الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
باب ولاية القضاء وأدب القاضي
قال: ولاية القضاء فرض؛ لقوله تعالى: {كُونُوا قَوَّامِينَ بِالْقِسْطِ} [النساء: 135]؛ وقوله تعالى: {وَمَنْ لَمْ يَحْكُمْ بِمَا أَنزَلَ اللَّهُ فَأُوْلَئِكَ هُمْ الْكَافِرُونَ} [المائدة: 44] وفي أخرى {الظَّالِمُونَ} [المائدة: 45] وفي أخرى {الْفَاسِقُونَ} [المائدة: 47].
ولأن طباع البشر مجبولة على التظالم والتجاحد ومنع الحقوق وارتكاب متن العقوق، وقل من ينصف من نفسه، [والإمام لا يقدر على فصل كل الخصومات، وتحصيل كل [المطلوبات من القضايا] بنفسه]؛ فدعت الحاجة إلى إقامة من ينصف المظلومين من الظالمين؛ ولهذا قال صلى الله عليه وسلم: "لَا بُدَّ لِلنَّاسِ مِنْ وَزَعَةٍ".
قال: على الكفاية؛ لأن النبي صلى الله عليه وسلم بَعَثَ عَلِيَّاً إِلَى اليَمَنِ قَاضِياً، وَاسْتَخْلَفَ عَتَّابَ بْنَ أَسِيْدٍ عَلَى مَكَّةَ بَعْدَ الفَتْحِ وَالِياً وَقَاضِياً، وَقَلَّدَ مُعَاذاً قَضَاءَ بَعْضِ اليَمَنِ، وَقَلَّدَ دِحْيَةَ الْكَلْبِيَّ قَضَاءَ نَاجِيَةٍ، وَكَانَ يشبه بِجِبْرِيلَ، عليه السلام.
وكذلك الخلفاء الأربعة استخلفوا القضاة: فبعث أبو بكر أَنَساً إلى البحرين قاضياً، وبعث عمر أبا موسى الأشعري إلى البصرة قاضياً، وبعث عبد الله بن مسعود إلى الكوفة قاضياً، وعثمان قلد شريحاً القضاء، وعليَّ بعث عبد الله بن عباس إلى البصرة قاضياً وناظراً، فلو كان فرض عين لم يكف واحد.
ولأن القضاء إما أمر بمعروف أو نهي عن منكر [أو هما،] وأيَّاماً كان فهو فرض على الكفاية، وقد ادعى الرافعي في ذلك الإجماع، ورأيت فيما وقفت عليه من "تعليق" القاضي أبي الطيب أنه يستحب للإمام أن ينصب القضاة في البلدان، ولم أره في غيره.
والمخاطب بهذا الفرض من تكاملت فيه شروط القضاء كما سنذكرها، ثم المعروف من فروض الكفاية [أنه] إذا قام به من فيه الكفاية سقط الفرض عن الذين خُوطبوا به على الكفاية، وأنهم إذا امتنعوا منه أثموا جميعاً، وهو مصرح به كذلك هنا. نعم، حكى في "المهذب" وغيره: أن الإمام هل له في هذه الحالة أن يجبر واحداً منهم على الدخول فيه؟ فيه وجهان، اختيار الرافعي وصاحب المرشد منهما: الإجبار، وصحح ابن أبي الدم المنع.
قال مجلي: وعلى هذا هل يتعين [عليه؟] فيه وجهان.
وحكى ابن الصباغ والبندنيجي أن الإمام لو عين شخصاً ابتداءاً للقضاء هل يتعين عليه؟ فيه وجهان من غير بناء على ما ذكره مجلي، مع أني لم أفهم معنى البناء.
وقد قال مجلي بعد حكاية الوجهين في التعيين: إن الغزالي قال هذا فيه إذا عينه من غير تخيير له، فإن كان قد خيره فلا معنى لإيجاب التقليد، وهو غير متعين، ولم يجزم الإمام بتعيينه، وما نسبه إلى الغزالي قد ذكره بعد حكايته عن العراقيين الوجهين.
قال: فإن لم يكن من يصلح إلا واحد تعين عليه، أي: القبول؛ لأن هذا شأن فروض الكفايات، ولا يدفع هذا التعين [عليه] خوفه على نفسه [الخيانة والميل، بل عليه القبول، وأن يجاهد نفسه]، ويلازم سمت التقوى، ويستحب أن يقول إذا دعي: سمعاً وطاعة.
قال: ويلزمه طلبه، أي: إن لم يعرض عليه؛ لأن به يخرج من واجبه.
قال في "المهذب" وغيره: ولو احتاج في هذه الحالة في تحصيله إلى بذل مال وجب بذله، كما يلزمه في شراء الرقبة في الكفارة، والطعام في المجاعة.
وفي "الحاوي" ما يخالف ذلك؛ لأنه قال: يجب القبول، ولا يتعين عليه طلب القضاء؛ لأن فرض التقليد على المولِّي دون المولَّى.
قلت: ولعل هذا إذا علم به المولِّي، أما إذا لم يعلم فيجب عليه إعلامه، كما أطلقه البندنيجي وابن الصباغ وغيرهما، وقال الماوردي في آخر الفصل: إن بذل المال في هذه الحالة مستحب.
قال: فإن امتنع أجبر عليه، أي: على القبول مع عصيانه؛ لأن الناس مضطرون إلى علمه ونظره؛ فكان كصاحب الطعام إذا منعه من المضطر، وقد قدمت في باب أدب السلطان سؤالاً أورد مثله ها هنا الرافعي فليطلب جوابه من ثم، وهذا هو المشهور.
وفي "تعليق" القاضي [أبي الطيب] و"الرافعي"[حكاية] وجه: نه لا يجبر عند الامتناع؛ لما روى أنه صلى الله عليه وسلم قال: "إنا لا نلزم على القضاء أحداً".
والأولون حملوا الحديث على حالة عدم التعين.
قال: فإن كان هناك غيره، أي: صالح لذلك كصلاحيته له، كره أن يتعرض له، أي: بالطلب؛ لما روى أبو داود عن بلال بن أنس بن مالك، قال: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: "مَنْ طَلَبَ القَضَاءَ وَاسْتَعَانَ عَلَيْهِ وُكِلَ إِلَيْهِ، وَمَنْ لَمْ يَطْلُبْهُ وَلَمْ يَسْتَعِنْ عَلَيْهِ أَنْزَلَ اللهُ مَلَكاً يُسَدِّدُهُ"، وأخرجه الترمذي، وقال: إنه حسن غريب.
وروى مسلم والبخاري [وغيرهما] مختصراً ومطولاً عن عبد الرحمن بن
سمرة، قال: قال رسول الله- صلى الله عليه وسلم: "يَا عَبْدَ الرَّحْمَنِ بْنَ سَمُرَةَ، لَا تَسْأَلِ الْإِمَارَةَ، فَإِنَّكَ إِنْ أُعْطِيْتَهَا عَنْ مَسْأَلَةٍ وُكِلْتَ فِيْهَا إِلَى نَفْسِكَ، وَإِنْ أُعْطِيْتَهَا عَنْ غَيْرِ مَسْأَلَةٍ أُعِنْتَ عَلَيْهَا"، ولأن في القضاء من الخطر ما [لا] يحصر؛ قال عليه السلام:"مَنْ وَلِيَ القَضَاءَ فَقَدْ ذَبَحَ بِغَيْرِ سِكِّيْنٍ" خرجه أبو داود عن أبي هريرة، وقال الترمذي: إنه حسن غريب من هذا الوجه.
وقد قيل في معناه: إن من تصدر للقضاء فقد تعرض للذبح؛ لأنه يريد أن يحكم على الصديق والعدو والقريب والبعيد بحكم [واحد]؛ فليحذره.
وقيل: إنه بتوليته يصبر كالمذبوح؛ لأنه يحتاج إلى أن يميت شهوته ويكسر نفسه ويقهرها ويمنعها عن التبسط ومخالطة الناس.
وقوله: "بغير سكين"، قال الخطابي: يحتمل وجهين:
أحدهما: أن الذبح في ظاهر العرف وغالب العادة بالسكين، فعدل صلى الله عليه وسلم عن
ذلك؛ ليعلم أن المراد: ما يخاف عليه من هلاك دينه دون هلاك بدنه.
الثاني: أن الذبح الموحِي المريح للذبيحة إنما يكون بالسكين، فإذا كان بغير سكين كان خنقاً وتعذيباً؛ فضرب المثل؛ ليكون أبلغ في الحذر منه.
والأخبار المحذرة في هذا الباب كثيرة.
قال مجلي: قال بعض أصحابنا: وهذا إذا لم يستشعر من نفسه ميلاً. أما إذا استشعر فلا يجوز.
وقال في الوسيط: إن الأمر لا ينتهي إلى التحريم بمجرد الاستشعار.
قال: إلا أن يكون محتاجاً فلا يكره، أي: التعرض له؛ لطلب الكفاية، أو خاملاً، أي: غير مشهور بين الناس، فلا يكره؛ لنشر العلم.
وحكى ابن الصباغ عن بعض الأصحاب: أنه يستحب الطلب في هاتين الحالتين، وأنه يجوز بذل المال؛ لتحصيله، وقد وافق القاضي أبو الطيب هذا القائل في استحباب الطلب، وبه أجاب في "المهذب" و"التهذيب" في الحالة الثانية.
وحكى الزبيلي في "أدب القضاء" له عن بعض أصحابنا: أنه يستحب له طلب القضاء، ولم يقيده بحالة من الحالات، وحكاه مجلي- أيضاً- فيما إذا كان الرجل واثقاً بنفسه، وقال: إنه أقيس. ومثل الوثوق بالنفس بما إذا كان قد جربها بالولاية، وقد أبداه في "الوسيط" احتمالاً.
وعلى هذا الوجه ينطبق قول الأصحاب- كما حكاه مجلي وغيره-: إن تولي القضاء أهم من الجهاد؛ لأن الجهاد طلب الزيادة، والقضاء حفظ للحاصل وضبطه.
قال مجلي: وعنوا بذلك ما حصل من أحكام الشريعة؛ فإن ضبط أحكامها وحفظ نظامها من تطرق خلل ووقوع ذلك، أهم من ابتغاء سواه.
وهذا التعليل- كما قال [ابن] شداد في كتابه المترجم بـ "ملجأ الحكام عند التماس الأحكام"- يرشد إلى أن مرادهم الجهاد الذي أنشئ لاستزادة بلاد في خطة بلاد المسلمين، واستزادة أعداد من يقول بالإسلام، أما الجهاد الذي أنشئ لدفع
العدو عن المسلمين بعد أن وطئ بلادهم فلا يكون القضاء أهم منه، بل ذلك أهم من القضاء، والمفسدة المتوقعة أعم، حتى لو فرض شخص تعين القضاء، وتعين لدفع الضرر عن الإسلام والمسلمين لكونه متبعاً مطاعاً- لكان اشتغاله بدفع العدو أولى بمقتضى هذه العلة.
وكذا قول الإمام وابن الصباغ وصاحب "الكافي" وغيرهم: إن القضاء من أعلى القربات، واستدلوا لذلك بما روي [أن] ابن مسعود قال: لأن أجلس فأقضي بين اثنين بحق واجب [أحب] إلي من عبادة سبعين سنة. واستأنسوا في ذلك بآيات وأخبار نذكر منها ما تيسر:
فمنها: قوله تعالى: {وَإِذَا دُعُوا إِلَى اللَّهِ وَرَسُولِهِ لِيَحْكُمَ بَيْنَهُمْ إِذَا فَرِيقٌ مِنْهُمْ مُعْرِضُونَ} [النور: 48]، قدم الله- تعالى- من يمتنع عن الإجابة إلى القضاء، ومدح من يجيب إليه [إذا دعي] بقوله:{إِنَّمَا كَانَ قَوْلَ الْمُؤْمِنِينَ إِذَا دُعُوا إِلَى اللَّهِ وَرَسُولِهِ} الآية؛ فدل [ذلك] على علو قدره.
ومنها: ما روي أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: "لَيومٌ مِنْ إِمَامٍ عَادِلٍ أَفْضَلُ مِنْ عِبَادَةِ سِتِّينَ سَنَةٍ، وَحَدٌّ يُقَامُ فِي أَرْضِ اللهِ بِحَقِّهِ أَزْكَى مِنْ مَطَرِ أَرْبَعِينَ خَرِيفاً".
وقال عليه السلام: "سَبْعَةٌ يُظِلُّهُمُ اللهُ فِي ظِلِّ عَرْشِهِ يَوْمَ لَا ظِلَّ إِلَّا ظِلُّهُ: إِمَامٌ عَادِلٌ .. ".
وقال صلى الله عليه وسلم: "إِذَا جَلَسَ القَاضِي لِلحُكْمِ بَعَثَ اللهُ تَعَالَى [إِلَيْهِ] مَلَكَيْنِ يُسَدِّدَانِهِ: فَإِنْ عَدَلَ أَقَامَا، وَإِنْ جَارَ عَرَجَا وَتَرَكَاهُ".
وروى أبو داود عن أبي قيس مولى عمرو بن العاص [عن عمرو بن العاص] قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "إِذَا حَكَمَ الحَاكِمُ فَاجْتَهَدَ فَأَصَابَ فَلَهُ أَجْرَانِ، وَإِذَا حَكَمَ فَاجْتَهَدَ وَأَخْطَأَ فَلَهُ أَجْرٌ"، فحدثت به أبا بكر بن حزم، فقال: هكذا حدثني أبو سلمة عن أبي هريرة. وأخرجه البخاري ومسلم والترمذي والنسائي وابن ماجة مطولاً ومختصراً.
قال القاضي أبو الطيب: وقوله صلى الله عليه وسلم: "مَنْ جُعِلَ قَاضِياً، فَقَدْ ذُبحَ بِغَيْرِ سِكِّينٍ"،
محمول على الخائن أو الجاهل؛ لما روى أبو داود عن أبي بردة عن أبيه عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: "القُضَاةُ ثَلَاثَةٌ: وَاحِدٌ فِي الجَنَّةِ، وَاثْنَانِ فِي النَّارِ، فَأَمَّا الَّذِي فِي الجَنَّةِ فَرَجُلٌ عَرَفَ الحَقَّ فَقَضَى بِهِ، وَرَجُلٌ عَرَفَ الحَقَّ فَجَارَ فِي الحُكْمِ فَهُوَ فِي النَّارِ، وَرَجُلٌ قَضَى لِلنَّاسِ عَلَى جَهْلٍ فَهُوَ فِي النَّارِ"، وأخرجه الترمذي وابن ماجة.
وقال ابن الصباغ: الأحاديث المحذرة دالة على عظم قدره [وصعوبة أمره؛ حتى لا يقدم عليه من لا يجد من نفسه قوة في دينه] وبصيرة ثاقبة في علمه، وليجتهد في طلب الحق عادلاً عن الهوى والميل، وما جاء في حديث عبد الرحمن بن سمرة والذي قبله محمول على [من سأل] ذلك لمجرد الرياسة وطلباً للنيل، ومن استحبه فإنما يستحبه إذا قصد به القربة.
وقد بالغ الإمام في "الغياثي"، فقال: الذي أراه أن القيام بما هو من فروض الكفايات أحرى بإحراز الدرجات، وأعلى في فنون القربات من فرائض الأعيان المحتومات؛ فإن ما تعين على المتعبد المكلف لو تركه ولم يقابل أمر الشرع فيه بالارتسام اختص المأثم به، ولو أقامه فهو المثاب عليه، ولو فُرِضَ تعطيل فرض من فروض الكفايات لعم المأثم الكافة على اختلاف الرتب والدرجات، فالقائم به كافٍ نفسه وكافة المخاطبين الحرج والعقاب، وأمل أفضل الثواب، ولا يهون قدر
من يحل محل المسلمين أجمعين في القيام بمهم من مهمات الدين.
وعكس هذا في التعالي ما حكى ابن كج عن بعض الأصحاب: أن القضاء مكروه؛ احتجاجاً بالأحاديث المحذرة، وعبر عنه الزبيلي بأن تركه أولى، أما إذا عرض عليه ذلك وقلنا بعدم تعينه عليه، فقد قال الغزالي: الأولى القبول.
