الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
باب صفة القضاء
[قال]: إذا جلس بين يدي القاضي خصمان، فله أن يقول لهما: تكلما؛ لأنهما ربما هاباه في الابتداء بالكلام، وهذا نصه، ومعناه: ليتكلم المدعي منكما، وإلا فكلامهما معاً ممنوع منه.
قال في الحاوي: وإذا كان سكوتهما للتأهب للكلام، أو لهيبة حصرتهما عن الكلام، أمسك عنهما حتى يتحرر للمتكلم ما يذكرهُ، وتسكن نفوسهما، والأولى أن يكون القائل لهما:"تكلما" القائم على رأس القاضي، أو بين يديه.
وله أن يسكت حتى يبتدئا؛ لأنهما حضرا للكلام، كذا نص عليه أيضاً، ولا يقول لأحدهما: تكلم؛ لأنه إذا أفرده بالخطاب كسر قلب الآخر. كذا ذكره القاضي أبو الطيب وابن الصباغ وغيرهما، وحكى الرافعي وابن شداد: أنه إذا علم المدعي منهما فله أن يقول له: تكلم.
قال الماوردي: والأولى في آداب الخصمين إذا جلسا للتحاكم أن يستأذنا القاضي في الكلام.
وما ذكره الشيخ متبعاً فيه للنص من السكوت عنهما إلى أن يتكلما، محمول على ما إذا توقع منهما ما ذكرناه، أما إذا كان لغير سبب لم يتركهما على تطاول الإمساك، بل يقول لهما: ما خطبكما؟
وفي "أدب القضاء" لابن أبي الدم أنه قيل: يسكت ولا يقول شيئاً، فإن ادعى واحد منهما، وإلا أقيما من مكانهما.
قال: فإن ادعى كل واحد منهما على الآخر حقّاً قدم السابق منهما بالدعوى؛ لسبقه، ويمنع الآخر من الكلام؛ لأن ذلك يفسد نظام الدعوى، ويمنع كل [واحد][منهما] من أن ينال عرضه أو يحيف عليه، والقاضي جلس للعدل.
قال: فإذا انقضت خصومته سمع دعوى الآخر، [أي:] إذا لم يعارضها سبق غيره كما ذكرنا من قبل؛ لأنه حينئذ لا مانع منها. ولو لم يسبق أحدهما، بل
تكلما معاً فالذي حكاه الإمام عن العراقيين، وبه جزم في "الوسيط": الإقراع، وهو المحكي في "الشامل" عن الشيخ أبي حامد.
وحكى الماوردي معه وجهاً آخر: أنه يصرفهما حتى يتفقا [على] من الطالب منهما.
والذي حكاه ابن شداد: أنه يسأل: من العون؟ فمن قال: إنه أحضره، فهو المدعى عليه، وإن كانا قد حضرا بأنفسهما أقرع [بينهما].
قال: فإن قطع أحدهما [الكلام] على صاحبه، أي: في الدعوى، أو ظهر منه لدد، أي: التواء في الخصومة؛ مثل أن قال: استحلف خصمي، فلما شرع في استخلافه، قال: اقطع حتى أقيم البينة، ولم يكن له بينة، أو قال لما أراد الحاكم أن يحكم: لي بينة أقيمها، ثم عاد ورفعه ثانياً ولم يقم بينة، وما أشبه ذلك مما يعلم منه أنه قصد [به] الإضرار والعنت، أو سوء أدب؛ أي:[مثل أن] عرض للحاكم بأنك ظلمتني، أو: حكمت علي بغير حق، كما قاله البندنيجي.
قال: نهاه؛ ليرجع إلى الحق، وصورته، أن يقول: ذلك لا يجوز فلا تبتذل الناس.
قال: فإن عاد زبره، أي: أغلظ له في الكلام، بأن يصيح عليه، أو يتوعده؛ ليقف عند الحد.
قال: فإن عاد، عزره [؛ أي:] إذا رآه؛ لينكف عن مخالفة الشرع.
واللدد- بفتح اللام، كما قاله ابن الصباغ-: ترك الطريق المستقيم؛ ولهذا يسمى الوجور في أحد الشدقين: لدودا، لأنه يميل، ويقال: خصم ألد، وقال النواوي:[إن] أصله: لديدا الوادي، وهما ناحيتاه.
قال: فإن ادعى دعوى غير صحيحة لم يسمعها، أي: لم يرتب عليها أمراً من
سؤال الخصم وما بعده؛ لعدم استحقاق ذلك.
قال الأصحاب: ويقول له: صحح دعواك، وقد تقدم الكلام في تلقين الدعوى والاستفسار.
قال: وإن ادعى دعوى صحيحة، [أي]: وهي الموصوفة بما سنذكره في باب الدعاوى- إن شاء الله تعالى- قال للآخر: ما تقول فيما ادعاه عليك؟ أي: وإن لم يطالبه المدعي بذلك؛ لأن به تنفصل [الدعوى و] الخصومة؛ فلا معنى للتطويل، ويقوم مقام ذلك قوله: اخرج عن دعواه وشبهه.
وقيل: لا يقول حتى يطالبه المدعي، أي مثل أن يقول: وأنا أسأل سؤاله أو مطالبته بالجواب؛ لأنه حق له، فلا يطالب به خصمه إلا بعد مسألته؛ كما نقول في اليمين: إذا توجهت عليه لا نحلفه إلا بعد مسألة المدعي، وهذا أصح عند القاضي أبي سعد.
قال: وليس بشيء؛ لأن الدعوى تتضمن مسألة الجواب؛ لأنه إنما يدعي عليه حتى يسمع جوابه، والدعوى من غير استدعاء جواب هذيان من المدعي، وتفارق اليمين؛ فإن الدعوى لا تتضمن الاستحلاف، وقد قال في "الإشراف": إن أصل الوجهين الخلاف المذكور فيما إذا جلس بين يدي الحلاق، فحلق رأسه، فهل يستحق الأجرة؟ وأصله مسألة المعاطاة في البيع.
قال الماوردي في باب ما على القاضي في الخصوم: وعلى الوجهين يخرج ما إذا حم بالبينة قبل السؤال، فإن قلنا بالأول نفذ حكمه، وإن قلنا بالثاني، [فلا].
قال: فإن أقر [أي:] بعد سؤال القاضي بالطلب أو بدونه على أصح الوجهين في "تعليق" أبي الطيب و"الشامل" و"النهاية" وغيرها.
قال: لم يحكم عليه حتى يطالبه المدعي؛ لأن الحكم حقه؛ فتوقف على إذنه.
قال الماوردي: فيقول القاضي للمدعي: قد أقر لك بما ادعيت، فماذا تريد [منه]؟ ولا يقول له: قد سمعت إقراره؛ لأن قوله: قد أقر، حكم بصحة الإقرار، وليس قوله: قد سمعت الإقرار، حكماً بصحة الإقرار، وقيل: الحكم: ليس للمقر له ملازمة المقر، صرح به الماوردي.
قلت: ويجيء وجه أنه لو حكم قبل السؤال في هذه الحالة ينفذ كما قلنا بمثله فيما إذا حكم قبل السؤال وقد قامت البينة، ويعضده: أن الرافعي في كتاب القاضي إلى القاضي، حكى عن "العدة" أنه لا يجوز الحكم على المدعى عليه، إلا بعد سؤال المدعي على أصح الوجهين، ولم يخص ذلك بما إذا كان الحق قد ثبت بالبينة، أما إذا أقر قبل سؤال القاضي أو بعده، وقد صدر بدون إذن المدعي، واعتبرنا إذنه في صحة السؤال- قال في "الحاوي": فإقراره يؤخذ به، لكن في حكم القاضي به الخلاف المذكور في القضاء بالعلم: فإن أجزناه أمسك عن سؤاله؛ لاعترافه بالمراد منه، وإن منعناه صار شاهداً فيه، ولم يجز أن يحكم به إلا أن يعود بعد سؤاله، ويكون وجوب السؤال باقياً، ولو كان المدعي قد تفرد بسؤال المدعى عليه بعد الدعوى دون القاضي، فالخصم لا يلزمه الجواب، لكن هل يقوم بسؤاله مقام سؤال القاضي؟ فيه وجهان ينبنيان على أن للقاضي التفرد بالسؤال من غير طلب أم لا؟ فإن قلنا بالأول لم يقم مقامه، ويكون الحكم كما لو أقر قبل السؤال، وإن قلنا بالثاني قام مقامه، وكان كما لو أقر بعد سؤال القاضي المعتد به.
تنبيه: في قول الشيخ لم يحكم .. إلى آخره، ما يعرفك أن الحق قد ثبت ولزم بالإقرار؛ لأن الحكم لا يكون إلا بعد ذلك، وقد صرح به الماوردي والبندنيجي والقاضي الحسين؛ حيث قالوا:[إنه] لو أقر بالحق فقد لزمه، ولكن الحاكم لا يحكم بذلك إلا بعد أن يطالبه المدعي [بذلك]، وهذا بخلاف ما إذا قامت البينة؛ فإن الحق لا يثبت بمجرد الإقامة؛ لأن وراء التعديل وقفات وتوقع ريب؛
فلا بد من قطعها بإظهار القضاء.
وحكى الإمام عن بعض الأصحاب أن الإقرار كالبينة المعدلة، [ثم] قال: وليس بشيء؛ لما ذكرنا.
وقد يفهم من لفظ ابن يونس حكاية الخلاف على غير هذا النحو، والرافعي لما حكى الخلاف كما ذكرناه قال: والطبع لا يكاد يقبل الخلاف فيه؛ لأنه إن كان الكلام في ثبوت الحق المدعي في نفسه، فمعلوم أنه لا يتوقف على الإقرار، فكيف على الحكم بعد الإقرار؟ [وإن كان [المراد] المطالبة والإلزام، فلا خلاف في أن للمدعي الطلب بعد الإقرار]، وللقاضي الإلزام، وإن نظر ناظر إلى وجه ذكرناه في الإقرار: أن الإقرار الطلق لا يكفي للمؤاخذة، بل يسأل المقر عن سبب المال الثابت، فقال: إذا كان الإقرار المطلق مختلفاً فيه كان في محل النظر والاجتهاد، فاعتبر قضاء القاضي على رأي- فهذا شيء لا يختص بالإقرار بعد الدعوى في مجلس القاضي؛ بل ينبغي أن يطرد في محل الإقرار.
[قال: وإن أنكر فله أن يقول: "ألك بينة؟ "؛ لِمَا رُوِيَ أَنَّ رَجُلاً مِنْ حَضْرَمَوْتَ حَاكَمَ رَجُلاً مِنْ كِنْدَةَ إِلَى رَسُوْلِ اللهِ صلى الله عليه وسلم فِي أَرْضٍ، فَقَالَ لِلْحَضْرَمِيِّ: "أَلَكَ بَيِّنَةٌ؟ " قَالَ: لَا، قَالَ: "فَيَمِينُهُ"].
قال: وله أن يسكت؛ تحرزاً من اعتقاد ميل إلى المدعي، وهذا ما حكاه الماوردي في أوائل باب ما على القاضي في الخصوم، عن بعض الأصحاب، وحكى عن بعضهم أنه اختار أن يقول للطالب: قد أنكرك ما ادعيته فماذا تريد؟ وقال بعد ذلك: إنه مخير: إن شاء قال: قد أنكرك فهل لك بينة؟ وإن شاء قال: قد أنكرك فما عندك فيه؟
قال: والأولى الأول مع من جهل، والثاني:[أولى] مع من علم.
وفي كتب المراوزة حكاية وجه أنه لا يقول ذلك؛ [لأنه] كالتلقين لإظهار حجته.
وفي "ابن يونس" أن موضع السكوت إذا كان المدعي يعلم أن ذلك موضع إقامة البينة، أما إذا كان لا يعلم ذلك فإنه يقول: ألك بينة؟ وهذا ما أفهم كلامه في "المهذب": أنه على وجه الوجوب.
[قال: فإن قال: ما لي بينة، فالقول قول المدعى عليه مع يمينه إذا لم تكن الدعوى في دم، كما قيده الشافعي- رضي الله عنه لقوله صلى الله عليه وسلم:"البَيِّنَةُ عَلَى المُدَّعِي وَاليَمِيْنُ عَلَى مَنْ أَنْكَرَ".
قال ابن الصباغ وغيره: ويسأل الحاكم المدعي: هل يختار إحلافه أم لا؟].
قال: ولا يحلفه حتى يطالبه المدعي؛ لأن استيفاء اليمين حق له فتوقف على إذنه كالدين، ولو حلفه قبل الطلب لم يعتد بها.
وفي "البحر": أن بعض أصحابنا بخراسان قال: [إنه] يعتد به، وهو غلط. وكأنه يشير إلى ما حكي عن الشاشي؛ فإن القاضي الحسين حكى أن الشاشي قال: المذهب: أن للقاضي أن يحلفه قبل طلب اليمين.
وفي "الإشراف" نسبة هذا المذهب إلى الشاشي نفسه، وحكاه أبو الفرج الزاز وجهاً، ووجهه بأن للمدعى عليه غرضاً في اليمين وهو سقوط المطالبة والملازمة، وادعى أنه أصح.
قال القاضي الحسين: والذي قاله أكثر أصحابنا الأول [، ولم يورد سواه في باب ما على القاضي في الخصوم].
وعلى هذا قال الإمام في باب امتناع اليمين: وحق [على] القاضي أن يقول للمدعي: أحلف خصمك إن أردت، وإلا فاقطع طلبتك [عنه] وارتك رفعه إلى مجلس الحكم.
[ثم] كما لا يعتد باستحلاف القاضي قبل الطلب لا يعتد [باليمين أيضاً] بعد الطلب وقبل إحلاف القاضي كما صرح به القاضي الحسين.
وفي "الحاوي": أنه هل يجوز للقاضي أن يعرض عليه اليمين قبل مسألة المدعي إذا لم يعتد باليمين قبل الطلب؟ فيه وجهان:
أحدهما- عن ابن سريج-: أنه يجوز؛ ليعلم إقدامه عليها فيعظه [أو يحذره]، وقال في باب موضع اليمين: لو فوض الحاكم إلى الحالف اليمين، فاستوفاها على نفسه- كان الحاكم مقصراً، وهل يجوز؟ فيه وجهان محتملان:
أحدهما: يحتسب بها؛ لأنها باجتهاد الحاكم وعن أمره.
والثاني: لا؛ لأنها تصير محمولة على نية الحالف، وهي مستحقة على نية المستحلف؛ فكانت غير مستحقة.
فرع: لو قال المدعي للمدعى عليه: قد أبرأتك عن اليمين؛ سقط حقه من اليمين في هذه الدعوى، وله استئناف الدعوى وتحليفه، ذكره في "التهذيب" و"المهذب"، ويظهر أن ذلك مبني على مذهب العراقيين الذي سنذكره.
أما إذا قلنا بمذهب المراوزة فيظهر ألا تسوغ الدعوى عليه ثانياً.
قال: وإن نكل [المدعى عليه] عن اليمين، أي: بأن قال بعد قول القاضي له قل: بالله، [أو: احلف بالله]-: لا أحلف، أو: أنا ناكل، [وهو عارف بمعنى النكول]- رد اليمين على المدعي؛ أي: إذا كان الحق له؛ لأن عمر- رضي الله عنه بدأ باليمين على المدعى عليهم، ولما لم يحلفوا ردها على المدعين، وقد رَوَى ابْنُ عُمَرَ- رضي الله عنهما أَنَّ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم رَدَّ اليَمِيْنَ عَلَى طَالِبِ الحَقِّ، وسنذكر في باب اليمين في الدعاوى ما يقوي ذلك.
قال الغزالي: ولا يحتاج في هذه الحالة إلى قضاء القاضي بالنكول حتى لو قال المدعى عليه بعد قوله: لا أحلف، أو: أنا ناكل-: أنا أحلف، لم يجد إليه سبيلاً.
وهذا أبداه الإمام في كتاب الدعاوى احتمالاً لنفسه، وحكاه في كتاب الإقرار عن رواية شيخه عن بعض الأصحاب، ولم يحك الرافعي عن رواية الإمام سواه، وقال: إن غيره وافقه فيه، والذي صدر به الإمام كلامه في كتاب الإقرار أنه [قال]: لو أراد بعد قوله: نكلت عن اليمين، أو: لست أحلف- الحلف؛ كان له ذلك ما لم يجرِ القضاء بالنكول.
وقد حكى الرافعي مثله عن البغوي فيما إذا قال له القاضي: احلف بالله، فقال: لا أحلف.
وقد اتفق الكل على الاحتياج إلى القضاء بالنكول عند عرض اليمين عليه فلم يحلف ولم يلفظ بأنه ناكل أو ممتنع.
قال الإمام: ولا يجوز له في هذه الحالة أن يقضي بالنكول ما [لم] يظهر له ذلك منه، حتى لو جوز أن يكون امتناعه عن دهش، أو كان يقدر أنه [لا] يفهم عَرْض اليمين؛ لغباوة وعدم إلف بمراسم الخصومات- فليس له [أن] يقضي بالنكول.
ويقوم مقام حكم الحاكم- إذا احتجنا إليه، كما ذكرنا- قول القاضي للمدعي:[احلف، أو]: أتحلف؟
[وقال في "البحر": عندي أن قول القاضي للمدعي: أتحلف]؟ لا يمنع المدعى عليه من الحلف، وأنه الأظهر. [و [هو] ما حكاه الإمام عن القاضي الحسين، ورأيته في "تعليقه"، ووجهه بأنه لم يأمره باليمين، بل استشاره فيها مستفهماً].
وهل يقوم إقبال القاضي على المدعي ليقول له: احلف، مقام الحكم، حتى لو أراد المدعى عليه أن يحلف بعد ذلك لم يجد إليه سبيلاً؟ فيه وجهان عن القاضي الحسين، والذي قطع به جوابه في الكرة الثانية: المنع من العود إلى اليمين.
وفي "الحاوي": أنه لو امتنع عن اليمين، أو قال: قد نكلت عنها، [أو: لست] أحلف- حكاية وجهين:
أحدهما: لا ترد اليمين على المدعي إلا بعد أن يقول للمنكر: قد حكمت عليك بالنكول؛ [لما فيه من الاجتهاد، فإن ردها عليه قبل حكمه لم يصح.
والثاني: يجوز أن يردها على المدعي وإن لم يقل: حكمت عليك بالنكول]؛ لأن ردها [عليه] حكم بالنكول.
قال الأصحاب: ويستحب للحاكم تكرار عرض اليمين على المدعى عليه ثلاثاً قبل القضاء عليه بالنكول.
قال الرافعي والبغوي: واستحبابه في حالة السكوت أكثر من استحبابه فيما إذا صرح بالنكول.
قال الإمام: فلو لم يكرر العرض [عليه] عند السكوت، وقضى عليه [بالنكول]- نفذ إذا ظهر له من العرضة الأولى.
وفي "الحاوي": أن أصحابنا اختلفوا فيما يستقر به نكوله على وجهين:
أحدهما: يستقر بإعلامه ولو مرة واحدة.
[والثاني]- وهو قول أهل العراق-: [أنه لا يستقر حتى يعرض عليه ثلاثاً].
أما إذا كان المدعى عليه لا يعرف معنى النكول بأن كان عاميّاً، قال القاضي الحسين: فيجب على القاضي أن يعلمه بأنك إن نكلت تعرض اليمين على المدعي،
ويحلف ويستحق عليك الدعوى. ويقرب منه قول الماوردي أنه إذا لم يعرف حكم النكول وجب على القاضي أن يعلمه، وأنه يوجب رد اليمين على المدعي ليحكم له بيمينه.
ولو اشتبه أمره على القاضي، قال القاضي الحسين: فهو كما لو كان عارفاً بحكم النكول؛ فلا يجب ذكره [له]، بل يستحب.
ثم حيث قلنا: يجب الإعلام بحكم القاضي بالنكول، ولم يعلمه- قال الإمام: فهذا فيه احتمال ظاهر، والأوجه: أن قضاءه بالنكول ينفذ.
وقد أقام الغزالي هذا الاحتمال وجهين.
واعلم أن قول القاضي للمدعى [عليه]: احلف بالله، ليس أمراً جازماً، كما قال الإمام، ولكنه إبانة وقت الحلف واليمين المعتد بها إن أرادها المدعى عليه.
فرع: لو لم ينكل المدعى عليه عن اليمين، لكن قال بعد الإنكار وعرض اليمين عليه: قد حلفني مرة على هذا الحق- نظر: فإن ادعى أن هذا القاضي هو الذي حلفه، قال القاضي الحسين: فإن تذكر أنه حلفه لم يحلفه مرة ثانية، وإن لم يتذكر لم يلتفت إلى دعوى المدعى عليه؛ لأن إقامة البينة على ذلك غير ممكنة كما صرح به غيره.
وعن ابن القاص- كما حكاه أبو سعد الهروي-: أنه يجوز سماع البينة على أنه حلفه، ورأيت في "الإشراف" أن ابن القاص عزاه إلى النص، قال الرافعي: وحقه الطرد في كل باب.
قلت: وقد طرده، كما سنذكره عنه.
ولو لم تقم بينة، ورام تحليفه- جزم في "البحر" بأن له ذلك.
وإن ادعى أن الذي حلفه غير هذا القاضي، ففي السماع وجهان لأبي سعيد الإصطخري، وهما في "الوسيط" وغيره، مأخوذان من أن الدعومى بما ليس عين
الحق ولكنه ينفع في الحق هل تسمع أم لا؟ وفيها خلاف سنذكره، والذي قطع به القاضي الحسين منهما في الكرة الثانية، وبه أجاب في "التهذيب": السماع ها هنا؛ فعلى هذا: إن حلف: إنه ما حلفه، فذاك، وإن نكل حلف هو وتخلص عن الخصومة، وله في هذه الصورة إقامة البينة.
ولو قال المدعي: قد حلفني على ذلك، فحلفه: إنه ما حلفني إني ما حلفته- لم يسمع؛ للتسلسل، وكون المدعي أحق بالحلف؛ لأنه الطالب، كذا حكاه الغزالي وغيره، وفي "البحر" نسبة ذلك إلى تخريج ابن القاص، على أن الرافعي حكى عن ابن القاص أنه قال بعدم سماع [دعوى] المدعى عليه أنه حلفه.
قال: فإن حلف استحق؛ لأنه فائدة الرد.
وحكى في "الإشراف" وجهاً آخر أن الحق لا يجب إلا بحكم الحاكم، وأشار إلى بناء الوجهين على أن يمين الرد كإقرار الخصم أو كالبينة المقامة عليه؛ وفيها قولان مشهوران، وقال الإمام: إنهما مستنبطان من كلام الشافعين رضي الله عنه.
قال القاضي الحسين: فكأنا على قولٍ نغلب جانب المدعى [عليه، وننزل النكول من جهته منزلة الإقرار، وعلى قولٍ نغلب جانب المدعي] وننزل ما يأتي به منزلة بينة يقيمها، والصحيح من القولين في "المهذب" في كتاب النكاح وغيره، وفي "الرافعي" وغيرهما، وهو المنصوص في "المختصر"-: أنها كالإقرار؛ لأن النكول صادر من جهة المدعى عليه واليمين مترتبة عليه.
وعلى ذلك ينطبق قول ابن الصباغ في باب دعوى الدم: إن قولنا: إنها كالبينة، قول ضعيف. [واستدل على ضعفه في باب] النكول ورد اليمين بأن القاذف لو ادعى على المقذوف أنه زنى؛ فنكل، وحلف هو- سقط عنه الحد، ولا يجب على المقذوف حد الزنى، وكذا لو ادعى على شخص سرقة نصاب، فنكل، وحلف هو- وجب المال دون القطع، ولو كان كالبينة لوجب الحد في الصورتين؛ فدل على أنه
كالإقرار، ويجعل إنكاره رجوعاً عنه. وما قاله من عدم إيجاب الحد والقطع هو المذكور [في "تعليق" القاضي أبي الطيب و"الحاوي" وغيرهما في الباب المذكور].
لكن في "النهاية" في كتاب السرقة حكاية عن الأصحاب: أن القطع يجب باليمين المردودة؛ لأنا إن جعلناها كالإقرار، فالقطع يثبت به، وإن جعلناها كالبينة، فهي كبينة كاملة؛ بدليل أن القصاص يثبت بها، ثم قال: وقد يخطر للناظر في هذا أدنى إشكال؛ لأن اليمين لا تتعلق إلا بالمال [فقط]، والقطع لله- سبحانه- ولو قال رجل: استكره فلان جاريتي وزنى بها، فأنكر المدعى عليه، وأفضت الخصومة إلى [يمين الرد]- فالمهر يثبت بها، ويبعد أن يثبت حد الزنى؛ فإذن [يجب] ترديد الرأي في ثبوت حد السرقة لما أشرنا إليه، ويجب القطع بأن حد الزنى لا يثبت، وما قاله العراقيون أظهر، لكن قد يعضد القول بأن النكول مع اليمين كالبينة بنص الشافعي- رضي الله عنه في "الأم"؛ حيث قال- كما حكاه في "البحر" وغيره في كتاب الدعاوى-: لو تعلق رجل برجل، فقال: أنت عبدي، فقال: بل أنا حر الأصل- فالقول قوله، واصل الناس على الحرية حتى تقوم بينة أو يقر برق، ويُكلف المدعي البينة: فإن جاء بها كان العبد رقيقاً [له]، وإن لم يأت بالبينة أحلف له العبد: فإن حلف كان حرّاً، وإن نكل لم يلزمه الرق حتى يحلف المدعي على رقه، فيكون رقيقاً له، وهكذا الأمة مثل العبد سواء.
قلت: فلو كان النكول مع اليمين كالإقرار لم يثبت رقه؛ لأن الإقرار بالرق بعد الاعتراف بالحرية غير مقبول على الأصح، والله أعلم.
وقد بنى القاضي الحسين على القولين ما إذا أراد المدعى عليه إقامة بينة على الإبراء وأداء المال بعد حلف المدعي، فإن جعلناها كالبينة سمعت بينة المدعى عليه، وإن جعلناها كالإقرار فلا تسمع؛ كما لو أقر صرحياً، ثم أقام شاهدين. وهذا البناء مذكور في "الرافعي"- أيضاً- وبنى في "المهذب" عليها ما إذا ادعى [رجل] على
المفلس بعد الحجر مالا، وأنكره ولم يحلف وحلف المدعي، فقال: إن قلنا: إن يمين الرد كالبينة، شارك الغرماء في المال، وإن قلنا: إنها كالإقرار، فعلى القولين في الإقرار، وكذا بني عليهما ما إذا ادعى إتيان زوجته امرأة، وقد تقدم، وللقولين فوائد مذكورة في الأبواب.
فرع: إذا شرع المدعي في اليمين، فقال المدعى عليه للقاضي: لا تحلفه، فأنا أعطي المدعى به إليه- قال القاضي الحسين في كتاب الدعاوى في موضعين منه: إن له أن يكمل اليمين حتى يأخذه على وجه الاستحقاق، لا على وجه التبرع.
قال: وإن نكل صرفهما؛ لأن الحق لا يثبت إلا بالإقرار أو ببينة، وليس النكول واحداً منهما، ولا معنى لمقامهما.
و [قد] حكى القاضي أبو الطيب وغيره أن الشافعي- رضي الله عنه قال في هذه الصورة: يسأل المدعي عن إبانة، فإن قال: امتنعت لحساب بيني وبينه أريد أن أراجعه، أو: أريد أن أستفتي الفقهاء هل يجوز [لي] أن أحلف أم لا؟ أجله الحاكم ثلاثاً لا يزيد عليها، وهذا بخلاف ما إذا امتنع المدعى عليه من اليمين، لا يسأل عن سبب امتناعه؛ لأنه إذا امتنع من اليمين ظهرت هناك يمين أخرى من جهة المدعي، توجب الحكم بها، فلو سألناه عن سبب امتناعه عن اليمين لم يعقب الحكم لنكوله؛ ولأن هناك ما يرجع إليه ويحكم به، وهو يمين المدعي، وليس كذلك امتناع المدعي عن اليمين.
قلت: وقضية هذا الفرق ألا يشرع عند نكول المدعى عليه تكرار العرض عليه، وقد حُكي [عن] ابن القاص أنه قال: قياس ما ذكره الشافعي في امتناع المدعي: [أن يسأل المدعى] عليه عن سبب الامتناع أيضاً.
وفي "أدب القضاء" للزبيلي أن ابن سريج قال: الاحتياط- أيضاً- أن يقال ذلك للمدعى عليه إذا نكل.
وقد حكى الإمام في كتاب الإقرار أن المدعي لو سكت، وقال: سأفكر وأراجع حسابي- أن بعض الأصحاب قال: يفصل القاضي الخصومة، ويكون امتناعه كامتناع
المدعى عليه، ويقول للمدعي: استمهالك بعد الخوض بالاختيار لا معنى له، وإذا كنت لا أعذر المدعى عليه في استمهاله، فأنت أولى بذلك من جهة أن المدعى عليه مرفوع [إلى] مجلس القاضي قهراً، وأنت تحضره مختاراً، فهلا كان فكرك قبل الحضور؟
وهذا متجه حسن، والذي عليه عامة الأصحاب المنع من الإلحاق؛ لما ذكرناه.
وفي "المهذب": أنه لا يسأل المدعى عليه عند الامتناع، لكنه لو ابتدأ فقال: امتنعت لأنظر في الحساب؛ أُمهل ثلاثة أيام، [وقد حكاه في "التهذيب" وجهاً.
وفي "الحاوي" في باب الامتناع عن اليمين: أن المدعى عليه لا يسأل عن سبب النكول إلا أن يبتدئ فيقول: أنا متوقف عن اليمين؛ لأنظر في حسابي، فينظر ما قل من الزمان، ولا يبلغ إنظاره ثلاثة أيام].
أما إذا [كان] الحق لصبي أو مجنون أو سفيه، بأن كان المدعي وليّاً أو وصيّاً أو قيماً، فهل له أن يحلف؟ فيه ثلاثة أوجه حكاها القاضي الحسين والبغوي في باب الامتناع عن اليمين، والإمام في كتاب الصداق، ثالثها: إن باشر سبب ذلك بنفسه [فله الحلف]، وإلا فلا.
قال الرافعي: وهذا ما رجحه أبو الحسن العبادي، وبه أجاب السرخسي في "الأمالي"، وهي تجري فيما إذا أقام شاهداً وأراد أن يحلف معه، صرح بذلك البغوي والرافعي.
وإذا قلنا: لا يحلف، وهو الذي ذكره العراقيون وصاحب "الحاوي" في باب النكول ورد اليمين- قال القاضي والبغوي: فتوقف اليمين حتى يبلغ [الصبي]، والسفيه يحلف: إنه يستحق عليه تسليم المال، ولا يقول: إليّ، ولا: إلى قيِّمي.
قال القاضي: وفي حال وقف اليمين إلى البلوغ ينزع المدعي به من يد المدعى عليه إن كان عيناً، وإن كان في الذمة؛ فوجهان في نزعه.
والحكم في قيم المسجد والوقف، كالحكم في قيم الصبي، [وسنذكره في باب اليمين في الدعاوى بزيادة ذكرت ثم].
قال: وإن قال المدعى عليه بعد النكول، أي: وما في معناه كما ذكرناه: أنا أحلف- لم يسمع؛ لأنه أسقط حقه [منها] بالنكول.
وفي "التهذيب" حكاية وجه آخر صدر به كلامه: أن له أن يحلف بعد النكول ما لم يعرض القاضي اليمين على المدعي أو يحكم بالنكول، وقال فيما إذا هرب المدعى عليه قبل ذلك وبعد النكول: لم يكن للمدعى عليه الحلف إذا عاد. وقد حكاه الرافعي عن غيره، ثم قال: وقضية ذلك التسوية بين التصريح بالنكول و [بين] السكوت؛ حتى لا يمنع من العود إلى اليمين في الحالين إلا بعد الحكم بأنه ناكل، أو بعد عرض اليمين على المدعي.
قلت: وهو قضية ما حكيته عن الماوردي من قبل، وقد صرح به الإمام في كتاب الإقرار، [ولم يحك سواه].
قال الرافعي: وقد يفهم من قول من قال: إنه لا حاجة عند التصريح بالنكول إلى حكم الحاكم- امتناع العود إلى الحلف عند التصريح بالنكول، و [إن] لم يوجد حكم بالنكول ولا عرض يمين.
ثم حيث منعنا المدعى عليه من العود إلى اليمين؛ فذاك إذا لم يرض المدعي بيمينه، فلو رضي فوجهان، أظهرهما في "النهاية" و"الرافعي": الجواز، وهو ما ادعى الإمام في كتاب الإقرار أنه قول الأصحاب عن آخرهم.
وعلى هذا: فعن "الرقم"- وهو في "تعليق" القاضي الحسين [أيضاً-: أنه] لو لم يحلف المدعى عليه لم يكن للمدعي أن يعود إلى يمين الرد؛ لأنه أبطل حقه [حيث رضي] بيمين المدعى عليه.
قال: وإن قال المدعي بعد النكول: أنا أحلف، لم يسمع؛ لما بيناه، إلا أن [يعود] في مجلس آخر ويدعي، وينكل المدعى عليه؛ لتجدد الحق بتجدد الدعوى؛ فإن النكول الثاني سبب لرد اليمين كالنكول الأول، وهذا ما حكاه البندنيجي وابن الصباغ وكذا الماوردي في باب الامتناع عن اليمين، لكنهم لم يشترطوا العود في مجلس آخر، وصاحب "البحر" والقاضي أبو سعد الهروي قالا: ما ذكره الشيخ هنا وفي "المهذب" وحكاه أيضاً الرافعي عن المحاملي في "التجريد"، وفي "الحاوي" في باب ما على القاضي في الخصوم: أن أظهر الوجهين: أنه لا يحكم على المدعي بالنكول، والثاني: يحكم عليه، وهو قول الإصطخري.
والذي حكاه المراوزة: أنه إذا نكل عن اليمين [كان كحِلف] المدعى عليه، أي: فلا يتمكن من الدعوى عليه بذلك مرة أخرى؛ كما صرح به البغوي والإمام، وهو الذي يقتضيه كلام القاضي أبي الطيب؛ حيث قال في "تعليقه": فإذا امتنع المدعي من اليمين سقط حقه، ويفرق الحاكم بينهما، ولا يكون له مطالبته بشيء من ذلك.
وفي "النهاية" في كتاب القسامة بعد ستة أوراق منه حكاية خلاف في أن المدعي إذا أظهر النكول عن يمين الرد، ثم رغب فيها، هل يحلفه أم لا؟ وقال: إن الضابط الذي تمس الحاجة إليه: أن كل نكول يتعلق به حق حالف بعد النكول، فذاك النكول إذا ظهر فلا عود من الناكل، وكل يمين لا يمين بعدها، فالنكول عنها هل يبطل حق الناكل؟ فيه خلاف، ونكوله يتحقق بأن يقول بعد عرض اليمين عليه: لا أحلف، [أو: أنا] ناكل، أما إذا سكت فلم يحلف كان للقاضي أن يقضي عليه بالنكول إذا لم يستمهل، ويكون حكمه كما تقدم.
قلت: واستحباب تكرار العرض ها هنا يظهر تأكده على استحبابه في جانب المدعى عليه.
وعن بعض المراوزة: أنه لا يصير ناكلاً عن يمين الرد ما لم يصرح بالنكول، والمشهور: الأول، وعلى هذا فلو استمهل بأن قال لما عرضت عليه اليمين: أمهلوني ريثما أطالع حسابي، أو: أستفتي، أو: أتثبت في أمري- أمهل، نص عليه، بخلاف ما لو عرضت اليمين على المدعى عليه؛ فإنه لا يمهل إذا استمهل على المذهب، كما تقدم، والفرق: أن المدعى عليه مطالب [محمول] على الإقرار أو اليمين، وأما المدعي فليس محمولاً من جهة أحد، بل هو صاحب الحق: إن أراد أجَّله، وإن أراد قدمه.
ثم قال المراوزة: لا تزيد مدة إمهال المدعي على ثلاثة أيام، وهو ظاهر النص الذي حكيناه من قبل.
وعن بعضهم: أنه لا ضبط لإمهاله بمدة، وسبيله في يمين الرد كسبيله في بيِّنة يقيمها متى وجدها، وهذا ما اقتضاه كلام البندنيجي وابن الصباغ؛ حيث قالا: إذا استمهل لم يسقط حقه من اليمين، ومتى اختار اليمين حلف.
ولفظ البندنيجي: فأي وقت اختار حلف. وهو الذي يقتضيه إيراد البغوي والمصنف وصاحب "الإشراف"، وقال الإمام: هذا يظهر على قولنا يمين الرد تنزل منزلة البينة.
وفي "البحر" في باب ما على القاضي في الخصوم في أواخره: أنا إذا عرضنا اليمين على المدعي [و] استمهل؛ لينظر في الحساب، فعاد في مجلس آخر فقال المدعى عليه: أنا أحلف الآن- فيه وجهان:
أحدهما: له ذلك؛ لأن المجلس الثاني لا ينبني على الأول في الأقوال وغيرها.
والثاني: ليس له ذلك، وعلى هذا: يجب ألا يلزم استئناف الدعوى والرد في المجلس الثاني، وهذا ما أورده البغوي.
قال: وكذلك لو ثبت عند قاض آخر نكول خصمه، له أن يحلف المدعي، وكذا إذا
كان المدعي وكيلاً، وقد نكل الخصم، فحضر الموكل- له أن يحلف، ولا يحتاج إلى استئناف الدعوى.
ثم إذا منعنا المدعي من اليمين عند النكول ونحوه، أو مجاوزة مدة الإمهال، فذاك إذا أراد أن يحلف يمين الرد، أما إذا أراد أن يحلف يميناً مع شاهد أقامه، فهل له ذلك؟ فيه قولان حكاهما الماوردي وغيره:
أصحهما في "التهذيب": الجواز؛ لما سنذكره، وهو [ما حكاه في]"المختصر" كما قال الماوردي.
