الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
باب الدعاوى والبينات
"الدعوى" في اللغة: الاسم من "الادعاء"، و"الادعاء" على ميزان "الافتعال" من "الدعوة" وتاء الافتعال للاختصاص؛ فكأن المدعي دعا المدعي عليه إلى نفسه دعوة اختصاص.
والمدعي- لغة-: كل من ادعى لنفسه شيئاً، سواء كان في يده أو لم يكن، وسواء كانت دعواه توافق الظاهر أو تخالفه.
وأما شرعاً: فسيأتي الكلام فيه.
قال البندنيجي: والمدعى عليه- لغة وشرعاً-: من ادُّعِيَ عليه شيء في يده، أو حق في ذمته.
وقيل: إن الدعوى في اللغة: هي التمني، قال الله تعالى:{وَلَهُمْ مَا يَدَّعُونَ} [يس: 57]، أي: ما يتمنون، وهذا ما أورده في "التهذيب".
وقال في "الإشراف": تفسير الادعاء بالتمني هو قول المفسرين، وليس حداً على شرط اللغة.
ويقال: ادعيت على فلان كذا ادعاءً.
والبينات: جمع البينة، وهي الموضحة، وسميت الشهود: بينة؛ لأنه يتبين بهم الحق ويظهر ويتضح؛ قال الله تعالى: {حَتَّى تَاتِيَهُمْ الْبَيِّنَةُ} [البينة: 1]، أي: الموضحة.
والأصل في هذا الباب: ما روى البخاري ومسلم عن ابن عباس أن النبي صلى الله عليه وسلم "قَضَى بِالْيَمِينِ عَلَى الْمُدَّعَى عَلَيْهِ".
قال أبو داود والترمذي: وفيه إثبات الدعوى؛ إذ لا يكون مدعى عليه إلا بعد وجود الدعوى.
وما روى البخاري عن أم سلمة: أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: "إِنَّكُمْ لَتَخْتَصِمُونَ إِلَيَّ، وَلَعَلَّ بَعْضَكُمْ أَنْ يَكُونَ أَلْحَنَ بِحُجَّتِهِ مِنْ بَعْضِ، وَإِنَّمَا أَقْضِي بِنَحْوِ مَا أَسْمَعُ، فَمَنْ قَضَيْتُ لَهُ بِشَيءٍ مِنْ حَقِ أَخِيْهِ فَلَا يَاخُذْهُ؛ فَإِنَّمَا أَقْطَعُ لَهُ قِطْعَةً مِنَ النَّارِ"؛ والذي يسمعه
منهما إنما هو دعوى وجواب.
وقد روى مسلم عن ابن عباس: أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: "لَوْ أُعْطِيَ النَّاسُ بِدَعَاوِيهِمْ، لادَّعَى نَاسُ دِمَاءَ نَاسٍ وَأَمْوَالَهُمُ، لَكِنَّ الْبَيِّنَةَ عَلَى الْمُدَّعِي وَالْيَمِينَ عَلَى الْمُدَّعَى عَلَيهِ".
قال في "الإشراف": وإنما جعلت البينة في جانب المدعي، واليمين في جانب المدعى عليه؛ لأن البينة حجة قوية بالبراءة عن التهمة، واليمين حجة ضعيفة؛ إذ الحالف متهم في يمينه بالكذب؛ [إذ] هو يستجلب باليمين منفعة إلى نفسه، والشاهد جلي عن التهمة؛ لأنه لا يجلب إلى نفسه خيراً، ولا يدفع عنها ضرراً.
وجانب المدعي ضعيف؛ لأنه ادعى على مخالفة الظاهر ديناً في ذمة غيره، أو عيناً في يده، والمدعى عليه أثبت على موافقة الظاهر فراغ ذمته عن الدين، والملك فيما احتوت يده عليه؛ فوضعت الحجة القوية في جانب الضعيف؛ لينجبر ضعف الجانب بقوة الحجة، ووضعت الحجة الضعيفة في جانب القوة؛ لينجبر ضعف الحجة بقوة الجانب.
قلت: وهذا الذي ذكره مستقيم على قولنا: إن المدعي من يذكر أمراً يخالف الظاهر، والمدعى عليه من يوافق قوله الظاهر.
وقد اختلف الأصحاب في حد المدعي والمدعى عليه فيما اصطلح عليه الفقهاء:
فمنهم من قال: المدعي والمدعى عليه من المتخاصمين من ذكرناه، وهو ما ادعى الرافعي: أنه أظهر عند الروياني، والذي يشعر به لفظ "المختصر"، ويقتضيه كلام أكثر الأصحاب.
ومنهم من قال: المدعي منهما: من لو سكت بعد ما أبداه، لترك [و] سكوته، والمدعى عليه: من إذا سكت لم يترك وسكوته، بل يطالب بالجواب عند المنازعة.
قال في "البحر": ومن أصحابنا من قال: حقيقة مذهبنا: أن من أضاف ملكاً أو حقاً
إلى نفسه، أو زعم سقوط حق عن نفسه- فهو مدع، ومن اقتصر على مجرد النفي فهو المدعي عليه؛ ولهذا قبلنا بينة ذي اليد؛ لأنه يضيف ملك الدار التي في يده إلى نفسه؛ كما يضيف الخارج؛ وهذا راجع إلى القول الأول.
[ثم] قال الروياني: وإن شئت قلت: من زعم إذا شهد الشاهد: أن شهادته استندت إلى علم فهو مدع، ومن زعم ما لا يتصور عليه الشهادة، ولا يستند قول الشاهد فيه إلى علم، فهو مدعى عليه، وقد يتفق أن يكون الشخص الواحد مدعياً ومدعى عليه، و [هو] في المتبايعين إذا اختلفا فيما يوجب التحالف. وكذا قاله البندنيجي، وغيرهما.
وهذا الاختلاف المذكور لا يختلف موجبه في الأغلب؛ فإنه لو ادعى زيد على عمرو ديناً في ذمته، أو عينا في يده، وأنكر- فزيد هو الذي يدعي خلاف الظاهر؛ لأن الظاهر براءة ذمة عمرو، وفراغ يده عن حق غيره، وهو الذي سكت لترك وسكوته، وعمرو إنكاره لما ادعي عليه موافق للظاهر، ولو سكت لم يترك وسكوته.
نعم، أثر الاختلاف يظهر فيما لو أسلم زوجان قبل المسيس، واختلفا: فقال الزوج: أسلمنا معاً، والنكاح باقٍ [بيننا]؛ وقالت المرأة:[بل] على التعاقب، ولا نكاح بيننا.
فإن قلنا: إن المدعي من يذكر أمراً على خلاف الظاهر، والمدعى عليه من يذكر أمراً على وفق الظاهر- فالمدعي هاهنا الزوج؛ لأن التساوق الذي يزعمه يندر وقوعه، والمرأة هاهنا مدعى عليها؛ لموافقة قولها الظاهر؛ فيكون القول قولها؛ فتحلف، وينفسخ النكاح.
وإذا قلنا: المدعي من لو سكت ترك وسكوته، والمدعى عليه من إذا سكت لا يقنع منه بالسكوت- فالمدعي هاهنا: المرأة؛ لأنها لو سكتت تركت، واستمر النكاح، والزوج مدعى عليه، لأنه لا يترك لو سكت؛ لأنه يحاول بسكوته استبقاء النكاح، والتنازع وقع في الانفساخ؛ فالزوج الساكت منكر، وهي مسلطة على
تكذيبه بالبينة؛ وعلى هذا فيحلف، ويحكم باستمرار النكاح؛ كما هو الأصح في "التهذيب".
وكذا يظهر أثر الخلاف [في] تشطير المهر إذا ادعى الزوج أن المرأة أسلمت قبله، وادعت أن إسلامهما وقع معاً.
وأما بالنسبة إلى بقاء النكاح وفسخه فلا؛ لأن الاعتماد فيه على قول الزوج، وهو مقر بالانفساخ.
وقد قال القاضي الحسين بعد تقرير ما ذكرناه: إنه يشكل على من قال بالأول دعوى المودع التلف أو الرد إلى المالك؛ فإن دعواه مخالفة للظاهر، ومع هذا جعلنا القول قوله.
ثم قال: إلا أن هاهنا أصلاً آخر، وهو بقاء الأمانة، والمودع يدعي الخيانة؛ ففي الحقيقة يصير المودع مدعياً والمودع مدعى عليه الخيانة.
وفي "الرافعي": أن أبا الحسن العبادي، قال: دعوى المودع توافق الظاهر؛ لأن المالك قد ساعد. على الأمانة؛ حيث ائتمنه فهو يستبقي الأمانة، وهو يزعم ارتفاعها؛ فكان الظاهر معه.
قال الإمام: وقد أخذ الإصطخري هذا المسلك في الظهور والخفاء، ورد دعاوى قبلها كافة الأصحاب، وقال: إذا ادعى رجل من السفلة معاملة رجل عظيم القدر في أمر يبعد وقوعه، فدعواه مردودة، وهو كما إذا ادعى الرجل الخسيس: أنه أقرض ملكاً مالاً، أو نكح ابنته، أو استأجره لسياسة دوابه، أو ما جرى هذا المجرى، وهذا مردود.
والذي ذكره لا تعويل عليه، ولا يسوغ في الدين تشويش القواعد بأمثال هذا [الوسواس]، ثم ما ذكره رد دعوى بظن، وأما الذي كنا فيه تعيين المدعي والمدعى [عليه، فرد] ذلك إنما يتعلق بأمارات تغلب على الظنون.
واعلم أنه قد يوهم إيراد الغزالي أن الخلاف الذي ذكرناه في حد المدعي والمدعى عليه- قولان منصوصان، ويقويه أن الفوراني قال: اختلف قول الشافعي في
صورة المدعي والمدعى عليه، وحده، فقال في موضع:[المدعي] من يدعي أمراً باطناً، والمدعى [عليه] من يدعي أمراً ظاهراً. وقال في موضع: المدعي من إذا سكت ترك وسكوته، والمدعى عليه من لا يترك وسكوته.
لكن الذي حكاه القاضي الحسين: أن القولين استنبطهما القفال من اختلاف قول الشافعي في مسألة إسلام الزوجين، وقد ينبه الخلاف في الفروع على الخلاف في الأصل المبني عليه إذا لم يمكن تخريج ذلك إلا على أصل واحد. وتبعه الإمام والبغوي في ذلك؛ ولأجله ادعى الرافعي أنه المشهور، ثم اعترض على ذلك بأمور.
فقال في الأول منها: إنه يمكن أن يعكس ما ذكروه من البناء، ويقال: [إن قلنا: إن المدعي من يترك وسكوته، فالمدعي في مسألة اختلاف الزوجين إنما هو الزوج؛ لأن النكاح حقه، فلو تركها ولم يطلبها ترك، وهي لا تترك لو سكتت وأعرضت. وإن قلنا: إن المدعي من يذكر خلاف الظاره، فهي المدعية؛ لأنها تزعم ارتفاع النكاح، والظاهر دوامه.
والثاني: ما المعنى بالظاهر في قولنا: إن المدعي من يخالف الظاهر، أيعني به مطلق ما يدل عليه، أم يعني به الظن الأرجح والأغلب، أم استصحاب ما كان من وجود أو عدم؟
إن عنينا الأول، لزم أن يكون لكل واحد من المتداعيين أبداً؛ لأن دليلاً ما يدل على [صدق] هذا، وآخر يدل على براءة هذا.
وإن عنينا الظن الأغلب والأرجح، فهذا يختلف بالأشخاص والأحوال والقرائن الواقعة في الحادثة: فتارة يكون الأغلب على الظن صدق الطالب، وأخرى صدق المنكر.
وإن عنينا استصحاب ما كان، فلم تجعل المرأة مدعى عليها إذا قلنا: إن المدعى عليه من يوافق الظاهر، وهي لا تستصحب شيئاً، بل تترك استصحاب [الأصل] الذي كان؟
والثالث: لا شك أن التنازع في كيفية الإسلام ليس معيناً لعينه، وإنما الزوج يبغي استدامه النكاح في الصورة الأولى، وهي تزعم ارتفاعه؛ فيشبه أن يقال: كل واحد منهما مدع بشيء، فأما الزوج فإنه في استدامة النكاح وطلب طاعتها كطالب مال من غيره، وأما هي فرافعة؛ كمن يقول: إنك أبرأتني، [أو: إني] أديته.
فإن قلنا: يحلف الزوج، فهو قياس دعوى الروافع.
وإن قلنا: تحلف المرأة، فسببه تقوي جانبها بظاهر الحال وإن كانت مدعية؛ كما يحلف المودع على الرد والهلاك وإن كان مدعياً، وهذا [طريق] يغني عن تخريج القولين على الأصل المذكور.
قال- رحمه الله: لا تصح الدعوى إلا من مطلق التصرف فيما يدعيه.
قال ابن الخل: لأن صحة التصرف علم الأهلية، وهي مستفادة بإطلاق التصرف.
ولأن المقصود بالدعوى التسلط على المدعى به؛ فاشترط أن يكون من أهل التصرف فيه.
وقضية هذا: أن تسمع دعوى السفيه بالدم، وله أن يحلف، ويحلف؛ إذ له أن يستوفي القصاص، ويعفو عنه، لكنه إذا آل الأمر إلى المال لا يقتضيه، بل يأخذه الولي، وقد صرح به الأصحاب.
وألا تسمع دعواه في المال؛ لأنه ليس بمطلق التصرف فيه، و [هو] ما حكاه القاضي الحسين في باب الامتناع من اليمين، قال: لأنه يقبح أن يدعي ويقول: أيها الحاكم، أدعي عليه ألف درهم يجب عليه تسليمها إلى قيمي.
وقد قال الرافعي والماوردي في كتاب القسامة: إنها تسمع منه، ويحلف، [ويحلف] والولي يأخذ المال إذا وجب، ولم يحك غيره.
وكذلك قضيته: ألا تسمع دعوى شخص بأن هذا العبد كان له وأعتقه، وغصبه فلان، وقد قال: إنها تسمع.
و [كذا] قضيته: ألا تسمع دعوى المرأة بالنكاح؛ لأنها غير مطلقة التصرف فيه، وقد قال الأصحاب: إنه [إن] اقترن بدعواها به دعوى مهر أو نفقة ونحوها، سمعت بلا خلاف، وإن ادعت به مجرداً ففي السماع وجهان في "المهذب" وغيره:
وجه المنع- وهو الأصح في "الوجيز" هنا-: أنها مقرة لغيرها بالحق؛ فكيف تسمع دعواها به؟
وعلى هذا: لو كانت لها بينة، لم تسمع؛ لأن سماعها فرع قبول الدعوى.
ووجه الجواز- وهو [ظاهر النص] في "الأم"، والأصح في "المرشد" و"البحر" و"الوسيط" في كتاب النكاح، وإليه جنح الأكثرون، ومنهم الماوردي-: أنه سبب الاستحقاق؛ فهو حق.
وعلى هذا: [لها] أن تقيم البينة على النكاح إن سكت الزوج، وأصر عليه.
ولو أنكرها، قال الإمام: فهل تبطل الدعوى؟ فعلى وجهين مبنيين على أن الزوج إذا أنكر الزوجية، ثم اعترف بها، فهل يقبل اعترافه، أم يمتنع عليه إثبات النكاح بد تقديم إنكاره؟ وفيه خلاف مطرد في كل من أنكر ملكاً أو حقاً، ثم زعم أنه غلط في إنكاره، وعاد إلى ادعائه:
فإن قبلنا اعترافه، ومكناه من غشيانها، فلا تبطل الدعوى بإنكاره، ويترتب على الدعوى حقوقها المالية، وتتمكن من إقامة البينة.
وإن قلنا: لا يقبل اعترافه، فلا سبيل إلى إثبات النكاح [عليه] فيما يتعلق به، ولكن هل تثبت حقوقها المالية؟ فيه احتمال وتردد.
وحكى قبل ذلك أن صاحب "التقريب" حكى وجهاً ثالثاً، فقال: إن أنكر الزوج أصل النكاح والعقد فلا تقام عليه البينة، وإن اعترف بالعقد، ولكنه زعم أنه شغر عن الولي، أو لم يجر بمحضر [من] شاهدين، فأقامت المرأة البينة على أن ذلك النكاح كان مستجمعاً لشرائط الصحة- فيقبل منها، ويثبت النكاح، وتثبت حقوقها، ولها طلب القسم إن كان للزوج نسوة سواها وهذا [لا خير فيه]؛ فإنه إذا أنكر
صحة النكاح، فلا أثر للاعتراف بصورة العقد؛ فليحذف هذا من البين.
ثم قال: وهذا كله وراء قولنا: إن إنكار الزوج النكاح أو شرطاً من شرائطه بمثابة الطلاق البين؛ كما هو نص الشافعي حيث قال: "إذا قال الرجل: نكحت هذه الأمة، وأنا [واجد طول] حرة: إن هذا طلاق بين"؛ لأنا قد أوضحنا في الخلع خروج هذا النص عن قياس الأصول ومسيس الحاجة إلى تأويل إن أمكن تأويله؛ فلا تفريع عليه.
والغزالي جعل مادة الخلاف في بطلان الدعوى بالإنكار: أن إنكار الزوجية طلاق، أم لا؟ وتبعه الرافعي، فقالا: إن قلنا: إنه طلاق، فقد بطلت الدعوى، ولها أن تنكح زوجاً غيره، ولا ينفعه الرجوع؛ وهذا ما حكي عن القاضي أبي الطيب في "شرح الفروع".
وإن قلنا: ليس بطلاق كما هو الصحيح، والذي نص عليه الشافعي، حيث قال-[كما] حكاه القاضي أبو الطيب في "باب التدبير"-: لو أن المرأة ادعت على رجل الزوجية، وأنكر أنه تزوجها- لم يكن ذلك طلاقاً منه لو كان زوجاً لها، [و] لم تبطل الدعوى، وكان كسكوته حتى تقيم البينة عليه، ولو رجع قبل رجوعه، وسلمت الزوجة إليه، وهو اختيار القفال، وشبهه بما إذا قالت: انقضت عدتي قبل الرجعة، ثم قالت: غلطت؛ فإنها تسلم إليه؛ وهذا ما اختاره الشيخ أبو حامد، وبه جزم في "الإبانة"، وعليه ظاهر كلام الشافعي في "الأم" – أيضاً- فإنه قال: لو ادعت عليه النكاح، وجحد، كلفت بالبينة، فإن لم تأت بها، أحلف، فإن حلف برئ، وإن نكل ردت اليمين على المرأة، فإن حلفت ألزمته النكاح، وعلى هذا لو لم يكن لها بينة، وحلف الرجل، فلا شيء عليه، وله أن ينكح أختها، وأربعاً سواها، وليس لها أن تنكح زوجاً غيره- وإن اندفع النكاح ظاهراً- إلى أن يطلقها أو يموت.
قال في "التهذيب": أو يفسخ بإعساره، أو امتناعه إذا جعلنا الامتناع مع القدرة ممكناً من الفسخ.
قال الرافعي: وليكن هذا مبنياً على أن للمرأة أن تفسخ بنفسها [أما إذا أحوجناها للقاضي، فما لم يظهر له النكاح، كيف يفسخ، أو يأذن في الفسخ؟
وينبغي أن يتلطف به الحاكم حتى يقول: إن كنت نكحتها فقد طلقتها؛ ليحل لها النكاح.
وإن نكل الزوج عن اليمين، حلفت، واستحقت المهر والنفقة.
وفي "تعليق" القاضي [الحسين]: أنا إذا سمعنا الدعوى، فأنكر، قيل له: احلف، فإن حلف سقط دعواها، وإن نكل عن اليمين، فهل يكون نكوله طلاقاً، أم لا؟ فيه وجهان:
أحدهما: بلى؛ لأن الفسخ بيده.
والثاني: لا؛ لأنه ليس بصريح ولا كناية؛ فالحاكم يقول له: إن كنت نكحتها فطلقها؛ حتى يحل الفرج لغيرك، فإن لم يفعل، فوجهان:
أحدهما: لا يحل لها أن تنكح أبداً.
والثاني: لها أن تنكح.
وفي "الحاوي": أنه إذا أنكرن وكان لها بينة، سمعت، وإلا أحلف، فإن حلف فلا نكاح، وجاز لها أن تنكح غيره؛ لأن نكاحه قد زال بيمينه.
وإن نكل حلفت، وحكم لها عليه بالنكاح، وله إصابتها والاستمتاع بها، وليس جحود النكاح طلاقاً.
فإن قلت: يمكن الجمع بين ما قاله الشيخ وغيره بأن يقال: مراده بالمطلق التصرف هاهنا: من هو أهل لذلك، وهو البالغ، العاقل؛ كما ذكرتموه في أول البيع، وحينئذ فيكون معنى قول الشيخ: لا تصح الدعوى إلا من بالغ عاقل- كما قاله الغزالي-: أن شرط المدعي أن يكون مكلفاً ملتزماً.
قلت: لولا قوله: "فيما يدعيه"، لم يبعد ذلك.
ثم إذا جرينا على ظاهر اللفظ، فقد يؤخذ منه أن دعوى الحسبة لا تسمع فيما
يسوغ فيه شهادة الحسبة؛ كما إذا ادعى أن فلاناً أعتق مملوكه؛ لأنه ليس بمطلق التصرف فيه، وهو ما حكاه الإمام في كتاب العتق عن العراقيين.
وفي "تعليق" القاضي الحسين في باب وطء المدبرة: أنه لو ادعى على أجنبي أنه أعتق عبده الصغير، أو ادعت الأمة على سيدها عتق ولدها الصغير- سمعت، ويحلف السيد.
وفي كتاب "التهذيب" في سماع دعوى الحسبة حيث تسمع شهادة الحسبة وجهان.
وذكر الماوردي في كتاب قاض إلى قاض: أن رجلاً أو امرأة لو ادعى واحد منهما: أن له ولداً آخر في بلد آخر، وسأل القاضي سماع بينة بنسبه وحريته، أو بأنه ولد على فراشه؛ ليكتب به إلى قاضي ذلك البلد- فيجوز للقاضي أن يسمع البينة، ويكتب بها إن كان الولد قد مات، أو ذكر أنه في قيد من أسره، ولو كانت البينة تشهد بحرية الولد، ولم تشهد بنسبه، لم يسمعها، ولم يكتب بها؛ لأن الطالب إذا لم ينسب له، لم يكن له حق في الطلب.
وإن كانت البينة تشهد بالنسب دون الحرية، فإن كان ثبوته موجباً للحرية، سمعها، وكتب بها، وإلا فلا يسمعها، ولا يكتب بها.
ولو لم يذكر الطالب استرقاق الولد ولا موته، فلا يجوز أن تسمع البينة؛ لأنه لا يتعلق بها في الحال حق لطالب ولا مطلوب.
تنبيه: اقتصر الشيخ على ذكر صفة المدعي؛ لدلالتها على صفة المدعي عليه من طريق الأولى؛ لأن مقصود المدعي التحصيل، والمقصود من المدعى عليه ضده؛ فإذا اعتبرنا إطلاق التصرف في المحصل، فلأن نعتبره في الغارم أولى.
لكن قد قال الأصحاب: إن الدعوى على السفيه [تسمع] بالجنايات الموجبة للمال وإن قلنا: لا يقبل إقراره بها، وكذا بالمال؛ [كما] حكاه الماوردي؛ لرجاء النكول؛ إن قلنا: إن يمين الرد مع النكول كالبينة، وإن قلنا: إنها كالإقرار، فلتقام عليه البينة إن أنكر.
نعم، لو لم يكن ثم بينة، لكن طلب اليمين فهل يحلف؟ \
إن قلنا: يقبل إقراره، حلف، وكذا إن لم نقبله، وقلنا: يمين الرد مع النكول كالبينة.
وإن قلنا: إنها كالإقرار، ففي تحليفه وجهان أوفقهما لكلام أكثرهم: أنها لا تعرض، وهو ما أورده البندنيجي.
وأصحهما عند الغزالي: العرض؛ لأنه قد يحلف فتنقطع الخصومة؛ وهذه طريقة أبي حامد وغيره.
قال الرافعي: ومنهم من يطلق الخلاف في سماع الدعوى بالخطأ وشبه العمد من أصلهما، ويبنيه على الخلاف في [أن] إقراره بالإتلاف هل يقبل؟ فإن لم نقبله انبنى على أن يمين الرد كالبينة، أو كالإقرار؟ فإن قلنا: كالبينة، سمعت، وإلا فلا.
وليحمل هذا على ما ذكره الأولون؛ فإنهم جميعاً متفقون على أنه لو أقام بينة تسمع، وسماع البينة مسبوق بسماع الدعوى.
وقال الأصحاب: إن الدعوى على العبد بما يوجب القصاص مسموعة، وكذا بحد القذف؛ لأن إقراره بهما مقبول.
وكذا تسمع الدعوى عليه بقتل الخطأ إن كان هناك لوث؛ كما قاله البغوي وغيره في كتاب القسامة، ويحلف المدعي، وتتعلق الدية برقبته. وإن لم يكن ثم لوث، فلا خلاف في سماع الدعوى به على السيد، وهل تسمع على العبد؟ الذي حكاه الماوردي في باب دعوى الدم: السماع؛ قال: لتعلقها إن أقر بذمته حتى يؤديها بعد عتقه، وقال: إنه إذا حلف كان للمدعي أن يدعي على السيد.
[وكذا لو ادعى على السيد] أولاً، فحلف، كان له أن يدعي على العبد، بخلاف ما إذا أقر السيد؛ فإنها تتعلق برقبة العبد، سواء كان مقراً أو منكراً.
نعم، لو ادعى على العبد، فنكل، وحلف المدعي، فهل تتعلق برقبته؟
قال: إن قلنا: إن يمين الرد مع النكول كالبينة، فنعم، وإلا فلا، واقتصر التعلق على الذمة؛ وهذا ما حكاه ابن الصباغ، وهو الذي يقتضيه كلام البغوي الذي سنذكره.
ومنهم من قال: لا تتعلق بالرقبة، وإن قلنا: إن يمين الرد مع النكول كالبينة، وهو الذي اقتضى إيراد الغزالي ترجيحه؛ لأن جعلنا إياها كالبينة في حق المتداعيين، لا في حق غيرهما.
وهذان الطريقان يشابهان الطريقين اللذين حكيناهما في باب العاقلة فيما إذا ادعى على الجاني قتل الخطأ، فأنكر، وحلف المدعي- في أن العاقلة هل تحمل العقل أم لا؟ والذي أورده القاضي الحسين في باب موضع اليمين: أنها لا تسمع على العبد بحال، وأنما تسمع على السيد، وهو الذي أورده القاضي أبو الطيب في باب دعوى الدم.
وقال الرافعي: إن البغوي قال في مداينة العبيد: إن كان للمدعي بينة، سمعت الدعوى على العبد. وهو قياس ما حكيناه [عنه] عند وجود اللوث.
وإن لم يكن ثم بينة، فإن جعلنا النكول ورد اليمين كالبينة، سمعت- أيضاً- فلعله ينكل، فيحلف المدعي. وإن قلنا: إنها كالإقرار، فلا تسمع.
وغير البغوي بني سماع الدعوى عليه على أن أرش الجناية هل يتعلق بذمة العبد مع رقبته؟ إن قلنا: لا؛ فلا تسمع؛ وإن قلنا: نعم؛ فلا طلبة ولا إلزام في الحال، وإنما هو شيء يتوقع من بعد؛ فيكون كالدين المؤجل، وسنذكر في سماع الدعوى بالدين المؤجل خلافه، والأصح: عدم السماع، فإن سمعناها، فله تحليف العبد، فإن نكل وحلف المدعي اليمين المردودة تعلق بذمته، وهل يتعلق بالرقبة؟ فيه الطريقان [السابقان].
قال الرافعي: وفيما ذكره البغوي من السماع حالة وجود البينة نظر؛ لأن ظاهر كلامه يقتضي تعلق الأرش بالرقبة بإقامة البينة في وجه العبد، لكن الرقبة للسيد، فينبغي أن تقام البنية في وجهه أو وجه نائبه، والمتوجه أن يقال: لا تسمع الدعوى عليه، ولا البينة إن قصرنا التعلق بالرقبة، وتسمع البينة إن أثبتنا الأرش في ذمته؛ تفريعاً على الأصلين المذكورين.
قلت: وقضية ما ذكره في منع سماع البينة عند التعلق بالرقبة؛ لأجل تعلق حق السيد بها- أن يقال بمثله في عدم سماع البينة على السفيه بجناية الخطأ، وكذا على الرشيد؛ لأجل تعلق ذلك بالعاقلة؛ إذا قلنا: إن العاقلة يحملون ذلك ابتداء، دون ما إذا قلنا: إنه يتعلق بالجاني ثم تتحمله العاقلة، وقد ادعى الوفاق على السماع، وذلك يبطل ما ذكره هاهنا؛ على أنه قد يمكن أن يفرق بينهما.
قال: ولا تصح دعوى مجهول إلا في الوصية؛ لأن الدعوى مقابلة بالتمليك، والتمليك بالوصية لا تنافيه الجهالة؛ فالدعوى بها لا تنافيها الجهالة؛ كذا قاله القاضي الحسين.
وأيضاً: فإنا لو لم نصحح دعواه بها مع الجهالة، لأدى ذلك في الغالب إلى ضياع حقه؛ فإن الدعوى إنما تكون عند منازعة الورثة له، وفي هذه الحالة يبعد اطلاعه عليها.
وقد وجهه الشيخ أبو عي بأنه يمكن إثبات ذلك بالبينة، وكل ما أمكن إثباته بالبينة، سمعت الدعوى به.
قال ابن أبي الدم- رحمه الله: وهذا يبطل بدعوى الإقرار المجرد؛ فإن إقامة البينة به صحيحة بلا [خلاف].
والأصح: أنه لا تسمع الدعوى به.
وما ذكره الشيخ هو ما أورده الجمهور، ومنهم القاضي الحسين في موضعين من باب:"ما على القاضي في الخصوم"، ونسبه في كتاب الإقرار إلى قول أصحابنا كلهم، وقال في كتاب الإقرار: والذي عندي أن الدعوى بالوصية مجهول لا تسمع؛ لأنه يمكنه تفسير دعواها، ويدعي على الورثة أن مورثهم أوصى له [هو] بمال، وأراد به كذا، أو يعلم هو أنه أراد به كذا، فإن أنكر حلف، [فإن نكل، حلف] المدعي على ما ادعاه مفسراً من المال، واستحق دعواه.
قال الإمام: والوجه عندنا ما قاله الأصحاب؛ لما ذكرناه.
قال: [فأما ما] سواها فلا بد من إعلامها- أي: تعريفها ووصفها- لأن المقصود فصل الخصومة، وإلزام الحق، وذلك لا يمكن في المجهول.
وقد وافق الشيخ فيما ذكره البندنيجي في باب الاستعداد، والماوردي في باب "ما على القاضي في الخصوم"، وكذلك القاضي الحسين في موضعين منه، وفي كتاب الإقرار، وتبعه فيه البغوي والإمام.
وفي "تعليق" القاضي أبي الطيب، و"الشامل"، و"الإشراف": إلحاق دعوى الإقرار بالمجهول بدعوى الوصية بالمجهول في الصحة، وكذلك حكاه ابن أبي الدم عن الشيخ أبي علي، وهو المختار في "المرشد".
ووجهه ابن الصباغ بمعنى ما أورده القاضي أبو الطيب، وهو أنه لما صح أن يقر له بمجهول فيلزمه، صح أن يدعي عليه أنه أقر له بشيء مجهول.
وقضية هذا التعليل: أن تصح الدعوى بالإبراء عن المجهول إذا صححناه، ويكون مما يستثنى- أيضاً- وقد صرح به [في]"الإشراف".
وقد فرق الماوردي بين الإقرار بالمجهول، والدعوى به: بأنه إذا أقر فقد تعلق بالإقرار حق لغيره؛ [فلزم بالمجهول؛ خيفة إنكاره، ولم يتعلق بالدعوى حق لغيره].
والقاضي الحسين في كتاب الإقرار فرق بأن الدعوى حظه، فردها إلى الجهالة [لا] يؤدي إلى إلحاق مضرة به؛ لأنه يمكنه أن يفسر دعواه، بخلاف الإقرار؛ فإنه حظ الغير، فلو رددناه بالجهالة، أدى إلى الإضرار بالغير.
وقد رجع حاصل ما ذكرناه إلى أن الدعوى بالإقرار بالمجهول، هل تصح أم لا؟ وفيه خلاف، وهو قضية ما حكيناه من تعليل الشيخ أبي علي في الدعوى بالوصية مجهولة؛ لأن الشهادة بالإقرار بالمجهول هل تسمع؟ فيها وجهان:
وأصحهما في "تعليق" القاضي الحسين في هذا الباب، وكتاب الإقرار: المنع.
وقال ابن أبي الدم: الوجه عندي: بناء صحة الدعوى بالإقرار بالمجهول على شيء حكاه الإمام، وهو أن من أقر بشيء مبهم، وامتنع من تفسيره، فهل يحبس حتى يفسره؟ وفيه خلاف للأصحاب، والذي مال إليه الجمهور: أنه يحبس.
ومنهم من [قال]: لا يحبس لامتناعه من تفسيره، لكن يقال للمدعي: ادع [عليه] حقاً معلوماً، فإن أقر به أخذ منه، وإن أنكر حلف، و [إن] قال: لست أدري؛ كان إنكاراً منه، فإن أصر عليه بعد عرض اليمين عليه، جعلناه ناكلا، ورددنا اليمين على المدعي.
قال الإمام: وهذا حسن منقاس.
قال ابن أبي الدم: فإن قلنا: يحبس المقر [حتى يفسر]؛ فينبغي سماع الدعوى بالإقرار بالمجهول.
قلت: لأنها دعوى ملزمة.
وإن قلنا: لا يحبس؛ فينبغي ألا تسمع دعوى الإقرار بالمجهول؛ إذ لا فائدة فيها إذا آل الأمر إلى تكليف المقر له ذكر قدر معلوم والدعوى به.
وما ذكره مستمد مما ذكره ابن يونس، وهو حسن.
وقد قال الغزالي في كتاب الإقرار: فإن قيل: كيف يصح الإقرار بالمجهول، ولا تصح الدعوى به؟
[قلنا: لا فرق بينهما؛ لأن المقر يطالب بالتفسير، وكذلك المدعي].
وهذا مجموع ما رأيته في هذه المسألة.
وقد استثني- أيضاً، مع ما ذكرناه-: دعوى الطريق في ملك الغير، أو حق إجراء الماء؛ حيث قالوا: لا يحتاج إلى إعلام مقدار الطريق، والمجري؛ على الأشهر فيما حكاه القاضي أبو سعد في "الإشراف" وأنه يكفي تحديد الأرض التي يدعي فيها الطريق والمجري.
وكذا تصح الشهادة المترتبة عليها.
وعن [ابن] أبي علي الثقفي: أنه لا بد من إعلام [قدر] الطريق والمجرى.
قال: وكذلك لو باع بيتاً من دار، وسمى له طريقاً، ولم يببين قدره- لا يصح.
قال القاضي: والذي عندي: أنه لا يشترط هذا الإعلام في الدعوى، ولكن يؤخذ على الشهود [إعلام] الطريق، ومسيل الماء بالذرعان؛ لأن الشهادة أعلى شأنا؛ فإنها تستقل بقوة إيجاب الحكم، بخلاف الدعوى.
واعلم أن جميع ما ذكرناه فيما إذا كان المطلوب متعيناً، فأما من حضر ليطلب ما يعينه القاضي له: كالمفوضة تطلب الفرض على قولنا: لا يجب المهر بالعقد، وكالواهب يطلب الثواب؛ إذا قلنا: إن الهبة تقتضيه، ولم يقدر الثواب- فلا يتصور إعلام وتعيين [فيه]؛ كذا قاله في "الإشراف"، ويلتحق بذلك دعوى المتعة والحكومة.
فائدة: ما ذكرناه من كلام [ابن] الصباغ، والقاضي أبي الطيب في تعليله صحة الدعوى بالمجهول، مصرح بأن الدعوى "بأنه أقر لي بكذا" مسموعة.
وقد حكى الإمام في سماع هذه الدعوى وجهين، وأنهما جاريان في صور:
منها: إذا ادعى المدعى عليه بعد قيام البينة [عليه] أن المدعي يعلم قدح شهوده، فهل تسمع دعواه للتحليف أم لا؟
وكذا فيما إذا ادعى المدعى عليه أن المدعي قد أقر له بالعين، ولم يقل: هي ملكي، بل اقتصر على دعوى الإقرار.
وكذا فيما إذا توجهت اليمين على شخص، فقال: قد حلفني مرة أخرى.
وضبط الغزالي قاعدة هذا الخلاف بأن ما ليس بعين الحق ولكن ينتفع به في الحق، هل تسمع الدعوى فيه؟ فيه خلاف، ثم استدرك، فقال: ولا خلاف أنه لا تسمع الدعوى على القاضي والشاهد بالكذب، ولا يتوجه الحلف وإن كان ينفع ذلك؛ لأنه يؤدي فتح بابه إلى فساد عظيم عام.
والأصح في "التهذيب" عدم سماع دعوى فسق الشهود؛ للتحليف.
والأصح في "النهاية" في كتاب الإقرار: عدم سماع دعوى الإقرار، وأشار إليه في "الوسيط"، وهو موافق لما حكيناه في باب حد القذف: أن القاذف لو ادعى على المقذوف أنه زنى: أن أصح القولين - كما حكاه الإمام، والقاضي الحسين، والبغوي، وغيرهم-: عدم السماع، لكن الأكثرين قالوا [بالسماع] في هذه الصورة، وقياسه: أن يطرد في المسائل المذكورة إن لم نفرق بأن الحدود مبنية على المساهلة بخلاف غيرها.
ثم ما ذكره الإمام من تصوير محل الخلاف فيما إذا ادعى المدعى عليه على المدعي أنه: أقر لي بالعين، ولم يقل: هي ملكي، بل اقتصر على دعوى الإقرار- يفهم أنه لو قال:[هي ملكي، وقد أقر لي بها: أنها تسمع، بلا خلاف، ويقوي ذلك أنه قال] في كتاب الإقرار: إن المقر بالشيء إذا فسره بمقبول، فقال المقر له: لم ترد بلفظك ما أظهرته، وإنما أردت أكثر من ذلك- فقد قال المحققون: لا يقبل هذا الكلام من المقر له.
والوجه أن يقول المقر له: قد فسرت إقرارك بالشيء بدرهم، ولي عليك عشرة، وأنت أردت بالشيء عشرة؛ فإذا قال ذلك اتجه كلامه، وكأنه يقول: دعواي صحيحة، [و] إقرارك حجة عليها.
وحق المقر أن يقول: بالله لا يلزمني التسعة الزائدة، ولم أرد بقولي إلا الدرهم.
وقضية هذا- إن صح تقريره؛ كما ذكرناه - أن يجري مثله في كل صورة تشابهها.
لكن القاضي الحسين قال في هذا الباب: لو قال رجل للحاكم: لي عند فلان ألف درهم، حلفه بأنه ما أقر لي بالأمس بألف درهم، هل تسمع دعواه؟ فيه وجهان؛ وهذا يقتضي أنه لا أثر لهذه الزيادة في منع إجراء الخلاف، والله أعلم.
قال: وإن كان المدعى ديناً، ذكر الجنس والقدر والصفة؛ أي: التي تختلف بها الأغراض؛ لأن بذلك يحصل التعريف، ويقول: لي عليه- أو عنده؛ كما قال في
"البحر"- ذهب دينار عتيق، أو فضة درهم جديد، أو قمح صاع صفته كذا، ويذكر صفات السلم، ونحو ذلك؛ فإن قوله: ذهب، وفضة، وقمح، وشعير- بيان للجنس، وقوله: دينار، ودرهم، وصاع- بيان للقدر، وقوله: عتيق، أو جديد، ومن صفته كذا- بيان للصفة.
وقد فسر ابن يونس الصفة بأن يقول: قاساني أو سابوري، وهذا بيان نوع، لا بيان صفة، وقد نبه على ذلك الشيخ في باب الربا، ولا يتوهم أن النوع والصفة شيء واحد؛ لأنه قال في "المهذب": إنه يذكر في الدين الجنس، والنوع، والصفة، وسكت عن ذكر القدر؛ للعلم بأنه لا يحصل التعريف بدونه.
وقضية ذلك أن يكون المعتبر عنده ذكر أربعة أشياء: الجنس، والنوع، والقدر، والصفة في كل دين يدعى به.
وقد اعتبرها الماوردي، وتبعه في "البحر" فيما إذا كان الدين أجرة، أو ثمن مبيع، أو قيمة متلف، وأنه لا يجوز أن يطلق ذكر الدراهم والدنانير في الدعوى وإن جاز إطلاقها في الأيمان؛ لأن زمان العقد يقيد صفة الأيمان بالغالب من النقود، ولا يتقيد ذلك بزمان الدعوى؛ لتقدمها عليه.
وقالا فيما إذا كان الدين سلماً: لا بد من استيفاء صفات السلم كلها.
وكلام الشيخ لا يأبى ما قالاه في الحالين إن أجرى كلامهما على ظاهره، لكن قد يقال: إن مرادهما بصفات السلم: شرائط السلم؛ كما صرح به الماوردي في كتاب الدعاوى وغيره، وحينئذ لا يكون كلام الشيخ متناولاً لذلك.
وقد عد كون الدراهم بيضاً أو سوداً، وكون الدنانير مشرقية أو مغربية من اختلاف الأنواع.
وكذا ذكر الصائغ إن نسبت الدراهم والدنانير إلى صائغ.
وقالا: إن ذكر العتق والجدة، والصحة والتكسير- لا يشترط عند عدم اختلاف القيمة بهما إذا لم يكن الدين سلماً.
وقريب من ذلك ما قاله القاضي أبو الطيب، وابن الصباغ: أن الدعوى إن كانت في الأثمان؛ فلا بد من ذكر الجنس والنوع والقدر؛ فنقول: ثلاثة دراهم راضة.
قال ابن الصباغ: وإن اختلفت الصحاح والمكسرة، قال: صحاح أو مكسرة.
وقول البندنيجي: ولا بد أن يذكر صحاحاً أو مكسرة- محمول على ذلك، وإليه يرشد قول القاضي أبي الطيب: ومن أصحابنا من قال: ويذكر أنها صحاح أو قراضة؛ لأن بينهما [تفاوتاً].
قال: وإن كان عيناً يمكن تعيينها: كالدار، والعين الحاضرة؛ عينها؛ لوقوف العلم هاهنا على ذلك.
ولا فرق في ذلك بين أن يكون المدعى عليه حاضراً أو غائباً، ويجوز الحكم بذلك في الحال؛ كما صرح به القاضي الحسين وغيره.
واعلم أنه قد يتوهم أن المراد بتعيين الدار: [أن] يحضرها القاضي عند الدعوى، وليس [المراد ذلك]، بل المراد: أن يبالغ في وصفها كما قال الإمام، فيذكر البلد التي هي فيه، والمحلة والسكة منها، وموضع الدار، وأنها الأولى أو غيرها، على يمين الداخل أو يساره، أو في صدر السكة إن لم تكن نافذة، ثم يتعرض إلى الحدود، وينهي الأمر إلى غاية تفيد اليقين في التعيين.
قال الإمام: فإذا فعل ذلك، فكان المدعي والشهود على بعد من الدار، أشاروا إليها.
قال الماوردي: ولا يكفي ذكر ثلاثة حدود دون الرابع. وقد ذكر في البيع: أنه لو باع داراً، وذكر حدودها الأربعة؛ صح، وإن ذكر حدين، لم يصح، وإن ذكر ثلاثة فوجهان؛ وهذا ينبغي أن يكون في الدعوى بها.
وحكى الغزالي وجهاً: أنه لا بد من ذكر قيمة الدار، والأصح: أنه لا يشترط.
وهذا في الدار المجهولة عند الحاكم، أما إذا كانت مشهورة باسم في البلد، بحيث لا يشاركها غيرها فيه: كدار الندوة بمكة- ميزها بذكر الاسم؛ لأنه زيادة علم؛ كذا قاله الماوردي.
وكلام القاضي الحسين يقتضي [أن] محل اشتراط ذكر الحدود الأربعة إذا لم يحصل العلم إلا بها؛ فإنه قال: وذكر الحدود الأربعة ليس بشرط حتى [لو كان] يصير معلوماً بذكر حد [واحد] أو حدين، يكتفي به.
قال الماوردي: ولفظ الدعوى في الدار ونحوها أن يقول: "لي في يده"، ولا يقول:"لي عنده"، ولا:"عليه"، وهذا بخلاف ما إذا ادعى عبداً، أو دابة حاضرة؛ فإنه يجوز أن يقول:"لي عنده"، وكذا:"لي عليه" عند بعض أصحابنا، ولم يجزه بعضهم.
قال: وإن لم يمكن تعيينها؛ أي: لكونها منقولة غير حاضرة، إما في ذلك المجلس [وهي ثقيلة]، أو في ذلك البلد- ذكر صفتها؛ أي: المعتبرة في السلم إن أمكنت؛ كما صرح [به] البندنيجي وأبو الطيب، وتبعهما ابن الصباغ؛ لحصول المقصود بذلك.
وفي "الحاوي": أن الاقتصار على ذكر صفات السلم إنما يكون في المتلفات أما في غيرها: كالثياب، والعبيد، فيلزم أن يستوفي جميع أوصافه، وهو ما في "النهاية".
قال: بخلاف ما إذا كان مسلماً فيه؛ لأن مقصود التمييز في الأعيان يخالف مقصود الإعلام في السلم؛ لأنه إذا أفرط وتناهى فيه، فقد ينتهي إلى عزة الوجود، وذلك ممتنع في السلم؛ فكان من ضرورته ترك الإطناب في الوصف، والغرض من وصف المدعي الوصول إلى تعيين الشخص من بين الجنس.
قال: وإن ذكر القيمة فهو آكد؛ لما يحصل به من مزيد الاحتياط؛ وهذا ما حكاه العراقيون: كالبندنيجي، وأبي الطيب، وابن الصباغ، والقاضي الحسين أيضاً.
وفي "الرافعي": أنه بم يضبط المدعي بعد ذكر الجنس، والنوع؟ حكى القاضي أبو سعد الهروي وغيره فيه قولين:
أحدهما: أنه يتعرض للأوصاف التي يعتبر ذكرها في السلم.
والثاني: أنه يتعرض للقيمة، ويستغني بها عن ذكر الأوصاف.
ثم قال: قالوا: والصحيح أن الركن في التعريف لذوات الأمثال: ذكر الصفات، وذكر القيمة مستحب، وفي تعريف ذوات القيم الركن: القيمة، وذكر الصفات مستحب.
أما إذا لم يمكن ضبطها بالصفات: كالجواهر، والياقوت، فيقول: جوهر أو ياقوت قيمته كذا، وذكر القيمة شرط؛ لأنه لا يصير معلوماً بغيره؛ كذا قاله القاضي أبو الطيب، والبندنيجي، وابن الصباغ.
وفي "الحاوي": أن عليه أن يذكر الجنس، والنوع، وإن كان مختلف الألوان ذكر اللون، ثم حرر الدعوى ونفى الجهالة بذكر القيمة؛ لأنه لا يصير معلوماً إلا بها.
وفي "التهذيب": أن الغائبة إذا لم يمكن وصفها؛ بعث الحاكم إليها من يسمع الدعوى على عينها؛ قاله في باب الامتناع والقضاء باليمين.
ولا فرق في سماع الدعوى بما يمكن ضبطه بالصفة بين أن يكون المدعى عليه حاضراً أو غائباً؛ صرح به القاضي الحسين.
نعم، إن كان حاضراً، فأقر بالمدعى؛ ألزم بتسليمه، فإن أحضر شيئاً متصفاً بالصفات المذكورة، وقال: إنه الذي أقر به، فإن صدقه المقر له فلا كلام، وإن قال: المقر به غيره، فالقول قول المقر في نفي ما ادعاه، ولا يلزمه تسليم ذلك إليه؛ لأنه لا يدعيه؛ قاله ابن الصباغ في كتاب الإقرار.
قلت: ويظهر أن يقال: فيما يفعل بما أحضره الخلاف الآتي.
ولو قال: هذا الذي أحضرته لي، والذي أقررت به-[قال] ابن الصباغ: قلنا له: خذ هذا، والقول قوله فيما يدعيه.
وإن أنكر المدعى عليه، فإن لم يكن للمدعى بينة؛ حلف له.
وإن قال: لي بينة تشهد على عينها، فإذا عرف المدعى عليه أن مثل العين الموصوفة في الدعوى عنده، أمره الحاكم بإحضارها؛ لتقوم البينة على عينها.
وإن أنكر كون مثلها في يده، فإن لم يكن للمدعي بينة تشهد على أن مثلها في يده، فله تحليفه على ذلك.
قال الغزالي: وطريق الجزم: أن يصرف الدعوى إلى القيمة، ويثبت المالية بالشهادة
على الوصف مهما لم يطلب العين.
فإن قال: أدعى عبداً صفته كذا، وقيمته كذا، فإما أن يرد العين أو القيمة- فهذه دعوى غير محررة؛ ففي سماعها وجهان، ولكن اتفق القضاة على سماعها؛ للحاجة.
فلو لم يفعل ذلك، ولكن طلب عينه: فإن حلف فذاك، وإن نكل وحلف المدعي، أو أقام بينة على أن في يده مثل ذلك- كلفه القاضي إحضاره، ويحبس إلى أن يحضره، أو يدعي التلف؛ فيقبل منه للضرورة.
وإن أحضره، أقام المدعي بينة الملك على عينه، فإن لم يثبت الملك للمدعي قال القاضي الحسين: كانت مؤنة النقل والتحويل عليه.
وإن كان المدعى عليه غائباً في البلد الذي فيه العين المدعى بها، أو غيره، فإن لم يكن للمدعي بينة، فقد ذكرنا: أنه لا معنى للدعوى على الغائب إذا لم تكن ثم بينة.
وإن كانت له بينة، فهل تسمع؟ ينظر:
فإن كان المدعي به مشهوراً: كعبد مشهور معروف من عبيد السلطان، أو دابة كذلك، أو ثوب مشهور، لا نظير له- كما قاله البندنيجي – سمعت، وحكم بها؛ كما في العقار؛ صرح به البندنيجي وابن الصباغ.
وإن كان عيناً لا تتميز إلا بالوصف: كالثوب، والعبد غير المشهور، وجميع المنقولات التي لا تعرف، فهل تسمع أم لا؟ فيه قولان:
أحدهما: لا؛ لكثرة الأشباه والصفات، والحلى تتشابه.
ولأن المشهود به مجهول العين؛ فلا يكفي فيه الوصف والحلية؛ ألا ترى أنه لا يصح أن يشهد لرجل بالوصف والحلية؛ كذلك المشهود به، ويخالف المشهود عليه إذا كان غائباً؛ لأن النسب ثم يمنع من الاشتباه؛ وهذا ما رجحه طائفة من الأصحاب؛ منهم: أبو الفرج الزاز، والشيخ أبو علي؛ [كما] قاله ابن أبي الدم.
وعلى هذا فلا معنى لدعواه العين.