ويمكن حمل ما حكيناه عن الأصحاب على هذه الحالة، وهو الأشبه، وقال البندنيجي وأبو الطيب في حالة عدم الحاجة والخمول: إنه لا يستحب له الدخول فيه، وفي حالتي [الحاجة أو الخمول: يستحب له الدخول.
وعبارة ابن الصباغ] وصاحب المرشد في حالة عدم الحاجة والخمول: الأولى عدم الدخول؛ ليتفرغ لتعليم العلم والفتوى، وعلى هذه الحالة يحمل امتناع ابن عمر- رضي الله عنهما عن القضاء حين دعاه عثمان، وفي حالة الحاجة أو الخمول الأولى الدخول، وحديث عبد الرحمن بن سمرة والذي ذكرناه قبله يدل لما حكاه الغزالي.
وسلك الماوردي في "الحاوي" طريقاً آخر فيما نحن فيه، فقال: للطلب خمسة أحوال: مستحب، ومحذور، ومباح، ومكروه، ومختلف فيه:
فالأول: إذا كانت الحقوق مضاعة بجور أو عجز، والأحكام فاسدة بجهل أو هوى، فيقصد بطلبه حفظ الحقوق وحراسة الأحكام؛ لأن المطلوب به أمر بمعروف ونهي عن منكر، وفي هذه الحالة يستحب له بذل المال؛ لتحصيله أيضاً.
والثاني: إذا قصد بطلبه انتقاماً من أعداء أو مكسباً بارتشاء؛ لأنه قصد به ما يأثم به، وبذل المال في هذه الحالة [لحصوله] محرم أيضاً.
والثالث: إذا قصد به استمداد رزقه من بيت المال، أو استدفاع الضرر به؛ لأن المقصود به مباح، والبذل في هذه الحالة إن كان بعد الولاية لم يحرم على الباذل، وإن كان قبله حرم عليه.
والرابع: إذا طلبه للمباهاة والاستعلاء به؛ لأن المقصود به مكروه؛ قال الله تعالى: {تِلْكَ الدَّارُ الآخِرَةُ نَجْعَلُهَا لِلَّذِينَ لا يُرِيدُونَ عُلُوّاً فِي الأَرْضِ وَلا فَسَاداً} [القصص: 83]،
وفي هذه الحالة بذل المال مكروه- أيضاً- والآخذ آثم في كل الأحوال.
وقد [حكى] عن ابن خيران [وابن القاص] وآخرين إطلاق القول بأن البذل محظور، وبأن قضاءه إذا ولي مردود، وحكى الماوردي عند الكلام في قبول الهدايا: أن الباذل إن كان مستغنياً عن الولاية حرم عليه البذل، وإن كان محتاجاً إليهالم يحرم.
والخامس: إذا طلبه رغبة في الولاية والنظر، فقد اختلف فيه أصحابنا والسلف قبلهم على ثلاثة مذاهب:
أحدها: يكره أن يكون له طالباً، ويكره أن يجيب إليه مطلوباً.
[والثاني: يستحب له أن يكون طالباً، وأن يجيب إليه مطلوباً].
[والثالث- قال: وهو أعدلها-: يكره أني كون طالباً، ويستحب أن يجيب إليه مطلوباً].
وإذا كان ثمن من هو أفضل منه، فالكلام في ذلك يبنى على صحة تولية القضاء للمفضول مع وجود الفاضل، [وفيه خلاف عند الأصوليين مرتب على الخلاف في انعقاد إمامة المفضول مع وجود الفاضل]، وأولى بالانعقاد، وهو الذي صححه الرافعي والغزالي، وحكاه الإمام عن الأكثرين، وقال: إنه المختار.
والفرق على هذا بين الإمامة، والقضاء: أن ما يحصل من نقض القاضي الإمام من وراء نظره فينجبر بنظر الإمام، وما فات من فضل الإمام لا جابر له.
وفرق الماوردي: بأن القضاء نيابة خاصة؛ فجاز أن يعمل فيها على اختيار المستنيب، والإمامة ولاية عامة؛ فلم يصح فيها تفريط أهل الاختيار؛ لافتياتهم على غيرهم، فإن قلنا بعدم الانعقاد كان طلبه حراماً، وكذلك القبول، ويحرم على الإمام التولية، وإن قلنا بالصحة: فإن امتنع الفاضل من القبول فهو كالمعدوم، وإن لم يمتنع فالقبول جائز إن ولي بغير مسألة، والأولى ألا يقبل.
قال البغوي والغزالي: والطلب مكروه.
وعن القاضي الحسين: أن الطلب من الطالب حرام، ويكره للإمام أن يوليه القضاء، فإن ولاه انعقد، ويكره له التقليد إن أمكنه أن يتعلل.
قال الإمام: ودعواه تحريم الطلب [مع تصحيح نصب المفضول خطأ، وقد [قال:] يكره للإمام أن ينصبه، وحكم الطلب] يتلقى من حكم النصب، ولو كان الموجود في البلد دونه، فإن قلنا: لا تنعقد ولاية المفضول، فقد تعين، وحكمه سبق، وإن قلنا: تنعقد، كان الأولى له القبول؛ لتحصل بذلك المزية للمسلمين، وقيل: يجب إذا قلد من غير مسألة.
قال الرافعي: وهذا الخلاف قريب من الخلاف المذكور فيما إذا امتنع الكل، هل يجبر الإمام أحدهم؟ والأظهر هنا: عدم الوجوب؛ لأنه قد يقوم به غيره.
قلت: بل هو قريب من الخلاف الذي حكيته عن ابن الصباغ وغيره في أن الإمام إذا عين واحداً ابتداء للقضاء مع مساواته لغيره، هل يجب عليه عيناً؟ ويظهر أن يكون الأظهر ها هنا: الوجوب؛ لامتياز هذا بالفضل الذي [قيل: إنه] سبب التعيين.
وقد قال الماوردي: إذا تكاملت شروط القضاء في جماعة، وكان فيهم طالب للولاية وفيهم ممسك، فالأولى تقليد الممسك، فإن امتنع [لعذر لم يجبر، وإن امتنع] لغير عذر ففي جواز إجباره عليه وجهان، فإذا كان هذا لأجل فضل الامتناع فكيف بك [في] غيره؟!
والطلب جائز بل مستحب، قال الرافعي:[وحيث] استحببنا الطلب والتقليد أو أبحناهما، فذاك عند الوثوق وغلبة الظن بقوة النفس، وأما عند الاستشعار فينبغي أن يحذر؛ فإن أهم الغنائم حفظ السلامة.
وبالجملة: فالذي [كان] عليه الشافعي- رضي الله عنه الامتناع من الدخول فيه، وكذا الصدر الأول من أصحابه، وكذا الذين يلونهم، ثم الذين يلونهم؛
[اقتفاء] لأثره، حكى القاضي أبو الطيب: أنه [روي أن] المأمون كتب إلى الشافعي يستدعيه؛ ليولِّيه القضاء في الشرق والغرب؛ فأبى، وجعا المزني في مرض موته، ونهاه عن توليه القضاء، وأظهر له كتاب المأمون، وقال: إني لم أظهره لأحد غيرك.
وحكي- أيضاً-: أن أبا القاسم الصيدلاني المقري حدثه، فقال: كنت أمشي [مع] أبي بباب الشام، فأراني دكاكين [مختمة]، فقال: أبصر هذا؛ حتى تحكي: هذا عقار أبي علي بن خيران، استدعاه ابن الفرات للقضاء؛ فهرب؛ فختم عقاره حتى يظهر.
وروي أن أبا علي بن خيران صاحب أبي العباس ابن سريج كان يعاتب ابن سريج على توليه القضاء، ويقول له: هذا الأمر لم يكن في أصحابنا، إنما كان في أصحاب أبي حنيفة، يعني: أبا يوسف وغيره، وأول من دعي بقاضي القضاة في الإسلام: أبو يوسف، حين ولاه المهدي، ثم أقره الرشيد.
وقد حكي: أن أبا حنيفة- رحمه الله ممن امتنع من الدخول فيه، حكى القاضي أبو الطيب: أن المنصور استدعى سفيان الثوري وأبا حنيفة وشريكاً؛ فهرب سفيان من الطريق، فعرض على أبي حنيفة [القضاء] فامتنع، وقال: أنا لا أصلح له، وعرض على شريك فاعتذر بعلل، فأزاحها وقلده القضاء.
وروى أبو جعفر محمد بن جرير الطبري في "تاريخه الكبير" وغيره: أن المنصور طلب أبا حنيفة- رحمه الله للقضاء، فأبى، فحلف المنصور ليفعلن، وحلف أبو حنيفة: إنه لا يفعل، فقال له الربيع: يحلف أمير المؤمنين وتحلف أنت؟! فقال: أمير المؤمنين أقدر على كفارة يمينه منِّي، فحبسه المنصور أياماً، ثم أحضره، فقال [له] أبو حنيفة: يا أمير المؤمنين أنا لا أصلح للقضاء، فإن كنت صادقاً فلا أصلح، وإن كنت كاذباً فلا أصلح؛ للكذب، فرده إلى الحبس، وضربه بالسياط،
فلم يلِ، فأطلقه.
قال ابن أبي الدم: وهذه الرواية الصحيحة، وغلا فقد روي: أنه لما توعده إن لم يلِ، أجاب؛ فولاه قضاء الرصافة التي بناها المنصور لابنه المهدي، فقعد يومين لم يأته أحد، فلما كان اليوم الثالث حضره رجلان، فادعى أحدهما على الآخر [درهمين] أربعة دوانيق، فأنكره، فطلب يمينه، فقال له: قل: والله، فشرع في اليمين، فلما رأى إقدامه على اليمين دفع إليه ذلك [من ماله،] ثم مرض بعد يومين، ثم مات بعد ستة أيام، رحمه الله.
وروى الخطيب أبو بكر البغدادي: أن الشافعي- رضي الله عنه ولي القضاء بنجران من بلاد اليمن يومين أو ثلاثة، ثم حمل إلى بغداد، والصحيح: أن أبا حنيفة والشافعي- رضي الله عنهما لم يلياه البتة.
فائدة- ضمنها تنبيه:
قال الرافعي: طرق الأصحاب متفقة في تعين الشخص للقضاء، وعدم تعينه [على النظر] إلى البلد والناحية لا غير.
قلت: وعليه ينطبق قول أبي الطيب: الذي يجب عليه أن يتولى القضاء رجل ذو علم وأمانة، وليس في البلد غيره؛ فإنه يجب عليه أن يتولى [قضاء] ذلك البلد.
وقول القاضي الحسين: فإن لم يكن في بلده من يصلح للقضاء، فلا يكره له طلب القضاء، بل يستحب، وإن قيل: يفترض عليه فرض عين، لم يبعد، وقول الإمام: وإن لم يكن في الناحية من يصلح غيره افترض عليه أن يتعرض.
[قال الرافعي]: وقضية ذلك ألا يجب على من يصلح للقضاء طلب القضاء ببلدة [أخرى لا صالح [له] فيها، ولا قبوله إذا ولي، وأنه يجوز أن
يفرق] بينه وبين سائر فروض الكفايات المحوجة إلى السفر: كالجهاد، وتعلم العلم، ونحوهما؛ فإنه يمكن القيام بتلك الأمور والعود إلى الوطن، وتحمل القضاء لإيجابه له والانتقال إليه هجرة، وترك الوطن بالكلية تغريب.
قلت: وفي هذا نظر؛ لأن ابن الصباغ وغيره قالوا: إذا كان الإمام في بلد، واحتاج بلد آخر إلى قاض- فإنه يلزمه أن يبعث إليهم قاضياً؛ لأنه لا غنى بهم عنه، ولا يكلفون المصير في خصوماتهم إلى بلد الإمام، وقد بعث رسول الله صلى الله عليه وسلم عليّاً إلى اليمن قاضياً، وإذا كان بعث القاضي على الإمام متعيناً، فلا بد من مبعوث يجب عليه المضي، وحينئذ فيعود الكلام إلى تعينه؛ لكونه لا صالح له غيره، أو كونه فرض كفاية [لصلاحية جمع] له، وأيضاً فإن الإمام لو ولي البلد لواحد من غيرها مع وجود صالح فيها صح، وهذا يمنع حقيقة التعين لو كان التصوير خاصّاً بما ذكره، والله أعلم.
قال: ويجوز أن يكون في البلد قاضيان فأكثر، [ينظر كل واحد منهم في موضع؛ لأن نيابة القاضي عن الإمام فكانت على] حسب الاستنابة؛ كالوكالة، ولا فرق بين أن يكون ذلك في غير بلد الإمام، أو في بلده؛ كما جرت به العادة ببغداد، وإذا جاز ذلك في البلد الواحد؛ ففي البلاد أولى أن يجعل لكل بلد قاض، وهذا بخلاف الإمامة؛ حيث لا يجوز أن يكون في كل ناحية إمام مع القدرة على شمول نظره الناحيتين اتفاقاً؛ لأن القصد ثم جمع الكلمة، ولا يحصل مع الافتراق.
قال الماوردي: وإذا ولي في بلد قاضيان [كان] كما إذا ولي في جانب
مُضَر من البصرة واحد، وفي جانب ربيعة منها [آخر]- نظر كل واحد في جانبه بين أهله دون الطارقين إليه، ولا يتعداهم، وفيه نظر إن صحت النسخ. هكذا قال، ولو تحاكم من الجانبين رجلان، فدعا كل واحد منهما إلى قاضي جانبه- نظر: فإن كانا عند التنازع قد اجتمعا في أحد الجانبين أجيب قول من [هو في جانبه]، طالباً كان أو مطلوباً، وإن كان كل واحد منهما في جانبه، فليس لواحد منهما أن يجبر الآخر على المحاكمة إلى قاضيه.
فرع: لو كان بين الجانبين موضع مشترك بينهما، روعي الأغلب عليه في إضافته إلى أحدهما، ويجعل داخلاً فيه، فإن استوى الأمران دخل في ولاية قاضي كل جانب ما كان أقرب إليه من غيره.
وقد احترز الشيخ بقوله: ينظر كل واحد منهما في موضع، عما إذا ولي قاضيان في بلد، لينظر كل واحد منهما فيه بين جميع أهله، إما بشرط عدم الاستقلال دون مراجعة صاحبه، أو مع الاستقلال؛ فإن الأصحاب متفقون على عدم الصحة عند اشتراط اجتماعهما على القضاء؛ لأن اختلاف الاجتهاد غالب والتقليد ممتنع؛ فيؤدي إلى بقاء الخصومات واستمرار المنازعات، واختلفوا في الصحة عند إثبات الاستقلال [لكل واحد] على وجهين:
أصحهما- عند الإمام في "الغياثي": المنع، وعلى ذلك ينطبق قول مجلي: إن الأصحاب صححوه. واختاره في "المرشد"؛ لإفضاء ذلك إلى التشاجر والتنازع عند الترافع؛ لعدم مزية أحدهما على الآخر، وخالف ما إذا كان الإمام في بلد وولى قاضياً فيه، أو استخلف القاضي نائباً؛ فإن المنازعة مرتفعة؛ لترجيح دعوى طالب الأصل؛ كما أشار إليه الإمام في "النهاية"، وسيأتي حكاية مثله عن الماوردي عند الكلام في الاستخلاف.
والثاني- وهو ما ادعى الماوردي أنه قول الأكثرين، وصححه الرافعي وابن أبي الدم، وقال في "البحر": إن الشافعي نص عليه-: الجواز؛ لأنها استنابة كالوكالة.
وعلى الوجهين فرعان:
أحدهما: إذا قلنا بالمنع، قال الرافعي والماوردي وغيرهما: فلو جمع بينهما في التقليد بطلت ولايتهما، وإلا صحت ولاية الأول، وبطلت ولاية الثاني.