وعند الغزالي: الأصح المنع، وهو ما حكاه في "الجامع الكبير" للمزني. كما قاله الماوردي، وادعى البندنيجي أنه الذي قاله الشافعي ها هنا؛ لأن اليمين في جنبته قد بطلت، وأن الشيخ أبا حامد قال: هي على قولني؛ لأن الشافعي- رضي الله عنه[قال]: إذا قتل له ولي، وهناك لوث معه، فإن لم يحلف حلف المدعى عليه، فلو نكل فهل ترد على المدعي أم لا؟ على قولين:
أحدهما: [ترد]؛ لأنها غير التي نكل عنها.
والثاني: لا ترد؛ لأن اليمين كانت في جنبته، ولا فصل بين الصورتين.
ولأجل ما حكاه الشيخ أبو حامد من القولين في هذه الصورة حكى الإمام القولين- أيضاً- فيما إذا أقام المدعي شاهداً، ونكل عن الحلف معه، وطلب يمين المدعى عليه، فإنه يحلف، فلو نكل اليمين فهل ترد على المدعي أم لا؟ وقد حكاهما المحاملي في باب الخيار في القصاص، والماوردي في باب الامتناع عن اليمين، فإن قلنا: لا يحلف، قال أبو حامد- وكذا ابن الصباغ والقاضي أبو الطيب والقاضي الحسين في باب اليمين مع الشاهد-: يحبس المنكر بالشاهد حتى يحلف أو يعترف؛ لأنه قد تعين عليه ذلك؛ فلا يكون له إسقاطها، ويخالف هذا إذا امتنع المدعي من يمين الرد، وطلب حبس المدعى عليه حتى يحلف، لم يكن له؛ لأن الامتناع من جهته.
قال صاحب "الحاوي" في باب ما على القاضي في الخصوم: وهذا خطأ؛ لأن الحبس على الحقوق يكون بعد [ثبوت استحقاقها]، ولم يثبت الحق بالشاهد. وهذا ما أبداه ابن الصباغ احتمالاً [لنفسه] من وجه آخر، وهو أنا إذا جعلنا امتناعه عن يمينه مع شاهده كالممتنع عن اليمين المردودة، فينبغي ألا يحبس المدعى عليه ويطالب باليمين.
وحكى القاضي الحسين عن القفال أن له الحلف فيما نحن فيه قولاً واحداً؛ لأن هذه اليمين بخلاف تلك اليمين؛ فإن هناك يحتاج [إلى] أن يقول: بالله، إن شاهدي لصادق فيما يقول، وهنا لا يحتاج لذلك. وهذا ما صححه في "البحر" و"الحاوي"، ويشهد لكون هذه اليمين غير الأولى: أن تلك لا تجري في كل حق، وهذه تجري في كل حق تسمع فيه الدعوى.
وقد تكلم الإمام في باب الامتناع من اليمين، في تصوير النكول عن اليمين مع الشاهد، فقال: إذا أقام الشاهد قال له القاضي: إن حلفت معه ثبت حقك، وإن لم تحلف ولم يحلف المدعى عليه؛ منعتك من إعادته إلى مجلس الحكم. ثم قال: وللمدعى عليه بعد إقامة [المدعي] الشاهد أن يقول [للمدعي]: حلفني، أو احلف وخلصني.
فرع: لو قال المدعي بعد إنكار المدعى عليه وقوله: "مالك عندي شيء": نعم- بطلت دعواه إن كان عالماً بالعربية، وإن كان جاهلاً بها فوجهان، قال الماوردي:[كما ذكرنا] في الإقرار.
قال: وإن قال المدعي بعد العجز عن إقامة البينة: لي بينة، [سمعت بينته]، أي: وإن حلف المدعى عليه أو نكل هو والمدعي عن اليمين؛ لقوله صلى الله عليه وسلم:
"البَيِّنَةُ العَادِلَةُ خَيْرٌ مِنَ اليَمِيْنِ"، ولأن البينة حجة كالإقرار، ولو أقر بعد حلفه أو نكول المدعي حكم عليه؛ فكذلك يكون حكم البينة، ولو كان المدعي قد قال: لا بينة لي، [فقد] [قال] القاضي أبو الطيب: ظاهر مذهب الشافعي السماع، واختلف أصحابنا فيه:
فمنهم من قال به، وهو الأصح، وبه جزم القاضي الحسين [والإمام] وصاحب "التهذيب"، وقال الماوردي في باب الامتناع من اليمين: إنه قول جمهور أصحاب الشافعي؛ كما لو قال: لا بينة لي حاضرة، ولأنه ربما [لم] يعلم [بعد] أن له بينة، وأيضاً فقوله: لا بينة لي، يحتمل أنه أراد: حاضرة.
ومنهم من قال: إن كان قد تولى هذه الشهادة بنفسه [لأنه تولى العقد بنفسه]، ثم أنكرها وأقامها بعد ذلك- لم يسمع. وإن لم يكن تولاها، وتولاها وكيله ولم يعلم هو بها، أو كان وارثاً لم يعلم بالشهادة، ثم أقامها- سمعت.
و [قد] حكى الرافعي أن البغوي حكى الوجهين- أيضاً- وهما جاريان- كما حكاهما المراوزة- فيما إذا قال: لا بينة لي حاضرة ولا غائبة، وادعى الغزالي والرافعي أن الأظهر منهما السماع أيضاً، وبه جزم في "الإشراف"، ونسبه الماوردي في باب ما على القاضي في الخصوم- إلى الإصطخري، وقال: إن الأكثرين على مقابله. وتبعه في "البحر" وقال: إنه قيل: [إن] ما قاله الإصطخري ظاهر المذهب.
وبهذا يحصل في المسألة ثلاثة أوجه؛ كما حكاها في "المهذب"، وطردها فيما إذا قال: كل بينة تشهد لي فهي كاذبة، وصحح القبول مطلقاً، وهو ما اختاره في "المرشد".
وفي "الحاوي" في باب الامتناع من اليمين حكاية وجه آخر في أصل المسألة: أنها لا تسمع مطلقاً، وقال:[إنه لا وجه][له]؛ للفرق الذي ذكره صاحب الوجه الثاني؛ لأنه إن لم يجهل فعله في وقته فقد ينساه. ولا خلاف أنه لو قال بعد شهادة الشهود: بينتي كاذبة، أو: شهدوا بالزور- لا تقبل بينته، وهل تبطل دعواه؟ فيه وجهان، أصحهما: لا. ولو قال: بينتي فسقة أو عبيد، ثم أتى ببينة بعد ذلك في مدة يحصل في مثلها الاستبراء والعتق- قبلت، قاله البغوي وشيخه.
وفي "الإشراف" أنه لو قال: كل بينة لي بعد اليمين أو قبلها هي بينة زور أو كاذبة، ثم أقامها- قبلت على النص؛ لأنه يجوز ألا يعرفها أصلاً، وقال بعض أصحابنا: لا تقبل؛ لأنه سبق منه تكذيبها.
قال: ونظيرها ما لو قال المشتري للبائع: بع دارك هذه مني بكذا فإنها ملكك، فاشتراها، [ثم] قامت بينة على الاستحقاق- لم يرجع على البائع بالثمن على رأي ابن سريج، وفيه وجه: أنه يرجع؛ كما لو اشترى شراء مطلقاً، ونظيرها أيضاً ما إذا قال: أودعتني، وأقام بينة أنها هلكت قبل الجحود، وقد حكيناهما في باب المرابحة.
قال: فإن حضرت بينة لم يطالب بإقامتها؛ أي: وله طلب يمين الخصم؛ لأن له في ذلك غرضين:
[أحدهما: أنه] ربما ينزجر عن الحلف؛ فيقر بالحق، ويستغني عن إقامة البينة.
والثاني: أنه إذا حلفه وأقام [عليه] البينة تبين كذبه.
وفي "الحاوي" وجه آخر: أنه ليس له إحلافه؛ لأن مقصود المدعي إثبات الحق دون إسقاطه، ويمكن إثباته بالبينة، وقد نسبه الرافعي في كتاب الدعاوى إلى "فتاوى" القفال.
قال: فإن شهدوا؛ أي: بطلب المدعي، فإن كانوا فساقاً؛ أي: عند القاضي إما لعلمه بذلك أول قيام البينة به- قال للمدعي: زدني في الشهود؛ تحسباً للرد.
ثم ظاهر كلام الشيخ يدل على أنه يصغي لسماع شهادتهم وإن علم فسقهم قبل الأداء، وقد يوجه بأنه لو منعهم من إقامة الشهادة لكان ذلك هتكاً للستر، وإذا تحملنا في الرد لأجل ذلك، فكذلك نتحمل في الإصغاء [لأجله].
وقد جزم القاضي الحسين بأنه لا يصغي إليهم إذا تحقق فسقهم؛ لأنه إذا اشتغل بما لا يعنيه شغله عما يعنيه.
وقال الإمام في باب علم الحاكم بحال من قضى بشهادته بعد حكاية ذلك أيضاً: وقد قدمت من قبل تردداً في ذلك، والقياس أنه لا يصغي إلى من يعلم أنه مردود؛ فالوجه أن يقدم النذير إلى من يريد الإقدام على الشهادة من هؤلاء؛ حتى لا يتعرضوا، فإن فعلوا فهم الذين هتكوا أستار أنفسهم.
ثم المسألة مصورة بما إذا كان الفاسق متكاتماً، والقاضي لا يرى قبول شهادته، أما المعلن بالفسق فلا ينبغي أن يصغي إلى شهادته كالعبد، إلا أن يصح مذهب في قبول شهادة المعلن، ويرى القاضي أن يصغي ليقبل؛ فلا معترض عليه في مجتهد فيه. كذا قاله الإمام، وقال قبل باب الشهادة على الشهادة: إن الشيخ أبا محمد قطع بأنه لا يصغي إلى شهادة المعلن بالفسق، وإن بعض أصحابنا ذهب إلى أنه يصغي إليها، ثم يردها، قال: وهذا بعيد عن قياسنا. وهذا هو التردد الذي أشار إليه، وأصل هذا: أنه لا يصغي إلى شهادة الكافر والصبي والعبد إذا عرف حالهم جزماً؛ كما ذكره القاضي الحسين وغيره، ويرشد إليه قول الشافعي- رضي الله عنه في "المختصر": وإذا شهد صبي أو نصراني أو عبد فلا يسمعها، واستماعه لها تكلف.
قال: وإن كانوا عدولاً، وارتاب بهم؛ أي: لكونهم غير وافري العقول؛ كما قاله أبو الطيب والبندنيجي [وغيرهما]، أو لنظر له في الواقعة وخبال قد يدركه الفطن؛ كما قاله الإمام.
قال: استحب أن يفرقهم فيسألهم؛ أي: على الانفراد، كيف تحملوا؟ أي:[فيقول لهم: من تحمل منكم أولاً؟ وثانياً؟ ومتى تحملوا أي]: فيقول: في أي شهر تحملتم؟ [وفي أي يوم؟ وفي أي ساعة؟ وفي أي موضع تحملوا؟ أي: فيقول: في أي بلد تحملتم؟] وفي أي دار، وفي أي مكان [منها]؟ لأن مع قصور العقل وخبال النفس لا تطيب النفس بقولهم؛ فاستحب الاحتياط بالتفريق على هذا النحو؛ ليقوى به ظهور الحق عند التوافق.
قال الماوردي وابن الصباغ: وقد قيل: إن أول من فعل هذا دانيال النبي عليه السلام.
وقال القاضي أبو الطيب: إن الأصل فيه أن حاجب داود راود امرأة عن نفسها، فأبت عليه؛ فواطأ أربعة من الشهود أن يشهدوا عليها بأن كلباً أتاها، فشهدوا عند داود- عليه السلام فأمر بإقامة الحد عليها، وبلغ ذلك سليمان- عليه السلام قال الماوردي والروياني: وكان إذ ذاك يلعب مع الصبيان، فقال: لو كنت أنا لفرقتهم، وقال لأربعة من الصبيان: اشهدوا عندي على امرأة بأن كلباً أتاها، فشهدوا عنده بذلك، ففرقهم، فسأل كل واحد عن لون الكلب، فاختلفوا؛ فأسقط الشهادة، فبلغ ذلك داود، فاستدعى الشهود، وفرقهم، فاختلفوا؛ فأسقط شهادتهم.
وقد اقتفى علي- كرم الله وجهه- هذا الأثر لما بلغه أن سبعة خرجوا، ففقد واحد منهم، فأتت زوجته إليه، فاستدعى الستة فسألهم عنه، فأنكروا، ففرقهم، وأقام كل واحد منهم عند سارية، ووكل به من يحفظه، واستدعى واحداً منهم، فسأله، فأنكر، فقال: الله أكبر! فظن الباقون أنه قد اعترف، فاستدعاهم، فاعترفوا بقتله، فقال
للأول: قد شهدوا عليك وأنا قاتلك؛ فاعترف؛ فقتلهم.
قال الأصحاب: ولا يدع من سأله منهم أن يرجع إلى أصحابه قبل أن يسألهم؛ لاحتمال أن يعيد عليهم ما قاله فيوافقوه فيه.
قال: فإن اتفقوا وعظهم وخوفهم بالله- تعالى-[أي]: فيقولك شهادة الزور من أكبر الكبائر، وقد توعد الله- تعالى- عليها، [وروي] أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال:"إِنَّ الطَّيْرَ لَتَخْفِقُ بِأَجْنِحَتِهَا بِمَا فِي حَوَاصِلِهَا مِنْ هَوْلِ [ذَلِكَ] اليَوْمِ، وَإِنَّ شَاهِدَ الزُّوْرِ لَا تَزُولُ قَدَمَاهُ حَتَّى يَتَبَوَّأَ مَقْعَدَهُ مِنَ النَّارِ"، وَرُوِيَ:"حَتَّى يُوْجِبَ النَّارَ"، ويقول لهم بعد ذلك: فإن صدقتم فاثبتوا، وإن كذبتم فغطوا رءوسكم وانصرفوا.
قال: فإن ثبتوا، استحب أن يقول للمدعى عليه: شهد عليك فلان وفلان، وقد قبلت شهادتهما، وقد مكنتك من جرحهما، أي: إن كان لا يعلم أن له الجرح؛ لأن في ذلك تنبيهاً له على حفظ حقه وانتفاء التهمة عنه، أما إذا علم أن له ذلك، قال في "المهذب" و"التهذيب" قبيل كتاب الدعاوى: فله أن يقول ذلك، وله أن يسكت.
قلت: ويظهر أن يجيء فيه ما حكيناه في قول القاضي للمدعي بعد إنكار الخصم: ألك بينة؟
قال: فإن قال: لي بينة بالجرح، أمهل؛ لأن عمر- رضي الله عنه كتب إلى [أبي] موسى: اجعل لمن ادعى حقّاً غائباً- أمداً ينتهي إليه.
قال: ثلاثة أيام، أي: فما دونها على حسب ما يراه؛ لأنها مدة قريبة.
قال: وللمدعي ملازمته إلى أن يثبت الجرح؛ لثبوت حقه في الظاهر.
قال: فإن لم يأت بالجرح، أي: في المدة المضروبة له- كان للمدعي أن يطالب بالحق؛ لتعين حقه وعدم المانع منه، قال ابن يونس: ويجب على القاضي الحكم.
وإن بقيت الريبة، وكذا لو روجعوا في بيان مكان التحمل وزمانه، فقالوا: لا يذكر المكان والزمان، ولكنا نتحقق ما شهدنا به- فليس للقاضي- والحالة هذه- أن يجبرهم على التعرض لذلك. ولكن لو بقيت ريبة القاضي وازداد ارتياباً من إصرار الشهود على ما يراجعون فيه- قال الإمام: فللقاضي أن يبحث عن جهات أخر؛ فعساه أني طلع على مطعن، فإن لم يمكن، تحتم عليه إمضاء القضاء، مع انطوائه على الريبة لقيام البينة العادلة.
وفي "تعليق" القاضي الحسين في باب الشهادة على الشهادة: أن الأولى أن يبين المدعي والشهود السبب في الدعوى والشهادة، فإن ارتاب القاضي بحال الشهود طلب منهم أن يبينوا السبب، فإن امتنعوا عنه فوقعت له ريبة بهم رد شهادتهم، وإن لم يقع له ريبة بامتناعهم عن ذكر السبب لم يجز له أن يرد شهادتهم.
أما إذا كان الشهود وافري العقول، فقهاء، حسناً ظاهرهم، فلا يفرقهم؛ لأن في ذلك تهمة لهم وطعناً فيهم، وعليه يدل ما سنذكره من النص.
قال القاضي أبو الطيب: حكي أن رجلاً شهد عند أبي عمر القاضي ببيع بستان، فقال له: كم نخلة في البستان؟ فقال: لا أشك في أن القاضي أعلم بداره مني بالبستان، فقال:[له]: نعم، فقال:[له]: كم جذعاً في دارك؟! فسكت عنه وحكم بشهادته؛ لما ظهر له من وفور عقله وشدة تحصيله.
وروي أن رجلاً شهد عند علي بن عيسى، فقال له: أين شهدت؟ فقال [له]: في فضاء وسعني ووسع المشهود له والمشهود عليه، فقبل شهادته.
وروي أن أم أبي عمرو بن العلاء شهدت عند القاضي سوار مع امرأة أخرى، فجعلت أم أبي عمرو تلقنها وتذكرها؛ فزجرها سوار، فقالت: ألم تسمع قول الله- تعالى-: {أَنْ تَضِلَّ إِحْدَاهُمَا فَتُذَكِّرَ إِحْدَاهُمَا الأُخْرَى} [البقرة: 282]؟! فخجل سوار.
ولو سألهم فلهم ألا يجيبوه ولا يزيدوا على أداء الشهادة، قاله الإمام.
تنبيه: ظاهر كلام الشيخ يقتضي أموراً:
أحدها: استحباب التفريق- كما ذكر- لمن هو ثابت العدالة عنده؛ كما ذكره في "المهذب" أيضاً، والأصحاب من العراقيين لما حكوا قول الشافعي- رضي الله عنه وأحب إذا لم يكن لهم شدة عقول أن يفرقهم، ثم يسأل كل واحد منهم على حدته عن شهادته، واليوم الذي شهد فيه، والموضع ومن فيه؛ ليستدل على عورة إن كانت في شهادتهم، فإن جمعوا الحال الحسنة والعقل لم يفعل ذلك بهم. انتهى.
قالوا: هذا التفريق في حالة الجهل بعدالتهم قبل أن يبحث عنها؛ لأنهم إذا اختلفوا رد شهادتهم، واستغنى عن البحث، وإن ثبتوا بعد التفريق والوعظ حينئذ يسأل.
وأطلقوا القول بأنهم إذا كانوا عدولاً أمضى شهادتهم، لكن ما ذكره الشيخ من التفريق ليس بعيداً عن القياس، وعليه ينطبق إيراد الإمام [هنا]، وكذا في كتاب الإقرار؛ حيث قال: وليس ما ذكرناه من جواز الاستفصال [من القاضي] مردوداً إلى خيرته، ولكنه ينظر إلى حال الشاهدين: فإن رآهما على عدالتهما خبيرين بشرائط الشهادة [فطنين مستقلين]، فله ترك الاستفصال [حتماً، وإن تمارى في أمرهما، فلابد من الاستفصال].
وقد تقع حالة تجب المباحثة فيها حتماً، والاحتياط يقتضيها، ومن هذا القبيل- كما قال في كتاب الشهادات-: سماع شهادة العوام وإن كانوا عدولاً، يتعين الاستفصال
فيها، وليس الاستفصال مقصوداً في نفسه، وإنما الغرض [تبين] تثَبُّتهم في الشهادة. وكذا قول صاحب "البحر" و"الحاوي": إذا استقرت العدالة بالبحث، فإن تجددت فيها استرابة، أعاد البحث والكشف، وإلا فلا يعيده.
وقال القاضي الحسين: إن محل البحث إذا عرف القاضي عدالة الشهود، ثم طالت المدة واحتمل التغير. وعلى هذا يمكن حمل كلام الشيخ، [على أن لمنازع أن ينازع في إمكان حمل كلام الشيخ] على ذلك.
الثاني: أنه يجوز أن يترك التفريق، ويحكم بشهادتهم؛ لأنه لما قال: إن التفريق مستحب، فهم منه أنه [لو تركه جاز].
وقال الإمام في [كتاب]"الإقرار" ما ذكرناه [أولاً]، وقال هنا: إن هذا التفريق حتم، فلو ابتدر القضاء والإمضاء، [لم] يمض قضاؤه؛ فإن حقه ألا يقضي إلا بعد بذل المجهود في [التبين وطلب] غلبة الظن. وعليه ينطبق ما حكاه الجيلي: أن من أصحابنا من قال: يجب [عليه] البحث في أحوالهم؛ ليحصل [به] غلبة الظن، سواء طلب الخصم ذلك منه أو لم يطلبه، وسواء كان ذلك في الحدود والقصاص أو الأموال.
الثالث: جواز إقامة الشهادة في حال غيبة المدعى عليه مع إمكان حضوره؛ لأنه قال: استحب أن يقول للمدعى عليه: شهد عليك فلان [وفلان]، فلو كان المشهود عليه حاضراً لم يكن لقوله ذلك معنى، وقد أشار إلى ذلك الشافعي- رضي الله عنه بقوله في "المختصر": فإن قَبِلَ الشهادة من غير محضر خصم فلا بأس.
وقال في "البحر": إن الشافعي- رضي الله عنه ذكر في "الأم" أن القاضي لا يقبل شهادة الشاهد إلا بمحضر من الخصم المشهود عليه، فإن قبلها بغير محضره فلا بأس، ولا يختلف أصحابنا فيه.
نعم، اختلفوا في أنه إذا سمعها، هل يحكم عليه بها قبل حضوره أم لا؟ وسنذكره.
وفي "تعليق" القاضي أبي الطيب: أن الشهادة هل تسمع في حال غيبة المشهود عليه، أم يحتاج [أن يحضره] ولا يسمعها إلا بحضرته؟ فيه وجهان يأتيان في الكتاب:
أحدهما: يسمعها؛ لأنه غائب عن مجلس الحكم؛ فهو كما لو كان غائباً عن البلد، وهذا ما نقله الربيع.
قال في "الإشراف"- وهو في كتاب العيون-: فإنه قال: وأحب أن يحضره [، فإن [لم] يحضره] وسمع البينة جاز سماعها، ولا يحكم حتى يحضره.
والثاني: لا يسمعها؛ لأنه لا مشقة في إحضاره؛ فلا معنى لسماع البينة في غيبته.
قال في "الذخائر": وهذا هو المذهب. وسنذكره عن غيره من بعد.
قلت: وعلى هذا فيمكن حمل النص على حالة الغيبة عن البلد، وكلام الشيخ على ما إذا كان من شهد عليه لا يعرف أن له جرح البينة، وقد حكى الوجهين الروياني- أيضاً- عن القفال.
[ثم] قال: والصحيح ما ذكرناه، وهو أنه لا خلاف [في جواز سماع البينة.
فرع: إذا استفصل القاضي، هل يتعين على الشاهد التفصيل؟ فيه وجهان في "النهاية" في كتاب الإقرار، ولا خلاف] أنه لا يجب على الشاهد تفصيل الزمان والمكان، وإن استفصل القاضي، والفرق: أن الجهل بالشرائط يقدح، والجهل بالزمان والمكان لا يقدح.
قال: وإن كان الشهود مجاهيل، أي: للقاضي، فإن جهل إسلامهم رجع فيه إلى قولهم؛ لأن الكافر يملك إنشاء الإسلام؛ فكذلك الإقرار به، كذا قاله في "التهذيب".
وحكى صاحب "الحاوي" في كتاب الشهادات وجهاً: أنه لا يقنع بقوله: إني مسلم، حتى يختبر بالإتيان بالشهادتين. وهذا قد يشهد له ما رُوِيَ أَنَّ أَعْرَابِيّاً شَهِدَ عِنْدَ رَسُولِ اللهِ صلى الله عليه وسلم عَلَى رُؤْيَةِ هِلَالِ رَمَضَانَ، فَقَالَ: أَتَشْهَدُ أَنْ لَا إِلَهَ إِلَّا اللهُ؟ فَقَالَ: نَعَمْ، فَقَالَ: أَتَشْهَدُ أَنِّي رَسُولُ [اللهِ؟ قَالَ]: نَعَمْ. فَأَمَرَ النَّاسَ بِالصِّيَامِ".
قال الأصحاب: ولا يعمل في الإسلام بظاهر الدار من غير سؤال، بخلاف اللقيط؛ لأن هذا يتعلق به إيجاب حق على غيره؛ فاحتيط فيه.
وفي "الحاوي" في [كتاب] الشهادات حكاية وجه آخر: أنه إذا شوهد في دار الإسلام على قديم العهد وحديثه، يحكم بإسلامه في الظاهر والباطن، ولا يسأل.
قال: وإن جهل حريتهم، أي: وادعوها، لم تقبل إلا ببينة؛ لأن العبد لا يملك الحرية فلا يقبل قوله فيها. وقيل: يرجع فيها إليهم أيضاً؛ كالإسلام.
قال في "المهذب": وهو ظاهر النص، أي: المنقول في كتاب الشهادات؛ فإنه قال [فيه]: ولا يقبل الشاهد حتى يثبت عنده بخبر منه أو ببينة أنه حر، ووجهه: أن الظاهر من الدار حرية أهلها؛ كما أن الظاهر من الدار [إسلام أهلها].
والأول أظهر في "المهذب" و"الحاوي" وغيرهما.
قال في "الحاوي": وقد اختلف أصحابنا في مراد الشافعي بقوله: ولا يقبل الشاهد .. إلى آخره، على وجهين:
أحدهما: لا يسمع الشهادة حتى يعلم حرية الشاهد وإسلامه فيسمعها، ثم يسأل عن العدالة؛ لظهور الحرية والإسلام وخفاء العدالة.
والثاني: لا يحكم بها حتى يعلم حريته وإسلامه، [ويجوز أن يسمع قبل العلم بحريته وإسلامه].
قال: وإن جهل عدالتهم، أي: وكانوا وافري العقول، سأل، أي: على وجه
الوجوب- كما قاله الماوردي والإمام- عن اسم كل واحد منهم، وعن كنيته وعن صنعته وسوقه ومصلاه؛ حتى لا يشتبه بغيره على من يذكر له.
قال الأصحاب: ويرفع في نسبه إن لم يكف ذكر الاسم والكنية في تعريفه، ويستقصي حِلاه؛ كما قال الشافعي، رضي الله عنه.
قال: واسم المشهود له، أي: وحليته وصنعته، ونحو ذلك كما تقدم؛ كما صرح به القاضي الحسين، ووجهه: الاحتراز عن أن يكون ممن لا تقبل شهادة [الشاهد] له؛ لقرابة أو غيرها.
قال: والمشهود عليه، أي: بالصفات السابقة تحرزاً من أن يكون الشهود أعداءه.
[قال]: وقدر الدين؛ لأن من الشهود من يقبل قوله في القليل دون الكثير، وهذا نصه في "المختصر"، وحكاه الإمام عن بعض الأصحاب، وبه جزم في "الإبانة"، وقال الإمام: إنه غير سديد، وإن الذي ذهب إليه معظم الأئمة أن ذكر المال احتياط وليس باشتراط؛ فإن التعديل عندنا في اليسير والكثير على نسق واحد. وقد حكى صاحب "المرشد" هذا عن شيخه أبي علي وصححه.
قال: وكتب ذلك في رقاع، ودفعها إلى أصحاب المسائل، أي: في السر، لكل شخص رقعة ليسألوا عن ذلك.
قال الماوردي: وكيفية سؤالهم؟ أن يبدءوا بالسؤال عن أحوال الشهود، فإن وجدوهم مجروحين لم يسألوا عن غيرهم، وإن عدلوا سألوا عمن شهدوا له: فإن ذكروا أن بينه وبينهم ما يمنع من شهادتهم له لم يسألوا عما عداه، وإن ذكروا جواز شهادتهم له سألوا عن المشهود عليه: فإن ذكروا ما يمنع من شهادتهم عليه لم يسألوا عما عداه، وإن ذكروا جواز شهادتهم عليه ذكروا حينئذ القدر الذي [شهدوا به].
قال: وعلى أصحاب المسائل أن يشهدوا بما عرفوه من هذه الأحوال الأربعة
إن اجتمعت أو افترقت؛ فإن لكل واحدة منهن حكماً في غير هذه القضية، وإن لزم اعتبارها جميعاً في هذه [القضية].
وهذا من الماوردي صريح في إيجاب البحث على هذه الصفة، وعليه ينطبق قول الفوراني: يشترط أن يذكر المال والمشهود له و [المشهود] عليه إذا استزكى الشهود؛ لأن ذلك يختلف. وكذلك قول الإمام، لكنه قال بعد قوله:"أما المدعي فلا بد من إعلامه": وأما المدعى عليه فقد يدرك [المزكي بينه وبين الشهود] عداوة أو لدداً في خصومة يوجب مثلها رد الشهادة، فإن لم يقع التعرض لما ذكرناه فالتعديل في الشهود يثبت، ولكن يبقى على القاضي نظر فيما وراء التعديل.
قال: ولا يعلم بعضهم بعضاً؛ خشية من التواطؤ.
قال: وأقلهم اثنان، وقيل: يجوز واحد.
هذا الخلاف ينبني على أن الجرح والتعديل يقع بقول أصحاب المسائل أو بقول المسئولين من الأصدقاء والجيران، وفيه خلاف بين الأصحاب:
فالذي ذهب إليه الإصطخري والأكثرون كما قاله الماوردي، والبندنيجي، وصححه القاضي أبو الطيب وغيره- الأول، وهو ظاهر النص في "المختصر"؛ فإنه قال: ولا يقبل المسألة عنه ولا تعديله ولا جرحه إلا من اثنين؛ فعلى هذا: يكون أقلهم اثنان؛ لأن الجرح والتعديل لا يثبت بدونهما.
وقال أبو إسحاق المروزي بالثاني؛ لأن أصحاب المسائل يخبرون عن غيرهم فهم شهود فرع، وشاهد الفرع لا تقبل شهادته مع حضور الأصل وارتفاع العذر؛ فيكون أصحاب المسائل مخبرين للقاضي بمن يزكي أو يجرح، فعلى هذا يكتفي بالواحد كما في سائر الأخبار، ويعتبر في المسئولين العدد؛ لأن الجرح والتعديل يقع بقولهم وشهادتهم عند القاضي، وعليه حمل النص.
ومن قال بالأول قال العذر ثابت ها هنا؛ فإنه لا يجب على المعدل [أو الجارح] أن يحضر عند الحاكم لتزكية من يسأل عنه أو جرحه، وليس على الحاكم- أيضاً-
أن يحضر إليه ليسأله، فصار ذلك عذراً كالمرض والغيبة. كذا حكاه ابن الصباغ والقاضي أبو الطيب عنهم، قالوا: وما ذكر من حمل النص على المزكين فغير صحيح؛ لأنه قال: ويخفى من كل واحد ما دفعه على الآخر. وهذا إنما يكون في أصحاب المسائل دون المزكين.
قال الأصحاب: ويتفرع على الخلاف- أيضاً- مسألتان:
إحداهما: أنه هل يشترط [أن يكون إخبار أصحاب المسائل للقاضي بلفظ الشهادة أم لا؟
فعلى رأي الإصطخري: يشترط] وإن كان لا يشترط لفظ الشهادة من المسئولين عند أصحاب المسائل.
وقال الإمام: إن صاحب "التقريب" ذكر على [قياس] مذهب الإصطخري وجهين في اشتراط لفظ الشهادة من أصحاب المسائل.
[وعلى رأي أبي إسحاق: لا يشترط الإتيان بلفظ الشهادة من أصحاب المسائل]، ويشترط من المسئولين عند القاضي.
الثانية: على رأي الإصطخري لابد أن يشهد اثنان من أصحاب المسائل على كل واحد من المخبرين بالتعديل أو الجرح من الجيران وغيرهم؛ لأنها شهادة فرع، كذا حكاه مجلي عن الغزالي، وهو قياس ما حكيناه من التعليل عنه، وعلى هذا يكون قول الشيخ:"وأقلهم اثنان"، محمولاً على ما إذا شهدا على كل واحد من المسئولين إذا قلنا: يكفي ذلك، وكلام الماوردي يقتضي خلافه؛ لأنه قال: لو شهد شاهدان من أصحاب المسائل أو [من] الجيران- على حسب اختلاف الوجهين- بتعديل أحد [شاهدي الأصل] جاز أن يشهدا بتعديل الآخر قولاً واحداً، وإن كان في الشهادة على الشهادة قولان، والفرق أن في الشهادة على الشهادة هما
فرع الأصل، وفي التزكية هما شاهدان على الأصل، وعلى هذا ينطبق قول البندنيجي وغيره: إذا رجع أصحاب مسائله، فإن عدلاه حكم، وإن جرحاه وقف. ولم يفصلوا، وجزم في "المهذب" على قول الإصطخري بأنه يكفي أن يخبر الشاهدين من أصحاب المسائل واحد إذا وقع في نفوسهما صدقه، وهو مأخوذ مما في "الحاوي"؛ لأنه قال: ولا يشترط على هذا في المسئولين العدد؛ بل المعتبر أن يقع في نفوس أصحاب المسائل صدق المخبر فيما ذكره من تعديل أو جرح؛ فربما وقع في نفسه صدق الواحد، فجاز أن يقتصر عليه، وربما ارتاب في الاثنين، فيلزمه أن يشترط.
قال مجلي: وهذا فيه بعد؛ إذ كيف [يثبت التعديل] والجرح بقول واحد، وعلى هذا ينطبق قول القاضي أبي الطيب: إنه لا خلاف في اشتراط العدد في التزكية. وعلى [هذا] رأي أبي إسحاق: لا يشترط العدد في الإخبار.
قال القاضي أبو الطيب: ومحل الخلاف بين الإصطخري وأبي إسحاق في أصل المسألة إذا كان الحاكم قد بعث أصحاب المسائل إلى أقوام معينين يسألونهم عنهم، فلو فوض إليهم السؤال عنهم من غير أن يعين المسئولين فلابد من اثنين من أصحاب المسائل يشهدان [عند الحاكم] بما ثبت عندهما من الجرح أو التعديل بقول اثنين من المسئولين، وتكون شهادة أنفسهم، وتبعه ابن الصباغ [في ذلك].
وقال القاضي: إن هذا مما لا خلاف فيه بين أصحابنا، وكذا محله إذا لم يكن الحاكم قد نصب واحداً منهم حاكماً في الجرح والتعديل، أما إذا كان قد نصبه لذلك جاز، وعليه أن يراجع من رآه أهلاً للمراجعة في التزكية والجرح، ويصغي [إلى الشهادة] في هذا المقتضي، ويحكم بعد بذل الوسع في الاحتياط.
ولا يجوز [أن] يحكم في التزكية باجتهاده؛ لأن ذلك يرجع إلى رد شهادة
مزكين إلى واحد، وذلك غير محتمل فيما [يشترط فيه] العدد، كذا أبداه الإمام في كتاب القسمة وسنذكره ثَمَّ لغرض لنا.
وإذا ثبت عنده الجرح أو التعديل قبل قوله فيه وحده فإنه حاكم، وقول الحاكم مسموع في استمرار ولايته، كذا قاله الإمام.
قال: فإن عادوا بالتعديل أمر من عدلهم في السر، أي: من أصحاب المسائل [أو المسئولين] على اختلاف الوجهين، أن يعدلهم في العلانية كما عدلهم سرّاً؛ لأن ذلك أبعد عن التهمة، وفيه ترغيب للناس في حسن الذكر وجميل الثناء، واحتياط للشهادة؛ فإنه ربما كان عند بعض الناس من جرحه ما يخفى على غيره، ولأن الأسماء والأنساب والحلي قد تشتبه.
وقد أشار إلى هذه العلة الشافعي- رضي الله عنه بقوله: فإذا عدل سأله تعديله علانية؛ ليعلم أن المعدل سرّاً هو هذا؛ لئلا يوافق اسمٌ اسماً، ونسبٌ نسباً، وذكر القفال في ذلك معنى آخر فقال: ربما يسمى الشاهد باسم عدلٍ، فيقول المسئول عنه: هو عدل. [قال]: وقد شهد عند قاضي مرو رجل وتسمى باسم عدل، فسأل القاضي الشيخ الخضري عنه؛ لأنه كان مزكياً، فقال: هو عدل. وكان الشاهد قد زوّر اسمه، فالتعديل علانية يدفع هذا المحذور، لكن هذا بطريق الوجوب أو الاستحباب؟
أطلق القاضي أبو الطيب- وتبعه ابن الصباغ- القول بأنه على وجه الاحتياط، فإن تركه فلا بأس؛ لأن العدالة حصلت بالتزكية، وعلى ذلك جرى في "الوسيط".
وقال في "الحاوي": هذا إذا كان المعدل مشهوراً في الناس بالتميز عن غيره في الاسم والنسب. وقال فيما إذا كان غير مشهور وجاز أن يشتبه [في] الاسم والنسب: بأنه على وجه الوجوب؛ لما ذكرناه. ثم حكى [أن] ابن أبي هريرة حمله على الاستحباب تأكيداً؛ اعتباراً بالظاهر، وقال: إن الأول أصح.
وقد جمع في "البحر" بين الحالتين، وحكى فيهما ثلاثة أوجه، ثالثها: إن كان
مشهوراً بين الناس بما يتميز [به] عن غيره، فلا يحتاج إلى الإعادة وجوباً، ولكنه يستحب، ويجب في المجهول غير المشهور. وقال: إنه أصح.
وكلام الإمام مصرح بأنه إذا لم يمكن تحصيل الغرض في الغيبة فلا بد من الإعلان.
ثم اعلم أن ظاهر كلام الشيخ والشافعي- رضي الله عنهما يقتضي إعادة التزكية، وقد صرح أبو الطيب والماوردي والبندنيجي وغيرهم بأن المراد من التعديل علانية: أن يجمع بين المزكي والمعدلين، ويقول للمزكي: هؤلاء هم الذين سألت عنهم وزكيتهم، فيقول: نعم، أو نحوه.
قال القاضي الحسين: ويشترط في التزكية سؤال الحاكم عنها، فلو عدل المزكي من غير سؤال فالقاضي لا يصغي لقوله؛ لأن التعديل حسبة لا يسمع.
