الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
بسم الله الرحمن الرحيم
باب أدب السلطان
السلطان: يؤنث، ويذكر، لغتان مشهورتان ولم يذكر ابن السكيت سوى التأنيث، وقد ذكرنا ذلك في الفرائض.
وهو مشتق من السلاطة، وهي النجدة والقهر.
وقيل من السليط نوهو الزيت لأنه يستضاء به في دفع الظلم، وتخليص الحقوق. والمراد به هاهنا: الإمام الأعظم القائم بالخلافة النبوية في حراسة الدين وسياسة الدنيا.
وقد اختلف في جواز تسميته: خليفة الله:
فجوزه بعضهم لقيامه بحقوقه في خلقه، ولقوله تعالى:{وَهُوَ الَّذِي جَعَلَكُمْ خَلَائِفَ الْأَرْضِ وَرَفَعَ بَعْضَكُمْ فَوْقَ بَعْضٍ دَرَجَاتٍ} ] الأنعام:165 [.
وامتنع جمهور العلماء من جواز ذلك، ونسبوا قائله إلى التجوز، وقالوا: إنما يستخلف من يغيب، والله -تعالى- لا يغيب ولا يموت، وقد قيل لأبي بكر الصديق -رضي الله عنه يا خليفة الله، ولكني خليفة رسول الله صلى الله عليه وسلم
ولا شك في أن الإمامة رياسة تامة ورعاية عامة تتعلق بالخاصة والعامة في مهمات الدين والدنيا، كام عليه حرمنا متضمناً: حفظ الحوزة، ورعاية الرعية، وإقامة الدعوة بالحجة والسيف، وكف الجنف والحيف، والانتصاف للمظلومين من الظالمين، واستيفاء الحقوق من الممتنعين، وإيفاؤها على المستحقين، وهذه جمل يأتي تفصيلها.
قال: الإمامة فرض على الكفاية، لإجماع من أشرق عليه الشمس شارقة وغاربة، واتفاق مذاهب العلماء قاطبة.
وقد رأى أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم البدار إلى نصب الإمام، وتركوا بسببه التشاغل بتجهيز رسول الله- صلى الله عليه وسلم، مخافة أن يتغشاهم هاجمة، والمعنى فيه: أن هلو ترك الناس فوضى لا يجمعهم على الحق جامع، ولا يزعهم وازع، لا يردعهم عن اتباع خطوات الشيطان رادع، مع تعين الأذى وتفرق الأهواء- لهلك [الأنام]، وتوثب الطغاة والعوام، ونشبت الخصومات، واستحوذ على أهل الدين ذوو الغرامات.
وقد أشار الله – تبارك وتعالى إلى ذلك في الكتاب المبين بقوله- تعالى- وهو اصدق القائلين: {وَلَوْلَا دَفْعُ اللَّهِ النَّاسَ بَعْضَهُمْ بِبَعْضٍ لَفَسَدَتِ الْأَرْضُ وَلَكِنَّ اللَّهَ ذُو فَضْلٍ عَلَى الْعَالَمِينَ} [البقرة: 251].
وقد حكي عن عبد الرحمن بن كيسان وكذا الأصم: أن هلا يجب نصب إمام، ويجوز ترك الناس أخيافا، يلتطمون أسلافاً وأخلافاً. وهو مسبوق بالإجماع.
قال الإمام: وهذا الرجل – يعني: ابن كيسان- هجوم على [شق العصا]، ومقابلة الحقوق بالعقوق، ولا يسمى إلا عند الانسلال عن ربقة الإجماع.
لكن هل وجب ماذكرناه بالعقل [أو الشرع] فيه خلاف حكاه الماوردي، واستدل للأول بقول الأفوه الأودي وهو جاهلي:
لا يصلح الناس فوضى لا سراة لهم
…
ولا سراة إذا جهالهم سادوا
وقد نسب الإمام هذا إلى شرذمة من الروافض، والقاضي في كتاب الجنايات إلى طائفة المتكلمين.
والذي عليه جماهير الأمة: مقابله، وقد استدل له بقوله تعالى:{يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا أَطِيعُوا اللَّهَ وَأَطِيعُوا الرَّسُولَ وَأُولِي الْأَمْرِ مِنْكُمْ} [النساء: 59]، ففرض علينا طاعة أولي الأمر فيناوهم الأئمة [المتأمِّرون علينا]، وقد روى أبو هريرة أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: "سبيلكم بعدي [ولاة]، فيليكم البَرّ بِبِرِّه، والفاجر بفجوره، فاسمعوا لهم وأطيعوا في كل ما وافق الحق، فإن أحسنوا فلكم [ولهم]،وإن أساؤوا فلكم وعليهم.
فرع: إذا قام من فيه الكفاية بالإمامة سقط الفرض عن الباقين، وإن عرضت على [أكثرهم و] اكملهم فلم يقبلها لم يجبر [عليها]، لأنها عقد مراضاة واختيار لا يدخله الإكراه والإجبار، ويعدل عنه إلى من سواه من مستحقيها، كذا قاله الماوردي وغيره.
فإن امتنعوا ولم يقم بها أحد، قال الماوردي: خرج من الناس فريقان:
أحدهما: أهل الاختيار حت يختاروا إماما للأمة.
والثاني: أهل الإمامة حتى ينتصب أحدهم.
وليس على من عدا هذين الفرقين من الأمة في تأخير الإمامة حرج ولا مأثم.
قال: فإن لم يكن من يصلح إلا واحد تعين عليه أي: الدخول فيها لأن هذا شأن فروض الكفايات، ويلزمه طلبها، أي: عن لم تعرض عليه ليبرئ ذمته من فرضه.
قال: فإن امتنع أجبر عليها، لأنه عليه حق لا يقوم به غيره، فكان كالعبادة المتعينة.
قلت وقد يعرتض على هذا، فيقال، من شرط الإمام العدالة، وامتناعه فسق في هذه الحالة، فكيف يجبر؟ وجوابه: أن يقال: لعل الكلام مفروض فيما إذا كان الممتنع يرى عدم التعين، ورآه أهل الحل والعقد، او راى هو أيضا ذلك، لكن لا نسلم أن مجرد الامتناع من ذلك يفسق به، كما ذكرنا في ولاية النكاح، والله أعلم.
ووجه انعقادها بالطريق الأولى: أن أبا بكر – رضي الله عنه قال في وصيته: أما بعد، فقد استخلفت عليكم عمر ابن الخطاب، فإن عدل وبرّ فذاك ظني به، وإن غيّر وبدّل فالخير أردت، ولا يعلم الغيب إلا الله تعالى. فأثبت الناس كلهم إمامته بعهده.
ثم كيفية ذلك – كما قال في ((التهذيب)):ان يجعله خليفة في حياته، ثم يخلفه بعد موته. وهذا اخذه من قول القاضي الحسين في ((تعليقه)). فإذا استخلف الإمام واحداً في مرضه، خلفه] بعد موته فيما كان يتولاه، لأنه لما خلفه [في حال العجز الأوهى، فلأن يخلفه في حالة العجز الأبدي أولى. وقالا: إنه لو أوصى له بالإمامة من بعده، ففيه وجهان؛ لأنه بالموت يخرج عن الولاية، فلا تصح منه لغيره تولية.
قال الرافعي: ولك أن تقول: هذا التوجيه يشكل بكل وصاية، ثم ما ذكره – يعني البغوي –منجعله خليفة في] حالة [حياته، إما أن يريد] به [استنابته، فلا يكون هذا عهدا إليه [بالإمامة، أو يريد جعله إماما في الحال، فهذا]:إما خلع
النفس أو اجتماع إمامين في وقت واحد، وكل منهما لا يجوز، [او يريد] أنه يقول: جعلته خليفة [أو إماما] بعد موتي، فهذا هو معنى الوصية، ولا فرق بينهما.
قلت: وكلام القاضي الذي حكيته يدل على إرادة المعنى الأول، وما قاله الرافعي من [أن] هذا لا يكون ععهدا بالإمامة، يجوز أن يمنع، وعلى كل حال فلابد من قبول من عهد إليه، وفي وقت قبوله خلاف: فمنهم من قال: يدخل بموت المولّى، كما في الوصيةووجهه الإمام بأن المولّى صاحب العهد لا يملك أحاكم الرعية والإمامة، ولا يستقل بالإنابة والسياية، مادام المولي المعاهد حيا، فلا معنى للقبول في حال الحياة.
وصار صائرون إلى دخول وقته بعهد المولي [إلى موته]، وقال الماوردي: إنه الأصح، لتنتقل الإمامةعنه إلى المولى مستقرة بالقبول المتقدم.
قال الإمام: وعلى [الخلاف] المذكور يتخرج خلع المولى، فعلى الأول يجوز المعاهد عزله، وعلى الثاني يمتنع من غير سبب يقتضيه.