قلت: والأشبه: بناء ذلك على أن الإمام إذا عزل [القاضي] من غير مستند، هل ينعزل؟ وفيه كلام سنذكره عند قول الشيخ:"فإن مات القاضي الكاتب"، فإن قلنا: إنه لا ينعزل، فالأمر كما قالوه؛ لأنه شبيه في هذه الحالة بالإمام، وإن قلنا: إنه ينعزل، وهو ما أورده الماوردي وغيره- كما سنذكره- فينبغي أن تكون ولاية القاضي الثاني صحيحة، متضمنة لعزل الأول، ويشهد لذلك أمران:
أحدهما: ما حكاه الماوردي من أن الإمام إذا ولى شخصاً إقليماً يعجز عن النظر في جميع نواحيه، فإن له أن يقلد فيه من ينظر فيه، وكذلك الإمام، فإذا ولى الإمام فيه شخصاً انعزل الأول عن تلك البقعة.
والثاني: أن البائع إذا باع المبيع في زمن الخيار من آخر صح بيعه للثاني، وكان فسخاً للعقد الأول على الصحيح؛ كما ذكرناه في موضعه؛ لأن العقدين لا يمكن اجتماعهما في الصورتين، بل العزل هنا أولى من الفسخ ثم؛ لأن البيوع [الأصل] فيها اللزوم، فالقدرة فيها على الفسخ على خلاف الأصل، والقضاء على الوجه الذي عليه نفرع عقد جائز؛ كالوكالة، فتطرق الرفع إليه من مقتضاه.
ومما يؤيد صحة البناء الذي ذكرته: أن الرافعي حكى عند الكلام في العزل عن بعض الشروح ذكر وجهين: في أن تولية قاض بعد قاض، هل تكون عزلاً للأول أم لا؟ ثم قال: وليكونا مبنيين على أنه هل يجوز أن يكون في البلد قاضيان؟ وهذا عين المدعي.
الثاني من الفرعين: إذا قلنا بالجواز، فإذا اتفق ذلك، قال الماوردي عند الكلام في العزل: إن اقترن بتقليد الثاني شواهد عزل الأول وانعزل بتولية الثاني، وإلا كانا شريكين في النظر، وفي هذه الحالة إذا استحضر رجلان شخصاً كل منهما إلى قاض أجاب من سبق داعيه، فإن جاءا معاً أقرع بينهما. قاله القاضي الحسين والإمام وغيرهما.
وقد نسب هذا للشيخ أبي علي، وفي بعض الكتب: أن في "الذخائر": أنهما إذا جاءا معاً قدم بالقرب، فإن استويا في القرب فالقرعة، ولم أره. كذا.
ولو اختلف الخصمان في التجاذب إلى كل واحد من القاضيين، أطلق الغزالي تحكيم القرعة، وفي "الحاوي": أنه يغلب جانب الطالب، فلو كان كل منهما طالباً ومطلوباً رجح جانب الأقرب من القاضيين، فإن استويا في القرب فوجهان:
[أحدهما- وهو الأظهر] في "الرافعي"-: القرعة.
والثاني: يقطع التنازل بينهما حتى يتفقا على الرضا بأحدهما.
فرع: إذا أطلق الإمام نصب اثنين، ولم يشترط عليهما الاجتماع، ولا صرح بالاستقلال- فعن صاحب "التقريب": أنه يحمل على [إثبات] الاستقلال؛ تنزيلاً للمطلق على ما يجوز، وعن غيره: أن التولية فاسدة، ما لم يصرح بالاستقلال.
واعلم أنه كما يجوز [نصب قاضيين في بلد كل [منهما] في جانب، يجوز نصبهما فيه على] أن يحكم كل منهما في أيام معينة من كل أسبوع [أو من أسبوع واحد، وتبقى الولاية في الحالة الأولى مستمرة على النحو المشروط،] وتنقطع بمضي المدة المعينة في الثانية، ولو أطلق الولاية حملت على الأسبوع الأول لا غير، ولا يجوز لواحد منهما أن يحكم في غير نوبته، وعن القاضي ابن كج حكاية وجه فيما إذا قال: قلدتك القضاء سنة، أن التولية تبطل كما في الإمامة، والظاهر: الأول؛ تشبيهاً بالوكالة، ولو كان كالإمامة لما جاز تخصيصه ببعض الأمور.
وقد قال الأصحاب: إنه لو فوض لأحدهما الحكم بين من يرد داره أو مسجده من الخصوم وللآخر مثل ذلك، أو فوض لأحدهما الحكم بالإقرار دون البينة، وللآخر عكس ذلك، أو فوض لأحدهما الحكم بين الرجال، وللآخر الحكم بين النساء، أو لأحدهما الحكم بين العرب، وللآخر الحكم بين العجم- جاز، وفي
الحالة الأخيرة لو كان [في العجم] موالٍ للعرب، ففي أحق القاضيين بالنظر في أحكامهم وجهان مبنيان على الخلاف في موالي ذوي القربى، هل يحرم عليهم من الصدقات ما يحرم على ذوي القربى أم لا؟
وإذا وقع التنازع بين رجل وامرأة في الصورة السابقة على الأخيرة، أو بين عربي وعجمي في الصورة الأخيرة- فقد أطلق القاضي الحسين والإمام قبيل كتاب القسام: أن واحداً من القاضيين لا يفصل بينهما الخصومة.
وقال [القاضي الماوردي] في "الحاوي": إن لهما حالتين.
إحداهما: أن يتفقا على التحاكم إلى قاضي أحدهما، فإن كان ذلك قاضي المطلوب نفذ حكمه فيهما؛ لأنه مندوب إلى استيفاء الحقوق من أهل نظره، وإن كان قاضي الطالب ففي نفوذ حكمه وجهان مخرجان من قولي التحكيم.
والحالة الثانية: أن يتجاذب المتنازعان ويدعو كل [واحد] منهما إلى قاضيه- ففيه وجهان: أحدهما:
يوقف تنازعهما حتى يتفقا على أحد القاضيين، ويكون الحكم كما تقدم.
والثاني: يجتمع القاضيان على سماع الدعوى، فإن امتنعا أثما وأجبرا عليه، وتفرد بالحكم قاضي المطلوب، فإن اقتضى الحكم سماع البينة تفرد بسماعها قاضي المشهود عليه، وإن وقف الحكم على يمين استوفاها قاضي الحالف؛ ليكون الحكم في الأحوال كلها نافذاً من قاضي المطلوب دون الطالب.
قال: ولا يصح القضاء، أي: وإن تعين على شخص لتفرده في عصره [بشروطه]، إلا بتولية الإمام أو من فوض إليه الإمام، أي: التولية إما بالتصريح، أو لدخولها في عموم ولايته، كما سنذكره، ووجهه: أنه ولاية لحق المسلمين، وهو من الأمور العظام؛ فاحتيج فيه إلى نظر الإمام، ولأن الولاية عقد،
والعقد يفتقر إلى عاقد، فاختص به الإمام ونائبه؛ لأنه الناظر للمسلمين، وهذا بخلاف من تعينت عليه الإمامة؛ فإن من فقهاء العراق والمتكلمين من [قال] بحصول الإمامة له بالتعين من غير عقد، وفرقوا بأن القضاء نيابة خاصة، يجوز عزل القاضي عنها بعد التولية مع بقائه على صفته بخلاف الإمامة.
قال الماوردي: وقد شذ بعض أهل المذهب، فسوَّى بين الإمامة والقضاء في انعقادهما عند التعين من غير عاقد، والجمع بينهما في الصحة أفسد، وفي البطلان أصح.
قلت: والقائل بالتسوية يجوز أن يكون هو القائل بعدم انعزال القاضي بالعزل مع بقائه على صفة القضاء كما سنذكره؛ لانتفاء الفارق عنده.
ثم لا فرق عند الرافعي والبغوي فيمن فوض إليه تولية القضاء بين أن يكون أهلاً للقضاء أو لا؛ لأنه سفير.
وفي "الحاوي" و"البحر": أنه لو رد إلى امرأة تقليد قاض، لم يجز؛ لأنه لا يجوز أن تكون والية، فلا تكون مولية. وهذا يقتضي أن يكون المولي بصفة من يصلح للقضاء، وقد اتفقوا على أنه لو رد إلى امرأة اختيار قاض، جاز؛ لأن الاختيار اجتهاد، فجاز لها كالفتوى.
وإذا علمت انحصار تولية القضاء فيمن ذكرناه، عرفت أن تولية القضاء فرض على الإمام عيناً في كل ناحية أو بلد عرف أنها خالية عن القاضي: إما بأن يبعث إليهم قاضياً من عنده، أو يختار منهم من يصلح لذلك.
قال الماوردي: ولا يجوز أن يتوقف حتى يسأل؛ لأنها من الحقوق المسترعاة، فإن عرف حال من يوليه علماً وعدالة فذاك، وإلا أحضر أهل العلم، واختار منهم واحداً بعد معرفة علمه بالاختيار، وعدالته بسؤال خلطائه والجيران.
وقال: إنه يكفي [في] معرفة صلاحيته الاستفاضة، وكذا شهادة شاهدين بتكامل شروط القضاء فيه، ويختبره المولي ليتحقق لاختياره صحة معرفته، وهل يكون
اختياره بعد الشهادة واجباً أو مستحبّاً؟ فيه وجهان، ولو ولاه قبل المعرفة بحاله لم تنعقد، وإن ظهرت أهليته بعد ذلك.
قال الرافعي وغيره: قال الماوردي: وقد تكون التولية في حق غيره فرض عين أيضاً، وهو ما إذا ولى الإمام شخصاً قضاء إقليم، وكان يعجز عن النظر [في جميع النواحي؛ فإنه يجب عليه عيناً تقليد القضاء فيما [إذا عجز] عن مباشرته إذا كان بعيداً عن نظر الإمام، وإن كان قريباً منه كان فرض التقليد مشتركاً بينه وبين الإمام، ومتعيناً عليهما دون غيرهما، فأيهما انفرد بالتقليد سقط فرضه عنهما، ولكن الإمام إذا ولى كان عزلاً للقاضي عن ذلك المحل، إلا أن يصرح في التقليد باستنابته [عنه]، وفي هذه الحالة، هل يجوز [للقاضي] عزله؟ فيه وجهان.
وهذا كله إذا كان للأمة إمام، فلو خلا الزمان عنه وعن سلطان ذي نجدة واستقلال وكفاية ودراية، فقد أطلق الإمام في "الغياثي" القول بأن الأمور موكولة إلى العلماء، وأنه حق على الخلائق على اختلاف طبقاتهم أن يرجعوا إلى علمائهم، ويصدروا في جميع قضاء الولايات عن آرائهم، فإن فعلوا ذلك صار العلماء ولاة العباد، فإن عسر جمعهم على واحد استقل أهل كل صقع وناحية بإتباع علمائهم، وإن كثر العلماء في الناحية فالمتبع أعلمهم، فإن فرض استواء- على نُدُور- فإن اتفقوا على تقديم واحد فذاك، وإن تنازعوا، وأفضى الأمر إلى خصام وشجار- فالوجه عندي: الإقراع؛ فمن خرجت له القرعة قدم.
وفي "الحاوي": أنه إن خلا بلد عن قاض، ولم يمكن أهله أن يتحاكموا إلى حاكم بأقرب البلاد إليهم، وخلا العصر عن إمام، وكان لا يرجى تولية إمام بعد زمان قريب، فقلد جميع أهل الاختيار منهم، أو بعضهم- وقد ظهر رضا الباقين بالسكوت وعدم الاختلاف-[شخصاً] وأمكنهم نصرته وتقوية يده- كان تقليده جائزاً؛ حتى لا يتغالبوا على الحقوق، ولو انتفى شيء من ذلك لم يجز، حتى لو قلد بعض أهل
الاختيار وأنكر البعض لم يصح، وإن كان لا يضر [مثل] ذلك في عقد الإمامة، والفرق: أن ولاية الإمام عامة في جميع البلاد التي [لا] يمكن اجتماع أهلها على الاختيار؛ فسقط اعتبار الاجتماع لتعذره، وولاية القضاء [على بلد واحد] يمكن اجتماع أهل الاختيار عليه؛ فلزم اعتبار اجتماعهم لأحكامهم، اللهم إلا أن يكون للبلد جانبان، فرضيه أهل أحد الجانبين دون الآخر؛ فإنه يصح ولايته في الجانب الذي رضي أهله قضاءه، ويكونان كالبلدين، وإذا صحت ولايته لزمت أحكامه في الجانب الذي رضي أهله قضاءه، ويكونان كالبلدين، وإذا صحت ولايته لزمت أحكامه طوعاً وكرهاً، فلو تجدد إمام لم ينقض له حكماً، وله عزله، ولم يجز للقاضي أن يستأنف النظر إلا بعد إذن الإمام، بخلاف ما لو كان المولي له إماماً، ثم تولى غيره؛ فإنه لا يلزمه استئذانه.
قال: والفرق: وجود الضرورة في تقليد أهل الاختيار وعدمها في تقليد الإمام، وهذا منه بناءً على أن القاضي لا ينعزل بموت الإمام؛ كما هو الصحيح، وسنذكر خلافاً فيه.
قال: ولو أذن له الإمام جاز نظره، وقام مقام التقليد، وإن لم يجز الاقتصار على الإذن في الولايات المستجدة؛ لما تقدم لهذا القاضي من شروط التقليد؛ فكان أخف.
واعلم أن كلام الشيخ في هذا الفصل يتعلق به أمور لابد من ذكرها:
الأمر الأول- صفة العقد:
وهي بالقول مع الحضور، وبالمكاتبة مع الغيبة للضرورة.
قال في "الحاوي": ولا يجوز أن يقتصر على المكاتبة مع الحضور. وقال في "الأحكام": إن تولية القضاء تنعقد بما تنعقد به الوكالة.
قال الرافعي: ويجيء في المكاتبة والمراسلة خلاف مما مَرَّ في الوكالة.
ثم صريح ما تنعقد به من جهة المولي أربعة ألفاظ: قلدتك القضاء، وليتك القضاء،
استخلفتك على القضاء، استنبتك على القضاء؛ كذا قاله في "الحاوي".
وألحق الرافعي بذلك التفويض بصيغة الأمر؛ كقوله: اقض بين الناس، أو: احكم ببلدة كذا؛ كما في الوكالة.
والكنايات في ذلك أربعة- أيضاً-: قد اعتمدت عليك في القضاء، عولت عليك في القضاء، عهدت إليك القضاء، وكلت إليك القضاء. فإن اقترن بأحدها ما يزيل الاحتمال؛ كقوله: فاحكم، أو فانظر- انعقد؛ كما في الصريح، وإلا فلا.
وقد اختلف في أربعة ألفاظ، هل هي صريحة أو كناية؟ على وجهين، وهي: قد عرضت عليك القضاء، رددت إليك القضاء، جعلت إليك القضاء، أسندت إليك القضاء. وأصح الوجهين: أنها كناية، وقد عد في "الأحكام" من جملة الكنايات- كما قال الرافعي- ولم أره [كذا]: فوضت إليك القضاء. ثم قال [الرافعي]: ولا يكاد يتضح فرق بين أن يقول: وليتك القضاء، وبين أن يقول: فوضت إليك.
ولابد من قبول المولى بالقول إن كان حاضراً على الفور، فيقول: قبلت، أو: تقلدت، وإن كان غائباً جاز أن يكون قبوله على التراخي، فإن شرع في النظر قبل القبول فهل يكون شروعه فيه قبولاً؟ فيه وجهان.
قال الرافعي: وقد سبق في الوكالة خلاف في أنه هل يشترط القبول؟ وذكرنا أنه إن كان شرطاً، فالأظهر: أنه لا يعتبر الفور، فليكن ها هنا كذلك، وقد اعتبر الماوردي في صحة القبول شرطين:
أحدهما: أن يعلم استحقاق المولي لما استنابه فيه، فإن لم يعلم ذلك لم يصح قبوله.
وفي "الرافعي": أن في بعض الشروح: أن القاضي العادل إذا استقضاه أمير باغ أجابه إليه؛ لأن عائشة- رضي الله عنها سئلت عن ذلك ما استقضى زياد؟ فقالت: إن لم يقض لهم خياركم قضى لهم شراركم.
وحكى الماوردي [في "الأحكام"] فيه مذهبين؛ حيث قال: وقد اختلف في جواز الولاية من قبل الظالم:
فذهب قوم إلى جوازها؛ لأن يوسف- عليه السلام تولى من قبل فرعون؛ ليكون بعدله دافعاً لجوره.