وفي هذه الحالة- أعني حالة العود بالتعديل- يسوغ للحاكم الحكم إذا لم يتحقق عنده الجرح، وينبغي أن يعرف المشهود عليه ثبوت الحق بتعديلهم، فإن زعم أنه يمكنه جرحهم كان [الأمر] كما تقدم في الكتاب من قبل، ولو تحقق عنده الجرح بالتسامع، قال الإمام: فالرأي الذي يجب القطع [به] أنه لا يقضي بالشهادة؛ لأن ما تحققه بالتسامع أقل مراتبه أن يقتضي وقفاً، والقاضي قد يتوقف لريبة كما ذكرنا.
ولا يسوغ للحاكم عندنا بمجرد شهادة المجهولين أن يحمك بما شهدوا به قبل البحث، سواء كان المشهود به حدّاً أو مالاً، وطلب المشهود عليه البحث عن عدالتهم أو سكت؛ لقوله تعالى:{فَإِنْ لَمْ يَكُونَا رَجُلَيْنِ فَرَجُلٌ وَامْرَأَتَانِ مِمَّنْ تَرْضَوْنَ مِنْ الشُّهَدَاءِ} [البقرة: 282]، والمجهول غير مرضي ما لم يبحث عن عدالته الباطنة، وقد روى سلمان [عن حريث]: "أَنَّ رَجُلاً شَهِدَ عِنْدَ عُمَرَ، فَقَالَ: إِنِّي لَسْتُ أَعْرِفُكَ، وَلَا
يَضُرُّكَ أَنِّي لَا أَعْرِفُكَ فَاتِنِي بِمَنْ يَعْرِفُكَ، فَقَالَ رَجُلٌ: أَنَا أَعْرِفُهُ يَا أَمِيرَ المُؤْمِنِينَ، فَقَالَ: بِأَيِّ شَيءٍ تَعْرِفُهُ؟ فَقَالَ: بِالْعَدَالَةِ وَالفَضْلِ. فَقَالَ: هُوَ جَارُكَ الأَدْنَى تَعْرِفُ لَيْلَهُ وَنَهَارَهُ وَمَدْخَلَهُ وَمَخْرَجَهُ؟ قَالَ: لَا، قَالَ: فَعَامَلَكَ بِالدِّينَارِ وَالدِّرْهَمِ اللَّذَيْنِ يُسْتَدَلُّ بِهِمَا عَلَى الوَرَعِ؟ قَالَ: لَا، قَالَ: فَصَاحَبَكَ فِي السَّفَرِ الَّذِيْ يُسْتَدَلُّ بِهِ عَلَى مَكَارِمِ الأَخْلَاقِ؟ قَالَ: لَا. قَالَ: فَلَسْتَ تَعْرِفُهُ. ثُمَّ قَالَ لِلرَّجُلِ: ائْتِنِي بِمَنْ يَعْرِفُكَ"؛ فدل هذا من قوله وفعله على وجوب البحث.
ولأن الخصم- وهو أبو حنيفة- قد وافقنا على أنه لا يحكم في الحدود قبل البحث، وكذا في الأموال عند طلب الخصم، فيقول: إن كل عدالة شرطت في الشهادة لم يجز الحكم بها مع الجهالة؛ كالشهادة على الحدود. نعم، لو اعترف [الخصم] المشهود عليه بعدالة الشهود، وقال: إنهم زكوا في هذه الواقعة- فهل يحكم عليه قبل البحث؟ فيه وجهان، حكاهما المراوزة كذا، وحكاهما العراقيون فيما إذا قال: هم عدول، وإن لم يذكر أنهم زكوا:
أحدهما: يحكم؛ لأن ذلك معتبر لحقه؛ فسقط باعترافه.
والثاني: لا يحكم، وهو المختار في "المرشد"؛ لأن الحكم بشهادتهم حكم بتعديلهم، وذلك لا يجوز بقول الواحد، كذا قاله الماوردي، وتبعه في "المهذب"، ثم قال: ولأن اعتبار العدالة في الشاهد حق لله- تعالى- ولهذا لو رضي المشهود عليه بشهادة الفاسق لم يجز للحاكم أن يحكم بشهادته.
وقد بان لك من التعليل الثاني أن محل الوجهين إذا جهل الحاكم فسقهم؛ فلو علمه لم يحكم بلا خلاف، وبه صرح الإمام.
فرع: إذا عدل الشاهد في شهادته، ثم شهد مرة أخرى فهل يجب إعادة استزكائه؟ قال الأصحاب: إن قصرت المدة فلا، وحكى القاضي الحسين عن الثقفي [من أصحابنا] أنه يحتاج إلى البحث وتجديد المسألة؛ لاحتمال أن يكون بينه وبين
الثاني قرابة أو عداوة [أو نحوهما]. وإن طالت والقاضي غير خبير بحاله في المدة المتخللة فهل يجب؟ فيه وجهان ذكرهما العراقيون، واختار في "المرشد" عدم الوجوب، وقال الإمام: إن الذي مال إليه الجمهور الوجوب؛ لأن الأحوال تتحول والإنسان عرضة للتغير والحدثان، وفي "البحر" نسبة هذا القول لأبي إسحاق، وهو الذي جزم به في "الإبانة".
قيل: وهذا القائل يقول: ينبغي ألا يغفل القاضي المسألة عن صفة الشهود الذين يتناوبون مجلسه للشهادة، وعلى هذا لو ترك البحث عمن تثبت عدالته ثلاثة أيام كان ذلك محتملاً، [كذا نقل عن العراقيين].
قال الإمام: وفحوى كلامهم إيجاب البحث وراء ثلاثة أيام، ولست أرى أن يتقدر بذلك، ولكن المرجع في قرب الزمان وبُعده إلى العرف الغالب، وكل مدة يتوقع في مثلها تغاير طارئة؛ فإذا خلت عن المسألة فلا بد من تجديد البحث بعد هذه المدة عنه، والمرجع إلى ما يغلب على ظن القاضي.
وفي "البحر" أن في "الحاوي" أن بعض أصحابنا قال: يسأل عنه [بعد] كل ستة أشهر. ثم قال: وهذا ليس بمذهبنا، والمذهب: أنه يوقف على اجتهاد القاضي ورأيه، والذي رأيته في "الحاوي" نسبة القول بتقدير المدة بستة أشهر إلى بعض الفقهاء؛ كما هو في "الشامل" وغيره.
فرع: من عدل في القليل، هل يعدل في الكثير؟ فيه وجهان في "البحر" في باب ما على القاضي في الخصوم، أحدهما: لا؛ لأن القضاء بالشهادة بطريقة غلبة الظن على الصدق، ولا يسكن القلب بقول الإنسان في الكثير دون القليل.
قلت: وهذا يؤخذ من قول الشافعي- رضي الله عنه: إنه يكتب في رقاع أصحاب المسائل قدر الدين.
قال الروياني: وفائدة الوجهين أن الشاهد بالقليل إذا عدله عدلان، وصح ذلك، ثم شهد في الحال، هل يلزم السؤال عن حاله ثانياً على هذين الوجهين؟
قلت: ويفارق هذان الوجهان ما حكاه ابن أبي الدم فيما إذا شهد بحق، فزكاه اثنان
في تلك الشهادة خاصة، هل يسمع؟ [فيه] وجهان، وقال: إن المذهب المشهور منهما عدم القبول، وإن العمل في بعض الأمصار على القبول للحاجة.
قال: ويكفي في التعديل أن يقول: هو عدل؛ لقوله تعالى: {وَأَشْهِدُوا ذَوَى عَدْلٍ مِنْكُمْ} [الطلاق: 2]، فأطلق العدالة، وإذا شهد أنه عدل فقد أثبت العدالة التي اقتضاها لفظ القرآن وهذا ما نص عليه في "حرملة" كما نقله أبو الطيب، واختاره الإصطخري وأبو علي الطبري في "الإفصاح"، وكذا القفال كما قاله في "البحر" والقاضي الحسين وصاحب "المرشد"، وحملوا قول الشافعي- رضي الله عنه في "المختصر": ولا يقبل التعديل إلا أن يقول: [وهو عدل] عليَّ ولي، على التأكيد والاستحباب؛ لأن الشهادة بالتعديل تقتضي الحكم بها عليه وله.
وفي "البحر" أن الذي نص عليه في "حرملة" أنه إذا قال: هو عدل مرضي، كفى في التعديل.
ويقرب منه ما حكاه الماوردي عن بعض البصريين أنه شرط في القبول أن يقول: [عدل مرضي؛ لأن التعديل سلام، والرضا كمال.
و [قد] صحح في "الإشراف" ما حكيناه عن رواية صاحب "البحر" عن حرملة، بعد أن حكى أنه نص في "حرملة" على أنه يقول]: هو جائز الشهادة، وقيل: لا يجوز حتى يقول: هو عدل علي ولي؛ عملاً بظاهر النص في "المختصر"، وقد نص عليه في "الأم" كما قاله الروياني، ووجهه: أن قوله: هو عدل، لا يثبت العدالة على الإطلاق؛ لأنه يجوز أن يكون [عدلاً في شيء دون شيء كما إذا وصفه بأنه صادق، واحتمل أن يكون] صادقاً في شيء دون شيء، وإذا احتمل ذلك وجب أن يصرح حتى يزول الاحتمال، وهذه علة أبي إسحاق المروزي، وغيره قال: إن العلة فيه [أنه قد] يكون الشاهد بالتعديل ممن لا تقبل شهادته له؛ لأنه من والديه أو مولوديه، ولا تقبل شهادته عليه؛ لأنه من أعدائه، ومباينيه، فإذا قال: عدل عليَّ ولي، زال هذا الاحتمال.
قال الماوردي: فعلى هذا التعليل لا يلزم ذلك إذا علم أنه لا نسب بينهما ولا عداوة، [وعلى الأول يلزم ذلك].
قلت: وما قاله غير أبي إسحاق في طرف القريب ظاهر، ولم يظهر في جانب العدو؛ فإن العدو إذا زكى عوه لا يتجه أن يقال بعدم السماع؛ لأن ذلك شهادة له، وشهادة العدو لعدوه سائغة، وعلى هذا فكان يتجه عند هذا القائل أن يكتفي بقوله: هو عدل لي، وقد تعرض لهذا السؤال القاضي الحسين. نعم، الإتيان بلفظ "علي" يحسن أن يوجه بأن في ذلك تطييب قلب القاضي بالتزكية؛ لأنه إذا رضيه على نفسه شاهداً مع حرص النفوس على عدم نفوذ كلمة الغير عليها، دل على [وضوح عدالته عنده.
وقد أشار إلى [عين هذا] البندنيجي؛ حيث قال: إن معنى قوله: "علي"] أنه يقبل شهادته في كل قليل وكثير؛ لأن من الناس من يقول: أقبل شهادة الإنسان في القليل [ولا أقبله في] الكثير.
وقد قال الإمام: إن قوله: "هو عدل علي ولي"[من] أبلغ عبارات المزكيين وأوقعها، وهي شائعة على مر الدهور، وقد قررها من كان مبتدئاً في سماعها مجملة، والأصحاب مجمعون على موجب ما يتفاهمون منها.
وفي "الوسيط" أن كيفية التعديل أن يقول: هو عدل علي [ولي]، أو: عدل مقبول الشهادة؛ فإن العدل قد لا تقبل شهادته لكونه مغفلاً.
وقال الإمام: إن العدل الرضا قد يكون مغفلاً. نعم، تثبت العدالة بما قال، ثم يستخبر بعد هذا عن الأسباب المانعة من قبول الشهادة كما سنصفها، إن شاء الله تعالى.
وهذا كله على طريقة من رأى من أصحابنا أن السؤال عن أسباب العدالة لا يجب، وهو ما أورده القاضي أبو الطيب وابن الصباغ والبندنيجي والقاضي الحسين وادعى أنه لا خلاف فيه، ووافقهم الغزالي متبعاً في ذلك ما حكيناه عن الإمام.
قال الماوردي: وهذه الطريقة مأخوذة من قول الشافعي- رضي الله عنه: ولا يقبل التعديل إلا بأن يقول: [عدل] عليَّ ولي. والقائلون بهذه الطريقة يقولون: السؤال عن أسبابها استظهار، وإنه يجب أن يكون الشاهد بالتعديل إذا لم يذكر الأسباب من أهل الاجتهاد.
وقد ذهب آخرون من الأصحاب إلى وجوب السؤال عن أسبابها، ويكون الشاهد على هذا مؤدياً للأسباب، والقاضي هو الحاكم بالعدالة؛ وعلى هذه لا يشترط أن يكون الشاهد من أهل الاجتهاد، وقائلها يقول: استزادة القاضي أن يشهدوا أنه عدل لهم وعليهم، استخبار عن حكم العدالة، وليس بشرط في قبول الشهادة، فلا يجب على الشاهد ذكره. نعم، هل يجب على الحاكم الاستخبار عنه؟ فيه وجهان:
أحدهما: لا؛ كالشاهد؛ لأن الشهادة بأسباب العدالة تغني [عما سواها].
والثاني: نعم؛ للاحتياط.
قلت: ولو قيل باشتراط ذكر هذا على هذه الطريقة [أيضاً] لم يبعد؛ بناءً على التعليل الثاني في أصل المسألة؛ لأن أسباب العدالة صفات كمال في الشاهد، والعداوة والقرابة أسباب مانعة من قبول الشهادة، لا ينافيها ذكر صفات الكمال؛ فكان يجب التعرض لها كما في الطريقة الأولى.
تنبيه: شهادة الأب بتعديل الابن وبالعكس، هل تسمع؟ فيه خلاف حكيته عن البغوي وغيره من قبل، والذي جزم به الماوردي ها هنا، وتبعه في "البحر"، وكذا صاحب "الإبانة"، ورآه الغزالي أظهر- المنع، وقد يقال بإمكان أخذه من الخلاف الذي ذكره الشيخ ها هنا؛ لأن من اكتفى بقوله: هو عدل، [لم ينظر إلى كونه قريباً ترد شهادته له، ومن لم يكتف بذلك نظر إلى ذلك، لكن قد يقال: من اكتفى بقوله: هو عدلي، اكتفى به في ثبوت العدالة [ظاهراً والقاضي] من وراء الكشف عن القرابة وغيرها، كما حكيناه عن الإمام؛ فلا يظهر مع هذا أخذ الخلاف من ها هنا.
نعم، المنع يؤخذ [من ها هنا] قطعاً على توجيه غير أبي إسحاق.
فرع: هل يحل للأب تزكية ولده إذا كان القاضي لا يرى ذلك، وهو يجهل أنه أبوه؟ لم أر فيه نقلاً، والذي يظهر: تخريجه على أن الفاسق في الباطن إذا علم حقّاً وطلب لأدائه، وهو ظاهر العدالة مسموع الشهادة- هل يحل له الإقدام على الشهادة أم لا؟ وفيه وجهان حكاهما في "البحر" في فروع ضمن باب ما على القاضي في الخصوم؛ بناءً على وجهين في أن الفاسق، هل عليه إقامة الشهادة؟
وجه الجواز: أنه شهد بالحق ليصل [الحق] إلى مستحقه.
ووجه المنع: أن في أدائه إيقاع الحاكم في حكم باطل؛ لأنه إذا حكم بمستند باطل- في نظر الشرع- في حق في نفس الأمر كان باطلاً، والله أعلم.
قال: ولا يقبل التعديل إلا ممن هو من أهل الخبرة الباطنة بحاله، أي: في حال الأداء أو قريباً منه؛ كما قاله الشافعي- رضي الله عنه لأثر عمر- رضي الله عنه[السابق]، والمعنى فيه: أن الناس يخفون عوراتهم ويغطونها، ولا يتحقق الإطلاع على السريرة، ولكن لا أقل من التوصل إلى ما يغلب على الظن، وذلك لا يحصل إلا بأهل الخبرة الباطنة، ولأن من ليس من أهل الخبرة إنما يعتمد فيما يذكره الظاهر من حاله، ولو اكتفينا بذلك لم يحتج إلى تزكية؛ لأن القاضي في هذا كالشاهد، وهذا بخلاف الشهادة بالجرح لا يشترط فيها أن يكون الشاهدان من أهل الخبرة الباطنة [به]؛ لأنه لا يشهد فيه إلا عن معاينة أو سماع- كما سنذكره- وذلك لا يحتاج إلى خبرة باطنة، وهذا أحد ما يتميز به شهود التعديل على الجرح، وثانيه: أن يكون شهود التعديل عالمين بأسباب التعديل على المشهور، بخلاف [شهود الجرح]؛ فإنه لا تشترط معرفتهم بما يقتضي الجرح؛ لأنهم لابد أن يصرحوا بالسبب المجرح.
ثم اعلم أن القاضي وصاحب المسألة إن كان لا يعرف أن المزكي من أهل الخبرة الباطنة؛ بالشهود بعدالته، ولم يعرف حذقه ومعرفته، سأله كما فعل [عمر]رضي الله عنه لأنه قد يعتقد جواز البناء على الظاهر وتحسين الظن، فإذا بحث القاضي زال اللبس، وإن علم أن المزكي خبير به أو خبير بالتزكية، وقد ألف ذلك منه، وراجعه فيها، فوجده خبيراً بصيراً غير مكتف بالظاهر- فإذا أطلق التعديل قال الإمام: فالأصح أن القاضي لا يحتاج إلى مراجعة في إسناد تزكيته إلى الباطن، ومن أصحابنا من شرط هذه المراجعة في كل تزكية، تمسكاً بأثر عمر، رضي الله عنه. قال: وهذا غير سديد والأثر محمول على علم عمر بأن المعدل لم يكن خبيراً، إنما أخذ التعديل، وهذا بخلاف أصحاب المسألة إذا عدلوا عند القاضي واكتفينا بهم، كما هو الصحيح؛ فإنه لا يشترط أن يكونوا من أهل الخبرة.
قال الماوردي: ولا يجوز للحاكم أن يسألهم: من أين علمتم التعديل؟ وكذا الجرح إن عادوا به. وكلام ابن الصباغ قريب منه؛ فإنه قال: وليس للحاكم أن يقول كذا. ولفظ البندنيجي: أنه لا يسألهم: من أين تحملوا الشهادة، ولا عمن أخبرهم بذلك.
فرع: إذا سمع شخص [من أفواه الناس] دين شخص وأمانته وصلاحه، وشهد جماعة بأنه عدل، فهل يسوغ له تعديله، وليس هو من أهل الخبرة بحاله؟ قال القاضي الحسين: له ذلك إذا تكرر [ذلك] على سمعه من أفواه الناس مرة بعد أخرى في مقامات مختلفة تخرج عن حد التواطؤ، فأما [أن يشهد به] عدلان أو أكثر فلا؛ لأنه يحتمل التواطؤ [في ذلك].
قال: وإن عادوا بالجرح سقطت شهادتهم؛ لعدم الثقة بقولهم، وهذا ظاهر قول الإصطخري وغيره في أن المرجع في التعديل والجرح إلى شهادة أصحاب المسائل،
دون المسئولين، وأما على قول أبي إسحاق فيظهر أن يقال: لا تسقط الشهادة ما لم يشهد اثنان من المسئولين بالجرح، كما يشهدان بالتعديل عند [عود] أصحاب المسائل به.
لكن في "الشامل" و"تعليق" أبي الطيب أن أبا إسحاق قال: إذا عادوا إليه فأخبراه بالجرح، توقف، وقال للمدعي: زدني في شهودك.
قال القاضي الحسين: ولا تتوقف الشهادة بالجرح على سؤال القاضي؛ لأن الجرح تسمع فيه شهادة الحسبة.
ثم في حال عودهم بالجرح لا يستحب أن يعاد الجرح في العلانية؛ لما في ذلك من الهتك، بخلاف ما إذا عادوا بالتعديل كما تقدم، صرح به الماوردي والبغوي.
قال: فإن عاد أحدهما بالجرح والآخر بالتعديل أنفذ آخرين؛ لأن النصاب في الجرح والتعديل لم يكمل، فلعله بإرسال الآخرين يكمل في أحدهما أو فيهما؛ فترتب على ذلك حكمه، كما سنذكره.
وفي "المهذب": أنه يبعث ثالثاً، فإن عاد بالجرح كملت بينة الجرح وعمل بموجبها، وإن عاد بالتعديل كملت بينة التعديل وعمل بموجبها. وهذا أخذه من قول الماوردي: ويجوز أن يقتصر فيمن ينفذه بعدهما على واحد؛ لأن بالواحد تكمل بينة الجرح أو التعديل. وخص القاضي الحسين محل بعث الواحد بحالة عود اثنين بالتعديل، وواحد بالجرح.
وحكى الإمام في هذه الصورة عن أبي إسحاق أنه يقول للمدعي: زدني في شهودك، وقال: إن أراد به على وجه الاحتياط، [فقريب]، وإلا فلا وجه [له].
والذي أورده [القاضي] أبو الطيب والبندنيجي وابن الصباغ في مسألة الكتاب: [الأول. وقال] الماوردي: إنه أحوط، و [هو] الذي نص عليه الشافعي- رضي الله عنه في "المختصر"، لكنه قال:"أعادهما مع غيرهما"؛ ولأجل هذا قال
البندنيجي: إنه يبعث بهما ثانياً، ويبعث مع كل واحد منهما غيره.
وقال الماوردي: إن قول الشافعي- رضي الله عنه: "أعادهما مع غيرهما" يحتمل أمرين:
أحدهما: أن يعيد ثانياً للبحث؛ فربما ظهر لمن عدل جرح يوافق [فيه] صاحبه، ويسمع الحاكم من كل منهما رجوعه إلى ما بان له من خلاف الشهادة الأولى.
والاحتمال الثاني: أن يكون معنى قوله: "أعادهما"، يعني: عن الشهادة، إلى حيث شاء؛ لينظر ما شهد به الثالث.
قال: فإن عدله اثنان وجرحه اثنان قدم الجرح على التعديل؛ لأن شهادة الجرح [شهادة على] أمر باطن، وشهادة العدالة [شهادة] على أمر ظاهر، فكانت تلك أولى؛ لأنها علمت ما خفي على الأخرى؛ فصار هذا كما لو شهد اثنان بدين، وشهد آخران بقضائه- تقدم شهادة القضاء؛ أنها علمت ما خفي على الأخرى؛ ولأن الجارح مثبت والمعدل نافٍ، والإثبات أولى من النفي.
وهكذا الحكم فيما لو شهد اثنان بالجرح، وثلاثة فأكثر إلى مائة بالتعديل؛ كما قاله القاضي الحسين وغيره.
وألحق الإمام بهذه الصورة ما إذا تحقق عند القاضي الفسق بالتسامع، وشهد معدلون على العدالة كما حكيناه من قبل.
قال الأصحاب: ولا تقدم بينة التعديل على الجرح إلا في مسألة [واحدة]، وهي [إذا شهد] اثنان على جزحه في بلد، ثم انتقل إلى بلد أخرى، فشهد آخران منها بالتعديل؛ فإنه يقدم التعديل على الجرح. كذا أطلقوه، ويظهر أن محله إذا كان بين انتقاله من البلد الأول إلى الثاني مدة الاستبراء، وإلا فلا يقدم.
وقد ذكر الطبري مسألة أخرى، وهي أن يقول اثنان: إنه زنى أو سرق، ويقول آخران: إنه تاب وحسنت حاله.
قال: ولا يقبل الجرح إلا مفسراً، أي: لا يقبل إلا بعد ذكر سبب الجرح؛ لأن أسبابه مختلف فيها، فقد يظن الشاهد ما ليس بجرح عند القاضي جرحاً، مع أن الاعتبار فيه بما يراه القاضي.
قال الشافعي- رضي الله عنه في "الأم": شهدت رجلاً صالحاً شهد على رجل عند رجل بالجرح، فقال له: بم جرحته؟ فامتنع من تفسيره، وقال مثلي لا يخفى عليه الشهادة المجرحة، فألح عليه، وقال: لا أقبل حتى تبين السبب، فقال: رأيته يبول قائماً يترشش البول على ثيابه ورجليه ويصلي فيها، فقال: رأيته فعل ذلك؟ فقال: أراه سيفعل ذلك؛ فأسقط شهادته.
فإذا فسر الشاهد السبب نظر فيه القاضي: فإن كان عنده سبباً- أيضاً- حكم به وأسقط الشهادة، وإلا توقف كما قال الماوردي، وهذا بخلاف التعديل؛ حيث لا يشترط ذكر أسبابه على المشهور، قال ابن الصباغ: لأن أسبابه تكثر، ولا يمكن ضبطها. وقال القاضي أبو الطيب: لأن أكثر ما فيه أن يذكر ما يفعل من الطاعات وأداء الفرائض على حسب ما شاهده، وقد يفعل ذلك كله ويفسق بمعصية يأتي بها سرّاً، وليس كذلك سبب الجرح؛ فإنه يمكن الإحاطة به؛ فلهذا وجب كشفه.
قال الأصحاب: وكشفه أن يقول: رأيته يزني- كما قال الإمام- أو يسرق، أو يغصب، أو يلوط، ونحو ذلك، أو: أقر عندي بالزنا، أو السرقة، أو سمعته يقذف أو يكذب أو يمشي بالنميمة، أو يقول ما يعتقده من البدع المستنكرة؛ كما قاله الماوردي، ونحو ذلك. وهذا الذي أراده الشافعي- رضي الله عنه بقوله: لا أسمع الجرح إلا بالمشاهدة أو السماع.
وقال البندنيجي وابن الصباغ: إن هذا القول من الشافعي عائد إلى أصحاب المسائل؛ لأنه يحتاج أن يعلم منه ما يفوضه الحاكم إليه من ذلك؛ ليشهد به عنده، وإنما يصير [به] عالماً بأن يعلم ذلك مشاهدة أو سماعاً. وألحقا- وكذا الماوردي- بما ذكرناه
من قسم السماع، ما إذا سمع من عدد التواتر [أو الاستفاضة ذلك] عنه، وحصل له العلم، قالوا: ويطلق الشهادة في هذه الحالة كما يشهد بالموت والنسب والملك المطلق.
فأما السماع من الواحد والعشرة، فقد قال الشيخ أبو حامد: إنه لا يصير به عالماً بذلك، لكنه يشهد عند الحاكم بما سمع، ويكون شاهد فرع، والذي سمع منه شاهد الأصل؛ [فيكون حكمه حكم شاهد الفرع والأصل]، ولا يثبت عنده ما قال شاهد الأصل إلا باثنين.
قال ابن الصباغ: وهذا بخلاف ما ذكروه في الاستفاضة.
وهذا ما ذكره العراقيون، أعني: جملة ما ذكرته.
وفي "النهاية" أن من أصحابنا من لم يشترط هذه المبالغة في ذكر السبب، وعني بالمبالغة ما حكاه من قوله: رأيته يزني ونحو ذلك. قال: واكتفى بذكر ما بينه على ما يقع به الجرح لا محالة، وإنه خرجه بعض العراقيين على طريقة الإصطخري فإن مبناها على طرف من المسامحة.
قال الإمام: ووراء هذا سر، وهو أن المزكيين إذا جرحا بالنسبة إلى الزنى، ففي العلماء من جعلهما قاذفين إذا لم يساعدهما عليه شاهدان آخران، وبه قال بعض أصحابنا، ومنهم من يستثني مقام الجرح، ولا يجعل نسبته [إلى] الزنى في هذا المقام قذفاً، والسبب فيه الحاجة؛ فإن المزكي مراجع مستخبر، والقاذف من يبتدئ من غير مراجعة، فعلى الأول لا يكلفون التصريح بما يجب احتمال ما يأتون به إذا عرضوا؛ حتى [لا] يقضي عليهم عند التصريح بالإيجاب، وهذا تمهيد لعذر المراجع المستخبر، وعليه يحمل قوله صلى الله عليه وسلم:"اذْكُرُوا الفَاسِقَ بِمَا فِيْهِ، يَحْذَرْهُ النَّاسُ".
قلت: وما ذكره الإمام عن بعض الأصحاب [أنهم] غير قذفة، ينطبق عليه قول ابن الصباغ- حكاية عن الشيخ أبي حامد-: إن القاضي إذا سأل الشاهدين عن سبب الجرح، وكان زنى- لم يكن قذفاً، سواء كان بلفظ الشهادة أو بغير لفظها؛ لأنهما لم يقصدا إدخال المعرة عليه بالقذف، وإنما قصدا إثبات صفته عند الحاكم ليبني الحاكم حكمه عليه.
والماوردي قال بذلك فيما إذا كان الشاهدان من أصحاب المسائل، وقال فيما إذا كان من الجيران: إنهما قاذفان إذا لم تكمل الشهادة، والفرق: أن أصحاب المسائل ندبوا للإخبار بما سمعوه، بخلاف الجيران.
وكلام البندنيجي يقتضي أن ما حكي عن أبي حامد في أصحاب المسائل أيضاً [، ثم] فيما أبداه الإمام من عند نفسه في التوجيه- نظراً من حيث إنه يقتضي اختصاص الاكتفاء بالتعريض بالنسبة إلى الزنى، أما في غيره فلا، وقد أفهم كلامه أولاً الاكتفاء بالتعريض فيه، و [في] كل ما ينسبه إليه.
قال: وإن سأل المدعي أن يحبسه [حتى] تثبت عدالتهم حبس؛ لأن الظاهر عدالة الشهود، وإنما يتوقف الكشف عن جرحهما، ولأن المدعي قد فعل ما عليه من إحضار البينة، وبقي على الحاكم ما عليه من معرفة العدالة؛ [كذا] قاله الماوردي وابن الصباغ في كتاب اللعان، وهو مختار أبي إسحاق المروزي كما حكيناه عند الكلام في المحبسين، والذي صححه البغوي، وقال في "المهذب":
إنه ظاهر المذهب، وبه جزم القاضي أبو الطيب قبيل كتاب الدعاوى؛ حيث قال: إنه يحبس قولاً واحداً.
وعلى هذا: فلا تتقيد مدة حبسه، والمرجع فيها إلى القاضي كما قاله في "البحر".
وفي "الرافعي" أن العراقيين والقاضي الروياني قالوا: إن الحبس قبل التعديل يبقى إلى ظهور الأمر للقاضي بالتزكية [أو الجرح]، ولا تتقدر له مدة. وكذا رأيته في "تعليق" البندنيجي قبيل باب القضاء على الغائب، ولم يحك الإمام سواه في آخر باب الشهادة على الوصية، ووراء ذلك وجوه [أُخر]:
أحدها- حكاه القاضي أبو الطيب وابن الصباغ وغيرهما عند الكلام في المحبسين-: أنه لا يحبس، وهو رأي الإصطخري، وقد حكاه المصنف والبغوي ها هنا، ولم يحك القاضي الحسين في باب الشهادة على الوصية سواه، وأشار إليه الإمام [ثم]، ووجهه: أن الأصل براءة الذمة، والحق لا يوجبه إلا ظهور العدالة، ولم تظهر، مع أنه عقوبة في الحال.
وهذا ما رجحه القاضي الحسين قبيل كتاب الدعاوى، وقال: إن الأول لا يصح. بعد أن نسبه إلى قول العراقيين من أصحابنا، لكنه يطالب بكفيل، وحينئذ فيكون اختياره: أنه لا يحبس، ويطالب بكفيل، وقد حكاه البغوي وجهاً آخر هكذا، وقال: إن له ملازمته على طلب الكفيل. [قال]: وإذا بعث القاضي معهما رجلاً يستكفل، فالأجرة على المدعي.
الثالث: قال الإمام في كتاب اللعان: إني وجدت في بعض الطرق رمزاً إلى أن المدعى عليه لا يحبس في القذف والحد.
الرابع: حكى البندنيجي وابن الصباغ والقاضي الحسين والإمام عن الإصطخري: أنه لا يحبس في المال، وإن قلنا: يحبس في القذف والقصاص؛ لأن المال يمكن استيفاؤه في غيبته، بخلاف القذف والقصاص.
قال ابن الصباغ: وما ذكره من الفرق ليس بصحيح؛ لأن المال قد يتعذر استيفاؤه في غيبته بأن يخفيه، ولا يظهر للحاكم.
وهذا حكم طلب الحبس، فلو طلب من القاضي أن يحجر عليه في المال في صورة كون المدعي به ديناً؛ مخافة أن يضيع ماله، أو يحتال فيعزيه لإنسان- فهل يجاب؟
حكى الإمام قبيل كتاب الدعاوى [فيه خلافاً] عن الأصحاب، والذي قاله الأكثرون: أنه لا يجاب؛ فإن ضرر الحجر عظيم، فلا سبيل إلى الإجابة إليه، [قال]: ولا يتجه عندنا إلا هذا، وقال القاضي-[يعني] الحسين-: إن كان يتوهم القاضي هذا في المشهود عليه بأن كان يعرفه محتالاً خصماً، فله أن يجيبه، وإلا فلا.
والذي رأيته في "تعليقه": أنه إن طلب الحجر وجب على الحاكم أن يحجر عليه، وإن لم يسأل ففي وجوبه عليه وجهان:
أحدهما: هو حق لله تعالى؛ كالتعديل على أصلنا، لا يفتقر إلى سؤال الخصم.
والثاني: لا يجب، بل [هو] حقه كالكفالة ببدن من عليه الحق.
ثم [قال:] إذا قلنا بالوجوب فلو أغفله القاضي فلم يحجر [عليه]، وتصرف المشهود عليه بالبيع أو بالإقرار، ثم خرج الشهود عدولاً- هل ينقض تصرفه أم لا؟ الظاهر: أنه ينقض، ويحتمل أن يقال: لا ينقض، ونظيره: مجرد السفه والتبذير هل يوجب الحجر أم لا؟
وقد حكى عن رواية أبي الحسين بن القطان: أن الدين المدعي به يستوفي، ويوقف.
ولو كان المدعي عيناً، وطلب المدعي الحيلولة بينه وبينها، أجيب إلى ذلك إن كانت العين مما يخاف هلاكها والتفويت عليها، وتؤجر إذا أمكن إيجارها عند الطلب، وإن كانت عقاراً فوجهان حكاهما الإمام، وأشبههما في "الرافعي"، وبه جزم القاضي الحسين، وهو قضية إطلاق الأكثرين: أنه يجاب أيضاً.
وعن حكاية أبي الفرج عن الإصطخري: أنه لا تنزع [العين] أصلاً.
وفي "التهذيب" إجراء وجهين في الحيلولة وإن لم يطلبها المدعي، كما سنذكرهما في الحيلولة بين العبد المدعي العتق وبين سيده.
ولو كان المدعي عبداً ادعى على سيده أنه أعتقه، وسأل القاضي أن يحيل بينه وبين سيده- أجيب، ويتكسب وينفق عليه من كسبه، فإن فضل شيء حفظ وسلم إليه إن زكيت البينة، وإلا فيسلم للسيد إن جرحت [البينة]، فإن لم يكن [له] كسب، أنفق عليه من بيت المال، [ثم يرجع] على سيده إن بان جرح الشهود واستمرار الرق، وإن بان حرّاً فقيراً فلا رجوع.
وعن ابن كج حكاية وجهين في أن العبد هل يؤجر بدون طلبه أو طلب السيد، أم لابد من طلب أحدهما؟ قال الرافعي: والأول أقرب إلى ظاهر النص.
ولو لم يطلب العبد الحيلولة، فهل للقاضي فعلها؟ فيه وجهان في "التهذيب"، والذي حكاه القاضي الحسين والإمام: أن له ذلك إذا رآه، وأنه لو كان المدعي العتق أمة، وجب احتياطاً للبضع.
وكذا [فيما إذا] كان المدعي طلاقاً تتحتم الحيلولة.
ولو كان المدعي به زوجية امرأة منعناها من الانتشار على المشهور، وذكر بعض الأصحاب وجهاً: أنها لا تمنع، بخلاف العبد؛ فإن الأصل في المرأة الحرية وتخلية السبيل، قال الإمام: وهذا وجه ضعيف، وإذا قلنا [به]، فهل نأخذ
[منها] كفيلاً؟ قال الصيدلاني: فيه وجهان ذكرهما صاحب "التقريب".
قال: فإن قال المدعي: لي بينة غائبة، فهو بالخيار إن شاء حلف المدعى عليه؛ لأن الغائبة كالمعدومة، وإن شاء صبر حتى تحضر البينة؛ لأن الحق في طلب اليمين له، فله تأخيره، وليس له أن يلازمه إلى حضور بينة؛ لقوله صلى الله عليه وسلم:"شَاهِدَاكَ أَوْ يَمِينُهُ، لَيْسَ لَكَ إِلَّا ذَلِكَ"، وهذا بخلاف ما لو كانت البينة في البلد؛ فإن له أن يلازمه إلى حضورها ما كان مجلس الحكم في يومه باقياً؛ فإذا انقضى المجلس لم يكن له ملازمته ما لم يشهد بوجود البينة قرينة، فإن شهدت أحواله بوجود البينة، جاز أن يلازمه إلى غاية أكثرها ثلاثة أيام، كذا حكاه الماوردي في باب: ما على القاضي في الخصوم.
وحكى في "البحر" في الفروع المذكورة بعد كتاب الأقضية أن ابن أبي أحمد قال: عندنا لا يلازمه إلا أن يكون في مقدار جلوس القاضي، فيلازم حتى تحضر البينة. وهذا ما حكى الغزالي أن القضاة اصطلحوا عليه.
قال: وإن أقام شاهداً واحداً، أي: عدلاً، وسأله أن يحبسه حتى يأتي بالثاني، أي، وقال: إنه في مكان قريب؛ كما قال الشافعي- رضي الله عنه ففيه قولان:
أصحهما: أنه لا يحبس؛ لأن الحق لم يثبت بعد، وهذا ما نص عليه في اللعان، وقد وافق الشيخ في تصحيحه ابن الصباغ وصاحب "البحر"[والبغوي] والنواوي.
والثاني: يحبس؛ لأنه لما حبس مع كمال العدد ونقصان العدالة جاز أن يحبس مع كمال العدالة ونقصان العدد، وهذا ما ادعى الرافعي [أن] الروياني اختاره.