وقد جزم المتولي بالجواز مطلقاً، موجها [ذلك] بأن الخلافة لم تنتقل إليه، فلا يخشى منتبديله فساد ولا فتنة.
وجزم الماوردي بالمنع مطلقا [من غير سبب]، وهو ما رآه الإمام أظهر، وجعل الأمر شورى بعده بين اثنينفصاعدا إلى عدد محصور، كالاستخلاف، إلا [أن] المستخلف غير متعين، فيتشاورون ويتفقون على أحدهم، جعل عمر –رضي الله عنه الأمر شورى في ستة، فقال: هذا الأمر إلى علي وبإزائه الزبير، وإلى عثمان وبإزائه عبد الرحمن بن عوف، وإلى طلحة وبإزائه أبو عبيدة بن الجارح، فلما خلوا للشورى بعد موت عمر، قال عبد الرحمن: اجعلوا أمركم إلى ثلاثة، فقال الزبير: جعلت امري إلى [علة، وقال طلحة: جعلت أمري إلى عثمان، وقال أبو عبيدة: جعلت أمري إلى] عبد
الرحمن، [فقال عبد الرحم]: أيكم يبرأ من هذا الأمر ويجعله إليه؟ فلم يجبه أحد، فقال: أتجعلوها إلي وأخرج [منها] نفسي، والله شهيد، فقالا: نعم، فقال: قد فعلت.
ثم بعد ذلك بايع عثمان، واتفقوا عليه. فلو امتنع أهل الشورى من الاختيار لم يجبروا عليه، [وكأنه] ماجعل الأمر إليهم، وهذا هو المشهور.
[و] في ((البحر)) في كتاب الوصية: أن بعض أصحابنا، قال: يعتبر [في] تولية الإمام إماما رضا أهل الحل والعقد، ورضاهم: أن يعلموا به فلا ينكروه، كما علمت الصحابة في استخلاف عمر، وإن على هذا لو استخلف من لم يعلم به أهل الحل والعقد لم تنعقد إمامته. وقد حكاه في الإشراف – أيضاً- وحكاه الماوردي ((في الأحكام)) عن بعض علماء أهل البصرة.
والإمام في ((الغياثي)) نسب الخلاف إلى رواية بعض المصنفين، ورجح الأول، وقال: إنه الذي يجب القطع به، وعلى هذا: فلا فرق [بين] أن يكون المولى ولد المولي، أو والده، أو أجنبيا كما اختاره [الإمام].
وقيل: لا يجوز التفويض للوالد والولد كالتزكية والحكم لهما.
وقيل: يجوز للوالد دون الولد، لأن الميل إليه أشد. ولهذا الفصل فروع [نذكرها في] آخر الباب، إن شاء الله تعالى.
ووجه الانعقاد بالطريق [الثاني]، وهو إجماع جماعة على التولية، كما ذكرنا -: أن إمامة أبي بكر- رضي الله عنه هكذا ثبتت.
ثم المراد بأهل الاجتهاد: المستجمعون لشرائط الفتوى، لأن من جملة صفات الإمام: أن يكون مجتهدا مفتيا، ولا يحيط المجتهد المفتي [بالأمثلة].
وعن القاضي أبي بكر بن الباقلاني في عُصب من المحققين: أنه لا يشترط ذلك، بل بكفي أن يكون ذا عقل وكيس وفضل، ويهدي إلى عظائم الأمور، وبصيرة متقدة بمن يصلح للإمامة، ولم يشترط استجماع الإمام له من الصفات، لأنه قد تمهد في قواعد الشعر [؟ الشرع] أنا نكتفي في كل مقام بما يليق به من العلم: فيكفي في المقوم العلم بالأشعار والدربة التامة مع الكيس في صفات المقومات، ويقع الاجتزاء في القسام بمعرفة الحساب والمساحة وكيفية تعديل السهام، ويراعى في الخارص ما يقتضيه حاله، وفي الحكمين المنعوتين إلى الزوجين: أن يكونا عالمين بحقوق النكاح، وتفطنهما لعادات التعاشر، وإحاطتهما بما يدق. وهذا ما أورده الماوردي، وإن كان بغير هذا اللفظ مع اعتبار العدالة، وقال الإمام: إنه أقرب إلى التحقيق، واختار لنفسه مسلكا سنذكره، والذي اورده القاضي الحسين: انا إن اكتفينا في هذا العقد بواحد - كما سنذكره- فلا بد وأن يكون صالحا للإمامة، وإن لم نكتف به فلابد وأن يكون في الجماعة واحد صالح لها.
وما المراد بالجماعة التي تنعقد بهم الإمامة؟ اختلف فيه:
فقيل: هم جمهور أهل الحل والعقد من كل بلد، ليكون الرضا به عاما.
فقال الماوردي: وهذا مذهب مدفوع ببيعة أبي بكر رضي الله عنه على الخلافة
[باختيار] من حضرها، ولم ينتظر في التصرف من غاب عنها.
وقيل: هم [أهل الحل والعقد من العلماء والرؤساء ووجوه الناس، ولا يشترط اتفاق] أهل الحل والعقد في سائر البلاد والأصقاع، بل إذا وصل الخبر إلى اهل البلاد البعيدة فعليهم الموافقة والمتابعة، قال القاضي الحسين وهذا كما قلنا في الأجماع في الأحكام المجتهدات: ((لا تنعقد إلا باجتماع أهل الحل والعقد [عليه]، يعني: معظمهم إذا لم يتصور اجتماعهم، لتفاحش ما بينهم من التباعد، وهذا أصح عند البغوي والرافعي، وقال تفريعا عليه: إنه لا يتعين فيه عدد بل يعلق الحل والعقد بواحد مطاع كفت بيعته لانعقاد الإمامة، وهذا سنذكره عن الإمام.
ثم قد يفهم من هذا القول اختصاص أهل البلد الذي توفى فيه الإمام بذلك، وليس كذلك كما صرح الماوردي، لكن العرف اقتضاه، لسبق علمهم بموت الأول.
وقيل: هم أربعون، لأن عقد الإمامة أعظم ضررا من عقد الجمعة، وهذا العدد معتبر في الجمعة، ففي البيعة أولى.
قال الغمام: وهذا قول من لا يعد من احزاب الأصوليين.
وحكى القاضي الحسين [على] هذا القول وجهين في أن الذي ذكرناه اعتبار شرائط الإمام فيه، هل يعتبر وراء الأربعين أم يكون من جملة الأربعين- كالوجهين في الإمام في الجمعة، وحكاهما البغوي أيضا.
وقيل: هم خمسة: ولا تنعقد بما دونهم، لأمرين:
أحدهما: أن أبا بكر انعقدت إمامته بخمسة: عمر وأبي عبيدة بن الجراح وأسيد بن حصين وبشير بن سعد وسالم مولى أبي حذيفة.
والثاني: ان عمر جعل الشورى [في ستة]، لتعقد لأحدهم برضا الخمسة، قال
الماوردي وهذا قول أكثر الفقهاء والمتكلمين من اهل البصرة.
وقيل: هم أربعة لأنهم اكمل نصاب الشهادات.
وقيل: هم ثلاثة يتولاها أحدهم برضا الاثنين، ليكون حاكما وشاهدين، كما يصح عقد النكاح بولي وشاهدين، وهذا قول آخرين من علماء الكوفة.
قال بعضهم: وعلى هذا يدل كلام الشيخ، لأنه أقل ما ينطلق عليه اسم الجماعة، وفيه نظر، لأن أقل الجماعة اثنان، كما قاله الشيخ في باب صلاة الجماعة، ونطق به النبي -.نعم، كلامه بهذا الاعتبار يوافق قول من ادعى أن الإمامة تنعقد باثنين.
وقيل [: إنها] تنعقد بواحد، لأن العباس قال لعليّ: امدد يدك أبايعك، فيقول الناس: عم رسول الله - ربايع ابن عمه، فلا يختلف عليك اثنان. وهذا ما حكاه العمراني في ((الزوائد)) عن القاضي في كتاب الجنايات، وقد حكاه الماوردي مع قول من قال: إنها تنعقد بثلاثة كما تقدم، فحينئذ يرجع حاصل القولين إلى ان الإشهاد عند عقد الواحد هل هو شرط ام ال؟ [وقد حكي عن ((البيان)) حكاية وجهين في أن حضور شاهدين هذا العقد، هل هو شرط ام لا؟].