ثم إن أراد ألا تتعطل ماليته، قال الإمام: فيعتمد قيمة العين، وليربط دعواه
بها، وإن وصف فلا بأس، وتسمع الدعوى والبينة، وينعقد القضاء على المالية؛ كما في الكرباس.
والثاني: تسمع؛ لأنه يمكن ضبطه بالوصف، وقد يحتاج إلى الإتيان في الغيبة؛ فأشبه العقار والمتميز من المنقولات؛ وهذا ما اختاره الكرابيسي والإصطخري، ورجحه ابن القاص وأبو علي الطبري، وبه أجاب القفال في "الفتاوي"، وقال الماوردي: إنه الذي نص عليه في كتاب الدعاوى.
قال ابن الصباغ: ويخالف المشهود له؛ لأنه لا حاجة بنا إلى ذلك؛ فإن الشهادة لا تثبت له إلا بعد دعواه؛ فعلى هذا إذا سمعت هل يقضي بها؟ فيه قولان:
أحدهما: نعم؛ كما في العقار والمتميز من المنقولات.
فعلى هذا: إذا حكم وكتب الكتاب إلى قاضي البلد الذي فيه العين، ووصل إليه، حلف المكتوب إليه المدعي: أن هذا المال هو الذي شهد به عند القاضي، وسلم إليه العين؛ كما ذكره ابن القاص.
وأصحهما- وهو المنصوص عليه؛ كما قال في "الحاوي"، واختاره المزني، والمعول عليه-: لا يقضي؛ لأن الحكم مع الجهالة وخطر الاشتباه بعيد، لكن يكتب القاضي بذلك إلى قاضي البلد [الذي فيه] العين، وإذا وصل الكتاب إليه فماذا يفعل؟ فيه قولان، حكاهما القاضي الحسين.
أحدهما: أنه يبيع ذلك من المدعي بثمن المثل، ويأخذ منه كفيلاً بالثمن، ويحضره مجلس القاضي الكاتب، فإن ثبت أنه له أبرأه من الثمن، وإلا طالبه بذلك الثمن؛ وهذا ما حكاه القاضي أبو الطيب في باب اللقطة؛ بناء على عدم العمل بما في الكتاب.
والثاني: وهو ما حكاه الإمام عن ظاهر النص، ولم يحك القاضي أبو الطيب والبندنيجي وابن الصباغ على هذا القول سواه-: أنه يختم على المدعي، ويجعل في عنق العبد خيطاً مختوماً بحيث لا يخرج عن عنقه، ويأخذ منه كفيلاً بقيمته.
وقال الإمام: إن الكفيل في هذه الحالة يؤخذ ببدن المدعي ويسلم المدعي به إلى
المدعي أو وكيله؛ ليذهب به إلى القاضي الكاتب؛ ليشهد الشهود على عينه، اللهم إلا أن يكون المدعى أمة؛ فلا تسلم إليه وإن كان ثقة؛ لأنه قد يواقعها؛ لزعمه أنها ملكه، بل يعد لها أميناً من أهل الرفعة؛ كما حكاه الماوردي عن الإصطخري، وقال في "البحر": إنه اختيار القفال.
وفي "الإبانة" وغيرها وجه: أنه يسلمها إليه؛ كالغلام.
ثم إن ثبت أن المدعى له سلمه إليه، وكتب إلى ذلك القاضي حتى يبرئ كفيله؛ وإن لم يثبت المدعى [به للمدعي]، رده إلى بلد المدعى عليه، وكانت مؤنة [النقل والرد] على المدعي، وكذا أجرة مثل تلك المدة إن كانت له منفعة؛ كما قاله البغوي والقاضي أبو الطيب والبندنيجي وابن الصباغ، وصرحوا بأنه من ضمانه.
قال البندنيجي: ولا يزول الضمان حتى يرده إلى من قبضه منه.
وعن كتاب "الفروق" للشيخ أبي محمد: أن الشهود إذا شهدوا على عينه، ختم عليه خاتماً ثانياً، ويكتب:"إني حكمت به لفلان"، ويسلمه إلى المكتوب إليه حتى يرده إلى القاضي الثاني؛ فيقرأ الكتاب، ويطلق الكفيل، ويسلم العين إلى المدعي.
وقد حكى الفوراني بدل القول الأول: أنه يسلم الشيء المدعى إلى المدعي، ويأخذ القيمة، ويدفعها للمدعى عليه؛ للحيلولة بينه وبين ما يزعم: أنه ملكه، وهذا قريب من قول أبي الحسن العبادي: أنه إذا سلم العين إلى المدعي، كفله قيمة المال، ثم هذه القيمة مستردة، سواء ثبت أن الملك للمدعي أو لم يثبت: أما إذا ثبت فظاهر، وأما إذا لم يثبت؛ فلأنا أخذناها للحيلولة، فإذا ارتد المال إلى المدعي؛ فلا بد من رد القيمة.
قال الإمام: وما ذكرناه من أخذ الكفيل بالثمن على القول الأول واجب مذهباً واحداً، وما ذكرناه من الختم وأخذ الكفيل على القول الثاني احتياط في الواقعة، فلو تركه القاضي المكتوب إليه؛ فترتيب القضاء ونظمه لا يختلف، ولكن اختلف الأئمة في أن المكتوب إليه هل يكون تاركاً احتياطاً مأموراً به من غير إيجاب؟
وإذا تأملت ما بسطناه واختصرته، قلت: في سماع البينة والقضاء في الأعيان المنقولة ثلاثة أقوال، ثالثها: تسمع ولا يقضي بها؛ وهذه طريقة عامة الأصحاب في جميع المنقولات؛ كما قاله الرافعي.
وعلى الثالث منها: ما فائدة السماع؟ فيه قولان:
أحدهما: الإقدام على بيع العين المدعى بها من المدعي، وتسليم العين له مع تبقية الثمن في ذمته؛ اعتماداً على الكفالة به؛ على رأي، أو ببدن المدعي على رأي.
والثاني: تسلطه على نقلها إلى بلد الشهود على رغم من هي في يده، إما ببذل قيمتها؛ للحيلولة على رأي، أو بكفالة شخص على رأي.
ووراء ما عليه كافة الأصحاب طريقان:
إحداهما: طريقة الماوردي، وهي أن الحكم بالشهادة على ما ينقل من الأعيان: كالعبد، والدابة، والثوب- قولان، أصحهما: عدم الحكم.
وخرج ابن سريج وجهاً ثالثاً، فقال: إن كان العبد المدعي في غيبته يختص بوصف يندر وجوده في غيره: كشامة في موضع من جسده، أو أصبع زائدة في موضع من يده، أو كان مشهوراً من عبيد السلطان لا يشركه غيره في اسمه ومنزلته وصفته- جاز الحكم بشهادتهم مع غيبته.
وإن شابه عموم الناس في صفته ونعته؛ لم يحكم فيه بالشهادة إلا مع التعيين والإشارة.
قال: ولهذا التخريج وجه، لكنه نادر، وإطلاق القول يكون على الأعم الأغلب.
فإذا قيل بعدم الحكم في الغيبة؛ ففي سماع الشهادة قولان:
فإن قلنا بالسماع، كتب به إلى قاضي البلد الذي فيه المطلوب، فإذا وصل الكتاب إليه، لم يحكم بالعبد إلا أن يعينه الشهود.
قال الشافعي: ويستفاد بهذه الشهادة وإن لم يقع الحكم بها إلا مع التعيين من الجهتين: ألا يتكلف الثاني الكشف عن عدالتهم، ولا يتكلف الشهود إعادة شهادتهم، وإنما يقتصرون على الإشارة بالتعيين، فيقولون: هذا هو العبد الذي
شهدنا بأنه لفلان عند القاضي الكاتب بالثبوت خاصة، عند المكتوب إليه قبل الحكم- لا يقتضي إعادة الشهادة؛ وهذا ما وعدت بذكره من قبل.
قال الماوردي: وعندي فائدة ثالثة، وهي إذا مات العبد، فيستحق بهذه الشهادة على المطلوب ذي اليد قيمته على نعته وصفته.
وإن قلنا: يحكم بالشهادة في الغيبة، أحضر القاضي المكتوب إليه العبد، وصاحب اليد، وقال له: هذا العبد هو المنعوت بهذه الصفة، فإن اعترف بها، حكم عليه بتسليمه إلى طالبه، وإن أنكر أن يكون هو الموصوف المحكوم به؛ ففيه قولان:
أحدهما: أن القاضي يختم في عنق العبد، ويسلمه إلى الطالب المشهود له، مضموناً عليه، ويأخذ منه كفيلاً، ويفعل ما تقدم.
والثاني: أنه ينادي القاضي على العبد، فإذا انتهى ثمنه، قال لمدعيه: ادفع ثمنه يكون مودعاً على يد عدل، وخذ العبد معك، فإن عينه شهودك؛ حكم القاضي له [به] وكتب برد الثمن عليه، وإن لم يعينوه لك؛ ألزمتك رده واسترجاع ثمنه.
قال: وهذا القول إن أجاب إليه الطالب؛ جاز العمل عليه، وإن لم يجب إليه، لم يجبره.
والأصح عندي من هذا كله: أن يقبل القاضي الثاني الكتاب، ويحكم بوجوب ما تضمنه من العبد الموصوف فيه، ويخير صاحب اليد في العبد بين أحد ثلاثة أشياء:
بين أن يسلمه بالصفة المشهود بها إلى طالبه؛ فيلزم الحكم بها.
وبين أن يمضي بالعبد مع طالبه على احتياط من هربه إلى القاضي الأول، فإن عينه الشهود، سلمه إلى الطالب بحكمه، وإن لم يعينوه، خلى سبيل العبد مع صاحب اليد.
وبين أن يعدل بالطالب إلى دفع قيمة العبد الموصوف دون العبد الذي في يده.
فأي هذه الثلاثة فعلها صاحب اليد، فقد خرج به من حق الطالب.
وإن امتنع من جميعها، وقد ثبت استحقاق العبد الموصوف- لم يجز أن تسقط شهادة عدول تثبت بمثلهم الحقوق، وأخذه القاضي الثاني جبراً بدفع قيمة العبد الموصوف؛ لأنه صار بالاشتباه غير مقدور عليه؛ فجرى مجرى العبد المغصوب إذا أبق، يلزم دفع قيمته.
والطريقة الثانية: طريقة الإمام ومن تبعه، وهي أن الأقوال الثلاثة والتفاريع المذكورة فيها صحيحة فيما إذا كانت العين المدعى بها مما يمكن تعريفها وتمييزها بالصفات والحلى: كالرقيق، والدواب. أما إذا كانت مما [لا] يمكن تعريفها وإن بولغ في صفتها: كأذرع من كرباس ونحوه، فلا ترتبط الدعوى فيه والحكم بالعين قطعاً؛ فإنه لا مطمع في انتهاء الوصف إلى مبلغ إفادة التمييز، بل مدعي الكرباس يصفه، ويذكر قيمته، ويرد دعواه إليها، ويقع سماع البينة بحسب ذلك، والشهود يشهدون، وتعويلهم القيمة وإن اطنبوا في الوصف، وذكر القيمة في هذا المقام متعين؛ فإنها عماد القضاء، بخلاف ذكرها في مسألة العبد ونحوها إذ جوزنا القضاء بعينه، أو سماع البينة كما تقدم؛ فإن الأظهر عندنا: أنه لا يشترط ذلك؛ فإن القيمة لا ضبط لها في هذه المنازل إذا كان المطلوب ربط القضاء بالعين، على [أن] بعض أصحابنا اعتبر ذكرها في الإعلام.
قال الرافعي: ولو بحث عن قولهما بأن الدعوى والحكم والبينة ترتبط بالقيمة دون العين؛ لولد البحث إشكالاً صعباً؛ لأن العين إن تلفت؛ فالمطالبة بالمثل أو القيمة دعوى بالدين، وليس ذلك مما نحن [فيه] في شيء، وما دامت العين باقية، فالمدعي لا يستحق القيمة؛ فكيف يطلبها، وكيف يحكم القاضي بها؟ وإن كان المراد [أنه] يدعي قدر القيمة من المال في يده، ويحكم له بذلك من غير تعيين- فهذا شيء لا عهد به، فإن كان المراد أنه يعتمد في طلب العين والحكم بها ذكر القيمة دون الصفة [والحلى؛ فهذا ذهاب إلى أنه يسمع الدعوى بالعين، ويحكم بها اعتماداً على القيمة دون الصفة، وذلك] لا يلائم نظمهما.
فرع: [إذا قلنا] بالقضاء بالبينة- كما ذكرنا- فوصل الكتاب متضمناً الحكم، وصادفنا على وصف الكتاب عبداً في يد المكتوب إليه متميزاً، سلمناه إلى المدعى ملكاً ظاهراً، فإن أرانا المدعي عليه على وصف الكتاب عبدين: إما من ملكه، أو ملك غيره- وقف القضاء، [و] قلنا للمدعي: مر، وراجع؛ كما ذكرنا مثل ذلك في المدعى عليه؛ إذ ظهر في البلد مثله.
قال: وإن كانت تالفة، ولها مثل؛ ذكر جنسها، وصفتها؛ أي: المعتبرة في السلم، وقدرها؛ ليضبطها بذلك، ويكون المطلوب المثل.
قال: وإن ذكر القيمة، فهو آكد؛ لما ذكرناه.
وإن لم يكن لها مثل، ذكر قيمتها؛ لأنها الواجبة له؛ وهذا ما أورده ابن الصباغ وأبو الطيب والبندنيجي، والقاضي الحسين في باب "ما على القاضي في الخصوم" في هذه المسألة، والتي قبلها، وقد ذكر ابن يونس عقيب قول الشيخ:"وإن لم يكن لها مثل، ذكر قيمتها": أن ابن الصباغ قال: إن كان يمكن ضبط صفاته، فلا بد من ذكر الصفات، سواء كان له مثل أو لم يكن له مثل؛ كما قلنا في السلم، وإن لم يمكن ضبط صفاته: كالجواهر، وغيرها، ذكر القيمة. وأن في "الحاوي": أنه يلزمه في الجواهر ونحوها أن يذكر الجنس والنوع وما يضبط من صفاتها. وهذا إنما قالاه في حالة بقاء العين وادعائها، وأما في حالة التلف فالذي قالاه ما ذكرناه عنهما، والله أعلم.
فرع: إذا كان المدعى سيفاً محلى وقد تلف، قال العراقيون-[كأبي الطيب، والبندنيجي، والماوردي، والمصنف، وكذا القاضي الحسين]-: فلا بد من ذكر قيمته، فإن كان محلى بالفضة قومه بالذهب، وإن كان محلى بالذهب قومه بالفضة، وإن كان محلى بهما قومه بأيهما شاء؛ لأنه موضع ضرورة.
وقال في "البحر" بعد حكاية ذلك عن الأصحاب: ويحتمل عندي أن يقال: ينبغي أن يفصل بينهما في الدعوى، ويقوم بغير الجنس.
قال: وإن ادعى نكاح امرأة، فالمذهب أنه يذكر أنه تزوجها بولي مرشد- أي: رشيد_ وشاهدي عدل، ورضاها إن كان رضاها شرطاً؛ أي: إما لكونها ثيباً، أو بكراً والولي غير الأب والجد؛ لأن النكاح يتعلق به حق الله – تعالى- وحق الآدمي، وإذا وقع لا يمكن استدراكه؛ فلا تسمع الدعوى فيه إلا أن تكون مفسرة مبينة؛ كما في دعوى القتل.
ولأن في شرائط انكاح خلافاً بين العلماء: فأبو حنيفة لا يشترط الولي، ومالك لا يشترط الشهود، ونحن إذا كانت بكراً لا نعتبر رضاها بعد البلوغ، وأبو حنيفة يعتبره؛ فلم يجز للحاكم أن يحكم بظاهر الدعوى حتى يعلم وجود الشرائط؛ كي لا يحكم بصحة ما هو خطأ عنده؛ وهذا ما نص عليه في "المختصر" حيث قال: لو ادعى أنه نكح امرأة لم أقبل دعواه حتى يقول: نكحتها بولي، وشاهدي عدل، ورضاها؛ إذا كان الولي ممن لا يزوجها إلا برضاها.
فإن قلت: ليس في لفظه اشتراط عدالة الولي.
قلت: بلى؛ لأن قوله: "عدل"، يرجع إلى الولي والشاهدين؛ لأنه يقال: قوم عدل؛ كما يقال: رجل عدل؛ كذا قاله ابن الصباغ.
على أنه قد قيل: إن هذا من الشافعي جواب على عدم اشتراط عدالة الولي.
وقد حكى في "الشامل" وجهاً: أنه لا حاجة إلى التعرض لعدالة الولي.
قال الرافعي: وقياس الأول وجوب التعرض لسائر الصفات المعتبرة في الأولياء، ولا يشترط على هذا ذكر انتفاء الموانع من الردة، والعدة، والإحرام، والرضاع، وغير ذلك.
قال الغزالي: بلا خلاف.
وقال في "الإشراف": على المذهب؛ لأن الأصل عدمها، مع أن فيها كثرة؛ فيشق ذكرها.
وعن محمد بن إبراهيم العبدي من أصحابنا: أنه يشترط نفيها.
[ويشترط] فيما إذا ادعى الحر نكاح أمة، ذكر أنه تزوجها وهو عادم للطول، خائف للعنت.
قال في "الشامل"، و"البحر": ومن أصحابنا من قال: لا يشترط ذكر ذلك؛ كما لا يشترط ذكر انتفاء الموانع.
والأول أقيس، وهو ما اختاره في "المرشد".
أما إذا لم يكن رضاها شرطاً بأن كانت مجبرة؛ فلا يتعرض لرضاها، ويتعرض لذكر المزوج من أب أو جد، وعلمها بذلك إن كانت الدعوى عليها؛ كما أشار إليه الإمام في كتاب النكاح.
وقيل: إن ذلك مستحب؛ لأنه دعوى ملك؛ فلا يشترط فيه ذكر السبب؛ كدعوى المال مطلقاً؛ فإنه لا خلاف في عدم اشتراط ذكر السبب كما قاله الروياني، والإمام، وتبعه [في]"الوسيط".
ولأن مطلق اسم النكاح ينصرف إلى النكاح الشرعي، والنكاح الشرعي ما وجدت فيه [هذه] الشرائط.
وهذا منسوب لابن أبي هريرة في "البحر"، وحكي عنه أنه قال: ويكفيه أن يقول: نكحتها نكاحاً صحيحاً.
وفي "الحاوي" نسبة هذا الوجه إلى ابن سريج.
قال في الإشراف: وأصل هذا الخلاف: أن العبد إذا أذن له في نكاح صحيح؛ فنكح نكاحاً فاسداً، هل يجب المهر حيث يجب [في] النكاح الصحيح أم لا؟
وقضية هذا البناء: أن يكون الصحيح الاكتفاء بالإطلاق؛ لأن الصحيح أنه يجب حيث يجب النكاح الصحيح.
وقد حكى الإمام وغيره: أن الوجها لثاني مخرج من نصه على سماع دعوى البيع مطلقة؛ كما سنذكره.
قال القاضي الحسين: وقد قيل: إنه قول قديم.
قال الإمام: وعلى هذا، هل يشترط التقييد بالصحة؟ فعلى وجهين، وحكاهما في "الإشراف" قولين.
قال الإمام: والوجه عندي: الاشتراط؛ فإنها لفظة جامعة، دالة على المقصود؛ وعلى هذا جرى في "الوسيط".
وهذا الذي ذكره الإمام هو ما ذكرناه عن ابن أبي هريرة.
قال الرافعي: وقد أشار كلام الغزالي في "الوسيط" إلى أن الوجهين مفرعان على قولنا: إنه لا يشترط تفصيل الشرائط، وإيراد القاضي أبي سعد يقتضي اطرادهما مع اشتراط التفصيل؛ ليتضمن ذكر الصحة نفي الموانع.
وقيل: إن كانت الدعوى لابتداء العقد- أي: بأن قال: عقدت عليها- وجب ذكرها؛ لأنها شرط في الابتداء.
وإن كان [ذلك] لاستدامته- أي: بأن قال: هي زوجتي- لم يجب ذكرها؛ لأنها ليست شرطاً في الاستدامة؛ وهذا ما اختاره صاحب "الإفصاح"، وصححه في "الوجيز" و"المرشد"، واستدل له بأن الزوجية تثبت بالاستفاضة.
وقد بنى القاضي الحسين والفوراني الخلاف في دعوى الاستدامة على المعنيين في عقد النكاح، فقالا: إن قلنا: المعنى اختلاف الناس في شرائطه، فهاهنا لا يجب ذكرها؛ لأنه لا خلاف فيه. وإن قلنا: المعنى: مراعاة الاحتياط فيجب ذكرها.
وفي "البحر" طريقة أخرى حاكية لقولين في اشتراط التفصيل وعدمه.
واعلم: أن دعوى النكاح تصح من الزوج على الولي؛ إذا كان أباً أو جداً، والزوجة بكراً صغيرة بعد بلا خلاف، فإن أقر ثبت النكاح، وإن أنكر فقد قال القاضي الحسين هنا: إنه يحلف، فإن نكل [حلف] الزوج، وسلمت له؛ وهذا ما حكاه الإمام في آخر "النهاية"[منقولاً] عن الأصحاب. وفي كتاب الصداق حكاه عن كثير من أئمة العراق، وأنهم لم يذكروا في ذلك خلافاً.
وحكى وجهاً آخر: أن الولي لا يحلف، وهو ما أبداه في آخر "النهاية"، تخريجاً من كلام القفال، قال: وإن فيه بعداً.
وإن كانت بكراً كبيرة، [فقد قال] القاضي الحسين، هاهنا: إن الدعوى تسمع على الأب والجد وعليها.
وأما الإمام فإنه حكى في كتاب النكاح عند الكلام في وقوع عقدين على امرأة وجهين في جواز الدعوى على المجبر، وجزم في آخر "النهاية" بالسماع، وأن له أن يحلف [على عدم التزويج، وحكى الخلاف فيما إذا نكل، هل يحلف الزوج أم لا؟
وأحد الوجهين: أنه يحلف] كما لو نكل عن اليمين في حال صغرها، وهو ما أجاب به ابن الحداد.
والثاني: لا؛ لأنه قادر على تحليف المرأة البالغة، وهي باليمين أولى.
وعلى هذا: إذا حلف الأب؛ فللمدعي أن يدعي على المرأة: فإن أقرت ثبت النكاح؛ على الصحيح، وإن أنكرت؛ توجهت عليها اليمين: فإن حلفت فذاك، وإلا حلف، وسلمت إليه.
وقال هاهنا: إن سماع الدعوى عليها ينبني على قبول إقرارها: فإن قبلناه فدعواه مسموعة عليها، وإلا فهل تتوجه الدعوى عليها واليمين؟ على قولين مبنيين على أن يمين الرد مع النكول كبينة أم كالإقرار؟
فإن قلنا بالأول؛ حلفت، فإن نكلت حلف المدعي، وثبت النكاح.
وإن قلنا: كالإقرار، فلا تحلف؛ فإن غاية توقع الخصم أن تنكل، ويحلف هو يمين الرد، ولو أفضت الخصومة إلى ذلك لما ثبت غرض المدعي، وقد حكى ذلك الفوراني أيضاً.
قلت: ويظهر [أن يقال: إن] اليمين تعرض وإن لم نقبل الإقرار، وقلنا: إن يمين الرد مع النكول كالإقرار، ويكون فائدة العرض: أن تحلف؛ فتنقطع الخصومة؛ وذلك مستمد مما حكيته عن الأصحاب فيما إذا كانت الدعوى على سفيه بما يوجب المال من الجنايات.
ثم ما حكيناه عن الإمام والفوراني يفهم أمرين:
أحدهما: أن الخلاف في سماع الدعوى عليها مفرع على القديم؛ لأن الجديد قبول إقرارها؛ وكذا في القديم إذا كانا عربيين كما نقله الإمام والبغوي وابن الصباغ وغيرهم؛ أو تقادم عهدهما؛ كما حكاه القاضي الحسين.
أما عند فقد ذلك، فلا يقبل.
قال في "الشامل": وهذا لا يعرفه أصحابنا.
وفي "البحر": أن بعض أصحابنا الخراسانيين قال: لا يصح إقرارها بالنكاح في قوله القديم، لأنها لا تباشر عقد النكاح؛ فلا تكون من أهل الإقرار به، كالصبي. وكأنه- والله أعلم- يشير إلى الفوراني؛ لأن هذا لفظه في "الإبانة".
الثاني: أن محل الخلاف في سماع الدعوى عليها إذا لم يكن [له] بينة، أما إذا كانت، فيظهر أن يقال بالسماع وجهاً واحداً، ويعضده أن الأصحاب قالوا: إن الدعوى على السفيه بقتل الخطأ ونحوها مسموعة وجهاً واحداً، وإن لم يقبل إقراره لتقام عليه البينة إن أنكر.
لكنه قد يعترض على هذا سؤال، فيقال: إذا جوزتم الدعوى؛ لأجل إقامة البينة، واحتمال إقرارها متوقع، فإذا أقرت فأنتم لا تسمعون إقرارها، وكيف تقام البينة على معترف؟
وجوابه: أنا إذا [لم نرتب] عليه حكماً، كان كالسكوت، كذا أشار إليه الإمام، وجوز للمدعي أن يحلف إذا قلنا: يمين الرد كالبينة مع تصريحها بالإقرار [به].
[و] على كل حال، فإذا صحت الدعوى بالنكاح، فهل يشترط في صحة الإقرار به التفصيل الذي ذكرناه في الدعوى؟ فيه خلاف حار فيما إذا أقر الرجل بالنكاح، والأصح: أنه لا يشترط، وقال الإمام: إنه المذهب.
وفي "تعليق" القاضي الحسين: أن المذهب الاشتراط.
وكذا هل يشترط عدم تكذيب الولي لها والشهود إذا كانت هي المقرة، وقبلنا: إقرارها؟ فيه خلاف، والأصح: أنه لا يشترط، وبه جزم في الأولى المصنف، وفيهما البغوي، وكل ذلك مذكور أو بعضه في كتاب النكاح، وذكرته هاهنا لمزيد فائدة.
فرع: إذا ادعى على القاضي نكاح مجنونة، قال القاضي الحسين: تسمع دعواه، فإن أقر به القاضي فلا كلام، وإن أنكر فلا يحلف؛ لأن تكذيبه له إنكار للقضاء، واشتراط التفصيل وعدمه في دعوى المرأة النكاح حيث تسمع، كاشتراطه في دعوى الرجل النكاح.
قال: وإن ادعى بيعاً، أو إجارة، أو غيرهما من المعقود-[أي: كالهبة،
والصلح]- لم يفتقر إلى ذكر الشروط؛ لأن المقصود المال؛ فأشبه دعوى المال؛ وهذا ما ادعى الغزالي: أنه المنصوص.
وعلى هذا هل يشترط التقييد بالصحة؟ فيه وجهان، أصحهما في "الوسيط": نعم.
وقيل: يفتقر، لأنه دعوى عقد، وقد اختلف في بعض شرائطه؛ فاحتيج فيه إلى التفصيل؛ كدعوى النكاح.
وهذا مخرج من النص في النكاح، وينسب إلى ابن سريج.
وعلى هذا: يذكر [أهلية] العاقد، والثمن، والتفرق بالأبدان عن تراض؛ كما قاله في "الشامل"، و"البحر".
وقيل: في بيع الجارية يفتقر؛ لأنه يقصد به الوطء فهو كالنكاح، وفي غيرها لا يفتقر؛ لأنه يقصد به عين المال.
والمذهب: الأول، ويخالف النكاح؛ لأن بضع الحرة لا يملك إلا بوجه واحد، وهو النكاح، فشرطنا التفسير فيه؛ حتى لا يكون واقعاً على وجه فاسد، بخلاف ملك اليمين؛ فإنه يحصل من وجوه شتى، وفي يوم واحد مراراً؛ فقلما يشبته؛ فلا يشترط التفسير فيه.
وفي "الحاوي": أنه إذا ادعى ابتياع عبد، فإن كان المقصود دعوى العقد؛ فلا بد أن يذكر [الثمن، وإن كان المقصود انتزاعه من يده فلا بد أن يذكر] أنه ابتاعه منه، ودفع ثمنه، ومنعه منه، ولا يلزمه ذكر قدر الثمن.
واعلم أنه قدر تكرر منا القول بأنه إذا ادعى المال لا يجب عليه بيان السبب، حتى ادعى الفوراني: أنه لا خلاف فيه في حالة دعوى استدامه الملك؛ كقوله: هذا ملكي. وهذا محل اتفاق فيما وقفت عليه إذا لم يطالبه المدعى عليه ببيانه، أما إذا طالبه فقال للقاضي: سل المدعي عن جهة وجوب ما ادعاه- فقد قال في "الإشراف": إن القاضي بالخيار: إن شاء سأله، وإن شاء لم يسأله.
وفيه وجه آخر يعزى إلى القفال والمروزي: أن القاضي يسأله عن جهة وجوبه؛
لأن أسباب الوجوب مختلف فيها بين أهل العلم؛ فربما ظن شيئاً موجباً، وهو غير موجب في اعتقاد القاضي.
وفي "تعليق" القاضي الحسين حكاية وجه فيما إذا ادعى شخص عبودية شخص مجهول الحال: أنها لا تسمع مطلقاً، والأصح من المذهب: السماع.
قال: وإن ادعى قتلا، ذكر القاتل، وأنه انفرد بقتله، أو شاركه فيه غيره؛ لاختلاف الحكم بذلك.
ويحتاج في قتل الخطأ، وشبه العمد، والعمد الذي لا تجب فيه إلا الدية- لمشاركة المخطئ فيه ونحوه- إلى ذكر عدد المشارك؛ لأن حصة المدعى عليه من الدية لا تتبين إلا بحصر الشركاء، فلو قال: لا أعرف عددهم، لم تسمع دعواه.
ولو قال: أعلم أنهم لا يزيدون على عشرة، سمعت، ويترتب على تحقيقها المطالبة بعشر الدية.
وهل يحتاج في دعوى القتل العمد الموجب للقصاص بيان عدد المشاركين؟ فيه وجهان:
أصحهما: لا.
والثاني- ويحكى عن أبي إسحاق-: نعم؛ لأنه قد يختار الدية، فلا يدري حقه منها.
وقال الإمام: الوجه عندي أن ينبني هذا على أن موجب العمد القود المحض، أو القود والدية، [أو] أحدهما لا بعينه؟
فإن قلنا بالأول فالوجه القطع بقبول الدعوى.
وإن قلنا: [إن] الموجب أحدهما لا بعينه، فيحتمل الوجهان حينئذ، وهذا ما أورده الغزالي.
فرع: لو ادعى أنه قتل مورثه أحد هذين، أو واحد من هذه العشرة، أو من هذا العدد، وهو محصور، وطلب من القاضي أن يسألهم، ويحلف كل واحد منهم- فهل يجيبه؟ فيه وجهان:
أحدهما: لا؛ للإبهام؛ وهذا أصح في "التهذيب"، ولم يورد جماعة غيره، وعليه ينطبق قول الشيخ: ذكر القاتل.
والثاني: نعم؛ لأنه طريق يتوصل به إلى معرفة القاتل واستيفاء الحق منه.
ولأن القاتل يسعى في إخفاء القتل؛ كي لا يقصد، وتعسر معرفته على الولي لذلك، فلو لم تسمع دعواه هكذا، لتضرر، وهم لا يتضررون باليمين الصادقة؛ وهذا أصح في "الوجيز".
ولا يجري هذا في دعوى القرض، والبيع، وسائر المعاملات؛ لأنها تنشأ باختيار المتعاقدين، وحقها: أن يضبط كل واحد من المتعاقدين صاحبه.
وقيل بإجرائه في المعاملات- أيضاً- لأن الإنسان عرضة للنسيان، وهم لا يتضررون باليمين.
والأظهر: الأول؛ لعظم خطر الدم.
أما إذا كان عدد من طلب أيمانهم غير محصور: كأهل القرية، والمحلة- فلا يجاب؛ لأنه يطول فيه العناء على القاضي، ويتعطل زمانه، وتتأخر بسببه حقوق سائر الناس، وفي إحضار الجمع الكبير إضرار بهم؛ وهذا ما حكاه الرافعي.
[و] في "تعليق" القاضي الحسين: أن محل الخلاف فيما إذا طلب أيمان من يستحيل اجتماعهم على القتل؛ ورجاء أن ينكل واحد منهم؛ فيجعله لوثاً، ويحلف أيمان القسامة، وطرد الخلاف فيما إذا نسي متاعاً بين جماعة، وقال: أعلم أن السارق فيكم، ولا أعلم عينه، فأحلفكم واحداً واحداً.
قال: ويذكر أنه عمد، أو خطأ، أو شبه عمد، ويصف كل واحد من ذلك، أي: فيقول في العمد: قتله بما يقصد به القتل غالباً، وفي شبه العمد يقول: ضربه بعصا فمات من ضربه، وفي الخطأ: سقط عليه فقتله.
ووجهه: أن القتل إذا وقع لا يمكن تلافيه؛ فوجب الاحتياط فيه بذلك.
وفي "الحاوي" وغيره في باب "كيف يدعي الدم" حكاية وجه: أنه لا يحتاج إلى ذلك، بل تسمع مطلقة.
ووجه آخر حكاه الماوردي هنا: أنه لا يحتاج إلى وصف قتل الخطأ.
والمشهور الأول؛ وهكذا الحكم فيما إذا ادعى قطع طرف، أو جناية توجب القصاص.
ولو ادعى جراحة لها أرش مقدر، ذكر الأرش في الدعوى؛ فإنه المطلوب.
فرع: إذا ادعى على شخص أنه تفرد بالقتل، لم تسمع دعواه على غيره بالانفراد بالقتل، ولا بالمشاركة فيه؛ لتضمن الدعوى الأولى كذبه في الثانية.
نعم، لو صدقه المدعى عليه ثانياً في ذلك، آخذناه بتصديقه- على أصح الوجهين- لأنه يحتمل أن يكون كاذباً في الدعوى الأولى صادقاً في الثانية.
ولو ادعى قتلاً عمداً، فاستفصل، ففصله بما ليس بعمد- ففي بطلان أصل الدعوى قولان:
أحدهما: تبطل؛ فلا يقسم؛ ولا يلتفت إلى قوله؛ لأن في دعوى العمدية اعترافاً بأنه ليس بمخطئ فلا يمكنه الرجوع عنه؛ وهذا ظاهر ما نقله المزني.
وأصحهما: المنع؛ لأنه قد يظن ما ليس بعمد عمداً؛ فيتبين بتفسيره أنه مخطئ في اعتقاده.
وأيضاً: فقد يكذب في الوصف، ويصدق في الأصل؛ وعلى هذا فيعتمد على تفسيره، ويمضي حكمه؛ وهذا ما نقله الربيع. والقاضي الحسين نقله عن القديم، وبعضهم قطع به، وتأول ما نقله المزني على أنه لا يقسم على ما ذكر أولاً.
ويجري الطريقان فيما لو ادعى الخطأ، وفسره بما هو عمد.
ولو ادعى شبه العمد، وفسره بما هو خطأ محض، وقلنا هناك بطريقة القولين- فمنهم من أجراهما هاهنا، ومنهم من قطع بعدم بطلان أصل الدعوى؛ لأن قوله الأول
يقتضي زيادة، [ومن ادعى زيادة، ثم] رجع على قدر الحق لا تبطل دعواه.
ولو فسره بما هو عمد فلا تبطل دعواه، ويقسم قال الماوردي: وعندي [أنه] لا يقسم.
قال: وإن ادعى أنه وارث بين جهة الإرث؛ لأنها مختلف فيها بين أهل العلم، مع قلة وقوعه للشخص الواحد؛ فقد يظن أنه وارث، وليس كذلك.
قال: فإن لم يذكر، سأله الحاكم عنه، أي: فيقول له: من أي جهة أنت وارث: من النسب، أو ولاء، أو نكاح؟ وهذا هو المعنى بالاستفسار، وقد قدمت الكلام فيه في باب "أدب القضاء".
وقال في "المهذب": إن هذا مطرد في كل ما لزم ذكره في الدعوى، ولم يذكره، وهو ما أورده الجمهور، وعليه نص الشافعي في "المختصر"؛ حيث قال: ينبغي للحاكم أن يقول له عند دعوى القتل: من قتل صاحبك؟ فإن قال: فلان، قال: وحده؟ فإن قال: نعم، قال: عمداً أو خطأ؟ فإن قال: عمداً، سأله، ما العمد؟
وإيراد الروياني يشعر بوجوب الاستفصال؛ فإنه قال بعد ما نقل عن الشافعي أنه يستفصل في الأشياء الأربعة كما ذكرنا: وقال الماسرجسي: لا يجب على الحاكم أن يصحح دعواه، ولا يلزمه أن يسمع إلا في دعوى محررة، [و] إنما ذكر الشافعي هذا وأراد أن يستثنيه احتياطاً.
وهذا السياق يشعر بأن غيره يقول بوجوب الاستفصال، والأوجه ما نسبه إلى الماسرجسي.
وفي "الحاوي" هاهنا: أن الدعوى الناقصة ضربان:
نقصان صفة.
ونقصان شرط.
فالصفة أن يقول: لي عليه ألف، ولا يصفه؛ فيجب على الحاكم أن يسأله عنها.
وأما نقصان الشرط: فأن يدعي عقد النكاح، ولا يذكر الولي ولا الشهود، فلا يسأله
عن الشرط، بل يتوقف حتى يكون هو المبتدئ بذكره، [أو لا يذكره]، فينظره.
والفرق: أن نقصان الصفة لا يتردد ذكره بين صحة وفساد؛ فجاز أن يسأله عنه، ونقصان الشرط يتردد ذكره بين صحة وفساد؛ [فلم يجز أن يسأله عنه].
تنبيه: ظاهر كلام الشيخ يقتضي اعتبار النطق بما ذكره، ولا شك فيه، لكن هل تقوم كتابته في رقعة وادعاء ما فيها مقام النطق به؟ حكى في الإشراف- وتبعه الرافعي- فيه وجهين:
أحدهما: نعم؛ لأن الكتابة طريق للبيان.
والثاني: لا، وهو ما حكى في الحاوي أن به قال ابن سريج: وخص محل الاكتفاء [به] على الوجه الأول بما إذا قرأها القاضي على الطالب، وقال له بعد قراءتها: تقول هكذا؟ أو: تدعي هكذا؟ فيقول: نعم. وقال: إن الوجهين يجريان فيما إذا كتب المدعي عليه جواب الدعوى في رقعة، وقال: هذا جواب دعواه.
واعلم أن حد الدعوى الصحيحة: أن تكون معلومة، ملزمة؛ كما قاله الغزالي.
وقد ذكر الشيخ ما يحصل به الإعلام، وسكت [عن ذكر ما] يحصل به الإلزام، وهو قوله: ويلزمه تسليم نفسه [للقصاص] إلي؛ إن كانت الدعوى في قصاص.
فلو قال: لي عليه عشرة دراهم، ووصفها، واقتصر على ذلك، أو قال: وهب مني كذا، أو باع، مقتصراً عليه، أو: قتل مورثي منفرداً عمداً عدواناً- لم تسمع؛ لأن الدين يجوز أن يكون مؤجلاً؛ فلا يستحق المطالبة به، والهبة يجوز أن تكون غير متصلة بالقبض؛ فلا يلزمه تسليمها، وإن اتصلت به فيحتمل أن يكون [قد] رجع فيها، لكونه قريباً، أو لكونها تقتضي الثواب، ولم يثبه؛ والبيع يجوز أن يكون قد انفسخ؛ فلا يلزم تسليم المدعى؛ والقصاص يجوز أن يكون قد عفي عنه؛ وبما ذكرناه ينتفي هذا الاحتمال.
وفي "النهاية" في كتاب القاضي [إلى القاضي] فيما إذا لم يقل: إني طالب؛ فيطالب، وقال: يلزمه أداء ما ادعيته عليه- إبداء تردد في الاكتفاء به؛ لأن الفقيه قد يقول: من عليه دين حال يلزمه أداؤه، وإن لم يطالبه صاحبه، وإنما يسقط وجوب الأداء برضا مستحق الحق بتأخيره؛ فلا يكون قوله: يلزمه أداؤه، متضمناً للطلب؛ فيلزمه التصريح به، وقال: إن هذا محتمل جداً.
والذي قاله الأصحاب: أنه لا يحتاج، وهل يشترط أن يقول: راسل القاضي سؤاله عن ذلك؟ فيه خلاف سبق في باب صفة القضاء، لكن كلام الشيخ ثم يقتضي أن الدعوى تصح بدونه على كلا الوجهين.
وكذا هل يشترط في الدعوى بالعين أن يقول: "وهي في يده"؟ فيه وجهان، حكاهما في "الإشراف"، وغيره، والأصح: أنه لا يشترط [ذلك]؛ لأن طلب التسليم يغني عنه.
وما ذكرناه هو الصحيح، ووراءه شيء نذكره في ضمن فروع:
الأول منها: الدعوى بالدين المؤجل هل تسمع؟ فيها ثلاثة أوجه:
أصحها عند الإمام- كما قال ابن أبي الدم، وعند القاضي أبي سعد، وبه أجاب القفال في "الفتاوى"، وصاحب "الحاوي"-: المنع؛ لأنه لا يتعلق بها إلزام في الحال ومطالبة؛ وهذا ما ذكرناه من قبل، وقد حكاه الغزالي في كتاب "التدبير" عن النص.
والثاني: تسمع؛ لتثبت في الحال، ويطالب في الاستقبال، وقد يموت من عليه فتتعجل المطالبة؛ وبهذا أجاب بعض أصحاب الإمام.
والثالث: إن كانت له بينة، سمعت الدعوى؛ لتسجل؛ فيأمن من غيبتها وموتها؛ وإن لم تكن فلا تسمع.
قلت: ويحتمل أن يكون القائل بهذا الوجه هو القائل بأن مراد الشافعي من قوله في كتاب الأقضية للمدعي: "إن شئت فأت بصحيفة فيها شهادة شاهديك، وكتاب
خصومتك، وإلا اقبل أن يشهد لك الشاهد بالكتاب فأنسأ شهادته": إذا كان لرجل على رجل دين مؤجل يشهد به شاهدان مريدان للسفر، فجاء صاحب الحق إلى الحاكم، فطالبه أن يسمع شهادة الشاهدين؛ لأنه لا يأمن جحوده في غيبة الشهود؛ فيثبت عنده، ويطالبه به إذا حل؛ فيقول له: لا أسمع شهادة شاهديك إلا أن تكون شهادتهم في كتاب فيه خطهما، وأعلم على شهادتهما.
وإذا كان هذا قول هذا القائل، كان هذا الوجه مذكوراً في طريقة العراق أيضاً؛ لأن القاضي أبا الطيب وابن الصباغ ذكرا هذا التفسير عن بعض أصحابهم، وقالا: إن معنى قول الشافعي: "وأنسأ شهادته"، أي: أؤخر شهادته إذا لم يأت بكتاب.
وقيل: أنسى، بمعنى: النسيان، وهو عند أكثر الأصحاب [أصح].
وهذا إذا كان جميع الدين مؤجلاً، فلو كان بعضه حالاً، وبعضه مؤجلاً- قال في "الحاوي": سمعت الدعوى في الجميع؛ لاستحقاق المطالبة ببعضه، ويكون المؤجل تبعاً.
قال: وكذلك لو كان المؤجل في عقد، وقصد بدعواه تصحيح العقد: كالسلم المؤجل- تصح الدعوى به؛ لأن المقصود منه يستحق في الحال.
قال ابن أبي الدم: ويلزم على هذا أن يقال: إذا كان الدين مؤجلاً بعقد بيع، تسمع الدعوى به؛ وهكذا في نظيره من الإجارة؛ لأنه يبغي تصحيح العقد بالدعوى، ولو صح هذا قولاً واحداً، لارتفع الخلاف في الدين المؤجل؛ لأن الدين لا يثبت مؤجلاً في الذمم قط إلا ببيع، أو إجارة، أو سلم، أو نكاح. أما القروض وقيم المتلفات، وما يجب من ضمان الحيلولة في الغصوب لا يجب إلا حالاً، ودية قتل الخطأ- وإن ثبتت مؤجلة- فلا توصف قبل الحلول بالدية.
الفرع الثاني: من اعترف بإعسار إنسان، وأراد أن يدعي عليه ديناً ليثبته على توقع مطالبته به إذا أفاد مالاً- ففي سماع الدعوى عليه خلاف مرتب على الدعوى بالدين المؤجل، وهذه الصورة أولى بألا تقبل الدعوى فيها؛ فإن زوال الإعسار لا منتهى له بضبط.
الفرع الثالث: الدعوى على العبد بدين معاملة ثابت في ذمته هل تسمع؟ فيها خلاف مرتب على الدعوى على المعسر، وأولى بعدم السماع؛ لأنه يرتقب العتق واليسار؛ كذا قاله الإمام في آخر باب التفليس.
الفرع الرابع: دعوى الجارية الاستيلاد، والرقيق التدبير، و"تعليق" العتق بالصفة- فيها طريقان:
أحدهما: أنها تسمع؛ لأنها حقوق ناجزة ترتبط بها الدعوى؛ وهذا ما رجحه الإمام في باب موضع اليمين، وهو ظاهر النص في المدبر في كتاب التدبير، وصححه أبو الطيب.
والثاني: [أنها] على الخلاف في دعوى الدين المؤجل؛ لأن المقصود منها العتق في المستقبل، والاستيلاد أولاها بالسماع، لتنجز آثاره من امتناع البيع والرهن وغيرهما.
وقد ادعى الإمام في كتاب التدبير: أنه الأصح فيها، وأنه لا خلاف في سماع الدعوى به عند العرض على البيع وشهادة الحسبة فيه.
والخلاف في سماع دعوى التدبير و"تعليق" العتق بالصفة، مفرع على أنه لا يجوز الرجوع فيه بالقول، أما إذا قلنا: يجوز، فإنكار السيد رجوع يبطل مقصود الدعوى؛ كذا قاله الرافعي، والإمام أبداه احتمالاً لنفسه.
قال: وإن أنكر المدعى عليه ما ادعاه، أي: مثل أن يكون قد ادعى [عليه] قرضاً أو إتلافاً، فقال: ما اقترضت ولا أتلفت- صح الجواب؛ لمطابقة الدعوى.
وحكى الإمام في باب الامتناع من اليمين: أن أبا سعيد- يعني: الإصطخري- ذهب إلى أنه يجب على المدعى عليه [أن يجيب] عن عين ما يذكره المدعي، والمشهور الأول.
قال: وإن لم يتعرض لما ادعاه [عليه]، بل قال: لا [يستحق] علي شيئاً- صح الجواب، لأنا لو كلفناه أن يتعرض لنفي ما ادعي عليه عيناً، فربما تضرر
به؛ لأنه قد يكون اقترض وأتلف، ووفى ولا بينة له، فيقع في أحد محذورين: إما الكذب، أو الغرم؛ بخلاف ما إذا أنكر الاستحقاق؛ فإنه يكون صادقاً، ولا يتضرر.
[و] من هذا القبيل ما إذا ادعيت عليه شفعة؛ فيقنع منه بأن يقول: [لا شفعة لك عندي، أو: لا يلزمني تسليم هذا الشقص إليك.
وكذا لو ادعت عليه المرأة الطلاق؛ فيقنع منه أن يقول] أنت زوجتي.
وعلى قياس هذا: لو ادعى عليه بألف حال، وكان مؤجلاً، فيقنع منه في الجواب [أن يقول]: لا يلزمني دفع شيء إليك الآن، ويحلف عليه.
قال الرافعي: وهل له أن يقول: لا شيء علي مطلقاً؟ فيه وجهان عن القفال مبنيان على وجهين تقدما في أن الدين المؤجل، هل يوصف قبل الحلول بالوجوب؟
وفي "النهاية" في آخر كتاب التفليس: أنا إن قلنا: [إن] من أقر بالدين المؤجل يلزمه حالا، اكتفي منه في هذه الصورة بأن يقول: لا يلزمني التسليم، ويحلف عليه.
وإن قلنا: القول قوله في الآجل، فهل يقنع منه بأن يقول: لا يلزمني التسليم؟ فعلى وجهين، أحدهما: أنه يقنع منه بذلك؛ فإن مقصود الدعوى مطالبة المدعى عليه، فإذا أنكر وجوب التوفية وحلف عليه فقد تعرض لمضادة مقصود الدعوى.
ولو كان في يده مرهون أو مستأجر، وادعاه مالكه- قال الرافعي: فيكفيه في الجواب أن يقول: لا يلزمني تسليمه.
قلت: وعلى قياس ما حكيناه [عن الإمام]، ينبغي أن يبني ذلك على ما إذا أقر شخص لإنسان بالملك في عين، وادعى أنها تحت يده برهن أو إجارة، وكذبه المقر له، ومن المصدق منهما؟ فيه وجهان، المذهب منهما: المقر له:
فإن قلنا به فيقنع منه في الجواب بما ذكره الرافعي، ويحلف عليه.
وإن قلنا بمقابله، وهو أن القول قول المقر- فهل يقنع منه بذلك، أم لا بد من التفصيل؟ فيه وجهان.
وقد حكي عن القفال والقاضي الحسين اختلاف فيما يجيب به من ادعي عليه الملك، وهو مرتهن، ولا بينة له، وقلنا: لا نقبل قوله إلا ببينة، ويخشى من تعذر إقامة البينة- فالمنقول عن القفال أنه يقول: إن ادعيت ملكاً مطلقاً فلا يلزمني التسليم، وإن ادعيت مرهوناً عندي فحتى أجيب.
وعن القاضي: أن الجواب لا يسمع منه مع التردد، ولكن يجحد ملكه إن جحد صاحب الدين الرهن.
وعلى عكسه: لو ادعى المرتهن الدين، وخاف الراهن جحود الرهن لو اعترف بالدين-:
فعلى الوجه الأول: يفصل، فيقول: إن ادعيت ألفاً، لي عندك بها رهن، وهو كذا فحتى أجيب، وإن ادعيت ألفاً مطلقاً فلا يلزمني.
وعلى الثاني: صارت العين مضمونة عليه بالجحود، فلمن عليه الدين أن يجحد ويجعل هذا بذاك، ويشترط التساوي.
ونظم "الوجيز" يقتضي ترجيح الأول، وهو الذي أورده الفوراني، وذكر أن المدعى عليه يفصل الجواب أبداً، ولا يكون ذلك إقراراً بشيء.
وللرافعي على ذلك سؤالان، فاطلبهما منه.
قال: فإن كان المدعى ديناً، فالقول [قول [المدعى] عليه مع يمينه؛ لما روى أبو داود عن ابن أبي مليكة- وهو عبد الله بن عبيد الله بن أبي مليكة- قال: كتب إلي ابن عباس "أَنَّ رَسُولَ اللهِ صلى الله عليه وسلم قَضَى بِالْيَمِيْنِ عَلَى الْمُدَّعَى عَلَيْهِ"، وأخرجه البخاري ومسلم وغيرهما.
وروى مسلم عن ابن عباس أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: "لَوْ أُعْطِيَ النَّاسُ بِدَعَاوِيْهِمْ .. " الحديث الذي ذكرناه في أول الباب.