فعلى هذا: لو كان الشاهد مجهول الحال، فهل يحبس؟ فيه وجهان في "البحر"، وكذا في "الحاوي" و"النهاية" قبيل كتاب الدعاوى. وإذا قلنا: يحبس في حال كونه عدلاً، جرى جميع ما ذكرناه عند إقامة الشاهدين المجهولين فيه، إلا ما سنذكره من تقييد مدة الحبس.
والقائلون بتصحيح الأول فرقوا بأن العدالة إذا ثبتت تبين بظهورها قيام الحجة مستنداً إلى وقت قيام الشهادة، ولا كذلك في الشاهد الواحد؛ فإن عند الإتيان بالثاني تتم.
وقد حكى القاضي الحسين [الخلاف في أصل المسألة وجهين، وقيل: إن كان في المال، حبس] قولاً واحداً؛ لأنه يمكنه أن يحلف مع شاهده ويستحق، فجرى مجرى حضور الشاهدين، وهذه طريقة أبي إسحاق، كما حكاه البغوي والمصنف ها هنا.
وقال الإمام والقاضي الحسين في كتاب اللعان: إن الخلاف في هذه الصورة مرتب على الخلاف في نظيرها من حد القذف والقصاص، وها هنا أولى بالحبس؛ لما ذكرناه. ثم قال الإمام: وقد يعارض ذلك بأن الحلف مع الشاهد إذا كان ممكناً فيجب أن يقال للمدعي: أنت متمكن من إثبات حقك باليمين، [فإن حلفت ثبت حقك] فافعل هذا أو خَلِّ حقك، وهذا كلام فيه فقه، وإذا عارض ما قدمناه في الترتيب أسقطه. انتهى.
وقد حكى الرافعي هذا طريقة عن رواية أبي الفرج، لكن ابن الصباغ والبندنيجي قالا: إنه يحبس في المال قولاً واحداً على رأي الأصحاب، وعلى رأي الإصطخري: لا يحبس، ولا خلاف أنه لا يحبس عند إقامة الشهادة في حدود الله- تعالى- لطلب الاستزكاء؛ لأنها مبنية على المساهلة، أما إذا قال: إن الشاهد الثاني في مكان بعيد- وهو الذي يتعذر حضوره منه في ثلاثة أيام- فإنه لا يحبس قولاً واحداً؛ كذا صرح به القاضي أبو الطيب وصاحب "البحر" قبيل كتاب الدعاوى، وحكاه في "الشامل" عن أبي إسحاق.
ومن طريق الأولى: إذا ادعى أن شاهده قريب، فحبسناه ثلاثة أيام، ولم يحضره- أنه يخرج، وهو ما حكاه الرافعي عن العراقيين والروياني، وقد نقله ابن شداد عن "النهاية" و"الحاوي"، وهو فيهما في آخر باب الشهادة بالوصية، ورأيته في "تعليق" البندنيجي قبيل باب القضاء على الغائب.
فرع: الثمرة والغلة الحادثتان بعد شهادة الشاهد الأول لمن تكون؟ ينظر: إن أرَّخ الثاني شهادته بيوم شهادة الأول أو بما قبله، كانت للمدعي، وإلا فلا شيء له إلا من حين شهادة الثاني، كذا حكاه الرافعي، والقاضي الحسين نسبه في موضع قبيل [باب] مختصر الدعوى إلى نص الشافعي- رضي الله عنه ثم قال: إذا أقام شاهداً واحداً في المال، فإن قلنا: يحجر عليه، فعلى هذا نوجب عليه أجر المثل من وقت إقامة الشاهد الأول، ويقع الملك له عقيب [إقامة الشاهد] الأول، ون قلنا: لا يحجر عليه، فعلى هذا ما حصل من النماء والزيادة بعد إقامة [الشاهد الأول] وقبل [إقامة الشاهد الثاني،] يكون ملكاً للمدعى عليه، وفيه قول آخر: أن الثمرة والنتاج الذي حصل بعد إقامة الشاهد الأول وقبل الثاني، تكون ملكاً للمدعي.
قال: وإذا علم الحاكم [- أي: بالمشاهدة-] وجوب الحق فهل له أن يحكم بعلمه، أي: على من تسوغ له الشهادة عليه، ولمن تسوغ شهادته له؟ فيه ثلاثة أقوال:
أحدها: يحكم؛ لقوله تعالى: {يَا دَاوُودُ إِنَّا جَعَلْنَاكَ خَلِيفَةً فِي الأَرْضِ فَاحْكُمْ بَيْنَ النَّاسِ بِالْحَقِّ} [ص: 26]، وهو يعلم أن أحدهما محق في الخصومة؛ فلزمه الحكم بالحق، وروى أبو سعيد الخدري أن النبي صلى الله عليه وسلم قال:"لَا تَمْنَعُ أَحَدَكُمْ هَيْبَةُ النَّاسِ [أَنْ يَقُولَ] فِي حَقٍّ إِذَا رَآهُ أَوْ سَمِعَهُ".
لأنه يجوز له الحكم بشهادة الشاهدين، وذلك من طريق الظن؛ فبالعلم أولى، وهذا ما نص عليه في "الرسالة" حيث قال: وأقضي بعلمي وهو أقوى من شاهدين، أو شاهد وامرأتين، وهو أقوى من شاهد ويمين، وهو أقوى من النكول ورد اليمين.
وقال الربيع: كان الشافعي- رضي الله عنه يرى القضاء بالعلم، وكان لا يبوح به لقضاة السوء، وقد اختاره المزني، وصححه الجمهور ومنهم الماوردي والروياني والفوراني، وبعضهم قطع به.
والثاني: لا يحكم؛ لقوله صلى الله عليه وسلم: "شَاهِدَاكَ أَوْ يَمِينُهُ، لَيْسَ لَكَ إِلَّا ذَاكَ".
وقد روي عن عمر- رضي الله عنه "أَنَّهُ تَدَاعَى عِنْدَهُ رَجُلَانِ، فَقَالَ أَحَدُهُمَا: إِنَّهُ شَاهِدِي، فَقَالَ: إِنْ شِئْتُمَا شَهِدْتُ وَلَمْ أَحْكُمْ، [وَإِنْ شِئْتُمَا حَكَمْتُ] وَلَمْ أَشْهَدْ".
ولأن علمه لو أقيم مقام الشاهدين لا يعقد النكاح بحضوره وحده.
وهذا ما قال الرافعي إن الروياني اختاره، وصححه في "الوجيز"؛ لفساد الزمان وتعرض الشبهات إليه.
وعلى هذا: لو شهد عنده شاهد بما علمه، فهل يقوم علمه مقام شاهد آخر؟ فيه
وجهان، أصحهما في "الوسيط": المنع، قال الإمام: وهو القياس.
والقائلون بالقول الأول أجابوا عن الحديث بأنه صلى الله عليه وسلم لم يكن يعلم في تلك الواقعة من المحق منهما.
وعن أثر عمر- رضي الله عنه بأنه لم يثبت.
وعن النكاح: فالمغلب في حضور الشهود فيه التعبد، والتهمة موجودة فيما إذا قال: ثبت عندي وصح لدي، كذا من غير أن يبين سبب الثبوت، ومع ذلك لا يمنع نفوذ الحكم؛ فدل على عدم تأثيرها في الحكم.
وهذان القولان نص عليهما في "الأم"؛ كما قاله الماوردي.
والثالث: يحكم في غير حدود الله- تعالى- لما ذكرناه، ويدخل في ذلك الزكوات، كما قاله القاضي الحسين، ولا يحكم في حدوده، وهي: حد الزنى، والسرقة، والمحاربة، والشرب؛ لأنها تدرأ بالشبهات، ومندوب إلى الستر فيها، وقد روي أن أبا بكر- رضي الله عنه قال:"لَوْ رَأَيْتُ رَجُلاً عَلَى حَدِّ لَمْ أَحِدَّهُ حَتَّى تَقُومَ البَيِّنَةُ عِنْدِي".
وهذه الطريقة هي التي ذهب إليها الأكثرون؛ كما قال في "الحاوي"، وأن القائل بطرد القولين في الجميع هو ابن سريج وابن أبي هريرة.
وقد رتب المراوزة الخلاف في المسألة، فحكوا في الحكم بالعلم في الأموال قولين، وفي حدود الله- تعالى- قولين مرتبين على [الأولين، وأولى بالمنع، وفي الحدود المتعلقة بالآدمي قولين مرتبين على][القولين في حدود الله تعالى]، وأولى بالجواز.
أما [إذا علم بوجوب الحق بالخبر المتواتر، فإن قلنا: يقضي بما علمه بالمشاهدة فها هنا أولى، وإلا فوجهان محكيان في "النهاية" قبيل باب "كيف تفريق قسم الصدقات":
أحدهما: لا كالمعلوم بالمشاهدة.
والثاني: يقضي؛ لأن المحذور [من] منع القضاء بالعلم تعرضه للتهمة، فإذا شاع الأمر زال هذا المعنى.
وأما] الحكم على من لا تقبل شهادته عليه، [أو الحكم] لمن ترد شهادته له- فممتنع قطعاً، وقد أشرنا إليه فيما تقدم.
قال القاضي الحسين وغيره: ولا خلاف أنا وإن قلنا: لا يقضي بعلمه، فلا يسوغ له القضاء بخلاف علمه، وذلك مثل أن يشهد شاهدان على زوجية، والقاضي يعلم أن بينهما محرمية أو طلاقاً ثلاثاً، أو يشهدا على موت إنسان في تاريخ ذكراه، وهو يعلم أنه كان حيّاً في ذلك الزمان، أو برِق عبد والقاضي يعلم أنه أعتقه.
وقد نسب بعضهم إلى الإصطخري أنه قال يتعين القضاء بالعلم في مواضع:
منها: أن يقر عنده أنه طلق امرأته ثلاثاً، ثم يدعي زوجيتها.
ومنها: أن يدعي أن فلاناً قتل مورثه وهو يعلم أنه قتله غيره.
ومنها: أن يدعي رجلأن المرأة التي في يده أمته، ويصدقه على ذلك، والقاضي يعلم أنها ابنته.
وفي "الحاوي": أنا إذا [لم نجوز] الحكم بالعلم، فأدى عند القاضي شاهدان بما يعلم خلافه، هل يجوز حكمه بشهادتهما؟ فيه وجهان:
أحدهما: نعم؛ لأن الشهادة هي المعتبرة في حكمه، دون علمه، [وهذا يوافقه الوجه الصائر إلى أنه لا يقضي في الجرح بعلمه].
والثاني- وهو أصحح-: لا يجوز؛ لأنه [متحقق لكذبهما].
تنبيه: ظاهر كلام الشيخ يقتضي أموراً:
أحدها: أن محل جواز الحكم في القضاء، بالعلم، لا بالظن، وعليه ينطبق قول
الإمام هاهنا: إنا إذا [جوزنا له أن يقضي] بعلمه، فذلك فيما يستيقنه لا ما يظنه، وإن غلب على الظن فإن الظنون لها مآخذ لا تستند إلى غيرها. وقوله في كتاب التفليس: ومن لطيف الكلام في ذلك: أن كل ما تستند الشهادة فيه إلى اليقين فلو علمه القاضي بنفسه اختلف القول في جواز قضائه بعلمه، ولو انتهى القاضي فيما لا علم [فيه] له على منتهى يشهد فيه، كالأصول التي ذكرناها- فلا يحل له القضاء، وإن كان يحل له أن يشهد بما أحاط به وظهر عنده، فليتأمل الناظر في هذا؛ فإنه من أسرار القضاء.
والذي ذكره من الأصول هي الشهادة على أنه لا مال له أو لا وارث له، والشهادة بالتعديل، والشهادة على الأملاك، وقد سئل الغزالي ذلك في قوله: ولا خلاف أنه لا يقضي بظنه الذي لا يستند إلى بينة.
لكن في كلام غيرهما ما ينازع في ذلك، قال الماوردي في كتاب اللقيط: إذا رأى [الشاهد] رجلاً يتصرف في دار مدة طويلة من غير معارضة جاز أن يشهد له بالملك على قول، كما يجوز للحاكم أن يحكم به، والحكم أوكد من الشهادة، والثاني: لا يجوز ذلك للشهود وإن جاز للحاكم؛ لأن للحاكم أن يجتهد، وليس للشهود أن يجتهدوا، وليس هذا إلا بناءً على جواز القضاء بالعلم، [وهو غير حاصل في هذه الصورة.
وكذلك صاحب "التهذيب" والأئمة- كما قال الرافعي- مثَّلوا القضاء بالعلم] الذي هو محل الخلاف: بما إذا ادعى عليه مالاً، وقد رآه القاضي أقرضه ذلك، أو سمع المدعى عليه أقر بذلك، قال [الرافعي]: ومعلوم أن رؤية الإقراض وسماع الإقرار لا يفيد اليقين بثبوت الحكم به وقت القضاء؛ فدل ذلك على أن المراد من [القضاء] بالعلم: [ليس اليقين؛ بل الظن المؤكد].
[قلت: ولا شك في أن ما قاله الماوردي مخالف لما قالاه، فأما ما ذكره البغوي وغيره فقد يجاب عنه أن يقال: ما أسند القضاء إليه هو الإقرار والإقرار الذي هو السبب، ولاشك في أنهما معلومان؛ فلذلك نفذنا قضاء القاضي إذا كان ذلك مستنده في القضاء التعرف والتسامع ونحوهما؛ فإنه لم يستند إلى معلوم].
[قلت: وسيأتي ما يعضد ذلك.
وفي "أدب القضاء" لابن أبي الدم: أن في موضع من "النهاية": أن القاضي قال: هل يقضي القاضي بعلمه؟ فيه خلاف، فإن منعناه فهل يقضي بما علمه من أخبار التواتر؟ فيه خلاف مرتب على ما إذا علمه بالمشاهدة، وأولى بالجواز ها هنا؛ لأنه لا تهمة تلحقه فيما إذا علمه بأخبار التواتر، بخلاف علمه بغيرها؛ فإنه متهم].
الثاني: أنه لا فرق في جريان الخلاف بين أن يكون ما حصل له من العلم قبل ولايته أو بعدها في محل ولايته أو غيره، وهو ما صرح به القاضي أبو الطيب والحسين وغيرهما من الفريقين، لكن هذا اللفظ يشمل ما إذا كان العلم قد حصل في مجلس الحكم أو غيره، وعليه ينطبق ما حكاه الماوردي عن لفظ الشافعي- رضي الله عنه في أدب القضاء من الأم، حيث قال: لا يجوز فيه- أي القضاء بالعلم- إلا واحد من قولين:
أحدهما: أنه له أن يقضي [بكل ما] علم قبل الولاية وبعدها في مجلس الحكم [وغيره من حقوق الآدميين.
والثاني: لا يقضي بشيء من علمه في مجلس الحكم وغيره] إلا أن يشهد شاهدان على مثل ما علم؛ فيكون علمه وجهله سواء.
وفي "النهاية" و"الإبانة": أنا إذا قلنا: لا يقضي بعلمه، فأقر شخص على رءوس الأشهاد- حكم عليه قولاً واحداً؛ فإن الإقرار في محل الحكم حجة ظاهرة، وقال الغزالي: إنه أقوى الحجج. وهذا وجه حكاه الماوردي عن الأكثرين، ومنهم الكرابيسي وابن سريج، مع وجه آخر موافق لمذهب مالك: أنه لا يقضي إذا أقر عنده
خصم إلا أن يشهد بإقراره شاهدان؛ كي لا يصير حاكماً بعلمه، وقد منعناه، وعلى هذا الوجه ينطبق ما حكيته عن البندنيجي وغيره عند قول الشيخ: والمستحب ألا يحكم إلا بمشهد من الشهود. وظاهر النص الذي حكيناه عن "الأم" يدل عليه أيضاً. نعم، الخلاف المشهور فيما إذا أقر عنده سرّاً، هل يحكم به وقد منعنا القضاء بالعلم؛ لأنه حجة، وجملة مجالس القضاء بمثابة مجلسه الذي يتصدى فيه [للقضاء]، هكذا وجه الإمام الجواز مع حكمه بتضعيفه، والتوجيه المذكور يعرفك أن المراد بالسر: ما إذا أقر من محل ولايته لا في مجلس الحكم، وقد أشار الماوردي إلى تلخيص محل الخلاف في الإقرار في مجلس الحكم في موضعين من "الحاوي":
أحدهما: في كتاب الأقضية حيث قال: إذا ادعى رجل على رجل حقّاً، فأجاب المدعى عليه بالإقرار قبل سؤال القاضي صار القاضي حاكماً فيه بعلمه، فإن منع من الحكم بالعلم لم يجز أن يحكم به عليه إلا أن يقر بعد سؤاله.
والثاني: في كتاب الإقرار حيث قال: لا يصح الإقرار إلا بأربعة شروط، الشرط الرابع [منها]: وهو المقر عنده، وهو من يصير الحق به محفوظاً، وهو أحد نفسين: إما حاكم ملزم، أو شاهد متحمل، فإن كان الإقرار عند حاكم، فمن شرطه: أن يكون بعد سماعه الدعوى عليه، فإن أقر قبل سماع الدعوى أو من غير دعوى، ففي صحة الإقرار لأصحابنا وجهان:
أحدهما: يصح، وحكاه ابن المنذر عن الشافعي، رضي الله عنه.
والثاني: لا يصح.
قال: ويشبه أن يكون اختلافهم في هذا مخرجاً من اختلاف قوليه: في أن الحاكم هل له أن يحكم بعلمه أم لا.
الثالث: أنه لا فرق فيما جرى الخلاف فيه بالقضاء بالعلم بين شيء وشيء، وقد قال العراقيون- كأبي الطيب والبندنيجي وابن الصباغ وغيرهم-: إنه يقضي في الجرح والتعديل بعلمه وجهاً واحداً، حتى قال الماوردي عند الكلام في البحث عن
حال الشهود: إن هذا مما لم يختلف فيه مذهب الشافعي، رضي الله عنه.
وهذا الذي وعدنا من قبل أنه يدل على أن المراد بالعلم: الظن المؤكد؛ لأن العدالة لا تعلم يقيناً.
وبعض المراوزة لما نظر إلى ذلك، ونظر إلى أنه لا يحكم إلا بما علمه- منع القضاء بالتعديل، إلا بعد تزكية شاهدين، وهذا ما حكيته عن رأي الإمام في كتاب التفليس، والقاضي الحسين رأى تخريج الحكم بالعدالة على القضاء بالعلم، وفي "الذخائر" طرده في الحكم بالجرح أيضاً، وقد حكى الماوردي [هذا طريقة] في كتاب الشهادات عند الكلام في حرية الشاهد، حيث قال: وكان بعض أصحابه- يعني الشافعي، رضي الله عنه يقول: هل يحكم بعلمه في الجرح والتعديل أم لا؟ فيه قولان.
واعلم أن الماوردي قال ها هنا: إنا إذا جوزنا القضاء بالعلم كان نفوذه معتبراً بشرطين:
[أحدهما:] أن يقول للمنكر: قد علمت أن له عليك ما ادعاه.
والثاني: أن يقول: وحكمت عليك بعلمي، فإن اقتصر على أحد الشرطين وأغفل الآخر [لم ينفذ حكمه] قال: وإن سكت المدعى عليه ولم يقر ولم ينكر، أي: ولا صمم به ولا خرس- قال له الحاكم: إن أجبت وإلا جعلتك ناكلاً؛ تنبيهاً له على الحكم.
قال: ويستحب أن يكرر [ذلك عليه] ثلاثاً، أي: ويعرفه أن حكم النكول استيفاء الحق بيمين المدعي؛ لاحتمال أن يكون قد لحقه دهش أو لا يعرف حكم النكول.
قال: فإن أجاب وإلا جعله ناكلاً، [أي] بأن يقول: قضيت عليك بالنكول، أو يقول للمدعي: احلف، وحينئذ إذا حلف قضى له، قال في "المهذب": لأنه لا يخلو
إذا أجاب من أن يقر أو ينكر، فإن أقر فقد قضى عليه بما يجب على المقر، وإن أنكر فقد وصل إنكاره بالنكول فقضينا عليه بما يجب على المنكر إذا نكل عن اليمين، وقد تقدم فيما يتم به النكول عن اليمين [كلام] هو بعينه جار ها هنا فيما فهمته من كلامهم، وقد أشار إليه الماوردي- أيضاً- حيث قال: من امتنع عن الإقرار والإنكار قد يقول: لا أقر ولا أنكر، أو يسكت فلا يجيب؛ فيجري عليه حكم الناكل.
وقال الإمام في باب الامتناع من اليمين: إنه إذا سكت ولم يجب المدعي، قال له: أجب فليس بك بكم ولا صمم، فإن تمادى على سكوته جعل ذلك إنكاراً في حكم عرض اليمين، ثم يعرض اليمين، ويجعل التمادي على السكوت نكولاً عن اليمين إذا لم يظهر عنده سبب مسكت.
وهذا معنى قول الغزالي: أما السكوت فهو قريب من الإنكار.
أما الأصم أو الأخرس إذا كانت له إشارة مفهمة فهو كالناطق، وإن لم تكن قال في "الحاوي": فهو كالغائب؛ فيجري عليه حكم الغائب.
ولا يجوز القضاء بالنكول عندنا [من غير يمين المدعي] إلا في مسائل نذكرها- إن شاء الله تعالى- في باب اليمين في الدعاوى على خلاف فيها.
قال: وإن قال: لي حساب أريد أن أنظر فيه، لم يلزم المدعي إنظاره؛ لأن فيه تأخيراً لحقه، وهذا قد حكاه الإمام هنا وفي كتاب الإقرار، ولم يحك سواه، ومقتضى ما حكيناه عن "المهذب" وغيره من إمهاله في اليمين ثلاثة أيام بعد [إنكاره للحق]، أن يمهل ها هنا ذلك أيضاً. وذكر القاضي أبو سعد أنه يمهله إلى آخر المجلس إن شاء.
قال: فإن قال: برئت إليه مما يدعي أو قضيته، فقد أقر بالحق؛ لأن البراءة إليه والقضاء فرع ثبوت الحق؛ فكان دعوى ذلك إقراراً به.
قال: ولا يقبل قوله في البراءة والقضاء إلا ببينة؛ لأن إسقاط حق غيره [عنه]
بقوله غير جائر، وما حكاه الشيخ من قوله: برئت إليه منه، هو ما أورده البندنيجي، وادعى في "الإشراف" أنه الذي ذكره عامة أصحابنا.
وفي "البحر" أنه إذا قال: برئت إليه من هذا المال، قال ابن أبي أحمد: مذهب الشافعي- رضي الله عنه أنه يسأل عنه، فإن قال: قضيت، كان إقراراً، وحلف المدعي بالله ما اقتضاه، وإن قال: برئت إليه بأن حلفت له أو أقمت بينة على إقراره فالقول قول المدعى عليه مع يمينه، ولم يجعل قوله: برئت إليه من هذا المال، [إقراراً بالمال].
وفي "الإشراف" أن صاحب "التلخيص"- وهو ابن أبي أحمد- قال: إن مذهب الشافعي- رضي الله عنه أن هذا ليس بإقرار إلا أن ينويه، وهذا بخلاف قوله: أبرأني من هذا المال؛ فإنه إقرار به على الأصح؛ كما قدمت حكايته في كتاب الصلح من هذا الشرح، قال القاضي الطبري- كما حكاه في "البحر"-: ويمكن أن يفرق؛ فإن قوله: أبرأني يقتضي ثبوت المال قبل إبرائه؛ لأن ما يبرأ منه بإبرائه هو المال الثابت. وأما قوله: برئت إليه، أو: عندي براءة من هذا المال، يحتمل أن يكون قد حلف له على إنكاره أو غير ذلك؛ فرجع في تفسيره إليه.
وفي "الإشراف" ما يقتضي أن قوله: برئت إليه، مرادف لقوله: قضيته؛ فإنه قال: لو شهد شاهد أن رب الدين استوفى منه الدين، وشهد شاهد بأن الغريم برئ منه إليه- أي: برئ من الدين إلى من له الدين- أن المصنف قال: يجمع بين الشهادتين؛ لأنه أضاف [البراءة] إلى الغريم؛ وذلك عبارة عن فعل الإيفاء والإقباض؛ ألا ترى أنه لو قال رب الدين: برئ الغريم منه إليّ، كان إقراراً بالقبض؟! وحينئذ فيكون كلام الشيخ منطبقاً على هذا، لكن الظاهر من كلام الشيخ [أن] قوله برئت إليه مما يدعي، أو: قضيته، لفظان متباينان لا مترادفان، وهذا قريب، وما حكاه الشيخ في حالة قول المدعى عليه: قضيته، هو ما حكاه البندنيجي وابن الصباغ في أواخر باب
الدعوى على كتاب أبي حنيفة عن الشافعي- رضي الله عنهما ثم قالا: وهذا [على أصح] القولين [فيما] إذا قال: لفلان عليّ ألف قضيتها، فهل يقبل قوله في القضاء أم لا؟ وهذا الذي قالاه يدفع الفرق [الذي يطلب] بينهما، والله أعلم.
قال: وإن قال: لي بينة قريبة بالقضاء والإبراء، أمهل ثلاثة أيام؛ لأن هذه مدة قريبة لا يعظم الضرر فيها، ومقيم البينة يحتاج إلى مثلها لاستيثاق الشهود والفحص عن غيبتهم وحضورهم واستحضار الغائب منهم.
وعن القاضي الحسين: أنه لا يمهل أكثر من يوم واحد؛ لأنه يشبه أن يكون متغيباً.
قال: وللمدعي ملازمته حتى يقيم البينة؛ لأن حقه ظهر، ومعنى الملازمة: ألا يفارقه، فإذا أراد الدخول إلى منزله دخل معه إن أذن له، وإن لم يأذن [له] منعه من الدخول، كذا رأيته منسوباً لحكاية الروياني في "الروضة"، وليس ببعيد.
فرع: من عليه دين في الظاهر لغائب ولم يطالب به، وله حجة على الإبراء، وأراد أن يقيمها- هل له ذلك؟
قال في "التتمة" في كتاب اللعان في ضمن فرع أوله: إذا ثبت عليه الحد ولم يطالبه به- ما يقتضي الجزم بالسماع.
والذي أورده الماوردي عند الكلام في كتاب قاض إلى قاض: عدم السماع، وطرده فيما إذا ادعى القبض، أو ادعى أنه اشترى شقصاً مشفوعاً، وأراد إقامة البينة على العفو] عن الشفعة، أو ادعى أنه اشترى شيئاً وأراد إقامة البينة على إقباض الثمن، أو ادعت امرأة أن زوجها طلقها وأنها ليست آمنة أن يتعرض لها، وأرادت إقامة البينة على ذلك، وكذا قال فيما لو ادعت ذلك والزوج حاضر ولم يخالطها، وحكى وجهين في السماع فيما إذا ادعت ذلك [وكان] الزوج غائباً، وأرادت الخروج إلى البلد الذي الزوج [فيه].
وقال القاضي الحسين في "فتاويه": والحيلة فيما إذا أراد أن يقيم البينة على البراءة قبل الدعوى: أن ينصب مسخراً يدعي على من عليه الدين بأن لي على فلان كذا، أو أن له في ذمة هذا كذا، فَمُرْهُ يسلمه إليَّ، فيدعي من عليه الدين الإبراء منه ويقيم البينة عليه- فإن القاضي يسمعها، ويكتب له كتاباً إلى قاضي البلد الذي فيه رب الدين بسماع البينة، أو الحكم إن كان قد حكم.
قال: وإن لم [يكن له] بينة حلف المدعي؛ أي: عند طلب المدعى عليه يمينه إنه ما برئ [إليه] منه ولا قضاه، واستحق، أي: القبض؛ لأن ما ادعاه محتمل، واليمين تعتمد الاحتمال.
وهكذا الحكم فيما لو قامت عليه البينة بالدين، ولم يقض بها بعد، فادعى أنه برئ إليه منه، أو قضاه قبل إقامة البينة أو بعدها، وطلب يمينه عند الإنكار؛ لأن الحق في هذه الحالة يصير الحكم به بالإقرار لا بالبينة؛ لأنها تسقط بالإقرار قبل الحكم، وهذه الصيغة قد قررنا أنها تتضمن الإقرار، صرح به القاضي الحسين. نعم، لو كانت الدعوى بعد القضاء بالبينة نظر: فإن كانت دعوى القبض قال القاضي الحسين: فحق على القاضي ألا يصغي إلى قوله؛ لأن القضاء بشهادة الشهود ألزمه الحق، وإن كانت دعوى البراءة سمعت؛ لأنه ليس في ذلك تكذيب للشهود؛ لأنهم يشهدون على الظاهر.
قلت: وقياس هذه العلة أن تسمع دعوى القبض أيضاً.
ولو كان المدعى عليه قد أجاب المدعي بدعوى البراءة من المال، وقلنا بالصحيح: إنه يكون مقرّاً به، وكذبه المدعي، وطلب يمينه، قال الشافعي- رضي الله عنه: يحلف بالله: إن هذا الحق- ويسميه تسمية يصير بها معلوماً- لثابت عليه، ما اقتضاه ولا شيئاً منه، ولا اقتضاه [من] مقتض بأمره ولا بغير أمره فوصل إليه، ولا أحال به ولا بشيء منه، [ولا أبرأه منه ولا من شيء منه. وزاد في "الأم": ولا كان منه ما يبرأ به من دينه ولا من شيء منه]. وعنى به صدور جناية أو إتلاف بقدر
دينه، قال في "المختصر" و"الأم": وإنه لثابت عليه إلى أن حلف هذه اليمين.
قال أبو إسحاق المروزي: هذا إذا ادعى البراءة مطلقاً، أي: مثل أن قال: برئت من حقه، فإن ادعى البراءة بجهة معلومة، أي: مثل أن ادعى أنه استوفى حلف: إنه ما استوفى فقط.
قال في "الشامل": وقال أصحابنا: يمكنه أن يجمع ذلك بأن يحلفه: إنه لم يبرأ من ذلك الحق بقول ولا فعل، ولو أحلفه: ما برئت ذمته من ذلك ولا من شيء منه، أو: ما برئت ذمته من ذلك الحق- كفاه، وما ذكره الشافعي- رضي الله عنه تأكيد. وظاهر [هذا] اللفظ يقتضي الجزم بعدم ذكر الجهات عند دعوى البراءة بجهة معينة، وذكر خلاف في وجوبها عند إطلاق دعوى البراءة [، وقد قال البندنيجي والماوردي: إنه لا خلاف عند إطلاق دعوى البراءة] أنه لا يجب التعرض لقوله: وإن حقي لثابت عليه إلى أن حلف هذه اليمين. وحكاية الخلاف فيما عدا ذلك. قال الماوردي: والأكثرون على الاشتراط. وحكى عند تعيين جهة البراءة وجهين في أن يمينه تكون مقصورة على النوع الذي ادعاه، أو مشتملة على غيره من الأنواع، والأصح: الأول، وظاهر ما أطلقه الشافعي- رضي الله عنه: الثاني، وعلى هذا: هل تكون واجبة أو احتياطاً؟ فيه الوجهان المذكوران.
ثم ما ذكره الشيخ من توقف الاستحقاق على الحلف هو نظر المشهود فيما إذا ادعى أنه أبرأني من الحق: أنه لا يستحق القبض ما لم يحلف على نفي البراءة، وإلا فقد حكي عن القاضي الحسين في مسألة دعوى البراءة: أن الحق يستوفى أولاً، ثم يحلف إن شاء المدعى عليه، فإن هذه دعوى جديدة، وقال في "الوسيط": إنه بعيد. وهو على بعده يظهر جريانه في مسألتي الكتاب، وعلى الأول قال الرافعي: إن هذا يخالف ما إذا قال المدعى عليه لوكيل المدعي: قد أبرأني موكلك؛ حيث يستوفى منه الحق، ولا يؤخر إلى حضور الموكل وحلفه؛ لعظم الضرر في التأخير، وهنا التحليف متيَسّر في الحال.
ولو كان المدعَى عيناً، فقال المدعى عليه للمدعي: قد بعتها مني أو وهبتها، فكذبه، وأراد المدعى عليه إقامة البينة على ذلك- فعلى طريقة القاضي: تنزع العين من يده وتسلم للمدعي، ثم يقال للمدعى عليه: أثبت ما ادعيته واستردها.
وعن الصيدلاني وغيره: أن بينة الشراء لو كانت حاضرة لم تُزَل يده، فإن استحقاق المدعي في الحال لا يتحقق. نعم، لو كانت غائبة فقال: لا تزيلوا يدي وأمهلوني ثلاثة أيام لأقيم البينة، قال الإمام: فلا يمهله بلا خلاف.
قال: وإن ادعى على ميت، [أي]: ولا وارث له معين، أو غائب، أي: عن البلد إلى مسافة القصر، ولا وكيل له حاضر أو وصي، أي: لا نائب له، كما قيده الإمام، أو مستتر في البلد وله بينة- سمعها الحاكم؛ للإجماع.
[قال]: وحكم بها:
أما في الميت والصبي فبالاتفاق منا ومن الخصم- وهو أبو حنيفة- وفي معناهما المجنون، وكذا الأخرس الذي لا تفهم إشارته؛ كما ذكره في "الإشراف".
وأما في الغائب والمستتر؛ فلقوله- تعالى: {يَا دَاوُودُ إِنَّا جَعَلْنَاكَ خَلِيفَةً فِي الأَرْضِ فَاحْكُمْ بَيْنَ النَّاسِ بِالْحَقِّ} [ص: 26]، وما شهدت به البينة على الغائب والمستتر حق؛ فوجب الحكم به.
ولأن هند بنت عتبة زوجة أبي سفيان بن حرب أتت رسول الله صلى الله عليه وسلم فقالت: "إِنَّ أَبَا سُفْيَانَ رَجُلٌ شَحِيْحٌ لَا يُعْطِيْنِي مَا يَكْفِيْنِي وَوَلَدِي، إِلَّا مَا أَخَذْتُ مِنْ مَالِهِ سِرّاً، فَهَلْ عَلَيّ فِي ذَلِكَ مِنْ حَرَجٍ؟ [فَقَالَ لَهَا]: خُذِيْ مَا يَكْفِيْكِ [وَوَلَدَكِ] بِالْمَعْرُوْفِ"، وهذا قضاء منه صلى الله عليه وسلم على غائب؛ لأن أبا سفيان لم يحضر، ولم تكن فتوى؛ لأنه قال لها:"خذي"، ولو كان فتوى لقال [لها]: لا بأس عليك ونحوه. وقد قام علمه صلى الله عليه وسلم بأنها زوجته مقام البينة.
ولأن في الامتناع من القضاء على الغائب والمستتر إضاعة للحقوق التي ندب الحكام [إلى حفظها]؛ لأنه لا يعجز الممتنع من الوفاء عن الغيبة والتستر، والشرع يمنع من ذلك.
وأيضاً: فبالقياس على الميت، والصبي، والمجنون، والجامع: تعذر الجواب من المدعى عليه، وإلى هذا أشار الشيخ بجمعه بين الصور الأربع في الحكم.
[وألحق] القاضي الحسين بحال الغيبة التي يسمع فيها الدعوى: ما إذا أحضرا لخصم خصمه إلى المجلس، ثم هرب قبل أن يسمع الحاكم البينة عليه، أو بعدما سمعها، وقبل أن [يحكم؛ فإنه] يحكم عليه، وادعى [أن هذا] لا خلاف فيه.
قال: وحلف المدعي، أي: قبل الحكم إن كان هو المستحق؛ لأنه [هو] المنقول عن الأصحاب.
والاعتذار عن الشيخ: أن الواو لا تقتضي الترتيب على الصحيح.
قال: إنه لم يبرأ إليه [منه]، ولا من شيء منه؛ احتياطاً للمحكوم عليه لأجل عجزه عن الجواب؛ فإنه لو كان قادراً عليه فربما كان قد ادعى ما يبرئه، ودعواه مسموعة؛ لأنها لا تنافي ما شهدت به البينة. ووراء ما ذكره الشيخ أمور [أخر]:
أحدها: حكى الغزالي وجهاً: أن المتواري والمتعذر لا يجعل كالغائب في سماع الدعوى عليه؛ كما [أن] منع المهر [والثمن] لا يلحق بالإفلاس على وجه. وهذا معزي [إلى القاضي] الحسين، ورأيته في "تعليقه"، وسنذكر عند الكلام في الاستعداء [شيئاً يتعلق] به.
الثاني: إذا سمعنا البينة على المستتر، وجوزنا القضاء عليه- ففي "الحاوي" عند
الكلام في الاستعداء: أنه لا يحلف المدعي؛ لأن الخصم قادر على الحضور. وهذا ما حكاه الرافعي عن "العدة".
الثالث: حكى صاحب "الإشراف"، وغيره: أن [أبا] حنيفة [قال]: "لا يقضي على الغائب وإن جوزنا سماع البينة لأجل نقلها إلى حاكم آخر، إلا إذا اتصل بحق حاضر"، وأن أبا سعيد قال: هذا قول الشافعي؛ لأنه علق القول في ذلك.
وفي "النهاية": أن صاحب "التقريب" حكى في مواضع من كتابه قولاً غريباً للشافعي- رضي الله عنه في منع القضاء على الغائب، رواه حرملة عنه.
فإن كان هذا [القول] مطلقاً فقد حصل في القضاء على الغائب ثلاثة أقوال، وأصحها: ما في الكتاب، وعلى هذا: فهل اليمين التي تشرع في ذلك وما ذكر معه- كما سنصفها- واجبة حتى تكون ركناً في القضاء، أم مستحبة؟ المشهور: أنها واجبة في الصور كلها، وفي "الإشراف" حكاية رواية ثانية؛ ادعى في موضع آخر منه أنها قول غريب: أن اليمين لا تجب فيما ذكرناه، بل تستحب؛ لأن دعوى الإبراء أو الأداء إن كانت فهي دعوى جديدة لا تفوت.
والإمام حكى عن [رواية القاضي الوجهين عن الأصحاب في أن اليمين [التي] سنصفها عن] روايته ورواية القاضي الحسين من بعد- في حق الغائب- وقال: إن الثاني هو الأصح، وهو الذي قال القاضي الحسين في "تعليقه": إنه الأظهر، وإن الوجهين يقربان من أن التغليظ بالزمان والمكان هل يكون واجباً أو مستحبّاً؟ وفيه وجهان، ووجه التقريب: أن الزمان والمكان تأكيد لليمين، واليمين في مسألتنا تأكيد للبينة.