وقال الإمام إن الأئمة [كما] اختلفوا في عدد العاقد اضطربوا في اشتراط حضور الشهود، فرأى بعضهم: أن الإمامة تنعقد سرا بعقد من هو من أهل الحل والعقد، وزيف القاضي هذا المذهب، وتناهى مبالغا في الرد على معتقده، وسلك مسلك القطع فيما زعم، وقال: إن عمر لو استخلى بالبيعة لأبي بكر لما استقرت الإمامة، وأن على هذا قد اختلف الصائرون إليه، فاكتفى بعضهم بحضور شاهدين كعقد النكاح، وقال القاضي: لا يكتفى بهما بل يشترط حضور قوم يحصل بحضورهم الإشاعة والنشر والإذاعة.
وحكى العمراني عن القاضي انه قال: إذا اعتبرنا شاهدين، فعندي انه يشترط عدالتهما ظاهرا وباطنا، بخلاف النكاح، لأن في اعتبار العدالة الباطنة في النكاح
مشقة لأنه يعقده آحاد الناس فلو كلفناهم ذلك شق عليهم.
وقد حكى الإمام قول من قال: غنها تنعقد بواحد -أيضا- وقال: إن القاضي أبا بكر ارتضاه، وهو المنقول عن شيخنا أبي الحسن، وإنه أقرب إلى المذاهب، ووجهه بأن الغجماع ليس شرطا في هذا العقد إجماعا، ثم لم يثبت توقيف في عدد مخصوص، وليس بعض الأعداد اولى من بعض، فزم المصير إلى الاكتفاء بالواحد، لأن العقود في الشرع يتولاها عاقد واحد، وكلام القاضي يشير إلى أن هذا مقطوع به، ولست اراه بالغا مبلغ القطع، فإن أبا بكر – رضي الله عنه لما بايعه عمر – رضي الله عنه – لو ثار ثائرون وأبدو اصفحة الخلاف، ولم يرضوا تلك البيعة – لما كنت أجد متعلقا في أن الإمامة كانت تستقل ببيعة واحد، وكذلك لو فرضت بيعة اثنين أو أربعة فصاعدا، وقدرت ثوران مخالفين لما وجدت متمسكا به اكتراث واحتفال في قاعدة الأمة، ولكن لما بايع عمر تبايعت الأيدي، واصطفت الأكف، واتسعت الطاعة، وانعقدت الجماعة، فالوجه عندي في ذلك: أن يعتبر في البيعة حصول مبلغ من الأتباع والأنصار والأشياع يحصل بهم شوكة ظاهرة وبيعة قاهرة، بحيث لو فرض ثوران خلاف لما غلب على الظن أن يصطلم اتباع الإمام، فإذ ذاك تثبت الإمامة وتستقر، ومما يدل على ذلك اتفاق العلماء قاطبة على أن رجلا من أهل الحل والعقد لو استخلى بمن يصلح للإمامة، وعقد له البيعة، لم تثبتالإمامة غلا ان يكون الواحد مطاعا في قومه كثير الأتباع [بحيث يفيد أتباعه ما ذكرناه.
قال: ولأجل هذا لم أر أن يكون العاقد للإمامة] مجتهدا، [ولكني أشترط] ان يكون المبايع ممن يفيد مبايعته مُنّة واقتهارا، ووجه امتناع انعقاد الإمامة بغير الطريقين المذكورين:
التمسك بالأصل في عدم وجود ما يصلح دليلا له، وقد اتبع
الشيخ – فيما ذكرناه – صاحب ((الحاوي)) في الأحكام، فإنه هكذا حصر الانعقاد بالأمرين، وتبعهما في ذلك صاحب ((المرشد)) أيضا.
وقد قال غيرهم: إنه ينعقد بأمر آخر وهو القهر والشوكة، فإذا اجتمع في شخص شرائطها، وكانت له شوكة، ولم يكن ثمّ إمام، فقهر الناس وحملهم على طاعته – انعقدت له الإمامة كإمامة معاوية، وعلى ذلك جرى القاضي الحسين [والرافعي]، وأشار ابن يونس إلى خلاف فيه، حيث قال: انعقدت له الإمامة عل ىلصحيح من المذهب [، وللإمام تلويح إليه مع تفصيل فيه]. نعم، الخلاف المشهور [في] انعقادها له إذا كان فاسقا أو جاهلا، والظاهر: الانعقاد – أيضا – وإن كان عاصيا بما فعله، والفرق بين انعقاد الإمامة بهذا الطريق وبين انعقادها بأحد الطريقين السابقين: أنه لو تغلب متغلب على هذا الذي انعقدت إمامته بالتغلب، انعقدت إمامة الثاني، وانعزل الأول بلا خلاف، بخلاف من انعقدت إمامته بأحد الطريقين السابقين كما سنذكره.
وقد حكى الماوردي عن بعض فقهاء العراق والمتكلمين ثبوت الإمامة لمن تعينت عليه من غير عقد اقد، وتحمل الامة طاعته، لأن مقصود الاختيار تميز المُولّى وهذا متميز، وقد اختار الإمام هذا.
قال: ولا يجوز أن ينعقد لاثنين في وقت واحد، أي: في بلدين وإن تباعدتا وانتشر الإسلام حتى عم الأرض [شرقها وغربها]، كما قاله القاضي الحسين، وجهه: أن الأصل في الإمامة نبوة النبي صلى الله عليه وسلم، ولا يجوز التمسك بشريعة غير شريعته لمن بلغته الدعوة، فكذلك لا يجوز لأحد أن يطيع إمامين، ولأن في تعدد الأئمة اختلال أمور المسلمين، وافتراق الكلمة، لأنه قلما يتفق رأي شخصين، فلم يجز أكثر من إمام واحد، لتكون كلمة الإسلام مجتمعة. وتخالف جواز تولية قاضيين في بلد واحد على الشيوع على أحد الوجهين – كما سنذكره – فإن الإمام وراء القضاة، فإن فرض تنازع
وتمانع بين واليين كان وراء المسلمين مرجوع إليه، وأما الإمامة فهي الغاية القصوى، وليس بعدها مرجوع إليه ومتبوع، فاستحال نصب إمامين نافذي الحكم عموما، وهذا جزم به القاضي الحسين.
وحكى الماوردي عن قوم [شذوا: أنهم يجوزون] ذلك في مثل هذه الحالة، وحكي عن أبي القاسم الصيرمي أنه حكى ذلك في الغنية عن الأستاذ أبي اسحاق، لانه في أحد الإقليمين ما يحتاج إلى نظر الإمام، ويفوت المقصود بسبب البعد، قال الرافعي [وغيره]: وينسب هذا إلى اختيار الإمام، وصرح به ابن يونس عنه، وقال ، إنه خطأ، لأنه مسبوق بالإجماع على أنه لا يجوز.
وفي ((الإشراف)): أن الأستاذ أبا اسحاق جوز ذلك في حالة واحدة، كالقضاء والبنوة: ولم يخص ذلك بحالة التباعد.
والذي حكاه الإمام في ((الغياثي)) في حالة اتساع الخطة ووقوع قوم من الناس نبذة من الدنيا، بحيث لا ينتهي إليهم نظر الإمام، وتولج خط من بلاد الكفر بين خطة الإسلام – أن صائرين صاروا إلى نصب إمام في القطر الذي لا يبلغه اثر نظر الامام وعزى المهذب الى شيخنا ابي الحسن والاستاذ ابي اسحاق الاسفراييني وغيرهما واتبع هؤلاء مصلحة الخلق
ثم قال وانا اقول ان سبق عقد الامامة لصالح لها وكنا نراه عند العقد مستقلا بالنظر في جميع الاقطار ثم ظهر مايمنع من اثبات نظره – فلا وجه لترك الذين [لا] يبلغهم امر الامام مهملين ولكنهم ينصبون اميرا يرجعون اليه ولايكون دلك المنصوب اماما. ولو زالت الموانع واستمكن الامام من النظر [اليهم] اذعن الامير والرعاية للامام فان راى تقرير الامير فعل وان راى تغيره فرايه متبع. وان لم يتقدم امام وخلا الدهر عن امام في زمن فترة وانفصل شطر من الخطة عن شطر وعسر نصب امام واحد يشمل رايه البلاد والعباد فنصب في احد
الشطرين في هذه الصورة أمير، وفي الأخرى أمير ولم يوقع العقد لواحد على العموم – فالحق المتبع في ذلك: أن واحدا منهما ليس إماما ولست أنكر تجويز نصبهما على حسب الحاجة ونفوذ أمرهما على موجب الشرع، ولكنه زمان خال عن أمام، ثم ان اتفق نصب إمام فحق على الأميرين أن يستسلما له، ليحكم عليهما بما يراه صلاحا.
قال: فإن عقد لاثنين فالإمام هو الأول، لما روى [أبو هريرة] أن النبي صلى الله عليه وسلم:((فوا بيعة الأول فالأول، وأعطو حقه فإن الله - تعالى – سائلهم مااسترعاهم)) وروى أبو سعيد الخدري، قال: قال صلى الله عليه وسلم: ((إذا بويع لخليفتين فاقتلوا الآخر منهما))، ال القاضي الحسين: وروي ((فأقيلوا)) بالياء.