قال: فإن أقام المدعي بينة، قضى له، أي: ولو بعد حلف المدعى عليه.
فإن قيل: ما الحكمة في تقديم البينة على اليمين مع أن كلاً منهما حجة؟
قيل: لأن اليمين حجة من جهة الخصم، وهي قول واحد، والبينة حجة من غير جهة الخصم، وهي قول اثنين؛ فكانت أبعد من التهمة.
ولأن البينة مستقلة بنفسها، واليمين لا تستقل بنفسها [وتحتاج] إلى سبب آخر، وهو براءة الذمة في مسألتنا، واليد عند دعوى العين.
قال: وإن [كان] المدعى عيناً، ولا بينة له، فإن كان في يد أحدهما، فالقول قوله مع يمينه؛ لما روى أبو داود عن علقمة بن وائل بن حجر الحضرمي عن أبيه، قال:"جَاءَ رَجُلُ مِنْ حَضْرَمَوْتَ، وَرَجُلُ مِنْ كِنْدَةَ إِلَىِ رَسُولِ اللهِ صلى الله عليه وسلم فَقَالَ الحَضْرَمِيُّ: يَا رَسُولَ اللهِ، إِنَّ هَذَا غَلَبَنِي عَلَى أَرْضٍ كَانَتْ لأَبِي، فَقَالَ الْكِنْدِيُّ: هِيَ أَرْضِي فِي يَدِي أَزْرَعُهَا، لَيْسَ لَهُ فِيهَا حَقُّ، فَقَالَ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم لِلْحَضْرَمِيِّ: أَلَكَ بَيِّنَةُ؟ فَقَالَ: لَا، فَقَالَ، فَلَكَ يَمِينُهُ، فَقَالَ: يَا َرسُوْلَ اللهِ، إِنَّهُ فَاجِرُ، لَيْسَ يُبَالِي مَا حَلَفَ، لَيْسَ يَتَوَرَّعُ مِنْ شَيءٍ، فَقَالَ: لَيْسَ [لَكَ] إِلَّا ذَلِكَ"، أخرجه مسلم وغيره.
وروى أبو داود عن الأشعث- وهو ابن قيس- قال: كَانَ بَيْنِي وَبَيْنَ رَجُلٍ مِنَ الْيَهُودِ أَرْضُ، فَجَحَدَنِي، فَقَدِمْتُ إِلَى النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم فَقَالَ لِيَ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم: "أَلَكَ بَيِّنَةُ؟ قُلْتُ: لَا، قَالَ لِلْيَهُوْدِيِّ: احْلِفْ، قُلْتُ: يَا رَسُولَ اللهِ، إِذَنْ يَحْلِفُ، وَيَذْهَبُ بِمَالِي؛ فَأَنْزَلَ اللهُ:{إِنَّ الَّذِينَ يَشْتَرُونَ بِعَهْدِ اللَّهِ وَأَيْمَانِهِمْ} إلى آخر الآية [آل عمران: 77]. وقد أخرجه مسلم بنحوه، والبخاري أتم منه.
فرع: لو أراد المدعى [عليه] في هذه الحالة أن يقيم بينة على أن الملك له؛ ليتوقى عن اليمين، فهل تسمع؟ قال الأصحاب: ذلك ينبني على أنه لو أراد إقامة البينة على أن الملك له قبل أن يدعى عليه، هل تسمع؟ وفيها خلاف، حكاه الماوردي
والبندنيجي وجهين على السواء، والأظهر عند الإمام وغيره: المنع، وبعضهم قال: إنه المذهب.
فإن قلنا به، فهل تسمع هاهنا؟ وجهان، وظاهر المذهب منهما في "النهاية" والرافعي: لا- أيضاً- فإنا في فصل الخصومات نستمسك بأقرب الطرق وأهونها، والتحليف أقرب من البينة المحوجة إلى رد النظر على الجرح والتعديل والقواعد المرعية في الشهادات.
وعن ابن سريج تخريج قول أنها تسمع؛ كالمودع إذا ادعى التلف أو الرد؛ فإن القول قوله [مع] يمينه.
ولو أراد أن يقيم البينة على ذلك؛ ليسقط اليمين عن نفسه، جاز مع أن الحالف يعرض نفسه للتهمة [وقد يتطرق إليه الطاعن، والبينة العادلة تقطع التهمة].
وعلى الأول فالفرق بينه وبين المودع: أن مقام صاحب اليد في الخصومة الإنكار والنفي، وذلك لا يمكن إقامة البينة عليه، ودعوى الملك لا حاجة به إليها، وهو صاحب اليد، والمستقل بما تحويه يده والمودع في مقام المدعيين- كما ذكرنا- غير أن مقامه في الائتمان صدقه فيما هو مودع فيه، واليمين [يليق] بحال المدعيين.
تنبيه: قول الشيخ: "فإن كان في يد أحدهما فالقول قوله مع يمينه"، فيه ما يفهم أن دعوى الشخص تسمع بما في يده، وأنه يحلف على ذلك، وإلا لكان قوله:"وإن كان في يد المدعى عليه فالقول قوله مع يمينه" أولى وأحسن.
وقد قال الأصحاب: العين إذا كانت في يد المدعي لا تصح دعواه بها، إلا أن يتعلق [له] بها حق على المدعى عليه من أجرة عنها، أو قيمة ما استهلك منها.
وكذا لو قال: نازعني فيها، لم يصح أيضاً.
قال الماوردي: في باب "ما على القاضي في الخصوم": لأن المنازعة دعوى تكون من غيره، لا منه.
نعم، لو قال: قد عارضني فيها بغير حق، فقد اختلف أصحابنا في صحة الدعوى:
فقال أبو حامد: تصح الدعوى، ويسأل الخصم عنها؛ لأن في المعارضة رفع يد مستحقه.
وقال بعضهم: لا تصح هذه الدعوى حتى يصف المعارضة بما يصف الدعوى.
فعلى هذه الحالة ينبغي أن يحمل كلام الشيخ، والله – عز وجل أعلم.
قال: فإن كان في يديهما، أو لم يكن في يد [واحد منهما] – حلفا، وجعل بينهما.
أما في الأولى فوجهه ما روى أبو داود بسنده عن أبي موسى الأشعري أَنَّ رَجُلَيْنِ ادَّعَيَا بَعِيراً أَوْ دَابَّةً إِلَى النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم لَيْسَتْ لِوَاحِدٍ مِنْهُمَا بَيِّنَةُ، فَجَعَلَهُ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم بَيْنَهُمَا. وأخرجه النسائي وابن ماجه.
وهذا الجعل يظهر أن يكون بعد حلفهما؛ لأن أبا داود روى بسنده عن أبي هريرة أن رجلين اختصما في متاع إلى النبي صلى الله عليه وسلم ليس لواحد منهما بينة، فقال النبي صلى الله عليه وسلم:"اسْتَهِمَا عَلَى الْيَمِين مَا كَانَ، أَحَبَّا ذَلِكَ أَوْ كَرِهَا".
وفي رواية قال: "فِي دَابَّةٍ وَلَيْسَ لَهُمَا بَيِّنَةُ، فَأَمَرَهُمَا رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم أَنْ يَسْتَهِمَا عَلَى الْيَمِيْنِ"، أي: يقرعا على من يبدأ بيمينه.
ولأن في يد كل واحد منهما النصف؛ فكان القول قوله فيه؛ كالعين الكاملة.
وأما في الثانية؛ فلأن نسبة العين [إليهما] فيها نسبة واحدة، فألحقت بما
إذا كانت في يديهما.
وهذه المسألة مصورة بما إذا ادعى واحد منهما على صاحبه: أن هذه العين ملكي، وهو يمنعني منها بغير حق؛ فإن الدعوى تسمع.
كذلك إذا لم تكن العين في يد واحد منهما، وقد صرح بذلك ابن الصباغ في باب "ما على القاضي في الخصوم" حيث قال: وإن ادعى أن هذه الدار لي، وهو يمنعني منها- صحت الدعوى، وإن لم يقل: إنها في يده؛ لأنه يجوز أن ينازعه ويمنعه وإن لم تكن في يده.
وكذلك العبادي- كما حكاه الرافعي قبيل باب دعوى النسب- حيث قال: من أراد أن يدعي، ويقيم البينة من غير أن يعترف للمدعى [عليه] باليد، فطريقه أن يقول: الموضع الفلاني [في] ملكي، [وهذا] يمنعني منه؛ تعدياً، فمره يمكني منه.
وكذلك الماوردي في هذا الباب حيث قال: والضرب الثاني من الدعوى الصحيحة: دعوى الاعتراض، وهي على ضربين:
أحدهما: أن يتوجه إلى ما في يده.
والثاني: أن يتوجه إلى ما يتعلق بذمته.
فأما [ما كان في] يده فلا يصح إلا بعد معارضته، فإن كانت المعارضة بما لا يستضر به المدعي، لم تصح منه الدعوى، وإن [كانت] بما يستضر به المدعي: إما بمد اليد إلى ملكه، وإما بمنعه عن التصرف فيه، وإما بملازمته عليه، أو بقطعه عن أشغاله- صحت دعواه بخمسة شروط:
أن يصف الملك بما يصير به متعيناً من منقول، وغير منقول.
وأن يذكر أن له، وفي ملكه.
وأن يذكر أنه عارضه فيه بغير حق؛ لأنه ربما استحق المعارضة برهن أو إجارة؛ حتى لا يبقى في دعواه ما يحتاج الحاكم أن يسأل عنه؛ ليعدل بسؤاله إلى المدعى عليه.
وأما توجه الدعوى إلى ما يتعلق بذمته؛ لأنه قد طولب بما لا يستحق عليه، فإن لم
يلحقه بالمطالبة ضرر، لم تصح [منه] الدعوى.
وإن لحق بها ضرر: إما بنفسه، أو بملازمته، أو في جاهه بالشناعة، وإما في ماله بالمعارضة- صحت منه الدعوى؛ ليدفع بها الضرر، وصحتها بثلاثة شروط:
أن يذكر ما طولب به: إما مفسراً، أو مجملاً؛ لأن المقصود بالدعوى ما سواه.
وأن يذكر أنه غير مستحق عليه.
وأن يذكر ما استضر به؛ لأن مقصوده الدعوى؛ ليكون الكف عنه متوجهاً إليه.
ولك أن تقول: كلام الماوردي لا يوافق كلام الشيخ؛ فإنه قال: وله في الجواب عن دعوى هذه المعارضة ثلاث أحوال:
أن يعترف بجميع ما تضمنها؛ فيمنعه الحاكم من معارضته.
أو ينكر المعارضة؛ فيخلي سبيله، ولا يمين عليه؛ لأنه لا يتعلق بالمعارضة استحقاق غرمه.
والثالثة: أن يذكر أنه يعارضه فيه بحق يصفه؛ فيصير مدعياً بعد أن كان مدعى عليه، ويصير المدعي مدعى عليه بعد أن كان مدعياً.
وكلام الشيخ يقتضي التحليف عند الإنكار.
نعم، يوافق ما ذكرناه ما حكاه الإمام في كتاب النكاح عن أبي بكر الصيدلاني فيما إذا عقد اثنان على امرأة عقد نكاح، وعلم سبق أحد العقدين، لكن لم يعلم عينه، وادعى كل واحد منهما: أن السابق عقده- أن دعواه تسمع على الآخر.
والمحكي عن غيره: أنها لا تسمع؛ فإن وضع الدعوى في الشريعة يقتضي ارتباطاً بالمستحق عليه، ثم يصدر من المستحق عليه إقرار أو إنكار، وليس واحد من المتزوجين مدعياً استحقاقاً على صاحبه، وليس في يد واحد منهما ما يدعيه صاحبه، وهذا منقدح حسن على قياس الدعاوى.
قلت: وهذا إن صح لا يمنع ما ذكرناه؛ لأن الإمام قال: والذي نراه: أنهما إذا كانا يدعيان علم المرأة بالأسبق، وكان الرجوع إليه ممكناً- فلا يسغ تحالفهما من غير مراجعة. فأما إذا اعترفا بأن الأمر مشكل عليها، فالمرأة في هذه الحالة كالشيء المدعى الذي لا يقر ولا ينكر؛ وفي هذه الحالة يجوز أن يقال: يحلفها القاضي؛
خشية من تعطيل الحق، ويجوز أن يقال: لا يحلفها؛ فإنه لا مرتبط لدعواهما بمن يجب ربط الدعوى به. وهذا منه يدل على أن مأخذ المنع إمكان الدعوى عليها، وهو منتف فيما نحن فيه، على أن الذي يظهر صحته ما قاله الصيدلاني وإن كان ضعفه؛ لأن الزوجية قد تحققت لأحدهما، والمانع من التسليم لأحدهما منازعة الآخر، ولهذا لو أقر أحدهما بسبق عقد صاحبه، سلمت [المرأة] إليه؛ كما قاله الإمام فيما إذا سمعنا دعوى أحدهما على الآخر، فأنكر ونكل، وحلف المدعي؛ فإنا نقضي له بالزوجية. وإذا كان كذلك، فالتحليف يستخرج به الإقرار، وهو متوقف على الدعوى، على أنه لو خرج الخلاف [في ذلك على الخلاف] في أن الدعوى بما ليس بنفس الحق، ولكنه ينفع في الحق، هل تسمع- لم يبعد، وكان [يجب طرده] في دعوى المعارضات كلها.
والأولى تصوير المسألة الثانية بصورة ذكرها الشيخ وغيره في كتاب الإقرار، وهي ما إذا أقر من في يده عين بأنها لأحد شخصين، ولا يعرفه، وصدقاه؛ فإنها تنزع منه، ويكونان خصمين فيها وإن لم تكن في يد واحد منهما، كما سنذكر المسألة بفروعها ثم إن شاء الله تعالى.
واعلم: أن في كيفية حلفهما هاهنا اختلافاً للأصحاب؛ لأن الشافعي نص في الكبير- أي: "الأم"- على أنه يحلف كل واحد [منهما] على النفي، ولا يجمع في يمينه بين النفي والإثبات، [ونص في البيع على أن المتبايعين إذا اختلفا، وتحالفا، يجمع كل واحد في يمينه بين النفي والإثبات].
فمنهم من قال: في المسألتين قولان بالنقل والتخريج:
أحدهما: يجمع في يمينه [بين النفي والإثبات؛ لأن كل واحد منهم مدع ومدعى عليه.
والثاني: يحلف على النفي]؛ لأن اليمين حجة للنفي.
ومنهم من أقر النصين على ظاهرهما، وفرق بأن في البيع مثبته في ضمن منفيه ضرورة؛ لاتفاقهما على أن العقد واحد، فإذا أثبته بألف، نفاه بخمسمائة، وهنا منفيه ليس في ضمن مثبته ضرورة؛ لأنه إذا نفى ما في يده عن صاحبه، لم يصر به مثبتاً ما في يد صاحبه لنفسه؛ وهذا أصح عند الإمام والرافعي، وقد تقدم ذكره في باب التحالف، وأعدته؛ لبعد العهد به.
وعلى كل حال فمن المبدوء به في التحليف؟ فيه وجهان، صرح بهما المحاملي في كتاب الصلح في المسألة التي سنذكرها في هذا الباب، والإمام أشار إليهما هاهنا:
أحدهما: من يختاره الحاكم من غير قرعة.
والثاني: من تخرج له القرعة.
وقد صرح بمثلهما الإمام في كتاب الوديعة؛ حيث قال: إذا ادعى رجلان على شخص وديعة في يده، فقال: هي لأحدكما، ولست أعرف عينه، وامتنع عن اليمين- فإنهما يحلفان، وفيمن يبدأ به الوجهان.
قال الرافعي: ويجوز أن يقال: كل واحد منهما مدع ومدعى عليه، فينظر إلى السبق، فمن سبق دعواه بدئ بتحليف صاحبه.
وفي قدر ما يحلف عليه كل واحد منهما وجهان، حكاهما الماوردي في كتاب الصلح:
أحدهما- وهو قول البغداديين-: أنه يحلف على نصفه، وهذا ما اقتضى إيراده هنا ترجيحه، ولم يحك سواه في اليمين عند التنازع في متاع البيت، وبه جزم القاضي أبو الطيب، وقال: إنه لا يجوز أن يستحلف على الكل، ومن صار إلى أنه يحلف على الكل فقد أخطأ.
والثاني: أنه يحلف على جميعه، وهذا قول جمهور أصحابنا، يعني: البصريين.
وفي "النهاية": أنه يحلف على النصف الذي في يده يمين النفي، وعلى النصف الذي في يد صاحبه يمين الإثبات عند توجهها عليه.
ولو قال: والله إن جميع هذه الدار لي، وليس لصاحبي فيها حق ولا ملك- لم
يضر؛ فإن اللفظ على هذا الوجه أجمع وأحوى للغرض، لكنه يحلف يمين الرد، وهي يمين الإثبات من غير طلب خصمه، ويمين النفي عما في يده لا سبيل إلى عرضها عليه ما لم يطلبها الخصم.
التفريع:
إن قلنا بالقول المخرج هنا، وعرضنا اليمين على النفي والإثبات على أحدهما، فحلف، ونكل الثاني- لم نحتج إلى يمين الإثبات ثانياً.
وإن قلنا بالمنصوص، فعرضنا على أحدهما يمين النفي: فإن حلف، عرضنا على الآخر يمين النفي، فإن حلف انقطعت الخصومة، وبقي المدعي في يدهما كما كان، ولو نكل حلف الأول على الإثبات، وثبت المدعى له، فلو أقام الناكل بينة بالملك، فهل تسمع؟ قال الأصحاب: إن قلنا: [يمين الرد] مع النكول كإقرار الخصم، لم تسمع، وإلا سمعت.
وفي "التهذيب": أن الأصح السماع، لأن جعل ذلك كالإقرار حكماً، لا أنه حقيقة إقرار.
ولو نكل الأول عن يمين النفي، حلف الثاني يميناً واحدة، يجمع فيها بين النفي والإثبات؛ كما حكاه القاضي الحسين، ولم يحك سواه، وكذلك أبو الفرج الزاز.
وقيل: لا بد من يمين، وهو الأقيس عند الإمام؛ لتعدد المقصود، وتغايرهما.
قال: وإن كان في يد ثالث، أي: وقد ادعى كل واحد من المتنازعين عليه: أن جميع ذلك ملكه- رجع إليه؛ لأنه محكوم له به في الظاهر.
قال: فإن ادعاه لنفسه، فالقول قوله مع يمينه؛ لما ذكرناه فيما إذا كان المدعي عليه واحداً، قال الأصحاب: ويحلف لكل منهما يميناً عند طلبه.
قال: وإن أقر به لغيره، وصدقه المقر له- انتقلت الخصومة إليه؛ لأن اليد صارت له، والخصومة إنما تدور بين متنازعين.
قال: وهل يحلف، أي: المقر، [عند طلب] المدعي؟ فيه قولان.
[و] القولان في هذه الصورة مبنيان على القولين فيما إذا قال: هذه الدار لزيد
[بل] لعمرو، هل يغرم لعمرو؟ فيه قولان يأتيان.
فإن قلنا: يغرم له، حلف هاهنا، وهو الأصح عند النواوي وغيره؛ لأن الأصح الغرم في المسألة المبني عليها.
وفي كيفية يمينه وجهان في "الحاوي" و"البحر".
أحدهما: أن الدار- مثلاً- لفلان؛ لتكون يمينه موافقة لإقراره.
والثاني: أنه لا حق لهذا المدعي فيها؛ لتكون يمينه معارضة للدعوى.
وقال بعض الخراسانيين: إنه لا يلزمني قيمة الدار إليك؛ لأن العين قد فاتت بالإقرار الأول، وإنما الكلام في القيمة. وهذا كلام الفوراني.
فلو نكل عن اليمين، حلف المدعي، واستحق القيمة.
وقيل: إذا قلنا: إن يمين الرد كالبينة، ينزع المدعى [به] من المقر له، ويسلم للحالف؛ كما لو أقام بينة؛ حكاه الإمام. وإن قلنا: لو أقر لا يغرم شيئاً، قال ابن الصباغ وأبو الطيب والبندنيجي والقاضي الحسين والروياني والغزالي: لا يحلف. وفيه شيء سأذكره.
وفي "الإشراف": أنه إذا ادعى رجلان وديعة في يد رجل، فاعترف لأحدهما بها، هل للثاني تحليفه؟ فيه قولان:
فإن نكل عن اليمين، وحلف الثاني، ففي المسألة أربعة أوجه:
أحدها: أن الوديعة تقسم بينهما؛ لأن الأول تعلق بالإقرار، والثاني تعلق بالنكول، واليمين مردودة.
وأصله: قول القسمة في مسألة تعارض البينتين.
والثاني: توقف [في يده]؛ لأنه أمين إلى أن يظهر مالكها.
والثالث: ينتزعها الحاكم من يد المستودع، ويضعها في يد أمين عدل إلى أن يظهر مالكها.
وأصلهما: قول الوقف في تعارض البينتين.
والرابع: أنها تسلم للأول، والمودع يغرم قيمتها للثاني.
وأصله: قول من جعل يمين الرد كالإقرار، وهذا ما قال في "الشامل" في كتاب الوديعة: إنه المذهب. وحكى معه الوجه [الأول والثاني]، ونسب الكل إلى تخريج ابن سريج.
والقولان المذكوران في الكتاب في التحليف جاريان- كما ذكره الإمام وغيره في كتاب النكاح- فيما إذا [ادعى] شخص زوجية امرأة، فأقرت له، وقبلنا إقرارها، ثم ادعى شخص آخر عليها الزوجية، وطلب يمينها، فإن قلنا: إنها لو أقرت غرمت، حلفت؛ كما نص عليه في "الإملاء"، فإن نكلت، حلف وغرمها.
وماذا تغرم؟ قال الإمام: هو كمقدار ما يغرمه الشهود على الطلاق إذا رجعوا.
وعن الصيدلاني حكاية قولين فيه:
أحدهما- وهو مخرج على قياس الجديد؛ كما قاله الإمام، وليس منصوصاً عليه-: أنها تغرم كما ذكرناه.
والثاني- وهو محكي عن القديم-: أن نكاح الأول ينفسخ، ويثبت الثاني؛ بناء على أن يمين الرد كالبينة. وهذا ما حكاه في "المهذب"، و"الشامل"، وحكيا وجهاً نسبه ابن الصباغ إلى أبي إسحاق- تفريعاً على قولنا: إن يمين الرد كالإقرار-: أنه يحكم ببطلان النكاحين؛ لأن مع الأول إقراراً، ومع الثاني ما يقوم مقام الإقرار؛ فصارت كما لو أقرت لهما في وقت واحد.
والصحيح عند الصيدلاني وغيره: الأول؛ فإنا وإن جعلنا يمين الرد كالبينة فذاك في حق الناكل، والحالف لا يعدوهما، فأما تنزيلها كالبينة في حق ثالث سواهما فلا سبيل إليه، ويحققه أن سبب حلف الثاني نكولها، فلو قضينا بيمين الرد على المقر له، لكان ذلك قضاء عليه بسبب قول المقر، ولا نأمن أن تواطئه، فيحلف، وتنكل، ولا يلزمها من النكول شيء.
وإن قلنا: لا يغرم لو أقرت، فلا يحلف؛ كما نص عليه الشافعي في تحريم الجمع من "الأم".
وقال الإمام وابن الصباغ: إنه ينقدح تحليفها.
وإن قلنا: لو أقرت لا تغرم إذا فرعنا على القديم، وحكمنا بأن نكاح الأول ينتفي، ويثبت [نكاح] الثاني إذا نكلت، وحلف الثاني- فإنا نبغي بالتحليف فائدة ثبوت النكاح في حق الثاني إذا كان ممكناً، وهو أظهر في الفائدة من تقدير غرم؛ فكأن إقرارها الأول لا يستقر ما لم يحلف الثاني؛ وهذا ما حكاه الغزالي عن القديم، ثم قال: وهو بعيد؛ إذ نكولها كيف يرد إقرارها ويزاحمه؟
وقد صرح القاضي الحسين بما يقرب من ذلك في باب الدعوى على كتاب أبي حنيفة، حيث قال: إذا قلنا: لو أقرت لم تغرم، انبنى تحليفها على أن النكول ورد اليمين بمنزلة الإقرار أو بمنزلة البينة؟ إن قلنا: بمنزلة الإقرار، لم تحلف، وإن قلنا: بمنزلة البينة، تحلف. لكنه قال: إنها إذا عرضت عليها اليمين على هذا، فنكلت- يحلف المدعي، وينفسخ نكاح الأول، ولا تصير زوجة للثاني؛ لأن المرأة لا تتحول من شخص إلى شخص؛ فلا تقبل نقل الملك، بخلاف الأعيان.
وأبعد منه ما حكاه الإمام هنا حيث قال: إذا ادعى على امرأة يحسبها خلية نكاحاً، وأنكرت، ورددنا اليمين على الخصم، فحلف، وسلمناها له، فجاء مدع وادعى نكاحها، وأقام [على ذلك] شاهدين عدلين- فقد قال الشيخ في "الشرح": إن قلنا: يمين الرد كالبينة، كان سبيلها كسبيل بينتين تعارضتا: فإن حكمنا بالتساقط فهما على مجرد الدعوى منهما، وإن حكمنا بالاستعمال فلا يجيء هنا إلا القرعة؛ وهذا على نهاية البعد؛ فإن فيه تقديم قول المدعي ويمينه على شهادة شاهدين عدلين يقيمهما آخر، وهذا لا يحتمل.
قلت: وما ذكرناه من التفاريع يظهر مجيئه في غير نكاح.
فرع: إذا قلنا: يسترد المدعى من المقر له عند حلف المدعي بعد نكول المدعى عليه؛ تفريعاً على قولنا: إن يمين الرد كالبينة- فهل يغرم المقر للمقر له القيمة؛ بناء
على أن الحيلولة القولية توجب الغرم؟ فيه وجهان:
أصحهما في "النهاية" هنا: [لا]؛ لأنه يقول: لا يلزمني أن أحلف لك، وعلي ألا أقر لغيرك إذا رأيتك مستحقاً.
والثاني: يلزمه الغرم؛ فإن الدار انتزعت منه بسبب نكوله، والسبب يوجب الضمان كالمباشرة.
وحكى في كتاب الإقرار في المسألة طريقين:
أحدهما: القطع بأنه لا يغرم له شيئاً.
والثاني: إجراء قولين في الغرم؛ كما إذا أقر بعين لفلان، ثم أقر بها لآخر.
وهذا خبط عظيم، وتخليط مجاوز للحد.
قال: وإن كذبه المقر له، أخذه الحاكم، وحفظه إلى أن يجيء صاحبه؛ لأن من في يده ذلك قد اعترف بأنه ليس له، والذي أقر له به قد رده، فأخذه الحاكم حتى يثبت مستحقه؛ فيسلمه إليه؛ كالمال الضال؛ وهذا قول ابن سريج، وهو الأصح عند المتولي وابن أبي الدم، والمختار في "المرشد".
وقيل: يسلم [إلى المدعي] – أي: بيمينه- لأن صاحب اليد لا يدعيه، والمقر له ينكره؛ فلم يكن للمدعي منازع فيه؛ فوجب تسليمه إليه؛ وهذا محكي عن أبي إسحاق؛ وهذا أضعف الوجوه، لأن تسليم ذلك إليه من غير بينة، ولا إقرار، ولا ظاهر يد- محال؛ وهذا التعليل الذي ذكر في توجيه قول أبي إسحاق ظاهر فيما إذا كان المنازع واحداً، أما إذا كان المنازع اثنين- مكا اقتضاه كلام الشيخ من أول المسألة- فيظهر أن يقال على هذا الوجه: يكون بينهما، وتبقى الخصومة بينهما، ويؤيد ذلك أن الماوردي قال تفريعاً على هذا الوجه: لو كان المنازع واحداً، وحضر مدع له بعد التسليم إلى الأول بيمينه، ونازعه فيه، هل يكون منازعاً فيها لذي يد، أو لغير ذي يد؟ فيه وجهان:
أحدهما: يكون منازعاً لذي يد؛ لتقدم الحكم بها، فصارت يداً؛ فيكون القول قوله فيه مع يمينه.
والثاني: يكون منازعاً لغير ذي يد؛ لأنه دفع إليه بيمين من غير يد؛ فيحلفان، ويكون بينهما؛ كالمتداعيين لما ليس في أيديهما.
وفي "الشامل"، و"تعليق" البندنيجي في أصل المسألة وجه ثالث: أنه يقال للمقر: من أقررت له قد رد إقرارك؛ فإما أن تدعيه لنفسك؛ فتكون الخصم فيه، أو تقر به لمن يصدقك؛ فيكون الخصم، وإذا لم تفعل ذلك جعلناك ناكلاً، وحلفنا المدعي، وسلمناه إليه. وهذا معنى قول الغزالي هنا والمصنف في باب الإقرار، وغيرهما: إنه يقر في يد صاحب اليد؛ لأن إقراره قد بطل بالرد؛ فصار كأنه لم يقر؛ فتأمله.
وقد صحح القاضي الحسين هذا الوجه، وقال: إنه طريقة القفال.
وقال الإمام في كتاب الإقرار: إنه الذي ذهب إليه الأكثرون.
وسأذكر بعد ذلك عن البندنيجي وغيره ما يقتضي: أنه الصحيح، وسنذكر في الإقرار وجهاً آخر: أنه يجبر المقر له على أخذه؛ لأنه ثبت الملك له بالإقرار ظاهراً، والإنكار لا يسقط الحق، وقد حكاه ابن يونس هاهنا.
قلت: وهو يتركب من أمور:
أحدها: أن المقر لا يغرم لو رجع [عن إقراره.
والثاني: أن العين تنزع من يد المقر، ولا يسمع إقراره بها.
والثالث: لو رجع] المقر له وادعاها لسلمت له- كما سنذكره- لأنه إذا فرع على ذلك، انسد على المدعي باب الوصول إلى حقه؛ فتعين فتحه بإجبار المقر له على أخذه.
وقد قاس القاضي أبو الطيب الوجه المعزي إلى اختيار القفال في كتاب الصلح، على ما إذا قال لرجل:[لك] عندي ألف درهم، فقال: ما لي عندك شيء- فإنه لا يصح هذا الإقرار، ولا يلزمه شيء؛ فكذلك هاهنا؛ وهذا من القاضي تفريع على الصحيح، وإلا فقد حكى الرافعي في كتاب الرهن: أن الإنسان لو أقر بأنه جنى على
المرهون، وكذبه الراهن، وصدقه المرتهن [وأخذ منه الأرش، ثم حصلت البراءة من الدين- فيما يفعل بما أخذ من الأرش وجهين:
أصحهما:] أنه يرد إلى المقر، وبه جزم في "الحاوي"، و"الاستقصاء".
والثاني: يجعل في بيت المال.
فرع: إذا رجع المقر له بعد التكذيب، وقال: تذكرت واستبنت صدق المقر فيما أقر لي به، فهل يسلم إليه؟ قال الإمام هاهنا: فيه وجهان:
أحدهما: لا، حتى يجدد المقر إقراراً آخر؛ لأن الأول ارتد، وبطل بالتكذيب؛ كالقبول في الوكالة إذا ردها الوكيل، لا بد من توكيل آخر [إن أراد الوكيل القبول؛ وهذا ما ذكره القاضي.
والثاني: أنه مهما صدقه زال أثر التكذيب، واستقر الإقرار، ولا يحتاج إلى تجديد إقرار آخر؛ وهذا ما] جزم به في كتاب الإقرار، ثم ادعى أنه لا خلاف فيه، ويخالف
الوكالة؛ فإنها إنشاء بتسليط، فإذا حكم ببطلانها فلا بد من استفتاح التسليط، والإقرار إجبار؛ فإذا صدر من المقر، وتمادى فيه المقر [له]، ثم وافق- جرينا على استمرار الإقرار.
وبنى المتولي وغيره الخلاف في هذه المسألة على الخلاف السابق، فقال: إن قلنا: يترك في يد المقر، فهو حكم منا بإبطال ذلك الإقرار؛ فلا يصرف إلى المقر له إلا بإقرار جديد. وإن قلنا: ينزعه القاضي ويحفظه؛ فكذلك لا يسلم إليه- أيضاً- بل لو أراد إقامة البينة على أنه ملكه، لم تسمع.
وإن قلنا: إنه يجبر المقر له على القبول، والقبض- كما هو وجه بعيد في المذهب- سلم له.
وهذا البناء يقتضي أن الظاهر أنه لا يسلم إليه.
ولو لم يرجع المقر [له] عما ذكره من الجحود، لكن رجع المقر، وقال: غلطت فيما أقررت به، وإنما هو ملكي أو ملك لفلان- فهل يسمع منه؟
قال الماوردي: فيه ثلاثة أوجه:
أحدها: لا يقبل بحال؛ لأن إقراره الأول أكذب الثاني؛ فعلى هذا يكون الحكم كما لو أقام على إقراره الأول.
قلت: إلا في قولنا [له: إما أن] تدعيه لنفسك، أو تقر به لغيرك، أو نجعلك ناكلاً؛ لأن هذا القول مع رد اعترافه لا يجتمعان.
والثاني: يقبل.
والثالث: إن ادعاه لنفسه لم يقبل، وإن نسبه لغيره، قبل؛ لأنه متهم في ادعائه لنفسه، وغير متهم في الإقرار به لغيره.
وقال الإمام في كتاب الإقرار: إن قلنا: إنه ينزع من يده، [فلا تقبل دعواه؛ وعلى هذا- أيضاً- لا تسمع الدعوى عليه بها؛ صرح به هو والقاضي الحسين أيضاً.
وإن قلنا: نقره في يده، فظاهر المذهب: أنه لا تقبل دعواه أيضاً.
وأبعد بعض أصحابنا، فقبل تكذيبه نفسه، ونفذ تصرفه؛ على شرط أن يصر المقر
على الإنكار والجحد، وهذا بعيد لا أصل له.
وقال هاهنا: إذا لم ننزعه من يده، ولم نقبل رجوع المقر له عن الجحد، لكنه مصر عليه- ففي قبول رجوع المقر التردد الذي ذكرنا، فإن قبلنا رجوعه، فرجع المقر له- أيضاً- عن الجحد، وصدقه في الإقرار، وكذبه في دعوى الرجوع]، ولم نقبل رجوع المقر له عن الجحد- فكذلك لا نقبل دعوى المقر الغلط، وإن قبلنا رجوع المقر له عن الجحد وصدقه في الإقرار، كذبه في دعوى الرجوع- ففيه تردد.
وظاهر قول القاضي: أنه لا مبالاة بقول المقر له، وكلامه في الإقرار الذي حكيناه يقتضي أن المقر له إذا رجع بعد رجوع المقر يسلم إليه.
نعم، لو رجع المقر له، وقد تصرف المقر بعد رجوعه تصرفاً لازماً في وضعه، وقبلناه- قال: فقد يتجه أن يقال: إنا لا نحكم بنقض التصرف؛ لتعلق حق ثالث بمحل التصرف.
فرع آخر: إذا كان المدعى به عبداً، وقد أقر من هو في يده: أنه لغير المدعي، وكذبه المقر له- فهل يكون الحكم فيه كالحكم في غيره؟ لم أر في هذه المسألة نقلاً.
نعم، في "الشامل" و"تعليق" أبي الطيب، و"مجموع" المحاملي في كتاب الإقرار فيما إذا أقر شخص لعبد في يده لعمرو، وأقر العبد بأنه ملك لزيد، ورد عمرو الإقرار وجهان:
أحدهما: [أنه] يعتق؛ لأن الذي هو في يده قد اعترف أنه ليس له، والذي أقر له به رد الإقرار وأبطله، وإقرار العبد بأنه ملك لزيد لا يسمع في هذه الصورة؛ فلم يبق إلا أن يكون حراً؛ كما قلنا في اللقيط إذا اعترف بالرق لمن كذبه؛ فإنه يحكم بعتقه.
ومنهم من قال: يبقى على الرق؛ لأن الأصل رقه وملك المقر، فإذا أقر به لغيره فرد، كان باقياً على رقه، ويخالف اللقيط؛ لأن الأصل في الدار الحرية، فإذا أقر لمن
لا يقبل، حكم بحريته بالأصل.
وعلى هذا قال ابن الصباغ والقاضي أبو الطيب وغيرهما: فماذا يصنع به؟ فيه الأوجه الثلاثة التي ذكرناها في كتاب الصلح. وعنوا ما حكيناه من قبل، لكن من جملتها وجه: أنه يسلم للمدعي، وقضية ذلك: أن يسلم في هذه الصورة لمن أقر له العبد بالرق فرد إقراره؛ إذا كان يدعيه؛ وهذه الأوجه يمكن أن يقال بمثلها فيما نحن فيه- أيضاً- والله أعلم.
قال: وإن أقر به لغائب- أي: معروف- انتقلت الخصومة إليه؛ لأن من في يده العين نفى أن تكون مملوكة له؛ فلا خصومة بين المدعي وبينه؛ وهذا ما أجاب به أكثرهم، ونسبه الإمام إلى العراقيين، وقال: إنه القياس الذي لا يجوز غيره.
وقيل: لا تنقطع الخصومة بالإضافة إلى الغائب؛ لأن فتح ذلك يؤدي إلى الإضرار بالمدعين؛ فإنه لا يعجز كل مدعي عليه عن دفع الخصومة عنه بإضافة العين إلى غائب لا يرجى وصوله؛ وهذا ما حكاه الإمام عن شيخه وبعض المصنفين، ولم يورد البغوي وصاحب "الرقم" سواه، قال الرافعي: وهو ظاهر لفظ "المختصر".
ولا فرق في جريان الخلاف- كما أطلقه الجمهور- بين أن يكون صاحب اليد قد أسند يده إلى إجارة، أو إعارة، أو وديعة، أو اقتصر على قوله: ليس لي، وإنما هو لفلان.
وعن أبي عاصم العبادي- كما حكاه في "الإشراف"، وغيره-: أن محل الخلاف إذا بين جهة اليد بما ذكرناه، أما إذا اقتصر على قوله: ليس لي، وإنما هو لفلان- لم تنتقل الخصومة إليه بحال.
التفريع:
إن قلنا بعدم انصرافها عن الحاضر بمجرد إقراره، فللمدعي طلب يمين صاحب اليد: إنه لا يلزمه تسليمه إليه، فإن نكل حلف المدعي، وأخذ المال من يده، ثم إذا عاد الغائب، وصدق المقر، كانت العين مردودة إليه بلا حجة؛ لأن اليد له بإقرار صاحب اليد، والمدعي يستأنف الخصومة معه.
وإن قلنا بانصراف الخصومة عن الحاضر، وقف الأمر إلى حضور الغائب إن لم يكن للمدعي بينة؛ لما تقدم أن الدعوى على الغائب لا تفيد عند عدم البينة، لكن هل للمدعي طلب يمين صاحب اليد؛ لأجل الرجوع عليه بالغرم إذا أقر، أو نكل وحلف هو؟ فيه القولان السابقان بفروعهما.
فإن قلنا بالصحيح- وهو [جواز] طلب التحليف- فلو أراد صاحب اليد أن يقيم بينة بأن الملك الغائب؛ ليسقط عنه اليمين، فهل تسمع؟
قال المراوزة: فيه ثلاثة أوجه:
[أحدها:] وهو قول الشيخ أبي محمد-: لا تسمع إلا أن يثبت وكالة نفسه؛ لأنه ليس بمالك، ولا نائب عن المالك؛ فإقامة البينة فضول منه؛ وهذا ما صححه في "الوجيز".
وعلى هذا يكون الحكم كما لو لم يقم بينة.
والثاني: أن البينة تسمع لا لإثبات الملك للغائب، ولكن ليدفع الخصومة والتحليف عن نفسه؛ فإنه لا طريق لمن في يده ملك غيره إلى صرف الخصومة عن نفسه إلا هذا؛ فإنه ليس من الممكن أن يقيم بينة على أن العين ليست له؛ وهذا ما اختاره المحققون؛ كما قاله الإمام، وأورده العراقيون: كالبندنيجي، وابن الصباغ، وغيرهما.
وعلى هذا يندفع عنه التحليف جزماً وهو من فوائد السماع التي سنذكرها.
فإن قلت: قد ذكرتم ما إذا ادعى على شخص عيناً في يده، وطلب يمينه، فأراد أن يقيم بينة على أنها ملكه؛ ليدفع عن نفسه اليمين- أن المذهب عدم السماع؛ لأنه قادر على فصل الخصومة باليمين؛ فلا يعدل إلى فصلها بالبينة المتوقفة على النظر في عقبات، وهذا موجود هنا.
قلت: قد يعذر الإنسان في الامتناع عن الحلف على إثبات الملك لغيره؛ لعدم علمه بأسباب الملك، ولا كذلك في حق نفسه؛ لقدرته على الاطلاع على السبب المملك؛ فلذلك سمعت البينة هنا، ولم تسمع ثم، والله أعلم.
والثالث: [أنه] إن ادعى لنفسه علقة من وديعة، أو عارية، وشهدت له البينة بذلك- سمعت، [و] إلا فلا.
قال الإمام: وهذا اختيار القاضي، وليس يليق هذا بمنصبه؛ فإن السر المتبع ما ذكرناه من انصراف الخصومة عنه، وقطع العلائق، والوديعة لا تثبت للمودع حق المخاصمة؛ فلا معنى لاشتراط ادعائها.
وهذا كله إذا لم يكن للمدعي بينة، أما إذا كانت له بينة بالملك، ولم يقم صاحب اليد بينته بالملك للغائب- فلا شك أنا نقضي للمدعي بموجب بينته، لكن [هل] هذا قضاء على الغائب حتى يحتاج فيه إلى اليمين، [أو قضاء على حاضر- وهو صاحب اليد- حتى لا يحتاج فيه إلى اليمين]؟ فيه وجهان في كتب العراقيين، و"التهذيب".
والمنصوص منهما في "الأم"- كما قال البندنيجي-: الاحتياج إلى اليمين؛ لأنه قال: "من رأى القضاء على الغائب أحلفه مع يمينه"، وهو الذي صححه في "الإشراف".
وقال الإمام: هو الذي يوافق مذهب العراقيين، وليس لقولهم: هذا قضاء على الحاضر، وجه.
ومقابله منسوب إلى أبي إسحاق، وتمسك فيه بأن المزني قال: قضى بها على الذي هي في يده.
ولأن الظاهر أنها ملكه.
قال الإمام: وبهذا قطع شيخي ومن وافقه- يعني: في عدم انقطاع الخصومة عن الحاضر بمجرد إقراره- وهو مستقيم على طريقهم.
وقال الرافعي: [أنه] الذي رجحه العراقيون والروياني.
وفي "البحر": أنه المنصوص عليه في "الأم"، لأنه قال: يقال لهذا المدعي: أقم البينة على دعواك، وللذي في يده: ادفع عنه، فإن أقام المدعي البينة، قضى بها على
الذي هي في يده، وكتب في القضاء: إني إنما قبلت بينة فلان المدعي بعد إقرار الذي في يده الدار بأن هذه الدار لفلان، ولم يكن فلان المقر له، ولا وكيل له- حاضراً؛ فقبلت البينة لفلان المدعي على هذا الدار- ويحكي شهادة الشهود- وقضيت بها على فلان الذي هي في يده، وجعلت فلاناً المقر له بها على حجته يستأنفها، فإذا حضر أو وكيل له، استأنف الحكم بينه وبين المقضي له.
ولو أقام صاحب اليد – أيضاً- بينة بأن العين للغائب، قال الشافعي- كما حكاه في "البحر"-: حكمت ببينة المدعي، وسلمت الدار إليه، ولا حكم لبينة الغائب.
ومشى العراقيون على هذا؛ بناء على جزمهم في الحالة السابقة بالوجه الثاني، لكن فيما إذا كان صاحب اليد قد أسند يده إلى إيداع أو عارية.
ووجهوه بأن هذه بينة مقامة من غير طلب [صاحب] الحق ولا وكيله؛ فلم يثبت بها الملك؛ كما إذا حجر الحاكم على شخص بالفلس، وأراد قسمة ماله بين غرمائه، فشهد شاهدان: أن هذه العين ملك فلان الغائب- لا يلتفت إلى تلك الشهادة، ولا تؤخر القسمة من أجلها، بل تقسم العين بين الغرماء.
نعم، لو كان صاحب اليد قد أسند يده إلى رهن أو إجارة، وأقام بينة على الغائب بذلك، وله بالملك- فوجهان:
أحدهما: لا يقضي له بذلك؛ كما لو كانت وديعة؛ [وهذا ما اختاره أبو إسحاق؛ كما حكاه في "الحاوي".
والثاني: يقضي له بالإجارة أو الرهن، وللغائب بالملك]؛ لأنه قد تعلق به حق لهذا الحاضر؛ فأشبه ما لو كان المقر له حاضراً، وأقام بينة بالملك.
قلت: وهذا يمكن بناؤه على أن للمستأجر والمرتهن حق المخاصمة عند غصب العين، وهو الذي اختاره القفال؛ كما حكاه الرافعي في آخر هذا الكتاب، وقد نسب الإمام هذا الوجه إلى رواية العراقيين عن أبي إسحاق، وفي "المهذب" و"الإشراف"، و"البحر": أن أبا إسحاق رواه عن بعض الأصحاب، وليس بشيء بالاتفاق.
والمراوزة ذكروا الوجهين الآخرين في المسألة السابقة هاهنا – أيضاً- وجزم الأصحاب بعدم القضاء بالملك للغائب في حالة إسناد اليد إلى الوديعة، وفيه نظر؛ لأن الإمام في كتاب الوديعة حكى وجهين في أن المودع هل له حق المخاصمة إذا غصب الوديعة من يده أم لا؟ فإذا أثبتناه له يظهر أن يقال: إن الملك ثبت للغائب في هذه الصورة؛ كما لو كان من بيده العين وكيلاً عن الغائب، فإنه لا خلاف في الحكم للغائب بالملك، ولا يسلم للمدعي؛ كما صرح به الإمام وغيره.
وإذا صح ذلك انبنت مسألة المستأجر والمرتهن على الوديعة:
فإن قلنا: يثبت الملك للغائب بدعوى المودع، فثبوته بدعوى المستأجر والمرتهن أولى، وإلا ففيه الوجهان، والله أعلم.
قال البندنيجي وابن الصباغ وغيرهما: فإن قيل: إذا سلم الملك بالبينة للمدعي عند إقامة صاحب اليد البينة بالملك للغائب، فما فائدة سماع البينة بالملك للغائب؟
قلنا: فائدتها عدم وجوب اليمين على صاحب اليد، وانتفاء التهمة عنه- كما تقدم- وأن الحكم في هذه الحالة إذا وقع بالبينة يكون قضاء على الغائب جزماً حتى تتوجه اليمين على المدعي إذا طلب الحكم، وعلى التحليف نص في "الأم"؛ فيحلف: إن ما شهد شهوده به حق، ولم يخرج من ملكه بوجه من الوجوه؛ كما قاله في "البحر".
وما ذكره من عدم وجوب اليمين على صاحب اليد كلام الفوراني منازع فيه؛ فإنه قال: الصحيح: أنه يقضي على ذلك الغائب؛ فيحلف المدعي مع البينة، وقيل: يقضي على الحاضر؛ لأن الشيء في يده حتى لا يحلف المدعي، ثم إذا حضر الغائب، فإن أعاد البينة التي شهدت له في الغيبة، قضى له؛ لأنه صاحب اليد؛ وهذا مما لا خلاف فيه؛ كما قاله الإمام، وإن أجري خلاف فيما إذا ادعى على شخص حاضر بدار، وأقام بينة، وقضى له بالبينة، وأزيلت يد المدعي عليه، ثم وجد بينة- في أن الدار هل ترد إلى يده ونقدره صاحب يد أو لا؟ والفرق: أن الغائب معذور؛ لغيبته، بخلاف الحاضر.
ومثل هذا ما ذكرناه فيما إذا حضر الغائب، وأقام بينة على جرح الشهود وقت
الحكم- ينقضي قولاً واحداً، وإن جرى في نقضه لو كان الحكم على حاضر خلاف؛ لما أشرنا إليه من الفرق.
فإن قيل: قد حكى الغزالي وغيره- كما سنذكره- فيما إذا كانت العين في يد ثالث، وأقام كل واحد منهما بينة [بالملك]، فهل يكون إقرار الثالث لأحدهما بالملك مرجحاً له- وجهين، ولا يظهر بينهما فرق.
قلت: محل الوجهين ثم إذا وجد الإقرار بعد تمام البينتين والحكم بعدم الملك لصاحب اليد- ظاهراً، وشرط الإقرار المقبول أن يكون [للمقر على] المقر به يد تدل على الملك؛ فلا جرم لم يؤثر ثم، وأثر هاهنا؛ لأنه صدر للغائب، واليد تدل على الملك ظاهراً، ثم إذا حضر الغائب، وانتزع العين بالبينة، ورام المدعي تحليف صاحب اليد؛ ليحلف عند نكوله، ويلزمه الغرم- لم يجد إلى ذلك سبيلاً قولاً واحداً؛ فإن الملك استقر للمقر له بالبينة؛ فخرج إقرار المقر عن كونه مقتضياً حيلولة.
قال الإمام: ولا مبالاة باقتضاء الإقرار له ما يرجح بينته إذا كانت الإحالة على البينة.
قال: وإن أقر [به] لمجهول، أي: مثل أن قال: هو لرجل لا أعرفه، وقد نسيت اسمه، وعينه- قيل له: إما أن تقر [به] لمعروف، أو نجعلك ناكلاً.
أصل هذه المسألة: أن الإقرار للمجهول غير صحيح على المشهور؛ لعدم تعيين الطالب.
وقضية ذلك: أنه إذا أقر لمن في هذه الدار، ولم نعلم عينه: أن يصح؛ لانحصار المقر له، وإمكان الاطلاع عليه؛ كما إذا أقر للحمل.
لكن قد صرح الماوردي عند الكلام في الوصية للحمل بعدم الصحة.
وفي "الإشراف": أن صاحب "الإفصاح" قال: يسمع الإقرار للمجهول؛ لأنه
قد يجب الإقرار للمجهول؛ كما في اللقطة يلتقطها فيقر بها الملتقط لصاحبها، وصاحبها مجهول.
فإذا تقرر ذلك عدنا إلى قول الشيخ: قيل له: إما أن تقر به لمعروف، أو نجعلك ناكلاً، أي: فيحلف [المدعي] وتسلم إليه العين؛ لأنه يريد أن يصرف بذلك الخصومة عن نفسه بأمر لا يمكن تداركه بالرجوع إلى من أسند الملك إليه؛ فلم يقبل منه؛ لما فيه من الإضرار؛ وهذا ما اختاره في "المرشد".
وقيل: يقال له: إما أن تقر به لمروف، أو [تدعيه] لنفسك، أو نجعلك ناكلاً؛ لأن الإقرار للمجهول لما لم يصح، صار وجوده كعدمه، وهو لو لم يقر، كان له أن يدعيه لنفسه، أو يقر به لغيره، فإن لم يفعل، كان ناكلاً.
وعلى الوجه الأول: لو ادعاه لنفسه، لم يقبل؛ لأن إقراره بأنه ملك للغير صريح [في] نفي الملك عن نفسه فآخذناه به.