وذهبت طائفة أخرى على حظرها، والمنع من التعرض لها؛ لما فيها من معونة الظالمين، وتزكيتهم بالتقليد، وأجابوا عن ولاية يوسف من قِبَل فرعون بجوابين:
أحدهما: أن فرعون يوسف كان صالحاً، وإنما الطاغي فرعون موسى.
والثاني: أنه نظر له في أملاكه دون أعماله.
والشرط الثاني: أن يعلم المولى من نفسه أنه استكمل الشرائط المعتبرة في القضاء، فإن علم أنه لم يستكملها لم يصح قبوله، وكان بقبوله مجروحاً.
الأمر الثاني- المحل الذي قلد قضاءه:
فلابد من تعيينه، كقوله: قلدتك قضاء البصرة؛ [فلو قال: قلدتك قضاء البصرة] أو الكوفة، أو [قضاء] أي بلد شئت، أو أي بلد رضيك أهله- كان التقليد فاسداً؛ للجهل بالعمل. وإذا قلد [قضاء] بلد، وأمسك عن ذكر نواحيها وأعمالها، فيعتبر في أعمالها العرف: فإن كان جارياً بإفرادها عنه لم تدخل في ولايته؛ كما لو صرح بعدم دخولها، وإن كان العرف جارياً بإضافتها إليه دخلت في ولايته؛ كما لو صرح بذلك، وإن اختلف العرف في إفرادها وإضافتها روعي أكثرهما عرفاً، فإن استويا روعي أقربهما عهداً، قاله الماوردي، رحمه الله.
الأمر الثالث- تعيين المولى بعد معرفة حاله كما ذكرنا:
فلو قال: وليت أحد هذين، أو من يرغب في القضاء ببلد كذا من علمائها- لم يجز.
وعن القاضي ابن كج حكاية وجهين فيما لو قال لأهل بلدة: اختاروا رجلاً منكم وقلدوه القضاء، و [أن] أشبههما: الجواز، ولو قال: فوضت إلى فلان وفلان، فهذا نصب قاضيين.
قال: وإن تحاكم رجلان إلى رجل يصلح للقضاء، فحكماه في مال- ففيه قولان:
أحدهما: [أنه] لا يلزم ذلك الحكم إلا أن يتراضيا به بعد الحكم.
هذا الفصل ينظم حكمين:
أحدهما: بطريق التضمن، وهو جواز التحكيم في الأموال جزماً.
والآخر: بالتصريح، وهو بيان وقت لزوم الحكم.
فأما الأول: فوجهه أَنَّ عُمَرَ وَأُبَيَّ بْنَ كَعْبٍ تَحَاكَمَا إِلَى زَيْدِ بْنِ ثَابِتٍ فِي نَخْلٍ، وَعُثْمَانُ وَطَلْحَةُ تَحَاكَمَا إِلَى جُبَيْرِ بْنِ مُطْعمٍ- رضي الله عنهم وَلَمْ يُنْكِرْهُ أَحَدٌ؛ فَكَان إجماعاً، وهذا ما حكاه الماوردي عند الكلام في هذه المسألة، والعراقيون حتى [قالي البندنيجي في كتاب اللعان: إن المذهب لم يختلف في ذلك.
وسواء كان في البلد حاكم أو لم يكن؛ كما صرح به البندنيجي وابن الصباغ وغيرهما.
وحكى المراوزة والزبيلي عن الشافعي- رضي الله عنه في صحة التحكيم قولين، وقد [أشار غليهما الماوردي عند الكلام في تحاكم عربي وعجمي وقد] نصب للعرب قاضٍ وللعجم قاضٍ كما حكيناه. [ثَمَّ] قال الرافعي: والإمام والغزالي [رأيا] تضعيف الجواز. ووجهوا مقابله بأن في التجويز عزلاً للحاكم وافتياتاً على الإمام، وأجاب القائل به عن فعل عمر وعثمان- رضي الله عنهما بأنهما كانا إمامين، فإذا ردا إلى من يحكم بينهما وبين منازعهما صار ذلك حاكماً، وعلى هذا ففي محل القولين طرق:
أحدها: [إن كان في البلد قاض، فإن لم يكن جاز قولاً واحداً.
والثاني]: إذا لم يكن في البلد قاض، فإن كان لم يجز قولاً واحداً.
والثالث- وهو أظهر في "الرافعي"-: إجراؤهما في الحالين.
والصحيح في "الكافي" وعند الجمهور: ما جزم به العراقيون، وقال الإمام في "الغياثي": إنه متجه في القياس، ومن قال به قال: ما ذكر من الاعتذار من تحكيم عمر وعثمان- رضي الله عنهما[لا يصح؛ لأنه لم ينقل عنهما] أكثر من الرضا بحكمه خاصة، وذلك لا يصير به حاكماً؛ كذا قاله ابن الصباغ وغيره، وأيضاً: فإن عثمان بن عفان وعلي بن أبي طالب حكما عبد الرحمن بن عوف في الإمامة بعد انحصارها فيهما؛ كما ذكرناه في باب أدب السلطان، فحكم لعثمان، وانعقدت بذلك إمامته، وإذا جاز ذلك في الإمامة ففي الأموال أولى، وقد روي أَنَّ وَفْداً قَدِمُوا عَلَى رَسُولِ اللهِ صلى الله عليه وسلم وَفِيْهِمْ رَجُلٌ يُكَنَّى أَبَا الحَكَمِ، فَقَالَ:"لِمَ كُنيتَ أَبَا الحَكَمِ؟ فَقَالَ: لِأنَّ قَوْمِي يُحَكِّمُونَنِي بَيْنَهُمْ فَأَحْكُمُ. فَلَمْ يَرُدَّ عَلَيْهِ صلى الله عليه وسلم وَلَا نَهَاهُ".
وأما الثاني- وهو [وقت] لزوم الحكم- ففيه قولان كما قال:
أحدهما: أنه لا يلزم ذلك الحكم إلا أن يتراضيا به بعد الحكم؛ لأنه لما وقف على اختيارهما في الابتداء؛ وجب أن يقف على اختيارهما في الانتهاء، وهذا ما اختاره المزني.
والثاني: أنه يلزم بنفس الحكم؛ لما روي أنه صلى الله عليه وسلم قال: "مَنْ حَكَمَ بَيْنَ اثْنَيْنِ تَرَاضِياً بِهِ، فَلَمْ يَعْدِلْ بَيْنَهُمَا فَعَلَيْهِ لَعْنَةُ اللهِ"؛ فكان الوعيد دليلاً على لزوم حكمه؛ كما قال في الشهادة: {وَمَنْ يَكْتُمْهَا فَإِنَّهُ آثِمٌ قَلْبُهُ} [البقرة: 283]؛ فدل الوعيد على لزوم [الحكم] بشهادته، ولأن من جاز حكمه، لزم [حكمه]؛
كالمولى من جهة الإمام، وهذا ما قاله الكوفيون وأكثر أصحابنا؛ كما حكاه الماوردي هنا، وعَنَى البصريين، وقال في كتاب اللعان: إنه أشبه. وصححه في "الكافي" و"المرشد" والنواوي، وما قاله الأول فقد أبطل [بتصرف] الوكيل والشريك؛ فإنه لازم وإن كان ثبوته بالرضا.
والقولان منصوصان في "اختلاف العراقيين"، وقد حكاهما الإمام [وجهين] عن رواية العراقيين.
قال: فإن رجع فيه أحدهما قبل أن يحكم، [أي:] وبعد الشروع فيه، وقلنا بلزوم الحكم بنفسه، كما قاله البندنيجي وابن الصباغ وغيرهما- فقد قيل: يجوز؛ لأن الحكم إنما يلزم على هذا إذا وجد الرضا حالة الحكم، ولم يوجد؛ فأشبه ما لو رجع فيه قبل الشروع.
وقيل: لا يجوز؛ لأن اشتراط اختيارهما بعد الشروع فيه يفضي إلى ألا يلزم بالتحكيم حكم؛ فإن أحدهما لا يعجز إذا رأى توجه الحق عليه أن يرجع فيصير التحكيم لغوماً، وقد استبعد الإمام هذا، واختاره في "المرشد"، والوجهان في "الشامل" منسوبان إلى تخريج الإصطخري، وفي "الحاوي" نسبة المنع إلى روايته، وفي "تعليق" البندنيجي أنه قال: فيه وجهان.
قال: وإن تحاكما إليه في النكاح، أي: في إثباته وإثبات أحكامه، واللعان، أي: ليلاعن بينهما؛ كما قاله الماوردي [في اللعان]، بسبب الحد كما قاله المتولي ثم، والقصاص وحد القذف، أي: بسبب إثباته- فقد قيل: [يجوز]؛ لأن من صح حكمه في الأموال صح حكمه في جميع الأحكام؛ كالمولى من جهة الإمام، وهذا [ما] حكاه ابن الصباغ وأبو الطيب عن الأكثرين، وهو أصح عند النواوي وصاحب "المرشد"، وبه جزم في "الكافي"، وقال البندنيجي: إنه أقيس.
قال البغوي: وهو جارٍ في كل ما يجوز للحاكم أن يحكم فيه، وعلى هذا يظهر أن
يقال: لا فرق عند العراقيين بين أن يكون في البلد حاكم أو لا، وإن في وقت لزوم الحكم القولين كما اقتضاهما كلام ابن الصباغ.
وقيل لا يجوز؛ لأن هذه الأحكام غلظ فيها الشرع، فاحتيط لها، وهذا الوجه جريانه في الحدود من طريق الأولى، وقد ادعى البغوي أنه المذهب فيها، ولم يحك في "الكافي" سواه.
والقائل بمنع التحكيم فيما ذكرناه يجوزه فيما عداها؛ كما قاله ابن شداد في "الأحكام"، ومجلي، وعليه ينطبق قول الزبيلي: إنه يجوز التحكيم في سائر الحكومات إلا في النكاح واللعان والحدود.
وفي "التهذيب" أن منهم من قال: لا يجوز إلا في الأموال؛ لأن حكم المال أخف من حكم غيره.
وفي "الحاوي" في كتاب اللعان: أن أبا القاسم الداركي كان يقول: يجوز التحكيم في اللعان عند عدم الحاكم، ولا يجوز [مع] وجوده؛ اعتباراً بالضرورة، وأن الخلاف فيه مبني على أن حكم الحاكم يلزم من غير رضا بعد الحكم، أو لابد من [الرضا؟ فعلى الأول: يجوز، وعلى الثاني: لا؛ لأن حكم اللعان لا يقع إلا لازماً، ولا يقع على] التراضي، ولا يصح فيه العفو والإبراء كالحدود، وفي طريقة المراوزة
ترتيب الخلاف [في النكاح على الخلاف في الأموال، وأولى بمنع الحكم فيه، وترتيب الخلاف] في العقوبات على الخلاف في النكاح، وأولى بمنعه- أيضاً- وهو عندهم فيما عدا الأموال وجهان.
ولو كان الترافع في النكاح لأجل العقد؛ كما إذا حضرت إليه امرأة لا ولي لها، وخاطبها، ورضي بأن يعقد لهما- ففي "الحاوي": أنهما إن كانا في دار الحرب أو في بادية لا يصلان إلى حاكم، جاز تحكيمهما، وتزويج المحكم لهما، وإن كانا في دار الإسلام، وحيث يقدران فيه على الحاكم- كان في جوازه وجهان على ما ذكرنا. يريد: أنا إن لم نجوز التحكيم في [غير] الأموال أو فيها [مع وجود] الحاكم لم يجز، وإلا جاز عند فقد الولي، وهذا ما حكي عن [القاضي] الروياني أنه صححه، وأنه اختيار الأستاذ أبي إسحاق الإسفراييني وأبي طاهر الزيادي.
قال الرافعي: وليكن الخلاف في اشتراط فقد الحاكم مبنيّاً على الطريقة الفارقة بين أن يكون في البلد حاكم أم لا.
وإذا جوزنا التزويج بالتحكيم، وكانت المرأة بكراً فقال لها المحكم: حكميني لأزوجك من هذا، فسكتت- قال الفراء في "فتاويه": كان سكوتها إذناً؛ كما لو استأذنها الولي [فسكتت]. حكاه الرافعي قبل الباب الثاني في دعوة النسب، وقد ذكرت في كتاب النكاح هذا الفرع، وذكرت فيه شيئاً لم أذكره هنا خشية التكرار، ولو كان الترافع في اللعان بسبب نفي الولد ففي "التتمة": أنه لا يجوز إلا أن يكون الولد كبيراً؛ لأن له فيه حقّاً، أما إذا لم يكن [المتحاكم إليه] يصلح للقضاء لم ينفذ حكمه اتفاقاً، وكذا لو لم يتفقا على الرضا بالترافع إليه.
وعن أبي الفرج السرخسي: أن ذلك مفروض فيما إذا لم يكن أحد الخصمين
القاضي نفسه، فإن [كان و] هو الراضي، فهل يشترط رضا الآخر؟ فيه اختلاف نص، والظاهر: أنه لا يشترط.
قال الرافعي: وليكن هذا مبنيّاً على جواز الاستخلاف، إن جاز فالرجوع إليه؛ لأنه نائب القاضي.
قلت: قد قدمت عن ابن الصباغ وغيره أن التحاكم إلى الشخص لا يكون تولية [له]؛ فلا يحسن أن يكون هذا مبنيّاً على ذلك.
وقد قال الماوردي قبيل كتاب الشهادات: إذا تحاكم الإمام وخصمه إلى واحد من رعيته جاز، ثم ينظر: فإن قلده خصوص هذا النظر صار قاضياً خاصّاً قبل الترافع إليه، ولم يعتبر فيه رضا التحكيم، وإن لم يقلده النظر قبل الترافع اعتبر فيه رضا الخصم.
فروع:
إذا ثبت عند المحكم الحق وحكم به أو لم يحكم، فله أن يشهد على نفسه بذلك في المجلس الذي حكم بينهما فيه قبل التفرق خاصة؛ لأن قوله بعد الافتراق لا يقبل؛ [كما لا يقبل] قول الحاكم بعد العزل، قاله الماوردي.
وإذا رفع حكمه إلى القاضي لم ينقضه إلا حيث ينقض حكم القاضي المولّى من جهة الإمام. صرح به الماوردي وابن الصباغ والبغوي وغيرهم.
ولا يجوز له أن يحبس [في الدين على المذهب؛ كما لا يجوز له استيفاء العقوبات، وقيل: يحبس]، والفرق: أن استيفاء العقوبات يخرم أبهة الولاية.
وفي "الجيلي": أن الزاني، وشارب الخمر إذا جاء إلى رجل فقال: حكمتك فاستوف حق الله- فإذا جلده على الزنى أو الشرب أو رجمه فهل يقع الحد موقعه؟ فيه وجهان.
وصور كلام الشيخ في القصاص إذا قلنا بجواز التحكيم فيه: بأن يجيء مستحق
القصاص [فيطلب القصاص]، [فله] أن يبينه بالبينة، ويستوفي في النفس والطرف؟ وكذا في حد القذف.
وإذا تعلق الحكم بثالث؛ لم ينفذ حكم المحكم عليه بدون رضاه على الأصح عند الإمام وغيره، ومثاله: إذا تحاكم إليه اثنان في قتل الخطأ، وقامت البينة على المدعى عليه- فلا تلزم العاقلة الدية، وفيه وجه: أن رضا القاتل كافٍ؛ لأنهم تبع له، كذا قاله الغزالي، وقال: إنه بعيد؛ لأن إقرار القاتل لا يلزمهم؛ فكيف يلزمهم رضاه؟!
وفي قوله: لأنهم تبع له، إشارة إلى أن [هذا] الوجه مبني على قولنا: إن الدية تثبت على [القاتل ابتداء، ثم تنتقل، وقد صرح به الماوردي وغيره حيث قالوا: إن الأول مبني على قولنا: إن الدية تجب على] العاقلة ابتداء، والثاني مبني على [قولنا:] إنها تجب على القاتل ثم تنتقل.
وقضية هذا البناء: أن يكون الصحيح هنا عند الشاشي: اللزوم إن كان يقول بالبناء؛ لأن الصحيح عنده: أنها تجب على القاتل ثم تنتقل.