والمعنى – كما قال الخطابي –:لاتطيعوه، ولا تقبلوا له قولا، فيكون كمن مات او قتل، [وقيل:] المعنى أنه [إن] أصر ولم يبايع الأول، فهو باغ فيقاتل، ولأن المعقود عليه لا يقبل غير عقد واحد، فصح الأول وبطل الثاني كمافي النكاح.
وحكى الماوردي عن طائفة أنهم قالوا: الإمام هو الذي عقدت له الإمامة في البلد الذي مات فيه من تقدمه، وعن آخرين: أنه يجب على كل واحد [منهما] أن يدفع الإمامة عن نفسه، ويسلمها لصاحبه، طلبا للسلامة، ليختار أهل الحل والعقد غيرهما وعن آخرين: أنه يقرع بينهما، والصحيح الذي عليه الفقهاء المحققون الأول.
قال: وإن عقد لهما معاً، أو لم يعلم السابق منهما- استؤنفت التولية، إذ لا مزية لأحدهما على الآخر، وهذا ما حكاه الإمام في ((الغياثي))، ووافقهما في حالة وقوعهما معاً غيرهما، وفي هذه الحالة يجوز العقد لاحدهما ولغيرهما وفي الحالة
الأخرى – وافقهما – القاضي في كتاب الجبايا كما حكاه في ((الزوائد)).
وقال الماوردي: إنه يوقف الأمر إلى أن ينكشف الحال، ولا مدخل للقرعة فيه، لأن الإمامة عقد، والقرعة لا مدخل فيها في العقود، ولأن الإمامة لا يجوز الاشتراك فيها، والقرعة لا مدخل فيها في العقود، والقرعة لا مدخل لها فيما لا يصح الاشتراك فيه، كالمناكح، ولا يسمع فيها دعوى أحدهما على الآخر [أنه السابق]، فلا يكون ليمينه ولا لنكوله حكم، وكذا لو قطعا التنازع فيها وسلمها أحدهما إلى الآخر لم تستقر إمامته إلا ببينة تشهد بتقدمه، ولو أقر أحدهما بالتقدم [للآخر خرج منها المقر ولم تستقر للآخر. نعم، لو شهد له بالتقدم] مع شاهد آخر سمعت شهادته إن ذكر اشتباه الأمر عليه عند التنازع، ولم يسمع منه إن لم يذكر الاشتباه، لما في القولين من التكاذب.
ثم إذا طالت مدة الاشتباه، ولم يكن الانتظار – قال الماوردي: بطلت البيعتان وتستأنف بيعة لأحدهما.
وفي جواز العدول إلى غيرهما خلاف، ووجه المنع: أن البيعة قد صرفت الإمامة عن عداهما.
ولو امكن وقوع البيعتين معا، وتقدهما أحدهما، وأشكل – قال الرافعي:[فليكن] كما ذكرنا في الجمعتين والنكاحين.
وفي ((الزوائد)):أنا نحكم ببطلانهما.
ولو علم السابق ثم نسي، قال القاضي في كتاب الجبايا: فإن جوزنا انكشافه في مدة يوم أو يومين أو ئلاثة، جاز الانتظار، اقتداء بوصية عمر –رضي الله عنه في الشورى، وإن لم نرح ذلك استؤنفت.
قلت: وينبغي أن [مدة الانظار في المسألة] السابقة هكذا.
قال: وينبغي أن يكون الإمام ذكرا، لأن المرأة لا تلي الإمامة الخاصة بالرجال، فكيف الإمامة العامة التي تقتضي البروز وعدم التخدر الذي المرأة مأمورة بخلافه،
وقد روى أبو بكرة – رضي الله عنه-عن رسول الله - أنه قال: ((لن يفلح قوم ولوا أمرهم امرأة)).
قال الإمام: ومن جوز من العلماء تصدي المرأة للقضاء [فيما يجوز أن تكون شاهدة فيه احال انتصاب المراة للإمامة فإن القضاء] قد يثبت مختصا، والإمامة يستحيل في وضع الشرع ثبوتها على الاختصاص.
والخنثى المشكل –في هذا المقام- في معنى المرأة.
قال: حرا، لأن حجر الرق إذا نافى الولايات الخاصة، فلأن ينافي [الولايات العامو] أولى، ولأن العبد لا يُهاب ولا يكاد يتفرغ.
قال: بالغا عاقلا، لأن الصبي والمجنون إذا لم يصلحا للنظر في أمر انفسهما فكيف بك في أمر غيرهما، وهذا متفق عليه، ومجموع لفظ هذين الوصفين لفظ ((التكليف)).
قال: عدلاً، أي: ليس بفاسق، وقد يعبر عن هذا الوصف بالورع والتقوى والأمانة كما فعله الإمام، ووجهه أن الفاسق لا يوثق به في شهادة على فلس، فكيف يولى أمور المسلمين كافة؟!
قال الإمام في ((الغياثي)): والأب لافاسق مع فرط إشفاقه وحنوه على ولده، لا يعتمد في مال ولده، فكيف يؤتمن في الإمامة العظمى فاسق لا يتقي الله؟!
وقد جمع الماوردي ماذكرناه في قوله: أن يكون متصفا بالعدالة على شروطها الجامعة.
قال: عالماً بالأحكام. أراد بهذا أن يكون مجتهدا لا مقلدا، لأن معظم أمور الدين تتعلق بالأئمة، فلو لم يكن الإمام مستقلا بعلم الشريعة لاحتاج إلى مراجعة العلماء في تفاصيل الوقائع، وذلك يخرجه عن رتبة الاستقلال، ويفوت من الأمور العظام والخطوب الجسام ما لا يتناهى ولا يخطر بالبال.
وقد يفهم من كلام القاضي الحسين: أن ذلك ليس بشرط، حيث قال: لو اجتمع عالم فاسق وعدل جاهل، فالعدل الجاهل أولى، لأنه يمكنه حفظ الإمامة.
ثم ما يعرض له من الحوادث التي يحتاج فيها إلى الاجتهاد يفوضها إلى مجتهد من العلماء يكفيه ذلك، ويستشير العلماء، فما وقع الاتفاق عليه يعمل [به ويمضي] الحكم فيها بنفسه، بوليس] كذلك، فإن هذا مفروض -كما ذكره الإمام عند فقد من يوجد من اهل الاجتهاج.
ثم في هذا الوصف ما يغني عن ذكر الإسلام وإن كان معتبرا، كما صرح به غيره.
وقال بعض الشارحين: إن الشيخ لم يذكره، لأن الاجتهاد في الأحكام الشرعية لا يتصور من كافر.
قال: كافيا لما يتولاه من أمور الرعية وأعباء الأمة، لتوقف المقصود منه على ذلك.
والأعباء- بفتح الهمزة والعين [المهملة، وبالمد-: الأحمال والأثقال، واحدها: عبء، كحمل وأحمال]، وزنا ومعنى.
وقد أدرج الشيخ في هذا الوصف أوصافا صرح بها غيره:
منها: أن يكون ذا رأي صحيح مفض إلى سياسة الرعية، وتدبير المصالح، إذ الغرض من الإمام جمع شتات الرأي، فإنه لا ينتظم مع تفرقه تدبير، ولا يستتب من إنالة الملك قليل ولا كثير.
الرأي قبل شجاعة الشجعان ....
…
.... ....
ومنها أن يكون شجاعا ليغزو بنفسه، ويعالج الجيوش، ويقوى على فتح الحصون، ويدفع الأعداء، فالجبانة تفضي إلى اصطلام الحوزة واستئصال البيضة.
ومنها: أن يكون سميعاً بصيراً ناطقاً، ليتأتى منه فصل الأمور ومباشرة ما يدرك بها.
قال المتولي: ولا يشترط سلامة سائر الأعضاء من نقص يمنع من استيفاء الحركة وسرعة النهوض.
وقد عدَ الماوردي سلامة الأعضاء من نقص يمنع ذلك شرطاً من جملة الشروط، وحكى خلافا في فقد شيء يحصل به قبح وشين، ولم يؤثر في عمل ولا نهضة: كجدع الأنف، وسمل إحدى العينين، وجزم في ((البحر)) [في كتاب الأقضية] بمنع ولاية الأعور، مع جزمه بصحة توليته القضاء.
قال الإمام: وقد يمكن رد هذه الصفات- يعني المذكورة من الأول إلى هنا- إلى شيء واحد وهو الاستقلال، فإنه يدخل تحته الكفاية والعلم والورع والتكليف والحرية، وكذا الذكورة، فإن المرأة مأمورة بأن تلزم خدرها، ومعظم أحكام الإمام تستدعي الظهور والبروز، فلا تستقل المرأة إذا.