وقال الرافعي في باب الدعاوى والبينات: إنه يمكن بناء الوجهين على الوجهين في أن دعوى المدعى عليه بعد الحكم عليه الإبراء من الدين أو قبضه [منه] أو هبته العين المدعى [عليه] بها قبل شهادة الشهود بذلك، هل تسمع [كما يسمع قبل] حكم الحاكم عليه؟ فإن قلنا: تسمع دعواه بعد الحكم، فالتحليف مستحب، وإن قلنا: لا تسمع- كما هو الأصح في "التهذيب" فواجب؛ كي لا يفوت بالحكم عليه الدعوى، وبالتحليف أن لا تجعل الغيبة عذراً مانعاً من الفوات.
قلت: ولو صح هذا البناء للزم إذا حكم الحاكم بعد الاستخلاف، وقدم الغائب، وبلغ الصبي- ألا يكون على حجته، وقد اتفقوا على أنه على حجته.
ثم قال الإمام: وقد قال الأئمة: إن من ادعى على صبي أو مجنون أو ميت، ولا نائب لهم، فإذا أقام البينة فلا بد من التحليف؛ كما ذكرنا في القضاء على الغائب، والذي أراه: أن التردد الذي ذكره القاضي في أن اليمين احتياط أم وجوب، لا يجري في هذه المسائل؛ فإنا نتوقع من المدعى عليه إذا انتهى إليه كتاب القاضي إلى موضعه أن يدعي بنفسه، وهذا لا يتحقق في الصبي والميت والمجنون، وحكم نفوذ القضاء إيصال الحق إلى مستحقه، وعلى هذا جرى في "الوسيط"، وحينئذ فيحصل في المسائل طريقان في إيجاب التحليف أو استحبابه:
إحداهما: حكاية الخلاف في الجميع، وهي المذكورة في "تعليق" القاضي الحسين، والأصح منه- وبه جزم الماوردي والبندنيجي وغيرهما-: الوجوب.
والثانية: حكاية الخلاف في حق الغائب، وفي معناه: المستتر، والقطع بالوجوب فيمن عداهما، والله أعلم.
واعلم أن فيما ذكره الشيخ من كيفية التحليف نظراً؛ لأنا قدمنا في معنى قوله: برئت إليه مما يدعي، وجهين:
أحدهما: أنه بمعنى: قضيته، وعلى هذا لا ينبغي أن يكتفي بذلك، لأنه لا يلزم من كونه ما قضاه أن يكون مستحقّاً له؛ لأن أسباب الإسقاط أعم من ذلك؛ فلا احتياط [إذن].
والثاني: أنه يحتمل القضاء، ويحتمل التحليف على عدم الاستحقاق، ويحتمل إقامة البينة على إقرار المدعي كما حكيناه عن ابن القاص، وعلى هذا أيضاً لا يقع الاحتياط بالاقتصار عليه.
لكن قد حكى ابن أبي الدم عن "تعليق" القاضي أبي الطيب: أن الحي إذا ادعى البراءة مطلقاً، فيمكن حصر الألفاظ التي ذكرها الشافعي- رضي الله عنه بقوله: والله ما برئ إليَّ من الحق، ولا من شيء منه بقول ولا فعل، وإذا كان هذا كافياً في حق الحي، فكذلك في حق الميت، والذي قاله البندنيجي: أنه يحلف في حق الغائب والهارب عن مجلس الحكم: إن حقه الذي شهد له الشاهدان به ثابت عليه إلى وقتنا هذا. وكأنه- والله أعلم- أراد بهذا التحليف على استمرار ثبوت الحق، لا لثبوت أصل الحق؛ لأن أصل الحق قد قامت به البينة، والتحليف مع قيام البينة على أصل الحق لا يسوغ عندنا؛ لأن فيه قدحاً [في البينة].
والذي قاله الماوردي عند الكلام في كتاب القاضي: أنه يحلف في حق الغائب والصبي والمجنون والميت: بالله ما قبض الحق ولا شيئاً منه، ولا أبرأه منه، ولا من شيء منه [، ولا برئ إليه منه ولا من شيء منه، وإن حقه لثابت عليه. وأقل ما يجزئه أن يحلفه: إن حقه هو الثابت عليه.
وأبلغ من ذلك ما حكاه [الإمام] والقاضي الحسين أنه يستظهر في تحليفه بالاحتياط التام، فيحلفه: ما أبرأه من حقه]، ولا من شيء منه، ولا أحد بأمره، [ولا اعتاض عنه ولا عن شيء منه، ولا أحد بأمره]، ولا أحال به ولا بشيء منه، ولا أحد بأمره، وإنه يلزمه تسليم المدعَى [به] إليَّ، وإن شهوده شهدوا له بالحق.
وقد حكى الغزالي التعرض [بتصديق الشهود وجهاً أشعر إيراده بضعفه، وهو فيه
متبع الإمام؛ فإنه قال: والتعرض] لتصديق الشهود فيه بعد عندنا. نعم، قد يشترط ذلك على مذهب إذا كان يحلف مع الشاهد الواحد؛ [لأن الشاهد] الواحد ليس ببينة، والبينة في مسألتنا كاملة. وهذا من الإمام مشعر بجواز القضاء على الغائب ومن في معناه بالشاهد واليمين، وقد صرح به [البغوي] والرافعي وغيرهما، لكنهم قالوا: هل يكتفي بيمين واحدة أم لابد من يمينين: يمين لتكملة البينة، ويمين للحكم؟ فيه وجهان، أشبههما: الثاني، وهو الذي اختاره ابن أبي الدم [؛ لأن الثبوت قبل الحكم، والثبوت يتوقف على اليمين أولاً، وكلام الإمام يقتضي الميل إلى الأول فتأمله، وقد قال ابن أبي الدم]: إن الشيخ أبا علي قال: إنه الأصح [، وإن الغزالي أجاب به في "الفتاوي".
ثم قال الإمام: وقد يعرض في التفريع على الوجه الأصح]- يعني: في كون التحليف واجباً- الاكتفاء بتحليفه على أنه يستحق الحق الآن، من غير بسط في ذكر الجهات.
قلت: وهذا الاحتمال هو ما حكيناه عن البندنيجي والماوردي، وهو المذكور في "التهذيب"، وبه يحصل في إيجاب البسط على النحو السابق وعدمه خلاف، ويشبه أن تكون مادته مأخوذة من الخلاف الذي حكيته عن أبي إسحاق وغيره في المسألة السابقة عند دعوى الحي البراءة مطلقاً؛ لأنا نقدر أن الغائب ومن في معناه لو كان حاضراً فربما ادعى البراءة مطلقاً.
وعلى قول عدم إيجاب البسط سؤال أشار إليه ابن أبي الدم، وهو أن الحي إذا قامت عليه بينة بحق، فطلب يمين المدعي على الاستحقاق- لا يجاب إلى ذلك؛ فكذلك ينبغي أن يكون حكم من قام مقامه. وأشار إلى جواب عنه فيما إذا كان الشهود قد شهدوا على الإقرار بالحق: بأن الحي لو ادعى أن شهادتهم عليه حق، لكنه أقر- بناءً على الصك على العادة- على أنه يقبضه، فإن [في] تحليف المدعي
خلافاً، والأصح: التحليف، فعلى هذا وجب على القاضي التعرض لذلك، والله أعلم.
أما إذا كان للميت وارث معين، فالتحليف موقوف على طلبه، صرح به المصنف والبغوي وغيرهما.
ولو كانت الغيبة [إلى] مسافة قريبة، ففي "التهذيب": أن الصحيح من المذهب: أنه لا يجوز القضاء عليه وسماع الدعوى من غير إحضاره، وعلى هذا ففي حد القرب وجهان:
أحدهما: ما دون مسافة القصر.
والثاني: مسافة العدوى.
ومن أصحابنا من قال: يجوز القضاء عليه وسماع الدعوى [عليه] من غير إحضاره، وهذا ما حكاه في "البيان" عن العراقيين، حيث قال: ولم يشترط العراقيون في الغيبة حدّاً، وإنما اشترطوا خروجه عن البلد لا غير. و [عليه ينطبق ما] سنذكره من إطلاق الماوردي عند الاستعداء.
ولو كان للغائب وكيل لم يحتج المدعي إلى ضم اليمين إلى البينة، وكان القضاء مجمعاً عليه.
وفي "الرافعي" أن لأبي العباس الروياني جوابين في هذه الحالة في أن اليمين هل تتوقف على طلب الوكيل أو لا تتوقف؟ وانهما جاريان في المترد إذا كان له وكيل.
لكن المشهور الأول، وقد بنى الأصحاب عليه: أن شخصاً لو قال لشخص: أنت وكيل فلان الغائب، ولي عليه كذا، فأدعي [عليك] وأقيم البينة في وجهك، فإن علم أنه وكيل وصدقه، وأراد ألا يخاصمه- فليعزل نفسه، وإن لم يعلم فينبغي أن يقول: لا أعلم أني وكيل، ولا يقول: لست بوكيل، فيكون مكذباً لبينة عساها تقوم [على الوكالة]، وهذا بناءً على أنه لو صدقه كان له المخاصمة، وقد حكيت في كتاب الوكالة [فيه] خلافاً؛ فليُطلبْ منه.
وهل للمدعي إقامة البينة على وكالته عند الإنكار؛ ليحصل له ما ذكرناه من الفائدة؟ فيه وجهان، ظاهر كلام أبي عاصم العبادي: نعم، قال الرافعي: والأظهر المنع؛ لأن الوكالة حقه، فكيف تقام البينة عليها قبل دعواه؟!
ولو كان المدعي وكيلاً وموكله حاضراً فهو الحالف، ولو كان غائباً- أيضاً- ففي "الوسيط" وغيره: أنه يحكم من غير يمين؛ لأن الوكيل لا يمكن تحليفه، وإيقاف الحكم على حضور الموكل وحلفه فيه إضرار، وهذا قياس قول القفال في المسألة المشهورة، وهي أن مستحق الحق لو وكل وكيلاً، فأتى موضع الخصم الغائب، وأثبت الوكالة، فقال المدعى عليه: إن موكلك قد أبرأني أو استوفى؛ فلا يلزمني تسليم ما أقمت البينة عليه ما لم يحلف موكلك. فتوقف فيها فقهاء الفريقين بمرو، فاستدرك عليهم الشيخ القفال، وقال: يقضي على المدعى عليه بموجب البينة، ثم إن كانت له دعوى فتسمع في وجهها على الموكل؛ لأنا لو سلكنا هذا المسلك، لانقطعت الوسائل والذرائع إلى استيفاء الحقوق بطريق التوكيل.
قال الرافعي: وقد وجدت في "تعليق" الشيخ أبي حامد مثل هذا الجواب في باب الوكالة.
قلت: وهو كذلك في "تعليق" القاضي أبي الطيب و"الشامل".
نعم، لو قال المدعى عليه للوكيل: أنت تعلم أن موكلك أبرأني، فاحلف على ذلك- فعن الشيخ أبي حامد: أنه يحلف على نفي العلم، [ومن الأصحاب من يخالفه ولا يحلف الوكيل، قال الرافعي: ولك أن تقول: يقتضي ما ذكره الشيخ أن يحلف القاضي- وقيل: المدعى عليه على الغائب- على نفي العلم] بالإبراء وسائر الأسباب المسقطة نيابة عن المدعى عليه؛ كما ناب عنه في تحليف من يدعي لنفسه.
[ولو كان المدعى] له صغيراً على صغير، فهل يحكم به في الحال، أو يوقف إلى البلوغ والحلف؟ قال القاضي الحسين: يحتمل وجهين؛ بناءً على أن اليمين في حق البالغ واجبة أو مستحبة. وحكاهما الرافعي- أيضاً- وحكى تلوهما: أن قيّم
الطفل لو ادعى ديناً للصبي، فقال المدعى عليه: إنه أتلف [عليَّ] من جنس ما يدعيه ما هو قضاء لدينه- لم يسمعه؛ بل [عليه] قضاء دينه الذي أثبته القيِّم، فإذا بلغ [الصبي] حلفه.
واعلم أن كيفية الدعوى على الغائب المتفق عليها بين الأصحاب أن يقول: لي على فلان الغائب كذا، ويذكر ما هو معتبر في الدعوى على الحاضر، ويقول: وهو منكر لحقي ولي بينة؛ فإنه إذا لم يكن له بينة لم تفد دعواه شيئاً، فلو قال: إنه مقر بحقي، لم تسمع؛ لأن البينة [لا تقام] على مقر. وإن سكت عن ذكر الإقرار والإنكار فهل تسمع؟ فيه وجهان:
ميل الإمام إلى السماع؛ لأنه إن كان يدعي [جحوده في الحال، فهو محال، وكيف يدعي] جحود من لا يعلم حياته؟! وإن كان يدعي جحوده لما كان حاضراً، وقد مضى، فالبينة في الحال لا ترتبط بجحود ماض.
وإيراد الغزالي يميل إلى ترجيح المنع، وهو ما ادعى الإمام ميل الأصحاب إليه؛ فإن الذي أرادوه بدعوى الجحود هو الجحود السابق، والبناء على إصراره [عليه]؛ فإنه الظاهر ما لم يثبت نقيضه.
ويقوم مقام [دعوى] الجحود بالاتفاق: ما إذا اشترى عيناً ووفر الثمن على البائع، ثم استحقت العين المبيعة وأخذت؛ فإن للمشتري أن يقيم البينة على الغائب بقبض الثمن، ولا حاجة إلى دعوى الجحود؛ فإن إقدامه على بيع ما لا يملكه كاف في معنى الجحود، قال الإمام: وهذا مما لا مراء فيه.
قال الرافعي: ورأيت فيما جمع من "فتاوي" القفال أن هذا كله فيما إذا أراد إقامة البينة على ما يدعيه؛ ليكتب القاضي به إلى حاكم بلد الغائب، فأما إذا كان للغائب مال، وأراد إقامة البينة على دينه ليوفيه القاضي- فإن القاضي يسمع بينته
ويوفيه، سواء قال: هو مقر، أم جاحد، أو قال: لا أدري أهو مقر أم جاحد.
وهل للقاضي أن ينصب لسماع الدعوى على الغائب مسخراً [له] ينكر على الغائب؟ فيه وجهان:
أحدهما: نعم، وهو المختار كما قال ابن أبي الدم؛ لتكون البينة على الإنكار.
وأصحهما في "التهذيب"، وعند الشيخ أبي عليّ- كما نقله ابن أبي الدم-: لا؛ لأن الغائب قد يكون مقرّاً، فيكون إنكار المسخر كذباً. قال الرافعي: وقضية هذا التوجيه أن يقال: لا يجوز نصب المسخر.
لكن الذي ذكره أبو الحسن العبادي، وصاحب "الإشراف" وغيرهما: أن القاضي مخير، إن شاء نصب [عنه] مسخراً، وإن شاء لم ينصب.
قال: فإذا قدم الغائب، أو بلغ الصبي فهو على حجته، أي: في القدح في البينة، أو [في] المعارضة ببينة يقيمها على الإبراء أو القضاء أو الحوالة أو نحو ذلك؛ لدفع الظلم عن نفسه.
قال الأصحاب: وإذا كان يجهل ذلك عرفه الحاكم به، وإن كان يعرفه فهو مخير إن شاء عرفه وإن شاء سكت.
ثم ظاهر كلام الشيخ يقتضي أن الغائب على حجته، وإن لم يشترط الحاكم ذلك في الحكم، وقد قال الماوردي: إنه يشترط القاضي في حكمه على الغائب أنه قد جعله على حق وحجة إن كانت له؛ لئلا يقتضي إطلاق حكمه عليه إبطال حجته وتصرفه، والمعتبر في بينة الجرح أن تشهد بجرح بينة المدعي حالة الحكم أو قبله؛ كما قاله البندنيجي وغيره، وإذا أقام ذلك نقض الحكم قولاً واحداً؛ كما صرح به الإمام، وإن كان في نقض الحكم لو كان المحكوم عليه حاضراً عند إقامة [البينة بالجرح قولان؛ لتقصيره، بخلاف الغائب والصبي، ولا يكفي في البينة أن] تطلق الشهادة بالجرح؛ لأنه [لا] يجوز أن يكون حادثاً بعد الحكم، والجرح بعد الحكم
لا يؤثر على الأصح، وهذا بخلاف ما إذا حضر الغائب أو بلغ الصبي قبل الحكم وأقام البينة بالجرح؛ فإنها تسمع مطلقاً كما صرح به البندنيجي.
قال: وإن ادعى على ظاهر في البلد غائب عن المجلس، فقد قيل: تسمع البينة عليه ويحكم؛ لأنه غائب عن مجلس الحكم، فكان كالغائب عن البلد، فعلى هذا يحلفه كما سبق.
وقيل: لا تسمع؛ لأنه يمكن سؤاله من غير مشقة، فأشبه الحاضر بمجلس الحكم، وهذا هو الأصح في أكثر الكتب، وبه قطع بعضهم، وهو المذهب في "المهذب" و"الشامل" و ["تعليق"] البندنيجي، وعلله بأن على المدعى عليه في ذلك ضرراً؛ فإنه لا يمكنه جرح الشهود مطلقاً بعد حصول الحكم.
وفي "الوسيط" حكاية وجه ثالث [جعله المذهب]: أنه يجوز أن يسمع البينة، ولا يقضي إلا [في حضوره]، فلعله يجد مطعناً ودفعاً، بخلاف الغائب؛ فإن انتظاره يطول. وحكى وجهاً في سماع البينة والخصم في المجلس دون مراجعته؛ لأنه قادر على الدفع والكلام فليتكلم إن أراد. وهذا ما نسبه في "الإشراف" للمزني، وقد ذكرت عن الروياني في هذا الباب من قبل كلاماً يتعلق بما نحن فيه، فليطلب منه.
فرع: إذا ثبت على الغائب دَيْن وله مال حاضر، فعلى القاضي توفية الدَّين منه إذا طلبه المدعي، وإذا وفَّى هل يطالب المدعي بكفيل؟ فيه وجهان:
أصحهما: لا؛ لأن الحكم قد تم في الحال، والأصل عدم الدافع.
والثاني- ويحكى عن الكرابيسي-: نعم؛ لأن الغائب قد يكون له مدفع إذا حضر فيحتاط له، وهذا الوجه جارٍ فيما إذا حكم الحاضر على غائب بعين حاضرة.
قال: ومن استعدى الحاكم على خصم في البلد أحضره، أي: سواء عرف بينهما معاملة أم لا؛ لأن في الإعراض عن ذلك إبطالاً للحقوق، وقد يكون للحق
توجه من غير معاملة بسبب إتلاف أو إرث ونحو ذلك.
وفي "تعليق" البندنيجي: أن أبا العباس- يعني ابن سريج، كما صرح [به] غيره- قال: إذا كان المستعدى عليه من أهل الصيانات والمروءات لم يحضره مجلس الحكم، ولكنه يستدعيه إلى بيته ليقضي بينه وبين خصمه.
وفي "الزوائد": أن في "العدة" أن المستعدى عليه إذا كان بالصفة المذكورة، ويتوهم أن المستعدي يقصد ابتذاله، وأذاهُ بذلك- لا يستحضره مجلس الحكم، لكن ينفذ إليه من يسمع الدعوى عليه، ويحلفه إن وجبت عليه اليمين؛ لأنه لما عليه من الصيانة والمروءة يجري مجرى المخدَّرة.
والمشهور: الأول، ثم الإحضار المذكور متوجه على الحاكم على وجه الوجوب، كما صرح به المصنف وصاحب "الكافي" وغيرهما، وإذا كان كذلك وجب على المطلوب إجابة الداعي أيضاً، لكن قال الإمام: إيجاب الحضور عليه لأجل [إجابة القاضي]، حتى لو لم يطلبه القاضي وطلبه الخصم، لا يجب [عليه] الحضور، بل الواجب إن كان [له] عليه حق وفاه.
وفي "المهذب" و"الحاوي": أنه إذا كان بين نفسين حكومة، فدعا أحدهما صاحبه لمجلس الحكم- وجبت عليه الإجابة؛ لقوله تعالى:{إِنَّمَا كَانَ قَوْلَ الْمُؤْمِنِينَ} الآية [النور: 51]، ثم رأيت في "الحاوي" في [أثناء] كتاب قاض إلى قاض أن المطلوب إن خرج إلى الطالب من حقه [لم يلزمه الحضور للقاضي]، وإلا لزمه إن كان على مسافة أقل من يوم وليلة، وإن كان على أكثر منها لم يلزمه الحضور إلا باستحضار.
وكيفية الإحضار: أن يختم القاضي للطالب في طين رطب بخاتمه المعد لذلك، وهو كما قال القاضي أبو الطيب: حديدة مكتوب على رأسها: أجب القاضي،
فيحمل الطالب الطين إلى خصمه ويريه إياه إن كانت العادة جارية بذلك، أو يرسل معه عوناً ليحضره، وأجرة العون على المستعدي إن لم يكن له رزق من بيت المال، قاله في "الإشراف" وغيره.
قال الماوردي: وله أن يجمع بين إرسال العون وبعث الطين المختوم معه.
قال: فإن امتنع [من غير عذر]، أي: وقد وقف على ختم القاضي خاصة- كما قاله الماوردي- أشهد عليه، أي: الخصم، شاهدين أنه ممتنع، ثم يتقدم، أي: أمر القاضي بعد ثبوت امتناعه عنده بشهادة الشاهدين إلى صاحب الشرطة ليحضره؛ توصلا إلى تخليص الحق، وقد جاء في بعض ألفاظ الشافعي: أنه يستعين بصاحب الحرب، وفي بعضٍ: بوالي الأحداث، والألفاظ مترادفة، ولا يبالغ في طلب تزكية الشاهدين بالامتناع.
قال الشافعي- رضي الله عنه: ويسأل عن عدالتهما ويخفف [في] السؤال. كذا نقله ابن الصباغ عن رواية [ابن القاص].
أما إذا كان امتناعه بعد إرسال العون إليه، وأخبر العون القاضي بذلك قُبِل قوله من غير بينة، كذا قاله الماوردي، وهو الذي أورده في "الحلية".
وفي "تعليق" البندنيجي و"الكافي": [أنه] عند الاستعداء يبعث معه لختم من الطين، فإن [حضر، وإلا] بعث إليه بعض أعوانه، فإن [حضر، وإلا] بعث بشاهدين يشهدان على امتناعه، فإن حضر، وإلا استعان بالسلطان على إحضاره، والأجرة في هذه الحالة على المطلوب؛ لأنه مُتَعَدٍ بالامتناع عن الحضور، كأجرة الحد تجب على المحدود، وكذا أجرة الحبس على المحبوس، قاله في "الإشراف" و"الرافعي".
وعن "الجرجانيات" وجه: أنها على الطالب أيضاً.
ولو كان الامتناع بسبب مرض يسوغ شهادة الفرع على [شهادة] الأصل
إذا كان [به] فهو معذور، فيبعث القاضي إليه من يحكم بينه وبين خصمه أو يوكل، وإذا توجهت [عليه] اليمين أنفذ [إليه] من يحلفه، ثم إذا حضر الممتنع بغير عذر نظر الحاكم في تعزيره: فإن شاء عفا عنه، وإن شاء عزره بالكلام أو تشويش العمامة، أو الحبس، أو الضرب على حسب اجتهاده.
فرع: لو بعث الحاكم إليه فاختفى، قال في "الكافي": فيبعث من ينادي على بابه ثلاثة أيام: إن لم يحضر فلان سمّر بابه وختم، ويخبر جيرانه بذلك، فإن لم يحضر سمر باب داره إذا عُرِفت وخُتِم عليه، فإن لم يحضر بعد التسمير والختم فالقاضي يوكل عنه وكيلاً، فيدعي عليه [المدعي].
وفي "الذخائر"[و"الشامل"]: أن [ابن] القاص حكى ذلك عن الشافعي- رضي الله عنه لكنه قال: إنه يفعل ذلك بعد أن يبعث من ينادي على بابه بمحضر من شاهدي عدل: إنه لم يحضر مع خصمه فلان وكل عنه، [قال: وحسبه] أن يعذر إليه بذلك ثلاثاً، فإن لم يحضر أقام عنه وكيلاً.
ولو أخبر القاضي أنه في دار فلان أنفذ الخصيان والغلمان الذين لم يبلغوا الحلم والثقات من النساء، ويبعث معهم عدلين من الرجال، فإذا دخلوا في تلك الدار وقف الرجال في الصحن، وأخذ الخصيان في تفتيش الدار، والنساء في تفتيش النساء، قال مجلي: وينبغي أن يفعل التفتيش والهجوم عليه [أولاً] إن عرف له مكان.
وإذا تعذر إحضاره بعد هذا كله، قال في "الحاوي": فقد اختلف أصحابنا، هل يكون الامتناع من الحضور كالنكول؟ فيه وجهان:
أحدهما: لا.
والثاني- وهو الأشبه-: أن يجعل كالنكول بعد النداء على بابه بمبلغ الدعوى وإعلامه بأنه يحكم عليه بالنكول، فعلى هذا: يسمع القاضي الدعوى [عليه] محررة، ثم يعيد النداء على بابه ثانية بأنه يحكم عليه بالنكول، فإذا امتنع من الحضور
بعد النداء الثاني حكم بنكوله، ورد اليمين على المدعي، وحكم له [بالدعوى] إذا حلف.
قال: وإن استعدى على غائب عن البلد في موضع لا حاكم فيه، [أي]: وهو في حكم ولايته- كتب إلى رجل من أهل الستر والصلاحية للقضاء في ذلك ليتوسط بينهما؛ لأن ذلك أسهل عليهما.
قال: فإن لم يكن أحد، لم يحضره حتى يحقق المدعي دعواه؛ لجواز أن يكون ما يدعيه ليس بحق عنده: كشفعة الجوار، وثمن الكلب، فيُجَشِّمه الحضور بغير فائدة، وهذا بخلاف الحاضر حيث لا يستفسره عما يدعيه، وإن كان الأولى: الاستفسار؛ لأنه لا مشقة في الحضور من البلد.
قال في "الإشراف": ولا يستقصي في تحقيق الدعوى، بل يخفف.
قال: فإذا حقق الدعوى أحضره، أي سواء كان الموضع قريباً أو بعيداً؛ كما قاله القاضي أبو الطيب وصاحب الكافي وغيرهما؛ كي لا يتخذ المسافرة طريقاً إلى إبطال الحقوق، وله ألا يحضره ويبعث من يحكم بينهما؛ كما قاله أبو الطيب.
واعتبر الإمام وصاحب "العدة" في إحضاره من فوق مسافة العدوى فما فوقها، وإن زادت على مسافة القصر في هذه الحالة-: أن تقوم البينة عند القاضي بالمدعي وتثبت.
وقال الإمام فيما إذا كان في مسافة العدوى فما دونها: إن الإعداء لا يتوقف على قيام الحجة، وإن هذا متفق عليه، ذكره العراقيون وغيرهم.
والمذكور في "الكافي" في مسافة القصر فما دونها: الاكتفاء بتحقيق الدعوى.
ووراء ما ذكرناه في مسألة الكتاب وجهان:
أحدهما: [أنه] لا يحضره من مسافة القصر، ويحضره مما دونها؛ لأنه لما كانت مسافة القصر شرطاً في انتقال ولاية الغائب في النكاح إلى الحاكم [دل] على اعتباره في إحضار الخصم.
والثاني- حكاه في "التهذيب" و"الإشراف"-: أنه يحضره من مسافة العدوى، ولا يحضره مما فوقها، قال الرافعي: وهو أظهر عند الإمام.
والذي أورده العراقيون: الأول، وقال الماوردي: إنه الذي ذهب إليه الأكثرون، والظاهر من مذهب الشافعي- رضي الله عنه وقد يستدل له بأن عمر- رضي الله عنه استدعى المغيرة [بن] شعبة في القصة المشهورة من البصرة إلى المدينة، وإذا كان هذا في حد الله- تعالى- ففي حق الآدمي أولى.
أما إذا كان في الموضع الذي فيه الغائب نائب للحاكم، لم يحضره، بل يسمع البينة، ويكتب إليه.
وعن حكاية أبي العباس الروياني وجه: أنه يلزم إجابته إذا طلبه الخصم، قال الرافعي: وهذا قضية إيراد صاحب "التهذيب" فيما إذا كان المطلوب على مسافة العدوى. وبه أجاب في "العدة"، وهذا الوجه يجري من طريق الأولى فيما إذا لم يكن في البلد حاكم، وكان فيها من يصلح أن يولى.
وعن "أمالي" أبي الفرج السرخسي: أن القاضي يتخير بين أن [يحضر المطلوب] وبين أن يسمع البينة فيكتب إلى نائبه.
ولو كان المستعدى عليه في غير محل ولاية القاضي لم يستحضره، قال في "الحاوي": وجاز له أن يسمع الدعوى والبينة عليه؛ ليكاتب به قاضي البلد الذي فيه المطلوب، وله في المكاتبة حالتان:
إحداهما: أن يكاتبه بسماع البنية.
والثانية: أن يحكم بالبينة بعد سماعها.
وهذا منه دليل على أنه لا فرق في الحكم على الغائب عنده، بين أن يكون في مسافة القصر أو دونها؛ كما ذكرناه من قبل.
قال: وإن استعدي على امرأة غير بَرْزة لم تكلف الحضور، بل توكل؛ صرفاً للمشقة عنها؛ فإن ضرر إبطال التخدر أعظم من ضرر المرض، ولو كان الشخص مريضاً لم يكلف الحضور؛ فهذه أولى.
قال: فإن وجبت عليها اليمين أنفذ إليها من يحلفها؛ لقوله صلى الله عليه وسلم: "واغْدُ يا أُنَيْسُ عَلَى امْرَأَةِ هَذَا، فَإِنِ اعْتَرَفَتْ فَارْجُمْهَا". فبعث إليها ولم يكلفها الحضور؛ لأنها كانت غير برزة؛ كما نقله أصحابنا.
والقاضي أبو الطيب وابن الصباغ وجماعة استدلوا بهذا الخبر [على] أنها إذا كانت غير برزة يبعث إليها من يحكم بينهما، ولم يتعرضوا للتوكيل، ولاشك في جواز الأمرين عند الجمهور، لكن الذي حكاه القاضي الحسين عن النص ما أورده الشيخ، وقال: إن صاحب "التقريب" قال به.
وحكي عن القفال أنه قال: تحضر مجلس الحكم كالبرزة. وعلى هذا قال الرافعي: لو رام القاضي أن يبعث [إليها] من يحكم بينهما في دارها، فللخصم الامتناع من الدخول إليها وطلب إحضارها. وعلى قول الجمهور: إذا حضر الحاكم إلى دارها، ولم يكن بينها وبين الحاكم محرمية- جلست خلف ستر، فإن اعترف الخصم بأنها خصمته حكم بينهما، وإن أنكر ذلك: فإن شهد شاهدان بأنها خصمته حكم بينهما أيضاً، وإلا كلفها أن تخرج من وراء الستر متلفعة، كذا قاله القاضي أبو الطيب وابن الصباغ وغيرهما.
أما البرزة، فقد قال القاضي أبو الطيب وصاحب "الكافي" وغيرهما: إن حكمها حكم الرجل في جميع ما ذكرناه.
وفي "الرافعي": أن الاستعداء لو كان على امرأة خارجة عن البلد، هل يحضرها
وهي عورة؟ وهل يشترط أن يكون الطريق آمناً ومعها نسوة ثقات؟ وهل على القاضي أن يبعث إليها محرماً لها لتحضر معه؟ قال القاضي أبو العباس الروياني: كل ذلك على وجهين، الأصح: أنه يبعث إليها محرماً [لها] أو نسوة ثقات كما في الحج.
ثم من هي غير البرزة التي يسميها بعضهم: المخدرة، والماوردي: الخفرة؟
المشهور- وهو الذي يحكى عن النص-: أنها التي لا تخرج لحوائجها، [ولم يورد أبو الطيب وجماعة سواه.
وقال الماوردي: إنها التي لا تخرج لحوائجها]، وإن خرجت استخفت ولم تعرف، والبرزة: التي تخرج لحوائجها ومآربها غير مستخفية.
وحكى القاضي الحسين أن أصحابنا قالوا: غير البرزة هي التي لا تخرج لحوائجها، وإن كانت تخرج إلى العزايا والمآتم والزيارات، والبرزة: هي التي تخرج لحوائجها. ثم قال: وعندي أن غير البرزة هي التي لا تخرج لحوائجها ولا إلى الزيارات والعزايا إلا نادراً، فإن اعتادتها لم تكن مخدرة.
وفي "التهذيب": أن المخدرة التي لا تخرج إلى السوق لحوائجها، ولا إلى الولائم ولا إلى الحمام بالنهار.
وفي "الشامل" في باب موضع اليمين: أنها التي لا تخاطب الرجال، ولا تحضر المواسم والأعراس.
وقيل: هي التي لا تخرج أصلاً إلا لضرورة، وهذا ما اختاره الإمام.
قال ابن أبي الدم: والأولى في ذلك رده إلى عرف الناس وإتباع العادات.
فرع: لو اختلفا في التخدر ففي "فتاوى" القاضي الحسين: أن عليها إقامة البينة على ذلك، وأنها تمهل حتى تقيم البينة.
وفي "الحاوي" أنه ينظر: فإن كانت من قوم الأغلب من حال نسائهم التخدر فالقول قولها مع يمينها، وإن [كانت من قوم] الأغلب [على نسائهم] البروز
فالقول قول الخصم مع يمينه.
آخر: إذا كانت المرأة برزة، ثم لازمت التخدر- فبماذا يحصل لها [حكمه]؟ قال القاضي الحسين في "فتاويه": حكمها حكم الفاسق يتوب؛ فلابد أن تمضي عليها سنة في قولٍ وستة أشهر في قول.
تنبيه: إطلاق الشيخ القول بأنه إذا وجب عليها اليمين أنفذ إليها من يحلفها يقتضي أنه لا فرق في ذلك بين أن يكون المدعي به يوجب التغليظ في اليمين أو لا، وهو وجه حكاه الشيخ أبو علي والقاضي أبو الطيب وابن الصباغ، وجزم به الماوردي؛ لأجل صيانتها، واختاره ابن أبي الدم، واستدل له بأن الأصحاب صرحوا بأنه تسمع الشهادة على شهادتها مع حضورها من غير مرض، وألحقوا تخديرها بالمرض والسفر في ذلك.
ومقابل هذا الوجه: أن التخدير لا يسقط التغليظ بالمكان الشريف إلا إذا كانت حائضاً، فتحلف على باب المسجد، وهو الذي صححه الشيخ أبو علي، وحكى الإمام عن العراقيين القطع به في باب موضع اليمين، وهو الذي أورده الغزالي في باب الدعاوى والبينات، وقد حكى ذلك الرافعي عن الشيخ أبي حامد وأتباعه، ورأيته في "تعليق" البندنيجي. والله أعلم.
قال: وإذا حكم على غائب، أي: بشهادة شاهدين، أو بإقراره، أو بنكوله ويمين المدعي، والمحكوم به حق في ذمته أو قصاص في بدنه إذا جوزنا القضاء على الغائب به كما هو الصحيح، أو عقار في يده.
قال: فسأله المدعي أن يكتب إلى قاضي البلد الذي فيه الخصم بما حكم به لينفذه، كتب إليه؛ للإجماع كما حكاه ابن الصباغ وابن يونس، والمعنى فيه: أن بالناس حاجة إلى ذلك؛ لأن بينة الشخص تكون في بلد وخصمه في آخر كما هو صورة الكتاب، ولا يمكنه حمل البينة إلى بلد الخصم ولا حمل الخصم إلى بلد البينة، فإذا أخر ذلك سقط الحق؛ فدعت الحاجة إلى شهادة البينة في بلدها ومكاتبة قاضي بلد الخصم بذلك.
وهذه الكتابة- كما قال ابن أبي الدم- واجبة [على وجه].
ولا فرق في جواز الكتابة في هذه الحالة بين أن يكون بين البلدين مسافة القصر أو دونها، حتى لو كان البلدان متجاورين جاز ذلك أيضاً، بل لو كان لكل جانب من البلد حاكم والخصم في أحد الجانبين كتب إلى [حاكم قاضي الجانب الآخر بذلك]؛ لأن ما حكم به لزم [وليس] بعده إلا الاستيفاء؛ فوجب على كل أحد تنفيذه.
وهذا بخلاف ما لو ثبت عنده ولم يحكم؛ حيث فصلنا بين قرب المسافة وبعدها كما سيأتي؛ لأن المسافة إذا لم تبعد لم يتعذر إحضار الشهود عند القاضي الآخر.
قال الرافعي: وقد وجدت في نسختين من "أمالي" أبي الفرج السرخسي عكس هذا، وهو أن كتاب السماع يقبل مع قرب المسافة وبعدها، وكتاب الحكم لا يقبل إلا إذا بعدت المسافة. وهو غلط من ناسخ أو ناقل، وليس وجهاً آخر.
وكذا لا فرق بين أن يكتب قاضي مصر إلى قاضي قرية أو بالعكس، أو قاضي الأصل إلى الفرع أو بالعكس؛ لأن الحاجة إلى الجميع واحدة.