وهذان الوجهان محكيان عن ابن سريج، وهما جميعاً متوافقان على عدم انصراف الخصومة عنه.
قلت: وهما شبيهان بما ذكرناه من الخلاف في أن التصرف المردود، هل يكون حكمه حكم الصحيح بالنسبة إلى قطع الحق أم لا، كما حكيناه في البيع وغيره؟
وفي "النهاية" وغيرها حكاية وجه: أن القاضي ينتزع العين من يده إذا أقر بها لمجهول؛ كما قلنا فيما إذا أقر بها لمعين، وكذبه؛ وحينئذ تأتي التفاريع السالفة.
ولو أقر لمجهول، ولم يكن ثم مدع، مثل أن قال: هذه العين غصب، ولم أعرف غصبتها ممن:
قال البندنيجي وغيره في كتاب دعوى الدم: يقال له: الملك لك في الظاهر، تصرف فيها كيف شئت حتى يعرف مالكها.
وقال الرافعي ثم: إن في مثل هذا خلافاً مشهوراً، وقد حكاه الإمام قبل باب القافة بأربع ورقات- أو أكثر- وجهين:
أحدهما: [أنه] لا حكم لإقراره.
والثاني: يؤخذ منه، ويحفظ؛ كالمال الضائع.
وجميع ما ذكرناه يأتي فيما إذا قال: هذه الدار ليست لي، مقتصراً على ذلك، أو قال: هي لرجل لا أسميه.
لكن جريان الوجه بانتزاع العين من يده في الصورة السالفة- كما قال الإمام- أوجه من جريانه في هاتين الصورتين، مع أن الصحيح في الكل: عدم الانتزاع.
لكن قد حكى القاضي الحسين [فيما] إذا قال: هذه الدار ليست لي ولا لك، ولا أعرف لمن هي، ولا يلزمني تسليمها إليك- ثلاثة أوجه:
أصحها: أنها تنزع من يده.
والثاني: تسلم للمدعي.
وسكت عن الثالث، ويظهر أنه: يقال [له]: إما أن تدعيها لنفسك، أو تقر بها لمعروف، أو نجعلك ناكلا؛ لما سنذكره من كلام البندنيجي وغيره.
وقضية ذلك: أن يكون الحكم فيما ذكرناه كذلك، لكن إيراد البندنيجي والرافعي موافق للإمام؛ لأنهما قالا في كتاب الصلح: إذا أقر شخص لشخص بدار، وقد ادعى نصفها، [وأخوه نصفها]، فقال المقر له: لا أملك فيها إلا النصف، ولا أعرف النصف الآخر لمن- فيما يفعل بالنصف ثلاثة أوجه:
أصحها: أنه يقر في يد المقر.
والثاني: ينتزعه الحاكم من يده، ويحفظه إلى أن يجيء صاحبه.
والثالث: يسلمه للمدعي عليه.
وقد حكى الأوجه القاضي أبو الطيب وابن الصباغ والإمام ثم، والمصنف هنا، واختار في "المرشد" الثاني منها.
فروع:
إذا قال من في يده العين: هي لكما، سلمت لهما، ولكل واحد منهما أن يحلف صاحبه.
قال البندنيجي: وهل له أن يحلف المقر؛ لأجل الغرم؟ فيه القولان.
ولو قال بمن في يده العين]: هذه الدار لهذا الصبي أو المجنون- قال في "الإبانة": لا تنصرف الخصومة عنه.
وغيره قال: هو كما لو قال: هي لهذا البالغ العاقل. وتكون المخاصمة مع وليه، ولا سبيل إلى تحليفه؛ كذا قاله الغزالي وأبو الفرج الزاز.
وكذا لو قال: هي وقف على الفقراء، انقطعت الخصومة عنه، وهل للمدعي تحليفه؛ لأجل التغريم؟ فيه الخلاف السابق.
وكذا لو قال للمدعي عليه: هي وقف على ولدي الصغير، أو: على مسجد، أو: رباط، أو: على نفسي؛ كما قاله القاضي الحسين.
ولو قال المدعي: هي وقف على، وقال من هي في يده: هي وقف علي- قال القاضي الحسين: فلا خلاف أنه ليس للمدعي طلب تحليفه لأجل الغرم؛ لأنه إنما يحلف على ما يدعي أنه فوت عليه ما تقوم قيمته مقام ذلك الشيء الذي فوت عليه، وهاهنا قيمة الدار لو أخذناها لا تقوم مقام الوقف، لكن له أن يجيء كل شهر، ويدعي عليه أجرة ذلك؛ وهذا ما أورده في "التهذيب".
قال الرافعي: وكان لا يبعد طلب القيمة؛ لأن الوقف مضمون عند الإتلاف، [والحيلولة في الحال كالإتلاف].
قال: وإن تداعيا حائطاً- أي: بين ملكيهما- فإن كان مبنياً على تربيع إحدى الدارين- أي: مساوياً لها في السمك، والحد، والارتفاع- مثل أن يكون طول الحائط عشرين ذراعاً، وعرصة أحدهما عشرون ذراعاً طولاً، وعرصة الآخر عشرة أذرع طولاً، وهكذا مثاله:
قال: أو متصلاً بإحداهما اتصالاً، لا يمكن إحداثه- أي: بعد البناء – قال الإمام والقاضي: وإنما يظهر ذلك في الزوايا بأن يكون ممتداً بين الملكين، ومتصلا أحد طرفيه بجدار هو ملك لمالك إحدى الدارين، وانعطف أحد الجدارين عن الثاني، وظهر في المنعطف زاوية على هيئة التداخل والرصغ.
قال: فالقول قول صاحب الدار- أي: التي بنيانها ما ذكرناه مع يمينه؛ لأن الظاره: أنه مبني لداره؛ فكان الظاهر معه.
وقيل في الصورة الأولى: إنهما يستويان في القدر الذي بين عرصتيهما من الحائط بعد تحالفهما؛ حكاه الماوردي.
فرع: لو كان الجدار المتنازع فيه مبنياً على خشبة طويلة، وكان طرف من الخشبة والجاً في ملك أحدهما دون الآخر- فقد حكى الإمام: أن العراقيين قالوا: [الخشبة] لمن يكون طرفها في ملكه، والجدار المبني عليها تحت يده؛ فإن الظاهر: أن جدار غيره لا ينبني على ملكه. وهذا ما حكاه في "الشامل" عن بعض الأصحاب، ولم يحك غيره، ثم قال الإمام: ولم أجد هذا في طرقنا وليست المسألة خالية عن احتمال في الخشبة والجدار.
قال: وإن كان بين ملكيهما- أي: ولا مرجح لأحدهما- مثل أن كان مبنياً على تربيعهما، أو متصلاً بهما اتصالاً [لا] يمكن إحداثه، أو كان مطلقاً وهو الذي لا يراد منه إلا السترة.
قال: تحالفا، وجعل بينهما؛ لأنه لا مزية لأحدهما على الآخر.
وكيفية التحالف قد سبقت، وهاهنا حكى الماوردي الوجهين في أن الحاكم يقرع لأجل المبتدأ به في اليمين، أو يقدم من شاء منهما؟
قال: وإن كان لأحدهما عليه أزج، فالقول قول صاحب الأزج- أي: مع يمينه- لأن الظاهر أنه بني للأزج.
قال القاضي أبو الطيب وابن الصباغ وغيرهما: وكذا لو كان لأحدهما عليه قبة، فالقول قوله مع يمينه.
وإنما أحلفناه؛ لأنه يحتمل أن يكونا قد اشتركا في بنائه، أو أمر أحدهما صاحبه في
أن يبني عليه الأزج أو القبة، أو صالحه من ذلك على شيء أخذه منه؛ وهذا من القاضي وابن الصباغ يقتضي أن ما ذكراه يجري وإن كان الأزج والقبة يمكن إحداثهما بعد بناء الحائط.
وقد خص الماوردي والإمام محل ذلك بما إذا كان الحائط [قد] بني من أساسه معوجاً على ما جرت به عادة بعض الآزاج والقباب؛ لأن هذا التعويج لا يمكن إحداث مثله بعد كمال البناء.
أما إذا كان الحائط غير معوج، فإمكان إحداث الأزج والقبة على الحائط بعد كمال البناء ممكن، فهو كالأجذاع.
وعلى هذا ينطبق قول القاضي الحسين: إنه إذا كان لأحدهما عليه بناء يمكن إحداثه بعد كمال البناء، [فلا يرجح به، وإن كان لا يمكن إحداثه بعد كمال البناء]، مثل: الأزج الذي يبنى من أصل الجدار وقرب الأرض، فيبني جداراً منحنياً، فيعقد الأزج عليه جزءاً فجزءاً إلى أن [يتم؛ فيحكم] به لصاحب الأزج.
لكن في حالة عدم الاعوجاج قال الماوردي: ما كان من أعلى الحائط معوجاً كتعويج الأزج والقبة، فهو لصاحب الأزج والقبة، وما انحدر عنه من انتصاب الحائط في حكم المنفصل غير المتصل.
تنبيه: الأزج- بفتح الهمزة، والزاي، والجيم-: سقف معقود كسقوف أواوين مدارسنا.
قال الجوهري: جمعه: آزاج وآزج.
قال: وإن كان لأحدهما عليه جذوع، لم يقدم صاحب الجذوع؛ لجواز أن يكون [قد] وضعها بإذنه، أو بقضاء قاض يرى ذلك؛ فلا نزيل ما تيقناه بأمر محتمل.
[و] لأن وضع الجذوع معنى حادث في الحائط بعد تمامه؛ فلم يرجح به: كالتجصيص، والتزويق.
والجذع: الواحد.
وهكذا لا نظر إلى من إليه الخوارج والدواخل، ولا أنصاف اللبن، ولا معاقد القمط- كما قال الشافعي- لأنه [ليس] في شيء منها دلالة.
وأراد بالخوارج- كما قال الماوردي-: ظهور الحيطان، وبالدواخل: وجوه الحيطان.
وقال القاضي الحسين، وتبعه الإمام: إنه أراد بالدواخل، والخوارج: الكتابة بالجحص والآجر، والتزويقات على الجدار المخرجة منه، والطاقات التي تدخل فيه.
وأراد بأنصاف اللبن: إذا كان أحد جانبي الحائط مبنياً بأنصاف اللبن، والآخر بالشك والمدر؛ كما قاله ابن أبي هريرة، ولم يورد القاضي أبو الطيب سواه.
وقال غيره: إنه إفريز يخرجه البناء في أعلى الحائط نحو نصف لبنة؛ ليكون وقاية للحائط من المطر وغيره.
وقال القاضي الحسين، وتبعه الإمام: المراد به: الجدار المتخذ من اللبنات المنصفة التي جعل وجه الصحيح إلى جانب، ووجه المكسر إلى الجانب الآخر.
وأراد بمعاقد القمط: عقد الخيوط التي يربط بها الجص على الخشبة المعرضة بين السطحين؛ كما قاله الماوردي، وسميت الخيوط: قمطاً؛ لأنه يقمط بها القصب.
فلا يرجح من إلى جانبه وجه الحائط، ولا من إلى جانبه أنصاف اللبن، ولا معاقد القمط عند التنازع في الجص المتخذ ستراً بين السطحين الذي نسميه درباً.
قال: وإن تداعيا عرصة- أي: بين ملكيهما- لأحدهما فيها بناء، أو شجر- فإن كان قد ثبت البناء والشجر له بالبينة، فالقول قوله في العرصة مع يمينه؛ لأن البينة أثبتت له الملك في البناء والشجر؛ فاقتضى أن تكون يده ثابتة على الأساس والمغرس؛ لانفراده بالانتفاع [بهما كما إذا كان له متاع في دار ينفرد بالانتفاع] بها، وإذا كان كذلك كان القول قوله مع يمينه؛ لما تقدم.
فإن قيل: الجدار على أساسه والأشجار على مغارسها، بمثابة الجذوع على الجدار، وقد تقدم أن الجذوع إذا كانت لأحدهما لا تدل على اختصاص صاحبها
بالجدار، فكذلك هاهنا- قال الإمام والقاضي أبو الطيب وغيرهما: قلنا: الجدار بين الملكين في أيدي مالكهما؛ من حيث إنه جزء من كل دار؛ فكان هذا التمسك بالجزئية أولى من التعلق بوضع الجذع، والعرصة هاهنا في يد صاحب البناء والشجر؛ فلذلك كان القول قوله.
ونظير ذلك: أن الدار إذا كانت مشحونة بأمتعة إنسان، وكان لا يسكنها أحد- فالدار تحت يد صاحب الأمتعة. ولو كان يسكنها رجلان، ولأحدهما أمتعة- فلا نظر إلى الأمتعة مع سكونهما.
وأيضاً: فإن من العلماء من يرى إيجاب وضع الجذوع على حائط الغير، ولم ير أحد منهم [إيجاب] بناء حائط في ملك الغير، ولا غرس شجرة فيه، وذلك يدل على الفرق بينهما.
قال: وإن ثبت له ذلك بالإقرار- أي: بإقرار المنازع- فقد قيل: القول قوله؛ كما لو قامت له بينة به؛ وهذا أصح عند النواوي وغيره.
وقيل: هو بينهما.
قال المحاملي في "المجموع": لأن الإقرار يثبت له ملك البناء والغراس؛ فلا ينقل ملك غيره.
ومعنى هذا: أنه لولا الإقرار، لكان البناء وأساسه، والغراس ومغرسه بينهما عند التنازع فيه، فالإقرار بالبناء والشجر أخرجهما من ذلك الحكم؛ فبقي ما عداهما على حكمه.
فإن قيل: هذا موجود في حال قيام البينة؛ فكان ينبغي أن يكون الحكم كذلك؟
قلنا: الفرق بينهما: أن ثبوت الملك بالبينة لا يدل على [أن] ما شهدت به [البينة] في يد المشهود عليه؛ لما تقدم أنها تسمع عند قيام المنازعة، وإذا لم تدل على ما ذكرناه، كان ثبوت البناء الشجر له بالبينة مرجحاً لجانبه بالمعنى الذي ذكرناه فقوي؛ فلذلك كان القول قوله.
وثبوت الملك بالإقرار يقتضي أن يكون المقر به في يد المقر بحيث لو ادعى أنه
ملكه، لقبل منه؛ كما يأتي في بابه- إن شاء الله تعالى- ومقتضاه: ثبوت اليد للمقر على الأساس والمغرس أيضاً، وقد ادعاهما لنفسه، وهو أعرف بما أقر به؛ فكان القياس: أن يجعل القول قوله فيهما، لكن اليد التي أثبتت له في هذا المقام حتى صح إقراره للمقر له- أيضاً- مثلها على الأساس والمغرس؛ فلا جرم قسم بينهما.
وهذا الذي أورده الشيخ قد حكاه الإمام عن العراقيين، ثم قال: إنهم قالوا: إن مأخذ الوجهين في حالة ثبوت الملك بالإقرار: أن من أقر لشخص بجدار أو شجرة، هل يكون مقراً بالأساس والمغرس؟ وفيه قولان مأخوذان من أن بيعهما هل يتناول أصلهما؟ وفيه قولان.
والماوردي قال: إذا تنازعا عرصة حائط هو لأحدهما، ففيه وجهان:
أحدهما: أنه لصاحب الحائط.
والثاني: أنهما فيه سواء.
وهذان الوجهان من اختلاف أصحابنا فيمن أقر لرجل بحائط، فهل يدخل قراره في إقراره، أو باع حائطاً، هل يدخل قراره في بيعه؟ على وجهين، والذي حكاه منهما في كتاب الإقرار: عدم الدخول.
ثم قال الإمام: فإن قيل: إذا كان لفظ المقر مع اختصاصه بالجدار يتعدى إلى أصهل حتى يجعل إقراراً به على أحد القولين، مع أن مبنى الإقرار على الأقل الممكن- فإذا شهد عدلان [لإنسان] بملك جدار فقولوا: لفظ الشهادة يتضمن الملك في أصل الجدار على أحد القولين؛ قياساً على الإقرار.
قلنا: هكذا نقول، ولا فرق- والعلم عند الله تعالى- بناء على أن سماع الشهادة بالبيع مطلقة من غير بحث [عن] شرائط الصحة؛ كما هو المذهب الظاهر، ويحمل البيع المشهود به على الصحة.
تنبيه: إذا قلنا: القول قول صاحب البناء والشجر في العرصة عند إقرار المنازع له- كما ذكره الرافعي- فهل يحتاج إلى اليمين؟ لم أقف في هذا على نقل.
وقضية الاحتياج إليها عند [ثبوت ذلك بالبينة: أن يحتاج إليها عند] الثبوت
بالإقرار أولى، لكن قضية البناء على الأصل المذكور أنه لا يحتاج إلى اليمين؛ فإن ثبوت العرصة حينئذ يكون بالإقرار، ومن أقر له خصمه بحق، لم يحلفه عليه، وكذلك نقول إن صح هذا في مسألة ثبوت ملك البناء والشجر بالبينة؛ إن فرعنا على ما خرجه الإمام؛ لن الثبوت حينئذ يكون بالبينة، ومن ثبت حقه بالبينة [لم تتوجه عليه اليمين بلا خلاف؛ لأن ما في التحليف قد جاء في البينة]، اللهم إلا أن ينشئ دعوى صحيحة: كدعوى بيع، أو إبراء صدر بعد ذلك، وأمكن صدوره؛ كما قاله في "التهذيب" في باب الامتناع من اليمين، أو يقول: الشاهد اعتمد ظاهر اليد، وهو يعلم سراً أن هذا لي- فإن في تحليفه في هذه الصورة خلافاً؛ حكاه الغزالي في آخر الحجة الثالثة للسرقة؛ وعلى هذا يكون تخريج الإمام أفاد أمرين:
أحدهما: إجراء الخلاف في المسألتين، وهو ما اقتضاه [إطلاق المحاملي] في "المقنع"، وكذا القاضي الحسين في "التعليق"؛ حيث قال: إذا تنازعا أرضاً، ولأحدهما فيها بناء أو شجر- فالمذهب: أنه يرجح بالبناء والشجر؛ لأن العادة [ما جرت] بأن الناس يعيرون الأرض للبناء والغراس، وهو الذي أورده البغوي في باب اختلاف الزوجين في متاع البيت، ولم يفرقوا بين أن يكون [قد ثبت ذلك] بالبينة أو بالإقرار.
ثم قال القاضي: نعم، في الزرع خلاف، والذي [حكاه في "التهذيب" منه]: أنه يرجح به؛ كالبناء والشجر.
والثاني: أنا إذا قلنا: القول قوله في العرصة عند إقامة البينة بالبناء والشجر؛ لا يحتاج إلى اليمين، إلا أن يقال: عدم تحليف المدعي عند قيام البينة- كما ذكره الأصحاب، ونص عليه الشافعي- مفروض فيما إذا وقعت الشهادة [بما شملته] اللفظة لغة وعرفاً؛ كما إذا ادعى عيناً، وأقام بينة على أنها ملكه؛ لأن التحليف في هذه الحالة على أنها ملكه، يتضمن تكذيب الشهود قطعاً.
أما إذا وقعت بشيء لم [يشمله اللفظ لغة، وإنما شمله] من حيث العرف؛ كما
في المغرس، والأساس- فإن اسم الشجرة والجدار لا يتناولهما لغة؛ كما قاله الإمام في كتاب الإقرار، وإذا كان كذلك لم يبعد التحليف؛ لأن للاحتمال مجالاً فيه، ويؤيد ذلك ما سنذكره عن نص الشافعي فيما إذا شهدت البينة بملك قديم، وقالت: لا أعلم مزيلاً له، وسمعنا ذلك: أنه يحلف المدعى عليه مع البينة، وإذا صح ما ذكرناه عند قيام البينة بالبناء والشجر؛ فكذلك عند الإقرار بهما، والله أعلم.
فرع: حيث قلنا: إن القول في العرصة قول صاحب البناء والشجر؛ إذا ثبت له ذلك بالإقرار؛ بناء على الأصل المذكور- فينبغي أن يكون الحكم فيما عدا المغرس والأساس من العرصة، كالحكم الذي ذكرته في اندراجه في البيع.
فرع آخر: إذا تنازعا في جدار والعرصة فيه لأحدهما، فالقول قول صاحب العرصة؛ وهكذا لو تنازعا على حائط سفله لأحدهما، كان القول قول صاحب السفل مع يمينه؛ قاله الماوردي.
قال: وإن كان السفل لأحدهما، والعلو للآخر، وتنازعا [في] السقف- أي: الذي يمكن إحداثه؛ كما قال الإمام؛ تبعاً للقاضي الحسين- حلفا، وجعل بينهما؛ لأنه حاجز توسط [بين] ملكيهما، ينتفعان به، وهو غير متصل ببناء أحدهما اتصال البنيان؛ فكان بينهما كالحائط المطلق بين الدارين.
وهكذا الحكم فيما إذا تنازعا الحائط بين السفل والعلو الذي في خلال أجذاع السقف، يكون بينهما؛ لأنه تبع للسقف المشترك.
أما لو تنازعا في حائط السفل، فهو لصاحب السفل إلى منتهى موضع الجذوع، مع يمينه.
وكذا إذا تنازعا في حائط العلو، فهو لصاحب العلو إلى ما فوق أجذاع السقف مع يمينه.
ثم كيفية إمكان الإحداث- كما قال الإمام- أن يفرض سقف عال، ثم يفرض سقف دونه؛ بأن تدرج رؤوس الأجذاع في وسط الحائط، وينظم عليها السقف.
أما إذا كان لا يمكن تقدير سقف السفل على وسط الجدار بعد امتداده إلى منتهى العلو كالأزج، فإنه لا يمكن إحداثه على وسط الجدار، فإذا كان كذلك علمنا أن سقف السفل بني أولاً، واستحدث بعده جدار العلو وسقفه؛ فالسقف في هذه الصورة في يد صاحب السفل.
فرع: إذا جعلناه بينهما، فلصاحب العلو الانتفاع به- كما كان قبل المنازعة- بالجلوس عليه، ووضع متاعه المعتاد من غير مجاوزة.
وكذلك ينتفع به صاحب السفل- كما كان- بالاستظلال.
قال الإمام: واتفق الأصحاب على أنه لا يمنع من "تعليق" شيء فيه؛ طلباً للتسوية بينه وبين صاحب العلو؛ فإن ثقله عليه. ثم قال: وهذا هو المذهب الظاهر.
ومن أصحابنا من لم يجوز لصاحب السفل "تعليق" شيء في السقف، واستكفى بالاستظلال؛ وهذا ما أورده الماوردي، ثم قال: ولا وجه لما أجازه بعض أصحابنا من "تعليق" زنبيل عليه، ووضع خطاف فيه.
وحكى الإمام وجهاً ثالثاً: أنه إن أمكن "تعليق" شيء فيه من غير إثبات وتد في جرم السقف، [جاز مع] اجتناب السرف، ولزوم الاقتصاد.
فأما إثبات الوتد في جرم السقف فيمتنع؛ وعلى هذا قال الشيخ أبو محمد: لا يجوز لصاحب العلو ضرب وتد فيه أيضاً.
وعلى وجه تجويز ضرب الوتد لصاحب السفل، هل يجوز- أيضاً- لصاحب العلو؟ فيه وجهان.
ثم محل الخلاف في جواز "التعليق" إذا كان لذلك قدر له تأثير، أما ما لا تأثير له في السقف على طول الدهر: كالثوب، ونحوه، فلا منع منه؛ إذ هو بمثابة الاستناد إلى الجدار المشترك.
قال: وإن تداعيا سلماً منصوباً- أي: موضع الرقي للعلو- حلف صاحب العلو، وقضى له؛ لأنه مختص بالانتفاع به في الصعود؛ فكان الظاهر معه.
ولا فرق في ذلك بين أن [يكون] السلم مسمراً، أو غير مسمر لكنه منصوب في موضع الرقي.
وعن ابن خيران: أنه لصاحب السفل إذا لم يكن مسمراً.
قال الرافعي: وهذا هو الوجه؛ كسائر منقولات الدار.
لكن الذي عليه الأكثرون- كما حكاه ابن كج-: الأول؛ وعلى هذا فليخرج وجه في اندراج السلم الذي لم يسمر تحت بيع الدار.
تنبيه: السلم معروف، وجمعه: سلالم، وسلاليم، وهو مذكر على المشهور، قال الله تعالى:{أَمْ لَهُمْ سُلَّمٌ يَسْتَمِعُونَ فِيهِ} [الطور: 34].
وحكى أبو حاتم السختياني وصاحب "المحكم" فيه التذكير والتأنيث.
قال الهروي: سمي: سلماً؛ تفاؤلاً بالسلامة.
قال: وإن تداعيا درجة- أي: معقودة- كالأزج، فإن كان تحتها مسكن- أي: لصاحب السفل- حلفا، وجعل بينهما؛ لأن كل واحد منهما ينتفع بها: أما صاحب السفل فبالسكون تحتها، وأما صاحب العلو فبالصعود عليها، فكانت كالسقف بين السفل والعلو.
ولا فرق بين أن يكون المسكن بيتاً، أو خزانة تصلح للسكن وإحراز المال.
قال: وإن كان تحتها موضع حب، وما أشبهه: كموضع الجرار، والكيزان، والحطب، والرف، فهي لصاحب العلو- أي: مع يمينه- لأن الدرجة لا يقصد منها هاهنا إلا الصعود عليها، ولا يقصد أحد عمل بيت حب بفعله درجة، وتخالف المسألة قبلها؛ لأن السقف يقصد ببنائه الستر للسكن، دون عمل غرفة عليه، وقد يقصد به عمل غرفة عليه دون ستر البيت؛ فلذلك كان بينهما.
وقيل: هو بينهما كالمسألة قبلها؛ وهذا قول أبي إسحاق وابن أبي هريرة.
والصحيح في "الرافعي" وغيره: الأول، وهو قول الشيخ أبي حامد، وبه جزم في "الوسيط".
وهذا التفصيل الذي حكاه الشيخ اتبع فيه الماوردي؛ فإنه هكذا فصل، وهو
- أيضاً- كذلك في "التهذيب"، و"تعليق" القاضي الحسين.
والقاضي أبو الطيب حكى فيما إذا كان تحتها موضع ينتفع به كالخزانة وجهين:
أحدهما: أنها بينهما.
والثاني: أنها لصاحب العلو.
قال: [وهو الأصح]، والذي نص عليه الشافعي هاهنا، ولم يفصل. قال [في] "الشامل": وهذه الطريقة أشبه.
وحكم الدرجة إذا كانت صماء حكم السلم المنصوب؛ فتكون لصاحب العلو جزماً؛ صرح به أبو الطيب وغيره.
قال: وإن تنازعا عرصة الدار، ولصاحب العلو ممر في بعضها دون بعض- أي: مثل [أن يكون] سلم العلو منصوباً في وسط العرصة- فالقول قولهما فيما يشتركان فيه من الممر- أي: وهو من أول العرصة إلى موضع السلم- لأن لكل واحد منهما يداً عليه؛ فيحلفان، ويجعل بينهما.
ومما لا ممر فيه لصاحب العلو- أي: وهو ما وراء موضع السلم إلى آخر العرصة- فالقول قول صاحب السفل مع يمينه؛ لأنه المتفرد بالانتفاع؛ فكان في يده؛ وهذا أصح في "تعليق" القاضي أبي الطيب و"الحاوي" و"النهاية" و"التهذيب"، وبه جزم القاضي الحسين.
[وقيل: هو بينهما]؛ لأنها بعض السفل، ويدهما على السفل؛ كذا قاله أبو الطيب، وتبعه ابن الصباغ.
وقال الإمام: [إنه] يمكن أن يقال: العلو محتف بالعرصة احتفاف السفل، والهواء محتوش بالسفل والعلو؛ فلا يبعد- والحالة هذه- أن تضاف العرصة إليهما؛ فإنه يقال: صحن الدار، وعرصة الدار، والعلو والسفل من الدار.
وقالوا: إن الوجهين يجريان فيما إذا كان السلم منصوباً في دهليز الدار، وقد اختلفا في باقي أرضها.
قال الإمام: والصورة الأولى على حال أولى بأن تثبت اليد فيها لصاحب العلو على ما لا مشي له فيه من العرصة من هذه الصورة، وقد حكى الخلاف [القاضي الحسين في هذه الصورة، وهو من العجائب أن يجزم في الصورة الأولى بأن باقي العرصة لصاحب السفل، ويحكي الخلاف] في الصورة الثانية، ولو عكس لكان أولى.
قال ابن الصباغ: قال أصحابنا: ومثل هذا إذا كان زقاق لا ينفذ، وفيه بابان لرجلين: أحدهما في وسطه، والآخر في صدره، فمن أوله إلى باب الأول بينهما، وما جاوزه إذا تنازعاه فعلى الوجهين.
وعلى هذا ينطبق قول الماوردي: إن من هذين الوجهين مضى تخريج الوجهين في عرصة الزقاق المرفوع.
والإمام قال: إن هذا الخلاف [قربه الأصحاب من الخلاف] المذكور في الدرب الغير نافذ إذا أراد من [في] أسفل الدرب أن يشرع جناحاً، فهل لمن في أعلاه حق الاعتراض، ولا ممر له في أصل السكة؟
وخص الماوردي محل الوجهين في مسألة الكتاب بما إذا لم يكن دون الممر وباقي العرصة حائل، أما إذا كان؛ بأن كان محولاً عن ممره وموضع استطراقه بباب أو بناء كدواخل البيوت، فيكون ذلك لصاحب السفل لا يختلف فيه؛ لأنه تفرد بالتصرف فيه؛ فصار متفرداً باليد عليه، أما لو كان السلم منصوباً في صدر الدار بحيث يخرق الماشي إليه العرصة، فجميع العرصة بينهما؛ لأنها في يدهما وتصرفهما.
قال الإمام: وهذا أجمع عليه الأصحاب.
لكنا قدمنا: أن حق الممر يجوز أن يشتري على حياله؛ فكان لا يبعد في طريق المعنى ألا يثبت لصاحب العلو إلا حق المرور، فأما الملك في رقة العرصة فلا.
قال: وإن تنازع المكري والمكتري في الرفوف المنفصلة- أي: الموضوعة على
الأوتاد- حلفا، وجعلت بينهما؛ كذا نص عليه في "الأم".
ووجهه بأن العادة مضطربة فيها: فتارة تكون للمكري، وتارة للمكتري، فلما اضطربت لم يكن أحدهما بها أولى من الآخر؛ فجعلت بينهما.
وهكذا الحكم فيما لو تنازعا في السلاليم المنفصلة، وأغلاق الأبواب، وأطباق التنانير، والغرف فيه متقابلة، واليد فيه مشتركة؛ صرح به الماوردي.
أما لو كانت الرفوف مسمرة، فالقول قول المكري.
قال: وإن تداعى رجلان مسناة بين أرض أحدهما ونهر الآخر، حلفا، وجعلت بينهما؛ لأن فيها منفعة لصاحب النهر بجمع مائه، ولصاحب الأرض بمنعها الماء أن يخرج من أرضه.
والمسناة- كما قاله النواوي-: صخرة تجعل في جانب النهر؛ لتمنعه من الأرض، وهي بضم الميم، وفتح السين المهملة، وتشديد النون.
وفي "تعليق" البندنيجي في كتاب المساقاة: [أن المسناة:] الأحواض التي يجمع فيها لماء تحت النخل.
قال: وإن تداعيا بعيراً، لأحدهما عليه حمل- فالقول قول صاحب الحمل مع يمينه؛ لانفراده بالانتفاع به.
قال القاضي أبو الطيب وابن الصباغ: وهذا يخالف ما لو تداعيا عبداً لأحدهما عليه قميص وسراويل، فإنه لا يحكم به له.
والفرق: أن كون حمله على الجمل تصرف في الجمل بالانتفاع به، ومن انفرد بالانتفاع كانت اليد له، وليس كذلك العبد؛ فإن المنفعة هناك تعود إلى العبد؛ فلم تجعل يداً.
قال ابن الصباغ: ولأن الحمل لا يجوز أن يحمله على الجمل إلا بحق، ويجوز أن يجبر العبد على لبس قميص مالكه وغيره إذا كان عرياناً، وبذله له.
فرع: لو تداعيا عبداً، أو جارية، أو دابة حاملاً، واتفقا على أن الحمل لأحدهما- قال في "التهذيب": فهي لصاحب الحمل.
قال: وإن تداعيا دابة، وأحدهما راكبها، والآخر سائقها- فالقول قول الراكب مع يمين؛ لانفراده بالانتفاع بها.
وقيل: هي بينهما [مع يمينهما]؛ لأن كل واحد منهما لو انفرد كانت له؛ فوجب إذا اجتمعا أن تكون بينهما؛ وهذا قول أبي إسحاق.
والصحيح: الأول، وهو المذهب في "النهاية"، و"تعليق" القاضي الحسين.
والفرق بينه وبين ما إذا تنازعا جداراً لأحدهما عليه جذوع: أن الانتفاع بالجدار مشترك، وإن امتازع صاحب الجذوع بزيادة، فلم يكن بها مرجحاً؛ كما نقول إذا كانا في دار، ولأحدهما فيها متاع، وليس للآخر فيها شيء وتنازعاها؛ فإنها بينهما. وفي مسألة الدابة الراكب منفرد بالانتفاع؛ فانفرد باليد.
والخلاف جار- كما حكاه الإمام وغيره- فيما لو كان أحدهما راكبها، والآخر آخذ بلجامها؛ أو كان التنازع في ثوب، وأحدهما لابسه، والآخر متعلق به يجاذبه.
وعزى القاضي الحسين قول الاشتراك فيها إلى أبي إسحاق [أيضاً].
وفي "تعليق" القاضي أبي الطيب في باب اختلاف الزوجين في متاع البيت: أن بعض أصحابنا قال عند [أخذ] أحدهما باللجام، وركوب الآخر: إن مذهب الشافعي يقتضي أنهما سواء.
وقد اتفقوا على أنهما لو تنازعا سفينة وأحدهما راكب فيها، والآخر ممسكها أنها تكون في يد الراكب دون الممسك؛ لأن الراكب متصرف.
وكذا لو كان أحدهما ممسكاً برباط السفينة، والآخر ممسك بجنبها- كانت في يد ممسك الجنب؛ لأن الخشبة من السفينة، والرباط ليس منها.
ولو تنازعا دابة في إصطبل أحدهما، ويدهما عليها: فإن كان في الإصطبل دواب لغير مالكه، استويا في اليد عليها، وإلا كانت اليد لصاحب الإصطبل خاصة.
ولو تداعيا عمامة، وفي يد أحدهما عشرها، وفي يد الآخر باقيها، ولا بينة- حلفا، وجعلت بينهما؛ كما لو تداعيا داراً: أحدهما في صحنها، والآخر في دهليزها- فإنها بينهما.
وكذا لو تنازعا داراً وأحدهما على سطحها، والآخر في صحنها، سواء كان السطح محجراً أو لا، وسواء كان على السطح ممرق أو لا؛ كما قاله الماوردي.
قال: ولو تنازعا متاعاً في ظرف، ويد أحدهما على الظرف، ويد الآخر على المتاع- اختص كل واحد بما في يده، ولا تكون اليد على الظرف مشاركة لليد على المتاع، ولا اليد على المتاع مشاركة لليد على الظرف؛ لانفصال أحدهما عن الآخر، وهذا بخلاف ما لو تنازعا عبداً، ويد أحدهما على ثوبه، ويد الآخر على العبد- فإن اليد التي على العبد [تكون على الثوب] أيضاً، دون الآخر؛ لأن يد العبد على الثوب أقوى؛ فصارت اليد على العبد وعلى ما في يده، كذا قاله الماوردي.
قلت: ويتجه جريان وجه أبي إسحاق السالف في قسمة الثوب.
قال: وإن كان في يدهما صبي لا يعقل- أي: ولم يعرف سبب يدهما، وهو مجهول الحرية، فادعى كل واحد منهما: أنه مملوكه- حلفا، وجعل بينهما؛ لأنه لو انفردت يد أحدهما على من هذا حاله، وادعى رقه- ثبت ملكه [عليه]؛ لأنه كالبهيمة والثوب في عدم التعبير عن نفسه، فإذا اجتمعت يدهما [عليه] حلفا وجعل بينهما؛ كالبهيمة والثوب. أما إذا عرف سبب اليد [فيه]؛ كالالتقاط، فقد تقدم في باب اللقيط: أن الأصح أنه لا يقبل قوله إلا ببينة.
قال: وإن كان بالغاً، فالقول قوله، أي: في الحرية والرق لأحدهما، مع يمينه:
أما إذا ادعى الحرية؛ فلأنها الأصل، والرق طارئ معترض عليها.
وأما إذا عين الرق لأحدهما؛ فلأنه إنما حكم عليه بالرق باعترافه، فكان مملوكاً لمن اعترف له؛ كما لو كان في يده وحده.
وقولنا: إنما حكم عليه بالرق باعترافه، احترزنا به عما إذا أقام كل واحد منهما بينة على ملكه، فأقر هو لأحدهما؛ فإنه لا تترجح بينة المقر له بهذا الإقرار؛ لأن البينة أسقطت قوله؛ لكونها حجة عليه.
فإنقلت: قد قال الأصحاب في كتاب الإقرار: إنه إذا أقر رجل بعبد في يده لرجل، فقال العبد: ملكي لرجل آخر- لا يقبل إقرار العبد، وكان للذي أقر [له] به السيد؛ لأن العبد في يد المقر، وليس في يد نفسه.
ولأ، الإقرار بالرق إقرار بالمال، والعبد لا يقبل إقراره بالمال المتعلق برقبته؛ وهذا موجود في إقراره لأحد المتنازعين في رقه.
قلت: لعل ما قاله الأصحاب في الإقرار محمول على ما إذا سبق ثبوت الرق على العبد قبل إقراره، وفي مسألتنا لم يسبق ثبوت رق على الإقرار، بل وقع ممتزجاً به؛ فلذلك اعتبر.
ويدل على ما ذكرته: أن ابن الصباغ وجه [عدم قبول] قول العبد بأن من هو في يده لو أقر به لشخص، ولم يقر له العبد ولا لغيره- قبل إقرار السيد.
قال: ولو كان يقبل فيه إقرار العبد، لم يقبل فيه إقرار السيد؛ كجناية العبد؛ وهذا يدل على أن الرق سابق على الإقرار، وإلا لما قبل إقرار من هو في يده أيضاً، والله أعلم.
وما ذكرناه من قبول قول البالغ عند دعواه الحرية، وقد تنازع فيه اثنان- جار فيما لو لم يدع رقه إلا واحد.
ولا فرق فيه بين أن يكون في يده وهو يستخدمه، ويستصغره استصغار العبيد، أو لا؛ ولا بين أن تتداوله الأيدي، ويجري عليه البيع والشراء مراراً، وهو ساكت، وجوزناه، أم لا.
وهذا مما لم يختلف الأصحاب فيه؛ لأن التصرف مع استمرار ظاهر اليد وإن أفاد دلالة ظاهرة على الملك في غير ما نحن فيه، فإنما يدل على تعين الملك إذا كان الشيء مملوكاً؛ فيظهر من اختصاص الإنسان باليد والتصرف وعدم النكير عليه تعينه
من بين الناس، وليس هاهنا مع من يدعي الملك فيه أصل يعتضد به.
قال الإمام: فإن قيل: أليس ينفذ تصرفه في البالغ وإن لم يبد منه إقرار بالرق ولا إنكار؟ قلنا: ذهب بعض أصحابنا إلى اشتراط الإقرار بالملك، وكان شيخي يميل إليه في الفتوى.
ومن أصحابنا من لم يشترط ذلك وإن كان لو أظهر الحرية فدعواه مقبولة كما ينفذ تصرفه في الثوب الذي بيده؛ وهذا في شخص لم نعهده صغيراً في يده، فأما إذا عهد صغيراً في يده، وكان يدعي رقه ويستعبده إلى أن بلغ، فادعى رقه، وأنكره، وادعى أنه حر الأصل- فالذي جزم به العراقيون: أن القول قول المدعي؛ لأنا حكمنا بأنه ملكه، واستقر ذلك؛ فلا نزيله بقوله، ولكن له استحلافه.
وحكى القاضي الحسين هنا، والفوراني والإمام في كتاب الإقرار وجهاً آخر: أن القول قول المدعي عليه مع يمينه، وعلى المدعي البينة، وجعله الإمام الأظهر، ثم صححه.
نعم، حكاه ابن الصباغ فيما إذا كان في يده يستسخره في حال صغره، ولم يدع رقه، ولا تصرف فيه تصرفاً يقتضي الملك إلى أن بلغ، فادعاه، وكذبه الصغير، وادعى الحرية، ونسبه إلى رواية القاضي في شرح الفروع [وأنه] قال: إن قائله أخذه من اللقيط إذا حكمنا بإسلامه بظاهر الدار، ثم بلغ ووصفه الكفر- فإنه لا يحكم بردته؛ على أحد الوجهين.
قال: والأصح أن القول قول المدعي في هذه الصورة أيضاً، وهو الذي جزم به القاضي في "التعليق"؛ وكذلك البندنيجي.
وحكى الإمام طريقة قاطعة بقبول قول الصبي بعد البلوغ، وقال:[إنها تتجه]، وبها يتحصل في المسألة ثلاث طرق: القطع بقبول [قول المدعي، القطع بقبول] قول المدعي عليه، إجراء وجهين في المسألة.
وقد ادعى القاضي الحسين أن الوجهين في الحالة الأولى مبنيان على ما لو قال الصغير في حال صغره: أنا حر الأصل، وادعى من هو في يده رقه، فهل يقبل قوله؟
وفيه خلاف: فإن قبلنا قول الصغير قبل قوله بعد البلوغ أيضاً، وإلا فلا يقبل.
والغزالي والإمام هاهنا قالا: لو ادعى في حال الصغر الحرية، فإن لم نقبل قوله، فعاد وادعاها بعد البلوغ؛ ففي القبول وجهان.
قال الإمام: والقياس القبول، وقد حكى ذلك القاضي- أيضاً- في موضع آخر.
قال: وإن كان مميزاً يعقل، فهو كالصغير؛ لأنه لا حكم لقوله؛ وهذا ما جزم به ابن الصباغ والبندنيجي، وصححه القاضي أبو الطيب؛ فعلى هذا: يحلفان، ويجعل بينهما؛ إذا لم يصدر من الصبي إنكار ولا اعتراف.
وقيل: هو كالبالغ؛ لأنه يقدر أن يعبر عن نفسه؛ فعلى هذا يكون الحكم برقه وحريته موقوفاً على إقراره: فإن اعترف بالرق، حكم لمن هو في يده بعبوديته، ويقسم بينهما. وإن أنكر الرق، حكم له بالحرية، ولا يحلف ىىل إنكاره إلا بعد البلوغ؛ هكذا قاله الماوردي، وأبو الطيب ادعى أنه ظاهر المذهب، وكذلك البندنيجي.
ثم قال الماوردي: ويشبه أن يكون هذان الوجهان من اختلافهم في صحة إسلامه بعد مراهقته وقبل بلوغه.
والبندنيجي وابن الصباغ والمصنف في "المهذب" حكوا الوجهين فيما إذا أنكر الصغير المميز الرق، وادعى الحرية في حال صباه، فهل يقبل قول مدعي رقه أم لا؟ كما حكاهما المراوزة، وقالوا: إن ظاهر لفظ "المختصر" مع الثاني؛ لأنه قال: ولو كان في يده صبي صغير يقول: هو عبدي، فهو كالثوب، إذا كان لا يتكلم.
[وعلى هذا يحلف الصبي بعد البلوغ، وإن الصحيح الأول.
وقول الشافعي: "لا يتكلم"]، عنى به: أنه ليس لكلامه حكم؛ وبهذا يجتمع في المسألة ثلاثة أوجه:
أحدها: يحكم برقه بمجرد الدعوى، سواء أقر أو أنكر.
والثاني: لا يحكم به، سواء أقر، أو أنكر.
والثالث: إن أقر به حكم به، وإلا فلا، ويحلف بعد البلوغ؛ فلو أقر بعد البلوغ
بالرق وقد حكمنا بالحرية في حال صباه؛ لأجل دعواه- فمقتضى إطباقهم على التحليف: قبول قوله وإن لم يكن له فائدة؛ فإنه لا يمكن التغريم؛ لاعتراف المدعي برقه.
وقد حكى القاضي الحسين في قبول إقراره بالرق وجهين:
أحدهما: لا يقبل؛ لأنا حكمنا بحريته؛ فلا نبطلها؛ كما نقول في البالغ العاقل إذا أقر بأنه حر الأصل، ثم أقر بأنه عبد فلان: فلا يقبل قوله على ظاهر المذهب.
والثاني: يقبل، والفرق: أن هاهنا لم يكن لقول المراهق حكم، وهناك لقول البالغ حكم. هكذا قال.
ومقابل ظاهر المذهب فيما إذا أقر البالغ بالرق بعد الاعتراف بالحرية وجه حكاه عن الأصحاب في باب اللقيط: أنه يقبل قوله فيه؛ لأنه أقر بحق عليه، وقد ذكرت هذا الفرع مرة أخرى في باب اللقيط، وذكرت فيه شيئاً لم أذكره هنا؛ فليطلب منه.
فرع: إذا قبلنا قول العبد في الحرية، وكان من هو في يده قد اشتراه من غيره فهل يرجع عليه بالغرم؟
الذي أطلقه ابن الحداد، وهو الذي أورده القاضي في "شرح الفروع"، والقاضي الحسين قبل باب الإقرار للوارث: لا، لأنه كان من حقه حالة ما يشتريه أن يسأله: هل أنت عبد له أم لا؟ ففرط في ذلك.
وفصل أكثرهم، إن لم يصرح في منازعته بأنه رقيق رجع؛ كما لو أقام بينة على الحرية؛ لأنه لم يوجد منه ما يعطل الرجوع. وإن صرح بذلك، فعلى الوجهين فيما إذا اشترى عيناً، وقال في حال المنازعة: هي ملكي وملك من اشتريت منه؛ جرياً على رسم الخصومة، واعتماداً على الظاهر. وأصحهما- كما حكاه الرافعي والغزالي هنا وفي كتاب الضمان-: أنه يرجع، وقال الإمام في كتاب الضمان: إن معظم الأئمة حكوا الوفاق فيه.
وأجرى الرافعي، والإمام الخلاف المذكور فيما إذا تقدم الإقرار للبالغ بالملك قبل الشراء؛ اعتماداً على ظاهر اليد، وطريقة الجزم جارية فيه، وهي التي حكاها البندنيجي في كتاب الرهن عند الاختلاف في القبض.
وقد قطع الشيخ أبو علي بأنه لا يرجع في مسألتنا، وفرق بينها وبين ما لو قامت البينة بالحرية- بقوة البينة، وبينها وبين شراء الأعيان بأن ثم المتاع مملوك قطعاً؛ فترتب دلالة اليد عليه، بخلاف الرقيق، فلو ثبتت حرية العبد بيمينه مع نكول المشتري؛ فيظهر أن ييقال: لا يرجع، [وإن قلنا: يرجع] في الحال السابقة؛ قياساً على ما إذا اشترى عيناً، فادعاها شخص، ونكل هو عن اليمين، فحلف المدعي- فإنه لا يرجع وجهاً واحداً؛ كما قاله الشيخ أبو علي والماوردي في أثناء الكلام في مسألة ما إذا ادعى شخص أنه يشتري هذه الدار من زيد، وادعى الآخر: أنه اشتراها من عمرو؛ لتقصيره بالنكول.
وقد قال الرافعي فيما قسنا عليه: إنه يجوز أن يفرض فيهخ خلاف؛ بناء على أنه كالبينة.
قال: وإن قطع ملفوفاً، فادعى الولي أنه قتله، وادعى الضارب أنه كان ميتاً ففيه قولان:
أصحهما: أن القول قول الضارب؛ لأن الأصل براءة الذمة، وهذا ما نص عليه في "الأم" في باب دعوى الدم، ورجحه الشيخ أبو محمد والقاضي الروياني وأبو الطيب وغيرهم.
ومقابله: أن القول قول الولي؛ لأن الأصل بقاء الحياة؛ وهذا أظهر عند الرافعي، وحكاه القاضي أبو الطيب عن القديم، وقال الماوردي: إن الربيع تفرد بنقله.
وقد اختلف الأصحاب في محل القولين على ثلاثة طرق:
أحدها- عن أبي إسحاق-: أنه ينظر إلى الدم السائل: إن قال أهل البصر: إنه دم حي، [فالمصدق] الولي؛ وإن قالوا: إنه دم ميت، فالمصدق الجاني، وإن اشتبه؛ ففيه القولان.
والثاني- عن أبي الحسن الطبسي-: أنه إن كان ملفوفاً في ثياب الأحياء
فالمصدق الولي؛ وإن كان في الكفن فالمصدق الجاني؛ وإن كان مشتبهاً ففيه القولان؛ وهذا حكاه الإمام والفوراني في باب الشهادة على الجناية، [واستضعفاه]، [فيطلب منه، إن شاء الله تعالى].
والثالث- وهو الأظهر-: إطلاقهما: فإن صدقنا الجاني، فحلف [برئ، وإن صدقنا الولي فحلف] فله الدية.
قال الشيخ أبو حامد: ويستحق [به] القصاص؛ كما تتعلق به الدية؛ لأن الخلاف في العمد الموجب للقصاص، فإذا صدقناه فيه رتبنا عليه موجبه. وبهذا قال القاضي أبو الطيب في "تعليقه".
وقال الرافعي: إنه بالغ فيه حين سأله أبو بكر الدقاق، وراجعه فيه.
وفي "الشامل": أنه لا يجب الصاص؛ لأنه يسقط بالشبهة، وأن أبا الطيب قال: يحتمل قولاً آخر: أنه يجب القصاص؛ كما قلنا في القسامة.
قال ابن الصباغ: ويمكن عندي أن يفرق بينهما: بأن في القسامة يتكرر اليمين، وفي مسألتنا يمين واحدة.
والقولان جاريان- كما حكاه القاضي الحسين وأبو الطيب- فيما إذا هدم بيتاً على جماعة، وقال ورثتهم: إنهم كانوا أحياء، وقال الهادم: بل كانوا أمواتاً.
قال القاضي الحسين: ويجوز للشاهد أن يشهد بحياته في مسألة الكتاب إذا رآه يلتف في الثوب الذي قطع فيه، وفي مسألة هدم البيت يجوز له أن يشهد بحياتهم إذا رآهم دخلوا البيت.
وقال الإمام: يجوز [أن نقول: ليس] له أن يشهد؛ فإن الموت بعد التلفيف ممكن، والاطلاع على الحياة بعد التلفيف ممكن، وليس كالأملاك؛ فإنه لا مستند فيها إلا الظواهر.
وعلى الأول؛ فلا يصرح بذلك، وإن صرح به عند القاضي بطلت شهادته.