قال: وأن يكون من قريش، لورود لورود النص فيه، وانعقاد الإجماع عليه.
قال الماوردي: ولا اعتبار بصيانة، فجوزها في جميع الناس، لأن أبا بكر احتج يوم السقيفة على الأنصار في دفعهم عن الخلافة، لما بايعوا سعدا بن عبادة عليها، يقول النبي صلى الله عليه وسلم:"الأَئِمَّةُ مِن قُرَيشٍ"، فأقلعوا [عن التفرد بها، ورجعوا] عن المشاركة فيها حين قالوا: منا أمير [ومنكم أمير،] تسليماً لروايته، وتصديقاً لخبره،
ورضوا بقوله: نحن الأمراء وأنتم الوزراء.
وقال صلى الله عليه وسلم: "قدموا قريشاً ولا تقدموها".
وقد استدل الإمام لذلك مع الخبر- بأن الماضين ما زالوا لاهجين باختصاص هذا المنصب بقريشن ولم يتشوف أحد قط من غير قريش إلى الإمامة على تمادي الأيام وتطاول الأزمان، مع العلم بأن ذلك لو كان ممكناً لطلبه ذوو النجدة والبأس، ولما اشرأب لهذا المنصب المارقون في فسقطاط مصر اعتزوا أولاً إلى الشجرة النبوية على الافتراء، وبذلوا خزائن الأموال للكذابين النسابين، حتى ألحقوهم بصميم النسب. ثم قال: ولسنا نعقل احتياج الإمامة في وضعها إلى النسب، ولكن خص الله - تعالى - هذا المرتب العلي السني بأهل بيت النبي صلى الله عليه وسلم وكان ذلك من فضل الله يؤتي من يشاء.
وقد نسب بعضهم إلى الإمام احتمالاً في عدم اعتبار كونهم من قريش، والذي وقفت عليه من كلامه ما ذكرته.
والقاضي الحسين، قال: الشرط في الإمامة أن يكون من قرابة رسول الله صلى الله عليه وسلم، ثم من كان أقرب إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم كثيرًا، كان أولى بالإمامة؛ فالهاشمي أولى، فإن لم يوجد أحد من بني هاشم صالحاً [لها] فمن قريش، وهذا يكاد يرد عليه الإجماع؛ فإن أبا بكر وعمر وعثمان رضي الله عنهم لم يكونوا من بني هاشم وبني المطلب، وعليّ من بني هاشم، وقد قُدِّموا عليه.
ثم هل يراعى مع وجود الأوصاف المعتبرة الأكمل أو لا؟ [ولا] شك في أن الأكمل أولى، لكن لو بويع المفضول، فهل تنعقد إمامته؟ فيه خلاف حكاه الإمام في كتاب الأقضية:
الذي أورده الماوردي: أنه إن كان ذلك لعذر دعا إليه من كون الأفضل غائبًا أو مريضاً، أو كون المفضول أطوع في الناس وأقرب إلى القلوب- انعقدت، وإن بويع لغير عذر، فقد اختلف [في] الانعقاد.
والذي عليه الأكثرون من الفقهاء والمتكلمين: الانعقاد؛ لأن زيادة الفضل مبالغة في الاختيار، وليست معتبرة في شروط الاستحقاق.
ولا خلاف في أنه لو لم تتفق الكلمة إلا عليه، في الجواز؛ لتنحسم مادة الفتنة، وكذا لو نشأ من هو أفضل من الإمام المنصوب [لم يعزل المنصوب] به.
ثم الأكمل عند الاستواء في الشرائط: الأسنُّ. ولو كان أحدهما أعلم والآخر أشجع، قال الماوردي: روعي ما يوجبه حكم الوقت: فإن كانت الحاجة إلى فضل الشجاعة أدعى كان الأشجع أحق، وإن كانت الحاجة إلى [فضل العلم] أدعى؛ لسكون الدهماء وظهور أهل البدع؛ كان الأعلم أحق.
قال: فإن اختل شرط من ذلك لم تصح توليته؛ لقيام الأدلة على اعتبارها، وهذا ما [اقتضاه كلام] الماوردي – أيضاً- وظاهره: أنه لا فرق [في ذلك] بين أن يكون المفقود النسب أو غيره.
وقد حكى القاضي الحسين وجهاً: أنها إذا عقدت لفاسق انعقدت؛ لأنهم لم فوضوا الأمر إليه وعقدوا له الإمامة رأوه أهلاً [لها]، ونظرًا للمسلمين فيها، فلم يُرَدّ اجتهادهم، وحكم بالانعقاد. وفيه – أيضاً-: أنا إذا عدمنا قرشيًّا بالصفات المذكورة، عدلنا إلى كنانة؛ لقوله عليه السلام:"إن الله- تبارك وتعالى اصطفى من العرب كنانة، ومن كنانة ريشاً، ومن قريش بني هاشم، فأنا [خِيَارٌ] من خِيارٍ إلى خيارٍ"، أو لفظ هذا معناه.
فإن لم يوجد واحد منهم فمن جرهم، وهم الذين ربوا إسماعيل – عليه السلام بمكة، وتزوج منهم كما قاله غيره، وتعلم اللسان منهم [، وأولاده منهم].
وقال غيره: إنه إذا لم [يوجد كنان] فرجل من ولد إسماعيل، فإن لم يكن
فمن جرهم، فإن لم يوجد فرجل من نسل إسحاق- عليه السلام وهذا ما أورده المتولي.
[وفي]"التهذيب": أنه إذا لم يوجد [أحد] من ولد إسماعيل تولى رجل من العرب.
قال الرافعي: ولك أن تقول: قريش ولد النضر بن كنانة بن خزيمة بن مدركة، وكما قالوا: إذا لم يوجد قريشي ولي كناني، فهلا قالوا: إذا لم يوجد كناني ولي مخزومي، وهكذا تترقى إلى أب بعد أب حتى تنتهي إلى إسماعيل، عليه السلام!
قلت: هذا [هو] الذي اقتضاه كلام القاضي، حيث قال:[أولاً: الشرط أن يكون قرابة رسول الله صلى الله عليه وسلم [ثم] من كان أقرب] إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم كثيراً كان أولى بالإمامة، ولاشك أن أولاد خزيمة أقرب إليه كثيراً من أولاد إسماعيل وجرهم، وحينئذ فيكون ما ذكروه تمثيلاً ليقاس عليه لا ليقتصر الحكم عليه. لكن على كلام القاضي ما ذكرته أولاً.
وقد أطلق الإمام القول: بأنا إذا عدمنا قرشيّاً متصفاً بالصفات المذكورة، نصبنا من وجدناه عالماً كافياً ورعاً، وكان إماما ينفذ الأحكام على الخاص والعام. نعم، قد ذكرنا أن القرشي لو ولي، ثم حدث بعده من هو أفضل منه، وراعينا الأفضل- لا نخلعه لوجود الفاضل. ولو نصبنا ها هنا من ليس قرشيّاً للعدم، ثم نشأ في الزمان قرشي على الصفات المطلوبة: فإن عسر خلع من ليس بقرشي أقررناه، وإن لم يتعذر خلعه فالوجه عندي تسليم الأمر للقرشي؛ فإن هذا المنصب في حكم المستحق للمعتزين إلى شجرة النبوة، والذي قدمنا نصبه في [منزلة] المستناب عمن [يجمع بين] فضائل الأسباب وشرف الانتساب، فإذا تمكنا من رد الأمر إلى
النصاب ابتدرناه بلا ارتياب.
وفي "الإشراف" للهروي أنه قيل: إن النسب شرط، وقيل: إنه من باب الترجيح، وهو الأصح، وفائدته: أنه إذا وجد القرشي والنبطي قدم على النبطي، وإن لم يوجد القرشي ولي النبطي، ومن قال: شرط، فلا يولي أحد.
قال: وإن زال شيء من ذلك بعد التولية بطلت ولايته؛ لفوات الحكمة المتعلقة بفوات ذلك الشرط، فعلى هذا: لو عاد إلى الصفة الأولى لم تعد ولايته إلا بتولية جديدة.
وقد حكى العمراني عن الجويني في بطلان ولايته بطرآن الفسق ثلاثة أوجه:
أحدها: ينعزل، وهو الصحيح، وتبعه ابن يونس في ذلك؛ لما ذكرناه، وقد نسب القاضي الحسين في باب قتال البغاة هذا المذهب إلى المعتزلة.
والثاني: لا ينعزل إلا بمباشرة العزل.
قال [الإمام] في أواخر باب الوصية: ولو قلت: إنه الظاهر؛ لكان مستقيماً، والسبب فيه: أن استمرار العصمة بعيد، والمصير إلى انخلاع الإمام بالفسق يجوز فقه الإمام بالإمامة والزعامة، وليس وراء الإمام ناظر؛ فالوجه: ألا يطلق القول بانعزاله؛ ولأجل ذلك جزم القاضي الحسين والرافعي في كتاب الأقضية بعدم انعزاله، وهو ما اقتضاه كلام الشيخ [وغيره] في باب قسم الصدقات، وعلى هذا فلا ينعزل ما لم يثبت عند الاستنابة، كما قاله الماوردي في باب الشهادة بالجناية.