ثم صورة الكتاب: "بسم الله الرحمن الرحيم، حضر- أطال الله بقاء القاضي- فلان، ويرفع في نسب المكتوب إليه، في يوم كذا من شهر كذا، من سنة كذا، مجلس حكمي، في مدينة كذا التي وليتها من قبل فلان، ويذكر من ولاه من إمام أو قاضٍ، ويرفع في نسبه: فلان [بن] فلان الفلاني، ويرفع في نسبه إلى أن يتميز عن غيره، ويكتب حِلاه وصنعته وما يشتهر به إن كان القاضي يعرفه بالنسب، وإن لم يعرفه كتب: حضر من ذكر أنه فلان [بن] فلان الفلاني- وذكر الحلية ها هنا واجب، قال القاضي أبو الطيب: لأنه ليس يعرف عينه فالمعوَّل على ذكر الحلية، وادعى بكذا، ويذكر كيفية الدعوى محررة، على فلان [بن] فلان [الفلاني]، ويرفع في نسبه، بعد ثبوت غيبته عندي؛ الغيبة الشرعية المسوغة لسماع البينة عليه والحكم بها، وشهد له بذلك في مجلس حكمي فلان وفلان، ويرفع في نسبهما بعد
سؤال الخصم ذلك. وقالا: إنهما عارفان بالمشهود عليه بعينه واسمه [ونسبه]- كذا ذكره الماوردي- وقد عرفت عدالتهما وحلفته على الحق، ويصف اليمين، وحكمت له على المدعى عليه بعد السؤال، وأبقيت المدعي على حقه وحجته إن كانت [له]، وسألني المدعي أن أكتب بذلك إليك؛ لأن خصمه بحضرتك، فأجبته؛ ليحمل خصمه على الحق إذا ورد عليك كتابي صحيح الختم والمورد بما يثبت عندي وحكمت به، وعنونت باطنه بخطي وظاهره بختمي، وهو كذا، ووقعت في صدره، وهو كذا، وعلمت على الأوصال، وهي كذا سطر ويصفها، ويكتب أسماء شهود الكتاب وتاريخه.
ولو كان قد حكم عليه بإقراره قال الماوردي: ذكر في كتابه أنه أقر عندي بكذا طوعاً في صحة منه وجواز أمر، فلو لم يذكر ذلك [فهل] يقوم حكمه [مقام ذكره الطواعية والصحة وجواز الأمر؟ فيه وجهان.
ولو كان الحكم] عليه بنكوله ويمين الطالب ذكره القاضي مشروحاً في كتابه، كما قال الماوردي، لكن ذكر السبب الذي اقتضى الحكم من هذه الأشياء الثلاثة- أعني: البينة والإقرار والنكول مع اليمين- هل يجب؟ فيه وجهان في "الحاوي":
فإن قلنا بعدم الوجوب كفاه أن يقول في الكتاب: ثبت عندي بما تثبت بمثله الحقوق وحكمت به. وهذا ما جزم به الإمام حيث قال: لا يلزمه أن يفصل البينة القائمة في الخصومة، وإنه ليس عليه أن يرفع أسماءهم ويتشوف إلى أعلامهم؛ بل يكفيه أن يقول: قضيت لفلان بحجة شرعية تقتضي القضاء.
وعلى هذا: لو سأل المحكوم عليه القاضي الكاتب عن السبب الذي حكم عليه به، قال الماوردي في فصل آخر: ينظر: فإن كان قد حكم عليه بالإقرار [لم يلزمه] أن يذكره له؛ لأنه لا يقدر على دفعه بالبينة، وإن كان قد حكم [عليه][بنكوله ويمين الطالب لزمه أن يذكره؛ لأنه يقدر على دفعه بالبينة، وإن كان قد حكم عليه بالبينة]: فإن كان الحكم بحق في الذمة لم يلزمه ذكرها؛ لأنه لا يقدر على دفعها
بمثلها، وإن [كان] الحكم بعين قائمة لزمه أن يذكرها؛ لأنه يقدر على مقابلتها [بمثلها]؛ فتترجح بينته باليد.
وإن قلنا بالوجوب، وكان [السبب البينة] فهو بالخيار بين أن يسمي الشهود أو لا يسميهم ويقتصر على وصفهم بالعدالة فلو لم يصفهم بها فهل يكون ذكره لهم تعديلاً؟ فيه وجهان في "الحاوي"، والمذكور في "العدة": أنه تعديل.
أما إذا كان قد حكم عليه بالشاهد واليمين ففي جواز المكاتبة به وجهان في "الحاوي":
أحدهما: لا يجوز؛ لأن المخالف [فيه] من العراقيين يرى نقض الحكم به فلم يكن له تعرض حكمه للنقض.
قال الماوردي: والأولى من الخلاف أن يعتبر رأي القاضي المكاتب [به] فإن كان يرى القضاء بالشاهد واليمين [كتب إليه به، وإلا فلا.
قال: ولو أراد القاضي في حكمه بالشاهد واليمين] ألا يذكره في كتابه، ويطلق الحكم بالبينة أبو بثبوت الحق عنده- جاز؛ لأنه يحكم باجتهاد نفسه، ولا يحكم باجتهاد غيره، ولو كان المحكوم به على الغائب [عقاراً] في غير البلد التي هو فيها فلا يكتب إلى قاضي البلد الذي فيه [الخصم، [ويجوز أن يكتب] إلى قاضي البلد الذي فيه] العقار وصرح به الماوردي.
ولو كان المدعى به عيناً منقولة ففي جواز الحكم بها مع الغيبة خلاف سنذكره- إن شاء الله تعالى- في الدعاوى.
قال: وإن ثبت عنده، أي: بدون علمه ولم يحكم به، فسأله المدعي أن يكتب إلى قاضي البلد الذي فيه الخصم بما ثبت عنده؛ ليحكم عليه- نظرت: فإن كان
بينهما مسافة [لا تقصر فيها الصلاة لم يكتب، وإن كان بينهما مسافة] تقصر فيها الصلاة كتب؛ لأن القاضي الكاتب كشاهد الأصل، وشهود الكتاب كشهود الفرع؛ فاعتبر في القبول مسافة القصر، كما اعتبرت في الشهادة على الشهادة.
وقيل: يقوم ما فوق مسافة العدوى مقام مسافة القصر في ذلك، وكذا في الشهادة على الشهادة، ولا يكفي فيهما مسافة العدوى فما دونها؛ كما صرح به القاضي الحسين وغيره، وسنذكر [عند] الكلام في الشهادة على الشهادة شيئاً آخر لا يستغني عنه من يتكلم في هذه المسألة.
ثم ما ذكره الأصحاب هنا يقتضي أن الكلام في البعد والقرب بالقاضي الكاتب دون الشهود الذين شهدوا عنده، وقد جزم الإمام في أوائل الباب بأن القاضي في الجانب الشرقي من بلد لو كتب إلى قاضي الجانب الغربي: بأني [قد] سمعت بينة فلان [على فلان]، ووصفها على شرطها، فاقض بها، وكان الذين شهدوا عند الكاتب قد غابوا أو ماتوا- ساغ للمكتوب إليه القضاء بذلك، بخلاف ما لو كان الذين شهدوا بعد حضوراً في البلد؛ [فإنه] لا يقضي بالكتاب؛ لأن استحضار الشهود سهل؛ فهم الأصل، وقول القاضي في حكم شهادة الفرع على الأصل فيستحضرهم القاضي الثاني ويستعيد الشهادة بشرطها.
والقاضي الحسين أطلق القول في هذه الصورة بعدم القبول عملاً بما قرره أولاً، وهو قضية لفظ الشافعي- رضي الله عنه في "الأم"؛ كما نقله في "البحر" حيث قال: وإذا كان فيه قاضيان كبغداد، فكتب أحدهما إلى الآخر بما ثبت عنده من البينة- لم ينبغ له أن يقبلها حتى تعاد عليه، وإنما يقبل البينة في البلد الثانية التي لا يكلف أهلها إتيانه.
وقد طرد الإمام ما ذكره من التفصيل فيما لو وقف كل قاض في طرف محل ولايته، وقال أحدهما للآخر: إني سمعت [شهادة فلان وفلان] على فلان، وحلفته
على موجب الشرع؛ فاقض بالبينة في جانبك، فقال: إن كان شهود الأصل قد غابوا أو ماتوا قضى المقول له بذلك، وإلا فلا.
ثم قال: فإن قيل إذا كان التنادي والإعلام في طرف الولايتين ممكناً كما صورنا، فإذا كتب أحدهما وشهد على كتابه شاهدان، وكان قادراً على أن يشافه القاضي ويناديه- فهلا كان ذلك ممنوعاً؛ لأن كتابة القاضي وشهادة الشهود على شهادته بمثابة الفرع للقاضي، وقوله في نفسه أصل، فكيف يقع القضاء بالفرع مع التمكن من الوصول إلى الأصل؟
قلنا: الذي دل عليه كلام الأصحاب الأول؛ لأن في تكليف المشافهة عضّاً من منصب القضاء؛ ولهذا تسمع شهادة الفرع عند مرض شاهد الأصل، ولا نكلفه أن يأتي مسكنه.
وقريب من إيراده في المكاتبة- والصورة كما ذكرنا- ما حكاه الماوردي قبيل باب القسمة: أنه لا يقبل كتاب قاضي أحد الجانبين إلى قاضي الجانب الآخر في ثبوت الشهادة، ويقبل في ثبوت الإقرار إن رجع المقر؛ ولا يقبل إن لم يرجع؛ لأن ما أمكن الحكم فيه بالأصل لم يجز أن يحكم فيه بالفرع؛ كالشهادة على الشهادة يحكم فيها بشهود الفرع مع تعذر شهود الأصل، ولا يحكم فيها مع إمكانهم.
وقد يفهم أن هذا الكلام مغاير لكلام الإمام، وهو هو إذا تأملته؛ لأن الإمام قد حكى بعد ذلك في حالة وجود شهود الأصل في البلد خلافاً في جواز المشافهة بنقل الشهادة من قاضي أحد جانبي البلد إلى الآخر، مبنيّاً على أصل، وهو: أن سماع البينة من القاضي حكم منه بقيام البينة، أم سبيله سبيل نقل شهادة الفرع شهادة الأصل؛ فيكون القاضي فرعاً إذاً؟
فعلى الأول- وهو الذي نقله عن الأكثرين كما سنذكره، ورآه أظهر، وتبعه الغزالي فيه- لا يستعيد الشهادة الثاني، [بل يقضي، ويكون القاضيان على
هذا يتعاونان على القضية الواحدة.
وعلى الثاني- وهو الذي عليه عامة الأصحاب كما قال الرافعي، وأنه منصوص عليه في "عيون المسائل": يستعيدها، لكن للشافعي- رضي الله عنه نصٌّ سنذكره في أوائل باب الدعاوى والبينات عند الكلام في الدعوى بالعين التي لا يمكن تعيينها، يدل على الوجه الأول، وحينئذ فيكون في المسألة قولان.
قلت: ويمكن بناء الخلاف الذي حكاه الإمام على أصل آخر، وهو أن شاهد الفرع، هل يسمع [مع] حضور شاهد الأصل؟ وفيه خلاف يأتي، فإن قلنا: لا يسمع- وهو الصحيح- فلا يسمع هنا، وإلا سمع.
وهذا الخلاف [كله] إذا عدل القاضي الناقل البينة، فلو لم يعدلهم، قال الإمام: فهذا [يكاد أن] يكون نقلاً محضاً، وبه يتأيد وجه من ادعى أنه نقل وليس بحكم، وقد اتفق الأصحاب على أنه إن عدل الشهود وحكم بعد التهم، فهو سائغ، لكن هل للمكتوب إليه البحث وإعادة التعديل أم لا؟
لفظ "الوجيز" بشعر الأول؛ لأنه قال: جاز [له] أن يعتمده إن رأى ذلك.
قال الرافعي: والقياس الثاني، أما إذا جعلناه حكماً فظاهر، وأما إذا جعلناه نقلاً؛ فلأن شاهد الفرع إذا عدل شاهد الأصل وهو بصفة المزكيين، كفى على ظاهر المذهب. نعم، لو قامت بينة بالجرح قدمت بلا خلاف، وكذا للمدعى عليه طلب الاستمهال ثلاثة أيام؛ لإقامة بينة الجرح، ولا يحتاج في هذا القسم إلى تحليف المدعي.
ولو فوض الكاتب النظر في العدالة والجرح إلى المكتوب إليه فهو سائغ أيضاً.
قال الإمام: لكن النقل من غير تعديل قريب من التعطيل، ولكنا مع ذلك نجوز تفويض التعديل إلى المكتوب إليه على شرط الإبلاغ في الإعلام، والإعلام الذي ذكرناه يكون مؤكداً بالاسم والرفع [في النسب] وغيرهما من الأسباب إذا لم
يحصل الإعلام إلا بذلك، أما إذا حصل بالاسم المحض- كما إذا كان الشاهد مذكوراً في البلاد بعيد الصِّيت كفى ذلك.
والماوردي قال: إن للشهود في هذه الحالة ثلاثة أحوال:
إحداها: أن يكونوا من أهل البلد الذي يصل الكتاب إليه، وهم على العود إليه؛ فلا يسمع شهادتهم، وإن سمعها لم يكتب بها، وقال للطالب: اذهب مع شهودك إلى قاضي بلدهم ليشهدوا عنده بما شهدوا به عندي؛ فإن كتب القضاة مختصة بما لا يمكن ثبوته بغيرها، وثبوت هذا بالشهادة ممكن؛ فلم تجز فيه المكاتبة كالشهادة على الشهادة.
والثانية: أن يكون الشهود من البلد الذي يكتب إليه، [ولا يريدون العود إليه] والبينة بتعديلهم فيه؛ فيجوز أن يكتب القاضي بشهادتهم عنده؛ ليكشف عن عدالتهم، فإذا صحت عنده حكم بشهادتهم.
والثالثة: أن يكون الشهود من غير البلد الذي يكتب إليه؛ فيجوز بعد سماع شهادتهم [أن يكتب] إلى قاضي بلدهم، ويسأله عن عدالتهم، فإن عرفها كتب بها إلى القاضي الأول ليتولى الحكم بشهادتهم.
أما إذا كان الحق [قد ثبت عنده] لكونه علمه وكتب به إلى غيره؛ ليقضي ذلك الغير بموجب علمه على المدعى عليه- ففي "العدة" و"البحر": أنه لا يجوز القضاء به، وإن قلنا: يجوز القضاء بالعلم؛ لأنه في هذه الحالة شاهد، وبالكتابة لا تحصل الشهادة كاملة ولا غيرها.
وعن "أمالي" السرخسي: أنه يجوز، ويقضي المكتوب إليه إذا جوزنا القضاء بالعلم؛ لأن إخباره عن علمه إخبار عن قيام الحجة، فليكن كإخباره عن قيام البينة.
واعلم أن ها هنا أمرين لابد من ذكرهما:
أحدهما: قال القاضي الحسين في "تعليقه": إن كتاب القاضي إلى القاضي بسماع البينة دون الحكم ليس مسطوراً للشافعي، وإنما خرجها الأصحاب. فقياس قوله: ألا يجوز هذا عندي؛ لأن القاضي إذا سمع البينة فهو كشاهد فرع؛ فلا تثبت بقوله شهادة
شاهدين؛ إذ الشهادة على الشهادة لا تثبت بواحد، قال الإمام في "النهاية": وهذا ليس مذهباً له ولا وجهاً مخرجاً، وإنما هو إبداء إشكال وإيضاح وجه في الاحتمال. والذي أجمع عليه الأصحاب: ما قدمناه، ويؤيده أن القاضي بعد ذكر ما حكيناه عنه قال: ولعل أصحابنا إنما جوزوا هذا؛ لأنهم جعلوا سماع القاضي شهادة الشهود نوع حكم منه. ثم قال: فعلى هذا إذا سمع شهادة شاهد واحد، وكتب إلى [ذلك] القاضي بسماع شهادة الثاني- يجب أن يجوز، وإذا استخلف من يسمع البينة على شيء يكون بالخيار بين أن يستعيد تلك البينة [إذا حكم بنفسه، وبين أن يأخذ بقول خليفته ويقتصر على سماعه البينة] ويحكم.
والرافعي قال فيما لو قال الحاكم لخليفته: اسمع دعوى فلان وبينته، ولا تحكم بها حتى تعرفني، ففعل، هل للحاكم أن يحكم به؟ القياس أنها كإنهاء أحد القاضيين في البلد إلى الآخر لإمكان إحضار الشهود. وهذا منه موافق لما ذكره القاضي، لكن قال: الأشبه ها هنا أن له الحكم؛ لأن تجويز الاستخلاف شرع للاستعانة بالخليفة، وذلك يقتضي الاعتداء بسماعه، بخلاف سماع القاضي المستقل، وبهذا أجاب أبو العباس الروياني في "الجرجانيات" على تلوم فيه.
الثاني: كيفية الكتاب في صورة مسألة الكتاب، بعد ذكر المدعي والمدعى عليه، والقاضي المكتوب إليه، وتحرير الدعوى ونحو ذلك؛ كما ذكرنا في الفصل قبله- أن يكتب: وقد شهد عندي بذلك فلان وفلان بكذا، وقد ثبت عندي، ولا يقول: حكمت به.
وقال الشيخ أبو حامد: لا يقول ثبت عندي أيضاً. بناءً على مذهبه في أن الثبوت حكم؛ كما حكاه عنه الماوردي والقاضي أبو الطيب وابن الصباغ وغيرهم، واختاره ابن [أبي] عصرون، وقد يقال: إن كلام الإمام منطبق عليه حيث قال: إن الأصحاب قالوا: سماع البينة من القاضي حكم [منه] بقيام البينة.
والحكم على مذهبنا ليس افتتاح أمر وإنشاء شأن، وإنما [هو] إظهار ما تقرر
ممن هو مطاع متبع، فإذا حكم لزيد على عمرو، فمعناه: ظهر له وجوب حق لأحدهما على الثاني، والشرع ألزم إتباعه، كذلك إذا ظهرت البينة فأظهرها، كان ذلك حكماً منه، لكن الذي عليه أكثر الأصحاب أن الثبوت ليس بحكم، وهو أصح عند الماوردي وغيره؛ لأن الحكم هو الإلزام، وليس في الثبوت إلزام، وهو في ثبوت الحق كالإقرار، وادعى في "البحر" أن الشافعي- رضي الله عنه نص عليه في "الأم" حيث قال: كتابه كتابان:
أحدهما: كتاب تثبت يستأنف المكتوب إليه به الحكم.
والثاني: كتاب حكم [منه].
ثم ما ذكرناه من تسمية الشهود في هذه الصورة واجب، صرح به القاضي الحسين والغزالي والإمام، وقال الرافعي: القياس التجويز؛ كما أنه إذا حكم استغنى عن تسمية الشهود، وأن هذا هو المفهوم من إيراد صاحب "التهذيب" وغيره، وأنه يجوز أن يقدر فيه خلاف؛ بناءً على أن كتاب القاضي إلى القاضي بسماع البينة نقل للشهادة أو حكم بقيام [البينة]؟ إن قلنا: حكم، فلا حاجة إلى التسمية، وإن قلنا: نقل، فلابد من التسمية؛ كما أنه لابد أن يسمى شاهد الفرع شاهد الأصل. [وهذا البناء فيه نظر؛ لأن من قال: إنه ليس بحكم، قال: تسمية الشهود في هذه الصورة لابد منها، وذلك دليل على أنه ليس بحكم؛ إذ لو كان حكماً لما احتيج إلى ذلك، وإذا كان هذا دليله لم يحسن بعده ما ذكر من البناء.] نعم، حكى [الروياني] في "البحر" أن بعض أصحابنا بخراسان قالوا: يجوز أن يكتب: [ثبت] عندي بشهادة العدول، ولا يسميهم، فإن لم تثبت عدالتهم سماهم. وهو ضعيف.
فرع: إذا قال القاضي: صح مورد هذا الكتاب عليّ، وقبلته قبول مثله، وألزمت العمل بموجبه- قال أبو سعد الهروي: سُئِلت عنه في الدار النظامية بأصبهان، هل هو حكم أم لا؟ فقلت: يرجع إلى الحاكم، فإن قال: أردت الحكم، فهو حكم، وإن تعذر
الرجوع إليه فالاعتماد على عرف الحكام، فإن اعتقدوه حكماً فهو حكم، ثم استقر رأيي، لما وليت قضاء همذان على أنه ليس بحكم؛ لاحتمال أن المراد تصحيح الكتاب وإثبات الحجة.
قال: وإذا كتب الكتاب أحضر شاهدين، أي: عدلين ممن يخرج إلى ذلك البلد، ويقرأ [عليهما الكتاب]، أو يقرأ عليه وهو يسمع؛ كي لا يحرف منه شيء، [ولا فرق] في الحالة الأخيرة بين أن يكون القارئ غير الشاهدين أو هما. نعم، إن كان القارئ غيرهما، فقد قال الشافعي- رضي الله عنه: وأحب للشاهدين أن ينظر في الكتاب عند قراءته؛ كي لا يغير منه شيء أو يسقط. وهذا على وجه الاستحباب؛ كما صرح به [في]"المهذب" وغيره؛ لأنهما يؤديان ما سمعاه.
قال: ثم يقول لهما: اشهدا علي أني كتبت إلى فلان بن فلان بما سمعتما في هذا الكتاب؛ لأن بذلك يصح التحمل عنه، وليس بعده غاية تفعل، لكن قوله: اشهدا عَلَيَّ، مذكور على وجه التأكيد، حتى لو قال لهما بعد القراءة: هذا كتابي إلى فلان، ولم يسترعهما، ولا قال [لهما]: اشهدا علي بما فيه، كفى، كذا جزم به القاضي أبو الطيب، وتبعه ابن الصباغ وغيره.
وحكى الماوردي وجهاً: أنه لا يكفي؛ بناءً على منع الشهادة على المقر من غير استرعاء المقر المشهود، وهذا ما اقتضى كلام صاحب "الإشراف" عند الكلام في صفة الشهادة أنه المذهب.
وعن ابن كج رواية وجه: أنه يكفي مجرد القراءة عليهما.
قال الأصحاب: وإذا تم التحمل وضعا خطهما فيه قبل غيبوبته عنهما، ويختماه بختمهما، وكذلك القاضي يختمه بختمه، لكن ختم [الشهود يكون في الباطن، وختم] القاضي يكون في الظاهر، ويذكر في الباطن صفته كما تقدم، وهذا أيضاً على وجه التأكيد والاحتياط؛ لأن المعتبر عندنا ما يذكره الشاهدان، حتى لو
حضر الكتاب وهو مفتوح بعد ختمه، أو قد انمحى- عمل بما يذكرانه، ولم يضر ذلك، بل لو ذكر الشاهدان شيئاً وفتح الكتاب، فوجد [ما فيه] مخالفاً لما ذكراه- عمل بقولهما؛ كما صرح به القاضي الحسين والإمام عن الأصحاب.
ولو غاب الكتاب عنهما قبل إثبات خطهما فيه فقضية ما ذكرناه: أنه لا يضر ذلك.
وفي "الحاوي": أنه لا يصح هذا التحمل؛ لأنه يحتمل أن يبدل في الغيبة بغيره.
ثم ما ذكرناه من الختم محله- كما قال الماوردي- إذا لم يكتب للكتاب نسخة، ورأى القاضي أن يقره مع الطالب، فلو رأى أن يقره مع الشاهدين فالأولى ألا يختمه؛ ليتدارساه [ويحفظا ما فيه] حتى يشهدا به إن ضاع أو انمحى. ولو كتب للكتاب نسختين؛ لتكونا مع الشاهدين- كان أولى، وقد أشار إلى ذلك الشافعي- رضي الله عنه بقوله: وينبغي أن يأمرهم بنسخ كتابه في أيديهم، ويوقعوا فيه شهادتهم.
قال في "البحر"- حكاية عن الأصحاب-: والأولى أن تكون كتابة النسختين قبل [أن يقرأ القاضي الكتاب] عليهما؛ لتكون نسخة كل واحد معه حالة القراءة يقابل بها.
وابن الصباغ والبندنيجي قالا: ينظر في الكتاب: فإن كان ما فيه قليلاً يحفظانه اعتمد على حفظهما، وإن كان كثيراً كتب كل واحد منهما نسخة، وقابل بها؛ لتكون معه يتذكر بها ما يشهد به.
قال: فإذا وصلا، أي: غير مرتابين بما في الكتاب، إلى محل ولاية المكتوب إليه قرأا الكتاب على المكتوب إليه، وقالا: نشهد أن هذا الكتاب قرأه علينا فلان بن فلان، وسمعناه وأشهدنا أنه كتب إليك بما فيه؛ لأنه الذي يحملانه، وبه يحصل المطلوب.
وفي "التهذيب" و"الرقم": أن القاضي إنما يفض الختم بعد شهادة الشهود وتعديلهم.
والذي ذكره أبو سعد الهروي: أن القاضي يفتح الكتاب أولاً، ثم يشهد الشهود. وهذا لا شك أنه خلاف في الأولى؛ لما عرفت أن [في] مذهبنا عدم اعتبار الختم من أصله.
ولا يكفي في ذلك لفظ الخبر، كما قال الماوردي، وهو منطبق على قول القاضي أبي الطيب وابن الصباغ وغيرهما: إنه لا يكفي اقتصارهما على قولهما: إن هذا كتاب فلان؛ لأنه يجوز أن يكون كتابه ولكنه لم يشهدهما عليه.
وأوجب القاضي أبو الطيب أن يقولا: أشهدنا في مجلس حكمه؛ لأن قول القاضي لا يصح إلا في مجلس حكمه.
قال في "المرشد": وفي هذا نظر. ولمي بينه.
ولو تشككا في شيء مما في الكتاب لم يصح أداؤهما، ولو ورد الكتاب عليه وهو في غير محل ولايته لم يقبله، ولا يفضه ولا يسمع الشهادة؛ لما تقدم.
وقد اعتبر الماوردي في صحة الأداء أن يصل الكتاب إلى القاضي بمشهدهما، إما من أيديهما أو من يد الطالب بحضرتهما، فلو لم يشهدا حضوره لم يصح الأداء. واعتبر في "الإشراف" في قبول الشهادة أن يقول [الشاهد]: أشهد أني أعرف فلان القاضي بعينه ونسبه، وأنه قاض في موضع كذا جائز القضاء.
قال: ولو قالا: نشهد أنه كتب إليك بهذا ولم يقرأا، أي: وكان القاضي الكاتب قد قرأه عليهما- لم يجز، أي: قبوله وإن كان مختوماً؛ لأنه ربما زور الكتاب عليهما وكذا ختمه، ولأن المقصود ما فيه، وهو مجهول عند القاضي قبل القراءة، والشهادة بما يجهله القاضي غير مسموعة، وما ذكره الشيخ هو ما نص عليه الشافعي- رضي الله عنه كما نقله في "البحر"، ومثله يجري فيما لو أدرج [القاضي] الكاتب الكتاب قبل القراءة، وقال لهما: اشهدا علي أن مضمون هذا
الكتاب قضائي، فيكون التحمل فاسداً، وهو ما جازم [به] القاضي أبو الطيب وغيره، وطردوه فيما لو كتب كتاب وصيته، ولم يقرأه.
والبندنيجي جعل مسألة الوصية أصلاً لمسألة القاضي، وحكى الماوردي في مسألة كتاب القاضي وجهاً في صحة التحمل؛ لأنها شهادة بكتاب معين، ونسبه الإمام إلى الإصطخري وقال: إنه متروك عليه غير معدود من المذهب. ثم أيده بعد ذلك، وقال: إن الوجه جوازه. وقد روي عن الإصطخري والماوردي والمصنف زيادة على ذلك، وأنه قال: لو لم يشهد الكاتب أحداً بل كان المكتوب إليه يعرف خط الكاتب وختمه، واتصلت بمثله كتبه جاز قبوله؛ لأن كتب رسول الله صلى الله عليه وسلم كانت مقبولة، ويعمل بها من غير شهادة، وهذا ليس بشيء؛ لما ذكرناه، وادعى الإمام أنه غلط لا شك فيه؛ فإن الكتاب لا تعويل عليه، والخط لا اعتبار به.
قال الماوردي: وكتب رسول الله صلى الله عليه وسلم كانت الرسل الحاملة لها تشهد بها مع أنها تجري مجرى الأخبار التي يخفى حكمها؛ لعموم إلزامها، والشهادة محمولة على الاحتياط تغليظاً؛ ولهذا لا تثبت الشهادة بالخط إذا كتب بها الشهود، وإذا تمت الشهادة عند [المكتوب] إليه، احتاج في إنفاذ حكم الكتاب إلى ثبوت عدالة شاهدي الكتاب عنده، ولا يكفي تعديل الكاتب لهما في كتابه؛ لأن في ذلك قبول شهادة الإنسان بعدالته، وقد نسب إلى القفال الشاشي الاكتفاء به، وغلطه الإمام فيه، وقال: إنه معدود من هفوات هذا الإمام.
قلت: وقد يشبَّه هذا الخلاف بخلاف قد حكي عن رواية الروياني في "الروضة" فيما لو شهد على الكتاب الشاهدان اللذان ثبت بهما الحق عند الكاتب، لكن الذي جزم به في "الإشراف" في هذه الصورة: القبول؛ لأن القبول فعل الحاكم والشهادة عليه، ولأنهما لو شهدا عند القاضي الثاني بما شهدا [به] عند الأول جاز. وذكر عقيب هذا الكلام [أن] الأستاذ أبا طاهر قال: وعلى هذا أدركت القضاة من غير
نكير من العلماء، وعليه تفقهت وفقهت الناس.
قلت: وقد يفهم من هذا أن هذا الكلام عائد إلى هذا الفرع، كما فهمه الرافعي وغيره، والذي وقع لي أنه عائد إلى ما ذكره قبله، وهو أن شاهد الأصل إذا زكاه شاهد الفرع جاز، وأن أحد الشاهدين إذا زكى الآخر جاز، ويؤيد ذلك أنه قال بعد قوله:"وفقهت الناس": ولولا جواز هذا لما جازت شهادة أب وابن لأجنبي، وإحدى الشهادتين تكمل الثانية، وهذا التعليل لا يمكن عوده إلى الفرع الذي ذكرناه، فتأمله! والله أعلم.
وفي "أدب القضاء" لابن أبي الدم: أن الشاهدين إن قالا للحاكم الثاني: أشهدنا الحاكم على نفسه بثبوت الحق عنده، وأنه حكم به، ولم يذكرا أنه ثبت عنده بشهادتهما في لفظ أدائهما، وكان الحاكم الكاتب قد ذكر في الكتاب اسميهما- ففي سماع شهادتهما وتنفيذ حكم الكتاب [بقولهما] خلاف عند الأصحاب، والأصح: أنها تسمع وتنفذ. وإن قالا: أشهدنا الحاكم الكاتب أنه ثبت الحق عنده بشهادتهما وحكم بها، ثم أشهدنا على نفسه بذلك- قالوا: فهل ينفذه المكتوب إليه؟ فيه خلاف مطلق. وقال أبو علي الثقفي: تسمع وتنفذ قولاً واحداً، وعلى هذا تفقهت وفقهت الناس فيما وراء النهر. حكى هذا عنه الشيخ أبو علي في "شرحه الكبير".
فرع: لو أراد الشاهدان أن يمسكا الكتاب ويشهدا بمضمونه، قال في "الحاوي": إن كان قد انمحى ما فيه أو معظمه لم يلزمهما إيصاله، وإن بقي ما فيه أو معظمه حرم إمساكه، ولم يمنع من صحة الشهادة.
تنبيه: في قول الشيخ: أحضر شاهدين، ما يعرفك أنه أراد رجلين؛ لأن شهادة رجل وامرأتين- وإن صدق عليهما اسم شاهدين- لا يحصل بهما نصاب الشهادة فيا لمال، فكيف بك ها هنا؟! بل لو شهد على الكتاب رجل وامرأتان وهو متضمن ما يثبت بشهادة النسوة، لم يثبت.
وعن ابن كج رواية وجه في ثبوته برجل وامرأتين إذا تعلقت الحكومة بمال، وذكر أنه لو كان كتاب القاضي في رؤية هلال رمضان كفى شهادة واحد، فأجرى الكتاب مجرى المكتوب به، وأنه لو كتب في الزنى وجوزناه في العقوبات، [فهل يثبت] بشهادة رجلين، أم لابد من أربعة؟ فيه وجهان كالقولين في الإقرار بالزنى.
قال: وإن مات القاضي الكاتب [أو عُزل]، أو مات المكتوب إليه [أو عزل وولي غيره- حمل الكتاب إليه] وعمل به.
أما في الأولى؛ فلأن الكتاب إن تضمَّن الحكم كان العمل به متفقاً عليه، كما حكاه القاضي أبو الطيب، وإن لم يتضمن سوى الثبوت؛ فلأن الحاكم الكاتب أصل لشاهدي الكتاب، وهما باقيان، وفرع لمن شهد عنده، وتغير حال الأصل الذي هو فرع لغيره، لا يمنع من ثبوت الحكم بشهادة فرعه، دليله: ما لو أشهد شاهدا الفرع على شهادتهما فرعين ثم ماتا؛ فإنه يحكم بشهادة الفرعين لكونهما أصلاً.
وفي "البحر": أن بعض أصحابنا بخراسان قال: إن الكتاب يخرج بموت الكاتب عن أن يكون بينة. وهو غلط.
وأما في الثانية؛ فلأن الاعتماد على ما [يؤديه الشاهدان] لا على الكتاب؛ ألا ترى أنه لو انمحى أو ضاع جاز للمكتوب إليه أن يسمع الشهادة ويحكم بها، وإذا كان المعول عليهما [فهما حاضران].
قال الإمام: وما وقع من التخصيص فهو إقامة رسوم غير ضائرة ولا قادحة، والدليل عليه أن التخصيص إنما يتخيل من تولية أو استنابة، وليس لهذا القاضي أن يولي أحداً في غير محل ولايته، ولا أن يستنيب بحكم الولاية، وهذا مذهب البغداديين من أصحابنا، ولم يورد القاضي أبو الطيب والبندنيجي وابن الصباغ
والقاضي الحسين والإمام سواه.
وفي "الحاوي" حكاية وجه آخر قال به البصريون من أصحابنا: أنه لا يجوز له قبول كتاب غيره؛ كالشهادة عند المعزول لا يحكم بها المولى بعده، وعلى هذا: فالأحوط أن يكون كتاب القاضي الأول إلى من يبلغه من قضاة المسلمين؛ فإنه إذا كان كذلك حكم به من وصل إليه.
[وعلى الأول] قال القاضي أبو الطيب: الذي يقتضيه المذهب: أنهما إذا شهدا عند قاض آخر، والمكتوب إليه حي، وهو على عمله- أنه يجوز ويحكم به، وكذا إذا ولي المكتوب إليه موضعاً آخر، فحمل الكتاب إليه فيه، وعلى ذلك ينطبق قول القاضي الحسين، الذي حكى الإمام بعضه:[إنه لو] آثر شهود الكتاب المنجز من حاكم مَرْوَرُّوذ إلى حاكم نيسابور، المقام بسرخس، أو الانعطاف إلى مروروذ، أو قالوا: لا نصحبك إلا بجُعْلٍ؛ لجواز ذلك لهما؛ لما يلحقهم في قطع تلك المسافة من المشقة العظيمة- فالمدعي بالخيار بين أن يشهد على شهادتهم جماعة يصحبونه في الطريق إلى نيسابور، ويشهدون له في مجلس قاضيها، [وليس لهم أن يقولوا: لا تشهد على شهادتنا إلا بجعل- وبين أن يثبت ذلك في مجلس قاضي سرخس]، وينجز منه كتاباً إلى قاضي نيسابور. قال: وكذا لو استقبله الخصم في الطريق، له أن يثبت ذلك في مجلس كل قاض أمكنه. وفي "التهذيب": أنهم لو أرادوا المقام في موضع ليس فيه قاض ولا شهود، ليس لهم ذلك، بل عليهم المضي إلى موضع فيه قاض] وشهود، وأنهم لو طلبوا الأجرة في هذه [الحالة] فليس لهم إلا نفقتهم، وكذا دوابهم، بخلاف ما لو طلبوا أكثر من ذلك عند ابتداء الخروج من بلد القاضي الكاتب؛ حيث لا يكلفون الخروج والقناعة؛ لأن هناك يمكن إشهاد غيرهم، وها هنا حامل الكتاب مضطر إليهم.
فرع: لو مات القاضي الكاتب، أو عزل وولى غيره، فرفع إليه كتاب الذي قبله- فهل يعمل به؟
قال في "الحاوي" و"البحر": إن تضمن كتابه سماع البينة دون الحكم بقبولها، فلا يجوز للثاني أن يحكم [بقبولها بسماع الأول حتى يستأنف الشهادة، وإن تضمن السماع والحكم] بقبولها وإلزام الحق الذي تضمنها، عمل به الثاني ونفذه، وإن تضمن السماع والحكم بقبولها دون الحكم بإلزام [ما تضمنه: فإن كان من شهد عنده حيّاً موجوداً، لم يكن للثاني أن يبني على حكم الأول بالقبول حتى] يستأنف سماع الشهادة والحكم؛ لأن القدرة على شهود الأصل تمنع من الحكم بشهادة شهود الفرع، وإن كان ميتاً أو غير موجود كان للثاني أن يبني على حكم الأول؛ فيحكم بالإلزام [على حكم] الأول بالقبول؛ لأن تعذر القدرة على شهود الأصل يبيع الحكم بشهادة الفرع.
قلت: وينبغي أن يتخرج على هذا ما لو ثبت عند القاضي حق ولم يحكم به، فعزل ثم ولي، هل يسوغ له الحكم به أم لا؟ وما قاله الإمام وغيره من أنه إذا أقيمت بينة في مجلس القاضي، فغاب قبل القضاء بها، وخرج عن محل ولايته، ثم عاد فهل يبني القضاء على البينة السابقة أو يستعيدها؟ فيه وجهان:
أصحهما: لا.
والثاني: يستعيدها؛ كما لو عزل وولي ثانياً؛ فإنه لا خلاف أنه يستعيدها، فلعله محمول على حالة وجود الشهود كما ترشد إليه قوة الكلام، أو محمول على حالة سماع البينة [دون الحكم] بقبولها، وإليه يرشد التصوير.
على أن الإمام قال: في المسألة احتمال- وقد حكاه في "التهذيب" وجهاً في كتاب القسامة-: أنه إذا ولي المعزول ثانياً لا يستأنف البينة.
فإن قلت: ما ذكره الماوردي يظهر أنه متفرع على ما هو محكي عن عامة الأصحاب من أن سماع البينة من القاضي سبيله سبيل نقل شاهد الفرع شهادة شاهد الأصل، [أما] إذا قلنا: سبيله سبيل الحكم بقيام البينة- كما رآه الإمام الأظهر- فيظهر أن يقال ها هنا: إن للثاني أن يحكم، وإن كان من شهد عند الميت أو المعزول حاضراً؛ كما ينقل هو بنفسه ذلك إليه.