قال: وإن تداعيا عيناً ولأحدهما بينة؛ قضي له؛ للأحاديث السالفة، وسواء [في ذلك] ما إذا كانت العين في يد أحدهما، والمقيم للبينة غيره، أو في يدهما، أو في يد غيرهما، أو لا يد لأحدهما عليها، وهما متنازعان فيها، وتسمع في الحالة الثانية شهادة البينة بأن كل الدار لأحدهما وإن كان داخلاً في النصف، وقلنا: لا تسمع بينة الداخل قبل قيام بينة الخارج؛ كما هو المذهب؛ لأن السماع هاهنا يقع تابعاً للنصف الآخر الذي هو خارجي فيه، وإنما ينقدح رد بينة الداخل إذا أنشأها مع الاستغناء عنها، وهاهنا هو محتاج إليها؛ لأجل النصف.
قال الإمام بعد حكاية ذلك عن رواية القاضي عن الأصحاب: ولعل الحاجة المذكورة: أن عبارة الشهود تضطرب لو خصصنا شهادتهم بأحد النصفين مع التمييز، مع تحقي الشروع، وفي المسألة احتمال لائح.
ثم على المنقول: لو أقام الثاني بينة، قال الغزالي: فقد قيل: الآن يجب على الأول إعادة بينته؛ لتقع بعد بينة الخارج، ولا يبعد التساهل فيها أيضا.
ولك أن تقول: قد تقدم فيما إذا لم يكن لهما بينة، والعين في يدهما – في كيفية حلفهما وجهان:
أحدهما: على نصفها؛ وهذا وزان كونه يقيم البينة على ما في يد صاحبه هاهنا.
والثاني: [أنه] يحلف على جميعها؛ وعلى هذا ينبغي أن يقيم البينة على الجميع أيضاً، وإلا فأي فرق بينهما؟
قال: وإن كان لكل واحد منهما بينة، فإن كانت في يد أحدهما، قضي بها لصاحب اليد؛ لِمَا رَوَى جَابِرُ أَنَّ رَجُلَيْنِ اخْتَصَمَا إِلَى رَسُوْلِ الله صلى الله عليه وسلم فِي دَابَّةٍ- أَوْ بَعِيْرٍ- وَأَقَامَ كُلُّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا الْبَيِّنَةَ [عَلَى] أَنَّهَا لَهُ نَتَجهَا، فَقَضَى بِهَا رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم
لِلَّذِي هِيَ فِي يَدِهِ.
ولأنهما استويا في إقامة البينة، وترجحت بينته بيده؛ فقدمت كالخبرين إذا كان مع أحدهما قياس، والجامع: كون كل واحد منهما حجة.
وقيل: لا يقضي له إلا أن يحلف؛ لأن بينة صاحب اليد عارضتها بينة الآخر؛ فسقطتا، وبقيت اليد، واليد لا يقضي بها من غير يمين.
وقد رجع حاصل ما ذكرناه إلى أن المقضي به في [هذه] الحالة: [البينة، أو اليد] وفيه قولان يأتيان- إن شاء الله تعالى- بناء على أن البينتين إذا تعارضتا هل [تسقطان، أو] تستعملان؟ فإن قلنا بالتساقط، كان القضاء باليد؛ فلا بد من اليمين. وإن قلنا بالاستعمال، كان القضاء بالبينة؛ فلا نحتاج إلى اليمين، وقد أشار إلى ذلك البندنيجي وابن الصباغ والفوراني والبغوي وغيرهم.
لكن قضية هذا البناء أن يكون الصحيح وجوب اليمين لأن الصحيح- كما سنذكره- قول التساقط، وقد قال الشيخ:
والمنصوص هو الأول- يعني: في القديم- كما صرح به الرافعي، وصاحب "البحر"، وقال: إنه المذهب، واختاره في "المرشد"، وقد تقدم توجيهه.
وكلام الإمام والقاضي الحسين مصرح بإجراء خلاف في اليمين- وإن قلنا: إن القضاء بالبينة- لأنهما قالا: إذا تعارضت بينتان، والدعوى على ثالث، فهل تتهاتر البينتان، أو تستعملان؟ فيه قولان.
فإن قلنا بالتهاتر، فهل نقول به هاهنا؟ [فيه وجهان: فإن قلنا به، فلا بد من اليمين.
وإن قلنا بالاستعمال، قلنأ: في الاستعمال فيما إذا كانت العين في يد ثالث، ثلاثة أقولا، لا يجيء شيء منها هاهنا] وهذا لفظ الإمام خاصة.
نعم، من جملة الأقوال ثم قول القرعة، فإذا قلنا به، فهل يحلف من خرجت له القرعة؟ فيه وجهان.
وعلى هذا اختصاص الداخل باليد، هل يكون كخروج القرعة؟ فيه طريقان:
أحدهما: نعم؛ فيجيء الوجهان.
والثاني: القطع بعدم التخصيص؛ فإن هذا اختصاص ثابت، والقرعة وفاق، ولو أديرت لما ميزت ظالماً من مظلوم.
ثم قال: إذا حلفناه على قول التهاتر، حلفناه على النفي، وإذا حلفنا على قول الاستعمال، حلف على إثبات الملك؛ كما يحلف من خرجت له القرعة.
ولا فرق في القضاء لصاحب اليد عند قيام البينتين بين أن تكون كل بينة قد أطلقت الشهادة بالملك، وقلنا: يجوز لك بالنسبة إلى صاحب اليد- كما سنذكره- أو بينت سبب الملك، وكان السبب واحداً أو مختلفاً.
ولا [فرق] بين أن يسند الملك إلى شخص واحد، بأن يقول: هذا اشتريته من زيد، وهذا مثل ذلك، أو تقول المرأة- وهي أحد المتنازعين-: أصدقنيه زوجي، ويقول خصمها: اشتريته من زوجك- وبين أن يسند أحدهما ملكه إلى شخص، والآخر ملكه إلى شخص آخر، أو يقيم الخارج بينة: أنه اشتراها من الداخل، والداخل: أنه اشتراها من الخارج؛ كما حكاه القاضي الحسين.
وهكذا الحكم فيما إذا بينت بينة الخارج سبب الملك من بيع أو اتهاب ونحوهما، وأطلقت بينة الداخل الشهادة بالملك؛ نص عليه الشافعي.
وعند ابن سريج بينة الخارج أولى؛ لأن معها زيادة علم؛ كذا قاله ابن أبي الدم.
وما ذكرناه في حالة إسنادهما انتقال الملك إلى [جهة] شخص واحد، هو ما أورده القاضي أبو الطيب والبندنيجي وابن الصباغ.
وحكى الفوراني وجهاً آخر: أنهما يستويان؛ لأنهما اتفقا على أن اليد كانت لثالث، وكل واحد منهما يزعم الانتقال إليه منه.
وقد حكى الماوردي الوجهين فيما إذا كانت دعواهما انتقال ذلك إليهما منه بالبيع، واقتضى إيراده أن يكون الثاني هو الصحيح منهما؛ لأنه قال: إنهما مبنيان على الخلاف فيما لو كانت العين- والحالة هذه- في يد من ادعيا انتقال الملك إليهما [منه]، وصدق أحدهما على تقدم انتقال الملك له، هل يترجح من صدقه ويحكم له بالعين، أم لا؟ وسنذكره، فإن [قلنا: يترجح] عند التصديق، فكذلك هاهنا، وإلا فلا.
ويجيء القولان في التعارض والاستعمال، والقول الذي سنذكره عن رواية الربيع فيما إذا كانت العين-[و] الصورة كما ذكرنا- في يد ثالث.
وقال: إنا إذا رجحنا أحدهما بيده، جاز أن يكون الآخر خصماً له، ويحلفه إذا أنكره؛ فإنه لو صدقه على أن عقده سابق، سلم العين بإقراره بالثمن الذي شهدت به بينته إن كان مثل الثمن في ابتياع نفسه، وإن كان أقل لم يكن له أن يرجع بالباقي؛ لأنه مقر أنه لا يستحق [على الثاني.
وإن كان أكثر لم يكن له أن يأخذ الزيادة؛ لأنه مقر أنه لا يستحق] أكثر من الثمن الذي دفع، ويكون درك الثاني على الأول دون البائع، [ولا يكون على البائع] درك الأول ولا الثاني، لأن الثاني ملكها عن الأول، والأول قد أقر أنه لم يملكها عن البائع.
واعلم أن محل [سماع] بينة صاحب اليد- وهو المسمى بالداخل- بالاتفاق: ما إذا أقام من ليست العين في يده- وهو المسمى بالخارج- البينة بأنها ملكه، وعدلت، ولم يبق إلا الحكم.
أما إذا أقامها قبل أن يدعي عليه، أو بعد الدعوى عليه، وطلب اليمين- فقد تقدم أن المذهب عدم السماع.
وإذا أقامها بعد إقامة الخارج البينة، وقبل أن تعدل ففي السماع خلاف [مرتب على] الخلاف في إقامتها بعد الدعوى وطلب اليمين:
فإن قلنا بالسماع ثم، فهاهنا أولى، وإلا فوجهان:
أحدهما: لا تسمع- أيضاً- لأنه مستغن عنها بعد.
وأصحهما: السماع؛ لأن يده بعد إقامة البينة مشرفة على الزوال، فتمس الحاجة إلى تأكدها، ودفع الطاعن فيها.
وفي كل حال من الأحوال الأربعة المذكورة هل يكفي إطلاق الشهادة بالملك، أم لا بد من بيان سببه من شراء، أو إرث، ونحوهما؟ فيه وجهان في كتب المراوزة، وقولان في "الحاوي" و"تعليق" البندنيجي:
أحدهما: لا بد من البيان؛ لأن البينة قد تعتمد في الشهادة بالملك ظاهر اليد، فكأنها لا تدل على أكثر مما تدل عليه اليد. وهذا ما نسبه الماوردي والبندنيجي إلى القديم، والإمام إلى بعض الضعفة، وقال: إنه ليس بشيء.
وأصحهما في "تعليق" القاضي الحسين، و"الرافعي"، وغيرهما، وهو الجديد في "الحاوي" و"تعليق" البندنيجي: أنه يكفي الإطلاق؛ كما في بينة الخارج؛ فإنها تقبل مطلقة مع احتمال أن الشهود اعتمدوا يداً سابقة. وهذا ما فرعنا عليه من قبل.
ولو أقام الداخل البينة بالملك بعد الحكم للخارج، وتسلمه العين- فقد أطلق في "المهذب" القول بأنها تسلم للذي كان داخلاً، وانتزعت منه؛ وكذلك قاله الماوردي، وأبو الطيب، وادعى فيه الإجماع، وهو ما يقتضيه كلام ابن سريج في الفرع الذي سنذكره.
وحكى الإمام في سماع بينته وجهين عن القاضي:
أحدهما: السماع إذا أسندت الملك إلى حال قيام يده، ثم أدامته إلى حالة الدعوى؛ كما كان يقضي له لو أقام البينة ويده بعد قائمة.
وأظهرهما عند القاضي: عدم السماع؛ لأنا نقضنا يده، وأجرينا القضاء، فلو قبلنا بينته، لكان ذلك نقضاً للقضاء السابق.
نعم، إن أقام بينة على تملك من جهة الذي هو صاحب اليد الآن، سمعت.
قال الإمام: وهذا الوجه يحتاج إلى شرح؛ لأنه قال: ينبغي أن يقيم بينة على [تلقي] الملك من سبب آخر، ويجب قبول بينته، وإنما لا تقبل بينته إذا لم يذكر سبباً أصلاً، واقتصر على ادعاء الملك المطلق؛ فلا معنى لاشتراط التلقي من هذا المدعي.
قال: وحاصل هذا الوجه: أن البينة المطلقة كانت تسمع من هذا الشخص في حال دوام يده على المذهب الظاهر، وإذا أزيلت يده فلا تسمع.
وقد سلك الغزالي في التعبير عن الحكم في هذه المسألة طريقاً آخر، وتبعه فيه الرافعي، فقال: إن لم يسند الملك إلى الأول، فهو الآن مدع [خارج.
وإن ادعى ملكاً] مستنداً إلى ما قبل إزالة اليد، واعتذر بغيبة الشهود، ونحوها- فهل تسمع بينته، وهل تقدم باليد المزالة بالقضاء؟ فيه وجهان:
أحدهما: المنع؛ لأن تلك اليد مقضي بزوالها؛ فلا ينقض القضاء.
وأصحهما: أن بينته مسموعة حتى يقيمها بعد ما قضى القاضي للمدعي، وينقض القضاء الأول؛ لأنه إنما أزيلت؛ لعدم الحجة، وقد قامت [الحجة] الآن.
وحاصل ما ذكر يرجع إلى ذكر خلاف في سماع البينة مطلقة في الحالتين- أعني: حالة ما إذا أسند الملك إلى ما قبل إزالة اليد، أو لم يسنده:
أما إذا أسنده، فالخلاف ظاهر قد ذكرته.
وأما إذا لم يسنده، فقد قال: إنه الآن مدع خارج، وعني به: مدع خارج قد انتزعنا العين منه بالبينة.
ولهم فيما إذا انتزعت العين من شخص بالبينة، وعاد، وادعى ملكها- هل تسمع دعواه من غير ذكر تلقي الملك من صاحب اليد، أم تكفيه دعوى الملك مطلقاً؟ وجهان:
وجه الأول: القياس على الأجنبي؛ فإنه لا خلاف أن دعواه تسمع مطلقة، وإذا أقام بينة مطلقة على الملك سمعت، وقضي له بها؛ [كما] قاله القاضي الحسين وغيره؛ وهذا ما حكاه الإمام عن الأكثرين.
ووجه الثاني- وهو ما ادعى الرافعي أن بعض أصحاب الإمام قال: إنه الذي ذكره الأكثرون-: القياس على ما لو انتزعت العين من يده بإقراره، فإنه يحتاج إلى ذكر التلقي؛ كما حكاه الرافعي، ولم يحك سواه، وإن كان ابن أبي الدم قد حكى عن القاضي الحسين: أنه يكفيه دعوى الملك مطلقاً، وأنه مخالف لجميع الأصحاب.
والقائلون بالأول فرقوا بين ما إذا انتزعت العين من يده بالإقرار، أو بالبينة- بأن المقر مؤاخذ بحكم قوله في نفسه في المستقبل؛ ألا ترى أن من أقر أمس يطالب به اليوم، ولولا ذلك لم يكن في الإقرار كثير فائدة.
وإذا كان كذلك فيستصحب ما أقر به إلى أن يثبت الانتقال، بخلاف البينة؛ فإنا لم تشهد إلا على الملك في الحال؛ فلم يتسلط أثرها على الاستقبال.
وقد مال الرافعي إلى تصحيح الوجه الأول، وقال: إنه الذي يقتضي كلام الأصحاب ترجيحه؛ لأنا قد حكينا عنهم فيما إذا أقام الداخل بينة بالملك بعد ما انتزعت العين بالبينة، هل تسمع بينته، وهل يقضى له بها؟ خلافاً، وأن الأصح السماع والقضاء.
وذلك الاختلاف مفروض فيما إذا أطلق دعوى الملك، ولم يذكر التلقي، فأما إذا ادعى التلقي؛ فلا بد أن تسمع دعواه، وقد صرح به أبو الحسن العبادي.
وإذا كان الاختلاف في إطلاق الدعوى، ورجحنا وجه السماع- لزم أن يكون الراجح هاهنا: أنه لا حاجة إلى ذكر التلقي.
قلت: وهذا التخريج فيه نظر؛ لأن محل السماع [ثم] إذا أسند الملك إلى ما قبل إزالة اليد، مكتفياً بالدعوى السالفة معتذراً لتأخير إقامة البينة عن محلها بغيبتها؛ فكأنه أقامها قبل الحكم عليه، ودافعاً لما شهدت به بينة الخارج من أصله؛ فلذلك ينقض الحكم على هذا الوجه، ونقدره كأن لم يكن، وليس كذلك هاهنا؛ لأن هذه دعوى مبتكرة، وبينة مستأنفة؛ فلا يحسن إلحاقها بتلك البينة، والله أعلم.
ولو أقام الداخل بينة بعد القضاء عليه، وقبل إزالة يده- فإن قلنا عند إزالة يده: تسمع بينته، فهاهنا أولى، وإلا فوجهان، والفرق: بقاء اليد [حسا؛] هكذا أورده الرافعي، وغيره.
وعكس القاضي الحسين في "التعليق" ذلك، فقال: إذا قضى القاضي بالملك للخارج، ولم تنزع العين من يد الداخل، فهل تسمع بينته إذ ذاك؟ فيه وجهان، أصحهما: أنها لا تسمع.
ولو أقام الداخل البينة بعد الحكم وزوال اليد، فإن قلنا في المسألة السابقة: لا تسمع، فهاهنا أولى، وإلا فوجهان.
وقد حكى القاضي أبو سعد الهروي عنه أنه قال: أشكلت علي هذه المسألة نيفاً وعشرين سنة؛ لما فيها من نقض الاجتهاد بالاجتهاد؛ فتردد جوابي فيها؛ فذكرت: أنه إن أزالها الحاكم بالتسليم، لم ينقض؛ وإن لم يزلها، فوجهان، ثم استقر رأيي على أنه لا ينقض، سواء كان قبل التسليم أو بعده.
فرع- حكاه البندنيجي والقاضي أبو الطيب وغيرهما-: إذا كان في يد عمرو شاة، فادعاها زيد، وأقام بينة: أن الشاة ملكه، وأقام عمرو بينة أن حاكماً حكم له بها، وسلمها إليه قال أبو العباس بن سريج: إن كان الحاكم قد حكم بها لعمرو ببينة أقامها عمرو، قضى لزيد بها؛ لأنه قد ظهر أن لزيد بينة ويداً، ولعمرو بينة بلا يد. وإن [كان] قضى بها لعمرو؛ لأن بينة زيد كانت غير عادلة [وبينة عمرو كانت عادلة]- أقرها في يد عمرو؛ لأن البينة الفاسقة إذا ردت، ثم أعادت الشهادة، لا تقبل. وإن كان قضى بها لعمرو؛ لأنه كان خارجياً، ومن مذهب الحاكم القضاء ببينة
الخارج- أقرها في يد عمرو.
وفي "الحاوي" وجه: أنه ينقض حكمه، وتسلم لزيد؛ لأن هذا الاختلاف وإن لم يكن فيه نص، فالقياس فيه جلي، والاجتهاد فيه قوي؛ فلذلك نقض حكمه.
وإن لم يعلم الحاكم الثاني على أي وجه وقع حكم الأول، وأشكل [الحال] ففيه وجهان:
أحدهما: ينقض الحكم بها لعمرو.
والثاني- وهو الأصح-: لا ينقض، بل يقرها في يد عمرو؛ قاله البندنيجي.
قال: وإن كانت في يدهما، أو [في] يد غيرهما- أي: ولم ينسبها إلى أحدهما قبل قيام البينتين، ولا بعدها- أو لا يد لأحد عليها – فقد تعارضت البينتان؛ لتنافي شهادتهما، ففي أحد القولين تسقطان؛ لأنهما قد تكاذبتا في الشهادة، ولأن البينة: ما بان بها الحكم، فإذا لم يكن فيها بيان، ردت؛ كما لو شهدت لأحد الرجلين. وبالقياس على النصين إذا تعارضا.
وهذا ما حكاه في "البحر" عن القديم، وهو اختيار المزني، والأصح في "المهذب"، و"التهذيب"، و"البحر"، و"الرافعي"، وغيرها، وقال ابن الصباغ: إنه الذي نص عليه الشافعي هنا، وفي موضع آخر قال: إنه الجديد. والبندنيجي قال: إنه المنصوص عليه في "الأم"، و"البويطي".
وعلى هذا قال الشيخ: فيكونان كالمتداعيين بلا بينة، وقد سبق حكم ذلك.
[قال: والثاني- وهو ما سنذكره-: تستعملان؛ صيانة لهما عن الإسقاط والإبطال بقدر الإمكان]، وسنذكر من الحديث ما يدل عليه؛ وهذا قد عزاه ابن الصباغ في موضع إلى القديم، وهو عند المراوزة مخصوص بما إذا لم تتكاذبا صريحاً؛ [كما إذا شهدتا بالملك، فإنا نقول: لعل كل واحدة منهما سمعت وصية
له، أو وصبراً وغيره.
فأما إذا تكاذبتا صريحاً] كما إذا شهدت إحداهما بأنه قتل في وقت كذا، وشهدت الأخرى على الحياة في ذلك الوقت، لم يجر قول الاستعمال.
وطريقة العراقيين: أنه لا فرق، بل قال البندنيجي: إن تعارض البينتين: أن تشهد كل واحدة منهما بضد ما تشهد به الأخرى على صفة لا تقبل من التكاذب؛ كما إذا شهدت إحداهما: أنه باع من زيد عبده مع الزوال، والأخرى أنه باعه من عمرو مع الزوال، أو شهدت إحداهما بأن عمراً قتل زيداً بالبصرة، والأخرى أنه قتله ببغداد.
واختار القاضي الحسين في باب الدعوى في الميراث قول التساقط في كل مسألة يقطع فيها بكذب إحدى البينتين، بأن تكون الدعوى في السفاح، أو في الثوب الذي لا ينسج إلا مرة، أو في النكاح، وغيره، ولم يمنع مجيء القول الآخر فيها، واختار قول الاستعمال في كل مسألة يحتمل فيها صدق البينتين، ولم يمنع مجيء قول التساقط فيها.
وقد حكى الغزالي ما حكيناه عن العراقيين طريقة أخرى، وقال: إنه بعيد.
وحكى الفوراني الطريقين على [غير] هذا النحو، وتبعه صاحب "البحر"، فقالا في حكاية إحدى الطريقين: إن القولين فيما إذا لم يمكن الجمع، فإن أمكن قسم بينهما لا محالة.
والطريق الثاني: طرد القولين في الحالين؛ وحينئذ فيحصل من النقلين ثلاث طرق:
القطع بالتساقط؛ إذا لم يمكن الجمع.
القطع بالاستعمال؛ إذا أمكن الجمع.
طرد القولين في الحالين، قال الرافعي: وهو الأشهر. ثم قال: وإيراد أبي الحسن العبادي ينساق إلى طريقة أخرى تنفي الخلاف، وتقطع بالتساقط عند استيقان الكذب في إحداهما، وبالاستعمال عند إمكان صدقهما؛ [كما] في الوصية.
قال: وفي الاستعمال ثلاثة أقوال:
أحدها: يوقف إلى أن ينكشف، أو يصطلحا؛ لأن إحداهما صادقة، والأخرى كاذبة؛ فكان كالمرأة إذا زوجها وليان: أحدهما بعد الآخر، ونسي السابق.
وهذا ما خرجه البغداديون للشافعي، وقال الإمام: إنه أعدل الأقوال في الاستعمال. وهو في ذلك متبع للقاضي الحسين؛ [فإنه كذا قال] في باب الدعوى في الميراث، وقد امتنع البصريون- كما قال الماوردي- من تخريجه، وهو الأشبه؛ لأن وقف البينة على البيان يوجب الحكم بالبيان دون البينة. والرافعي نسب هذا القول إلى رواية أبي الفياض.
والثاني: يقسم بينهما، أي: إذا كان قابلاً للقسمة، بمعنى: أنه لا استحالة فيه، لا بمعنى الانقسام في الحس والعيان.
ووجهه: ما روى سَعِيْدُ بْنُ أَبِي بُرْدَةَ، عَنْ أَبِيْهِ، عَنْ جَدِّهِ، عَنْ أَبِي مُوْسَى الأَشْعَرِيِّ أَنَّ رَجُلَيْنِ تَدَاعَيَا عِنْدَ رَسُوْلِ اللهِ صلى الله عليه وسلم بَعِيْراً- أَوْ دَابَّةً- وَشَهِدَ لِكُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا شَاهِدَانِ، فَجَعَلَهُ بَيْنَهُمَا نِصْفَيْنِ. وقد خرجه أبو داود بإسناد كلهم ثقات.
ولأن البينة أقوى من اليد، وقد ثبت أنهما إذا تساويا في اليد جعل بينهما؛ فوجب إذا تساويا في البينة أولى أن يكون بينهما.
قال الإمام: وهذا ما نقله المزني عن اختيار الشافعي، [وليس مساعداً عليه؛ فإن الإمام الشافعي] أبطله في مواضع، وقال: من قال بالقسمة، دخلت عليه شناعة؛ فإنه ليس قاضياً بواحدة من البينتين.
قال في "البحر": وإذا قلنا: يقسم، وكان الشيء في أيديهما – هل يحلف كل واحد منهما لصاحبه في النصف الذي أصابه؟ فيه وجهان؛ كما لو كان الكل في يد أحدهما.
فإن قلت: الوجهان في الأصل الذي قاس عليه مبنيان على قول التساقط والاستعمال: فإن قلنا بالتساقط حلف، وإلا فلا، وقول القسمة هاهنا مفرع على قول
الاستعمال، فكيف يجيء الوجهان؟
قلت: قد حكينا عن الإمام الوجهين في الأصل، وإن قلنا بالاستعمال فهما هذان الوجهان والله أعلم.
والثالث: يقرع بينهما، فمن خرجت له القرعة، قضي له؛ لما روى الشافعي في القديم مرفوعاً إلى سعيد بن المسيب: أن رجلين اختصما إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم في شيء، وأقام كل واحد شهوداً، فأسهم رسول الله صلى الله عليه وسلم [بينهما] وقال:"اللَّهُمَّ أَنْتَ تَقْضِي بَيْنَهُمَا".
ولأن اشتباه الحقوق المتساوية يوجب تميزها بالقرعة؛ كدخولها في القسمة في السفر بإحدى نسائه، وفي عتق عبيده إذا استوعبوا التركة؛ [و] هذا اللاقول محكي في الدعاوىمن القديم؛ كما حكاه البندنيجي.
قال: وهل يحلف مع القرعة؟ فيه قولان:
وجه الوجوب: أن القرعة قد تخطئ، وتصيب؛ فيحلف؛ لقطع التهمة ورفع الإشكال؛ مبالغة في الاحتياط.
ووجه مقابله: أن القرعة سيقت للترجيح؛ فاكتفي بها؛ هكذا وجهها القاضي الحسين في موضع من "تعليقه".
وقال ابن الصباغ: إنهما ينبنيان على أن الحكم عند خروج القرعة يقع بالبينة، [أو بدعواه مع القرعة؟ وفي ذلك قولان:
فإن قلنا: يقع بالبينة]، فلا يحلف، وهو ما اختاره ابن أبي عصرون؛ كما حكاه ابن أبي الدم.
وإن قلنا: يرجح بالقرعة، حلف، وهو ما حكاه في "البحر" عن النص، وقال: إن عليه عامة أصحابنا.
ثم قال ابن الصباغ: وينبغي أن يكون [الترجيح] بالبينة المعارضة لمزيتها بخروج القرعة لها؛ لأن القرعة لو انفردت عن البينة، لم ترجح بها الدعوى؛ ولهذا قال الشافعي: إنه يحلف: إن بينتي لصادقة فيما شهدت [لي به].
وقال الماوردي: إن القولين في التحليف مأخوذان من اختلاف قولي الشافعي في أن القرعة هل دخلت ترجيحاً للدعوى أو للبينة؟
فأحد القولين: أنها دخلت ترجيحاً للبينة؛ فعلى هذا لا يجب على من قرعت بينته؛ لأن الحكم بالبينة، ولا يمين مع البينة.
والقول الثاني: أنها دخلت ترجيحاً للدعوى؛ [فيجب إحلاف المدعي؛ وعلى هذا يكون فيما يثبت به الحكم وجهان:
أحدهما: اليمين مع البينة] ويكون يمينه بالله: إن ما شهدت به بينته حق، وقد نص عليه الشافعي، أي: في الدعاوى والبينات؛ كما حكاه في "البحر".
والثاني: أن الحكم يثبت بيمينه؛ ترجيحاً بالبينة؛ وهذه الطريقة هي المشهورة على قول الاستعمال.
وعن القاضي ابن كج: أنه حكى عن القاضي أبي حامد: أن الأقوال الثلاثة لا تجمع؛ بل موضع قول القسمة: ما إذا أمكن الجمع، وموضع قول القرعة: ما إذا لم يمكن.
أما إذا أقر الثالث الذي في يده العين بها لأحدهما بعد قيام البينتين، فإن قلنا بالتساقط، رجع إليه، وإن قلنا بالاستعمال فهل يرجح به؟ فيه وجهان:
أحدهما: نعم؛ لأنه يصير صاحب اليد.
والثاني: لا؛ لأن يد الثالث بعد قيام البينتين واستعمالهما مستحقة الإزالة بالاتفاق فلا تأثير لها، ولا اعتبار بإقرار صاحبها.
وقد أجاب القائلون بالقول الصحيح في أصل المسألة- وهو قول التساقط- عن القياس على نسيان السابق من النكاحين-: أنه يمكن التذكر فيه، وهاهنا لا يرجى زوال ذلك بالتذكر.
وعن حديث أبي موسى [الأشعري]: بأنه يحتمل أن يكون المدعى به في أيديهما؛ فأبطل البينتين، وقسم بينهما، على أنه روي عنه أنه قال:"ولا بينة لهما".
وعن حديث سعيد بن المسيب: بأنه يحتمل أن يكون ذلك الشيء عتقاً أو قسمة؛ كذا قاله ابن الصباغ: وقد يأتي في بعض الصور الجزم بالقول الصحيح، وبيانه: ما إذا تعارضت البينتان في نكاح امرأة تنازعه رجلان؛ فإن الأصحاب قالوا: لا شك أن قول القسمة لا يجري، وكذلك قول الوقف؛ فإن الاصطلاح في النكاح غير ممكن؛ فلا معنى لحبس المرأة أبداً.
فأما القرعة فقد تردد فيها الأصحاب:
فمنهم من قال بجريانها، وهذا ضعيف في "تعليق" القاضي الحسين وغيره.
ومنهم من ذهب إلى المنع، وهو الأصح، وبه جزم في "التهذيب"؛ وعلى هذا يلزم القطع بالتساقط؛ كذا قاله الإمام.
واعلم أن الشيخ جعل العين إذا كانت في يدهما، وأقام كل [واحد] منهما بينة- كما لو كانت العين في يد غيرهما، وهو ما اختاره في "المرشد".
والشيخ أبو حامد قال: إنها تكون بينهما، وهل يحتاج كل واحد منهما أن يحلف على النصف الذي في يده؟ فيه قولان؛ لأن لكل واحد منهما بينة ويداً على النصف؛ فهو كما لو أقام كل واحد منهما بينة، والعين في يد أحدهما؛ فإنه يقضي بها لصاحب اليد، وهل يحتاج إلى اليمين؟ فيه قولان.
وهذا ما حكاه ابن الصباغ عن "الأم"، ولم يورد البغوي سواه؛ وكذلك الماوردي في باب الدعاوى في وقت دون وقت، وطرده فيما إذا شهدت بينة أحدهما بأنه اشتراها من زيد، وهي ملكه، وبينة الآخر: أنه اشتراها من زيد- أيضاً- وهي ملكه، وكان التاريخ واحداً، ولم يعلم السابق منهما.
ووجهه البغوي: بأن بينة كل واحد منهما ترجحت في النصف الذي بيده؛ فقضي له به.
وبيانه: أن من أقام البينة منهما أولاً، فإنه يقيمها على ملك النصف الذي في يد صاحبه، والثاني يقيمها على ملكه للكل، وتسمع منه؛ لأنه في النصف الذي في يد صاحبه خارجي، وفي النصف الذي في يده داخلي، فقد قامت عليه البنية بما في يده، ويحتاج من أقام البينة على النصف أولاً أن يقيمها ثانياً على ملكه لما كان في يده.
قال الرافعي: وكأن هؤلاء امتنعوا من إجراء الأقوال، وقالوا: موضع الأقوال ما إذا خلت البينتان عن الترجيح، واليد من أسباب الترجيح.
والحاصل للفتوى على الطريقين معاً: إبقاء المال في يديهما كما كان، ومحلهما: إذا شهد شهود كل واحد منهما له بجميع المال- كما ذكرناه- فأما إذا شهد شهود كل واحد منهما بالنصف الذي في يد صاحبه، فالبينتان لم تتواردا على شيء واحد حتى يقال بالتعارض، ولا يد للمدعي في المشهود به حتى [يترجح] جانبه، ولكن يحكم القاضي لزيد بما في يد عمرو، ولعمرو بما في يد زيد، ويكون المال في يدهما- أيضاً- كما كان، ولكن بجهة التساقط، لا بجهة الترجيح باليد.
وفي "الإبانة" في هذه الحالة- أعني: حالة إقامة كل منهما [البينة] على ملك جميع الدار-: أنه يجيء قول القسمة، ولا يجيء قول الوقف؛ إذ لا معنى للتوقف مع ثبوت اليد، وهل تجيء القرعة؟ فيه وجهان.
وكلام الإمام الذي حكيناه من قبل عند الكلام فيما إذا كانت العين في يد أحدهما، يأبى ذلك، ويقتضي موافقة الشيخ أبي حامد، وقد صرح به في موضع آخر؛ حيث قال: إن كل واحد منهما إذا أقام بينة، والعين في يديهما، لم تؤثر البينتان في تغيير ما كانا عليه قبل الخصام، بل كل واحد على نصف الدار، غير أنهما كانا على ظاهر اليد، وقد ثبت الملك لكل واحد منهما في النصف.
قال: وإن كانت بينة أحدهما شاهدين، وبينة الآخر شاهداً ويميناً- ففيه قولان:
أحدهما: [أنه] يقضي به لصاحب الشاهدين؛ لأنها بينة مجمع عليها،
وبينة الآخر مختلف فيها.
وأيضاً: فإن التهمة متوجهة في اليمين، وغير متوجهة في الشهادة؛ وهذا أصح في "الحاوي"، و"النهاية" وعند الغزالي، وصاحب "المرشد"، والنواوي، وغيرهم.
وقال في "البحر": إنه ليس بشيء.
والثاني: أنهما سواء؛ لأنهم استويا في إثبات الملك عند الانفراد؛ فأشبه ما لو كانت بينة أحدهما شاهدين، وبينة الآخر شاهداً وامرأتين؛ فإنه لا تترجح إحداهما على الأخرى؛ على المشهور.
وادعى الإمام فيه اتفاق الأصحاب؛ وهذا ما حكاه القاضي الحسين قبيل كتاب الدعاوى من الجديد.
وعلى هذا قال: فتتعارضان، وفيهما قولان، وقد سبق توجيههما.
وعن الماسرجسي رواية قول آخر حكاه الفوراني- أيضاً-: أن الرجلين يترجحان على رجل وامرأتين؛ لزيادة الوثوق بقولهما؛ وكذلك يثبت بقول رجلين ما لا يثبت بقول رجل وامرأتين، وقد أبدى الإمام هذا احتمالاً لنفسه؛ تفريعاً على ما سنذكره عن القديم وأيده: بأن من أقام رجلاً شاهداً، وأراد أن يحلف معه في المال، أمكنه ذلك، ولو أقام امرأتين، وأراد أن يحلف معهما، لم يجز.
قلت: ولو بني الخلاف في تعارض الشاهدين، والشاهد واليمين على أن الحكم عند وجود الشاهد واليمين يقع [باليمين، أو بالشاهد]، أو بهما- لم يبعد، ويقال: إن قلنا: إنه يقع باليمين، أو بهما- فلا تعارض؛ لما تقدم أن البينة أقوى من اليمين. وإن قلنا: يقع بالشاهد فقط، فيجيء التعارض؛ لأن الحكم إذا وقع بالشهادة، لم ينظر إلى عدد الشهود؛ ألا ترى أنه إذا أقام أحدهما شاهدين، والآخر عشرة- وقع التعارض؟
على أن الماوردي والقاضي الحسين وغيرهم قد حكوا عن القديم قولاً: أن البينة المشتملة على زيادة عدد أولى، والحكم بها أحق، وطردوه فيما إذا كانت إحدى البينتين أظهر في العدالة من الأخرى؛ كما هو مذهب الإمام مالك فيهما.
والأكثرون نفوا عن الشافعي هذا القول، وجزموا بعدم الترجيح في هاتين
الصورتين، وحملوا ما حكي عنه على حكاية مذهب الغير.
والطريقان جاريان فيما إذا خصت إحدى البينتين بزيادة فقه.
قال في "الوسيط": أو كان في إحدى الجانبين شهادة أحد الخلفاء الأربعة.
والصحيح- وإن ثبت الخلاف- عدم الترجيح بما ذكرناه؛ وهذا بخلاف الرواية حيث رجحوا بهذه الأمور؛ لأن الشهادة نصاب مقدر؛ فيتبع، وليس للرواية ضبط؛ فيعمل بما غلب على الظنون.
ومنهم من ألحق الرواية بالشهادة.
فرع: إذا قلنا بالقديم، وكان من جانب [صاحب] اليد شاهد ويمين، ومن جانب الخارج شاهدان- ففي "تعليق" القاضي الحسين حكاية وجهين:
أحدهما: تترجح بينة صاحب اليد.
والثاني: تترجح بينة الخارجي.
ولو كان من جانب عشرة من أوساط العدول، ومن جانب عدلان، وهما على المنصب الأعلى في الثقة والتثبت- قال الإمام: فيجب على القاضي أن ينظر بينهما نظر المجتهدين في حرين يرويان خبراً.
قال: ولو شهدت بينة أحدهما بالملك من سنة، و [شهدت] بينة الآخر بالملك من شهر- أي: مع شهادتهما بالملك في الحال، والعين في يد ثالث- ففيه قولان:
أحدهما: تتعارضان، وفيهما قولان؛ إذ المقصود إثبات الملك في الحال؛ فلا تأثير للسبق؛ فإنه غير متنازع فيه، ولأن الشهادة بحديث الملك، لم تنف تقدم الملك، وإن أثبتته الأخرى؛ فصارتا متكافئتين.
وهذا ما حكاه "البويطي"، والمزني [في "المختصر"]؛ ولأجله قال القاضي الحسين: إنه الجديد. وصححه ابن كج وشرذمة، وعن ابن سريج، [والشيخ أبي علي،] وابن سلمة، وابن الوكيل: القطع به.
والثاني- وهو الصحيح-: أن التي شهدت بالملك القديم أولى؛ لأنها انفردت بإثبات الملك في زمان لا تعارضها فيه الأخرى؛ فوجب وقف التعارض وأمضي ما ليس فيه تعارض.
ولأن ثبوت ملك المقدم يمنع أن يملكه المتأخر إلا عنه، ولم تتضمنه الشهادة له؛ فلم يحكم بها.
وهذا ما رواه الربيع، واختاره المزني والأكثرون، ومنهم الشيخ أبو حامد وسالكو طريقه، والماوردي، والبغوي، وقال في "الشامل": إنه ظاهر المذهب. وقال القاضي الحسين والشيخ أبو علي: إنه القديم.
ويجري القولان- كما قال القاضي أبو الطيب، والبندنيجي- فيما إذا أقام أحدهما بينة: أنه ملكه من سنة إلى الآن، وأقام الآخر بينة [على أنه] ملكه الآن.
وفي بينة الزوجين على الزوجية إذا سبق التاريخ؛ كما قال الغزالي.
وكذا فيما إذا تعارضتا مع اختلاف التاريخ بسبب الملك؛ كما إذا أقام أحدهما بينة أنه اشتراه من زيد منذ سنة، والآخر [بينة] أنه اشتراه من عمرو منذ شهر.
وكذا فيما إذا تنازعا أرضاً مزروعة، وأقام أحدهما بينة: أنها أرضه زرعها، والآخر بينة أنها ملكه مطلقاً؛ لأن البينة التي شهدت بالزرع تثبت الملك في وقت الزراعة؛ هكذا ذكره صاحب "التهذيب"؛ تصويراً وتوجيهاً.
قال الرافعي: وفيه ما يبين أن سبق التاريخ لا يشترط أن يكون بزمان معلوم؛ حتى لو قامت بينة: أنه ملكه منذ سنة، وأخرى على أنه ملكه أكثر من سنة- كان موضع الخلاف.
قال: فعلى هذا إن كان مع أحدهما بينة بالملك القديم، أي: بالملك من سنة، ومع الآخر، أي: الذي شهدت له البينة بالملك من شهر، [يد] فقد قيل: صاحب اليد أولى؛ لأن [اليد أولى من] الشهادة بالملك القديم؛ كما سنذكره. وهذا ما نص عليه
الشافعي، وتابعه عليه جمهور أصحابه؛ كما قاله الماوردي، وصححه الرافعي، واختاره في "المرشد".
وقيل: صاحب البينة بالملك القديم أولى؛ لأن الترجيح من جهة البينة أولى من الترجيح من جهة اليد؛ [كما أن البينة أولى من اليد]. وهذا طريق ابن سريج؛ كما حكاه في "المهذب"، وأبي إسحاق؛ كما حكاه ابن الصباغ؛ وكذا الماوردي، وخطأه فيه، وطريقهما- كما حكاه القاضي أبو الطيب، وكلام القاضي الحسين- يقتضي أنه الضعيف؛ لأنه جعله بمنزلة من اشتملت بينته على زيادة في العدد، أو الورع، و [قد] قال ابن يونس: إنه الصحيح.
وفي "الوسيط" وجه [آخر]: أنهما تتعارضان.
وعلى قول الترجيح بالملك القديم في حال كون العين في يد ثالث فرع آخر، وهو: أن نماء العين وأجرتها يكون لمن شهدت له البينة بالملك القديم.
وعلى مقابله إذا قلنا بالتساقط فلا، وإن قلنا بالاستعمال فيكون له في الزمن الذي لم يقع فيه التعارض، وهو أحد عشر شهراً، وما حصل في الشهر الآخر تأتي فيه الأقوال؛ كذا أشار إليه الماوردي والرافعي.
وكلام ابن الصباغ يقتضي أن النماء له على كل حال؛ لأنه قال في توجيه القول بأن التي شهدت بالملك القديم أولى: ولهذا له المطالبة بالنماء في ذلك الزمان.
وعلى القولين فرع آخر بناه ابن سريج، وهو: إذا كان في يد رجل دار، فادعاها رجل، وأقام شاهدين: أنها ملكه، فحكم له بها، ثم جاء آخر، وأقام شاهدين: أنها ملكه- هل يحتاج الأول إلى إعادة بينته؛ ليحصل التعارض؟ قال: إن قلنا: إن بينة الأقدم مسموعة، وإنها أولى من بينة الأحدث- فلا يحتاج، ويقع التعارض. وإن قلنا: إن بينة الأقدم والأحدث سواء، ففي الاحتياج إلى إعادة البينة الأولى وجهان، والصحيح: أنها تعاد؛ لأنها غير موجودة الآن حتى يقع التعارض؛ حكاه أبو الطيب وابن الصباغ.
قال: وإن شهدت بينة أحدهما بالملك والنتاج في ملكه، وبينة الآخر بالملك
وحده- فقد قيل: بينة النتاج أولى- أي: وإن قلنا: إن البينة بالملك المتقدم لا يرجح بها- لأنها تنفي أن يتقدم عليه ملك لغيره، والشهادة بقديم الملك لا تنفي ذلك.
وأيضاً: فإن بينة الأقدم شهدت بالملك دون سببه؛ فساوت بينة الأحدث، وبينة النتاج شهدت بالملك وسببه؛ فكانت أولى؛ ألا ترى أنه لو شهد شاهدان أن هذا الولد ابن فلان، وشهد آخران أنه ابن هذا ولد على فرشه- كانت بينة الفراش أولى؛ لأنها شهدت بالنسب وسببه؟
وهذه طريقة أبي إسحاق وجمهور الأصحاب؛ كما قاله الماوردي، [وبها جزم القاضي أبو الطيب في كتاب العاقلة]، وفي "الشامل": أن هذا ضعيف. والقائلون بهذه الطريقة قصدوا بما ذكروه من الفرق الرد على المزني؛ فإنه استشهد لما اختاره في المسألة السابقة بنص الشافعي على أن بينة النتاج- كما ذكرنا-[أولى].
قال: وقيل: على قولين؛ كالمسألة قبلها؛ لأنه ليس في بينة النتاج أكثر من الشهادة بملك متقدم، فلتكن على القولين. وهذه طريقة ابن سريج وأكثر الأصحاب؛ كما [قاله الرافعي، وجميع الأصحاب؛ كما] قاله الإمام.
وحكى الماوردي عن ابن خيران: [أن] ابن سريج كان يقول: الشهادة بالنتاج ليستمن منصوصات الشافعي، وإنما أوردها المزني من تلقاء نفسه.
ثم الطريقان في مسألة النتاج يجريان- كما قال الماوردي- فيما لو تنتازعا ثوباً، وأقام أحدهما البينة على أنه له، نسجه في ملكه، و [أقام] الآخر البينة على أنه له.
ومن طريق الأولى: إذا تنازعا تمرة أو حنطة، فشهدت بينة أحدهما بأنها حدثت في ملكه من شجرته أو بذره؛ كما صرح به الرافعي.
قال الماوردي: ولا تجري طريقة القطع فيما إذا شهدت بينة أحدهما بسبب الملك من الابتياع أو الميراث، وشهدت الأخرى بالملك من غير ذكر سببه، بل هذه المسألة ملحقة بتقديم الملك. وهذا استنبطه الرافعي من الفرق الذي ذكره الأصحاب بين
مسألة النتاج ومسألة تقديم الملك.
وفي "تعليق" البندنيجي حكاية الطريقين في الكل، وألحق الغنيمة بالابتياع، وجعل الضابط في جريانهما: أن تشهد إحدى البينتين بالملك وسببه، وتشهد الأخرى بالملك المطلق.
قال: وإن ادعى كل واحد منهما: أنه ابتاع هذه الدار من زيد، وهي ملكه، أي: ملك زيد حالة العقد، وهي الآن في يد زيد، وأقام كل واحد منهما بينة على ما يدعيه- فإن كان تاريهما مختلفاً، أي: بأن كان تاريخ إحداهما في رمضان، وتاريخ ابلخرى في شوال، أو تاريخ إحداهما في يوم السبت، والأخرى في يوم الأحد.
قال: فهي للسابق منهما؛ لأنه ابتاعها وهي ملك للبائع، والآخر ابتاعها وقد زال ملكه؛ فلم يحكم له به.
قال القاضي أبو الطيب: ونحن وإن كنا نجوز أن يكون قد اشتراها ثم باعها، إلا أن الظاهر أنه ما اشتراها، فإذا ادعى أنه عاد واشتراها فعليه [البينة].
قلت: ويتجه تخريج وجه في تقديم المتأخر مما سنذكره فيما إذا كان في يد شخص عبد، وادعى العبد أنه أعتقه وهو ملكه، وادعى آخر: أنه اشتراه وهو ملكه، وأقام كل واحد منهما بينة بما ادعاه، وكان تاريخ العتق متأخراً، والمنقول أنها للأول.
وهكذا الحكم فيما لو كانت إحدى البينتين مطلقة، والأخرى مؤرخة، وقلنا بتقديم المؤرخة على المطلقة؛ كما هو أحد الوجهين؛ فيقضي لمن أرخت بينته؛ كذا صرح به أبو الفرج الزاز، ولمن قامت بينته بالابتياع المتأخر أن يرجع على البائع بما دفعه له من الثمن؛ إن شهدت بينته بقبضه.
قلت: وهذا من الأصحاب جواب على الأصح في [أن من قال في] حال المنازعة: هذا ملكي، وملك من اشتريت منه؛ فخرج مستحقا: أنه يرجع بالثمن.
أما إذا قلنا: إنه لا يرجع بالثمن فيما إذا قال: ملكي وملك من اشتريت منه- كما
قدمت حكايته في الباب وجهاً- فلا يرجع بالثمن هاهنا؛ لأن ذلك عين المسألة والله أعلم.
قال: وإن كان تاريخهما واحداً، [أو لم يعلم] السابق منهما- أي: إما لكونهما مطلقتين، أو لكون إحداهما مطلقة، والأخرى مؤرخة، ولم ينظر إلى تقديم المؤرخة؛ كما هو الصحيح.
قال: تعارضت البينتان، أي: في الملك دون العقد فيما عدا الأولى، وفيهما في الأولى؛ للمنافاة الحاصلة بينهما.
قال: وفيهما قولان:
أحدهما: تسقطان؛ لما تقدم.
وحكى الإمام وجهاً آخر: أنهما لا تسقطان في الصورة الثانية، وإن قلنا بالتساقط في الأولى؛ فإن صدق البينتين ممكن، فلعل أحدهما اشترى ثم عادت الدار إلى ملك المدعي عليه، فاشتراها الثاني.
وهذا حكاه الفوراني؛ بناء على الطريقة التي حكاها في أن التعارض إنما يصار إليه عند تحقق التكاذب، ولا وجه لهذا؛ فإنه لا نفع في تقدير صدقهما مع تعذر إمضائهما؛ فعلى هذا- أعني: قول التساقط- يرجع إلى البائع، فإن كذبهما حلف لكل واحد منهما، وغرم [له] ما شهدت [له] به بينته من الثمن الذي دفعه؛ لأن تعارض البينتين في البيع لا في دفع الثمن؛ كذا قاله في "الحاوي" هنا.
وفي "الإبانة" و"النهاية": أنه هل يرجع كل واحد منهما بما شهدت له به بينته من الثمن؟ فيه وجهان.
وقد حكى الماوردي فيما إذا شهدت بينة على شخص بعتق عبده، وشهدت بينة أخرى عليه بأنه باعه: أنا إذا قلنا بالتساقط لا يلزمه رد الثمن بالبينة، لأنها قد أسقطت في كل [ما شهدت به. ومن] اختلاف نقليه يجتمع الوجهان، وقد صرح بهما عند الكلام فيما إذا ادعى أحدهما أنه اشترى هذها لدار من زيد وهي ملكه، وادعى
الآخر: أنه اشتراها من عمرو وهي ملكه، وقال: إنهما ينبنيان على القولين في أن الشهادة إذا ردت في بعضها، هل ترد في الباقي؟
والصحيح في "الرافعي" وغيره: الرجوع.
وقال الإمام: إنه يرجع حاصله إلى تهاتر من وجه، واستعمال من وجه، وهو فقه لا ينقدح عند المحصل غيره؛ وهذا إذا لم تتعرض البينة لقبض المبيع، فإن تعرضت له، فلا رجوع بالثمن؛ إذ العقد قد استقر بالقبض.
وإن صدق أحدهما، وكذب الآخر، كانت الدار مبيعة من المصدق دون المكذب، فإن طلب المكذب إحلاف البائع بعد ذلك، قال القاضي الحسين: ذلك ينبني على أنه لو أقر هل يغرم؟ فإن قلنا: يغرم، حلف، وإلا انبنى على أن يمين الرد كالبينة أو كالإقرار؟ فإن قلنا: كالإقرار، لم يحلف، وإلا حلف.
فإذا حلف فنكل، وحلف المدعي فماذا يرجع به؟ فيه وجهان:
أحدهما: قيمة العين؛ لأنه ليس ببينة حقيقة.
والثاني: بالعين، وتنزع من يد المقر له؛ كما لو أقام بينة.
وقال البندنيجي والفوراني: طلب اليمين ينبني على أنه لو عاد وأقر للثاني، هل يغرم له؟ وفيه قولان: فإن قلنا: يغرم، حلف، وإلا فلا.