وهذان الوجهان قد حكيناهما في باب ما يجب به القصاص من الجنايات عن ابن أبي هريرة.
والثالث: إن أمكن استنابته أو تقويم أوَدِهِ لم يخلع، وإن لم يمكن ذلك خلعناه.
والذي حكاه الإمام في "الغياثي" الوجهان الأولان، وأنه على الوجه الثاني يجب على أهل الحل والعقد خلعه، [ثم] قال: والذي يجب القطع به أن الفسق الصادر
من الإمام لا يقطع نظره، ولا يجوز خلعه؛ لما في ذلك من المفاسد، ومن الممكن أن يتوب ويسترجع؛ وعلى هذا ينطبق قول المتولي: المذهب المشهور: أنه لا ينعزل بالفسق، ولا يكون موجباً لعزله؛ لأن ذلك مختلف في كونه موجباً للعزل، فإذا عزلناه به ثارت الفتنة.
ثم قال الإمام: وهذا كله في نوادر الفسوق، فأما إذا تواصل منه العصيان، وفشا منه العدوان، وظهر الفساد، وزال السداد، وتعطلت الحقوق والحدود، وارتفعت الصيانة، ووضحت الخيانة- فلابد من استدراك هذا الأمر المتفاقم، فإن أمكن كف يده وتولية غيره بالصفات المعتبرة فالبدار البدار. وإن لم يمكن القبض على يده؛ لاستظهاره بالشوكة، إلا بإراقة دماء ومصادمة أحوال جمة الأهوال- فالوجه: أن يقاس ما [مدفوعون إليه مبتلون به بما يفرض] وقوعه في محاولة دفعه: فإن كان الواقع الناجز أكثر مما يتوقع، فيجب احتمال المتوقع، وإلا فلا يسوغ التشاغل بالدفع؛ بل يتعين الاستمرار على الأمر [الواقع] والابتهال إلى الله، عز وجل.
والذي أورده الماوردي: أن الفسق إن كان بسبب إتباع شهواته فقد خرج بذلك عن الإمامة، ولا يعود إليها بالتوبة، وإن كان لأجل شبهة تعترض، فتأول بها خلاف الحق، فقد ذهب فريق إلى أن الحكم كذلك، وقال كثيرون [من] علماء البصرة: لا يخرج به منها، ويجوز أن تعقد له الإمامة ابتداء؛ كما لا يمنع ذلك من ولاية القضاء وجواز الشهادة.
وقال فيما إذا طرأ عليه خبل في عقله: إن كان عارضاً مرجو الزوال كالإغماء، فلا يخرج به عن الإمامة، وإن [كان] لازماً لا يرجى زواله كالجنون: فإن كان
طبقاً دائماً بطلت الإمامة، وإن كان متخللاً: فإن كان زمان الإفاقة أقل فكذلك [الحكم]، وإن [كان] أكثر ففي منعه من استدامتها خلاف، مع أنه يمنع ابتداءها.
وهكذا الحكم فيما إذا طرأ عليه صمم أو خرس، في منعه الاستدامة خلاف، مع الجزم بمنعها ابتداء.
ورأى الإمام: أنه مانع للاستدامة أيضاً، ومنهم من قال: إن كان يحسن الكتابة لم يخرج بهما، وإن كان لا يحسنها خرج.
وكذا الخلاف فيما إذا طرأ فقد إحدى اليدين [أو الرجلين] في منع الاستدامة، وإن كان يمنع الدخول.
قال الإمام: والذي أراه: أن ما يمنع من فقد الأعضاء من الابتداء يمنع من الاستدامة، ولو طرأ عليه عشي العين- وهو ألا يبصر عند دخول الليل- فلا يمنع [من] الاستدامة؛ كما لا يمنع [من] الابتداء.
فرع: إذا أسر الإمام، وحُبس في المطامير، وبَعُدَ توقع خلاصه- قال الإمام: فلا نجد بُدّاً من نصب إمام نراه. وكذا لو سقطت طاعته، ورثَّتْ شوكته، ووهنت عدته، وذهبت منته، ونفرت منه القلوب من غير سبب فيه يقتضيه، ولم نجد لهذه الحالة مستدركاً- فالوجه: نصب إمام مطاع، وينزل هذا منزلة ما لو أسر الإمام وانقطع نظره عن الأنام وأهل الإسلام، ولم نصل إلى مظان الحاجات إثر رأي الإمام، ثم قال: ولابد في هذين الحالين من إنشاء الخلع.
والذي قاله الماوردي في حال الأسر: أنه يجب على كافة الأمة استنفاذه، فإن وقع الإياس منه: فإن كان في أسر المشركين خرج من الإمامة بالإياس من
خلاصه، وإن كان مأسوراً مع بغاة المسلمين، فإن كانوا قد نصبُوا لأنفسهم إماماً، فالمأسور قد خرج من الإمامة؛ بالإياس من خلاصه، وعلى أهل العدل أن ينصبوا لأنفسهم إماماً، وإن لم ينصب أهل البغي لهم إماماً فالمأسور باق [على إمامته]، وعلى أهل [العدل أن يستنيبوا عنه ناظراً يخلفه إن [لم يقدر] على] الاستنابة، وإن قدر عليها كان أحق باختيار من يستنيبه منهم، فإن نخلع المأسور نفسه أو مات، لم يصر المستناب إماماً؛ لأنها نيابة عن موجود فزالت بفقده.
قال: والأفضل أن يكون شديداً من غير عنف، أي: غير بالغ في الشدة، ليناً من غير ضعف، أي: غير بالغ في اللين؛ لما روى إسحاق عن الزهري عن ابن عباس قال: قَالَ عُمَرُ- رضي الله عنه لَمَّا ذُكِرَ أَمْرُ مَنْ يُعْهَدُ إِلَيْهِ، وَذكَرْتُ لَهُ عَبْدَ الرَّحْمَنِ بْنَ عُوْفٍ: نِعْمَ الرَّجُلُ ذَكَرْتَ، لَكِنَّهُ ضَعِيفٌ، إِنَّهُ وَاللهِ مَا يَصْلُحُ لِهَذَا الأَمْرِ يَابْنَ عَبَّاسٍ إِلَّا القَوِيُّ فِي غَيْرِ عُنْفٍ، اللَّيِّنُ فِي غَيْرِ ضَعْفٍ، وَالمُمْسِكُ فِي غَيْرِ بُخْلٍ، وَالجَوَادُ فِي [غَيْرِ] إِسْرَافٍ.
والمعنى في ذلك: أنه إذا كان [فيه عنف] خافه الناس؛ فلا يتمكنون من رفع حوائجهم إليه، وإذا [كان] ضعيفاً مهيناً؛ انبسطت عليه الرعية ويجير بعضهم على بعض.
والعنف: بضم العين، على المشهور، وحكى القاضي عياض في "المشارق"، وصاحب "مطالع الأنوار": ضمها وفتحها وكسرها، ونقلاه عن الإمام أبي مروان بن سراج.
قال: [ولا يحتجب] عن الرعية، [أي: لا يتخذ حاجباً؛] لما روى أبو داود عن أبي مريم الأزدي قال: دخلت على معاوية، فقال: ما [أنعمنا بك] أبا فلان- وهي كلمة تقولها العرب- فقلت: حديثاً سمعته أخبرك به: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: "مَنْ وَلَّاهُ اللهُ عز وجل [شَيْئَاً] مِنْ أُمُوْرِ المُسْلِمِينَ، فَاحْتَجَبَ دُوْنَ حَاجَتِهِمْ وَخَلَّتِهِمْ وَفَقْرِهِمُ، احْتَجَبَ اللهُ عَنْهُ دُوْنَ حَاجَتِهِ وَخَلَّتِهِ وَفَقْرِهِ"، وأخرجه الترمذي.
وأصل الحجب: المنع.
قال: ولا يتخذ حاجباً ولا بواباً، أي: في وقت انتصابه لفصل الخصومات؛ لأنه لا يأمن أن يمنع من له ظلامة، [أو يرجح] بعض الناس على بعض؛ لرشاء يأخذها، [أو غيره.
ويروى] أنه استصعب الإذن على المغيرة بن شعبة في خلوة أرادها مع عمر- رضي الله عنه فرشا حاجبه يرفأ حتى سهل [له] الإذن عليه، وكان يسأل الحاجب أن يجلسه في الدهليز إذا تعذر عليه الوصول؛ حتى يظن الناس أنه قد وصل؛ حتى يبدو له منزلة الاختصاص [بعمر- رضي الله عنه] فكان المغيرة أول من رشا، ويرفأ أول من ارتشى في الإسلام.