قلت: كلام الإمام الذي حكيته من قبل يأباه، بل مصرح بنفيه، لكن النص الذي وعدت به ثم لا يأباه، بل مصرح به.
واعلم أن ما ذكرناه من عمل المكتوب إليه بالكتاب عند موت الكاتب أو عزله منوط بما إذا لم يكن المكتوب إليه نائباً عن الكاتب، أما إذا كان نائباً عنه، فعمله به ينبني على أنه ينعزل بموته وعزله أم لا؟ وفيه طرق:
إحداها: إن كان الاستخلاف بغير الإذن وجوزناه انعزل، وإن كان بالإذن فوجهان، كذا حكاهما القاضي الحسين في باب ما على القاضي في الخصوم.
الثانية: ينعزل خلفاؤه إن كان خاص العمل كقاضي قرية أو صقع قد استخلف فيه من ينوب [عنه] في القضاء، وإن كان عام الولاية في جميع الأمصار كقاضي القضاة، ففي انعزال القضاة بموته وجهان:
أحدهما: لا ينعزلون؛ لعموم نظره كالإمام.
والثاني: ينعزلون بموته لخصوص نظره بالقضاء فكان كقاضي إقليم، وهذا ما أورده الماوردي.
الثالثة: وهي التي أوردها القاضي أبو الطيب والبندنيجي وابن الصباغ- إطلاق وجهين فيه:
أحدهما: وهو قول أبي إسحاق وأبوي علي ابن أبي هريرة والطبري؛ كما نقله القاضي أبو الطيب وابن الصباغ والجمهور، كما قاله الرافعي، وجعله البندنيجي المذهب، واختاره في المرشد أنه ينعزل كالوكيل.
والثاني:- وهو ما صححه القاضي الحسين عند الكلام فيما نحن فيه، وقال في "البحر": إن القفال اختاره-: أنه لا ينعزل؛ لأنه نصبه لحكم المسلمين، لا في ملكه؛
فهو معه كالإمام الأعظم مع القضاة والأمراء، فإنهم لا ينعزلون بموته ولا عزله.
والقائلون بالأول افترقوا:
فمنهم من سوى بين الإمام والقاضي، وقال: من ولاه الإمام ينعزل بموته وعزله أيضاً؛ كما حكاه الإمام والمارودي قبله، وعلى هذا فلا فرق.
والجمهور سلموا الحكم بعدم انعزال من ولاه الإمام بموته أو عزله، وادعى القاضي [أبو الطيب] أنه لا خلاف فيه، وكذلك صاحب "التلخيص" كما نقله في "البحر"، ومنعوا كون القاضي يعقد للمسلمين، بخلاف الإمام، واستدلوا لذلك بأن الإمام ليس له أن يعزل القاضي إذا لم تتغير حاله، ولو عزله لم ينعزل، وليس كذلك نائب القاضي؛ فإن له عزله، وفرقوا بأن القضاة لو انعزلوا بموت الإمام [أو عزله]، لأدى إلى الضرر العظيم الواصل إلى كافة الأمة، بخلاف خليفة القاضي؛ كذا قاله [القاضي] أبو الطيب والبندنيجي وابن الصباغ.
وإذا جمعت بين الطرق واختصرت قلت: في عزل من ولاه القاضي بعزله أو موته أوجه:
ثالثها: إن استخلف بالإذن لم ينعزل. وإلا انعزل، ولم يورد الغزالي سواها.
ورابعها: إن كان المولى قاضي القضاة لم ينعزل بموته، وعزله من ولاه، وإلا انعزل.
وفي "الرافعي" عوضاً عن الوجه الثالث الذي ذكرناه، فإنه إن استخلف بغير الإذن انعزل، وإن كان بالإذن: فإن قال: استخلف عني، لم ينعزل، وإن قال: عن نفسك، أو أطلق فينعزل؛ لظهور غرض المعاونة، وبطلان المعاونة ببطلان ولايته. وجعل هذا الوجه أظهر الوجوه، وبه يجيء في المسألة خمسة أوجه.
وهذا كله فيمن استخلف للحكم، أما من استخلف في سماع شهادة أو أمر خاص فينعزل جزماً، وأما المستخلف على الأيتام والوقوف فقد ألحقه في "الوسيط" بالمستخلف في الحكم، والذي جزم به صاحب "الحاوي" وتبعه صاحب "البحر":
أنهم لا ينعزلون، وهو ما قال الرافعي: إنه المشهور؛ كي لا تختل أبواب المصالح، وصار سبيلهم سبيل القوام المنصوبين من جهة الواقفين.
ولو كان الإمام قد نصب بنفسه نائباً عن القاضي في الحكم، فعن أبي الفرج السرخسي: أنه لا ينعزل بموت القاضي وانعزاله؛ لأنه مأذون من جهة الإمام.
قال الرافعي: ويجوز أن يقال: إذا كان الإذن مقيداً بالنيابة ولم يبق الأصل، لم يبق النائب.
قلت: قد حكيت عن الماوردي في أوائل باب ولاية القاضي أن الإمام إذا استناب شخصاً، وصرح في التولية له بأنه نائب عن القاضي المولى من جهته قبل ذلك- هل لذلك القاضي عزله أم لا؟ فيه وجهان: فإن قلنا: ليس له عزله، فكذلك ها هنا لا ينعزل بموته وعزله، وإن قلنا: له عزله، يشبه أن يخرج على الخلاف، والله أعلم.
وقد تعلق بما نحن فيه كلام تقدم الوعد به، وهو أن القاضي هل يسوغ عزله مع سلامة الحال، ونحن الآن نخوض فيه، فنقول: إن كان القاضي خليفة لقاض آخر، فقد حكينا ها هنا عن الأصحاب أن لأصله عزله.
وفي "الشامل": أنه يجيء على قول من قال: إن خليفة القاضي لا ينعزل بموته، أنه ليس له أن يعزله مع سلامة الحال، وهذا قد قاله القاضي أبو الطيب، لكن [ليس] بصيغة الاحتمال والتخريج، بل كما يحكي غيره عن المذهب.
وإن كان القاضي قد ولاه الإمام فقد حكينا ها هنا عن الأصحاب أنهم قالوا: ليس للإمام عزله مع سلامة الحال. وقد حكاه الماوردي هنا عن الجمهور؛ بناءً على الفرق [بين القاضي] والإمام.
وقضية ما حكيناه عن بعض الأصحاب من التسوية بين من ولاه الإمام والقاضي في الانعزال بالموت والعزل: أن له عزله مع سلامة الحال، وهو الذي جزم به الماوردي في أوائل كتاب الأقضية، وجعل تولية القضاء من العقود الجائزة.
وقد حكى الوجهين صاحب "الإبانة" والعدة في غير هذا الموضع، وبناهما
القاضي أبو الطيب عند الكلام في الاستخلاف على أنه هل يجوز استخلاف القاضي فيما يقدر على مباشرته بنفسه أم لا؟
فإن قلنا: يجوز- كما قاله الإصطخري؛ لأنه صار بالولاية كالإمام- فالإمام لا يجوز له عزل القاضي [مع سلامة الحال.
وإن قلنا: يمتنع الاستخلاف كما في الوكيل، فللإمام عزل القاضي].
لكن قضية هذا البناء: أن يكون الصحيح جواز العزل؛ لأن الصحيح منع الاستخلاف عند القدرة كما تقدم، والذي حكاه جمهور الأصحاب من العراقيين: منع العزل مع سلامة الحال، وقد أشار إلى ذلك ابن الصباغ عند الكلام في الاستخلاف أيضاً.
وحكى الإمام عن [القاضي] أنه قال: له عزله إذا رابه منه أمر، ويكفي فيه غلبة الظن بذلك، ولو لم يظن غير الخير فإن لم يكن ثَمّ من يصلح للقضاء لم ينعزل، وإن كان ثَمّ من هو أصلح منه انعزل، وإن كان مثله فوجهان. ثم قال: وإطلاق الكلام على هذا الترتيب غفلة عما يراد في هذا الباب، فنقول أولاً: حق على الإمام ألا يصدر شيئاً من أمور المسلمين إلا عن رأي ثاقب وبحث ونظر في الصلاح، وهذا مطرد في العزل والتولية، فإن عزل شخصاً وولى دونه؛ لمصلحة- وهو إن رأى أن الأصلح [أولى لشغل أولى] مما هو فيه- فهذا ينفذ ويجب القطع به، ولا يجوز تقدير خلاف فيه، وإن فرض منه عزل مطلق، فلا اعتراض عليه إذا كان يتطرق إليه إمكان النظر، ولا يجوز أن يكون فيه خلاف. وإن رددنا الكلام إليه في نفسه وقلنا: لو لم يصدر عزله عن نظر، فهل ينفذ ذلك؟ فهذا تردد فيه بعض الناس المنتمين إلى الأصول، والذي أقطع به أنه ينفذ، ولكن يتعرض صاحب الأمر بترك الأصلح لخطر المأثم، ولو لم يقل بهذا لرددنا حكم من ولاه ثانياً، وهذا يجر خبلاً عظيماً، ولست ألتزم الخوض فيه.
والذي رأيته في "تعليق" القاضي: [أنه] إن عزله بمن هو أصلح منه انعزل، وإن
عزله بمن هو دونه لم ينعزل على المذهب.
وقال في "الوسيط"- على الأظهر-: وإن عزله بمثله فوجهان.
وبين عبارة الإمام وهذه فرق فتأمله.
وقد وافق الماوردي الإمام في بعض ما أبداه من التفصيل في أواخر كتاب الأقضية، حيث قال: إذا عزل الإمام المولى عن اجتهاد أدى إليه، إما لظهور ضعفه وإما لوجود من هو أكفأ منه- جاز، وإن عزله مع الاستقامة نفذ وإن كان غير جائز؛ لأن عزله حكم من أحكام الإمام، وأحكام الإمام إذا لم تخالف نصاً ولا إجماعاً لا ترد.
وحكى ابن أبي الدم أن الشيخ أبا علي قال في "شرحه الكبير": إذا ولى الإمام قاضياً لم يتعين عليه، فعزله بمثله أو بمن هو أصلح منه- قال القفال: لا ينعزل؛ لأنه صار قاضياً من جهة الله تعالى. وقال بعض شيوخنا: ينعزل، وعلى هذا لو أخبر الإمام أن قاضي بلد كذا قد مات، فولى غيره، ثم بان كونه حيّاً- لم ينعزل الأول عند القفال، وعلى الوجه الثاني ينعزل، وتكون الولاية للثاني، وهو ما أورده الرافعي من غير بناء.
وهذا حكم عزله، أما عزله نفسه فقد قال في "الحاوي": إنه لا يكون قوله: عزلت نفسي، [عزلاً]؛ لأن العزل يكون من المولي، وهو لا يجوز أن يولي نفسه؛ فلم يجز أن يعزلها. نعم، إن كان معذوراً جاز اعتزاله، وإن كان بغير عذر مع من الاعتزال، وإن لم يجبر عليه؛ لأن ولاية القضاء من العقود الجائزة؛ ولذلك نفذ فيه عزل الإمام، وإن خالف الأولى، لكن لا يجوز أن يعتزل إلا بعد إعلام الإمام واستعفائه؛ لأنه موكول إلى عمل تحرم إضاعته، وعلى الإمام أن يعفيه من النظر إذا وجد غيره؛ حتى لا يخلو العمل من ناظر، فإن أعفاه قبل ارتياد غيره جاز إن كان لا يتعذر، ولم يجز إن تعذر، ويتم عزله باستعفائه وإعفائه، ولا يتم بأحدهما، فإن نظر بين استعفائه وإعفائه صح نظره.
وصاحب "التهذيب" و"الكافي" قالا: إذا عزل نفسه [هل] ينعزل؟ حكمه
حكم الإمام إذا عزله.
وجزم في "النهاية" و"الحاوي" في أوائل كتاب الأقضية بانعزاله، وكذا الرافعي وقاسه على الوكيل، والقاضي الحسين قال بذلك عند عدم تعينه، وقال: إنه إذا كان متعيناً عليه ففيه نظر؛ لأن الحسن بن علي- رضي الله عنهما خلع نفسه بعد أن ولي بثمانية أشهر، والتمسوا من عثمان- رضي الله عنه أن يخلع نفسه فلم ير ذلك.
والذي حكاه ابن أبي الدم: لا ينعزل عند تعينه، وفي انعزاله إذا لم يتعين وجهان، أصحهما: الانعزال، وعلى هذا: لو أنكر القاضي كونه قاضياً، قال في "البحر": قال جدي: صار معزولاً كالوكيل، وفيه وجه ضعيف: أنه لا يصير معزولاً.
فرع: إذا عزل القاضي حيث يجوز العزل، فهل ينعزل قبل بلوغ الخبر [إليه]؟ فيه طريقان:
أحدهما: حكاية قولين فيه كالوكيل، وبهذا قال صاحب "التلخيص" وابن كج.
والثاني- وهو الأصح، وبه قطع أبو زيد-: القطع بعدم الانعزال ما لم يبلغ الخبر؛ لعظم الضرر في رد أقضيته بعد العزل، وقبل بلوغ الخبر.
قال في "الحاوي": وفرق الأصحاب بين الوكيل والقاضي بوجهين:
أحدهما: أن القاضي ناظر في حق غير المولي، والوكيل ناظر في حق المولي.
والثاني: أن موت الإمام لا يوجب عزل القاضي، وموت الموكل يوجب عزل الوكيل.
فقوي القاضي بهذين الوجهين على الوكيل؛ فصح لأجلهما أحكام القاضي، ولم تصح عقود الوكيل.
ثم هذا الخلاف المذكور فيما إذا عزله لفظاً، أو كتب إليه: إني عزلتك، أو: أنت معزول، فأمّا إذا كتب إليه: إذا أتاك كتابي فأنت معزول، فلا ينعزل قبل أن يأتيه، وإن
كتب: إذا قرأت كتابي فأنت معزول، فلا ينعزل قبل القراءة، ثم إن قرأه بنفسه انعزل، وإن قرئ عليه فوجهان:
أحدهما: لا ينعزل؛ لصورة اللفظ.
وأصحهما: الانعزال؛ لأن غرض الإمام إعلامه بصورة الحال لا قراءته بنفسه، وفي مثله في الطلاق، الأظهر: أنه لا يقع؛ لأن الطلاق قد يعلق على قراءتها خاصة فيتبع اللفظ.
قال: وإن فسق الكاتب، أي: قبل عمل المكتوب إليه بما في الكتاب، فإن كان فيما [ثبت عنده] ولم يحكم بطل كتابه؛ لأن الكاتب كشاهد الأصل، وفسق شهود الأصل قبل الحكم بشهادة الفرع يمنع الحكمب شهادتهم.
قال: وإن كان [فيما] حكم به لم يبطل؛ لأن الحكم لا يبطل بالفسق الحادث، وهذا ما حكاه الماوردي والبندنيجي والقاضي أبو الطيب والبغوي وغيرهم، وقدي طلب الفرق بينه وبين ما لو فسق الشاهد في الواقعة بعد الحكم بشهادته؛ فإن في نقض الحكم طريقين:
أحدهما: القطع بعدم النقض، وهو نظير ما قالوه ها هنا.
والثاني: حكاية قولين فيه، وعلى هذا يطلب الفرق.
لكن في "الرافعي": أن القاضي ابن كج أطلق القول بأنه لا يقبل كتابه إذا حدث الفسق من غير فرق بين كتاب وكتاب، وأنه فرق بينه وبين الموت: بأن ظهور الفسق يشعر بالحنث وقيام الفسق قبل يوم الحكم، قال: وهذا قضية إيراد الشيخ أبي حامد وابن الصباغ؛ وعلى هذا لا فرق.
أما إذا فسق الكاتب بعد عمل المكتوب إليه بالكتاب لم ينقض، وغن لم يتضمن الكتاب سوى الثبوت، صرح به الماوردي والبندنيجي وابن الصباغ وغيرهم.
قال صاحب "الحاوي" وتبعه في "البحر": والجنون الطارئ كالفسق.
وفي "الرافعي": أن الشهود على القاضي كشهود الفرع [، وشهادة الفرع] بعد
موت الأصل مقبولة، والعزل والجنون والعمى والخرس كالموت.
تنبيه: كلام الشيخ في هذا الفصل [يعرفك] أن القاضي ينعزل بالفسق؛ كما صرح به القاضي الحسين، وأشار في "الوجيز" إلى خلاف فيه حيث قال: إن طرآن الفسق يوجب الانعزال على الأظهر. ومقابل الأظهر أنه لا ينعزل إلا بالعزل، كما نسبه الإمام إلى بعض الأصوليين من أصحابنا، والرافعي قال: إن طرآن الفسق يمنع من نفوذ الحكم على اصح الوجهين؛ كما يمنع طرآن الجنون والإغماء والخرس والخروج عن أهلية الضبط والاجتهاد بغلبة أو نسيان.
لكن منع الحكم في الصور المذكورة [هل هو] لانعزاله حتى لو زال ما [قد] حدث فلابد من تجديد التولية، أو لكون ما حدث مانعاً لا غير حتى إذا زال استمرت التولية؟ فيه وجهان، أصحهما: الأول، ومقابله في ["الإشراف"]: الفاسق إذا تاب، ادعى في "الإشراف" أنه منصوص عليه؛ قياساً على الأب يتوب بعد الفسق، وقال الرافعي: إنه منسوب إلى تخريج صاحب "التلخيص" من قول الشافعي- رضي الله عنه في أهل البغي: إنهم لا يقاتلون حتى يناظروا، ويسألوا عماذا ينقمون؟ فقد يسألون عزل عامل يذكرون جوره. فلو كان العامل ينعزل بالجور لقال: يدعون انعزاله بالجور، ولم يقل: يسألون عزله. قال الرافعي: إلا أنه لم يطرد جوابه في صورة الردة، وسلم أنه إذا تاب بعد الردة احتاج إلى عقد جديد، وقال الشيخ أبو زيد: القياس التسوية.
وفي "أمالي" أبي الفرج السرخسي: القطع بأن الإغماء مانع؛ فإذا زال عادت الولاية، بخلاف الجنون.
وفي "الحاوي": أنه إذا حدث الفسق في القاضي، فإن استدامه مصرّاً عليه انعزل به، ولو عجل الإقلاع عنه: فإنك ان من غير ندم وتوبة انعزل به، وإن كان إقلاعه عن ندم وتوبة نظر: فإن كان فسقه قد ظهر قبل التوبة انعزل به، وإن لم يظهر حتى
تاب منه لم ينعزل به؛ لانتفاء العصمة عنه؛ فإن هفوات ذوي الهيئات مقالة، قل أن يسلم منها إلا من عصم، وإذا انعزل بالفسق، فحكم في حال العزل: فإن كان إلزاماً بإقرار صح، وإن كان حكماً بشهادة بطل، وعليه أن يمتنع من الحكم، ويهي حاله إلى الإمام أو إلى من ولاه؛ ليقلد غيره، ولا يغتر به الناس إن لم يعرفوه، ويقف أحكامهم إن عرفوه، وهو في إنهاء حاله بين أمرين: إما أن يظهر الاستعفاء ويكتم حاله؛ ليكون أستر [له]، وهو أولاهما، وإما أن يخبر بسبب انعزاله وإن كره له هتك ستره.
قال: وإذا وصل الكتاب، أي: الموصوف بما ذكرناه، وحضر الخصم، وقال، أي: بعد الدعوى عليه وإنكاره الحق وإقامة البينة بما في الكتاب: لست فلان بن فلان، أي: المذكور في الكتاب، وليس معروفاً بذلك- فالقول قوله مع يمينه؛ لأنه أخبر بنفسه، والأصل أن لا مطالبة عليه، فلو نكل عن اليمين حلف المدعي، وتوجه الحكم عليه، ولو امتنع من الحلف على نفي الاسم، وأراد الحلف على نفي الاستحقاق- فالمحكي عن الصيدلاني: أنه تقبل منه اليمين على هذا الوجه، ويندفع القضاء؛ استشهاداً بأن من ادعى عليه جهة في الاستحقاق كالقرض مثلاً، فلم يتعرض في جوابه لها، واقتصر على قوله: لا يلزمني تسليم شيء إليه- أنه تقبل منه اليمين، كذلك ها هنا.
قال الإمام: وهذا عندي خطأ؛ فإنه إنما امتنع من اليمين على نفي الاسم والنسب؛ لثبوتهما، ولو ثبتا فالحجة قائمة عليه، والقضاء [مبرم]، وليس كالدعوى المختصة بنفي الإقراض؛ فإن الدعوى ليست حجة، فأثبت الشرع للمدعى عليه مسلكاً في الخصومة يوافق الحق عنده، والمسألة محتملة مع ما ذكرناه.
ولأجل ما ذكره الإمام جزم في "الوجيز" بأنه لا يحلف كذلك، وقال ابن يونس:
إنه الصحيح. وقد اعترض على الصيدلاني بأن وزان ما نحن فيه في مسألة [دعوى] القرض- إن سلم أن بينهما مشابهة- أن يجيب المدعى عليه بأنه [ما] اقترض، ثم يروم أن يحلف على أنه لا يستحق عليه شيئاً، وفي هذه الصورة الصحيح: أنه لا يجاب كما سيأتي، والله أعلم.
أما إذا كان معروفاً بهذا الاسم فيحكم عليه [به]، ولا يقبل ما ادعاه. قاله الماوردي.
قال: فإن أقام المدعي بينة أنه فلان بن فلان، أي: الذي رفع نسبه في الكتاب، أو قال المدعى [عليه]: أنا فلان بن فلان، إلا أني غير المحكوم عليه- لم يقبل قوله؛ لأن الظاهر أنه المشهود عليه؛ فإن الأصل عدم مشاركة غيره له في ذلك.
قال: حتى يقيم بينة أن له من يشاركه في جميع ما وصف به في الكتاب، أي: إن لم يكن المشار إليه يعرف به كما ذكره الماوردي؛ لأن الحكم- حينئذ- يصير محتملاً له ولغيره، وقال ابن الصباغ: إنه إذا ادعى أن له من يشاركه في ذلك سأل القاضي عنه وكشف، فإن لم يظهر ذلك حكم عليه؛ لأن الظاهر أنه المحكوم عليه، فإن ظهر فالقاضي يحضر ذلك الشخص ويسأله، فإن اعترف بأنه المحكوم عليه ألزمه الحق.
قلت: وفي هذا نظر من جهة أن كتاب القاضي لو تضمن أنه حكم على فلان بن فلان، ولم يرفع في نسبه، ولا وصفه بما يتميز به عن [غيره- كان] الحكم باطلاً، حتى لو أقر رجل بأنه فلان بن فلان المعني بالكتاب، لم يلزمه شيء بالقضاء المبهم في نفسه؛ كما حكاه الغزالي، وقضية ذلك: أن يكون الحكم باطلاً- أيضاً- فيما إذا اعترف المشارك في الاسم بأنه المسمى في الكتاب والمعني به؛ لأجل
الإبهام. لكن قد يمنع ابن الصباغ الحكم الذي ذكرناه، ويسوي بين المسألتين فيقول: إذا تضمن الكتاب أنه حكم على فلان بن فلان ولم يرفع في نسبه ولا ميزه بصنعةٍ، فقال [شخص]: إنه المعني بالكتاب- يلزمه الحق؛ كما حكاه الرافعي عن "أدب القاضي"[لابن القاص و"إيضاح" أبي علي]، والله أعلم.
وإن أنكر، قال البندنيجي وغيره: يقال للمحكوم له: ألك بينة تفرق بين الرجلين؟ فإن أتى بالبينة حكم له، وإن لم يأت بها كتب المكتوب إليه إلى الكاتب كتاباً، وعرفه ما وقع من الإشكال ليحضر شهوده، فيذكر لأحدهما صفة يتميز بها عن صاحبه: فإن وجد الحاكم مزية كتب بها وحكم عليه، وإن لم يجد مزية وقف الأمر حتى ينكشف.
هذا إذا كان حيّاً، وأما إن كان من هو بهذه الصفة ميتاً، قال الماوردي والبندنيجي: فإن لم يكن قد عاصر الحي فلا أثر لهذه المشاركة، وإن كان قد عاصره- قال البندنيجي: ويمكن أن يكون عامله-: فإن كان قد مات بعد الحكم فهو كما لو كان حيّاً، وإن كان [موته قبل الحكم] فوجهان، اختار في "المرشد" منهما: أن الإشكال واقع، ووجه إلزام الحي: أن مطلق الأحكام يتوجه في الظاهر إلى الأحياء دون الأموات.
فرع: لو أقر بأنه المحكوم عليه، لكن طلب يمين المدعي على عدم القبض أو البراءة- لم يجب إلى ذلك؛ لأن الكاتب قد حلفه، صرح بذلك أبو الطيب والبندنيجي والماوردي وغيرهم.
وفي "التهذيب" في مسألة دعوى الإبراء: أنه يحلفه على أنه لم يبرئه.
قال الرافعي: فحصل في المسألة وجهان.
ولو طلب يمين الخصم على عدالة من شهد عليه لم يلزمه اليمين، وكذا لو سأل إحلافه على أن لا عداوة بينه وبينهم. نعم، لو سأله أن يحلف على أن لا ولادة بينه وبينهم ولا شركة، وجب إحلافه على ذلك؛ لاختصاصه بالمحكوم له دون الحاكم؛ كذا حكاه الماوردي، ونسبه الرافعي إلى "العدة".
قال: وإن حكم عليه، أي: ألزمه الخروج [من] الحق، فخرج منه، فقال: اكتب [إلي كتاباً] بأنك حكمت عليّ، أي: وبأني وفيت [ما حكمت عليَّ به]؛ حتى لا يدعي ذلك مرة [أخرى]- فقد قيل: يلزمه؛ لاحتمال ما ذكره، ولأنه لو طلب الإشهاد على الخصم بالقبض لأجل ذلك وجب قولاً واحداً؛ لأنه حق ثبت عليه ببينة؛ فكذلك يجب على القاضي. وهذا قول الإصطخري، وصححه الجيلي.
وقيل: لا يلزمه؛ لأن الحاكم إنما يكتب بما ثبت عنده أو حكم به بعد دعوى محررة، ولم يَجْرِ واحد منهما عنده. وهذا ما اختاره في "المرشد" والنواوي.
قال: إلا [أن يدعي] ذلك مرة أخرى؛ لأنه إذا ادعى ذلك مرة أخرى توجهت دعوى الدافع بالإقباض والقاضي يعلمه، [فساغت الكتابة] به، وهذه الزيادة لم أرها لغير الشيخ، وإن كان الفقه يقتضيها نظراً لما ذكرناه.
ولا خلاف أن الدافع لو طلب الكتاب الذي وصل بوجوب الحق عليه بعد وفاء الحق- لا يسلم إليه؛ لأن الورقة قد تكون ملك الخصم، وإن لم تكن فله غرض في إمساكه لتذكار الشهود؛ فربما احتاج إلى شهادتهم.
قال القاضي أبو الطيب وغيره: وكذا لو باع واحد [شيئاً] فلا يلزمه تسليم كتاب الأصل ولا تمزيقه؛ لأنه ملكه وحجة عند الدرك، ولم يدخل في البيع.
قال: وإن ثبت عند الحاكم حق، أي: على حاضر أو غيره، فسأله صاحب الحق أن يكتب له محضراً بما جرى- كتبه ووقع فيه، أي كتب علامته على رأسه،
مثل: الحمد لله رب العالمين، وهو بتشديد القاف، ودفعه إليه، لأن في ذلك توثقة لحقه، فشرع كالإشهاد على نفسه، لكن هذه الكتابة واجبة أم مستحبة؟ أطلق بعضهم فيها وجهين، وملخص ما ذكره في "الحاوي": أنه ينظر في ذلك: فإن كان في دين يستوفي عاجلاً لم يلزمه، وإن كان في دين مؤجل أو [في] ملك متأبد:
فإن كان في صورة يجب على الحاكم الإشهاد عليه فيها جزماً، كما إذا ثبت الحق عنده بإقرار الخصم، وقلنا:[له أن] يقضي بعلمه أولاً كما قاله البندنيجي، أو يثبت بنكول الخصم وحلف المدعي ففيه وجهان:
أحدهما: أن ذلك واجب كالإشهاد، وهذا أصح في "تعليق" القاضي الحسين، والمختار في "المرشد".
والثاني: أنه لا يجب؛ لأن الشهادة بينة تغني عنه، والمرجع عندنا إلى ما يذكره الشاهد، قال الغزالي: وعلى هذا فيستحب للقاضي استحباباً مؤكداً.
وإن كان في صورة قد اختلف في وجوب الإشهاد فيها، وهي إذا ثبت الحق بشهادة عدلين، فإن قلنا: لا يجب الإشهاد؛ لأن البينة بالحق موجودة- فكتب المحضر أولى، وإن قلنا: تجب؛ لأن في إشهاده على نفسه مع البينة الموجودة تعديلاً لبينته وإثباتاً لحقه- ففي إيجاب كتب المحضر الوجهان.
وعن ابن جرير الطبري- وهو [] كما قاله الرافعي في أوائل كتاب الزكاة-: أنه لا يكتب المحضر إذا لم يعرف الخصمين، حتى لا يصير محضره الذي ثبت له حجة على ما يكون باسمهما ونسبهما.
قال القاضي أبو الطيب وصاحب "البحر": [وهذا غلط]؛ لأنهما إذا لم يكونا معروفين بعينهما، فإنه يذكر حليتهما، ولا يجوز [له] ترك ذلك، والمعول عليه الحلية؛ فصار بمنزلة معرفة العين.
ونسب الإمام ما حكيناه عن ابن جرير إلى ابن خيران، وأنه ليس بشيء، والقاضي الحسين نسبه إلى الإصطخري وأنه [قال]: إذا أقر المجهول عنده لا يقبل إقراره؛ لأني [لو] قبلت ذلك لا آمن أن يكون واطأه المدعي؛ حتى يقر له، ويستعير اسم إنسان، فيسمي به نفسه، فإذا مات ادعى على ورثته، ولا ينفع القاضي كتب الحلى؛ لأن المستعار اسمه قد مات، وهو يدعي على ورثته. ثم قال: وهذا غلط؛ لأنه يؤدي إلى تعطيل الأحكام؛ فإنه لا يعرف جميع الخصوم.
قال: ويكتب نسخته ويودعها [في] قمطره، أي: مختومة، ويكتب على ظهرها: خصومة فلان بن فلان، وتاريخها، [ووجه ذلك]: الاحتياط؛ فإن فيها تذكاراً بالحال، و [إليها] مرجعاً عند الحاجة، ولا شك في أن ذلك غير واجب، ثم القرطاس في كل الأحوال يكون من بيت المال؛ كما تقدم ذكره.
قال: فإن لم يكن للحاكم قرطاس من بيت المال كان ذلك على صاحب الحق؛ لأنه يكتبه لحقه، وأشار القاضي الحسين إلى أنا إذا قلنا بوجوب الكتابة، ولم يكن للحاكم قرطاس من بيت المال، ولا أحضره الطالب: أنه يجب من مال القاضي على وجه، ثم قال: والصحيح: أنه لا يجب على القاضي شيء من ماله. وهذا ما جزم به [غيره].
ثم صورة المحضر: "بسم الله الرحمن الرحيم، حضر القاضي فلان بن فلان،
ويرفع في نسبه؛ حتى يتميز، قاضي بلد كذا من قبل الإمام فلان، ويرفع في نسبه، أو من قبل القاضي فلان، ويرفع في نسبه، المولى من قبل الإمام فلان، وهو بمجلس حكمه ومحل ولايته من بلد كذا، فلان بن فلان الفلاني، ويرفع في نسبه بما يميزه عن غيره، ويكتب حليته استحباباً إن كان معروف النسب عند القاضي، وإلا كتب- كما قال ابن الصباغ وشيخه أبو الطيب والبندنيجي والإمام وغيرهم-: من ذكر أنه فلان بن فلان الفلاني- وكتب الحلية هاهنا واجب؛ كما قاله أبو الطيب- وادعى على فلان بن فلان الفلاني، ويرفع في نسبه، ويذكر حليته استحباباً إن كان معروف النسب، وإلا فيذكرها وجوباً؛ لأن المعول عليها.
ثم يذكر المدعى به وصفة الدعوى محررة، [ثم] إن كان المدعي عليه قد أقر بالحق كتب إقراره [، و] به. قال القاضي أبو الطيب وابن الصباغ.
وليس يحتاج أن يذكر أنه أقر له في مجلس حكمه؛ لأن الإقرار يصح فيه وفي غيره، وهذا قد نسبه الماوردي إلى الشيخ أبي حامد، وأنه قال: إن ثبت ببينة ذكر ذلك. وهو في "تعليق" البندنيجي.
قال الماوردي: وفرق بأن سماع [البينة] حكم، وليس في الإقرار حكم. وهذا الفرق ليس له وجه؛ لأن الدعوى لا يسمعها القاضي إلا في مجلس حكمه؛ ولأنه يتعلق بالإقرار إلزام، والإلزام حكم.
ثم يذكر التاريخ ويوقع على رأسه بكتب العلامة؛ كما تقدم.
وإن كان المدعى [عليه] قد أنكر، وقامت [عليه] بينة كاملة بالحق، وكانت عادلة- كتب إنكاره، وأنه شهد عليه بالمدعى [به] شاهدان عدلان، ثبت بهما الحق، وأن ذلك في مجلس الحكم؛ لأن الشهادة لا تسمع في غيره، وحكم تسميتها وعدمها قد تقدم الكلام فيه.
وفي "الحاوي" و"البحر" في باب ما على القاضي في الخصوم: أن في تسمية
الشهود الذين حكم بشهادتهم في المحضر والسجل وجهين:
أحدهما- قاله الإصطخري-: أن ترك تسميتهم أولى.
والثاني- قاله ابن سريج-: أن تسميتهم أولى وأحوط للمشهود عليه؛ فلعله يقدر على جرحهم.
قال الماوردي: مع أن كل واحد من الأمرين جائز.
وإن أقام المدعي شاهداً [واحداً] وحلف معه، ذكر ذلك، وأن الشهادة واليمين وقعا في مجلس الحكم.
ويختمه بالتاريخ، ويكتب القاضي في آخره: شهدا عندي، أو: شهد عندي بذلك.
ويوقع على رأسه بالعلامة، وهذا إذا لم يكن له صك، فإن كان له صك وفيه خطوط الشهود قال القاضي أبو الطيب: فيكتب علامة توقيعه في صدره، ويكتب تحت خط الشاهدين اللذين شهدا عنده: شهدا عندي بذلك. ويقتصر عليه. قال: وكذلك في فصل الإقرار.
وفي "تعليق" البندنيجي: أنه يكتب تحت خط كل واحد: شهد عندي بذلك في مجلس حكمي وقضائي.
وإن كان المدعى عليه قد أنكر، ولم يكن للمدعي بينة، وطلب يمينه، فنكل عنها، وحلف المدعي بطلبه- كتب ذلك: وأنه جرى في مجلس الحكم، وختمه بالتاريخ، ووقع على رأسه بالعلامة.
قال: فإن أراد، أي: المدعي- أن يسجل له، كتب له سجلاً، وحكى فيه المحضر، وأشهد على نفسه بالإنفاذ- أي بالحكم- بما ثبت في المحضر بعد الحكم به، حتى لا يكون كاذباً في إشهاده، وألفاظه: حكمت له بكذا، وألزمته الحق، وأنفذت الحكم به؛ كما قاله ابن الصباغ.
قال: وسلمه إليه، وكتب نسخته، وتركها في قمطره، وتوجيه ذلك قد تقدم.
وهذا السجل يبدأ فيه بكتابة الشهادة، كما ابتدأ في المحضر بالحضور؛ فيكون أول
السجل: هذا ما أشهد عليه القاضي فلان-[على ما] قدمناه- في محضر نسخته كذا، ويكتب نسخة المحضر، فإذا فرغ منه قال: فحكم به وأنفذه وأمضاه بعد أن سأله ذلك، واستيفاء الشرائط المعتبرة في ذلك، وأشهد على نفسه. ولو كان السجل على ظهر كتاب أحضره، وكتب: أشهد عليه في مجلس حكمه أنه ثبت عنده مضمون الكتاب باطنه، وهو كذا، ثم بعد فراغه يكتب: وأنه حكم به. وللناس في ذلك عرف مختلف، والمرجع في كل قطر إلى عرف أهله، على أن المحاضر والسجلات كتب، هي بما ذكرناه أحق من هذا الكتاب.
فرع: قال في "الحاوي" في باب ما على القاضي في الخصوم: إذا تحاكم الخصمان، ولم يسألا القاضي الكتبة، كان القاضي مندوباً إلى إثبات محاكمتهما في ديوانه، مشروحة بما انفصلت عليه من إلزام أو إسقاط؛ احتياطاً للمتحاكمين، ووجوب ذلك معتبر بالحكم: فإن كان مما استوفى وقبض لم يجب عليه إثباته، وإن كان إثباته مستظهراً، وإن كان مما لم يقبض ولم يستوف: فإن كانت الحالة مشهورة ولا ينسى مثلها، لم يجب إثباتها، وإن جاز أن ينسى مثلها وجب عليه إثباتها؛ ليتذكر بخطه ما حكم [به] وألزم؛ [لأنه كفيل بحفظ الحقوق على أهلها، فألزم] بذلك ما يئول إلى حفظها، والله أعلم.
قال: وما يجتمع من المحاضر [والسجلات] في كل شهر، أو في كل أسبوع، أو في كل يوم- على قدر قلته وكثرته- يضم بعضها إلى بعض، أي: فيصير قمطراً، ويختم عليه ويكتب عليه: محاضر وقت كذا، من شهر كذا، من سنة كذا؛ ليسهل عليه كشف ما يريده عند الحاجة إليه.
قال الأصحاب: وإذا اجتمعت محاضر سنة ضمها، وكتب عليها: محاضر سنة كذا.
ولو لم يفعل القاضي ذلك بنفسه، لكنه وكله إلى ثقة- جاز، والأولى: أن يكون
بحضوره [إن لم يتولاه]؛ خشية من إدراج شيء فيها.
وكلام الماوردي مشير إلى تعيين حضوره عند تولي الغير ذلك.