وهكذا حكى ابن الصباغ عن الشيخ أبي حامد، ثم قال: وينبغي عندي أن يجب عليه [رد] الثمن قولاً واحداً؛ لأنه اعترف بقبضه، وتعذر عليه تسليم المبيع، وإن لم يعترف فللثاني تحليفه؛ لما ذكرته.
قلت: وهذا منه يدل على أمرين:
أحدهما: أن المسألة مصورة بما قبل القبض، وأن الذي اختلف في الرجوع به الثمن إذا لم تكن البينة قد قامت بقبضه.
وقد قال القاضي الحسين بعد حكاية القولين في التغريم والتحليف- كما ذكرنا عن الشيخ أبي حامد وغيره-: إن هذا إنما يتصور إذا كان المبيع قد قبضه مدعي الدار ثم عادت إلى يد البائع، فجحده؛ ليحلفه على تغريم قيمة العين. أما إذا لم يكن
قد قبض المبيع، فأقر لأحدهما، للثاني تحليفه على تغريم الثمن؛ لأنه قد فات المبيع بإقراره، فهو كما لو غصبه أو غيبه.
وهذا منهما بناء على أن جناية البائع على المبيع قبل القبض كالآفة السماوية في انفساخ العقد، ولو نظرا إلى أنه كجناية الأجنبي، ولم يقولا بانفساخ العقد بمجرد الإتلاف، بل بثبوت الخيار- لقالا: إنه يثبت له الخيار، فإن فسخ كان له الثمن، وإلا فهل له طلب القيمة؟ ينبني [على] أن الحيلولة القولية التي لم ييأس معها [من] الرد، هل توجب الغرم؟ وفيه خلاف يأتي، ويدل على ذلك أن القاضي قال بعد ذلك: إذا لم يكن لهما بينة وادعيا عليه الدار- كما ذكرنا- فأقر لأحدهما، [فماذا يدعي عليه الآخر؟] ذلك ينبني على أصل، وهو أن جناية البائع على المبيع قبل القبض كآفة سماوية، أو كجناية أجنبي؟ إن قلنا: كآفة سماوية، فإنه يدعي عليه الثمن، وإن قلنا: كجناية أجنبي، انبنى على ما إذا قال: غصبت هذه الدار من زيد، لا بل من عمرو، هل يغرم القيمة أم لا؟
فإن قلنا: يغرم [ثم] فهاهنا يدعى عليه القيمة.
وإن قلنا: لا يغرم ثم انبنى على أن النكول ورد اليمين يكون كالإقرار أو كالبينة؟
وساق [مثل] ما حكيناه عنه من قبل.
وأما الماوردي فإنه قال فيما إذا اعترف لأحدهما، وطلب الآخر يمينه: إنه ينظر:
فإن كان قد سبق بالدعوى عليه قبل أن يصدق الآخر، كان له إحلافه؛ لأنه قد استحق اليمين بإنكاره قبل دعوى الآخر؛ فلم يسقط حقه منها بتصديقه لغيره.
وإن كانت دعواه بعد تصديق الآخر، فلا يمين عليه إن كانت قيمة الدار قدر ما بذله من الثمن، [وإن كانت أكثر من الثمن] فتحليفه ينبني على أنه لو عاد وصدقه، هل يغرم له الزائد من القيمة على الثمن [أم لا]؟ وفيه قولان: فإن قلنا: لا يغرم له، لم يحلف، وإلا حلف.
وهذا [قاله- والله أعلم]- بناء على ما حكيناه عنه أولاً في المسألة السالفة: أنه يرجع بما شهدت به بينته من قبض الثمن.
ولو صدقهما البائع، جعلت الدار بينهما، ويكون نصفها مبيعاً على كل واحد منهما بنصف الثمن الذي أقر به البائع؛ إن صدقه المشتريان على قدره، وإن كذباه حلفاه، وبطل البيع.
قال: والثاني: تستعملان: إما بالقرعة، أي: على قول من رآها؛ إذ لا مانع منها.
وقال الشيخ أبو محمد: إنها لا تجري فيما عدا الصورة الأولى. وهو ضعيف.
وعلى الأول هل يحلف من خرجت له القرعة؟ فيه القولان.
قال: أو بالقسمة [أي]: على قول من رآها؛ لما ذكرناه.
وعلى هذا قال العراقيون والقاضي الحسين: يثبت لكل [واحد] منهما الخيار في فسخ العقد وإمضائه بنصف الثمن الذي شهدت به بينته؛ لتبعيض الصفقة عليه.
ويجيء وجه في أنه إذا أجاز يجيز بكل الثمن كما ذكرناه في البيوع.
فإن اختارا الإمضاء كانا شريكين في الدار، ويرجع كل واحد منهما عليه بنصف ثمنه؛ بناء على أن الإجازة بالقسط لا بالكل.
وإن اختارا الفسخ، فإن فعلا ذلك في وقت واحد، انفسخ العقدان.
وإن فعل [أحدهما ذلك] قبل الآخر، فقد فسخ الأول دون الثاني.
قال الماوردي: لأن بفسخ الأول يكمل المبيع للثاني؛ فسقط خياره.
وإن اختار أحدهما الإمضاء، والآخر الفسخ، فالفاسخ يزول ملكه، والمجيز ينظر فيه:
فإن أجاز بعد فسخ الأول، كملت له الدار بجميع الثمن.
وفيه وجه حكاه القاضي الحسين وغيره: أنه لا يكمل له؛ كما سنذكره في الحالة الثانية.
وإن أجاز قبل فسخ الآخر، لم يكن له إلا نصف الدار بنصف الثمن؛ لأن سهم الفاسخ لم يعد إلا بعد استقرار العقد في ابتياع النصف.
قال الإمام: والذي نراه [أن] الترتيب على عكس هذا، فإن فسخ من بدأنا به، سلمنا الدار إلى المجيز وجهاً واحداً؛ لأن القسمة ليست معينة لعينها، وإنما هي للاستواء في الطلب والحجة وقيام النزاع؛ فإذا زال وجب التسليم [إلى] المطالب.
وإن رضي من بدأنا به بالبقاء، وفسخ الثاني، ففي رد النصف إلى الثاني وجهان؛ فإن الأول إنما رضي بالنصف لتقدير نزاع الثاني، فإذا زال فطلبه قائم.
وفي "الإبانة": أنه إذا فسخ أحدهما فيما يخصه، فهل على المدعي [عليه] تسليم ذلك إلى الآخر؟ فيه وجهان من غير تفصيل.
وهذا كله إذا لم تكن البينة قد تعرضت لقبض المبيع ولا جرى ذكره في الدعوى، أما إذا وجد ذلك، فلا خيار؛ لأن ما يحدث بعد القبض ليس على البائع عهدته.
قال: ولا يجيء الوقف- أي: عند من رآه في غير هذه الصورة- لأن المعقود عليه لا يوقف.
قال ابن الصباغ: فإن قيل: العقد [أيضاً لا ينقسم، وقد قلتم بالقسمة- قال: قلنا: إنما يقسم المعقود عليه، دون العقد] ولو قلنا: يوقف هاهنا، لأوقفنا العين والعقد.
على أني رأيت في "الحاوي"، و"البحر"، و"الشامل" في أوائل كتاب الدعاوى عند الكلام في التنازع في كراء الدار: أنهما إذا اختلفا في عقد، وكان لهما بينة، فإن قلنا بالاستعمال فلا يجيء قول الوقف؛ لأن العقود لا توقف، والقسمة لا تجيء أيضاً؛ لأنهما يتنازعان عقداً، ولا يمكن قسمة العقد؛ فلم يبق إلا القرعة؛ فيقرع بينهما، فإذا خرج السهم لأحدهما حكم له ببينته، لكنهم قالوا: ذلك فيما إذا اختلفا: هل وقع عقد الإجارة على الدار كلها، أو [عليها إلا بيتاً فيها]، وقد يظهر فرق بين هذه المسألة وبين مسألتنا.
وقد قال القاضي الحسين في مسألتنا: إن قول الوقف يجري، وإذا قلنا به أخذنا من البائع كلا الثمنين، ويعدلان- أيضاً- وهذا ما حكاه الإمام عند الكلام في هذه
المسألة، وقال قبل ذلك: إن من أصحابنا من قال: لا يوقف البيع. وهو غفلة ظاهرة؛ فإن الوقف الذي نمنعه في العقد إنما هو [وقف] العقد على وجود شرط قد تخلف عنه، أما التوقف في الخصومات فلا يمنع فرضه في البيع.
والذي أورده الشيخ هو ما حكاه العراقيون: كأبي الطيب، والبندنيجي، وابن الصباغ، ولم يحك الفوراني سواه.
وقد حكى الربيع قولاً ثالثاً في أصل المسألة: أن تعارض البينتين يوجب إبطال العقدين؛ فيكون كل واحد من البيعين باطلاً: كالمتداعيين نكاح امرأة يقيم كل واحد منهما البينة على أنه تزوجها من ولي، ولم يعلم أي العقدين سبق؛ فإنه يبطل النكاحان بتعارضهما.
قال الماوردي: وقد أنكر أصحابنا هذا القول، ونسبوه إلى تخريج الربيع، ومنعوا من اعتباره بالنكاح؛ لأن نكاح المرأة لا يجوز أن يكون بين زوجين، وشراء الدار يجوز أن يكون بين مشتريين؛ فبطل النكاحان لامتناع الشركة، ولم يبطل البيعان مع جواز الشركة.
وهذا كله إذا كانت العين في يد البائع، وكان منكراً أو ساكتاً، فلو صدق أحد المشتريين، فهل يوجب تصديقه ترجيح من صدقه على الآخر؟ فيه وجهان في "الحاوي" وغيره:
أحدهما- وهو قول المزني، وابن سريج-: نعم؛ لأنه أصل ذو يد؛ فعلى هذا يرجع إلى بيانه في أي العقدين تقدم، ولا يرجع إلى بيانه: أيهما باع؛ لأنه قد ثبت عليه البيعان بالبينة، فإذا بين أحدهما بالتقدم كان له البيع.
وقد استدل لهذا الوجه بأن الشافعي قال في كتاب الرهن: إذا كان لرجلين على رجل دين، وادعى كل واحد منهما أنه رهن عنده هذه الدار قبل صاحبه، وأقام على ذلك بينة، فأقر الراهن لأحدهما- أن بينة المقر له أولى. كذلك في مسألتنا، ولا فرق بين الرهن والبائع.
[والوجه الثاني-] وهو قول أبي علي ابن خيران، وعامة أصحابنا؛ كما قال
الماوردي، وأبو الطيب-: أن تصديق البائع لأجل يده غير مقبول في ترجيح بينة أحدهما؛ لاتفاق البينتين على زوال ملكه؛ فبطل بهما حكم ملكه، وإنما يرجع إلى يد يجوز أن تكون مالكة.
وما ذكره الأولون من الاستشهاد بمسألة الرهن غير دال لهم؛ لأن فيها قولين:
فإن قلنا: لا يقبل، سقط السؤال.
وإن قلنا: يقبل، فالفرق: أن الراهن ما زال ملكه عن الرهن؛ فقبل إقراره، وليس كذلك في مسألتنا.
فعلى هذا يجري القولان في التعارض، ويكون الحكم كما سبق.
وعلى الأول قال الماوردي: يجوز لكل واحد منهما أن يدعي عليه العلم بالأسبق، ويحلفه يميناً تخصه؛ لأنه لو بين بعد إنكاره قبل منه، فلو جمع بين المشتريين في البيان، لم يكن فيه بيان؛ لأن بيانه في التقديم، ويستحيل أن يكون [كل واحد منهما مقدماً] على الآخر في حالة واحدة.
وقال الشيخ أبو حامد: يكون بينهما بتصديقهما. وهذا ما أورده البندنيجي، والقاضي أبو الطيب، وقال: إن كل واحد منهما هل له تحليفه؛ لأجل النصف الذي لم يقر في يده؟ فيه قولان.
ثم قال الماوردي بعد حكاية قول أبي حامد: وهذا وهم إن كان قال هذا وهو يرى أن بيان البائع مقصور على التقدم بالعقد؛ لاستحالة اجتماعهما في التقدم، وإن قاله؛ لأنه يرى أنه يرجع إلى بيان البائع لأيهما باع- فهو ارتكاب مذهب لا يقتضيه المذهب.
ولو كانت الدار في يد أحد المشتريين، فقد قدمت ما قيل فيها، وكذلك إذا كانت في يديهما.
فروع:
لو شهدت إحدى البينتين في حال عدم التأريخ بأن الدار [ملك البائع] وقت البيع، أو كونها [ملكاً] للمشتري اليوم- كانت مقدمة.
قال الشيخ أبو عاصم: وكذا إذا كان في إحدى البينتين [أنها] في يد المشتري.
قال في "الإشراف": ولم يرد به مجرد اليد، بل أراد به اليد مع امتداد المدة على التصرف، ومع عدم المنازع.
وكذا لو كان في إحدى البينتين ذكر نقد الثمن دون الأخرى كانت مقدمة على الأرخى.
قال الشيخ أبو عاصم: سواء كانت سابقة أو مسبوقة؛ لأن التي تتعرض لنقد الثمن توجب التسليم، والأخرى لا توجبه؛ لبقاء حق حبس البائع؛ فلا تكفي المطالبة بالتسليم.
قال القاضي أبو سعد: وهذا غريب، لم أصادفه في كتب أصحابنا.
وفي "الحاوي" عند الكلام في الفرع الذي سنذكره بعده: أنه إذا شهدت بينة أحدهما بأنه ابتاعه منه، وقبضه، وشهدت بينة الأخرى: أنه ابتاعه منه، ولم يقولوا: إنه قبضه- فهل تترجح بينة من شهد له بالقبض؟ [فيه وجهان، والذي نص عليه الشافعي: الترجيح بالقبض؛ لأن البيع بالقبض] منبرم، وقبل القبض متردد بين سلامة المبيع فينبرم، أو تلفه فيبطل.
فرع: إذا كان في يد شخص عبد، وادعى عليه آخر: أنه باعه منه بكذا، أو أقام عليه بينة، وادعى العبد أنه أعتقه، وأقام عليه بينة- فإن [كان] تأريخ البينتين [مختلفاً]، قضى بأسبقهما.
وفي "الإشراف": أن هذا إذا لم يكن في البينتين إثبات الملك في يوم التصرف، فإن كان والإعتاق سابق تعارضت البينتان، قال: ويمكن أن يخرج قول أن السابق أولى مما سنذكره.
ولو كان البيع سابقاً، ففيه قولان:
أحدهما: السابق أولى.
والثاني: أن البينة الأخيرة أولى؛ إذ فيه تصديق البينتين؛ فإنه يحتمل أنه باعه منه، ثم اشتراه، ثم أعتقه.
وإن كان تأريخ البينتين واحداً، أو كان مطلقاً، أو كان أحدهما مطلقاً، والآخر مقيداً- فإن كان في يد المشتري فهل تترجح بينته بيده؟ فيه وجهان في "الحاوي"، وعليهما بنى الوجهين في الفرع قبله؛ كما ذكرنا، والذي جزم به القاضي أبو الطيب: الترجيح.
ولو كان العبد في يد البائع، فهل تترجح بينة أحدهما بتصديقه؟ فيه الخلاف السابق:
فإن رجحنا به: فإن صدق مدعي الشراء، لم يرجع عليه العبد بشيء، وإن صدق العبد، حكم بعتقه، وسقطت بينة بيعه، وهل لمشتريه أن يرجع [عليه] بالثمن ببينة؟ فيه قولان في "الحاوي"؛ بناء على أن الرد في البعض هل يوجب الرد في الكل؟
وإن قلنا: لا تأثير لتصديقه، فعن المزني تخريج قول للشافعي: أن تقديم بينة العبد أولى؛ لأن العبد في يد نفسه، وبينة صاحب اليد مقدمة.
وضعفه الأصحاب، وامتنعوا من إثباته قولاً، وقالوا: إنما يكون في يد نفسه أن لو كان حراً؛ على أن الحر هل يثبت له يد على نفسه؟ الذي حكاه الأكثرون- كما هو في "الحاوي"-[لا]؛ خلافاً لأبي إسحاق المروزي.
ثم على الصحيح في عدم ترجيح بينة العبد، ينظر: إن كان التاريخ واحداً تعارضت البينتان، وإن كانت البينتان مطلقتين، أو إحداهما مطلقة، والأخرى مؤقتة- ففي التعارض الطريقان:
منهم من قال: لا تعارض؛ لأن التكاذب لا يتحقق وجوده.
ومنهم من قطع بالتعارض؛ وعلى هذا ففي المسألة قولان:
فإن قلنا بالتهاتر، فالحكم كما لو لم تقم بينة؛ كذا قاله الرافعي، وقال: إن الحكم فيما إذا لم تقم بينة: أن للعبد ومدعي الشراء تحليف من هو في يده، ويحلف لكل منهما يميناً، فإن أقر بالعتق يثبت، ولم يكن للمشتري تحليفه إن قلنا: إن
إتلاف البائع كالآفة السماوية. نعم، لو ادعى تسليم الثمن، حلفه له. وإن أقر بالبيع قضى له، ولم يكن للعبد تحليفه.
وإن قلنا بالاستعمال، ففي مجيء قول الوقف الخلاف السابق.
وإن قلنا بالقرعة، قضى لمن خرجت له.
وعن ابن سريج: أنه قال: يقوى في هذه الصورة قول القرعة؛ لاشتمال الخصومة على دعوى العتق. وكذا قاله الماوردي.
فإن قرعت بينة الشراء، حكم له بابتياعه، وهل يحلف؟ فيه قولان.
وإن قرعت بينة العبد حكم بعتقه، ولزمه رد الثمن على المشتري؛ لأن بينته لم تسقط، وإنما ترجح غيرها، فوقفت.
وغن قلنا بالقسمة عتق نصفه، وثبت نصفه لمدعي الشراء بنصف الثمن، وله الخيار:
فإن فسخ، فالمشهور- وهو الذي أورده الماوردي وأبو الطيب-: أنه يعتق النصف الآخر أيضاً، وفيه وجه: أنه لا يعتق، وإيراد البغوي يشعر بترجيحه.
وإن أجاز المشتري، وكان المدعى عليه معسراً، لم يسر العتق، وإن كان موسراً ففي السراية وجهان أو قولان:
أصحهما عند القاضي أبي الطيب: السريان.
وعند الغزالي مقابله.
وقال البندنيجي: إنه المذهب، وإن الأول ليس بشيء.
ونقل أبو الفياض وجهاً: أن قول القسمة لا يجري هاهنا؛ تحرزاً من تبعيض العتق. وقد حكاه الماوردي أيضاً.
قال: وإن ادعى أحدهما: أنه اشتراها من زيد، وهي ملكه، وادعى الآخر: أنه اشتراها من عمرو، وهي ملكه، أي: والعين في يد ثالث، وأقام كل [واحد] منهما بينة على ما يدعيه - تعارضت البينتان؛ لأن كل واحدة شهدت بالملك لواحد، وبيعه من واحد، ولا يجوز أن تكون الدار كلها [ملكاً] لاثنين يبيعها كل واحد من واحد.
قال: وفيهما قولان سبق توجيههما.
وفي "الإبانة" حكاية قول آخر: أن بينة السابق أولى.
وعلى الأول- وهو الذي أورده القاضي الحسين وغيره- إن قلنا بالتساقط، فكأن لا بينة، وسألنا من العين في يده: فإن اعترف بها لأحدهما، قضى له، وهل يحلف للآخر؟ فيه قولان.
وإن اعترف بها لهما، قضى بها لهما، وهل يحلف لكل منهما على نصف ما اعترف به؟ فيه قولان.
وإن قلنا بالاستعمال زال ملك من هي في يده عنها، ويجيء قول القرعة، والقسمة، وفي قول الوقف ما ذكرناه من اختلاف الطريقين.
فإن قلنا: يقرع، فهل يحلف من خرجت له القرعة؟ فيه قولان.
وإن قلنا: يقسم، كان لكل منهما نصفها بنصف الثمن الذي ادعاه، ويرجع على بائعه بنصف الثمن.
وهذا إذا لم يكن قد اعترف بقبض المبيع، ولا قامت [عليه] به بينة، ولكل منهما الخيار:
فإن اختار أحدهما الرد، والآخر الإمساك، رجع الراد بجميع الثمن على بائعه، ورجع من أمسك بنصف العين بنصف الثمن، ولا يكون له كل العين، سواء تقدم اختيار إمساكه على رد الراد أو تأخر.
قال البندنيجي: ولا فصل بين هذه المسألة والتي قبلها إذا كان البائع واحداً والمشتري اثنين إلا في هذا الفصل فقط؛ لأنه يؤدي الأخذ لو قيل به إلى أن يأخذ من غير بائعه، وإلا فالفقه فيهما سواء حرفاً بحرف.
ولو كان قد أقر بقبض المبيع، أو قامت به بينة، لم يرجع بشيء من الثمن، ولا خيار له في فسخ العقد كما تقدم، وهذا ما أورده الجمهور.
وفي "الحاوي": أن الثالث إذا ادعى العين ملكاً لنفسه، فدعواه مردودة بكل واحدة
من البينتين، لكن لا تنزع من يده قبل بت الحكم من المتنازعين، وقد تعارضت البنيتان فيه ملكاً في حق البائعين، ومبيعاً في حق المشترين، فإن قلنا بإسقاط البينتين، كان [كل] واحد من البائعين خصماً للآخر في ملكه، وكل [واحد] من المشترين خصماً لبائعه في ابتياعه؛ فيتحالف البيعان على ملكه: فإن حلفا حكم لهما، وإن نكلا جعل بينهما، وإن حلف أحدهما، ونكل الآخر، فهل ترد يمين النكول على مدعي ابتياعه؟ على قولين من اختلاف قوليه في غرماء المفلس: فإن قلنا: إنها ترد عليهم، ردت على المشتري منه، وإلا فلا.
ثم إن حكم بالعين للبائعين، صار كل واحد من المشتريين مدعياً على بائعه بابتياعه جميع العين، ودفع ثمنه، فإن صدقه مبتاعه على دعواه، صح البيع في النصف الذي صار إليه، وبطل في نصفه الذي كان في ملك غيره، وثبت للمشتري الخيار، وإن أكذبه بائعه في ابتياعه، حلف له، ولا بيع بينهما، وهل يستحق عليه الرجوع بثمنه الذي شهدت به بينته؟ فيه قولان من اختلاف قوليه في أن الشهادة إذا ردت في بعض ما شهدت به، هل يوجب ردها في باقيه.
وإن حكم بالعين لأحد البائعين، كان الحكم بينه وبين المشتري منه في الكل كما ذكرناه في النصف، إلا أنه لا خيار له إذا صح البيع هاهنا، والمشتري الآخر هل يرجع بالثمن الذي بذله على بائعه بمقتضى بينته؟ فيه القولان.
وإن قلنا بالاستعمال بالقرعة، فأيهما خرجت له القرعة، حكم له، وفي إحلافه قولان، وردت البينة المقروعة في ملك الآخر وبيعه، ولم ترد فيما شهدت به من دفع الثمن قولاً واحداً؛ لأنه لم يكن ردها إسقاطاً، وإنما كان ترجيحاً.
وإن قلنا بالاستعمال بالقسمة، قسمنا العين بين المشتريين نصفين، ولكل واحد منهما الخيار في إمضاء البيع في نصفه بنصف الثمن، واسترجاعه باقيه، أو فسخ البيع واسترجاع جميع ثمنه، والله أعلم.
أما إذا كانت العين في يد أحد البائعين، فقد قال الشيخ في "المهذب"، والقاضي أبو الطيب والبندنيجي وابن الصباغ: إن الحكم كما إذا كانت في يد ثالث؛ كما
ذكرناه؛ بناء على الصحيح في أنه لا ترجيح بقوله.
أما إذا قلنا بقول المزني وابن سريج: أن من صدقه البائع تترجح بينته، رجع إل البائع الذي في يده العين.
وفي "الحاوي": الجزم بهذا؛ لأنها بينة داخل تندفع بها بينة الخارج؛ وهذا بناه على أصله في أن البائع خصم في هذه الحالة؛ كما ذكرناه من قبل.
قال: فيؤخذ بتسليم العين إلى مشتريها منه، ويبطل بيع الآخر، ويؤخذ بائعه برد الثمن، ولا يمين للبائع الآخر، ولا للمشتري على من ترجحت بينته من البائع والمشتري؛ لأن الحكم ثبت لهما بالبينة ترجيحاً باليد، ولا يمين مع البينة.
وقال فيما إذا كانت العين في يد البائعين: إنه لا تخاصم بين المشتريين فيه، وخصمه فيه هو بائعه؛ ليسلم إليه ما باعه عليه.
ثم إن تنازع البيعان، وادعى كل واحد: أنه مالك لجميع العين، وبينة كل واحد من المشتريين في البيع هي بينة لكل واحد من البائعين في الملك، ولكل واحد منهما بينة داخل في النصف الذي بيده، وبينة خارج في النصف الذي في يد صاحبه، وهل لواحد منهما أن يحلف صاحبه؟ فيه القولان، فإن قلنا بالتحليف، حلفه: إنه لا حق له فيما في يده، لا أنه مالك لما في يده؛ لأنه يحلف على الإنكار، لا على الإثبات، ويصير كل واحد مالكاً لنصفها، وبائعاً لجميعها؛ فيكون كل واحد من المشتريين بالخيار بين إمضاء البيع في نصفها والرجوع بنصف ثمنه، وبين فسخ البيع في جميعها والرجوع بجميع ثمنه.
وإن تصادق البائعان على أن كل واحد منهما مالك لنصف العين، فينقطع التحاكم بينهما بالتصاقد.
وفي انقطاع خصومة المشتريين بانقطاعها بين البائعين وجهان، فإن قلنا بالانقطاع، كان الحكم كما تقدم؛ وإلا فلكل واحد من المشتريين المخاصمة مع من في يده العين؛ لأنه يدعي ملك جميع العين، وقد صار إلى نصفها مع بقائه في حق غيره.
ولو كانت العين- والحالة لهذه – باقية بعد في يد البائعين وقت الخصومة بين
المشتريين، كان لكل واحد [منهما] مطالبة بائعه بتسليم ما ابتاعه منه، وهو لا يقدر إلا على تسليم النصف الذي في يده، فإذا قبض كل واحد منهما نصفه، تحاكم فيه المشتريا،، وكان حكمهما كما سنذكره.
ولو كان البائعان قد سلماها للمشتريين، كان كل واحد منهما خصماً لصاحبه فيما في يده، ويتحالفان، ولا تستعمل بينتاهما لأنها لا تفيدهما أكثر من قسمته بينهما: فإن حلفا أو نكلا، كانت بينهما.
وإن حلف أحدهما، ونكل الآخر، حكم بجميعها للحالف، ولم يلزمه لبائعه- إن لم يكن قد أقبضه الثمن- إلا نصف الثمن وإن صار مالكاً لجميعه؛ لأن البائع مقر أنه لا يملك إلا نصفه.
وإن كان قد أقبض جميع الثمن، فليس له المطالبة بشيء منه؛ لأنه مقر باستحقاقه عليه، وليس للمشتري الناكل رجوع بدركه على بائعه؛ لأنه مستحق من يده بنكوله، ولو حلف لكان مقراً في يده.
ولو كانت العين في يد أحد المشتريين- أي: في ابتداء الخصومة- ولا تصديق من البائعين، ترجحت بينته بيده وجهاً واحداً، صرح به القاضي أبو الطيب وغيره، وكذا الماوردي، وقال: إن هذا بخلاف ما لو كان في يده والبائع عليهما واحد على أحد الوجهين.
وفي هذه الحالة يلزم من [العين] في يده جميع الثمن، ويرجع الآخر على صاحبه بجميع الثمن، وليس له مخاصمة صاحبه في الشراء؛ لأنه قد استقر ابتياعه لجميع العين بحكم بات، وينقطع التنزع بين البائعين كانقطاعه بين المشتريين؛ لتفرد الحكم بالبينة واليد للبائع والمشتري منه، على البائع الآخر والمشتري منه.
ولو كانت في يد المشتريين، جعلت بينهما نصفين، ولكل واحد منهما إحلاف صاحبه قولاً واحداً.
وفي كيفية يمينه قولان من اختلاف قوليه في تعارض البنتين:
فإن قيل باستعمالهما، كانت يمين كل واحد منهما على النفي دون الإثبات؛ لأنه قد ملك بالبينة؛ فلا يمين مع البينة.
وإن قيل: إن تعارضهما موجب لإسقاطهما، كانت يمين كل واحد منهما على الإثبات دون النفي؛ فيحلف بالله: لقد ملكتها بالابتياع من فلان؛ لأنه لم يملك بالبينة؛ فصار مالكاً باليمين.
فإن حلفا أو نكلا، كانت العين بينهما، ولا رجوع لواحد منهما بالدرك على بائعه.
وإن حلف أحدهما، ونكل الآخر، حكم بالجميع للحالف، ولزمه ثمن الجميع لبائعه، ولا يرجع الناكل على بائعه بشيء من الثمن.
فلو أحال المشتريان التحالف على البائعين؛ ليكونا خصمين فيه- ففيه قولان:
إن قلنا بإسقاط البينتين بالتعارض، تحالف البائعان، وكان كل واحد من المشتريين خصماً لبائعه.
وإن قلنا باستعمالهما، لم يتحالف البائعان؛ لبت الحكم عليهما بالبينة، ولا رجوع لواحد منهما بالدرك على بائعه وإن تداعياه، ولهما الرجوع بدركه إن لم يتداعياه.
وإذا لم يرجعا بالدرك، فلا خيار لهما في فسخ البيع.
وإن جعلنا لهما الرجوع بالدرك، كان لهما الخيار في فسخ البيع.
قال: وإن كان في يد زيد دار، فادعى كل واحد منهما: أنه باعها منه بألف، وأقام كل واحد منهما بينة على عقده: فإن كان تأريخهما واحداً- أي: مثل أن قالت كل واحدة من البينتين: إن العقد صدر مع الزوال يوم كذا- تعارضت البينتان؛ لاستحالة كون جميع الدار ملكاً لشخصين في آن واحد.
قال: وفيهما قولان سبق توجيههما:
فإن قلنا بالتساقط، رجع إلى من في يده العين، فإن ادعاها لنفسه، حلف كل واحد منهما، وقضى له، وإن أقر لأحدهما، لزمه الثمن له، ويحلف للآخر قولاً واحداً؛ لأنه لو أقر لغرم له؛ فإنه يقر له بمال في ذمته. وإن أقر أنه ابتاعه من كل
[واحد][منهما]، لزمه الثمنان. وإن أقر أنه ابتاعه منهما فقد أقر لكل واحد بنصف الثمن، وله أن يحلفه على الباقي.
وإن قلنا بالاستعمال، جاء قول القرعة والقسمة، وفي مجيء قول الوقف الخلاف السابق بين الفريقين.
فإن قلنا بقول القرعة، فهل يحلف من خرجت له القرعة؟ فيه القولان، والذي لم تخرج له، [له] أن يحلف المشتري.
وإن قلنا بقول القسمة، لزمه نصف ثمن كل واحد، ولا خيار له؛ لأنه يحصل له تمام المبيع، ولا غرض له في عين البائع؛ وهذا ما حكاه الماوردي والبندنيجي وأبو الطيب.
وعن أبي الحسين بن القطان ثبوته؛ لأنه قد يرضى بمعاملة واحد، ولا يرضى بمعاملة اثنين.
فرع: لو شهد شاهدان: إنه اشترى [من] فلان ساعة كذا، وشهد آخران: إنه كان في تلك الحالة ساكناً- فهل تقبل هذه الشهادة الثانية ويحكم بالتعارض، أو لا تقبل؟ فيه خلاف:
والذي ذهب إليه الأكثرون- كما ذكره الإمام- أنها مردودة؛ لتعلقها بالنفي، ومبنى الشهادة على التعرض للإثبات.
ومقابله: موجه بأن هذا نفي يمكن تقدير العلم فيه.
وقد ادعى الرافعي في الفروع التي ذكرها في آخر كتاب الطلاق: أنه ظاهر المذهب؛ لأنه قال: لو رأى ذهباً، وحلف بالطلاق: إنه الذهب الذي أخذه من فلان، فشهد شاهدان: إنه ليس ذلك الذهب، وإنه حانث- فظاهر المذهب: وقوع الطلاق وإن كانت هذه شهدة على لانفي؛ لأنه نفي يحيط العلم به.
قال: وإن كان تأريخهما مختلفاً- أي: بأن شهدت بينة أحدهما بأن عقده جرى في مضان، وبينة الآخر بأن عقده جرى في شوال- لزمه الثمنان؛ لأنه يمكن الجمع بينهما: بأن يكن قد اشترى من الأول في رمضان، ثم باعه من الثاني، ثم اشتراه منه في شوال؛ وهذا كما قلنا في المرأة إذا ادعت أنه تزوجها يوم الخميس بألف، وأقامت بينة، ثم ادعت أنه تزوجها يوم الجمعة بألف، وأقامت بينة؛ فإنا نوجب لها المهرين.
والفرق بين ذلك وبين ما [إذا] ادعى واحد أنه ابتاع هذه الدار من زيد في شعبان، وآخر أنه اشتراها من زيد في رمضان، حيث قدمنا السابق وإن كان مقتضى ما ذكرناه تقديم الأخير- أن ثم المدعى عين واحدة، فإذا باعها مالكها دفعة واحدة، كان البيع صحيحاً، وإذا باعها بيعة ثانية، كان البيع باطلاً؛ لأن ملكه قد زال عنها، وليس كذلك هنا، فإن المدعى ثمن في الذمة، والذمة تتسع لأثمان كثيرة؛ كذا قاله أبو الطيب، وغيره.
وفي "الشامل": أن الإنسان لا يشتري ملك نفسه؛ فاحتجنا عند شرائه ثانياً إلى تقدير الانتقال عنه قبل ذلك لمن اشترى منه ثانياً، بخلاف البيع؛ فإن الإنسان قد يبيع ملك غيره؛ ولم يكن التقدير محتاجاً إليه؛ فلا جرم حكمنا بالملك في تلك المسألة للأول، وهنا ألزمناه الثمنين.
قال: وإن كانتا مطلقتين، أو إحداهما مطلقة والأخرى مؤرخة- فقد قيل: يلزمه الثمنان؛ لاحتمال أن تكونا في وقتين؛ وهذا ما حكاه الماوردي والإمام [عن الأكثرين]، وهو الأصح عند القاضي الحسين وابن الصباغ والإمام والغزالي والنواوي.
وقيل: يلزمه ثمن واحد؛ لأنه المتيقن وجوبه، ويسقط الآخر؛ لأنا نشك في وجوبه؛ وهذا نقل الشيخ أبي حامد.
وقال في "المهذب" وغيره: يدل هذا الطريق الثاني: أنهما يتعارضان كالمؤرختين بتاريخ واحد؛ لأنه يحتمل ويحتمل، والأصل براءة الذمة.
وأيضاً: فإن المدعيين متفقان على أنه لم يجز إلا بيعة واحدة منهما، وهذا الطريق يحكى عن القاضي أبي حامد وأبي الحسين وغيرهما.
وعلى هذا يكون فيهما قولان:
أحدهما: تسقطان، ويكون الحكم كما تقدم.
والثاني: تستعملان بالقرعة، أو القسمة. وفي الوقف الخلاف.
فإن قلنا بالقسمة، لزمه نصف كل واحد من الثمنين، وهو المعني بقول الشيخ: وقيل: يلزمه ثمن واحد.
وحكى الإمام على قول الاستعمال وجهاً آخر أبداه تخريجاً: أنا نثبت الثمنين، ولا تنخرج الأقوال الثلاثة فيه.
قال: وحينئذ فينتظم على هذا القول طريقان:
أحدهما: ثبوت الثمنين.
والثاني: إجراء الأقوال الثلاثة.
وفي "الرافعي": أن بعض أصحابنا قال: إن شهدت البينتان بالإقباض مع البيع وجب الثمنان لا محالة.
أما إذا أقام كل واحد منهما بينة على إقرار المدعى [عليه] بما [ادعاه]، قال الرافعي: فالأظهر: أن الحكم كما لو قامتا على البيعين أنفسهما، فينظر: إن قامتا
على الإقرار مطلقاً، أو شهد اثنان على الإقرار بالشراء من زيد في وقت الزوال، واثنان على الإقرار بالشراء من عمرو في ذلك [الوقت]، فيجيء ما ذكرناه.
وقيل: يجب الثمنان وإن كانت الشهادة على الإقرار مطلقاً، بخلاف الشهادة على البيعين مطلقاً؛ لأن الشهادة على الأقرار قد يثبت بها ما لم يثبت بالشهادة على نفس المقر به؛ ألا ترى أنه [لو] قامت بينة على إقراره بالغصب من زيد، وأخرى على إقراره بالغصب من عمرو لزمه قيمتان، ولو قامتا على نفس الغصب من زيد، والغصب من عمرو، تعارضتا، وإذا استعملنهاهما، لم يجب إلا قيمة واحدة.
وهذا الطريق لم يحك البندنيجي وأبو الطيب وابن الصباغ سواه، ونقله المزني عن الشافعي، واستشهد به على لزوم الثمنين في المسألة السابقة عند إطلاق البينتين، والأصحاب فرقوا بما ذكرناه.
تنبيه: ظاهر كلام الشيخ يقتضي أنه لا فرق فيما ذكرناه بين أن يقول كل واحد منهما: إن بيع الدار صدر منه وهو مالك، أو لا، [و] يدل عليه أنه قال:"وأقام كل واحد منهما بينة على عقده"، وهو ما حكاه أبو الفياض في "تتمة الجامع الصغير"، لكن لفظ الشافعي في "المختصر"- وعليه أكثر الأصحاب- تصوير المسألة بما إذا قال كل واحد منهما: إنها ملكه حالة البيع.
قال: وإن ادعى رجل ملك عبد، وأقام عليه بينة، وادعى الآخر، أي: المنازع له، أنه باعه منه، أو وقفه، أي: عليه، أو أعتقه، وأقام عليه بينة-[قضى] بالبيع، والوقف، والعتق؛ لأن البينة الشاهدة بذلك معها زيادة علم؛ لأنها شهدت بأمر حادث من المشهود له بالملك أولاً؛ فقدمكت على بينة الملك.
ولو أقام العبد بينة أنه حر، قال في "الإشراف": قال أصحابنا: بينة الحرية أولى.
وقال أبو حامد الإسفراييني: بينة الرق أولى؛ لأنها ناقلة من الأصل، فقد أفادت زيادة علم.
والمنازع في العتق تارة يكون العبد، وتارة [يكون] من ذكرناه في أول هذا الباب.
قال: وإن قال لعبده: إن قتلت فأنت حر، فأقام العبد بينة:[أنه قتل]، وأقام الورثة بينة أنه مات- ففيه قولان:
أحدهما: تتعارضان، ويرق العبد- أي: بعد حلف الورثة- لأن كل واحد تنفي ما تثبته الأخرى؛ فبينة القتل تثبته وتنفي الموت، وبينة الموت تثبته وتنفي القتل، فسقطتا، وكأن لا بينة؛ فيحلف الوارث على نفي العتق.
والثاني: تقدم بينة القتل؛ لأنها عرفت زيادة لا تعرفها الأخرى، وهي الموت قتلاً.
وأيضاً: [فإن] كل قتيل ميت، وليس كل ميت قتيلاً؛ فعلى هذا يعتق العبد.
وهذا هو الظاهر من القياس على ما ذكره أبو الحسن العبادي، ونقل طريقة قاطعة به، وقد صححه النواوي، واختاره في "المرشد".
وما ذكره الشيخ هو ما حكاه الأصحاب عن الشافعي في آخر كتاب الشهادات من "الأم"؛ لأنه ذكر هذه المسألة والتي تليها ثم.
قال ابن الصباغ: وينبغي أن يكون هذا الخلاف على قوله الجديد: إن البينتين إذا تعارضتا سقطتا، ويجيء على القول القديم الأقوال في الاستعمال.
وقد أورده الرافعي في المسالة فقهاً من غير أن يذكره احتمالاً لأحد، وهو المذكور في "تعليق" القاضي الحسين، و"النهاية" و"التهذيب".
وقال الرافعي: إنا إذا قلنا بالقسمة عتق نصفه، وإن قلنا بالقرعة عتق إن خرجت له القرعة، ورق إن خرجت للوارث.
والوقف لا يجيء، وقال الإمام: إن قول الوقف لا يخرج هاهنا؛ فإنه لا منتهى له، وهو يرجع في التحقيق إلى ضبط العبد وتعطيل منفعته.
ولا شك أنه لا يثبت القصاص بقتل السيد إذا ثبتت البينة من قبله؛ لأن الوارث امنكر للقتل. نعم، لو ادعى الوارث القتل، وأقام المدعي بينة أنه مات حتف أنفه- جرى القولان.
قال: وإن قال: [إن] مت في رمضان فعبدي حر، وإن مت في شوال فجاريتي حرة، ومات، فأقام العبد بينة [أنه مات] في رمضان، والجارية بينة بالموت في شوال- ففيه قولان:
أحدهما: تتعارضان، ويرقان؛ لتنافيهما.
وفي "النهاية": أنا إذا قلنا بالتساقط فقد عتق أحدهما، وأشكل الأمر، ولو اتفق مثل هذا لم يخف حكمه في أن الرجوع إلى الورثة، وكيف السبيل؟ وهو بمثابة ما لو قال: إن كان هذا الطائر غراباً فغانم حر، وإن لم يكن غراباً فسالم حر، ومر الطائر، وأشكل الأمر.
والثاني: تقدم [بينة] رمضان؛ لجواز علمها بذلك وخفاء الأمر على بينة شوال؛ وهذا ما صححه النواوي، واختاره في "المرشد".
وعن ابن سريج والمزني – كما قال الرافعي- أن بينة شوال أولى؛ لأن معها زيادة علم، وهو استمرار الحياة إلى شوال، وربما أغمي عليه في رمضان؛ فظنت البينة الشاهدة بالموت فيه الموت.
قال الرافعي: ولمن شرطه أن يطرده في نظائر المسألة من قبل ومن بعد.
وفي "التهذيب" أن ما ذكره الشيخ مفرع على القول الصحيح، وهو التساقط، أما إذا قلنا: تستعملان، فتجيء الأقوال الثلاثة.
قال الرافعي: وعلى قول القسمة يعتق من كل واحد منهما نصفه.
فرع: لو حكم الحاكم بشهادة شاهدي الموت في رمضان، ثم شهد على أنه مات في شوال شاهدان- فهل ينقض الحكم على القول الأول، وينزل ذلك منزلة ما لو شهدت البينتان معاً أم لا؟
عن ابن سريج تخريج قولين فيه؛ كما لو بان فسق الشهود بعد الحكم؛
قاله الرافعي والروياني وغيرهما.
وقد يطلب الفرق على مذهب ابن سريج بين هذا وبين ما إذا حضرت بينة صاحب اليد بعد الحكم للخارج بالبينة؛ فإنه قال ثم: ينقض الحكم جزماً.
قال: وإن قال لأحدهما: إن مت [بمرضي هذا] فأنت حر، وقال للآخر: إن برئت من مرضي هذا فأنت حر، ومات، وأقام كل واحد منهما بينة على ما يوجب عتقه- تعارضت البينتان- أي: قولاً واحد- لأن كل واحدة منهما تكذب الأخرى.
وفي "الرافعي" و"التهذيب" وراء ذلك وجهان:
أحدهما: أن بينة الموت من ذلك المرض أولى؛ لزيادة علمها بالموت، وقد حكاه الموردي قولاً آخر.
والثاني: أن بينة البرء أولى؛ لعلمها بالبرء، ويحكى هذا عن ابن القطان.
والصحيح [ما أورده الشيخ]، وهو المحكي في "الشامل" و"تعليق" البندنيجي عن نص الشافعي، والقاضي الحسين لم يورد سواه.
وعلى هذا قال الشيخ: وسقطتا، ورق العبدان: أي: إذا قلنا بالتساقط؛ كما هو الجديد، ولكل منهما تحليف الورثة.
وي "الحاوي": أنا إذا قلنا بالتساقط فقد انعتق أحدهما، ولم يتعين العتق فيه؛ فيرجع إلى بيان الورثة في ذلك.
فإن بينوا عتق أحدهما، عمل في ذلك على بيانهم، وحكم برق الآخر، وله إحلافهم.
وإن عدم بيان الورثة، أقرع بينهما، وعتق القارع، ورق المقروع.
أما إذا قلنا بالقديم- وهو قول الاستعمال-[فتجيء الأقوال]؛ صرح به الرافعي.
وحكى عن رواية ابن كج عن بعض [الأصحاب]: أنه إذا وجد التعارض في مثل هذا غلبت الحرية، ويجيء ما جزم به الشيخ من [طريقة] التساقط- أيضاً-
على الطريقة التي حكاها الإمام وغيره: أن محل الاستعمال إذا لم تتكاذب البينتان صريحاً، أما إذا تكاذبتا فلا؛ لأن هنا التكاذب صريح، والله أعلم.
قال: وإن شهد شاهدان: إنه أعتق سالماً- أي: في مرض موته- وهو ثلث ماله، وشهد آخران: إنه أعتق غانماً، وهو ثلث ماله، ولم يعلم الأول منهما- أي: وقد تحقق أن أحدهما بعد الآخر- ففيه قولان:
أحدهما: يعتق من كل واحد منهما نصفه؛ لتساويهما، وتعذر القرعة؛ إذ ربما خرج سهم الرق [على الحر] فيصير رقيقاً، وعلى العكس، فإذا أعتقنا من كل واحد نصفه، عتق نصف المقدم، وعتقه مستحق، ورق نصف المتأخر، ورقه مستحق.
وأيضاً: فإنه لو شهد شاهدان: إنه أوصى لهذا بثلثه، وشهد آخران: إنه أوصى لآخر بثلثه- قسم بينهما؛ فكذلك هاهنا؛ وهذا ما نص عليه في "المختصر" في باب الشهادة في الوصية، وهو الذي رجحه الروياني وغيره، وقال البندنيجي: إن أبا إسحاق وابن سريج قطعا به.
والثاني: يقرع بينهما؛ لامتناع الجمع بينهما، وعدم المزية في أحدهما؛ فكان إكمال الحرية في أحدهما أولى من تبعيضها فيهما؛ وهذا ما نص عليه في "الأم"، واختاره المزني وآخرون، ومنهم من قطع به، وحمل قول الشافعي في "المختصر" على ما إذا شهدت البينتان بالوصية بالعتق لا بتنجزه.
ومنهم من أجرى القولين في التنجيز والوصية؛ كذا قاله القاضي الحسين وغيره، والقولان في مسألة الكتاب- كما قال جماعة من الأئمة- كالقولين في الجمعتين والنكاحين في مثل هذه الحالة، فإن قلنا ببطلان النكاحين والجمعتين، أقرعنا هاهنا كما لو وقعتا معاً.
وإن توقفنا في النكاحين، وأمرنا الجميع بالظهر- أعتقنا من كل واحد منهما نصفه.
وقد فرع الماوردي وغيره على القولين في الكتاب إذا كانت قيمة أحدهما ثلث
المال، وقيمة الآخر سدسه، فقال: إن قلنا بالقرعة، فإن خرجت للذي قيمته الثلث، عتق جميعه، وإلا عتق جميع الآخر، ونصف هذا. وإن قلنا بالقسمة يعتق من النفيس ثلثاه، ومن الخسيس ثلثاه؛ كما لو أوصى لزيد بجميع ماله، ولعمرو بثلث ماله، وأجاز الورثة- فإنه يقسم المال بينهما أرباعاً؛ فإن الموصى له بالكل يضارب بثلاثة أمثال ما يضارب به الآخر. وهذا ما أورده الأكثرون، وتكون المسألة على هذا تصح من ثمانية عشر سهماً.
وفي "الوسيط" وجه آخر: أنه يعتق من النفيس ثلاثة أرباعه، ومن الخسيس نصفه؛ لأن النفيس يقول: إذا أعتقت أولاً فجميعي [حر]، وإن تأخرت فنصفي حر؛ فنصفي مسلم لا خلاف فيه، وإنما النزاع في نصفي الآخر، وقد قدر سدس بيني وبينك؛ فيقسم علينا.
قال: وهذا ينبغي أن يطرد في مسألة الوصية، فيقول الموصى له بالكل: أما الثلثان فهما مسلمان إلي، وإنما التزاحم في الثلث؛ فيقسم علينا؛ فيحصل له بالكل على خمسة أسداس، والآخر على سدس، وقد قطع الإمام بهذا التخريج، وقال: إنه لا فرق بين الصورتين.
أما إذا علم السابق منهما، فهو المعتق.
ولو وقع العتقان معاً، أقرع بينهما جزماً؛ للخبر.
قال القاضي الحسين: وهل يحلف من خرجت له القرعة؟ فيه وجهان.
ولو أمكن سبق أحدهما، ووقوعهما معاً، قال القاضي الحسين، وتبعه الإمام، والبغوي: فكذلك يقرع.
وقال الإمام وغيره: احتمال الترتيب أغلب، وأقرب من احتمال المعية، والسابق منهما غير معلوم، وإذا كان كذلك، وتعارضت البينتان، وأطلقتا- علمنا أن أحد العقدين سابق، ولم نعرفه بعينه؛ فيجيء القولان.
قال القاضي الحسين: ولا خلاف أنا إذا علمنا عين السابق، ولكن نسيناه: أنه يعتق من كل واحد منهما نصفه. وهذا قياس قول من قال: إذا علم السابق من النكاحين والجمعتين، ونسي: أنه يوقف، وهو الظاهر.
وقد حكى البغوي والرافعي في المسألتين طريقين:
أحدهما: هذا، وهو الذي أورده أبو الفرج السرخسي وغيره.
والثاني: طرد القولين.
قال: وإن ادعى عيناً في يد زيد، وأقام بينة بملك متقدم، فإن شهدت البينة: إنها ملكه أمس، لم يحكم له؛ لأنه يدعي ملك العين في الحال، والبينة لا تشهد له بذلك، وإنما تشهد له [بأنها له] بالأمس؛ فصار كما لو ادعى شيئاً، وشهدت له البينة بغيره.
ولأن ثبوت الملك سابقاً إن اقتضى بقاءه، فيد المدعي علي وتصرفه يدل على الانتقال إليه بحق؛ فلا يحصل ظن الملك في الحال.
قال: حتى تشهد البينة: إنه أخذها منه زيد- أي: بما لا يوجب زوال الملك- إما بمباح: [كإجارة] أو عارية، أو بمحظور: من غصب وتغلب؛ لأنه قد بان بالبينة أن اليد الطارئة غير موجبة للملك؛ فثبت بها حكم الملك المتقدم.
وهذا ما نقله المزني، والربيع؛ ولأجل ذلك قال القاضي الحسين والإمام: إنه الجديد، وهو المذهب.
وقيل: فيه قولان:
أصحهما: أنه لا يحكم له؛ لما ذكرناه.
ولأن دعوى الملك السابق لا تسمع [مجردة عن الملك في الحال]؛ فكذلك البينة [عليه].
والثاني: يحكم [له]؛ لأنه قد ثبت بالبينة أن العين كانت له بالأمس، والظاهر بقاء الملك؛ وهذا القول رواه "البويطي"، وقال القاضي الحسين والإمام: إنه القديم.