عن أبي الفرج السرخسي: أن الوجهين مخصوصان بقولنا: إن الدية [تجب] على القاتل ثم تنتقل، أما إذا قلنا: إنها تجب على العاقلة ابتداء، فلا خلاف في أنها لا تضرب عليهم عند عدم الرضا.
قال الرافعي: وهو حسن.
وإذا تحاكم إليه بالتحكيم من لا تقبل شهادته له مع غيره: كابنه [ووالده] مع أجنبي، فعن الشيخ أبي الفرج السرخسي: أن [في جواز] هذا التحكيم وجهين، وفي "الحاوي": أنه إن حكم على ابنه [وأبيه] نفذ، وإن حكم على الأجنبي ففي نفوذه وجهان: وجه المنع: القياس على ما لو كان من جهة الإمام.
ووجه الجواز: أن ولاية التحكيم منعقدة باختيارهما؛ فصار المحكوم عليه راضياً بحكمه.
قلت: ولو بني الخلاف على أن الحكم يفتقر لزومه إلى الرضا بعده أم لا؟ لم يبعد.
وهكذا الحكم فيما لو تحاكم إليه عدوه وغيره، فحكم له أو عليه، صرح به الماوردي، وحكى وجهاً: أنه ينفذ حكم المولى من جهة الإمام على عدوه- أيضاً- وسنذكره.
قال: وينبغي أن يكون القاضي ذكراً؛ لقوله- تعالى- {الرِّجَالُ قَوَّامُونَ عَلَى النِّسَاءِ بِمَا فَضَّلَ اللَّهُ بَعْضَهُمْ عَلَى بَعْضٍ} [النساء: 34]، يعني: في العقل والرأي؛ فلم يجز أن يقمن على الرجال.
وفي "البحر": أن عائشة روت أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: "لَا تكُونُ المَرْأَةُ حَكَماً تَقْضِي بَيْنَ العَامَّةِ"، ولأن القاضي يحتاج إلى مخالطة الرجال، والمرأة مأمورة بالتخدر؛ ولذلك لم تصح إمامتها بالرجال مع صحتها من الفاسق.
والخنثى المشكل فيما نحن فيه كالمرأة، قال الماوردي: ولو بان أنه رجل، لم يصح تقليده، يعني: أنه لو بان بعد التقليد رجلاً لم تنعقد ولايته، كما صرح به في "البحر"، وقال: إنه المذهب. ثم قال: وقيل: فيه وجهان.
أما إذا بانت رجولته قبل التولية؛ صح تقليده جزماً، قاله في "البحر".
قال: حرّاً؛ لأن العبد ناقص عن ولاية نفسه؛ فعن ولاية غيره أولى، وبالقياس على الشهادة، ومن لم تكمل فيه الحرية ككامل الرق في هذا المعنى.
قال: بالغاً؛ لأن غير البالغ لا يجري عليه القلم؛ فلا يتعلق بقوله على نفسه حكم؛ فعلى غيره أولى.
قال الماوردي: ويجمع هذا الوصف ووصف الذكورة، قولنا: رجل.
قال: عاقلاً؛ للإجماع، وللمعنى الذي ذكرناه في الصبي.
قال الماوردي في "الحاوي" و"الأحكام": وليس يكتفي فيه بالعقل الذي يتعلق به التكليف من علمه بالمدركات الضرورية؛ حتى يكون صحيح التمييز، جيد الفطنة، بعيداً من السهو والغفلة؛ حتى يتوصل بذكائه إلى وضوح ما أشكل، وفصل ما أعضل؛ وعلى ذلك حوم الإمام، حيث قال: والذي أراه: أن يضم إلى ما ذكرناه الكفاية اللائقة بالقضاء، وهي عبارة عن التشمير والاستقلال بالأمور وموافاة النفس على الحذر فيما إليه، وهذا يضاهي من صفات الإمام النجدة.
وتبعه الغزالي، فقال بعد ذكر الأوصاف المعتبرة: وينبغي أن يعتبر مع هذه الخصال الكفاية اللائقة بالقضاء؛ فمجرد العلم لا يكفي في هذه الأمور.
ولم يفسر معنى الكفاية؛ فاعترض عليه مجلي وقال: إن عنى [بالكفاية استقلاله بالأحكام فقد ذكره بالصفة، وإن عني] كونه ذا مال فذاك لا يشترط وفاقاً، بل يجوز أن يكون فقيراً.
قال ابن شداد: ويمكن أن يقال: عني به ما قاله صاحب "الشامل"، وهو أن يكون متلبثاً ذا فطنة ويقظة لا يؤتى من غفلة ولا يخدع لغرة، لكن المشكل قوله: لابد منه.
وقد ذكر الأصحاب ما قلناه في فصل الاستحباب.
و [لا فرق] في الجنون المانع للولاية بين أن يكون مطبقاً أو متقطعاً تدوم مدته أو تقصر، وبعضها غفلة أو دهشة، فلو قصرت مدته كالساعة مثلاً، وكان يعود بعد زواله إلى حالة الاستقامة؛ ففي جواز توليته وجهان في "الحاوي"، وجه الجواز: إجراء ذلك مجرى فترات النوم.
قال: عدلاً؛ لأن ضدها- وهو الفسق- لما منع الأب من النظر في مال ولده، إذا اتصف به، مع قوة ولايته وعظم شفقته- فلأن يمنع القضاء وأحد متضمناته حفظ أموال الأيتام كان أولى.
ولا فرق في الفسق بين أن يكون بأمر لا شبهة له فيه أو له فيه شبهة.
وفي "الحاوي" حكاية وجه في صحة تولية من فسقه باعتقاد شبهة وتأويل، وقد بين في "الأحكام" المعبر عنه ها هنا بالعدل، فقال: أن يكون [صادق] اللهجة، ظاهر الأمانة، عفيفاً عن المحارم، متوقياً للمآثم، بعيداً من الريب، مأموناً في الرضا والغضب، مستعملاً لمروءة مثله في دينه ودنياه، فإن انخرم منها شيء منع الولاية؛ كما يمنع قبول الشهادة.
قال: عالماً [بالأحكام][، أي:] الشرعية [بطريق الاجتهاد] لا بطريق التقليد؛ لقوله تعالى: {وَلا تَقْفُ مَا لَيْسَ لَكَ بِهِ عِلْمٌ} [الإسراء: 36]، [والمقلد لو قيل بصحة توليته لكان إذا استُفْتِي وحكم قافياً ما ليس له به علم؛] لأنه لا يدري طريق ذلك الحكم، ولقوله صلى الله عليه وسلم في حديث أبي بريدة الذي سبق:"وَرَجُلٌ قَضَى بِالنَّاسِ عَلَى جَهْلٍ فَهُوَ فِي النَّارِ"، والتقليد لا يخرجه عن أن يكون [قضاء على جهل؛ لأنه لا يعرف طريقه، ولأن المقلد لا يجوز أن يكون] مفتياً؛ فأولى ألا يكون قاضياً، ووجه الأولوية: أن الفتوى إخبار لا يلزم الحكم، والقضاء إخبار يلزمه.
ثم شرائط الاجتهاد [في الأحكام مذكورة في كتب الأصول، وهي على الاختصار:] العلم بالكتاب والسنة والإجماع، والقياس، ولسان العرب:
والمعتبر علمه من الكتاب: علم الآيات التي تتعلق بها الأحكام.
قال البندنيجي: وهي خمسمائة [آية]. وقد حكاه الماوردي عن بعضهم، ولم يحك سواه.
فيعرف الناسخ منها والمنسوخ، والعام والخاص، والعام الذي أريد به الخصوص، والخاص الذي أريد به العموم فيجريه عليه، والمطلق والمقيد، والمحكم والمتشابه، والمجمل والمفصل.
قال الروياني: ولا يشترط حفظه القرآن على ظهر القلب.
قال الرافعي: ومن الأصحاب من ينازع ظاهر كلامه فيه.
والمعتبر علمه من السنة: الأخبار التي تتعلق بها الأحكام، ويعرف ناسخها ومنسوخها، وما خصص منها عام الكتاب أو بينه، وكذا ما ذكرناه في آيات الكتاب، ويعرف المتواتر منها والآحاد والمرسل، والمسند والمنقطع والمتصل، وحال الرواة: جرحهم، وتعديلهم.
والمعتبر علمه من الإجماع وأقاويل الناس: علم ما اتفقوا عليه وما اختلفوا فيه على قولين أو أكثر؛ حتى لا يقع في حكم أجمعت الأمة على خلافه، أو على قولين فاختار ثالثاً؛ فإنه منقوض كما في الحالة الأولى، كذا حكاه أبو الطيب وغيره.
والمعتبر علمه من القياس: علم الجلي منه والواضح، والخفي وهو قياس الشبه، كما قاله ابن الصباغ و [قال] الماوردي:[: إنه غيره كما سنبينه، وأصول القياس وفروعه وشروطه وما يفسده به].
والمعتبر علمه من كلام العرب: صيغ الأمر والنهي، والخبر والاستخبار، والوعد والوعيد، والنداء، وأقسام الأسماء والأفعال والحروف، وما لابد منه في فهم معاني كلام الله- تعالى- وكلام رسوله محمد صلى الله عليه وسلم؛ لأن ذلك جاء بلغتهم؛ قال صلى الله عليه وسلم:"أَحِبُّوا الْعَرَبَ لِثَلاثٍ: لأَنِّي عَرَبِيٌّ، وَالْقُرْآنَ ‘َرَبِيٌّ، وَكَلامَ أَهْلِ الْجَنَّةِ عَرَبِيٌّ"، وكل [ذلك] محال على كتب الأصول.
قال بعضهم: وإذا تأملت ذلك علمت أن هذه الصفات قد عز وجودها في زمننا هذا في شخص من العلماء، بل وفيما تقدم عليه بكثير، روي أن الشيخ أبا بكر القفال المروزي إمام المراوزة وشيخهم قال: المسئول قسمان:
أحدهما: من جمع شرائط الاجتهاد، فيقضي ويفتي باجتهاده، وهذا لا يوجد.
والثاني: من ينتحل مذهب واحد من الأئمة: إما الشافعي، أو أبي حنيفة، أو غيرهما، [وعرف] مذهب إمامه، وصار حاذقاً فيه، بحيث لا يشذ عنه شيء من أصول مذهبه ومنصوصاته، فإذا سئل عن حادثة: فإن عرف لصاحبه نصّاً أجاب عليه، وإن لم تكن المسألة منصوصة فله أن يجتهد فيها على مذهبه ويخرجها على أصول صاحبه، ويفتي بما أدى إليه اجتهاده، وهذا- أيضاً- أعز من الكبريت الأحمر.
فإذا كان هذا قول القفال في ذلك الزمن، وفيه [تلامذته المشهورون] بصحبته أصحاب الوجوه في المذهب: كالقاضي الحسين، والفوراني، والشيخ أبي محمد والد الإمام، والصيدلاني، والشيخ أبي علي [السنجي]، المسمون بالمراوزة؛ لاشتغالهم عليه، وبالخراسانيين؛ لمقامهم بخراسان، وفيه- أيضاً- تلامذة الشيخ أبي حامد الإسفراييني بالعراق: كالمحاملي، والبندنيجي، وأقضى القضاة الماوردي، والقاضي أبي الطيب، والطبري وغيرهم- فما ظنك بهذا الزمن وقد عدم
فيه أصحاب الوجوه، بل قد قيل: إنه عدم ذلك من حين وفاة من ذكرناهم؟!
لكن في "تعليق" القاضي أبي الطيب أن الشافعي لم يرد بذلك أن يكون في كل نوع منها مبرزاً حتى يكون في النحو مثل سيبويه، وفي اللغة مثل الخليل، وما أشبه ذلك؛ بل المعتبر من ذلك: ما يوصله إلى معرفة الحكم، وذلك ممكن.
وهذا ما حكاه ابن الصباغ مختصراً عند الكلام في الاستشارة عن الأصحاب، وقال: إن ذلك يسهل على متعلمه الآن؛ فإنه قد جمع ودون. وكلام الروياني قريب منه.
ويعضده قول الغزالي في الأصول: إنه لا حاجة إلى تتبع الأحاديث على تفرقها وانتشارها، ولكن يكفي أن يكون له أصل صحيح وقعت العناية فيه بجميع أحاديث الأحكام كسنن أبو داود. وقد سبقه بذلك البندنيجي.
قال الغزالي: ويكفي معرفة مواضع كل باب فيراجعه إذا احتاج إلى الفتوى في ذلك الباب، وإن كل حديث أجمع السلف على قبوله أو تواترت عدالة رواته لا حاجة إلى البحث عن رواته، وما عدا ذلك فينبغي أن يكتفي في رواته بتعديل إمام مشهور عرف صحة مذهبه في التعديل؛ لأن من درج في الأحوال الماضية لا يخبر ولا يشاهد حاله، وتواتر السيرة لا يكاد يوجد إلا في جماعة معدودين.
ثم زاد في التحقيقات في حق المفتي فقال: [إنه] لا يحتاج إلى ضبط مواضع الإجماع والاختلاف، بل يكفي أن يعرف في المسألة التي [يفتي] فيها أن قوله لا يخالف الإجماع، إما بأن يعلم أنه يوافق قول بعض المتقدمين، أو يغلب على ظنه أن الواقعة متروكة في ذلك العصر لم يخض فيها الأولون.
وعلى قياس هذا معرفة الناسخ والمنسوخ؛ فإنه إنما يشترط معرفة اجتماع هذه العلوم في المجتهد المطلق الذي يفتي في جميع أبواب الشرع، أما الذي ينتصب للاجتهاد في باب دون باب، كالناظر في مسألة المشرَّكة، فيكفيه معرفة أصول
الفرائض، ولا يضره ألا يعرف الأخبار الواردة في تحريم المسكر مثلاً.
وعلى كل حال؛ فإذا تعذرت شرائط الاجتهاد على العموم، أو في مذهب إمام كزماننا-[فلابد من جزم القول والقطع بصحة تولية من اتصف بصفة العلم] في مذهب إمام من الأئمة إذا كان عارفاً [بغالب مذهبه] ومنصوصاته وأقواله المخرجة وأقاويل أصحابه، صحيح الذهن كما تقدم.
وبالغ في "الوسيط"، فقال عند عدم المجتهد المطلق: الوجه القطع بتنفيذ قضاء من ولاه السلطان ذو الشوكة؛ كي لا تتعطل مصالح الخلق، فإنا ننفذ قضاء أهل البغي للحاجة، فكيف يجوز تعطيل القضاء الآن؟! نعم، يعصي السلطان بتفويضه إلى الفاسق والجاهل، ولكن بعد أن ولاه فلابد من تنفيذ أحكامه للضرورة.
قال الرافعي: وهذا حسن، لكن في بعض "الشروح": أن قاضي أهل البغي إن كان منهم نظر: إن كان بغيهم لا يوجب الفسق كبغي [معاوية جاز أيضاً قضاؤه، وإن أوجب الفسق كبغي] أهل النهروان لم يجز.
وقال ابن شداد وابن أبي الدم: إن ما قاله الغزالي لا نعلم أن أحداً نقله.
قال ابن أبي الدم: مع تصفحي شروح المذهب والمصنفات فيه، بل الذي قطع به العراقيون والمراوزة: أن الفاسق لا تنفذ أحكامه، ونحن إذا نفذنا حكم قاضي البغاة، فلابد أن يكون مع علمه عدلاً متأولاً في خروجه مع البغاة، ولابد من تأويل حمل البغاة على بغيهم، وهذا لا خلاف فيه، فكيف ينفذ أحكام قاضي أهل العدل مع فسقه وعلمه بفسقه الفسق الذي لا تأويل فيه، وقد ذكرت في باب قتال أهل البغي في ذلك ما يغني عن الإعادة.
وفي "الكافي": أن المتغلب على إقليم لو نصب قاضياً غير عالم أو غير عدل، والناس غير قادرين على دفعه، هل تنفذ أحكامه وقضاياه من تزويج الأيامى والتصرف في أموال اليتامى؟ يحتمل وجهين، أحدهما: لا، وطريق المسلمين في مثل هذه الحالة التحاكم إلى من هو من أهل القضاء في حوادثهم، فإن لم يجدوا أهلاً
للقضاء نفذت أحكامه للضرورة.