والأسبوع- بضم الهمزة والباء-: اسم للأيام السبعة.
قال: فإن لم يسجل له الحاكم، أي: لم يكتب له سجلاً، وقد أشهد على نفسه بالإنفاذ- جاز؛ لأن الحكم قد حصل، وكتبة ذلك لا يلزم بها شيء؛ فإن الاعتماد على ما يشهد به الشاهد، وقيل: يلزمه كالإشهاد، حكاه البندنيجي والمصنف وغيرهما.
قال الغزالي: ومن جوز للأمي أن يكون قاضياً فلا يمكنه إيجاب الكتاب وإن التمس صاحب الحق.
[فإن قيل]: هل تفصلون في وجوب الإشهاد في الحكم بين أن يكون الحكم قد ثبت بالبينة أو بالإقرار على وجه؛ كما ذكرتم ذلك في الإشهاد في الثبوت؟
قلت: قد أطلق ابن الصباغ القول بأن الإشهاد على نفسه بالحكم في هذه الصورة وغيرها واجب، وهو الذي لا يتجه غيره؛ لأن الحكم يحصل بما لم تحصله البينة، وهو الإلزام؛ فلذلك وجب، بخلاف الثبوت؛ فإنه لا يحصل أمراً زائداً على ما شهدت به البينة.
فرع: حدود الله- تعالى- هل يقبل فيها كتاب القاضي إلى القاضي؟ فيه قولان؛ كما في الشهادة على الشهادة فيها، وسنذكرهما إن شاء الله تعالى.
قال: وإن ادعى رجل على رجل حقاً، فادعى أن له حجة في ديوان الحكم، أي: به، وذكر تاريخها، فوجدها كما ادعى، فإن كان ذلك حكماً حكم به هذا الحاكم لم يرجع إليه حتى يتذكر؛ لقوله تعالى:{وَلا تَقْفُ مَا لَيْسَ لَكَ بِهِ عِلْمٌ} [الإسراء: 36]؛ ولأن الخط والختم بصدد التزوير؛ فلا يجوز اعتماد القاضي عليه في الحكم بمجرده؛ كما أن الشاهد لا يجوز له الاعتماد على خطه في أداء الشهادة،
وإن حفظ النسخة في خزائنه، ووثق بأنه لم يحرف، بل أولى؛ لأن الحكم أغلظ لما فيه من الإلزام، بخلاف الشهادة.
[فإن قيل]: قد قلتم: إن الراوي يجوز له في الرواية الاعتماد فيما يرويه عن رسول الله صلى الله عليه وسلم على النسخة إذا وثق بها، فهلا كان القضاء [مثله]؟
قلنا: لنا في الرواية وجهان:
أحدهما- ما صار إليه الصيدلاني، وحكاه الرافعي عن رواية المصنف-: أنه لا يحل للمحدث إلا رواية ما حفظه وتذكره؛ فليرو كذلك أو ليترك؛ وعلى هذا اندفع السؤال.
والثاني: جواز ذلك كما ادعيتم، وهو الصحيح.
وعلى هذا: فالفرق أن أمر الرواية أسهل؛ ولهذا تسمع من العبد، بخلاف القضاء والشهادة.
وقد سوى الشيخ أبو محمد بين الشهادة والرواية في الاعتماد على الخط عند الوثوق به، وحكى الرافعي عنه وعن غيره أنه طرده في القضاء، قال الغزالي: وما ذكره أقرب مما ذكره الصيدلاني.
وكما لا يجوز اعتماد القاضي فيما حكم به على الخط والختم ما لم يتذكر، لا يجوز اعتماده فيه على شهادة شاهدين شهدا عنده بأنه حكم به؛ لأنه يمكنه أن يذكر ذلك ويصل إلى اليقين؛ فلا يرجع إلى الظن؛ ولهذا لو شهد عنده شاهدان بأنه صلى لم يرجع إليهما، وإن كان حق الله- تعالى- أخف؛ لأنه مبني على المسامحة، وأيضاً فإن الشهادة أخف من الحكم ولو شهد عند الشاهد شاهدان بأنه شهد بحق، لم يجز أن يشهد به حتى يتذكر؛ فالحكم أولى.
وفي "الإشراف "والرافعي" أن ابن القاص قال: إنه يجوز له الحكم إذا شهد عنده بأنه حكم؛ لأن الشافعي- رضي الله عنه قال: "وينظر القاضي في المحضر، فإن لم يتذكر شهدوا عليه". والمذهب: الأول، والضمير في قول الشافعي- رضي الله عنه:
"شهدوا عليه"، عائد إلى المحكوم عليه إذا كان قد أقر عند الحاكم بالحق؛ كما ذكره الأصحاب.
نعم، لو شهدا عند غيره بأنه حكم بذلك: فإن كان بعد تكذيبهما لم يحكم به ذلك الغير أيضاً؛ لفسقهما بقول الحاكم الأول، وكذا لو لم يكذبهما الأول، لكنه أنكر أن يكون حكم به.
قال الشافعي- رضي الله عنه: "فإن علم غيره أنه أنكره فلا ينبغي له أن يقبله".
ووجهه القاضي أبو الطيب والماوردي وغيرهما بأن الحاكم كشاهد الأصل، وشاهد الأصل لو أنكر الشهادة لم يجز لشاهد الفرع أن يشهد بها.
ولو لم يصدر منه تكذيب ولا إنكار، لكنه توقف- ففي حكم الثاني بذلك وجهان حكاهما القاضي الحسين عن رواية أبي إسحاق، والمذكور منهما في "تعليق" البندنيجي والقاضي أبي الطيب: الجواز، وعليه يدل النص؛ حيث قال- كما ذكره في "البحر"-: إلا أن الحاكم إذا لم يتذكره لا يجوز [له أن يبطله]، ولا يجوز له أن يحقه، ولكنه يتوقف عنه، حتى لو رفع إلى حاكم آخر يمضيه وجوباً.
والمذكور في "المهذب"، وهو المختار في "المرشد": مقابله، وهو منسوب في "البحر" إلى أبي بكر الأودني؛ كما لو شهد شهود الفرع عند الحاكم، ثم قامت بينة أن شاهدي الأصل توقفا عن الشهادة- لا يحكم بشهادة الفروع. ثم قال: وهو غلط؛ لما ذكرناه من النص.
قال الماوردي والبندنيجي وأبو الطيب وابن الصباغ وغيرهم: وإذا تذكر القاضي الحكم ألزمه إياه قولاً واحداً، ولا يتخرج على القضاء بالعلم، بل هو إمضاء ما حكم به.
وعن "أمالي" أبي الفرج الزاز حكاية طريقة أخرى إن أمضاه على القولين في القضاء بالعلم.
فرع: هل للمدعي تحليف الخصم عند توقف القاضي في الحكم، [على] أنه لا يعرف حكم القاضي؟ قال صاحب "التهذيب": يحتمل وجهين. وهما مأخوذان مما
سنذكره في الدعاوى- إن شاء الله تعالى-: [أن] ما ليس بعين الحق، ولكنه ينفع في نفس الحق، هل تسمع الدعوى به أم لا؟
قال: وإن كان حكماً حكم به غيره لم يرجع إليه حتى يشهد به شاهدان؛ لإمكان التزوير والتحريف، وقد حكيت أن الإصطخري جوز قبول كتاب القاضي إذا عرف خطه وختمه وتكرر ورود كتبه عليه، وهذا يظهر مجيء مثله هاهنا.
قال: وإذا لم يعرف الحاكم لسان الخصم، أي: لكونه عربياً والخصم عجمي؛ فإن القاضي لا يتصور أن يكون عجمياً؛ كما قاله الإمام تبعاً للقاضي الحسين، لأن الشرط: أن يكون مجتهداً على المسلك الأصح، ومن ضرورة ذلك أن يكون عالماً بلغة العرب؛ فإن الشريعة عربية.
قال: رجع فيه إلى من يعرف، أي: ولا يشك فيه؛ للضرورة في فصل الخصومات، فإن شك الشاهد في ذلك اللسان لم يقبل منه، نص عليه في "الأم"، ولو [احتاج إلى] أجرة فهي على صاحب الحق أم في بيت المال كأجرة الحاكم؟ فيه وجهان في "الأحكام" لابن شداد، وقال: إنا إذا قلنا بالأول، فالواجب [عليه] أجرة المثل فيما يتعلق بخاصته في مثل حقه.
وفي "الرافعي" عوضاً عن الأول: أنها لا تجب في بيت المال؛ كالوكيل، ونسبه إلى تخريج [صاحب]"التلخيص"، وأنه يحكى عن أبي زيد أيضاً. وعلى هذا: فمؤنة ما يترجم للمدعي [على المدعي] عليه؛ لأنه يبلغ كلامه، والخلاف جار في أجرة المسمع، ويكون على الوجه الأول [على] صاحب الحق؛ كما قاله في "الوسيط".
قال: ولا يقبل فيه إلا قول من تقبل شهادته، [أي: فيما يترجم فيه؛ لأنها شهادة عند الحاكم بما يقف عليه الحكم؛ فلا تقبل إلا من عدل تقبل شهادته] كالإقرار.
وعلى هذا: فلا تسمع ترجمة النساء في القصاص والحدود، وتسمع في الأموال وما في معناها مع رجل؛ كذا أطلقه البندنيجي، ولم يذكر الماوردي سواه، وقال: تسمع شهادة المرأة والرجل في الترجمة بالإقرار بالمال. وحكاه في "التهذيب" أيضاً، ثم [قال]: قال الشيخ: وجب ألا تقبل في الأموال- أيضاً- إلا من رجلين؛ كما لا تثبت الشهادة على الشهادة بقول النساء، وإن كان الحق مما يثبت برجل وامرأتين. وهذا ما أورده القاضي الحسين والإمام، وقاساه على الوكالة.
والوجهان مذكوران في "الكافي"، وعلى الأول: ينبغي أن تسمع الترجمة من النسوة منفردات فيما يثبت بشهادتهن على الانفراد، وهو قضية قولهم: إن ما تقبل فيه الشهادة من المرأة تسمع فيه ترجمتها.
والوالد والولد لا تقبل ترجمتهما؛ كما لا تقبل شهادتهما؛ كذا أطلقه [في]"الحاوي"، ولعله محمول على ترجمتهما بإقرار خصم قريبهما، وأما ترجمتهما بإقرار قريبهما فلا يظهر إلا سماعها.
واعلم أن ظاهر كلام الشيخ يقتضي: أنه لا تقبل ترجمة الأعمى فيما يفتقر فيه إلى البصر، وهو وجه حكاه الرافعي والبغوي وصاحب "الكافي" والإمام عن رواية صاحب "التقريب" في منع ترجمته مطلقاً لأن الأعمى ليس من أهل نقل الأقوال، ولا نظر إلى تفاصيل الأحوال، وعليه ينطبق قول الشيخ: ولا نقبل شهادة الأعمى إلا في موضعين. لكن الصحيح- وبه جزم الماوردي والقاضي أبو الطيب والروياني-: السماع إذا كلف القاضي المجلس السكوت؛ حتى لا يتكلم إلا المدعي والمدعى عليه؛ لأن الترجمة تفتقر إلى السماع [دون البصر، وشهادة الأعمى مقبولة فيما يتعلق بالسماع] خاصة وإن ردت فيما يتعلق بالبصر.
قال: ولا يقبل إلا من عدد يثبت به الحق المدعى [به]؛ لأن خبر من ليس بحاكم يفتقر إلى الحرية؛ فافتقر إلى العدد، أصله: الشهادة، وفيه احتراز من حكم
الحاكم؛ لأن ذلك خبر من حاكم.
وقولنا: يفتقر إلى الحرية، احترزنا به عن أخبار الديانات [و] عن الفتوى، ولأنه نقل إلى الحاكم ما غاب عنه فيما يتعلق بأمر المتخاصمين؛ فكان من شرطه العدد كالشهادة.
وفي "الذخائر" حكاية وجه: أنه [يكتفي] بالواحد كالمسمع.
وقال الإمام: فيما إذا كان الخصمان عارفين بالعربية لا يغيب عنهما مدركها، ولكنهما لا يحسنان النظم-: الوجه أن يكون هذا بمثابة ما لو كان الخصمان سميعين، والقاضي أطروش.
والحكم في الصورتين: أن القاضي إذا احتاج إلى التلقي من المتوسط بالترجمة أو الإسماع، والخصمان مدركان- فالوجه: أنهما إذا أدركا ما جرى وقررا المترجم، كفى مترجم واحد، وحق القاضي أن يعتمد تقريرهما، وإن استظهر بإشارتهما فحسن، وإطلاق الأصحاب ذكر شاهدين في هذا المقام، التفات إلى قاعدة التعبد بالعدد.
ثم على المذهب، وهو الذي ادعى القاضي الحسين نفي خلافه: لو كان الخصمان أعجميين، فهل للمترجمين عن أحدهما أن يترجما عن الآخر؟ [فيه] قولان حكاهما القاضي الحسين، وقال في "الحاوي": فيه وجهان مأخوذان من اختلاف الوجهين في الشاهدين إذا تحملا عن شاهد الأصل، هل يتحملان عن الشاهد الآخر؟ ومن اعتبار العدد في الترجمة يؤخذ أنه لابد فيها من لفظ الشهادة، [لأن ما يعتبر فيه العدد يعتبر فيه لفظ الشهادة]، وهذا ما جزم به [القاضي] أبو الطيب وغيره.
وفي "الحاوي" حكاية وجه آخر: أنهما يذكران ذلك بلفظ الخبر، قال: وليس بصحيح؛ لما ذكرناه.
وهذا في الترجمة عن الخصم للقاضي، أما في [الترجمة عما] يقوله
القاضي للخصم، فإنه خبر محض، وليس بشهادة؛ لأن الشهادة لا تكون إلا عن الحاكم الملزم؛ فيجوز فيها ترجمة الواحد وإن كان عبداً، ويجوز أن يكون المترجم لأحد الخصمين هو المترجم للآخر وجهاً واحداً.
قال: فإن كانت الدعوى في زنى، ففيه قولان:
أحدهما: يقبل في الترجمة اثنان، لأن المقصود [معرفة] اللسان، وذلك يحصل بشهادة الاثنين، [وهذا أصح] في "الجيلي".
والثاني: لا تقبل إلا [من] أربعة؛ نظراً إلى الحق المدعى به؛ ألا ترى أن ما لا تقبل فيه شهادة النسوة لا تقبل ترجمتهن فيه؟ وهذا القول لو سكت الشيخ عنه لأمكن أخذه من قوله: "ولا يقبل إلا من عدد يثبت به الحق المدعى به".
وقد أجرى بعضهم هذا الخلاف في ترجمة اللعان. والقاضي الحسين في كتاب اللعان قال: إنه يجري في نقل لعان الزوج؛ [لأنه مسوق لإثبات الزنى، فأما لعانها فيكفي فيه مترجمان؛ لأنها تنفي به الزنى].
وفي "مجموع" المحاملي ثم طريقة قاطعة بأنه يكفي في الطرفين مترجمان، وقال: إنها المذهب. وضعف طريقة إجراء القولين بأن الزنى ما يثبت في هذا الموضع؛ لأن الزوج ينفيه، وكذلك الزوجة.
تنبيه: كلام الشيخ مصرح بأن الخلاف في ترجمة الزنى قولان، والماوردي وغيره قالوا هاهنا: إنه وجهان مبنيان على أن الإقرار بالزنى، هل يثبت بشاهدين أم لا بد من أربعة؟ وفيه قولان، فإن قلنا بالأول كفى في [الترجمة] اثنان، وإلا فلا بد من أربعة.
[وقال الماوردي في كتاب اللعان: إنا إذا قلنا في الإقرار بالزنى: لابد من أربعة]، فهاهنا [هل] لابد من أربعة- أيضاً- أو يكفي اثنان؟ فيه وجهان، أصحهما: الاكتفاء.
فرع: لو كان القاضي ثقيل السمع، [واحتاج إلى مسمع]: فهل يشترط فيه العدد كالمترجم أو يكتفي بواحد؟ حكى الغزالي فيه ثلاثة أوجه:
أحدها: يشترط، وهو ما اختاره الإمام، وقال: إنه يجب أن يعتقد؛ لأن كلا من المسمع والمترجم ناقل إلى القاضي: فأحدهما ينقل معنى اللفظ، والآخر ينقل اللفظ بعينه؛ فلا معنى لاشتراط العدد في الترجمان، والتردد في المسمع، وعلى هذا يشترط لفظ الشهادة على أصح الوجهين، فيقول: أشهد أنه يقول كذا وكذا.
قال الرافعي: ويشبه أن يجري الخلاف في إسماع رجل وامرأتين في المال؛ كما ذكرنا في المترجم، وأجاب في "الوسيط" بالمنع كما ذكرناه عن صاحب "التهذيب". [ثَمَّ].
والثاني: لا يشترط، قال الغزالي: لأن المسمع لو غير عرفه الخصمان، أي إن كانا سميعين، والحاضرون، أي: إن كان الخصمان أصمين بخلاف الترجمة.
قال في "البحر": وهذا ليس بشيء.
فعلى هذا: لا يشترط لفظ الشهادة، وهل تشترط الحرية؟ فيه وجهان كما في [شهادة] هلال رمضان إذا اكتفينا فيه بالواحد. والأصح: الاشتراط، وأنه لا يسلك به مسلك الروايت.
والثالث: أن العدد لا يشترط، إلا أن يكون الخصمان أصمين فيشترط؛ لأن القوم قد يغفلون عن تغييره، فالخصم هو الذي يعتني به، وهو عاجز عن الرد لو غير المسمع. وقد فهم مما ذكره الغزالي [من التعليل]: أن محل الاكتفاء بمسمع واحد في حالة صمم الخصمين- على الوجه الثاني- ما إذا كان ثم حاضر غيرهم، أما إذا لم يكن [ثم] حاضر غير الخصمين والقاضي والمسمع، فلا يكتفي به. وهو متبع في ذلك الإمام، فإنه قال فيما إذا لم يكن ثم غيرهم: الوجه القطع باشتراط العدد، وإن حكى عن الأصحاب الوجهين في هذه الحالة أيضاً.
والقاضي الحسين جزم- على القول بالاكتفاء بمسمع واحد- بأن القاضي والخصمين إذا كانوا صماً، [بأنه] لابد من اثنين.
ثم قال الإمام: إن محل الوجه الثالث إذا لم يكن الحضور مأمورين من القاضي بالإصغاء ومراقبة الحال.
ولو كان المحتاج إلى المسمع الخصم خاصة لثقل سمعه- فعن "جمع الجوامع" للقاضي الروياني: أنه لا حاجة فيه إلى العدد. وهو معزي إلى القفال، وذلك قضية ما ذكرناه عن الماوردي [في المترجم، والله أعلم].
قال: وإذا حكم الحاكم بحكم، فوجد النص، أي من الكتاب، أو السنة المتواترة أو المنقولة بالآحاد، أو الإجماع، أو القياس الجلي، أي: على اختلاف أنواعه التي سنذكرها بخلافه نقض حكمه؛ لأن الاجتهاد إنما يسوغ إذا لم يكن هناك مخالفة نص كتاب ولا سنة ولا إجماع ولا قياس غير محتمل، فإذا حكم باجتهاده في مثل ذلك كان مردوداً كما لو حكم بطريقة لا تصح في الشرع.
وقد ادعى الماوردي في حالة قيام الإجماع: أن النقض مجمع عليه من الخصوم.
واستدل هو وغيره على النقض في حالة وجود النص بقوله صلى الله عليه وسلم: "مَنْ أَدْخَلَ فِي دِيْنِنِا مَا لَيْسَ مِنْهُ فَهُوَ رَدُّ" ويروى: "مَنْ عَمِلَ عَمَلاً لَيْسَ عَلَيْهِ أَمْرُنَا فَهُوَ رَدُّ". وبآثار وردت عن عمر- رضي الله عنه في هذا الباب اشتهرت ولم ينكرها أحد؛ فكان إجماعاً، منها ما ذكرناه من قبل أنه كتب إلى أبي موسى الأشعري:"لا يَمْنَعَّكَ قَضَاءُ قَضَيْتَهُ، ثُمَّ رَاجَعْتَ فِيْهِ نَفْسَكَ فَهُدِيتَ الرُّشْدَ- أَنْ تَنْقُضَهُ، فَإِنَّ الرُّجُوعَ إِلَى الحَقِّ خَيْرُ مِنَ التَّمَادِي فِي البَاطِلِ".
ولأن الكتاب والسنة أصل الإجماع؛ لأنه لا يجوز أن ينعقد على [ما] يخالفهما، فلما نقض حكمه بمخالفة الإجماع كان نقضه بمخالفة الكتاب والسنة أولى.
وفي "أدب القضاء" لابن أبي الدم: أنه [قيل:] لا ينقض القضاء إذا خالف خبر الواحد.
والصحيح: الأول؛ فينقض قضاء الحنفي في مسألة خيار المجلس [بنفيه] وفي العرايا، وذكاة الجنين والنكاح بلا ولي، وقيل: الأصح أنه لا ينقض في مسألة النكاح بلا ولي. وينقض- أيضاً- قضاؤه إذا حكم بشهادة فاسقين على الأصح، وكذلك قضاء من قضى بصحة بيع أمهات الأولاد [ينقض] على الأصح.
ثم المراد من النص: ما لا يحتمل تأويلاً، أو يحتمل تأويلاً بعيداً ينبو عنه اللفظ.
والقياس الجلي، قال النواوي: إنه الذي يعرف به موافقة الفرع الأصل، بحيث ينتفي احتمال افتراقهما أو يبعد: كقايس غير الفأرة من الميتات إذا وقعت في السمن، عليها، وغير السمن من المائعات والجامدات، عليه وقياس الغائط على البول في الماء الراكد.
وفي "الحاوي": أن القياس الجلي ما كان معناه في الفرع زائداً على معنى الأصل، [وله ثلاثة ألقاب- كما قال البندنيجي-: جلي، وقياس في معنى الأصل] وقياس لا يحتمل إلا معنى واحداً.
ومعنى الجلي: يجلى معناه تجلية بحيث لا يفتقر إلى بحث وسبر.
[وفي معنى الأصل: [عرف] حكم فرعه كما عرف حكم أصله وصارا واحداً.
والذي] لا يحتمل إلا معنىً واحداً: معناه: لا يصلح تعليق الحكم بغير معناه. قال الماوردي: وهو ثلاثة أضرب:
أحدها: ما عرف معناه من ظاهر النص بغير استدلال، ولا يجوز أن يرد البعيد فيه، بخلاف أصله؛ كقوله تعالى:{فَلا تَقُلْ لَهُمَا أُفٍّ} [الإسراء: 23]، فإن تحريم التأفيف يدل [ببديهة النص] على تحريم الضرب والشتم، ولا يجوز أن يحرم
التأفيف ويحل الضرب والشتم، ومثله قوله تعالى:{فَمَنْ يَعْمَلْ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ خَيْراً يَرَه (7) وَمَنْ يَعْمَلْ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ شَرّاً يَرَه} [الزلزلة]؛ وقوله تعالى: {وَمِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ مَنْ إِنْ تَامَنْهُ بِقِنطَارٍ يُؤَدِّهِ إِلَيْكَ وَمِنْهُمْ مَنْ إِنْ تَامَنْهُ بِدِينَارٍ لا يُؤَدِّهِ إِلَيْكَ إِلَاّ مَا دُمْتَ عَلَيْهِ قَائِماً} [الآية][آل عمران: 75].
وهذا الضرب من القياس أقرب وجوه القياس إلى النصوص؛ لدخول فروعها في النصوص، ولم يختلف أصحابنا في جواز تخصيص العموم [به]، وإن اختلفوا في جواز النسخ به على وجهين:
أحدهما- وهو قول الأكثرين-: أنه لا يجوز.
ومقابله منسوب إلى أبي علي بن أبي هريرة، قال الماوردي: وقد حكاه عن بعض من تقدمه.
والضرب الثاني: ما عرف معناه من ظاهر النص بغير استدلال، لكن يجوز أن يرد البعيد فيه، بخلاف أصله، وذلك كنهيه صلى الله عليه وسلم عن التضحية بالعوراء البين عورها، والعرجاء [البين عرجها؛ فكذلك العمياء والقطعاء قياساً عليهما، وإن جاز أن يرد البعيد بتحريم العوراء أو العوجاء] وإباحة العمياء والقطعاء، وكنهيه صلى الله عليه وسلم عن أن يلبس المحرم ثوباً مسه ورس أو زعفران، فكان العنبر والمسك قياساً عليهما.
وهذا الضرب يجوز تخصيص العموم به، ولا يجوز به النسخ بوفاق أصحابنا، لجواز ورود البعيد في الفرع، بخلاف أصله.
وفي "تعليق" البندنيجي أن بعض أصحابنا قال: لا يجوز أن يرد الشرع في هذا بخلاف الأصل.
والضرب الثالث: ما عرف معناه من ظاهر النص باستدلال ظاهر يعرف بأدنى نظر؛ كقوله تعالى في زنى الإماء: {فَإِنْ أَتَيْنَ بِفَاحِشَةٍ فَعَلَيْهِنَّ نِصْفُ مَا عَلَى الْمُحْصَنَاتِ مِنْ الْعَذَابِ} [النساء: 25] فجعل حدهن نصف حد الحرائر، ولم يكن المعنى فيهن إلا نقصهن بالرق، فكان العبيد قياساً عليهن في تنصيف الحد إذا زنوا لنقصهم بالرق، ومثله قوله صلى الله عليه وسلم:"من أعتق شركاً له في عبد وكان موسراً، قوم عليه"؛ فكانت
الأمة قياساً على العبد، وقوله تعالى:{إِذَا نُودِي لِلصَّلاةِ مِنْ يَوْمِ الْجُمُعَةِ فَاسْعَوْا إِلَى ذِكْرِ اللَّهِ وَذَرُوا الْبَيْعَ} [الجمعة: 9]؛ فكأن معنى نهيه عن البيع أنه تشاغل عن حضور الجمعة؛ فكانت عقود المناكحات والإجارات وسائر الأعمال والصنائع قياساً على البيع؛ لأنه تشاغل عن حضور الجمعة.
وهذا الضرب لا يجوز النسخ به، ويجوز تخصيص العموم به عند أكثر أصحابنا، وإن منع منه بعضهم لخروجه عن الجلاء بالاستدلال، وليس بصحيح؛ لأنه صار بجلاء الاستدلال كالجلي بغير استدلال.
قال البندنيجي وبعض أصحابنا يعد هذا الضرب من أقسام القياس الواضح كما عد منه قوله صلى الله عليه وسلم: "لَا يَقْضِي القَاضِي وَهُوَ غَضْبَانُ"، ومعناه: أنه يغير العقل؛ فكان الجوع والجزع مثله، وكقوله صلى الله عليه وسلم] فِي الفَارَةِ تَقَعُ فِي السَّمْنِ:"إِنْ كَانَ جَامِداً فَأَلْقُوْهَا وَمَا حَوْلَهَا، وَإِنْ كَانَ مَائِعاً فَأَرِيْقُوْهُ"، فكان العصفور مثل الفأرة، والشحم مثل السمن؛ وكقوله- تعالى:{مِنْ أَجْلِ ذَلِكَ كَتَبْنَا عَلَى بَنِي إِسْرَائِيلَ} [المائدة: 32].
وخص الجلي بالضربين الأولين، وقال: كما ينقضي الحكم إذا خالف القياس الجلي، كذلك إذا خالف القياس الواضح بهذا التفسير.
ولو خالف حكم الحاكم القياس الخفي، أو قياس غلبة الشبه-[لم ينقض حكمه؛ كما صرح به البندنيجي.
والقياس الخفي: هو ما خفي معناه؛ فلم يعرف إلا باستدلال، وتكون صفاته في الفرع مساوية لمعنى الأصل.
وقياس غلبة الشبه]: بما يجاذب الأصول، فأخذ من [كل] أصل شبهاً، وأخذ كل أصل منه شبهاً. كذا قاله الماوردي، لكنه ذكر أن القياس الخفي
[على] ثلاثة أضرب:
أحدها: ما كان معناه لائحاً يعرف باستدلال متفق عليه؛ كقوله تعالى: {حُرِّمَتْ عَلَيْكُمْ أُمَّهَاتُكُمْ} [النساء: 23] فكان عمات الآباء والأمهات في التحريم قياساً على الخالات؛ لاشتراكهن في الرحم، وقوله تعالى في نفقة الولد الصغير {فَإِنْ أَرْضَعْنَ لَكُمْ فَآتُوهُنَّ أُجُورَهُنَّ} [الطلاق: 6] فكان نفقة الوالد عند عجزه في كبره؛ قياساً على نفقة الولد] لعجزه [في صغره].
قال: وهذا ينقض به حكم الحاكم إذا خالفه، وفي جواز تخصيص العموم به وجهان.
والضرب الثاني: ما كان معناه غامضاً؛ للاستدلال المختلف فيه؛ فتقابلت معانيه حتى غمضت: كتعليل الربا في البر المنصوص عليه، فتقابل فيه التعليل بالأكل؛ ليقاس [عليه] كل مأكول، والتعليل بالقوت؛ ليقاس عليه كل مقتات، والتعليل بالكيل؛ ليقاس عليه كل مكيل.
والضرب الثالث: ما كان مستبهماً وهو ما احتاج نصه ومعناه إلى الاستدلال؛ كالذي قضى به رسول الله صلى الله عليه وسلم: "أن الخراج بالضمان"، فخرج بالاستدلال أن الخراج هو المنفعة، وأن الضمان هو [ضمان] البيع، ثم عرف معنى المنفعة بالاستدلال؛ فتقابلت المعاني بالاختلاف فيها.
فهذا والذي قبله لا ينقض بهما حكم الحاكم إذا خالفهما، ولا يجوز تخصيص العموم بهما.
وفي "الرافعي": أن ابن القاص قال: إن الضرب الثاني من هذه الأضرب من الجلي أيضاً، وقضيته النقض.
وذكر الماوردي أن قياس غلبة الشبه نوعان: قياس تحقيق يكون الشبه في أحكامه، وقياس تقريب يكون الشبه في أوصافه، وقياس التحقيق [له] ثلاثة أضرب:
أحدها: أن يتردد حكم الفرع بين [أصلين: ينتقض] برده إلى أحدهما، ولا ينتقض برده إلى الآخر؛ فيرد إلى الأصل الذي [لا] ينتقض برده إليه وإن كان [أقل شبهاً، ولا يرد إلى الأصل الذي ينتقض برده إليه وإن كان] أكثر شبهاً.
مثاله: العبد هل يملك إذا ملك؟ تردد بين أصلين.
أحدها: الحر في جواز ملكه.
والثاني: البهيمة في عدم ملكه.
فلما انتقض برده إلى الحر في الميراث حين لم يملك به، وجب رده إلى التهمة؛ لسلامته من النقض، وإن كان شبهه بالأحرار أكثر من شبهه بالبهائم.
والضرب الثاني: أن يتردد الفرع بين أصلين [يسلم من النقض لو رد إلى كل واحد منهما، وهو بأحد الأصلين] أكثر شبهاً منه بالأصل الآخر، مثل: أن يشبه أحدهما من وجه، و [يشبه] الآخر من وجهين؛ فيجب رده إلى الأصل الذي هو أكثر شبهاً به.
مثاله: في الجناية على أطراف العبد تردد بين رده إلى الحر في تقدير الجناية على أطرافه، وبين رده إلى البهيمة في وجوب ما نقص من قيمته، وهو يشبه البهيمة في أنه مملوك ويورث، ويشبه الحر في أنه آدمي مخاطب مكلف، [يجب] في قتله القود والكفارة، فوجب رده إلى الحر في تقدير الجناية على أطرافه دون البهيمة؛ لكثرة شبهه بالحر، وقلة شبهه بالبهيمة.
والضرب الثالث: أن يتردد حكم الفرع بين أصلين مختلفي الصفتين، ويوجد في الفرع بعض كل واحدة من الصفتين، ولا تكمل فيه إحدى الصفتين، لكن يوجد فيه الأكثر من إحداهما، والأقل من الأخرى؛ فيجب رده إلى الأصل الذي فيه أكثر صفاته.
مثاله: ثبوت الربا في الإهْلِيلَج والسَّقَمُونيا؛ لما تردد بين الخشب في الإباحة، لأنه ليس بغذاء، وبين الطعام في التحريم؛ [لأنه مأكول؛ فكان رده إلى الغذاء في التحريم
- لأنه مأكول]، وإن لم يكن غذاءً- أولى من رده إلى الخشب في الإباحة [وإن لم يكن غذاءً]؛ لأن الأكل أغلب صفاته.
وقال- أعني الماوردي- في موضع آخر: إن حكم القاضي ينتقض إذا خالف قياس التحقيق.
وعد في "النهاية" مما ينقض به قضاء القاضي: ما إذا تردد مذهبان بين موافقة قاعدة كلية وبين مجانبتها والتزام حرمها، كمسألة المثقل، ومعظم مسائل الحدود والغصوب.
ثم المعنى بنقض الحكم- كما قال الإمام في أول باب علم القاضي بحال من قضى [عليه]-: التبين، وإلا فليس القضاء أمراً يعقد ويحل.
وحكى الماوردي في باب شهادة النساء: أن الحكم إذا وقع بأضعف المذهبين أصلاً مما ينقضه عليه غيره من القضاة فهو باطل في الظاهر والباطن، لكن هل يفتقر بطلانه إلى حكم الحاكم أم لا؟ [فيه وجهان].
[فروع]:
من حكم بالتفرقة بين الزوجين بلعان ثلاث مرات، ينقض حكمه؛ لأنه خلاف الكتاب.
وكذلك من حكم برضاع الكبير بعد أن كان المرضع ابن سنتين وخمسة أشهر، ففرق بين الزوجين- نقض حكمه، وردها على الزوج.
ومن أجاز نكاحاً عقد بشهادة فاسقين بلا إعلان ولا إظهار، نقض حكمه.
وكذا لو حكم بقتل مؤمن بكافر أو توريث أحدهما من صاحبه، أو حكم بإبطال قطع يد المرأة بيد الرجل، أو قتلها به حتى يغرم وليها نصف الدية؛ كذا حكاه القاضي حسين.
وفي "الرافعي": أن من الأصحاب من منع النقض وقال: هي مسائل اجتهادية، والأدلة فيها متفاوتة. قال القاضي الروياني: وهو الصحيح. وكذلك ذكره القاضي ابن كج
في الحكم ببطلان خيار المجلس.
قال: وإن اختلف رجلان، فقال أحدهما:[قد] حكم لي الحاكم [بكذا]، وأنكر الآخر، فقال الحاكم: حكمت، أي: وهو في محل ولايته باق عليها- قبل قوله وحده؛ لأنه قادر على الإنشاء، [ومن قدر على الإنشاء قدر] على الإقرار كالزوج لما قدر على إنشاء الطلاق قدر على الإقرار به.
قال القاضي حسين: [حتى] لو قال: قضيت على أهل [هذه] البلدة بأن نساءهم طوالق وعبيدهم أحرار، قبل قوله ونفذ حكمه.
وهذا إذا صرح بأن الحكم وقع بالبينة، أو بإقرار الخصم، أو بنكوله واليمين، [أو أطلق] الحكم.
ولا يحوج القاضي إلى إثبات ما قام عنده من حجة بينة، وإن منعنا القضاء بالعلم، وهذا متفق عليه. ولو أحوج إلى البينة، فعند من يقيمها؟
نعم، [لو] قال: حكمت عليه بعلمي، فذاك ينبني على أن القضاء بالعلم هل يسوغ؟ فإن قلنا: نعم، فالحكم كما تقدم، وإلا فلا يقبل إقراره، ولا يلزم المقضي عليه ما قضى به، كذا صرح به القاضي أبو الطيب والبندنيجي وابن الصباغ وغيرهم.
[فإن] قيل: قد قلتم: [إن ما يسوغ فيه الاجتهاد إذا اتصل بحكم الحاكم لا ينقض، والقضاء بالعلم] مما يسوغ فيه الاجتهاد؛ فينبغي إذا اتصل بالحكم ألا ينقض.
قيل: من يقول بأنه يسوغ له أن يقضي بعلمه، لم يجعل العلم حجة؛ فصار كما لو قال: حكمت من غير مستند وبغير حجة. لا ينفذ وإن كان في [محل] الاجتهاد، بخلاف المواضع المختلف فيها.
فرع: لو ادعى أحد الخصمين على القاضي المولى، وهو [في] محل ولايته، [عند قاض آخر في محل ولايته] أيضاً؛ إما لكون أحدهما نائباً عن الآخرن أو لكونهما أصلين، وجوزنا ذلك: أنك حكمت لي بكذا على خصمي، وأنكر [القاضي]- فهل له طلب يمينه؟
الذي حكاه الأصحاب: أنه ليس له ذلك.
وعن القاضي الحسين أنه [قال]: ينبني ذلك على أن النكول مع يمين الرد يجري مجرى البينة أو الإقرار؟
إن قلنا: يجري مجرى البينة، فلا حكم لها؛ لأن البينة لو قامت لم يقع بها حكم.
وإن قلنا: يجري مجرى الإقرار، فيحلف، قال الإمام: وتكون اليمين على نفي التذكر، فإذا نكل ردت اليمين على المدعي، وتنزل منزلة إقرار القاضي. قال الإمام: وهذا بعيد، والوجه ما ذكره الأصحاب.
أما إذا قال الحاكم بعد العزل، [أو] وهو خارج عن محل ولايته: قضيت بكذا حالة نفوذ قضائي- لم يقبل [الحاكم] منه [ذلك]. نعم، لو شهد به، فهل تقبل شهادته؟ فيه خلاف يأتي في الشهادات، إن شاء الله تعالى.
ولو قال بعد العزل: المال الذي في يد هذا الأمين لزيد دفعته [له] أيام قضائي، وقال الأمين: إنه لعمرو، وما قبضته منك- فالقول قول الأمين. نعم، لو سلم القبض منه فالقول قول القاضي، وهل يغرم الأمين لليتيم الذي [أقر له]؟ فيه وجهان في تعليق القاضي الحسين في باب ما على القاضي في الخصوم. والله سبحانه أعلم.