والطريقان جاريان- كما حكاه المصنف والبندنيجي وابن الصباغ والقاضي الحسين والإمام- فيما إذا شهدت البينة بأن العين كانت في يده بالأمس، وأكثرهم
حكوا النصين فيها، وقالوا: لا فرق بين أن تشهد له باليد أمس، أو تشهد له بالملك أمس، ووراء ذلك أمران:
أحدهما: حكى الماوردي الطريقين في الشهادة باليد السابقة، واقتضى إيراده أن البنية إذا شهدت بالملك القديم، سمعت جزماً؛ فإنه قال في توجيه الحكم بالشهادة باليد السابقة: إن اليد دالة على الملك؛ فجرت مجراه، وقد ثبت أن المدعي لو أقام بينة على أن الدار كانت له بالأمس، حكم له بها؛ كذلك إذا أقام بينة أنها كانت في يده بالأمس.
وأشار عند الكلام فيما إذا شهدت البينة: إن هذه الجارية بنت أمته، إلى خلاف في الصورتين، لكن بالترتيب، فإنه قال: مذهب الشافعي المشهور: أنه لا يحكم له باليد إذا شهدوا له بيد متقدمة وإن حكم له بالملك إذا شهدوا له بالملك المتقدم على أحد القولين، وأن "البويطي" وابن سريج كانا يجمعان بين الشهادة بقديم الملك، وقديم اليد في الحكم بها على أحد القولين، وقد ذكرنا من فروق أصحابنا بين قديم الملك وقديم اليد ما يمنع الجمع بينهما، وكأنه يشير إلى أن اليد السابقة لا تدل على الملك إلا ظاهراً، ويجوز أن تكون على غير ملك؛ كما علل به الأصحاب ما حكي عن الشافعي في "الأم" حيث قال: إذا شهد شاهدان: [إن] هذه الدار لفلان منذ سنة، وشهد آخران: إنها في يد آخر منذ سنة- أن بينة الملك أولى من بينة اليد؛ لأن اليد تكون على ملك، وغير ملك، بخلاف الملك.
الأمر الثاني: ادعى الغزالي في "الوسيط"، و"الوجيز": أنه لا خلاف في أن البنية لو شهدت بأنه كان [في] يد المدعي بالأمس- قبل، وجعل المدعي صاحب اليد. ولعل ذلك محمول على ما إذا شهدت البينة بذلك، وأن المدعى عليه أخذها من يده؛ كما نص على ذلك في "المختصر"، وصرح به الأصحاب.
ومن أجرى لفظه على ظاهره قال: إن الغلط وقع [في] ذلك من جهة أنه لما قدم أن البينة إذا أسندت الملك إلى محسوس بأن قالت: إنه كان في ملكه بالأمس، اشتراه من صاحب اليد: أنه يقبل- قال في الشهادة باليد أمس: إنها مقبولة كذلك.
والمنقول ما ذكرناه، والله أعلم.
ثم طريقة القولين في الصورتين هي المشهورة، وهي في "الشامل"، و"تعليق" البندنيجي منسوبة إلى ابن سريج، وقالا: إنه قال: أصل القولين ما إذا تنازعا داراً في يد غيرهما، وأقام أحدهما بينة: أنها ملكه منذ سنة إلى الآن، والآخر بينة: أنها ملكه في الحال- ما حكمهما؟
فإن قلنا: إنهما سواء، فهاهنا لا تسمع البينة بالملك المتقدم واليد السابقة.
وإن قلنا: بينة الملك القديم أولى، فهاهنا تسمع البينة بالملك المتقدم واليد السابقة.
وفي "الرافعي": أن بعضهم عكس فبنى الخلاف في تلك المسألة على الخلاف في هذه المسألة، وهو كذلك في "تعليق" القاضي الحسين.
وسلك الإمام طريقاًآخر، فقال: إن قلنا في المسألة التي جعلها ابن سريج أصلاً لهذه المسألة بالتساوي، فهنا لا نحكم بالبينة بالملك السابق واليد السابقة، وإن قلنا ثم: تترجح بينة الملك المتقدم، فإذ ذاك يجري القولان هاهنا: الجديد، والقديم.
والقائلون بالطريق الأول- ومنهم أبو إسحاق المروزي- قالوا: ما قاله "البويطي" من كيسه، لا من قول الشافعي.
والصحيح- وإن ثبت الخلاف-: عدم السماع عند الاقتصار على الشهادة بالملك المتقدم أو اليد، كما ذكره الشيخ.
أما إذا شهدت بالملك المتقدم، وقالت: إنه ثابت في الحال، أو: لم يزل، أو: لا نعلم له مزيلاً- سمعت؛ كما قاله الإمام والقاضي الحسين والرافعي، وترتب الحكم عليها.
وفي الحالة الأخرى أمران:
أحدهما: نقل ابن المنذر عن الشافعي: أنه يحلف المدعي مع البينة.
قال القاضي أبو سعد: وهو غريب، ووجهه: بأن البينة قامت على خلاف الظاهر، ولم تتعرض لإسقاط ما مع المدعى عليه من الظاهر؛ فأضيف إليها اليمين.
الثاني: قال ابن أبي الدم: إن في السماع وترتب الحكم نظراً؛ لأنها إذا شهدت:
إنه كان ملكه أمس، ولم نقبلها مجردة، فقولها: ولم يزل إلى الآن، نفي محض؛ فلا يقبل.
ثم حكي بعد ذلك أن الشاهد إذا قال: أشهد: إنه كان ملكه بالأمس، ولا أعلم مزيلاً- قال بعض الأصحاب: يكفي هذا.
وأكثرهم قالوا: لا يكفي، بل لابد من الجزم بالشهادة بالملك في الحال، ويجوز للشاهد أن يشهد بالملك في الحال؛ استصحاباً لحكم ما عرفه من قبل: كشراء، أو إرث وغيرهما، وإن كان يجوز زواله.
قال الإمام: ولم أر الأصحاب يشترطون في ذلك خبرة باطنة، معربة باستمرار الزمان يطلع بها الشاهد على ظهور دوام الملك.
نعم، لو صرح في شهادته: أنه اعتمد الاستصجاب فوجهان:
المحكي منهما في "الوسيط"، و"النهاية" عن الأصحاب: عدم القبول؛ كما لا تقبل شهادة الرضاع على امتصاص الثدي وحركة الحلقوم، وقد اختار هذا الشيخ أبو محمد وصاحب "التقريب".
وعن القاضي الحسين: القبول؛ لأنا نعلم أنه لا مستند له سواه، بخلاف الرضاع؛ فإنه يدرك بقرائن لا تدخل في العبادة.
ولو قال: لا أدري أزال ملكه أم لا؟ لم يقبل؛ صرح به القاضي الحسين.
فروع:
لو أقام الداخل بينة بأن العين ملكه بعد أن شدت بيبنة الخارج بأنها ملكه غصبها منه الداخل، كانت بينة الخارج أولى؛ كما حكاه [الشيخ] أبو علي عن ابن سريج.
وقال القاضي الحسين: فيه إشكال.
وعند الأصحاب بينة ذي اليد أولى، وهو المحكي عن الشيخ أبي علي.
والصحيح في "التهذيب"، والذي عليه كل العراقيين أو غالبهم:[الأول].
قال ابن أبي الدم: ولم يحك أحد منهم فيما أعلمه فيه خلافاً.
ولو شهدت البينة: إنه أقر أمس للمدعي بالملك، قبلت الشهادة، واستديم حكم الإقرار وإن [لم] يصرح الشاهد بالملك في الحال.
وحكى الإمام في "النهاية" عن صاحب "التقريب" في المسألة طريقين:
أحدهما: هذا.
والثاني: إلحاق ذلك بالشهادة على الملك المتقدم؛ فيجيء القولان.
قال الإمام: هذا وإن كان منقاساً، فالذي أعتقده فيه أنه خرق لما اتفق عليه الأولون، والقول به مسبوق بالإجماع، وإن اختار القاضي هذه الطريقة فهو بمثابة التمسك بقياس جرى في مصادمة قاعدة كلية.
ولأجل ذلك جزم الغزالي [في "الوجيز"] بالطريق الأول، ووجهه بأنه لولا المؤاخذة به، لبطلت فائدة الأقارير.
ولو قال المدعي عليه: هو ملكي، وكان ملكك أمس- ففيه وجهان:
أظهرهما في "تعليق" القاضي الحسين: أنه ينزع من يده، ويسلم للمدعي بإقراره [له].
والثاني: لا ينزع من يده؛ لثبوت يده عليه، واليد دلالة على الملك.
قال القاضي: وفيه ضعف؛ لأنه لو قال: العين ملكك بالأمس، واليوم ملكي، فلا خلاف أنها تنزع من يده؛ فكذلك إذا تأخر الإقرار بالملك للمدعي.
وكلام الغزالي مصرح بإجراء الخلاف في هذه الصورة أيضاً.
والقائلون بالمؤاخذة فرقوا بين الشهادة والإقرار: بأن المقر لا يقر إلا عن تحقيق: والشاهد قد يتساهل ويبني الأمر على التخمين؛ فإذا لم ينضم إليه الجزم في الحال ضعف.
والذي جزم به ابن الصباغ، وحكاه الماوردي والبندنيجي وأبو الطيب عن ابن سريج فيما إذا أقر له بالملك أمس- المؤاخذة، وحكاية الوجهين فيما إذا أقر بأن العين كانت في يده أمس، وقلنا: لا تسمع الشهادة باليد المتقدمة؛ وعلى هذه الطريقة يطلب الفرق من وجهين:
أحدهما: بين قيام البينة باليد السابقة، والإقرار باليد السابقة، وقد حكى البندنيجي عن ابن سريج: أنه فرق بأن يد المدعى عليه قائمة على الملك في الحال، والظاهر: أنها لم تزل كذلك، والبينة أثبتت للمدعي يداً أمس؛ فتعارض ما سلف وسقط، وبقيت للمدعى عليه يد مشاهدة في الحال، وليس كذلك إذا أقر له باليد أمس؛ [لأن إقراره يمنع أن تكون يده اليوم تدل على إزالة اليد أمس] فيثبت للمقر له يد أمس؛ فلا تزال حتى يعلم سبب زوالها.
وقال ابن الصباغ: يمكن أن يفرق بأن البينة لا تسمع إلا على ما ادعاه، والدعوى يجب أن تكون متعلقة بالحال، والإقرار يصح فيما لا تصح دعواه، وهو المجهول؛ فصح- أيضاً- في الماضي.
والثاني: بين الإقرار بالملك السابق والإقرار باليد السابقة، وقد أشار إليه الأصحاب-[حكاية عن ابن سريج] – فقالوا: اليد قد تكون مستحقة، وقد لا تكون، فإذا كانت قائمة أخذنا بالظاهر فيها والاستصحاب، فإذا زالت ضعفت دلالتها؛ لأن الظاهر من يد الثاني الاستحقاق أيضاً؛ فبطل حكم اليد الأولى، بخلاف الشهادة بالملك السابق؛ فإن الملك إذا ثبت بالأمس، لم يخل عن الملك.
قال ابن الصباغ: وهذا الفرق يبطل بالتسوية بين اليد والملك في البينة.
ولو ادعى على الاخل شيئاً في يده، ولم يسبق من الداخل إقرار مطق للخارج ولا بيع، فقال الداخل في الخصومة: كانت العين ملك هذا المدعي أمس- قال صاحب "التقريب": هل يكون هذا كما لو شهدت بينته أنها كانت في ملك المدعي أمس، أم يكون هذا الإقرار بمثابة إقرار مطلق تشهد به البينة على الداخل: إنه أقر بأنها كانت في ملك المدعي أمس؟ فيه وجهان.
قال الإمام: ولا نهاية للطف هذا التفصيل.
فائدة: إذا شهدت البينة بالملك فمن ضرورتها تقدم الملك على الوقت الذي وقعت فيه الشهادة؛ فإنها لا توجب ثبوت الملك، وإنما تظهره؛ فتعين ارتباط ذلك بمتقدم؛ حتى يتصور انتقال الملك فيه بسبب من الأسباب.
قال الإمام: وهذا التقديم يقع الاكتفاء فيه بلحظة لا تقبل زماناً يتميز في الحس؛ حتى لو ادعى شاة، وأقام على دعواه بينة، وكانت نتجت قبل الإقامة بساعة- فلا يقضي له بالنتاج.
نعم، لو أقام المدعي بينة بملك الشاة وكانت حاملاً، ولم تتعرض البينة لذكر الحمل- ثبت ملكه في الشاة وحملها؛ حتى لو انفصل بعد الشهادة، وقبل تزكية البينة- كان للمدعي.
وما ذكره الأصحاب في كون الحمل يكون للمدعي إذا شهدت البينة بملك الشاة، ولم تتعرض للحمل- قاسوه على ما لو اشتراها وهي حامل؛ فإن الملك يثبت في الحمل وإن لم يذكره حالة العقد.
قال الإمام: وقد يتطرق إليه احتمال على بعد؛ فإن الملك يفرض متبعضاً في البهيمة وحملها بالوصية.
قلت: وفي الهبة، والبيع القهري، والرد بالعيب؛ على أحد القولين، كما حكينا ذلك في باب ما يجوز بيعه، وأن الجديد في الهبة: أنه لا يتبع.
وإذا كان كذلك قال الإمام: فلا يبعد أن يدعي البهيمة ويستثني حملها في دعواه.
وأما استتباع البهيمة للحمل في البيع، فذاك لأمر متعلق بمقتضى العقد؛ لأنه لا يصح بيع البهيمة دون ولدها؛ على المذهب الظاهر، والاستثناء في الدعوى والإقرار جائز.
وقد حكى الرافعي هذا الاحتمال وجهاً، وأنه لا يحكم له بالحمل. وهذا الذي حكيناه هو المشهور في المذهب.
وفي الرافعي: أن القاضي أبا سعد الهروي ذكر أن الفقيه أبا نصر البلخي- من أصحاب الرأي- حكى عن أصحابنا: أن قيام البينة يقتضي سبق الملك؛ حتى يكون النتاج للمدعي.
قلت: و [على] هذا ينطبق ما حكاه المحاملي في "المجموع" في باب الشرط الذي يفسد البيع، والبندنيجي قبيل باب القافة-: أن ابن سريج قال: إذا كان في يد
الرجل جارية لها ولد، فادعاها رجل، وأقام بينة: أنها له- حكم له بها، وهل يحكم له بالولد؟ فيه وجهان:
أحدهما: نعم؛ لأن البينة لا تنقل الملك في الحال، وإنما يتبين بها حصول الملك فيما قبل؛ فيحكم بأن الولد حصل [في] ملك من قامت له البينة.
وأصحهما: لا؛ وعلى هذا إشكالان:
أحدهما: [ما] أشار إليه الشيخ عز الدين بن عبد السلام؛ فإنه حكي عنه أنه قال: من شرط سماع الشهادة في حقوق الآدميين تقدم الدعوى الصحيحة عليها، وموافقة الشهادة لها.
وقضية ذلك: أن يحكم بالملك قبيل الدعوى؛ لأن من شرط صحة الدعوى تقدم الملك عليه؛ فإنها [لا] تنشئ الملك، وإلا لكان الحكم مرتباً على دعوى لم يحكم بصحتها، ولا وافقتها [البينة]؛ فإن المدعى عند الزوال من يوم الجمعة تتضمن دعواه وجود الملك في تلك الحالة وقبيلها، فإذا أقام البينة عند الزوال من يوم السبت، ولم يحكم بالملك إلا قبيل الشهادة- كانت شاهدة بما لم تتضمنه الدعوى؛ فينبغي ألا تسمع؛ كما قاله الأصحاب في الشهدة [بالملك] المتقدم.
وقد يجاب بأن ما ذكره الأصحاب سلكوا فيه طريق التحقيق؛ فإنه لا يتحقق تضمن شهادتهم نقل الملك في أكثر من الزمن المذكور، واحتمال تقدم الملك على الدعوى لا ينكر، وهو الكافي [في] سماع الشهادة؛ لأن المعتبر في صحة الدعوى التي يترتب عليها سماع الشهادة انتظامها وإمكانها ظاهراً، لا موافقتها ما في نفس الأمر.
وأيضاً: فإن الشهادة لا تقام إلا بطلب المدعي؛ فيقدر عند طلبه أداء الشهادة كأنه مدع للملك ذلك الوقت أيضاً؛ فلم تقع الشهادة مخالفة للدعوى.
نعم، قد يعكر على هذا ما إذا أقام شاهداً واحداً، ثم أقام آخر [بعد] مدة؛ فإن الحكم يقع عند إقامة الثاني الشهادة.
وقضية ما قاله الأصحاب: أن يكون ما شهد به الأول غير ما شهد به الثاني، وأن لا تلفيق.
وقد صرح في "الزوائد" في كتاب الشهادات بأنه لو حدثت ثمرة بين الشهادتين، كانت للمدعي [عليه]، لكن قد حكينا عن القاضي في باب صفة القضاء عند الكلام في طلب الحبس حتى تزكي البينة ما يدفعه؛ فاطلبه [من] ثم، والله أعلم.
الثاني: قال الأصحاب: من اشترى عيناً من الأعيان، وتمادى الزمان سنين، ثم جاء مدع، وادعاها في يد المشتري، وانتزعها منه ببينة شهدت له بملكها من غير بيان سبب الملك- كان للمشتري أن يرجع على بائعه بالثمن.
قال القاضي الحسين: وهذا مع ما ذكروه لا يجتمع؛ لأن شهادة البينة لا تتضمن إسناد ملك المدعي- كما قالوا- إلى زمان يوصف بأن يشار إليه، بل لا يقتضي إلا ملك الحال وتقديراً في التقدم؛ فكيف يملك المشتري الرجوع على البائع مع إمكان ثبوت ملك المنتزع للعين؛ تلقياً من هذا المشتري؟ وهذا ضمنه الغزالي قوله:"وعجب أن يترك في يده نتاج حصل قبل البينة وبعد الشراء، ثم هو يرجع على البائع! ".
ثم قال القاضي: ويحتمل أن نقول: لا يرجع المشتري بالثمن على البائع- والحالة كما وصفنا- بناء على ذلك، إلا أن تسند البينة الاستحقاق إلى حالة العقد؛ فإذ ذاك يثبت أن البيع صادف مستحقاً.
قال الإمام: وما ذكره القاضي لا دفع له من طريق القياس، لكنه قال: أجمع الأصحاب من عند آخرهم على خلاف ما ذكرته، وقد رأيته في "تعليقه"، والممكن في توجيه ما ذكره الأصحاب: أن يقال: البينة الشاهدة للمدعي بالملك لا يظن بها إلا الصدق، والأصل عدم نقل الملك من المشتري، مع أنه لا يمكنه أن يثبت عدم [تصرف] نفسه؛ فاكتفينا في حقه بعدم تحقق النقل من جهته وإن كان محتملاً؛ لأجل الوثوق بالعهدة، كما أن الشرع صحح ضمان العهدة خارجاً عن القياس؛ لأجل ذلك.
وإذا لوحظ ما ذكرناه لم [يكن لصدق] الشهود محتمل إلا إسناد الاستحقاق إلى ما تقدم؛ فلهذا ثبت له الرجوع.
وزاد الأصحاب عليه فقالوا: لو وهب المشتري العين المشتراة أو باعها، فأقام مدعٍ على من هي في يده البينة بأنها ملكه – رجع المشتري [الأول] على بائعه.
قال الإمام: وهذا لا إشكال فيه بعد تقرير الأصل المذكور.
فرع: المشتري من المشتري إذا استحق الملك في يده، ولم [يظفر ببائعه] – هل له أن يطالب البائع الأول بالثمن؟ في "فتاوى" القاضي الحسين: أن الأصح: أنه لا يطالبه، ويشبه ذلك من مات وعليه دين، وادعى وارثه ديناً على غيره، وأنكر المدعى عليه، ونكل الوارث – هل يحلف الغريم؟
قال: وإن ادعى مملوكاً، وأقام بينة: أنه ولدته أمته في ملكه، أو [ادعى] ثمرة، وأقام بينة أنها أثمرتها نخلته في ملكه – حكم له، وقيل: وهي كالبينة بملك متقدم؛ لأنهما أضافا الملك إلى حالة الولادة، وخروج الثمرة؛ وذلك زمن متقدم؛ فعلى هذا يجيء القولان؛ وهذه طريقة "البويطي" وابن سريج.
والفرق على الطريق الأول – وهو الذي نص عليه الشافعي، واختاره أبو إسحاق، وابن أبي هريرة، وسائر الأصحاب؛ كما قاله أبو الطيب – من وجهين:
أحدهما: أن الشهادة هناك بملك مقصود متبوع غير تابع لغيره؛ فلهذا لم تقبل بملك كان حتى يصل ذلك بحالة التنازع، وها هنا الشهادة بالتبع، والأصل ملك ثابت له في الحال؛ فثبت أنها تبع للأصل.
والثاني: أن النتاج والثمرة لما لم يتقدمه فيهما مالك، صار في تملكهما أصلاً، وقديم الملك لما تقدمه فيه مالك، صار في تملكه فرعاً، وحكم الأصل أقوى من حكم الفرع.
فإن قيل: ليس يمتنع أن يحدث الولد لغير مالك الأم بالوصية وغيرها مما ذكرناه، فكيف تحكمون بالملك بهذه الشهادة؟
قال الماوردي: قلنا: هذا نادر أخرجته الوصية عن حكم أصله؛ فصار كالاستثناء الذي لا يمنع جوازه من استعماله على العموم قبل وروده. وهذا ما أورده العراقيون والماوردي.
وسلك الإمام طريقًا آخر، فقال: إن أراد بقوله: ولدته، والولد في ملكي، فقد ادعى ملك الولد، ولكن لم يدعه الآن، وإنما ادعى ملكه حالة الولادة، فإذا أقام على ذلك بينة، ولم تتعرض البينة لملك الحال- فهذا يتخرج على القولين في ملك أمس، ولا فرق. وإن قال: ولدته جاريتي في ملكي، وفسر ذلك بأن الجارية مملوكة له عند الولادة، فنقول: قد تكون الجارية مملوكة له، ويتصور ذلك بالوصية، وقد يكون الولد حرًّا؛ فليس ما ذكره دعوى ملك في الولد، ولكن ادعى حصول الولد في يده، ثم ادعى يدًا في زمان سابق؛ فيجري فيه القولان في دعوى اليد السابقة.
وقد يخطر في هذا المقام أنه إذا ادعى الملك في أمه – إذ هو ثابت له بلا نزاع – فينبغي أن يلتحق ذلك بما إذا ادعى جارية حاملاً؛ فإنه يكون مدعيّا لحملها – أيضًا- وهذا فقيه، ولكن فيه احتمال من جهة: أنه أفرد الولد بالدعوى في هذه المسألة، وفي تلك وجَّه الدعوى على الأم فتبع الولد.
قلت: وحاصل ما ذكره الإمام يرجع إلى طريقة ابن سريج؛ فإن عنده لا فرق بين الشهادة بالملك السابق أو اليد السابقة، والله أعلم.
قال: وإن ادعى أن هذا العبد كان له، [وأعتقه، وغصبه] فلان، وأقام عليه بينة – فقد قيل: يقضي بها، وقيل: هي كالبينة بملك متقدم.
والفرق على الطريق الأول: أن البينة ها هنا شهدت على وفق الدعوى؛ لأنه لا يدعي الملك لنفسه في الحال، ولا كذلك ثمة.
فإن قيل: قد قلتم من قبل: إن الدعوى بملك سابق لا تسمع، وهو ما حكاه الماوردي عند الكلام فيما إذا شهدت البينة: إن هذه [العين] كانت في يده أمس، وقال الإمام في باب الدعوى في وقت دون وقت: لست أعرف خلافًا في رد دعواه؛
فكيف يستقيم ما ذكرتموه من الفرق؟!
قلت: ذاك فيما إذا كان الملك في الحال مقصودًا متصورًا، وليس كذلك فيما نحن فيه؛ فإن المقصود إثبات العتق، ودفع الغصب، وذكر الملك السابق وقع تبعًا.
قال: وإن ادعى عينًا في يد غيره، وأقام بينة: أنه ابتاعها من رجل – لم يقض له، أي: بتسليم العين؛ لأن الإنسان قد يبيع ما لا يملكه؛ فلا تزول يد صاحب اليد بالاحتمال.
قال: حتى تشهد البينة: إنه ابتاعها منه وهي في ملكه، أو ابتاعها وتسلمها من يده.
هذا الفصل ينظم مسألتين:
إحداهما: إذا شهدت البينة: إنه ابتاعها منه وهي في ملكه – يقضي له بتسليم العين؛ لأن ملك المشتري إنما حصل من جهة البائع، فإذا ثبت ملك البائع كان ثابتاً للمشتري الآن؛ فصار كما إذا شهدت بأنه يملكها من سنة؛ كذا قاله ابن الصباغ نقلاً وتوجيهاً، ولم يحك غيره من العراقيين والمراوزة- كالإمام والقاضي الحسين والشيخ أبي علي في "شرحه الكبير" – سواه.
نعم، حكى الرافعي في الفروع قبيل كتاب العتق عما جمع من "فتاوى" القفال: أن البينة إذا شهدت بأنه اشترى هذه الدار من فلان وهو يملكها، ولم يقولوا: إنها الآن ملك المدعي، في قبول هذه الشهادة – قولين؛ كما لو شهدوا: إنها كانت ملكه بالأمس.
ويوافق هذا قول القاضي في "فتاويه": إن الشهود إذا شهدوا بأن هذه الدار كانت لفلان إلى أن مات، وخلفها [ميراثاً] لابنه هذا، ولم يقولوا: إنها الآن ملك هذا الابن: إن الحكم كما لو قالوا: هذه الدار كانت لفلان أمس؛ لا يقبل في الجديد.
وعلى الطريقة الأولى إذا شهدت البينة: إنها للمشتري بابتياعها من زيد، قضى له – أيضاً- صرح به ابن الصباغ والرافعي، والبندنيجي وقال: إنها غير منصوصة.
الثانية: إذا شهدت البينة: إنه ابتاعها، وتسلمها من يده – قضى له بها؛ لأن الظاهر
أنها ملك لمن أقبضها؛ فنزل ذلك منزلة الشهادة بالملك حالة البيع؛ وهذا ما صرح به القاضي أبو الطيب وابن الصباغ والبندنيجي، والشيخ أبو علي في "شرحه الكبير" كما قاله ابن أبي الدم، وصاحب "التهذيب"، وتبعهم الرافعي في ذلك، ولم يحك سواه.
ومن طريق الأولى جريان القولين في المسألة السابقة فيها.
وقد قطع القاضي الحسين بأنه لا تقبل البينة إذا لم تقل: إنه اشتراه من فلان وهو يملكه.
وعليه ينطبق قول الماوردي في آخر باب القسمة: لو أقاما البينة بابتياعهما الدار، لم تكن بينة بالملك؛ لأن يد البائع فيها كأيديهما.
وهكذا لو أقاما البينة: أنها صارت إليهما من أبيهما ميراثًا، لم تكن بينة بالملك؛ لأن يد الأب فيها كأيديهما. وهذا ما اختاره ابن أبي الدم، وقرره بأن يد الداخل حاضرة محسوسة، وهي تدل على الملك، والشهادة بالبيع وتسلم المبيع من يد البائع شهادة تتضمن الابتياع، ويد سابقة للبائع ثم بيد تتعقبها للمشتري، ولا فرق بين هذا وبين قول البينة: نشهد: إنها كانت في يده أمس، ولو شهدت باليد أمس، لم تسمع على الصحيح، وإن سمعت لم تنزع العين من ذي اليد الحاضرة بمجرد الشهادة بها؛ فكذلك ها هنا.
وقد طرد القاضي أبو الطيب والبندنيجي ما قالاه في الوقف، فقالا: إذا شهدت البينة بأنه وقف كذا، [وهو في ملكه، أو: وهو في يده – حكم به. ولو شهدت بأنه وقف كذا] لا غير، لم يقبلها؛ لأن الإنسان قد يقف ما يملك وما لا يملك.
أما لو ادعى الشراء من صاحب اليد، فقد اتفق الكل على أنه لا يحتاج في هذه الحالة إلى الشهادة بأنه باع ذلك وهو في ملكه، ولا في يده، بل بيعه يقطع سلطانه، ويؤاخذ بحكمه وبموجبه، خلافًا لأبي حنيفة.
قال الماوردي – حكاية عن المذهب-: ولا يقضي للمدعي بها ملكًا وإن قضى له بابتياعها، [بل يكون] له فيها يد إن نوزع فيها، ولا تدفع بينة المنازع، بخلاف ما لو
شهدت البينة بأن البيع صدر والبائع مالك؛ فإنه يحكم له بها ملكًا.
وإن شهدت: إنه باعها وكانت في يده، حكم بها ابتياعاً، وجرى عليه حكم الملك؛ لأن الظاهر من اليد: أنها لمالك؛ حكى ذلك عند الكلام فيما إذا كانت العين في يد شخص، فادعاها اثنان، وأقام أحدهما بينة: أنها ملكه منذ سنة، وأقام الآخر بينة: أنه اشتراها من المدعي الأول منذ خمس سنين.
فرع: إذا أقام بينة على الشراء من شخص، ثم أقام بينة أخرى على ملك ذلك البائع إلى وقت البيع – قال القاضي: يجوز ذلك، ولا فرق بين أن تشهد بينة واحدة على الأمرين، وبين أن تشهد بينتان عليهما.
قال الإمام: وهذا صحيح.
[و] قال الرافعي: وكأن المراد ما إذا أقام شهودًا على أنه اشترى منه وقت كذا، وآخرين على أنه كان يملك إلى وقت كذا، وإلا فمن شهد على أنه مالك إلى أن باع منه، فقد شهد بالبيع والملك.
فرع آخر – قاله القاضي الحسين-: لو أقام رجل [بينة]: أن الدار التي في يد فلان كانت في يد أبيه إلى أن مات، وهذا وارثه، والذي في يده لم يقم بينة على أنها له – فالدار للذي أقام البينة، بخلاف ما لو شهدت البينة: إن أباه مات وكان يسكنها؛ فإنها لا تكون له.
فإن قلت: هذا يناقض ما حكيتموه عنه من أن البينة إذا شهدت بأنه ابتاع كذا من فلان، وتسلمه من يده – لا يقضي له؛ فإن البيع سبب الملك كالإرث.
قلت: لا؛ فإن المشهود به في مسألة البيع مجرد التسليم؛ وذلك لا يدل على الملك، والمشهود به [هاهنا كونها] في يده، ولعل المراد بذلك: ما إذا كانت في يده يتصرف فيها مع امتداد المدة من غير منازع؛ كما حكينا مثل ذلك عن صاحب "الإشراف" في الفروع المذكورة بعد قول الشيخ: "وإن ادعى كل واحد منهما أنه ابتاع هذه الدار من زيد، وهي ملكه"؛ بل أقول: لو قامت البينة بأنه ابتاع هذه الدار من زيد، وأنها في يد البائع يتصرف فيها مدة مديدة من غير منازع- كانت كالشهادة بأنه باع
وهو مالك؛ لأن الشيخ أبا عاصم قال: لو أقام شخص بينة بأن هذا الشيء ملكه، وأقام آخر بينة: أنه في يده يتصرف فيه تصرف الملاك من غير منازع مدة مديدة – كانت بينة الثاني أولى؛ لأنها شهدت باليد والملك جميعًا، وبينة الداخل مقدمة على بينة الخارج، والله أعلم.
قال: وإن ادعى مملوكًا، وأقام بينة: أنه ولدته جاريته، أو ثمرة، وأقام بينة: أنها أثمرته نخلته- لم يقض له؛ لأن من اشترى جارية قد ولدت أولاداً، أو نخلة قد أثمرت وأُبِّرت ثمرتها – يصدق أن يقال: إن أمته ولدتهم، وإن نخلته أثمرت ذلك.
قال: حتى تشهد: إنها ولدته في ملكه، أو أثمرته في ملكه؛ لأنها إذا قالت ذلك، انتفى [هذا] الاحتمال.
وهذا ذكره تفريعًا على المنصوص في المسألة السابقة، وهو الذي نص عليه الشافعي هاهنا، وهو الجديد في "تعليق" القاضي الحسين و"النهاية"، وهو مخالف لما نص عليه في اللقيط إذا ادعى [رجل] رقه؛ حيث قال: إنه يكفي أن تشهد البينة: إن أمته ولدته. وكأن الفرق- والله أعلم-: أن المقصود ثم معرفة الرق من الحرية، والشهادة بأن أمته ولدته تعرف رقه؛ فإن الغالب أن ما تلده الأمة مملوك، وولادتها للحر نادر؛ فلم يعول على ذلك كما قلنا من قبل. والقصد ها هنا: تعيين المالك؛ لأن الرق متفق عليه؛ إذ المسألة مصورة بما إذا ادعى مملوكًا؛ وذلك لا يحصل بكون أمته ولدته؛ لما ذكرناه.
وقد حكى القاضي الحسين في مسألة المملوك قولاً آخر نسبه إلى القديم: أن البينة تقبل، وقال: إنه يضاهي قبول الشهادة بالملك القديم في الدار، ووجه الشبه: أنا إنما حكمنا [ثم] بالملك؛ للاستدامة؛ فكذلك ها هنا؛ لما أثبت الملك لنفسه في الأم، استديم الملك على الولد. قال: والأصح الأول، أي: وإن قلنا بسماع الشهادة بالملك القديم؛ لأنهم لم يثبتوا له الملك في الولد هنا قط، وهناك أثبتوا له ملك الدار أمس؛ فاستديم الملك.
والإمام قال: إن القول الذي حكاه القاضي عن القديم في مسألتنا خرجه بعض
الأصحاب من سماع الشهادة بالملك القديم؛ لأن قوله: هذه بنت أمتي، يتضمن إثبات الملك حالة الولادة، وقد تقدمت.
وفي "الإشراف": أنه مخرج من مسألة في الاستيلاد، وهي إذا قال: هذا ولدي من أمتي؛ فإنه إن فسر، وقال: أحبلتها في ملكي، قبل تفسيره، وثبت الاستيلاد، وإن قال: أحبلتها به في النكاح، لم يثبت، وإن أمسك عن التفسير، فهل يثبت؟ فيه وجهان.
فرعان:
لو شهدت البينة: إن هذا المملوك ولدته أمته بعد ملكه، ولم تقل: ولدته في ملكه – لم يحكم له بملكه؛ لأنه يجوز أن يكون قد باعها، فولدت، ثم بعد ذلك ملكها برد بعيب، أو إفلاس، أو غير ذلك.
ولو شهدت البينة: إن ابن أمته، أخذه هذا من يده، كانت شهادة له باليد دون الملك.
قال الماوردي: فيحكم له برده يدًا لا ملكاً.
قال: وإن ادعى طيرًا، أو غزلاً، أو آجرًّا، فأقام بينة أن الطير من بيضه، والغزل من قطنه، والآجر من طينه – قضى له؛ لأن هذه الأشياء عين ماله، وإنما تغيرت صفاتها، وتفارق الثمرة والولد؛ لأن الطير والآجر والغزل لا يتصور أن يكون حاصلاً قبل حصول البينة، والقطن والطير له، والولد والثمرة يتصور حصولهما قبل حصول الملك [له] كما تقدم.
وفي "الإبانة": أن ابن سريج خرج في مسألة القطن وجهاً، وجعله كولد الأمة، أي: فلا يقضي له به بمجرد ذلك.
قال: وإن مات نصراني – أي: من عرف بالنصرانية- وترك ابنًا مسلمًا، وابنًا نصرانيًّا، فأقام المسلم بينة:[أن أباه] مات مسلمًا، وأقام النصراني بينة: أنه مات نصرانيًّا، ولم يؤرخا- قدمت بينة المسلم؛ لأنها شهدت بأمر خفي على الأخرى؛ فصار كما لو مات رجل عن ابن وزوجة، فقال الابن: هذه الدار ميراث بيننا، وقالت الزوجة: هي [لي]، أصدقنيها أبوك، أو باعها مني، وأقام كل منهما بينة على
ما يدعيه- فإن بينتها أولى؛ لما ذكرناه.
قال الإمام: وبينة الاستصحاب لا تصادم البينة الناقلة إلا بالنفي، والشهادة على النفي مردودة.
وهذا ما وقفت عليه في كتب العراقيين والمراوزة، وفي "الحاوي" حكاية وجه: أنه يأتي في هذه المسألة قولا التعارض، والاستعمال؛ فإنه [قال]: للبينتين في إقامة هذه الشهادة أربع أحوال:
الحالة الأولى: أن تطلقا الشهادة، فيقول شهود المسلم: إن أباه مسلم، ويقول شهود النصراني: إن أباه نصراني – فيحكم بشهادة الإسلام؛ لأنها أزيد علمًا؛ لأن نصرانيته أصل، وإسلامه حادث؛ فصار كالشهادة بالجرح والتعديل، [يحكم بالجرح على التعديل]، ويجعل المسلم وارثاً.
الحالة الثانية: أن تقيدا الشهادة، فتقول بينة المسلم: إن آخر كلامه عند الموت [الإسلام، وبينة النصراني: إن آخر كلامه عند الموت] التثليث، والحكم كما سيذكره الشيخ.
ثم قال: فلو شهدت بينة المسلم: إن أباه مات مسلمًا، وبينة النصراني: إن أباه مات نصرانياً- فقد اختلف الأصحاب: هل تحمل هذه الشهادة على التقييد؛ لأن كل واحدة منهما شهدت بدينه عند الموت؛ حتى تأتي فيه أقوال التعارض والاستعمال، أو يحمل على الإطلاق؛ لأنهما استصحبا ما تقدم من حاله، ولم يقطعا بدينه عند خروج روحه؛ فلا تعارض، ويكون الميراث للمسلم؟ على وجهين.
الحالة الثالثة: أن [تكون] الشهادة بالإسلام مطلقة، وبالنصرانية مقيدة – فلا تعارض؛ لأنه قد يسلم، ثم يرتد بعد إسلامه إلى النصرانية؛ فتصح الشهادتان، ويحكم بارتداده بعد الإسلام، ولا يرثه واحد من ابنيه، ويكون ماله فيئًا لبيت المال.
الحالة الرابعة: أن تكون الشهادة بالإسلام مقيدة، وبالنصرانية مطلقة – فلا تعارض، ويكون ميراثه للمسلم.
وقد اقتصر الفوراني في التعبير عما ذكرناه من الحكم في الحالتين الأخيرتين، فقال: إذا كانت إحداهما مطلقة، والأخرى مقيدة – فالعمل بالمقيدة أولى.
قال: وإن شهدت بينة المسلم: إن آخر كلامه عند الموت الإسلام، أي: ما يكون به مسلمًا، وهو النطق بالشهادتين، والتبرؤ من كل دين يخالف الإسلام، كما قاله الماوردي وغيره، وشهدت بينة النصراني: إن آخر كلامه [عند الموت] النصرانية، أي: ما يكون به نصرانيًّا، وهو النطق بالتثليث؛ كما قال الماوردي، [أو النطق] بأنه لا إله إلا الله، وأن عيسى رسول الله، وأنه بريء من كل دين سواه؛ [كما] قاله [الشيخ] أبو عاصم العبادي- تعارضت البينتان؛ لأنه يستحيل أن يموت مسلمًا نصرانيًّا.
وفي "الإشراف": أن ما قاله الشيخ أبو عاصم من تصوير النصرانية فيه إشكال؛ لأن المسلمين يثبتون نبوة عيسى – عليه السلام وإثبات نبوته ليس نفيًا لنبوة نبينا محمد صلى الله عليه وسلم عند منكري المفهوم.
قلت: وفي هذا النظر نظر؛ لأن من تبرأ من كل دين سوى دين عيسى، فقد تبرأ من دين النبي صلى الله عليه وسلم.
وعن ابن كج حكاية وجهين في أنه: هل يجب على الشهود أن يثبتوا كلمة الإسلام؛ لأنهم قد يعتقدون ما ليس بإسلام إسلامًا؟
ومقابله هو الذي أورده البندنيجي وغيره.
قال: وفيهما قولان:
أحدهما: تسقطان [للتكاذب؛] وهذا ما اختاره في "المرشد".
قال: ويحكم بأنه مات نصرانيًّا، أي: بعد حلف الابن النصراني: إنه لا يعلم أنه مات مسلمًا؛ لأن هكذا الحكم لو لم تكن بينة؛ فإن الأصل نصرانيته.
قال: والثاني: تستعملان بالوقف، أو القرعة، أو القسمة؛ لأنه لا مانع من واحد منها، كما في غير هذه الصورة، [وهذه طريقة المزني وطائفة معه، وهم المعتبرون من الأصحاب؛ كما قال الإمام.
وقال البندنيجي: إنها المنصوص عليها في "الأم". كما أشار إليه ابن الصباغ، ولم يحك البغوي سواها.
وقيل: لا تجيء القسمة وإن جاءت في غير هذه الصورة]؛ لاستحالة أن يشترك مسلم ونصراني في ميراث ميت؛ لأنه إن مات نصرانيًّا ورثه النصراني دون المسلم، وإن مات مسلمًا ورثه المسلم دون النصراني، فإذا قسمنا بينهما علمنا قطعًا: أن أحدهما قد أعطي ما لا يستحقه، ومنع الآخر ما يستحقه، وإن لم يتعين، بخلاف عند الميراث؛ فإنه يجوز أن يكون [الملك] مشتركًا بينهما؛ فيقسم؛ وهذه طريقة أبي إسحاق المروزي وطائفة معه، كما قال الماوردي، وقد قويت بما إذا مات شخص وقد طلق واحدة من نسائه لا بعينها؛ فإن الميراث يوقف ولا يقسم بينهن.
وقال الإمام: إنها غير معتد بها؛ فإن قول القسمة لا يعتمد إلا إمكان الشركة في الجنس المدعى، فأما الجهات فلا نظر إليها؛ فإن القسمة إنما تجري لاستواء المتداعبين في متعلقهما، وليس أحدهما أولى من الآخر، والتعطيل عند هذا القائل لا سبيل إليه.
والشيخ أبو حامد والمصنف وغيرهما ردوا على أبي إسحاق بوجه آخر، فقالوا:
احتمال كون الملك لهما قائم في هذه الصورة – أيضاً – لأنه يجوز أن يكون مات نصرانيًّا قبل إسلام أبيه؛ فيكون ميراثه لهما، إلا أن المسلم ادعى أنه مات مسلمًا؛ ليأخذ كمال الميراث.
قال البندنيجي: وهذا يخرج منه ما إذا عرف إسلام المسلم منهما قبل وفاة أبيه.
ثم على الطريقة الصحيحة – وهي جريان القسمة.
فروع:
أحدها: هل يحلف كل واحد من الاثنين للآخر؟ فيه وجهان عن رواية ابن كج، وهما يؤخذان مما حكيناه عن الإمام والقاضي في أول المسائل، والأصح: المنع.
الثاني: لو كان المتنازع في التركة ابنًا وبنتًا، فعن أبي الطيب بن سلمة: أنه يقسم المال بينهما نصفين.
وعن غيره: أنه يقسم أثلاثاً قسمة الميراث.
قال الرافعي: وليس واحد منهما بقويم؛ بل يجب أن يقال: هما كشخصين يدعي أحدهما جميع العين، والآخر نصفها، أقاما بينتين، وقد مر أن على قول القسمة للأول ثلاثة أرباعها، وللثاني ربعها.
الثالث: لو كان المدعي للإسلام – مثلاً – زوجة الميت وأخاه، والمدعي للنصرانية ابنًا للميت- فالذي أورده الجمهور جريان القول الذي عليه نفرع فيه أيضاً؛ فنقسم.
وعلى هذا فالنصف للزوجة والأخ، وفي كيفية [قسمته] وجهان في "التهذيب":
أحدهما: تأخذ الزوجة ربعه، وكأنه كل التركة، وهو الذي أورده أبو الفرج السرخسي.
والثاني: تأخذ نصفه؛ ليكون لها ربع التركة؛ فإن الأخ معترف به، والأولاد لا يحجبون بقولهما، وهذا ما أورده الإمام ومن تبعه.
وفي "الحاوي": أن الذي عليه الجمهور: أنه لا يصح تخريج قول القسمة هاهنا وإن جاز في المسألة السابقة؛ لأن الاثنين فيما تقدم شريكان، والأخ والابن هاهنا
متدافعان؛ فصح الاشتراك هناك، وبطل هنا.
قال: وإن كان الميت لا يعرف أصل دينه، تعارضت البينتان، أي: سواء كانتا مطلقتين أو مقيدتين.
ووجهه في حالة التقييد ظاهر، وفي حالة الإطلاق – وإن احتمل كونهما صادقتين: الجهل بدينه؛ فإنه يمنع من الحكم بأحدهما؛ فجرى عليهما حكم التعارض في التكاذب.
قال: وفيهما قولان:
أحدهما: تسقطان، ويرجع إلى من في يده التركة؛ عملاً بمدلول اليد.
وعلى هذا إن كانت في يد غيرهما يدعيها لنفسه، فالقول قوله.
وإن لم يدعها لنفسه، قال البندنيجي: أقرت في يده حتى يزول [الإشكال].
وإن كانت في يدهما كانت بينهما؛ وهذا ما أورده البندنيجي والمصنف وغيرهما، وحكاه ابن الصباغ عن المزني؛ فإن الشيخ أبا حامد قال: إنه يحلف كل واحد منهما على ما في يده، وهو المذكور في "تعليق" القاضي الحسين أيضاً.
ثم أبدى ابن الصباغ احتمالاً: أنه لا يحتاج إلى التحالف؛ كما سنذكره عنه.
ولو كان [المدعي] للإسلام أو الكفر أكثر من واحد، فالقسمة- تفريعًا على قول التساقط- على عدد الرءوس، قال الفوراني: لأنها قسمة بحكم اليد.
وإن كانت في يد أحدهما، فالذي ذكره الشيخ أبو حامد- وهو الذي أورده البندنيجي، والقاضي الحسين: أنها تسلم له.
وقال الإمام بعد حكاية ذلك عن القاضي: إن هذا وهم وزلل من الناقل عنه؛ فإنهما إذا اعترفا بأن المال الذي فيه النزاع تركة، فلا حكم لصورة اليد؛ فإن ما كان تركة فسبيله مع الإشكال تساوي الاثنين فيه؛ ولهذا قال الرافعي: إنه الصحيح، ولم يورد في "الوجيز" سوى قسمته بينهما.
وفي "الحاوي": أنه إذا سقطت البينتان والدين مجهول، ففي التركة ثلاثة أوجه:
أحدها- وهو قول المزني-: أنها تقسم بينهما ملكًا بالتحليف دون البينة؛ لتكافئهما فيها.
والثاني- وهو قول أبي علي بن خيران-: أنها تقسم بينهما يدًا، وتقر معهما أمانة، يمنعان من التصرف فيها حتى يبين مستحقها منهما، أو يصطلحان عليها؛ كالميت عن زوجتين إحداهما مطلقة، وقد أشكلت.
والثالث- ويشبه أن يكون قول أبي إسحاق المروزي-: أنها تقر في يد من كانت في يده قبل التنازع والتحالف، فإن كانت في يدهما، أو في يد أجنبي، أو في يد أحدهما- أقرت على حالها، وكان إقرار يد وأمانة من غير قسمة.
ووهم أبو حامد، فأقرها في يده ملكًا، وهو خطأ؛ لأن سبب استحقاقه متعين بالميراث؛ فلم يجز أن يكون لليد في تملكها تأثير.
ويقرب من ذلك قول ابن الصباغ بعد حكاية قول أبي حامد – كما ذكرناه أولاً-: وهذا فيه نظر؛ لأنه معترف للميت الذي ادعى أنه يرثه، والآخر يدعي مثل ذلك؛ فلا ينبغي أن يكون ليده حكم، بل ينبغي أن يكون موقوفاً، أو مقسومًا عليهما.
قال: والثاني: تستعملان على ما ذكرناه، أي: ويجيء الطريقان في الاستعمال بالقسمة؛ كما صرح به الماوردي وغيره.
وقيل: تقدم بينة المسلم؛ لأنه الظاهر في دار الإسلام؛ وهذا ما حكاه الفوراني عن المزني، وهو بعيد؛ إذ لو كان كذلك لجعل القول قوله حالة عدم البينة.
قال ابن يونس: و [قد] قبل به أيضاً.
قال: ويغسل الميت، ويصلى عليه في المسائل كلها- أي: التي ذكرها- وينوي حالة الصلاة: أنه يصلي عليه إن كان مسلمًا- كما قاله في "المهذب"، و"الشامل"- لأن أمره مشتبه؛ فجرى مجرى جماعة ماتوا وفيهم كافر قد أشكل؛ فإنهم يغسلون، ويصلى عليهم.
قال الإمام: وهذا الاستشهاد إيناس، لا حاجة إليه، والعمدة في الصلاة إسناد الإسلام إلى بينة، وليس في الصلاة نزاع، ولا يموت ميت فيقطع له بالإيمان في الموافاة، ولست أنكر ترددًا من طريق الاحتمال، سيما إذا كان الرجل معروفًا بالتنصر،
وقد تعارضت بينتان في الكلمة التي بها الاختتام، ولكن النص هذا، ولم أر في الطرق ما يخالفه.
وكما يغسل ويصلى عليه، يدفن في مقابر المسلمين كما يدفن الموتى الذين فيهم كافر.
قال الماوردي: وفي الحالة التي حكم فيها بردته، لا يغسل ولا يصلى عليه. وأراد: الحالة التي كانت بينة النصراني فيها مقيدة، وبينة الإسلام مطلقة.
فرع: لو ادعى مسلم على شخص في يده دار: أن أباه مات مسلمًا، وترك له هذه الدار إرثاً، وادعى نصراني عليه: أن أباه مات نصرانيًّا، وترك له هذه الدار إرثًا، والأب غير الأب، وأقام كل منهما بينة بما ادعاه- تعارضت البينتان، وفيهما قولان: فإن قلنا بالتساقط، بقيت الدار في يد الثالث، وإن كانت البينتان متفقتين على أنها ليست له؛ لأن كل واحد لم يثبت له ما شهدت به بينته؛ فلم يكن حجة على صاحب اليد، وجرى مجرى بينة تشهد بحق لأحد الرجلين لا بعينه؛ فإنه لا يثبت بها شيء.
والفرق بين هذه [المسألة] والتي قبلها؛ حيث قلنا على الصحيح: إن العين إذا كانت في يد أحدهما، وقلنا بالتساقط، لا يختص بها: أن البينتين شهدتا ثم بأن الملك للميت؛ فلا تعارض فيه، وإنما تعارضتا في دينه؛ فثبت بهما المال، وهنا تعارضتا في ملك المال؛ فلم يثبت.
وإن قلنا بالاستعمال، جاءت الأقوال الثلاثة بلا خلاف.
قال: وإن مات رجل، وخلف ابنين، واتفقا على إسلام الأب، وإسلام أحدهما قبل موت الأب، واختلفا في إسلام الآخر: هل كان قبل موت الأب، [أو بعده]؟ فالقول قول الابن المتفق على إسلامه، أي: مع يمينه: إنه لا يعلم أن أخاه أسلم قبل موت أبيه؛ لأن الأصل بقاء أخيه على الكفر.