قال: وقيل: يجوز أن يكون أميّاً، أي: لا يكتب؛ لأن النبي صلى الله عليه وسلم كان أميّاً. وهذا أصح عند الإمام ومجلي والنواوي وغيرهم، وقال الإمام عند الكلام في الكاتب: إنه الذي عليه الأكثرون.
وقيل: لا يجوز؛ لأنه يحتاج أن يكتب إلى غيره، ويكتب إليه، وإذا قرئ عليه شيء فربما حرف القارئ، بخلاف الذين كانوا عند رسول الله صلى الله عليه وسلم فإنهم كانوا ثقاة، ولو حرفوا لعلمه من جهة الوحي. وأيضاً: فإن عدم الكتابة في حقه معجزة، و [هي] في حق غيره منقصة، وهذا ما اختاره في المرشد، وقد قيل: إنه صلى الله عليه وسلم كان يعرف الكتابة، ولكن منع منها؛ كي لا يتهمه الكفار في الوحي والكتابة، كذا قاله الجيلي، والصحيح أنه لم [يكن] يعرفها.
قال الرافعي في الباب الثاني في جوامع القضاء في فرع منه: وقد قيل: إن الوجهين في أنه [هل يجوز أن يكون القاضي أميّاً؟ يمكن بناؤهما على الوجهين في أنه] هل يجب على القاضي كتابة المحضر والسجل؟ وهذا قد نسبه صاحب "الإشراف" إلى القاضي. وفي "الوسيط" ما يقرب من هذا.
وقد اعتبر الأصحاب في صفات القاضي أموراً أخر سكت عنها الشيخ، [وقد] ظن به لذلك عدم اشتراطها:
فمنها: الإسلام؛ فلا يصح تولية الكافر على المسلمين؛ لقوله- تعالى: {وَلَنْ يَجْعَلَ اللَّهُ لِلْكَافِرِينَ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ سَبِيلاً} [النساء: 141]، وأي سبيل أعظم من القضاء؟! وكذا لا يصح توليته على أهل دينه؛ لأن من لا تصح ولايته على العموم لا تصح على الخصوص؛ كالصبي والمجنون طرداً، والمسلم عكساً، وقوله تعالى:{لا تَتَّخِذُوا الْيَهُودَ وَالنَّصَارَى أَوْلِيَاءَ بَعْضُهُمْ أَوْلِيَاءُ بَعْضٍ} [المائدة: 51]، فالمراد به: الموالاة، [لا الولاية].
قال الماوردي: وما يفعل في العرف فهو رعاية ورياسة، وليس بتقليد حكم وقضاء، وما يلزم من حكمه أهل دينه فلالتزامهم لا للزومه لهم، ولا يقبل الإمام قوله فيما حكم به، ولو امتنع بعضهم من التحاكم إليه مع بعض لم يجبروا. وقد ذكرت في باب عقد الذمة شيئاً يخالف ذلك، فيطلب منه.
وهذا الوصف قد يوجد [من] قول الشيخ: وأن يكون عالماً بالأحكام؛ لأنا قد ذكرنا أن المراد به المجتهد، والكافر ليس من أهل الاجتهاد؛ لاعتقاده عدم الحجة بالكتاب والسنة وإجماع الأمة، وقد قال الماوردي: إن من لا يعتقد من المسلمين أن خبر الواحد حجة، لا تصح توليته القضاء؛ كمن لم يعتقد أن الإجماع حجة، وكذا من نفي القياس واتبع ظاهر النص، وأخذ بأقاويل سلفهم فيما لم يرد فيه نص، مع حكاية خلاف عن أصحابنا في صحة تقليد أهل الظاهر؛ فالكافر بالمنع أولى، وقد جعل الرافعي الأظهر في أهل الظاهر جواز التقليد، وكلام الإمام يقتضي مقابله؛ لأنه قال في باب قطع اليد في السرقة: وقد ذكرنا مراراً في مواضع من الأصول والفروع أن أصحاب الظواهر ليسوا من علماء الشريعة، وإنما هم [نقلة إن ظهرت الثقة.
ومنها: السمع والبصر والنطق؛ فلا يصح] تقليد الأصم الذي لا يفهم عالي الأصوات؛ لأنه لا يفرق بين إقرار وإنكار. نعم، ثقيل السمع الذي يفهم عالي الأصوات ولا يفهم خافيها تجوز ولايته، قاله الماوردي والبغوي وغيرهما.
قال مجلي: وقد أشار الفوراني إلى جوازه للأصم؛ لأنه قال: هل يشترط العدد في المستمع بأن يكون القاضي أصم؟ فيه وجهان.
قلت: وهذا لا يدل على جوازه للأصم الذي لا يسمع أصلاً، بل المراد [به: الذي يسمع عالي الأصوات؛ لأن المستمع إنما يكون لمن يسمع، والأعمى] لا تصح ولايته؛ لأنه لا يفرق بين الطالب والمطلوب.
وفي "البحر" هنا و"زوائد" العمراني عند الكلام في شروط الإمامة العظمى
و"تعليق" القاضي الحسين في أواخر [باب] الوصية- حكاية وجه: أنه تصح ولايته، وقد قال ابن أبي الدم: إن [الجرجاني حكاه] قولاً. وقد يستدل له بما روى أبو داود عن أنس أن النبي صلى الله عليه وسلم اسْتَخْلَفَ ابْنَ أُمِّ مَكْتُومٍ عَلَى المَدِينَةِ مَرَّتَيْنِ وَهُوَ أَعْمَى، والصحيح: الأول، وبه جزم الماوردي وغيره، وأما الحديث فقد يجاب عنه بما قاله بعضهم: أن في رجاله عمر بن داود القطان، وقد ضعفه ابن معين والنسائي.
ثم على تقدير توثيقه كما صار إليه بعضهم، فهو محمول على ولاية الصلاة [بالمدينة] دون القضاء والأحكام؛ إكراماً له، وأخذاً بالأدب فيما عاتبه الله- تعالى- في أمره في قوله:{عَبَسَ وَتَوَلَّى} [عبس: 1]، فإنه روي أن الآية نزلت فيه.
وفي معنى الأعمى: من يرى الأشباح ولا يعرف الصور. نعم، لو كان [إذا قربت منه] عرفها، صح كما تصح ولاية مني بصر بالنهار دون الليل وهو الأعشى، والأخرس الذي لا تفهم إشارته، [لا يجوز تقليده؛ لأنه يعجز عن تنفيذ الأحكام وإلزام الحقوق]، فلو كانت له إشارة مفهمة ففي "الإشراف"[حكاية] جوابين [فيه] لابن القاص؛ بناءً على جواز شهادته في وجه، وقد نسب غيره الجواز إلى ابن سريج؛ كما جوز سماع شهادته.
قال الماوردي: وجمهور أصحابنا على منعهما، وبه جزم البغوي، وادعى القاضي الحسين في كتاب الضمان: أنه لا خلاف فيه. نعم، لو كان في لسانه تمتمة أو عقدة أو نحو ذلك جازت توليته؛ لأنه نقص لا يمنع من الكلام وإن غمض.
ولا يقدح في الولاية كون الشخص مقطوع الأطراف أو مبطولاً أو زَمِناً، وإن كانت السلامة من الآفات أَهْيَبَ لذوي الولايات.
ومنها: معرفة الحساب.
وقد حكى [عن] صاحب "البحر" في صحة تولية من لا يعرفه وجهين، وقال: إن المذهب الصحة.
والمنقول عن الشافعي- رضي الله عنه في صفة القاضي- كما حكاه الماوردي وابن الصباغ والروياني وغيرهم- ثلاث شرائط: أن يكون من أهل الاجتهاد، وأن يكون عدلاً، [وأن يكون] كاملاً. وهي شاملة لجميع ما ذكرناه.
قال: والأفضل أن يكون شديداً من غير عنف؛ لأنه لو كان عنيفاً لمنعت هيبته من استيفاء الحقوق [وقيام الخصوم بالحجج.
قال: ليناً من غير ضعف؛ حتى لا يخترق به الخصوم، ولا تضيع الحقوق]. وهذه عبارة بعض السلف.
قال القاضي أبو الطيب: قال بعض أصحابنا: يكون حسنه بين الشِّيَتَيْنِ.
وفي "التهذيب": أنه يكره أن يكون جباراً يهابه الخصوم، وأن يكون ضعيفاً يطمع كل أحد في جنبته.
قال: وإذا ولى الإمام رجلاً كتب [إليه بالعهد]؛ لأن النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم كَتَبَ لِعَمْره بْنِ حَزْمٍ كِتَاباً حِيْنَ بَعَثَهُ إِلَى اليَمَنِ، وَأَبُو بَكْرٍ كَتَبَ لِأَنسٍ حِيْنَ بَعَثَهُ إِلَى البَحْرَيْنِ وَخَتَمَهُ بِخَاتَمِ رَسُولِ اللهِ صلى الله عليه وسلم.
وَرَوَى حَارِثَةُ بْنُ مُضَرِّبٍ أَنَّ عُمَرَ- رضي الله عنه كَتَبَ إِلَى أَهْلِ الكُوْفَةِ: أَمَّا بَعْدُ، فَإِنِّي قَدْ بَعَثْتُ إِلَيْكُمْ عَمَّاراً أَمِيْراً وَعَبْدُ اللهِ بْنِ مَسْعُودٍ قَاضِياً وَوَزِيْراً، فَاسَمُعوا لَهُمَا وَأَطِيْعُوا؛ فَقَدْ آثَرْتُكُمْ بِهِمَا.
قال القفال الشاشي- كما حكاه القاضي الحسين-: وينبغي أن يتخذ الإمام لنفسه نسخة من كتابه يمسكه حتى يتذكر به إن نسي أنه ولاه عمل [بلد كذا]، وهذا كله على وجه الاستحباب، فإن ترك الكتابة جاز؛ لأن النبي صلى الله عليه وسلم لم يكتب بالعهد لمعاذ.
[قال: ووصاه بتقوى الله- تعالى- والعمل بما في العهد]؛ لأن ذلك مقصود هذه الولاية وواجبها، وكذا يوصيه بالتثبت في القضاء ومشاورة أهل العلم [ونحو ذلك]، روى أَبُو دَاوُدَ عَنْ عَلِيٌّ- رضي الله عنه قَالَ: بَعَثَنِي رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم إِلَى اليَمَنِ قَاضِياً، فَقُلْتُ:[يَا] رَسُولَ اللهِ، تُرْسِلُنِي وَأَنَا حَدِيْثُ السِّنِّ وَلَا عِلْمَ لِي بِالقَضَاءِ؟ فَقَالَ:"إِنَّ اللهَ سَيَهْدِي قَلْبَكَ وَيُثَبِّتُ لِسَانَكَ، فَإِذَا جَلَسَ بَيْنَ يَدَيْكَ الخَصْمَانِ فَلَا تَقْضِيَنَّ حَتَّى تَسْمَعَ مِنَ الآخَرِ كَمَا سَمِعْتَ مِنَ الأَوَّلِ؛ فَإِنَّهُ أَحْرَى أَنْ يُبَيِّنَ لَكَ القَضَاءَ"، فما زلت قاضياً أو ما شككت في قضاء بعده.
وَرُوِيَ عَنْ إِدْرِيسَ الأودي أَنَّهُ قَالَ: أَخْرَجَ إِلَيْنَا سَعِيدُ بْنُ أَبِي بُرْدَةَ كِتَاباً فقال: هَذَا كِتَابُ عُمَرَ بْنِ الخَطَّابِ إِلَى أَبِي مُوْسَى: أَمَّا بَعْدُ؛ فَإِنَّ القَضَاءَ فَرِيْضَةٌ [مُحْكَمَةٌ]، وَسُنَّةٌ مُتَّبَعَةٌ، افْهَمْ إِذَا أُدْلِيَ إِلَيْكَ؛ فَإِنَّهُ لَا يَنْفَعُ تَكَلُّمٌ بِحَقِّ لَا نَفَاذَ لَهُ، وَآسِ بَيْنَ النَّاسِ فِي وَجْهِكَ وَمَجْلِسِكَ وَعَدْلِكَ- أَيْ: اجْعَلْهُمْ أُسْوَةً فِي ذَلِكَ- حَتَّى لَا يَطْمَعَ شَرِيْفٌ فِي حَيْفِكَ، وَلَا يَخَافَ ضَعِيفٌ مِنْ جَوْرِكَ، البَيِّنَةُ عَلَى مَنِ ادَّعَى وَاليَمِينُ عَلَى مَنْ أَنْكَرَ، وَالصُّلْحُ جَائِزٌ بَيْنَ النَّاسِ إِلَّا صُلْحاً أَحَلَّ حَرَاماً أَوْ حَرَّمَ حَلَالاً، فَلَا يَمْنَعْكَ قَضَاءٌ قَضَيْتَهُ بِالْأَمْسِ، فَرَاجَعْتَ فِيهِ اليَوْمَ عَقْلَكَ، وَذَهَبْتَ فِيهِ لِرُشْدِكَ- أَنْ تَرْجِعَ إِلَى الحَقِّ؛ فَإِنَّ الحَقَّ قَدِيمٌ، لَا يُبْطِلُ [الحَقَّ شَيءٌ]، وَمُرَاجَعَةُ الحَقِّ خَيْرٌ مِنَ التَّمَادِي فِي البَاطِلِ، [الفَهْمَ] الفَهْمَ فِيْمَا تَلَجْلَجَ فِي صَدْرِكَ مِمَّا لَيْسَ فِي كِتَابِ اللهِ وَلَا سُنَّةِ رَسُولِهِ! ثُمَّ اعْرِفِ الأَشْبَاهَ وَالأَمْثَالَ، وَقِسِ الأُمُورَ بِنَظَائِرِهَا، وَاعْمَدْ إِلَى أَحَبِّهَا إِلَى اللهِ وَأَشْبَهِهَا فِيْمَا تَرَى، وَاجْعَلْ لِلمُدَّعِي أَمَداً يَنْتَهِي إِلَيْهِ، فَإِنْ أَحْضَرَ بَيِّنَةً أَخَذْتَ لَهُ
بِحَقِّهِ، وَإِلَّا وَجَّهْتَ عَلَيْهِ القَضَاءَ؛ فَإِنَّ ذَلِكَ أَجْلَى لِلْعَمَى وَأَبْلَغُ فِي العُذْرِ، وَالمُسْلِمُونَ عُدُولٌ بَعْضُهُمْ عَلَى بَعْضٍ إِلَّا مَجْلُوداً فِي حَدٍ، أَوْ مُجَرَّباً بِشَهَادَةِ الزُّورِ، أَوْ ظنيناً فِي وَلَاءٍ أَوْ قَرَابَةٍ؛ فَإِنَّ اللهَ- تَعَالَى- تَوَلَّى مِنْكُمُ السَّرَائِرَ وَدَرَأَ عَنْكُمُ الشُّبُهَاتِ، ثُمَّ إِيَّاكَ وَالضَّجَرَ وَالْغَلَقَ-[أَيْ: ضِيْقَ الصَّدْرِ وَقِلَّةَ الصَّبْرِ، وَهُوَ بِالغَيْنِ المُعْجَمَةِ]- وَالتَّأَذِّي بِالنَّاسِ وَالتَّنَكُّرَ بِالخُصُوْمِ فِي مَوَاطِنِ الحَقِّ الَّتِي يُوْجِبُ اللهُ بِهَا الأَجْرَ، وَيُكْسِبُ بِهَا الذُّخْرَ، وَإِنَّهُ مَنْ تَصْلُحُ سَرِيْرَتُهُ فِيْمَا بَيْنَهُ وَبَيْنَ رَبِّهِ أَصْلَحَ اللهُ مَا بَيْنَهُ وَبَيْنَ النَّاسِ، وَمَنْ تَزَيَّنَ لِلنَّاسِ بِمَا يَعْلَمُ اللهُ مِنْهُ غَيْرَ ذَلِكَ يَشِنُهُ اللهُ، فَمَا ظَنُّكَ بِثَوَابِ اللهِ فِي عَاجِلِ الدُّنْيَا وَخَزَائِنِ رَحْمَتِهِ؟! وَالسَّلَامُ.
