد" هو الجواب.

وقال الأعلم: "تقديره: لعمر الله هذا ما أقسم به". فاختار مذهب الأخفش.

مسألة: إذا أخبرت عن قسم غيرك فلك أن تقول: أقسم زيد ليضربن عمراً، ولك أن تحكى فتقول: لأضربن.

مسألة: {{وَاللَّيْلِ إِذَا يَغْشَى} {وَالنَّهَارِ إِذَا تَجَلَّى} {وَمَا خَلَقَ الذَّكَرَ وَالأُنْثَى} {إِنَّ سَعْيَكُمْ لَشَتَّى} ، الواو في {وَالنَّهَارِ} ، وفي {وَمَا خَلَقَ} - للعطف لا للقسم؛ إذ لو كانت للقسم لاحتاج كل قسم إلي جواب علي حدة، وكان كل قسم مستأنفاً منفصلاً مما قبله، ولما كان المقسم عليه واحداً لم يقو أن تقدر منه جواباً لكل قسم؛ لأن في ذلك من التكرار لغير فائدة ما لا خفاء به، وإنما أراد: وهذه الأشياء

ص: 412

جملة إن سعيكم لشتى. ولو نويت بها القسم مستأنفاً لكنت تأتي بواو العطف؛ ألا ترى أنك تقول: والله لأفعلن، ووالله لأفعلن، فإذا كانت واو قسم مستأنف لم تجيء بواو العطف قبل ذكر جواب الأول، وكما لا يجوز مررت بزيد بعمرو إلا بالتشريك فكذلك هذا؛ لأن المقسم عليه واحد، وغنما يجوز ترك التشريك في الجمل، نحو: زيد قام عمرو ذاهب، وإنما أقسم علي شيء واحد، فالكلام جملة واحدة.

ودليل ما قال الخليل أن العرب لا تقول: تالله بالنبي لأفعلن كذا، فلا تأتي بقسم حتى توفي الأول جوابه، فتقول: تالله لأفعلن، بالكعبة لأفعلن.

وقال الفارسي: "ليس هذا خلافاً ل"س"؛ لأنه قد أجازه في آخر الباب علي التأكيد، إلا أنه ضعيف" انتهى.

وليس كما قال، إنما أجاز ذلك مع اتحاد حرف القسم والمقسم به، قال: التأكيد، إلا أنه ضعيف" انتهى.

وليس كما قال، إنما أجاز ذلك مع اتحاد حرف القسم والمقسم به، قال:

"ولو قال وحقك وحقك علي التوكيد جاز، وكانت الواو واو جر".

وقال الأستاذ أبو علي: تلخيص كلام الخليل أنه لا يجتمع مقسم بهما إلا أن يكون الثاني هو الأول علي التوكيد؛ ودليله أنا إذا قلنا: وحقك وحق زيد لأفعلن كذا، إذا لم تجعل الواو عاطفة فهو يحتمل وجوهاً أربعة:

الأول: أن تجعل "وحق زيد" توكيداً لجملة المقسم به. وهو فاسد؛ لأنه ليس /توكيداً لفظياً ولا معنوياً؛ إذ ليس لفظ الأول ولا معناه.

والثاني: أن تجعله متعلقاً بمحذوف، والجملة توكيد لجملة المقسم به. وفيه

ص: 413

تأكيد الشيء قبل أن ييتم، ولا يؤكد الشيء، ولا يحمل عليه شيء من الأشياء إلا بعد استقلاله، والمؤكد هنا هو جملة القسم والجواب، فهما في هذا القصد كالمفرد بالتوكيد، وذلك لا يجوز.

والثالث: أن تجعلهما جملتين منقطعتين، لكن جوابهما واحد. وهو واضح الفساد؛ إذ كل قسم لابد من جواب لأنهما منقطعان، إذ ليس الثاني تأكيداً للأول.

والرابع: أن تقدرهما جملتين، ولكل واحد جواب، إلا أنه حذف جواب أحدهما، وأكدت بإحداهما الأخرى بعد أخذ الجواب.

ولا يخلو في هذا الوجه أن تجعل جواب الأول هو المحذوف، والذي في اللفظ جواب الثاني، أو تعكس. فإن قدرت الأول ففيه مضعفان: حذف الأول لدلالة الثاني، وليس مطرداً، فإنه كالإضمار، فليس إلا في نحو أبواب الاشتغال، وبالجملة فهو لا ينبغي؛ إذ لا يحذف الشيء حتى يكون قد علم. والمضعف الثاني التأكيد مع الحذف، وهما متناقضان. فقد امتنع أن تكون الواو هنا واو قسم علي الوجوه الثلاثة من كل وجه، وعلي الرابع يضعف، ويكون شاذاً، فلم يبق إلا العطف. ولهذا الرابع تعرض الخليل أن يتكلم عليه، وضعفه، فتدبره؛ لأن الآخر بين الفساد. انتهى، وفيه بعض تلخيص.

مسالة: الاستحلاف يجري مجرى اليمين إلا فيما يذكر، ففاعل الفعل في الجواب علي حسب الفاعل في غيبة وخطاب وتكلم، نحو: والله ليقومن زيد، والله لتقومن، والله لأقومن.

وفي الاستحلاف يجوز: أستحلفه ليفعلن، ولأفعلن، هذا في الغائب، واستحلفتك لتفعلن، ولأفعلن، في المخاطب

ص: 414

تم بحمد الله- تعالى- وتوفيقه

الجزء الحادي عشر من كتاب "التذييل والتكميل"

بتقسيم محققه، ويليه- إن شاء الله تعالى-

الجزء الثاني عشر، وأوله:

"باب الإضافة"

ص: 415