وهكذا الحكم لو مات حر، وترك ابنين: أحدهما حر قبل موت أبيه، والآخر مختلف فيه، فادعى تقدم عتقه قبل موت أبيه، وادعى الآخر: أنه عتق بعد موته-
[فالقول قوله مع يمينه بالله: إنه لا يعلم أن أخاه عتق قبل موت أبيه]؛ لأن الأصل بقاء الرق.
نعم، لو أقام كل واحد منهما بينة بما ادعاه، قال القاضي الحسين: فالصحيح – وبه جزم البغوي وغيره-: أن بينة الابن المختلف في إسلامه مقدمة؛ لأنها ناقلة، وبينة الآخر مستصحبة، والناقلة مقدمة على المستصحبة.
وقيل: إنهما متعارضتان؛ وهذا وجه ضعيف.
قال: وإن اتفقا [على] أن أحدهما أسلم في شعبان، والآخر [أسلم] في رمضان، واختلفا في موت الأب: فقال أحدهما: مات قبل إسلام أخي، وقال الآخر: بل مات بعد إسلامنا- فالقول قول الثاني؛ فيشتركان؛ فإن الأصل بقاء الأب إلى حين إسلام الثاني.
ولو أقام كل واحد منهما بينة على ما ادعاه، قال القاضي الحسين والأصحاب – كما حكاه الإمام-: قدمت بينة الأول؛ لاشتمالها على زيادة علم بالموت في الزمان المتقدم.
ثم قال [الإمام]: وهذا ضعيف؛ لأن البينة التي شهدت في الزمان المتأخر تشهد على موته عن حياة؛ فيحصل التعارض، ويجري القولان.
قلت: وهذا عين القول الأول الذي حكاه الشيخ فيما إذا قال: إن مت في رمضان فعبدي حر، وإن مت في شوال فجاريتي حرة، ومات، وأقام العبد بينة بالموت في رمضان، والجارية بينة بالموت في شوال.
ويظهر مجيء الوجه الذي حكيناه ثم عن المزني وابن سريج في تقديم بينة شوال هاهنا؛ فتقدم بينة المتأخر، ويرثان جميعًا.
فرع: لو اتفقا على أن أحدهما لم يزل مسلمًا، [وقال الآخر: لم أزل- أيضاً- مسلمًا]، ونازعه الأول، وقال: كنت نصرانيًّا، وإنما أسلمت بعد موت الأب- فالقول قوله: إني لم أزل مسلمًا؛ لأن ظاهر الدار يشهد له، وليس مع صاحبه أصل يستصحب.
ولو قال كل واحد منهما: لم أزل مسلمًا، وكان صاحبي نصرانيًّا، أسلم بعد موت الأب- فعن القفال تخريجه على وجهين:
أحدهما: لا يصرف لواحد منهما شيء؛ لأن الأصل عدم الاستحقاق، وبقاؤهما على الكفر؛ فعلى هذا: إن كان له وارث مسلم غيرهما، فله الإرث، وإلا جعل في بيت المال؛ كذا قاله القاضي.
وأصحهما في "الرافعي": [أنه] يحلف كل واحد منهما، ويجعل المال بينهما؛ لأن ظاهر اليد يشهد لكل واحد فيما يقوله في حق نفسه.
قال: وإن مات رجل، وخلف أبوين كافرين، وابنين مسلمين، فقال الأبوان: مات كافراً، وقال الابنان: مات مسلماً- ففيه قولان:
أصحهما: أن القول قول الأبوين – أي: مع أيمانهما- لأن كفره قبل بلوغه معلوم بكفرهما؛ فلم يقبل دعوى الابنين في حدوث إسلامه؛ لأن الأصل استصحاب كفره.
والثاني: أنه يوقف حتى ينكشف، أو يصطلحوا؛ لتساوي الحالين بعد بلوغه في إسلامه وكفره؛ لأن ما قبل بلوغه هو [في إسلامه فيه] تبع لا يتحقق إلا بعد بلوغه.
وهذا الذي ذكرناه عن الشيخ [هو المذكور في توجيه ابن الخل، والشيخ] اقتدى في ذكر القولين بابن سريج؛ فإن القاضي أبا الطيب والحسين والإمام والبغوي وابن الصباغ حكوا أن ابن سريج قال: فيه قولان.
وقال البندنيجي بعد حكاية ذلك عنه: إنه عنى وجهين.
وكذلك قال في "الحاوي": في المسألة وجهان. وقد نسبهما في "المهذب" إلى تخريج ابن سريج، وحكى عنه أنه قال: الأول أشبه بقول العلماء.
وقد حكى القاضي الحسين عن المراوزة في المسألة وجهين:
أحدهما: مثل الأول.
والثاني: أن القول قول لابنين؛ لأن الظاهر أن الفرع المسلم إنما يتولد من المسلم، ولأن الأصل في دار الإسلام هو الإسلام.
وقال: إنهما مبنيان على أصل، وهو ما [إذا] اجتمع الأصل والظاهر، فأيهما يغلب؟ فيه قولان.
وفي "الإبانة" حكاية القولين هكذا عن ابن سريج، وحينئذٍ فيجتمع في المسألة ثلاثة أوجه:
أحدها: أن القول قول الأبوين.
والثاني: أن القول قول الابنين.
والثالث: أنه يوقف إلى أن ينكشف، أو يصطلحوا.
قال الإمام: وليقع فرض المسألة إذا لم يسلم الابنان المسلمان كون الأبوين كافرين أصليين؛ فإن ذلك لو ثبت لم يكن شك في كفر الابن أصلاً؛ إذ لاقى الأصل، وإنما يثبت إسلامه طارئاً بالسبب أو إنشاء الإسلام، وإذا كان كذلك فمستصحب أصل الكفر أولى إذا لم تكن بينة.
وفي "ابن يونس": أن الذي في الكتاب: أصحهما: أن القول قول الابنين، وقد حكاه في "الإشراف" – أيضاً- عن العراقيين، وليكن ذاك إذا لم يعرف تأصل كفر الأبوين؛ كما قاله الإمام.
قال في "المرشد": وما ذكرناه إذا كان الولدان بالغين، ولم تكن أمهما كافرة، [فأما إن كانا صغيرين وأمهما كافرة،] وقامت بينة بإسلامهما، وأقر الجدان بذلك – فإنه يحكم بأنه مات مسلماً، وتكون الدعوى من الناظر في مالهما.
ولو انعكس الحال؛ فكان الأبوان مسلمين، والابنان كافرين-: فإن لم يعلم للأبوين كفر قبل الإسلام، حكم بإسلام ولدهما، ولا يمين عليهما، وكانا أحق بميراثه من ابنيه. وإن علم كفر الأبوين قبل الإسلام، قال الماوردي: فيجوز أن يولد قبل إسلامهما؛ فيجري عليه حكم الكفر قبل البلوغ، ويجوز أن يولد بعد إسلامهما؛ فيكون مسلماً قبل البلوغ.
فإن كان النزاع في زمان ولادته، فادعى أبواه: أنه ولد بعد إسلامهما، وادعى ابناه: أنه ولد قبل إسلامهما- فالقول قول الأبوين مع يمينهما؛ لأنا على يقين من حدوث ولادتهم، وعلى شك من تقدمها.
وإن كان النزاع في وقت إسلام الأبوين، فادعى أبواه: أنهما أسلما قبل ولادته، وادعى ابناه: أنهما أسلما بعد ولادته – فالقول قول الابنين مع يمينهما؛ لأن الأصل بقاؤهما على الكفر.
فرع: لو مات رجل، [وخلف] امرأة، فقال الورثة: هي كتابية، أو رقيقة – قال الشافعي: القول قولها إذا أنكرت ذلك – أي: مع يمينها- وعلى الورثة البينة.
وقال الربيع: فيه قول آخر: إن في الحرية القول قولها، دون الإسلام.
ووجهه: بأن الأصل في الناس الحرية؛ لأن المشركين يخلقون أحراراً، ثم يطرأ عليهم الرق، فالأصل هو الحرية، بخلاف الدين؛ فإن الناس في الأصل انقسموا إلى الكفار والمسلمين؛ فلم يصح التمسك بالأصل في إنكار الكفر.
ولو ادعى الإسلام، فقيل: القول قول الورثة مع يمينهم؛ لأن الأصل عدم وراثتها؛ كذا قاله أبو عاصم.
قال في "الإشراف": وهذا يؤذن بتخريج قول في الإسلام والحرية جميعاً: أن القول قول سائر الورثة [مع أيمانهم]؛ لأن الأصل عدم وراثتها. وهذا التخريج صحيح وإن ذهب عن المصنف.
قال: وإن ماتت امرأة وابنها، فقال زوجها – أي: الذي الابن منه: ماتت أولاً فورثها الابن، ثم مات الابن فورثته، وقال أخوها: بل مات الابن أولاً فورثته [الأم]، ثم ماتت فورثتها- لم يورث ميت من ميت، بل يجعل مال الابن للزوج، ومال المرأة للزوج والأخ؛ لأنه لا يورث إلا من تيقنت حياته عند موت مورثه، وهاهنا لا نعلم حياة واحد من الميتين عند موت مورثه؛ فهما كالغرقى.
فإن قيل: الزوج يدعي أنه يرث من زوجته الربع، فكيف تعطونه النصف؟
قيل: لأنه يدعي إرث جميع مالها، ونحن نعطيه بعضه.
وهذا إذا لم يقم واحد منهما بينة على ما يدعيه، ولا اتفقا على وقت موت أحدهما، فإن أقام كل واحد منهما بينة [بما ادعاه] – تعارضتا، وجاءت أقوال التعارض.
ولو اتفقا على وقت موت أحدهما، فلا يخفى الحكم مما تقدم.
قال: وإن ادعى رجل أن أباه مات عنه وعن أخ له غائب-[أي: ولا وارث له غيرهما] – وله مال عند رجل حاضر، وأقام بينة بذلك- أي: وهي من أهل الخبرة بالميت – سلم إليه نصف المال، وأخذ الحاكم نصيب الغائب ممن هو عنده، وحفظه عليه؛ قضاء لحقهما.
وثبوت الحق للغائب في هذه الصورة وقع بطريق التبع؛ لثبوت حق الحاضر؛ لارتباطهما، وعدم تميز أحدهما عن الآخر، أو لأن الحق يثبت أولاً للميت.
ثم نصيب الغائب إذا أخذه، [أجره] الحاكم- إن أمكن- حفظاً لمنافعه؛ صرح به الماوردي وغيره [هنا]، وقد ذكرته في آخر باب ولاية القضاء.
وقيل: إن كان ديناً لم يؤخذ، بل يترك في ذمة الغريم حتى يقدم؛ لأن الذمة أحفظ له؛ وهذا أظهر عند ابن كج، وحكاه عن النص.
والوجهان يجريان- كما حكاه الإمام في باب اليمين مع الشاهد- في كل من أقر لغائب بدين، هل ينزعه الحاكم منه أم لا؟ وقال: إنه لو أقر له بعين مغصوبة، انتزعها الحاكم.
وفي "الشامل" في باب الخيار في القصاص: أنه ليس له قبض العين المغصوبة من الغائب، بخلاف ما لو كانت لميت، ووارثه غائب، والفرق: أنه له ولاية على الميت؛ ولهذا تنفذ وصاياه منها، وتقضى ديونه، بخلاف الغائب؛ فإنه
لا ولاية [له] عليه.
وقد حكى الغزالي في كتاب الوديعة: أن الغاصب إذا أحضر المغصوب للقاضي، والمالك غائب- هل يجب عليه القبول؟ فيه وجهان جاريان في وجوب قبول دينه أيضاً.
وقال الرافعي: إن أظهر الوجهين في العين منع الإيجاب، وأن محلهما في الدين إذا كان بحيث يجب القبول على الغائب لو كان حاضراً.
فرع: إذا أقام الحاضر شاهداً، وحلف معه- استوفى حقه، ولم يأخذ الحاكم نصيب الغائب؛ لأنه لم تكمل الحجة عليه، ثم إذا قدم الغائب، لم يحتج إلى إعادة الشهادة، ويحلف، ويستحق.
وقيل: يأخذ نصيب الغائب أيضاً، ويوقفه إلى أن يحضر، ويحلف؛ فيسلم إليه؛ بناء على أن المدعي إذا أقام شاهداً، وطلب الحيلولة إلى أن يقيم الشاهد الآخر- أجيب.
والصحيح: الأول، وما ذكرناه تفريعاً عليه فمحله إذا لم يتغير حال الشاهد، فإن تغير فوجهان:
أحدهما – وبه قال القفال-: أن الحكم كذلك؛ لأن الحكم قد اتصل بشهادته؛ فلا أثر للتغير بعده.
والثاني- وهو اختيار الشيخ أبي علي-: أنه لا يحلف؛ لأن الحكم اتصل بشهادته في حق الحالف دون غيره؛ ولهذا لو رجع لم يكن للغائب أن يحلف.
وهذا حكم الوارث إذا ادعى حقاً لمورثه، أما إذا ادعي عليه دين على مورثه، فقد قال القاضي أبو الطيب: شرط سماعها عند تحرير المدعي [به]: أن يدعي أن المورث قد مات، وأنه خلف تركة فيها وفاء بالدين أو بعضه- أي: في يد الوارث- لأنه إذا لم يخلف تركة، لم يلزمه قضاء الدين عنه.
وقال القاضي الحسين في باب موضع اليمين: إنه لا بد أن يقول: إنه خلف في يده تركة مبلغها كذا وكذا؛ حتى لو لم يدع هذا، وادعى التركة مطلقة، لا يقبل.
وحكى عن الأصحاب أنهم قالوا: لا بد وأن يقول: [وأنت] تعلم أن لي عليه كذا، فلو لم يقله، لم تسمع.
قال: ولعل المعنى فيه: أن الوارث إذا لم يكن عالماً بالدين، لا يكون مطالباً مأخوذاً به في الشرع؛ على معنى أنه لا يأثم بالتصرف في التركة، بخلاف ما إذا علم. وهذا الشرط قد ذكره في "الإشراف" أيضاً.
قال: وإن مات رجل، فادعى رجل أنه وارثه لا وارث له غيره، فشهد شاهدان من أهل الخبرة بحال الميت- أي: على قديم الوقت وحدوثه، في حضره وسفره-: أنه وارثه لا وارث له غيره- أي: في علمنا وبينا جهة الوراثة- سلم إليه الميراث؛ لأن ذلك أقصى الممكن في الباب، ويكفي قول الشاهدين: إنهما خبرا باطن حاله، إن لم يعرف الحاكم ذلك؛ كما اعتمد على قولهما في أصل الواقعة.
وإن عرف الحاكم أنهما من أهل الخبرة، لم يستخبرهما، ولا يحتاج الآخذ في هذه الحالة إلى كفيل؛ لأنه لو طولب [به]، لكان قدحاً في بينته.
وقد ادعى الإمام في ذلك حال كون الوارث الابن، الإجماع.
وما ذكره الشيخ من الاكتفاء بالشاهدين هو المنقول في طريق العراق، وفي "الإبانة": أنه لا بد من ثلاثة؛ وكذا في "الاعتبار": اعتبر الثلاثة؛ للخبر المشهور.
قال الإمام: وهذا لا أصل له، ولم يصر إليه أحد من الأصحاب، فإن ذكر هذا اشتراطاً فهو خطأ صريح، وإن ذكره احتياطاً، فالأمر أقرب.
وفي "تعليق" القاضي الحسين: أن تسليم المال إلى الوارث عند قيام الشهادة بأنه لا وارث له غيره وهم من أهل الخبرة مفروض فيما إذا كان الوارث ابناً، أما إذا كان ابن ابن، أو أخاً، فيسأل القاضي عن حاله في [البلدان التي] سافر إليها؛ كما نقول في الحالة الثانية، فإن لم يظهر له وارث غيره، سلم إليه المال، وهل يأخذ منه كفيلاً؟ فيه وجهان.
فرع: إذا قال الشاهد: أشهد أن هذا وارثه، وأقطع بأنه لا وارث له سواه- سألناه عن معنى القطع؟
فإن قال: لا أعلم له وارثاً سواه، قبلناه.
وإن قال: أردت القطع بذلك، قال البندنيجي: قال الشافعي في الإقرار: رجع هذا إلى معنى العلم؛ لأن القطع بهذا محال، ولا ترد به شهادته؛ لأنه أخبر باعتقاد الخطأ، ولم يقصد الكذب؛ وهذا كقوله: لا أعرف له وارثاً سواه؛ وهذا ما جزم به البغوي وغيره.
وحكى ابن أبي الدم وجهاً آخر: أنه لا تقبل شهادته؛ لظهور الكذب.
قال: وعلى هذا هل يصير مجروحاً في غيرها؟ فيه وجهان.
فرع: شهد شاهدان: أنه لا وارث لفلان سوى عمرو، [و] شهد آخران: أنه لا وارث له سوى زيد- ثبت أنهما وارثان، ولا تعارض؛ لأن كل بينة ربما اطلعت على ما تطلع عليه الأخرى؛ حكاه الرافعي في الفروع.
قال: وإن لم يقولا: لا نعلم [له] وارثاً غيره، أو قالا ذلك، ولم يكونا من أهل الخبرة، فإن كان ممن له فرض، أي: لا ينقص عنه بحال، وهما الأبوان، والزوجان- دفع إليه الفرض عائلاً؛ عملاً باليقين، واحتياطاً لما عساه يظهر:
فيدفع للزوج الربع عائلاً من خمسة عشر، وهو ثلاثة من خمسة عشر.
وللزوجة ربع الثمن عائلاً من سبعة وعشرين، وهو ثلاثة من مائة وثمانية.
وللأم السدس عائلاً، وهو سهم من عشرة؛ إن كان الميت امرأة، لأنا نقدر أنها ماتت، وخلفت زوجاً، وأختين [لأم] وأمًّا. وإن كان رجلاً، كان ما يعطاه سهمين من سبعة عشر سهماً؛ لأنا نقدر أنه خلف أختين لأب وأم، وأختين لأم، وأمًّا، وزوجة، وللأب سهمان من خمسة عشر.
قال البندنيجي: ولا يؤخذ منه ضمين.
وفي "تعليق" القاضي الحسين وجه آخر: أنه لا يعطى شيئاً قبل البحث؛ كالابن، والأخ. والأصح الأول.
قال: وإن [كان] ابناً أو أخاً، لم يدفع إليه شيء:
أما الأخ؛ فلجواز أن يكون ثم [من] يسقطه: كالابن.
وأما الابن؛ فلجواز أن يكون ثم من يزاحمه؛ فلا يعرف قدر ما يصرف إليه.
قال: ثم يسأل الحاكم عن حاله في البلاد التي سافر إليها- أي: بالمكاتبة إلى [الحكام، والنداء] فيها: بأن فلاناً قد مات، فإن كان له وارث فليأت؛ فإنا قاسمو تركته- إلى حد يغلب على الظن أنه لو كان له وارث لظهر.
قال في "الحاوي": فإن حضرته بينة، جاز أن يسمعها الحاكم من غير دعوى، وعلى غير خصم؛ لأنها بينة على ما قد لزم من الكشف.
قال: فإن لم يظهر [له] وارث آخر، فإن كان ممن له فرض، أكمل فرضه؛ لانفراده بسبب ذلك.
وقيل: لا يكمل [له] حتى يشهد شاهدان: أنه لا وارث يحجبه؛ لأنه قد أخذ شيئاً في الجملة؛ فلا يضره وقف الباقي.
والمذهب في "تعليق" القاضي أبي الطيب- وهو الصحيح في "الشامل"-: الأول.
وقد قال الإمام بعد حكاية الوجهين عن رواية العراقيين، وصاحب "التقريب": إنهما كالوجهين في أن الأخ هل يصرف إليه بعد البحث شيء أم لا؟
والمذكور في "الشامل" و"تعليق"[القاضي] أبي الطيب: أنهما جاريان على قولنا: يعطى الأخ نصيبه، وأشار إلى الفرق بما ذكرناه من تعليل الوجه الثاني.
قال: وإن كان ابناً، سلم إليه المال؛ لأن الظاهر أنه ليس ثم غيره مع أن الأصل عدم غيره.
ولو كان بدل الابن بنتاً، سلم إليها النصف، والنصف الآخر لبيت المال؛ قاله البندنيجي.
قال: وإن كان أخاً، فقد [قيل]: لا يسلم إليه المال؛ للشك في أصل إرثه؛ وهذا قول ابن سريج؛ كما حكاه الماوردي هنا، ونسبه البندنيجي إلى أبي إسحاق؛
[وكذا الماسرجسي] في كتاب الإقرار نسبه إليه وإلى ابن أبي هريرة.
وقيل: يسلم [إليه] – وهو الأصح- نظراً للظاهر؛ كما في الابن؛ وهذا قول الجمهور؛ كما حكاه الماوردي، وقال: إن الوجهين يجريان في ابن الابن؛ لأنه يحتمل أن يحجب كالأخ.
وأجراهما البندنيجي في الجد أيضاً.
ثم محل الخلاف في الأخ إذا شهدت البينة بوراثته من أخيه، أما إذا شهدت بأنه أخوه، وسكتت عن وراثته – فقد حكى الإمام عن العراقيين: أنهم قالوا: لا يسلم إليه شيء [إلا] بعد الخبرة وجهاً واحداً؛ فإن سكوتهم عن الوراثة يورث ريباً، ويشعر بأنهم يعرفون له حاجباً. ثم قال: وهذا ليس بشيء. والوجه: أن تُختبر، ثم يجري الوجهان، كما قدمناه.
وقد نسب القاضي أبو الطيب ما حكاه الإمام عن العراقيين إلى ابن سريج، وأنه قال: لو شهدت البينة بالبنوة، ولم تذكر أنه وارث، صرفنا إليه إذا لم يكن ثم حاجب بعد الكشف.
وأورده ابن الصباغ، ولم ينسبه إلى أحد.
وفي "تعليق" القاضي الحسين: أنه لو جاء رجل، وادعى على رجل بأن فلاناً مات، وأنا ابنه، وشهد شاهدان بأنه ابنه- فظاهر المذهب: أن هذه الشهادة لا تسمع؛ لأنه يجوز أن يكون ابناً له، ولا يكون وارثاً، ومن أصحابنا من قال: تسمع؛ لأن الظاهر من حال الابن أنه وارث.
قال: ويستحب أن يؤخذ منه، أي: من الآخذ بحكم البحث، لا بحكم البينة كفيل؛ لاحتمال ظهور وارث آخر، وإنما لم يجب؛ لأن الظاهر عدم غيره، ولأنها وثيقة [بغير مطالب]؛ وهذا ما نص عليه في الإقرار.
وقيل: يجب؛ ليكون نفوذ الحكم على الأحوط؛ وهذا ما حكاه المزني هنا؛ حيث قال: طالبه بكفيل.
وقد جمع بعض الأصحاب بين النصين، وأثبت في المسألة قولين.
وبعضهم امتنع من حكاية الخلاف في المسألة، وحمل النصين على حالين؛ [ولذلك] قال الشيخ:
وقيل: إن كان ثقة، استحب؛ للسكون إلى أنه لا يضيع حق من يظهر، وإن كان غير ثقة وجب؛ خوفًا من تضييعه حق من يظهر.
قال: والأول أصح؛ لأنه ظهر له الحق؛ فلا يطالب بكفيل.
وفي "الحاوي" طريقان آخران في الحمل:
أحدهما- وقد أورده البندنيجي وغيره-: أنه إن كان ممن لا يحجب، استحب؛ وإن كان ممن يحجب وجب.
والثاني: إن كان موسرًا ذا مال ظاهر، لم يجب، وإن كان معسراً وجب.
وفي "تعليق" القاضي الحسين: [أنه] إن كان ممن يحجب، وجب قولاً واحداً، وإلا فوجهان.
وقال الفوراني: الصحيح: أن في مطالبتهما جميعاً قولين؛ لأن الابن يحجب حجب نقصان؛ كما يحجب الأخ حجب حرمان.
فإن قيل: ألستم تقسمون مال المفلس بين غرمائه بعد إشاعة أمره من غير ضمين مع جواز ظهور غريم آخر، فما الفرق؟
قيل: الفرق أن حقوق الغرماء متحققة، وحقوق هذا الوارث غير متحققة.
قال الماوردي: ثم إذا دفع إليه الحاكم المال على ما وصفنا، كتب قضية ذكر فيها: أنه دفع المال إليه بعد الكشف الظاهر من غير حكم قاطع بأمر الاستحقاق؛ ليكون إن ظهر له شريك في الميراث غير مدفوع بنفوذ الحكم عليه بإبطال حقه منه؛ ليتمكن من المطالبة وإقامة البينة.
قال: ومن وجب له حق على رجل، وهو مقر، أي: في الظاهر، غير مماطل – لم [يجز أن] يأخذ من ماله [بغير إذنه]؛ لأن له الخيار فيما يقضي به الدين من أي أمواله شاء؛ فلا يجوز إبطاله عليه، فلو خالف وفعل كان آثماً، ويجري على
آخذه حكم الغاصب؛ فيجب [عليه] رده، ولو كان من جنس دينه، ولا يكون تقاصًّا وإن رأينا التقاص؛ لأنه يختص بما في الذمم دون الأعيان؛ لمعنيين ذكرهما القاضي أبو الطيب:
أحدهما: أنهما إذا كانا في الذمة، فلا فائدة لأحدهما بمطالبة الآخر بما [له] في ذمته، بخلاف العين؛ لأنه يجوز أن يكون له فيها غرض صحيح، مثل: أن تكون تذكرة من صديق له، أو ميت له، أو يعلم أنه حلال طلق؛ فيجب صرفها في غير ذلك الوجه؛ فلأجل غرضه منعنا غريمه من أخذها بغير اختياره.
والثاني: أن التقاص إبراء؛ بدليل أنه لا يفتقر إلى إيجاب وقبول؛ كما لا يفتقر الإبراء إليهما، وقد أجمعنا على أن الإبراء لا يصح إلا بما في الذمة؛ فكذلك التقاص.
نعم، لو تلف المأخوذ في يد الآخذ، وكان من الجنس جرى التقاص حينئذٍ.
قال: وإن كان منكراً، أي: في الظاهر؛ كما قاله البندنيجي وابن الصباغ، وله بينة – فقد قيل: يأخذ؛ لأن هنداً قالت: يا رسول الله، إن أبا سفيان رجل شحيح، وإنه لا يعطيني ما يكفيني وولدي [إلا ما أخذت منه سرًّا؟ فقال لها رسول الله صلى الله عليه وسلم:"خذي ما يكفيك وولدك بالمعروف] "، فأذن لها في الأخذ مع القدرة عليه بالحاكم؛ لأن وجوب ذلك عليه ظاهر.
ولأن في حضور الشهود وتعديلهم عند الحاكم، وسماع البينة – تطويلاً ومشقة، وربما كان فيه غرر؛ لأن الشهود ربما جرحوا.
وقيل: لا يأخذ؛ لأن البينة حجة يمكنه أن يأخذ حقه بها؛ فكانت بمنزلة إقراره بالدين وهو مماطل؛ كذا قاله أبو الطيب، ومقتضاه: أن المقر المماطل لا يجري فيه الخلاف المذكور، وهو [ما] صرح به الإمام والغزالي.
وفي "الحاوي" و"الرافعي" التسوية بين المقر المماطل، والمنكر الذي عليه البينة
في إجراء الخلاف في جواز الأخذ، لكن الماوردي خص الخلاف فيهما بما إذا كان المأخوذ من غير الجنس، [وقال فيما إذا كان من الجنس]: إنه يجوز وجهاً واحداً؛ لأن إحواجه إلى المحاكمة عدوان من الغريم، وكلام الشيخ الآتي من بعد يقتضي إجراء الخلاف في الحالين.
ثم ما الصحيح من الوجهين في مسألة الكتاب؟
الذي يقتضيه كلام الماوردي: أنه الأول؛ لأنه قال: [إن القائل به هو الذي رأى أن له البيع] بنفسه.
ومقابله: رأي من قال: [إنه] لا يبيع بنفسه.
وقد صرح بأن الصحيح الأول القاضي أبو الطيب؛ كما قال الرافعي، وتبعه المصنف والروياني وصاحب "المرشد" والفوراني.
وفي "الرافعي": أنه يروي عن أبي إسحاق وابن أبي هريرة، وهذه الرواية إن صحت كان فيها مخالفة لما قاله الماوردي؛ لأن ابن أبي هريرة من القائلين بأنه لا يبيع بنفسه.
قال: وإن كان منكراً، ولا بينة له – فله أن يأخذ؛ لعجزه عن حقه إلا بأخذه بنفسه.
قال الماوردي والبندنيجي وابن الصباغ وغيرهم: وهكذا لو كانت له بينة، وعجز عن الأخذ؛ لقوة سلطان الغريم.
وعن القفال في مسألة الكتاب: أنه ليس له الأخذ، بل يقتصر على التحليف.
وعلى الأول: لو كان صاحب الحق يرجو إقراره لو حضر عند القاضي، وعرض عليه اليمين- وجب إحضاره، ولم يجز له الأخذ إن قلنا: إنه لو كان مقرًّا مماطلاً؛ لم يجز له الأخذ؛ قاله الرافعي.
قال: وإن كان – [أي:] المأخوذ – من غير جنس حقه، باعه بنفسه- أي: من غير حاكم- لأنه قد يتعذر [عليه] إثبات حقه عند الحاكم، فوليناه بيعه بنفسه؛ لأجل الضرورة؛ كالآخذ؛ وهذا قول أكثر الأصحاب في "الحاوي".
وفي "تعليق" القاضي أبي الطيب و"الشامل" نسبته إلى الإصطخري.
وقال البندنيجي: إنه المنصوص.
وقيل: يواطئ من يقر له بحق عند الحاكم، وأنه ممتنع؛ لبيع الحاكم عليه؛ لأنه لا ولاية له على الغريم، ولا نيابة، وللحاكم الولاية على الممتنعين بغير حق؛ فكان له سلوك هذه الطريقة؛ توصلا إلى استيفاء حقه؛ وهذا قول ابن أبي هريرة.
وما ذكره الشيخ من تصويره موافق لما أوره القاضي أبو الطيب والبندنيجي وابن الصباغ عنه؛ فإنهم حكوا عنه أنه قال: يواطئ رجلاً يحضر معه مجلس الحكم، ويقر له بدين، وأن المال الذي في يده رهن عنده بما له عليه من الدين، ويمتنع من بيعه؛ حتى يبيع الحاكم عليه، ويوفيه الثمن.
وفي "الحاوي": أن ابن أبي هريرة صور ذلك بأن يأتمن رجلاً، ويحضره إلى الحاكم، ويدعي عليه أن له ديناً على غريم، وقد ائتمن هذا على ما في يده أن يبيعه [في ذمتي، وأسأل إلزامه ببيع ذلك، وإلزامه قضاء ديني من ثمنه،
[ويعترف الحاضر] بما ادعاه من الدين وائتمانه على ما في يده؛ ليباع في دينه؛ فيأمر الحاكم ببيعه.
قال: والأول أصح؛ لأن في هذه المواطأة فجوراً وغروراً؛ فإن الحكم وإن وقع موافقاً لما في نفس الأمر، فسببه في الظاهر باطل، ولا يجوز سلوك مثل ذلك ليقع الحاكم فيه؛ كما نقول فيمن ظاهره العدالة، وهو فاسق: لا يحل له الإقدام على الشهادة بحق عند من يراه عدلاً؛ لهذا المعنى.
وما ذكره ابن أبي هريرة من أنه ليس بوالٍ ولا نائب، فجوابه: أن الإذن قد يسقط عند تعذره؛ كما تؤخذ الزكاة ممن هي عليه، ولا يؤديها، ويسقط إذنه.
وفي "التهذيب" موافقة الشيخ على التصحيح إذا لم يكن للآخذ بينة، أما إذا كانت، قال: فظاهر المذهب: أنه لا يبيعه إلا بإذنه.
وقد سلك المراوزة في حكاية الخلاف في البائع طريقاً آخر، فقالوا: أحد الوجهين: أن الظاهر [أن] يبيع بنفسه.
والثاني- وهو ما اقتضى إيراد الغزالي في "الوجيز" ترجيحه-: أنه يرفع الأمر إلى الحاكم؛ ليبيع بعد إقامة البينة على استحقاق المال.
قال الشيخ أبو محمد في "السلسلة": وهما مبنيان على أن ملتقط اللقيط إذا وَجَد معه مالاً مشدوداً على ثوبه، وأراد أن ينفقه عليه- فهل له ذلك استقلالاً، أم يرفع
الأمر إلى القاضي؟ ويحكى [مثل] هذا عن القفال.
قلت: وعلى هذا الطريق ينطبق قول الماوردي فيما إذا كان له بينة، هل يأخذ غير جنس حقه؟ فيه وجهان: من جوز له البيع [بنفسه]، جوز له الأخذ، ومن منعه من البيع؛ لم يجوز؛ لأنه لا فائدة في الأخذ إذاً؛ فإنه يحتاج إلى أن يرفع الأمر إلى القاضي، ويقيم البينة على استحقاق المال.
وقد حكى الرافعي عن رواية الشيخ أبي حاتم القزويني وجهين في أن القاضي هل يأذن [له] في البيع، أو يفوضه إلى غيره.
وإذا قلنا بالأصح في الكتاب، فإذا باع فلا يبع إلا بنقد البلد إن كان حقه من جنسه، فإن كان [الثمن] قدر حقه أخذه، وإن كان أقل من حقه فكذلك، ويبقى الباقي [له] في ذمة الغريم.
وإن [كان] أكثر من حقه: إما لبيعه بأكثر من ثمن مثله، وإما لكونه لم يقدر على أخذ شيء إلا وقيمته أكثر من حقه، ولم يتمكن من بيع بعضه؛ لعدم تجزئه- أخذ قدر حقه، ورد الباقي عليه بطريقه، فإن لم يقدر على إعطائه له، حفظه عليه.
ولو كان حقه من غير نقد البلد، مثل: البر، والشعير- فعن طائفة من المحققين: أنه يبيع بجنس حقه؛ خشية من التطويل.
قال الإمام: وهو حسن.
ومنهم من قال: لا يبيع إلا بنقد البلد، ويشتري بالثمن جنس حقه، فلو كان حقه دراهم مكسرة، ووجد دراهم صحاحاً- باع بالذهب وإن كان غير نقد البلد؛ للضرورة.
ولو أراد من جوزنا له البيع أن يتملك المأخوذ بحقه، فالذي أورده البندنيجي وابن الصباغ والمصنف: المنع؛ لأنه يؤدي إلى أن يبيع من نفسه، وتلحقه التهمة فيه.
وقيل: يجوز.
قال الإمام: وهو غير معتد به. وإيراد الغزالي يفهم أن القائل بجواز التملك
لا يجوز البيع له.
وكل هذا إذا لم يقدر على الأخذ من جنس حقه، فإن قدر على جنس حقه، لم يأخذ غير جنسه؛ وهذا ما جزم به الماوردي وغيره، فإن خالف واحد؛ كان عاصياً.
وقيل: لا يجوز أخذ غير الجنس وإن لم يقدر إلا عليه؛ حكاه الإمام والفوراني قولاً؛ فعلى هذا: لو كان حقه دراهم مكسرة، فظفر بدراهم صحاحاً، فهل له أخذها؟ فيه وجهان، أصحهما: نعم.
وقيل: يجوز أن يأخذ غير الجنس وإن قدر على الجنس؛ حكاه في "التهذيب" وجهاً.
والذي حكاه العراقيون والماوردي: الأول، واستدلوا بجواز أخذ [غير] الجنس وإن كان من غير الأثمان بقصة هند؛ فإن لها من الحقوق المختلفة ما يعلم تعذر وجود جنسها في مال أبي سفيان.
ومحل القولين بمنع أخذ [غير] الجنس إذا كان الغريم مصدقاً لملكه له، أما إذا كان الغريم منكراً؛ لكونه ملكاً له، جاز أخذه وجهاً واحداً؛ صرح به الإمام في كتاب الوكالة، وقال: إنه مقطوع به، فليفهم الناظر ذلك.
وقد حكيت في باب الوكالة عن الأصحاب الخلاف فيه [أيضاً].
قال: وإن تلفت العين في يده، تلفت من ضمانه؛ لأنه أخذ العين بغير إذن مالكها لغرض نفسه؛ فكانت من ضمانه؛ كما لو اضطر [إلى] طعام الغير، فأخذ منه، وهذا ما اختاره في "المرشد".
فعلى هذا قال البندنيجي: إن كان ثمنها من جنس حقه، كان قصاصاً على المذهب الصحيح.
وقيل: تتلف من ضمان الغريم؛ لأنه استحق أخذها وصرف ثمنها في دينه؛ فأشبهت المرهون؛ وهذا أصح عند الروياني، كما قال الرافعي.
فعلى هذا له أن يأخذ غيرها، وقد رجع حاصل الخلاف إلى أن يده على المأخوذ
من غير [جنس الحق] قبل البيع: يد ضمان، أم يد أمانة؟ ومحلهما- كما قال الماوردي- إذا لم يتمكن من بيعها، فإن تمكن، واستبقاها، ضمنها وجهاً واحداً.
وسلك الإمام طريقاً آخر، فقال: إذا ظفر بغير جنس حقه، وقيمته قدر حقه، وتلف في يده – ضمنه وجهاً واحداً.
ولو لم يقدر إلا على أخذ ما تزيد قيمته على قدر حقه، فهل يدخل الزائد في ضمانه؟ فيه وجهان.
أحدهما: نعم؛ كالأصل.
والثاني: لا؛ لأنه لم يأخذه بحق نفسه.
ولهذه المسألة فروع:
لو لم يتمكن من الأخذ إلا بثقب الجدار، قال القاضي الحسين: جاز له، ولا ضمان عليه؛ كما [في] دفع الصائل.
ولو أخذ ثوباً قيمته عشرة [وحقه عشرة]، فبقي الثوب في يده حتى بلغت قيمته عشرين- فتلك الزيادة محسوبة عليه، وإن انتقصت قيمة الثوب.
فإن كان البيع ممكناً، فالنقص محسوب عليه؛ إن لم يرد العين لتلف أو بيع، وإن ردها فلا شيء عليه.
وإن لم يتمكن من البيع، ثم أمكن؛ خرج على الوجهين.
ولو غصب إنسان عينًا من إنسان، وظفر المغصوب منه بعين للغاصب والامتناع قائم- قال الإمام: فله أن يأخذها، ويبيعها، وينتفع بقيمتها؛ كما لو أبق العبد المغصوب. ثم قال: فإذاً البيع بنفسه ظاهر المذهب.
وإذا رد الغاصب العين؛ رد الظافر قيمة العين.
ولو كان لإنسان على آخر دين، فقال: اشتريت منك دارك بذلك الدين، وقبضتها، فأنكر- جاز لصاحب الدين المطالبة به؛ قاله الرافعي في آخر الخلع.
ولو كان لإنسان على شخص دين، وعليه لذلك الشخص دين [آخر]، فإن لم يجر التقاص إلا بالتراضي، وجحد أحدهما صاحبه، وحلف- فهل للآخر أن يجحد؟ فيه وجهان.
ولو كان للمجحود على الجاحد دين آخر قد قبضه، وله بينة بأصل الدين – فله إقامة البينة، وطلب ذلك الدين؛ كما قاله القاضي أبو سعد.
وعن "فتاوى" القفال: لا؛ لأنهم لو شهدوا، وقال المدعى عليه: إني قضيت ما [شهدت بينته به]، وطلب يمينه- لم يكن له أن يحلف؛ وذلك يدل على أن ما شهد به غير ما يدعيه.
ولو كان للجاحد أو المماطل على شخص دين، فيجوز للمجحود دينه أن يأخذ من مال مديون الجاحد قدر دينه، ولا يمنع من ذلك رد الجاحد، وإقرار المدين له، ولا تكذيب المدين للمدعي على الجاحد؛ كذا قاله الرافعي.
وقد نجز شرح مسائل الباب، ولنختمه بفروع تتعلق به:
أحدها: إذا اختلف الزوجان فيما في البيت، كان بينهما، إلا ما اختص به أحدهما، وثبت يده عليه حسًّا أو شرعاً، ويحلف كل واحد منهما على ما في يده، ولا فرق في ذلك بين أن يكون ما في البيت يصلح لهما، أو لا يصلح إلا للنساء، أو الرجال، سواء كانا مقيمين على الزوجية أو قد حصل الفراق.
وكذا لو كان الاختلاف بين ورثتهما، أو بين ورثة أحدهما وبين الآخر.
الفرع الثاني: إذا ادعى داراً في يد رجل، وقال: إنها ملكي، وأنت مبطل في استيلائك، وعليك ردها عليَّ، فقال المدعى عليه: لا يلزمني التسليم إليك، فأقام المدعي بينة على أن الدار ملكه، ولم تتعرض البينة لأكثر من إثبات الملك للمدعي- قال القاضي: ثبت الملك، ويكفي ثبوته، ويقال للمدعى عليه: إن أثبت
استحقاقاً من استئجار، أو ارتهان، فادَّعِ وأثبت، وإلا فحكم الملك استيلاء المالك باسترداد الملك من يدك.
قال الإمام: وهذا فيه نظر؛ فإن البيت لم تشهد إلا على الملك، والملك لا ينافي استحقاق يد المدعى عليه؛ فلم تقم البينة على وجه يوجب إزالة اليد، وهذا عندي يقرب مأخذه من أن المالك وصاحب اليد إذا تنازعا في [الإعارة، والإجارة] فالقول قول من؟
فإن جعلنا القول قول المالك؛ فيكفي ثبوت الملك هنا، ثم باب الدعوى مفتوح لصاحب اليد، والقول قول المالك.
وإن جعلنا القول قول صاحب اليد، فلا تزال يده ما لم تتعرض البينة لكون صاحب اليد مبطلاً.
قال ابن أبي الدم: وما ذكره القاضي صحيح عندي، ولا يمكن فرض خلاف فيه في المذهب، وقاعدة المذهب تقتضيه، وليس كمسألة الإجارة التي ذكرها الإمام والخلاف فيها، والإشكال الذي ذكره ضعيف جدًّا، وبيانه: أن بينة الخارج موجبة لتقدمه شرعاً على يد الداخل إذا لم تقم له بينة بملك ولا بيد سابقة – مثلاً- ولا بأمر يعارض بينة الخارج.
وكون العين المدعى بها في يد الداخل لا يعارض مجرد هذا بينة الخارج إجماعاً، وإمكان كونها مستأجرة منه أو مرهونة عنده لا يقاوم بينة الخارج إذا سكت ذو اليد عن دعوى ذلك بلا خلاف أيضاً.
نعم، لو ادعى ذو اليد أن العين [بيده] بإجارة، صدق على أحد الوجهين بدعواه، أما عند سكوته فلا ذاهب إليه، ولا نعرف فيه خلافاً، والدليل على صحة ما ذكرناه: أنه لو ادعى عليه ثمن مبيع باعه منه، وسلمه إليه، فأجاب بالابتياع، وقبضه المبيع، وأن الثمن ما ذكره البائع للمدعي، وقال: لا يلزمني تسليم الثمن إليه، أو: ما يستحق عليَّ هذا الثمن، ولا شيئاً منه- فهذا لا يسمع منه إجماعاً وإن أمكن براءته منه.
وهكذا لو ادعى عليه: أنه أتلف عليه ثوباً قيمته عشرة دراهم تعديًا، أو خطأ بغير إذن المالك، وطالبه بقيمته، فقال مجيباً: أتلفته بغير إذنك وهو ملكك، ولكن ما تستحق عليّ قيمته ولا شيئاً منها- فلا يسمع منه أيضاً إجماعاً مع إمكان الإبراء.
ولو قالت: تزوجني تزويجاً صحيحاً بولي مرشد وشاهدي عدل، على صداق مائة دينار، وسلمت نفسي إليه، ودخل بي، فقال مجيباً: تزوجتها [كذلك على ما ذكرت]، ودخلت بها، ولكنها ما تستحق علي هذا الصداق ولا شيئاً منه- فلا يسمع منه على المذهب الصحيح.
وحكي فيه وجه عن الشيخ أبي عاصم العبادي في "فتاويه": أنه يسمع منه، والقول قوله في نفي الصداق، ولم يذكره أحد من الأصحاب في كتب المذهب، ولا ذكره الشيخ أبو عاصم في إنكار الثمن في البيع.
والسبب في عدم قبول إنكاره مع إمكان البراءة: أنه اعترف بالسبب الشاغل لذمته؛ فلا يسمع منه نفيه إلا بدعوى قبض أو براءة؛ فهكذا في مسألتنا قيام البينة للخارج بسبب ظاهر في ثبوت الملك له، وترجيح [جانبه]، فإذا انضم إليه تصديق الداخل بها، تأكد الظهور، وقوي جانب المشهود له بالملك، واعترف بما يوجب عليه التسليم إليه؛ فيلزمه التسليم قولاً واحداً، وإن ادعى ناقلاً فعليه بيانه، أو ما يقتضي إبقاءه في يده فعليه إظهاره، أو إثباته قولاً واحداً، أو إظهاره والدعوى به على أحد الوجهين إن كان إجارة.
قلت: وكلام الأصحاب في الوديعة يدل على ما قاله ابن أبي الدم؛ حيث قالوا: لو ادعى وديعة، فقال: ما لك عندي شيء، فأقام المودع بينة بالإيداع، فقال: أودعني ولكنها هلكت- قبل قوله؛ فلو لم تكن إقامة البينة بالإيداع موجبة للمطالبة بالتمكين من الوديعة؛ لما احتاج المودع إلى دعوى التلف.
وكذا قول من قال من أصحابنا إذا مات المودع، ولم توجد الوديعة في تركته: إنه يضمن، فلو لم يكن مجرد الإيداع يقتضي وجوب الرد والمطالبة به، ودعوى التلف والرد هي المسقط للضمان- لما ضمنه؛ لأنه يحتمل التلف.
نعم، الخلاف المشهور فيما إذا اختلف المالك ومن في يده العين في الإجارة والإعارة، هل المصدق المالك أو الآجر في استحقاق الأجرة أو قيمة العين، أو نفي ذلك، لا في أنه يصدق في عقد الإجارة حتى يتمكن من استيفاء المنافع إذا كان الاختلاف في أول المدة أو انتهائها؛ وحينئذٍ فلا يتجه التخريج المذكور منهما، والله أعلم.
الفرع الثالث: إذا كانت في يد شخص دار، فتنازع فيها نفسان، فقال أحدهما: كلها [لي]، وأقام على ذلك بينة، وقال الآخر: نصفها له، وأقام على ذلك بينة تعارضت البينتان في أحد النصفين، دون الآخر.
فإن قلنا بالتساقط، فكأن لا بينة في النصف المتعارض فيه، وهل تبطل الشهادة في النصف الآخر؟ قال ابن سريج: فيه وجهان؛ كما لو ردت الشهادة في بعض ما شهدته به للتهمة؛ فإن في [الباقي قولين].
قال الشيخ أبو حامد: وهذا سهو منه، بل لا يرد هاهنا في النصف الآخر قولاً واحداً، ويسلم لمدعي الكل؛ لأن سقوط هاهنا بالتعارض، وهو لا يسقطها فيما بقي. وهذا ما أورده الماوردي، وقال: إن يد الثالث هل تزال عن النصف الآخر إذا كان يدعي الدار ملكاً؟ فيه وجهان:
أحدهما: لا؛ لسقوط البينتين بالتعارض.
والثاني: تزال؛ لاتفاق البينتين على عدم ملكه، وليس تعارضهما في حقه، وإنما تعارضهما في حق المتنازعين.
ولو لم يكن من في يده العين قد ادعاها ملكاً لنفسه، نزعت يده، ووقفت للمتنازعين، وهكذا على الوجه الثاني في المسألة السابقة، فإن حلفا جعل بينهما؛ فيكمل لمدعي الكل النصف والربع، ويكون لمدعي النصف الربع لا غير.
وإن نكلا، حكم لمدعي الكل بالنصف، وبقي [النصف] الآخر موقوفاً، فإن حلف أحدهما، ونكل الآخر، قُضي به للحالف؛ وهذا كله على قول التساقط.
وإن قلنا بالاستعمال، لم يخف التفريع.
الفرع الرابع: إذا شهد شاهدان بأن خالداً سرق من زيد في وقت كذا، وشهد آخران: أنه سرق في ذلك الوقت من عمرو- فإن قلنا بالتهاتر فلا قطع، وإن قلنا بالاستعمال، قال القاضي في "الفتاوى": فلا يجيء قول القرعة، والوقف، ويجيء قول القسمة، فإن بلغ نصيب كل واحد منهما نصاباً، قطع، وإلا فلا.
الفرع الخامس: إذا كانت دار في يد ثلاثة: فادعى أحدهم أن نصفها ملكه، وباقيها في يده وديعة أو مستأجراً من فلان الغائب، وادعى الثاني: أن ثلثها له، وباقيها في يده [وديعة] لفلان الغائب، وادعى الثالث: أن سدسها له، وباقيها في يده لفلان الغائب، ولا بينة- فيحلف كل واحد منهم لصاحبيه على ما يدعيه، وتبقى اليد: فصاحب النصف يده على الثلث فهو له، وصاحب الثلث يده على الثلث [فهو له]، وصاحب السدس يده على الثلث، وهو يدعي السدس، ويقر بالباقي للغير؛ فيقبل قوله.
ولو أقام كل واحد منهم البينة على قدر ما يدعيه منها ملكاً؛ أعطي صاحب الثلث الثلث؛ لأن له بالثلث يداً وبينة، ويعطى صاحب النصف الثلث؛ لأن له به يداً وبينة، ويقضى لصاحب السدس بالسدس؛ لأن له [به] يداً وبينة، وبقي هناك سدس في يد صاحب السدس، ولا بينة له، وصاحب النصف يدعي عليهما معاً السدس؛ بدليل: أنهما لو أنكرا؛ حلف له كل واحد منهما؛ فلهذا جعلنا
السدس بين صاحب النصف والسدس.
الفرع السادس: إذا كانت الدار في يد ثلاثة، فادعى أحدهم ملك جميعها، وأقام عليه بينة، وادعى آخر ملك نصفها، وأقام عليه بينة، وادعى الآخر ملك ثلثها، ولا بينة له- سلم لصاحب النصف الثلث؛ لأن له عليه يداً وبينة، ولصاحب الثلث الثلث – أيضاً- لأن له عليه يداً وبينة، والثلث الذي في يد الآخر لا بينة له عليه، وقد قامت بينة صاحب- الكل على استحقاقه، وبينة صاحب النصف على استحقاق نصفه- فلا تعارض في نصفه- وهو السدس- فيسلم لمدعي الكل، ووقع التعارض في السدس الآخر، فإن قلنا بالتساقط سلم لمن هو في يده، وإلا جاءت أقوال الاستعمال فيه.
قلت: ويجيء في ذلك الوجه الذي حكيناه عن ابن سريج في أن البينة إذا لم تسمع في بعض ما شهدت به- لأجل التعارض- تسقط بجملتها على قولٍ؛ فعلى هذا تكون الدار بينهم أثلاثاً بعد أيمانهم، لكن الأصحاب لم يذكروه؛ لضعفه عندهم، والله أعلم.
* * *