وهذه الوصية مستحبة، وقد يفهم كلام القاضي الحسين أن الوصية واجبة؛ فإنه قال: وعليه أني خلو به فيعظه ويخوفه الله- سبحانه-[ويحذره]، ويقرأ عليه عهد أمير المؤمنين عمر- رضي الله عنه لأنه أبلغ ما يكون في الموعظة.
قال: وأشهد على التولية شاهدين أي: سواء قرب محل الولاية أو بعد؛ لتثبت بهما الولاية، وهذا قول أبي إسحاق، وعلى هذا فلا يحتاجان إلى لفظ الشهادة، بل يكفي إخبار [أهل][محل الولاية] بها، ولا يحتاج إلى تقدم دعوى.
وفي "الحاوي": أنهما يشهدان عند أهل [عمل الولاية]، [فإذا شهدا، وكانا عدلين، فقد وجب على] أهل العمل طاعته.
ولو وصل القاضي إلى العمل، وأخبر أهله بالولاية من غير إشهاد- لم تلزمهم
طاعته [إلا أن يصدقوه]، على أحد الوجهين في "الحاوي".
وقيل: إن كان البلد [قريباً] بحيث يتصل الخبر [به] لم يلزمه الإشهاد؛ لاستقلال الاستفاضة بإثباتها، وهذا قول الإصطخري، واختاره في "المرشد"، وفي "النهاية" عوضه: أن من أصحابنا من اكتفى بكتاب، وهو عندي مشروط بظهور مخايل الصدق في خطوط الكتاب؛ ولهذا قال في "الوسيط" في حكايته- إذا وصل بالعهد ولم تستفض ولايته ولا معه شهادة عدلين-: إنه يجب الاعتماد على الكتاب مع مخايل الصدق، وبعد الجرأة على التلبيس في مثل هذا الأمر، مع خوف سطوة السلطان.
وقد كان ولاة رسول الله صلى الله عليه وسلم يكتفي في ذلك بمجرد قولهم، وهذا ما صححه صاحب "الإشراف" بعد أن حكى عن الشاشي أنه قال: ظاهر المذهب أن الإشهاد لا يجب.
قال البندنيجي وغيره: وأصل هذا الخلاف المذكور في الكتاب الخلاف في أن النكاح والوقف والعتق [والولاء] هل تثبت بالاستفاضة أم لا؟ وعلى هذا جرى في "التهذيب"، فإن قلنا: تثبت، لزم الرعايا ها هنا الانقياد له، وإلا فلا.
قال الإمام: وإذا استخلف القاضي حاكماً في قرية، فقد لا يستفيض مثل هذا، ولا يشترط فيه الاستفاضة، بل ينقدح فيه الكتاب أو شاهدان.
قال: ويسأل القاضي عن حال البلد ومن فيه من الفقهاء والأمناء، أي: العدول قبل دخوله؛ لأنه يحتاج إليهم؛ فكانت معرفته بهم قبل الدخول ليعاملهم بما يليق بهم أولى، فإن قدر على ذلك في البلد الذي وقعت فيه الولاية فذاك، وإلا يعرفه في طريقه إلى محل ولايته أو في [محل] الولاية.
قال الرافعي: ويستحب [له] أن يدعو أصدقاءه الأمناء، ويلتمس منهم [أن يطلعوه على عيوبه؛ ليسعى في إزالتها.
قال:] ويستحب أن يدخل صبيحة يوم الاثنين؛ لأن النبي صلى الله عليه وسلم دخل [المدينة] يوم الاثنين، فإن فاته دخل [يوم] السبت أو الخميس؛ للخبر المشهور، ولأنه قلما كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يخرج في سفر إلا يوم الخميس.
قال القاضي أبو الطيب والروياني [وغيرهما]: ويستحب أن يدخل البلد لابس السواد؛ لأن النبي صلى الله عليه وسلم دخل مكة وعلى رأسه عمامة سوداء، ولأنه أهيب له.
قال: وينزل في وسط البلد؛ لأنه أقرب إلى التسوية بين أهله في قصده، وهذا ما نص عليه الشافعي- رضي الله عنه في "الأم".
قال: ويجمع الناس، أي:[بأن] يبعث منادياً ينادي في البلد بأن فلاناً القاضي قد حضر فاحضروا لسماع عهده [في] وقت كذا، ويكون ذلك يوماً إن كان البلد صغيراً، وثلاثة ونحوها إن كان كبيراً.
قال: ويقرأ عليهم العهد؛ ليعلموا تفاصيل ولايته فيطيعوه فيها.
قال: ويتسلم المحاضر والسجلات من القاضي الذي كان قبله، لتُحرس على أربابها بيد كل ذي ولاية كما كانت، وكذا يتسلم منه أموال الأيتام والضوال والوقوف وأسماء المحبسين وغيرهم، كما قاله القاضي الحسين.
قال البندنيجي والماوردي وغيرهما: وهذا أول الأمانات التي يفعلها القاضي في ولايته قبل النظر في المحبسين وغيرهم، وعند أخذها إن أمكنه تصفحها ومعرفة ما فيها فعل.
والمحاضر: جمع "محضر" بفتح الميم، وهو الذي يكتب فيه قضية المتحاكمين وما جرى لهما في مجلس الحكم وحجتهما، قال الجيلي: إذا لم يتصل بذلك حكم.
والسجلات: جمع "سجل" بكسر السين والجيم، وهو الذي يكتب فيه المحضر ويكتب معه تنفيذ الحكم وإمضاؤه.
قال: وإن احتاج أن يستخلف في أعماله لكثرتها استخلف، أي: فيما يعجز عنه من يصلح أن يكون قاضياً، أي: من غير إذن الإمام؛ لأن العرف يقتضيه فحكمت التولية عليه.
قال القاضي أبو الطيب والبغوي وغيرهما: كما إذا دفع ثوباً إلى شخص ليبيعه؛ فإن ذلك يتضمن [الإذن في] التسليم إلى من ينادي عليه.
وبهذه الحالة يلتحق ما إذا مرض أو أراد أن يغيب عن البلد لشغل، كما ذكره في "التهذيب"، أما ما لا يعجز عنه في هذه الحالة هل يجوز أن يستخلف فيه؟ قال القاضي أبو الطيب وابن الصباغ: فيه الخلاف الآتي. وكلام [القاضي] أبي الطيب في كتاب الوكالة في حكاية الخلاف كما ذكرناه [أصرح منه] هنا، وكلام الشيخ في "المهذب" يقتضي إجراء الخلاف في هذه الحالة، وإن قلنا بمنع الاستخلاف في المسألة الآتية.
قال: وإن لم يحتج فقد قيل: يجوز؛ لأن [الإمام] لما ولاه صار ناظراً للمسلمين على وجه المصلحة، وكان له التولية فيما يقدر على التصرف فيه كالإمام، وهذا قول الإصطخري كما حكاه القاضيان أبو الطيب والحسين، واختاره في "المرشد".
وقيل: لا يجوز إلا أن يؤذن له [في] ذلك؛ لأنه متولِّ بطريق النيابة فلم يملك بمطلق الإنابة الاستنابة كالوكيل، وهذا قول أبي علي بن خيران، قال القاضي أبو الطيب: وهو المشهور من مذهب الشافعي- رضي الله عنه وعلى ذلك جرى في "المهذب" فقال: إنه المذهب، وصححه الرافعي والنواوي.
[و] الناصر للأول قال: ليس القاضي نائباً عن الإمام، بل عن المسلمين؛ فهو
ولي في نفسه، وحكى في "الحاوي" في هذه الحالة والتي قبلها ثلاثة أوجه حكاها صاحب "الإشراف" أيضاً:
أحدها- وهو قول أبي علي بن خيران-: أنه ليس له أن يستخلف، قل عمله أو كثر، [وقد نسب القاضي الحسين هذا إلى ابن أبي هريرة.
والثاني- وهو قول الإصطخري-: أنه له أن يستخلف، قل عمله أو كثر].
والثالث- وهو قول جمهور البصريين، ونسبه الإمام إلى الإصطخري وكذلك القاضي الحسين، وأنه طرده في الوكيل، وأن الصحيح-: أن استخلافه معتبر بعمله، فإن قل [عمله] وقدر على مباشرته بنفسه [لم يجز أن يستخلف، وإن كثر وعجز عن مباشرته بنفسه] جاز أن يستخلف؛ اعتباراً بالوكيل.
قال الماوردي: وعلى هذا فيما يستخلف عليه وجهان:
أحدهما: ما عجز عنه دون ما قدر عليه.
والثاني: في الجميع؛ لأن العرف فيه كالإذن.
وعلى حكاية الأوجه الثلاثة في الحالتين جرى المراوزة، واستغرب الرافعي جريان الخلاف فيما لا يقدر على مباشرته.
ولا خلاف في أنه إذا صرح له في الولاية بالاستخلاف- في جوازه، قال الأصحاب: والمستحب للإمام التصريح به، ولفظ الشافعي- رضي الله عنه وأحب للإمام إذا ولى القضاء رجلاً أن يجعل له أن يولي القضاء من رأى في الطرف والأطراف، فيجوز حكمه.
وكذا لا خلاف [في] أنه إذا نهاه عن الاستخلاف أنه لا يجوز فيما يقدر على مباشرته، وكذا فيما لا يقدر عليه على المشهور، وبه جزم الماوردي، وعن الشاشي حكاية عن أبي الطيب بن سلمة: أن وجود النهي في هذه الحالة كعدمه، وبه جزم القاضي أبو الطيب.
قال الرافعي: والأقرب أحد احتمالين: إما بطلان التولية- ويحكى هذا عن ابن القطان-[أو اقتصاره] على ما يقدر عليه وترك الاستخلاف.
قال الماوردي: ويلزمه أن يُعلِم الإمام عند كثرة عمله بعجزه عن النظر في جميعه؛ ليكون الإمام بالخيار بين أن يأذن له في الاستخلاف أو يصرفه عما عدا المقدور عليه ويولي فيه، والثاني هو الأولى؛ ليكون هو المتولي للاختيار، فإن لم يعلم الإمام أو أعلمه ولم يأذن له في أحد الأمرين، نظر: فإن كان ما ولاه مصراً كثير السواد كالبصرة، كان نظره مختصّاً بالبلد اعتباراً بالعرف، فإن استعداه أحد على أهل السواد: فإن كان أقل من مسافة يوم وليلة، لزمه إحضاره، وإن كان على مسافة القصر يوم وليلة فأكثر، ففي وجوب إحضاره وجهان.
وإن كان العمل مشتملاً على مصرين متباعدين كالبصرة وبغداد فهو بالخيار في النظر في أيهما شاء، فإذا نظر في أحدهما ففي انعزاله عن الآخر وجهان محتملان.
فرعان:
أحدهما: إذا قلنا بمنع الاستخلاف، فاستخلف في أمر عام، وحكم الخليفة فهل يلزم حكمه؟
قال القاضي أبو الطيب: إن حكم مجبراً لم ينفذ، وإن لم يجبر عليه [كان كالتحاكم] في لزومه بنفسه أو توقفه على الرضا بعد الحكم، [وكذلك] ذكر الماوردي وابن الصباغ.
قال مجلي: وهذا فيه نظر؛ لأنهما إنما ترافعا إليه لاعتقادهما أنه حاكم منصوب فيلزم حكمه، فإذا لم يكن كذلك فكيف يلزمهما حكمه وهو فاسد كنصبه؟! وهذا بخلاف من تراضيا عليه؛ لأنهما نصباه لأنفسهما. نعم، لو علما فساد توليته وتراضيا بما يحكم به بينهما فإنه يكون على القولين، فأما مع عدم علمهما بذلك فلا وجه له.
قلت: وقد يتخرج على خلاف حكيهت فيما إذا باع بيعتين في بيعة، وباعه الثاني ما
عيَّنه في البيع الأول؛ بناءً على أنه وجب [عليه] الوفاء بالبيع لأجل الشرط في البيع الأول.
وفي "الرافعي": أنه ليس للقاضي إنفاذ حكم الخليفة، بل يستأنف الحكم بين الخصمين. وهو محمول على ما إذا [كان] حكمه جبراً؛ لأنه قد حكى ما حكيناه عن ابن الصباغ وغيره.
ولو استخلف في أمر خاص من سماع بينة أو تحليف، فمنهم من ألحق ذلك بالاستخلاف في الأمر العام، وعن القفال: القطع بالجواز وإن لم يكن مأذوناً له في الاستخلاف، وهو الأصح في "التهذيب"؛ لأن القاضي لا يستغني عن ذلك.
قال الرافعي: والذي اقتضاه إطلاق الأكثرين الأول.
الثاني: إذا قلنا بجواز الاستخلاف فليس من شرطه أن يوافق الخليفة المستخلف في المذهب، بل يجوز أن يولي الشافعي مالكيّاً وحنفيّاً وبالعكس، وهذا ما جزم به الماوردي في "الأحكام" و"الحاوي" ها هنا.
وقال القاضي أبو الطيب عند الكلام في أن كل مجتهد مصيب، أو المصيب واحد-[لا بعينه] أنه المذهب؛ لأنه ليس يعلم حال التقليد أنه يحكم بخلاف ما يعتقده حقّاً؛ لأن على الحاكم أن يجتهد في الحكم عند كل حادثة، وربما تغير اجتهاده واختلف؛ فلما لم يكن [ذلك] معلوماً حال التقليد، جوز له أن يقلده.
وحكى الماوردي في باب قتال أهل البغي- وكذلك القاضي أبو الطيب- في جواز ذلك وجهين حكاهما الزبيلي هنا، وربما نسبا إلى رواية ابن أبي هريرة.
وقال [القاضي] أبو الطيب: [إن] الذي نص عليه الشافعي- رضي الله عنه المنع؛ فإنه قال: وهكذا من ولي شيئاً فينبغي ألا يوليه من يعلم أنه يعمل بخلاف الحق فيه. ونسب الروياني هذا النص إلى "المبسوط".
ثم على الأول: للنائب أن يحكم بما أدى إليه اجتهاده وإن خالف معتقد إمامه؛
كما إذا كان حنفيّاً فرأى مذهب الشافعي في مسألة، أو بالعكس.
قال الماوردي في "الأحكام": وقد منع بعض الفقهاء من اعتزى إلى مذهب أن يحكم بغيره؛ لتوجه التهمة إليه. وحكاه في "الحاوي" أيضاً، وأن بعض أصحابنا وافقه، ثم قال: وهذا وإن كانت السياسة تقتضيه بعد استقرار المذاهب وتميز أهلها، فحكم الشرع لا يوجبه؛ لما يلزمه من الاجتهاد في كل ما طريقه الاجتهاد.
ولفظ الغزالي في "الوسيط" يوافق هذا الوجه؛ لأنه قال: وليس له أن يشترط على النائب [الحكم] بخلاف اجتهاده، أو بخلاف اعتقاده حيث يجوز تولية المقلد للضرورة، بل اعتقاد المقلد في حقه كالاجتهاد في حق المجتهد.
ثم على الصحيح لو شرط المولِّي على المولَّى في عقد التولية ألا يحكم إلا بمذهب بعينه- كمذهب الشافعي مثلاً- ففي "المهذب" و"التهذيب" وغيرهما: أن التولية باطلة؛ لأنه علقها على شرط، وقد بطل الشرط فبطلت التولية.
وفي "الوسيط": أنه يحكم بما توافق عليه المذهبان لا غير.
وفي "أدب القضاء" لابن أبي الدم: أن القاضي أبا منصور [بن] أبي الشيخ أبي النصر بن الصباغ قال: سألت قاضي القضاة الدامغاني عما إذا ولى القاضي الحنفي نائباً شافعيّاً، وشرط عليه ألا يحكم إلا بمذهب أبي حنيفة، هل يصح؟ فقال: نعم؛ فإن قاضي القضاة أبا حازم ولى أبا العباس بن سريج القضاء ببغداد على ألا يقضي إلا بمذهب أبي حنيفة، فالتزمه. وفي "الإشراف": أن الشرط باطل، ويحكم بما يؤدي إليه اجتهاده.