وقال في "المهذب" في باب ولاية القضاء: لا يكره للإمام أن يتخذ حاجباً؛ لأن يرفأ كان حاجب عمر، والحسن بن علي كان حاجب عثمان، وقنبر كان حاجب علي- رضي الله عنهم ولأن الإمام ينظر في جميع المصالح؛ فتدعوه الحاجة إلى
أن يجعل لكل مصلحة وقتاً لا يدخل فيه كل أحد.
وفي "الحاوي" في الموضع المذكور: أنه يستحب للأئمة اتخاذ الحاجب؛ لأنه روي أنه اجتمع على باب عمر: أبو سفيان بن حرب، وسهيل بن عمرو، وسلمان، وبلال، وصهيب، وجماعة من وجوه العرب، فأذن لسلمان وبلال وصهيب؛ فتمعر وجه أبي سفيان، فقال سهيل بن عمرو: يا أبا سفيان، إن هؤلاء قوم دعوا ودعيت فأجابوا وتأخرت، ولئن حسدتهم اليوم على باب عمر لأنت [غداً] أشد حسداً لهم على باب الجنة.
ولولا الحجاب لما تميز هؤلاء بالسابقة، ولا ترتب الناس بحسب فضائلهم وأقدارهم.
وتبع صاحب "المرشد" المصنف فيما قاله في باب ولاية القضاء، وقال في كتاب الإمامة ما ذكره الشيخ هنا.
وعلى [القول] الأول قال [الشيخ]: فإن اضطر إلى ذلك اتخذ أميناً سَلِساً، لا يكون جبَّاراً شرساً؛ للرفق بالرعية. وبقية أوصاف الحاجب تأتي في باب أدب القضاء.
والسلس- بفتح السين وكسر اللام-: السهل، وكل سهل سلس.
والجبار: المتكبر، والشرس: سيء الخلق.
أما نصب الحاجب في أوقات الخلوة ونحوها، فهذا مما لا نزاع في عدم كراهته في القاضي- كما سيأتي- فما ظنك بالإمام؟!
قال: ويستحب أن يشاور أهل العلم في الأحكام، أي: المختلف فيها، وأهل الرأي في النقض والإبرام؛ لقوله- تعالى- لنبيه صلى الله عليه وسلم:{وَشَاوِرْهُمْ فِي الأَمْرِ} [آل عمران: 159]، قال الحسن: إن كان لغنيّاً، [و] لكنه أراد أن يستن بذلك الحكام بعده، و [قد] قال صلى الله عليه وسلم:"المُسْتَشِيرُ مُعَانٌ".
وشاور عليه السلام أصحابه في أسرى بدر، وشاور أهل المدينة يوم الخندق [في حفر الخندق] حتى اتفقوا عليه، وفي صلح الأحزاب على ثلث ثمار المدينة، فقالوا: إن كان الله- سبحانه- أمر بهذا فالسمع والطاعة، وإن كان غير ذلك فلا نطمعهم فينا؛ فإنهم في الجاهلية لم يكونوا ليصلوا إلى ثمره إلا بشراء أو قِرىً، فامتنعوا.
وشاور أبو بكر- رضي الله عنه الصحابة في [أمر] الجدة أم الأم.
وشاورهم عمر- رضي الله عنه في الجدة أم الأب، وفي دية الجنين، وفي التي أجهضت ما في بطنها.
وشاور عثمان في الأحكام.
وكان عليّ قليل المشاورة؛ فقيل: لأنه لم يبق في عصره عديل يشاوره، وقيل: لأنه قد كان شاهد استشارة قريبة فاكتفى بها.
ولم يختلف في أن رسول الله صلى الله عليه وسلم كان يشاور في أمور الدنيا ومصالحها، وإنما اختلف [في] استشارته في الدين والأحكام:
فمن قال: إن رسول الله صلى الله عليه وسلم لا يجتهد، بل [ما] يقوله عن وحي- قال: لم يشاور فيها.
ومن قال: كان له الاجتهاد، قال: إنه شاور فيها، واستدل لذلك بأنه شاور في علامة تكون لأوقات صلواتهم، وشاور أصحابه في حد الزاني والشارب، فقالوا: الله ورسوله أعلم، فقال:"هن فواحش وفيهن عقوبات"، حتى أنزل الله فيهما ما أنزل.
قال: ويلزمه النظر في مصالح الرعية من أمر الصلاة [، أي:] المفروضة على الأعيان والكفايات، والمسنونة التي من الشعائر الظاهرة، وكذا تجميع الجماعات المفروضة في الجمع والمسنونة في غيرها، والإعلام بأوقاتها، ونحو ذلك.
قال: والأئمة وأمر الصوم والأهلة، وأمر الحج والعمرة، وأمر القضاء والحسبة، وأمر الأجناد، أي: المرتبين في الحصون وغيرها، والإمرة [، أي:] على جباية الخراج والجهاد والحج والعمرة؛ كما فعله رسول الله صلى الله عليه وسلم حين أمَّرَ أبا بكر على الحج بعد الفتح، وعلى البلاد ونحو ذلك؛ لأن الإمامة إنما وضعت لذلك.
قال: ولا يولي ذلك إلا ثقة مأموناً، عارفاً بما يتولاه، كافياً لما يتقلده من الأعمال؛ لقوله صلى الله عليه وسلم:"مَنِ اسْتَرْعِي رَعِيَّةً فَلَمْ يُحِطْهَا بِنُصْحِهِ لَمْ يرحْ رَائِحَةَ الْجَنَّةِ"، ولأن المقصود من التولية لا يحصل بدون [هذه الأوصاف].
قال: ولا يدع السؤال عن أخبارهم والبحث عن أحكامهم؛ خوفاً من حدوث ما لا يجوز منهم.
قال: وينظر في أموال الفيء والخراج والجزية، ويصرف ذلك للأهم فالأهم من المصالح: من سد الثغور، [أي:] وهي الحصون، بالعدد والرجال ونحوها، وأرزاق الأجناد، وسد البثوق، أي: وهي الثلم والفتح، واحدها: بثق- بفتح الباء وكسرها-[يقال]: بثق السيل موضع كذا، أي: خرقه، يبثقه بثقاً، وانبثق: انفجر، والبثوق: بموحدة، ثم مثلثة مضمومتين.
قال: وحفر الأنهار، وأرزاق القضاة والمؤذنين، وغير ذلك من المصالح، أي: كبناء المساجد والربط والقناطر، والصرف للمفتين والقسام والمتفقهين، وكل من يقوم بقاعدة من قواعد الدين يلهيه قيامه بها عما فيه سداده وقوامه، وكالصرف لمن تحمل حمالة، وأجرة السجان [والسجن] وكاتب القاضي وحاجبه ونائبه والأعوان له، وثمن القرطاس، وغير ذلك مما هو مذكور في موضعه.
قال: وينظر في أموال الصدقات ومصارفها، كما سلف ذكره، ويتأمل أمر المرافق والمعادن ومن يقطعها. على ما ذكرناها في مواضعها.
وقد ذكرت في باب أحدها: إذا فضل من مال بيت المال شيء ماذا يصنع به؟ فليطلب منه.
وقد جعل الماوردي الأمور التي تلزم الإمام عشرة أشياء أكثرها مذكور في الكتاب، ولكنا نذكرها:
أحدها: حفظ الدين على أصوله المستقرة، وما أجمع عليه سلف الأمة، فإن ظهر مبتدع، أو زاغ ذو شبهة عنه- أوضح له الحجة، وبين له الصواب، وأخذه بما يلزمه من الحقوق.
والثاني: تنفيذ الأحكام بين المتشاجرين، وقطع الخصام بين [المتنازعين؛ حتى تعم النصفة،] فلا يتعدى ظالم، ولا يضعف مظلوم.
والثالث: حماية البيضة، والذب عن الحريم؛ لينصرف الناس في المعاش، وينتشروا في الأسفار آمنين من تغرير بنفس أو مال.
والرابع: إقامة الحدود؛ لتصان محارم الله- تعالى- عن الانتهاك، وتحفظ حقوق عباده من إتلاف واستهلاك.
والخامس: تحصين الثغور بالعدة المانعة والقوة الدافعة.
والسادس: جهاد من عاند الإسلام بعد الدعوة حتى يسلم أو يدخل في الذمة؛ ليقام بحق الله- تعالى- في إظهاره على الدين كله.
والسابع: جباية الفيء والصدقات على ما أوجبه الشرع نصّاً واجتهاداً من غير عسف.
والثامن: تقدير العطاء وما يستحق في بيت المال من غير سرف ولا تقصير، ودفعه في وقته لا تقديم فيه ولا تأخير.
[والتاسع]: استكفاء الأمناء، وتقليد النصحاء، فيما يفوضه إليهم في الأعمال، ويكله إليهم من الأموال.
والعاشر: أن يباشر بنفسه الأمور ويتصفح الأحوال؛ لتنهض بسياسته الأمة،
وحراسته الملة، ولا يعتمد على التفويض تشاغلاً بلذة أو عبادة؛ فقد يخون الأمين، ويغش الناصح، وهذا وإن كان مستحقّاً عليه بحكم الدين ومنصب الخلافة، فهو من حقوق السياسة لكل مسترعى.
قال: فإذا قام الإمام بما ذكرناه من حقوق الأمة، فقد أدى حق الله- سبحانه- فيما لهم وعليهم، ووجب له عليه حقان: الطاعة، والنصرة، ما لم يتغير حاله.
وقال الرافعي: إن ذلك [واجب]، سواء كان عادلاً أو جائراً؛ لما روي أنه عليه السلام قال:"من ولي عليه وال، فرآه يأتي شيئاً من معاصي الله- تعالى- فليكره ما يأتي من معصية الله- تعالى- ولا ينزعن يده من طاعته".
ولا يجوز لأهل العقد والحل بعد عقد الإمامة حلها، إذا لم تخل عن شيء من صفات الأئمة باتفاق الأمة، كما قاله الإمام. نعم، لو أراد خلع نفسه فقد اضطربت مذاهب العلماء فيه: فمنعه بعضهم كما امتنع على العاقد [و] المسلمين، وهذا ما أورده صاحب "البيان" وغيره، وأجازه آخرون؛ لما صح تواتراً واستفاضة من [خلع] الحسن بن علي نفسه، ولم ينكره أحد، وفي "التتمة" حكاية المذهبين وجهين.
قال الإمام: والحق المتبع عندي: أن الإمام لو علم أنه لو خلع نفسه لاضطربت الأمور، وتزلزلت الثغور، وانجز إلى المسلمين ضرر لا قبل لهم به- فلا يجوز له ذلك، وإن علم أن خلعه نفسه [لا يضر بالمسلمين، بل يطفئ نائرة، ويحقن دماء المسلمين- فلا يمنع أن يخلع نفسه]، وهكذا كان خلع الحسن بن علي نفسه. ولو كان لا يؤثر خلعه نفسه في إلحاق ضرر ولا في تسكين نائرة، ولو خلع نفسه أقام آخر مقامه- فلست قاطعاً في ذلك جواباً، بل أرى القولين فيه متكافئين قريبي المأخذ، والأظهر عندي: أنه لو حاول استخلاء بنفسه واعتزالاً؛
لطاعة الله- تعالى- لم يمنع.
وفي "تعليق" القاضي الحسين: [أنه] إذا خلع نفسه ينظر: فإن خلع إلى من لا يصلح للإمامة لم ينخلع عنها، وإن خلع إلى من هو أصلح منه أو مثله انخلع إليه، وإن خلع إلى من شك في حاله هل هو صالح للإمامة أم لا، حمل على أنه صالح لها؛ لأن الإمام لا يتصرف إلا على النظر للمسلمين، [فلما انخلع إليه رآه أهلاً لذلك].
وقال في "التهذيب": إذا خلع نفسه [ينظر. فإن كان لعذر من هرم أو على انعزل، ثم إن ولى غيره قبل أن يخلع نفسه] انعقدت الإمامة للثاني، وإن لم يول فالناس مجمعون على تولية غيره، وإن لم يظهر به عذر نظر: إن لم يول لا ينعزل، وكذلك إن ولى من هو دونه، وإن ولى من هو مثله أو فوقه ففي انعزاله وجهان. وقال:[إنا على] القول بانعزاله في هذه الصورة، إذا ولى من شككنا [فيه] أثبتنا ولايته.
فروع- تقدَّم الوعد بها-:
إذا عهد الإمام في الخلافة إلى غيره، قال الماوردي: فيتعين أن يكون المولى متصفاً بالشروط المذكورة من وقت العهد إليه، حتى لو كان صغيراً أو فاسقاً عند العهد، بالغاً عدلاً عند موت المولى- لم ينتصب إماماً بالعهد السابق.
قال الرافعي: وقد يتوقف في هذا.
وإذا عهد إلى غائب مجهول الحياة لم يصح عهده، وإن كان معلوم الحياة صح، فإن مات المستخلف وهو غائب بعد، استقدمه أهل الاختيار، فإن بعدت غيبته واستضر المسلمون بتأخير النظر في أمورهم- استناب أهل الاختيار نائباً عنه فيبايعونه بالنيابة دون الخلافة، وإذا قدُم الخليفة الغائب انعزل المستخلف، وكان نظره قبل قدومه [باقياً] ماضياً، وبعد قدومه مردوداً.
وإذا خلع الخليفة نفسه كان كما لو مات؛ فتنتقل الخلافة إلى [من] ولي العهد.
قال الرافعي: ويجوز أن يفرق بين أن يقول: الخلافة بعد موتي لفلان، أو: بعد خلافتي.
ولو أراد ولي العهد أن ينقل ما إليه من ولاية العهد إلى غيره لم يجز؛ لأنه إنما يجوز له النظر وتثبت له الولاية بعد موت المولي.
وإنَّ وليّ العهد إذا استعفى لم يبطل عهده بالاستعفاء حتى يُعفى؛ للزومه من جهة المولِّي والمولَّى، ثم ينظر: فإن وجد غيره جاز استعفاؤه وإعفاؤه، وخرج من العهد باجتماعهما على الاستعفاء والإعفاء، وإن لم يوجد غيره لم يجز استعفاؤه ولا إعفاؤه، وكان العهد على لزومه في جهة المولِّي والمولَّى.
وإنه إذا عهد إلى اثنين أو أكثر على الترتيب، فقال: الخليفة بعد موتي فلان، وبعد موته فلان، [وبعد موته فلان]- جاز، وانتقلت الخلافة إليهم كما رتب؛ اقتداء برسول الله صلى الله عليه وسلم [في] ترتيبه أمراء [جيش مؤتة]، وإنه لو مات الأول في حياة الخليفة فالخلافة بعده للثاني، ولو مات الأول والثاني في حياته؛ فالخليفة الثالث.
قال الرافعي: وقد يتوقف في هذا، ويقال: المفهوم من اللفظ جعل الثاني خليفة بعد خلافة الأول.
قلت: ويعضده ما حكاه الماوردي فيما إذا قال: وقفت على زيد، ثم من بعده على عمرو، ثم من بعده على خالد- أنه لا يصرف لخالد شيء إذا مات عمرو قبل زيد، كما ذكرناه في الوقف.
وإنه لو مات الخليفة والثلاثة أحياء، وانتهت الخلافة إلى الأول، فأراد أن يعهد بها إلى غير الآخرين- فمن الفقهاء من منع ذلك [؛حملاً] على مقتضى الترتيب، إلا أن يستنزل مستحقها عنها طوعاً.
والظاهر من مذهب الشافعي وما عليه جمهور الفقهاء: جوازه؛ لأنه إذا انتهت الخلافة إليه صار أملك بها وبتفويضها إلى من يشاء، بخلاف ما إذا مات ولم يعهد [بها] إلى أحد ليس لأهل البيعة أن يبايعوا غير الثاني، ويقدم عهد الأول على اختيارهم. وهذا فيه نظر؛ لأنه قال بعد ذلك: لو قال الخليفة العاهد: قد عهدت إلى فلان، فإن مات بعد إفضاء الخلافة إليه فالخليفة بعده فلان- لم تصح خلافة الثاني، ولم ينعقد عهده بها؛ لأنه لم يعهد إليه في الحال، وإنما جعله ولي عهد بعد إفضاء الخلافة إلى الأول، وقد يموت قبل إفضائها إليه؛ فلا يكون عهد الثاني بها منبرماً؛ فلذلك بطل، وجاز للأول بعد إفضاء الخلافة إليه أن يعهد بها إلى غيره.
وإن مات [من غير] عهدٍ جاز لأهل الحل والعقد اختيار غيره، ويخالف هذا ما فعله رسول الله صلى الله عليه وسلم في جيش مؤتة؛ لأنه كان رسول الله صلى الله عليه وسلم [حيّاً] لم تنتقل أمورهم إلى غيره.
وإنه ليس لأهل الشورى أن يعينوا واحداً منهم في حياة الخليفة إلا أن يأذن لهم في ذلك، فإن خافوا انتشار الأمر بعده استأذنوه، فإن أذن فعلوا.
وإنه يجوز للخليفة أن ينص على من يختاره للخلافة بعده؛ كما يجوز له أن يعهد إلى غيره حتى لا يصح إلا اختيار من نص عليه؛ لأنه من حقوق خلافته.
***