ويقرب من ذلك ما في "فتاوى" القاضي الحسين: وهو أنه لو ولاه القضاء، واشترط عليه ألا يحكم بالشاهد واليمين، ولا [على] غائب- تصح التولية، ويلغو الشرط حتى يقضي بما يؤدي إليه اجتهاده.
وفي "الحاوي": أن الشرط إن كان عامّاً بأن قال: لا يحكم في جميع الأحكام إلا بمذهب الشافعي مثلاً، فالشرط باطل؛ لأنه قد منعه من الاجتهاد فيما يجب [عليه فيه] الاجتهاد، ثم ينظر: فإن أخرج ذلك مخرج الأمر بأن قال: احكم بمذهب الشافعي، أو مخرج النهي بأن قال: لا تحكم بمذهب أبي حنيفة- صح التقليد، وإن بطل ما أمره به أو نهاه عنه. وإن جعله بلفظ الشرط في العقد فقال: على أن تحكم بمذهب الشافعي، أو: على ألا تحكم بمذهب أبي حنيفة- بطل التقليد؛ لفساد الشرط؛ لأنه معقود على شرط فاسد.
قال في "الأحكام": فإن [كان] المولِّي عالماً بأنه اشترط ما لا يجوز كان قدحاً فيه، دون ما إذا لم يعلم، وإن كان الشرط خاصّاً في حكم بعينه، فإن كان أمراً فقال: أقد من المسلم بالكافر ومن الحر بالعبد، كان أمره بهذا الشرط فاسداً، فإن تجرد عن لفظ الشرط صح التقليد، وإن قرنه بلفظ الشرط بطل التقليد، وإن كان نهياً فهو على ضربين:
الأول: أن ينهاه عن الحكم في قتل المسلم بالكافر والحر بالعبد، ولا يقضي فيه بموجب قود ولا بإسقاط، فهذا شرط فاسد وتقليد صحيح؛ لأنه اقتصر بولايته على ما عداه، فصار خارجاً عن نظره.
والثاني: أن ينهاه عن القضاء بالقصاص، ولا ينهاه عن الحكم فيه، فقد اختلف أصحابنا فيه، هل [هذا النهي] يوجب صرفه عن النظر فيه؟ [على وجهين:
أحدهما: يكون صرفاً عن النظر فيه]؛ فلا يحكم فيه بإيجاب قود ولا بإسقاطه، فعلى هذا يكون التقليد صحيحاً فيما عداه.
والثاني: [أنه] لا يقتضي الصرف، وليصير النهي عنه أمراً بضده أن يقتص من المسلم بالكافر، ومن الحر بالعبد، وقد تقدم حكم الأمر بذلك، والإمام إذا شرط على القاضي الحكم بمذهب بعينه هذا شأنه.
فروع:
إذا أطلق الإمام التولية، وقلنا: بجواز الاستخلاف، فإذا نهاه بعد ذلك، هل يجب عليه الانتهاء؟ قال ابن أبي الدم: هذا ينبغي أن يبنى على الخلاف في انعزال القاضي بالعزل، فإن قلنا:[ينعزل، فيجب عليه أن ينتهي، ولا يجوز أن يستخلف، وإن قلنا: لا ينعزل]، فهذا فيه نظر عندي، وقاعدة الإنابة تقتضي أنه متى نهاه ابتداء أو دواماً لا يجوز [له] الاستخلاف.
إذا تنازع خصمان في الحضور إلى الأصل أو [إلى] النائب، [فطلب أحدهما المحاكمة إليه، وطلب الآخر المحاكمة إلى النائب]- قال في "الحاوي": إن كان القاضي في يوم التنازع ناظراً، فالداعي إليه أولى من الداعي إلى خليفته؛ لأنه الأصل، وإن كان الناظر خليفته [كان الداعي إليه أولى؛ لأنه أعجل.
هل يجوز للقاضي عزل خليفته؟] أطلق بعضهم القول بجوازه إن كان هو الذي ولاه، وإن كان الإمام [هو الذي] استنابه [عنه] فوجهان، وهما في "الحاوي" في أوائل الباب، وقال ها هنا: إنا إذا قلنا: يجوز له أن يستخلف فيما يقدر على مباشرته بنفسه مع ما لا يقدر على مباشرته بنفسه، [فإن استخلف فيما يقدر على مباشرته بنفسه] جاز له أن يعزله مع بقائه على سلامته، وإن استخلف فيما لا يقدر على مباشرته، ففي جواز عزله مع بقائه على سلامته وجهان.
وقال القاضي أبو الطيب: جواز عزله مع سلامة الحال ينبني على أنه ينعزل بموته [أم لا]؟ فإن قلنا: [ينعزل بموته، انعزل بعزله، وإلا فلا ينعزل. وهذا منه بناءً على] أن القاضي الأصل لا ينعزل بموت الإمام، كما سنذكره عند الكلام
في موت القاضي الكاتب؛ لأنه ذكر هذه المسألة ثم.
[أما] إذا استخلف من لا يصلح للقضاء نظر: فإن كان لفسق ونحوه، لم ينفذ شيء من أحكامه، وإن كان لفقد أهلية الاجتهاد، فإن كان مستخلفاً في أحد الأركان، فالمعتبر أن يكون أهلاً للاستقلال بذلك الركن، وإلا فهو كالفسق.
وعن الشيخ أبي محمد: أن نائب القاضي في القرى إذا لم يفوض إليه إمضاء الأحكام، بل سماع البينة ونقلها- فلا يشترط منصب الاجتهاد في حقه، بل العلم اللائق بأحكام البينات.
قال الإمام: وهذا يحوج إلى خطب صالح من الفقه.
تنبيه: إطلاق الشيخ القول بجواز استخلاف من يصلح للقضاء يدل على جواز استخلاف [أبيه أو] ابنه إذا كان يصلح له، وقد صرح به البغوي، وكذا الماوردي، ووجهه بأن [ما بينهما] من البعضية يجري مجرى نفسه، وحكمه بنفسه جائز؛ فجاز بمن هو بعضه، وكذلك جاز للإمام أن يستخلف في أعماله من يرى من أولاده. نعم، لو رد الإمام إلى القاضي اختيار قاض لم يكن له أن يختار ولده ولا والده؛ لأن رد الاختيار إليه يمنعه من اختيار نفسه؛ فمنع اختيار من يجري بالبعضية مجرى نفسه.
قلت: قد حكى البغوي والخوارزمي في "الكافي": أن القاضي هل [يسمع] شهادة ولده ووالده [أم لا]؟ فيه وجهان، وصحح ابن أبي الدم منهما المنع، وكذلك في "البحر" قبل كتاب الشهادات، وكأنَّ وَجْهَهُ تضمُّنُهُ التعديل، وهو متهم فيه، وإذا كان كذلك فهذا المعنى موجود في تفويض الحكم إليه؛ فينبغي أن يمتنع كالشهادة.
فإن قيل: لا نسلم أن مأخذ المنع من قبول الشهادة التهمة في التعديل، بل يجوز أن
يكون مأخذه أنه منزل منزلة نفسه كما ذكرنا، ونحن فقد نمنع حكم القاضي [بعلمه]، فكذا بقول ولده، ولا كذلك الحكم؛ فإنه يجوز أن يحكم بنفسه؛ فكذلك بعضه.
قلت: بل كلام البغوي كالمصرح بأن المأخذ في المنع التهمة، ألا ترى أنه قال بعد ذلك: وكذا إذا زكى المزكي ولده، هل تقبل شهادته؟ فيه قولان؟! وعلى هذا التقدير كان يلزم الماوردي الجزم بمنع التولية؛ لأنه جزم عند الكلام [في أصحاب المسائل، وكذا الروياني والفوراني بمنع التزكية، لكن قد يقال: إن محل جزمه] بجواز التولية إذا كان ثابت العدالة عند غيره؛ فإن في هذه الحالة رجح الإمام الحكم بشهادته، والله أعلم.
قال: وإن احتاج إلى كاتب استحب أن يكون مسلماً عدلاً عاقلاً فقيهاً.
هذا الفصل [ظاهره] يقتضي أمرين:
أحدهما: جواز اتخاذ الكاتب عند الحاجة، ولاشك فيه، وقد قال القاضي أبو الطيب وغيره: إنه يستحب اتخاذه؛ لأن النبي صلى الله عليه وسلم كان له كتاب؛ منهم: علي بن أبي طالب، وهو الذي كتب القضية بين رسول الله صلى الله عليه وسلم وبين [قريش يوم] الحديبية، ومنهم- كما قال ابن عباس- رجل يقال له: السجل، ومنهم زيد بن ثابت، وقد رُوِيَ عَنْ زَيْدِ بْنِ ثَابِتٍ أَنَّهُ قَالَ:[قَالَ] لِيْ رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم: "أَتُحْسِنُ العَبْرَانِيَّةَ؛ فَإِنَّ اليَهُوْدَ يَكْتُبُونَ إِلَيَّ، وَمَا أُحِبُّ أَنْ يَقِفَ عَلَى كُتُبِي كُلُّ أَحَدٍ؟ " فَقُلْتُ: لَا [، قَالَ]: "فَتَعَلَّمْهَا]، [قَالَ]: فَتَعَلَّمْتُهَا فِي نِصْفِ شَهْرٍ- وَرُوِيَ: فِي بِضْعَةَ عَشَرَ يَوْماً- فَكُنْتُ أَقْرَأُ كُتُبَهُمْ عَلَى النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم وَأَكْتُبُ لَهُمْ. وقد كان للخلفاء الأربعة كُتَّاب.
والمعنى فيه: أن الحاكم مشغول بالحكم والاجتهاد، [فاشتغاله] بالكتابة يقطعه عن ذلك.
ومحل الاستحباب: إذا كان الكاتب لا يطلب أجراً، أو طلب وكان له رزق من بيت المال، أما إذا لم يكن في بيت المال ما يرزق منه الكاتب، فقد قال البغوي في كتاب القسمة: إنه لا يتعين في هذه الحالة [له] كاتب.
وقال القاضي الحسين ثم: [إنه] لا يجوز أن يعين له كاتباً.
والفوراني وصاحب "البحر" وغيرهما قالوا: [لا يستحب له] اتخاذ كاتب معلوم؛ لأنه يؤدي إلى التحامل على الناس، ولكنه يخلي بينهم وبين من يستأجرونه.
والأمر الثاني: ما يستحب أن يكون في الكاتب من الصفات، وقد بين منها أربعة:
إحداها: الإسلام، ووجه اعتباره قوله تعالى:{لا تَتَّخِذُوا بِطَانَةً مِنْ دُونِكُمْ لا يَالُونَكُمْ خَبَالاً} [آل عمران: 118]، وقوله تعالى:{لا تَتَّخِذُوا عَدُوِّي وَعَدُوَّكُمْ أَوْلِيَاءَ} [الممتحنة: 1]، وفي اتخاذ الكافر كاتباً اتخاذه بطانة ووليّاً، وَقَدْ رُوِيَ أَنَّ أَبَا مُوْسَى الأَشْعَرِيَّ قَدِمَ عَلَى عُمَرَ وَمَعَهُ كَاتِبٌ نُصْرَانِيٌ، فَأَعْجَبَ عُمَرَ خَطُّهُ وَحِسَابُهُ، فَقَالَ عُمَرُ [لِأَبِي مُوْسَى:] أَحْضِرْ كَاتِبَكَ لِيَقْرَأَهُ، فَقَالَ أَبُو مُوْسَى: إِنَّهُ نَصْرَانِيٌّ لَا يَدْخُلُ المَسْجِدَ؛ فَزَبَرَهُ عُمَرُ وَقَالَ: لَا تَامَنُوْهُمْ وَقَدْ خَوَّنَهُمُ اللهُ، وَلَا تُدْنُوهُمْ وَقَدْ أَبْعَدَهُمُ اللهُ، وَلَا تُعِزُّوهُمْ وَقَدْ أَذَلَّهُمُ اللهُ!
فإن قيل: هذا يقتضي أن تكون صفة الإسلام واجبة.
قلنا: قد قال به بعض الأصحاب، ولم يورد الماوردي وأبو الطيب والبندنيجي وابن الصباغ وغيرهم سواه، وهو الصحيح.
والقائل بالأول قال: ما يكتبه لابد وأن يقف عليه القاضي، ثم يمضيه؛
فتؤمن فيه الخيانة، وقد حكي عن "البيان" تصحيحه، وكأن قائله- والله أعلم- أخذ ذلك من قول الشافعي- رضي الله عنه في "الأم": ما ينبغي لقاض ولا والٍ أن يتخذ كاتباً ذميّاً، ولا يضع الذمي موضعاً يفضل به مسلماً، ويعز على المسلمين أن يكون لهم حاجة إلى غير أهل دينهم، والقاضي أقل الخلق في هذا عذراً. انتهى. فأجرى اللفظ على ظاهره، وحمل ذلك على الكراهة، والأولون حملوه على المنع.
والثانية: العدالة، ووجه اعتبارها أن القاضي [قد يغفل عن] قراءة [ما يكتبه] الكاتب أو يقرؤه، فإذا كان عدلاً أمن منه الخيانة، بخلاف ما إذا كان فاسقاً.
وقد أطلق الماوردي وأبو الطيب وغيرهما القول باشتراط العدالة فيه، ولفظ صاحب "المرشد": ويجب أن يكون عدلاً. ووجهه الماوردي بأنه مؤتمن على إثبات الإقرار والبينات وتنفيذ الأحكام؛ فافتقر إلى صفة من تثبت به الحقوق كالشهادة.
وهذا أخذ من قول الشافعي- رضي الله عنه في "المختصر": ولا ينبغي [أن يتخذ] كاتباً حتى يجمع أن يكون عدلاً [عاقلاً]، ويحرص أن يكون فقيهاً لا يؤتى من جهالة، نزهاً بعيداً من الطمع.
وقد حكى الوجهين [في "المهذب"] في اعتبار العدالة [كما حكاهما في الإسلام].
وعن صاحب "البيان": أنا إن اعتبرنا الإسلام اشترطنا العدالة.
ثم قد يفهم من توجيه جواز كونه كافراً [و] فاسقاً اختصاص هذا الوجه بما إذا كان القاضي كاتباً، أما إذا كان أميّاً وجوزناه فيجب القطع بالمنع؛ لفوات المعنى المجوز، والله أعلم.
والثالثة: العقل؛ كما أشار إليه الشافعي- رضي الله عنه قال الأصحاب: وليس يريد به ما يتعلق به التكليف، وإنما يريد به شدة العقل والذكاء والتحصيل حتى لا يخدع أو يدلس عليه. وقد جزم القاضي أبو الطيب والماوردي وغيرهما باشتراط ذلك؛ لظاهر النص، والرافعي وافق الشيخ في استحباب ذلك.
والرابعة: الفقه؛ ليعلم صحة ما يكتبه من فساده، وقد وافق الشيخ على استحباب هذا الوصف القاضي أبو الطيب وصاحب "البحر"، وإليه يرشد قول الشافعي- رضي الله عنه: ويحرص أن يكون فقيهاً. والمراد بالفقيه ها هنا- كما أشار إليه أبو الطيب والماوردي-: الفقيه في أحكام الكتابة، وما يتعلق بالشروط من المحاضر والسجلات، واستعمال الألفاظ الموضوعة لها، والتحرز من الألفاظ المجملة، وجودة الخط حتى يرتبها؛ فلا يترك نسخة يمكن إلحاق شيء فيها يفسد به المعنى، ويفصلها فلا يكتب سبعة مثل تسعة، وما أشبه ذلك.
وفي "ابن يونس" أنه قد قيل باشتراط وصف الفقه كما قيل باشتراطه في الأمور السابقة، وكلام الماوردي يشير إليه؛ لأنه قال: وصفة كاتب القاضي ما ذكره الشافعي- رضي الله عنه من أوصافه، وهي أربعة: العدالة، والعقل، والفقه، والنزاهة. فإذا ظفر القاضي بمن فيه هذه الأوصاف الأربعة- وأرجو أن يظفر به- جاز أن يستكتبه. وقضية ذلك:- أيضاً- أن تكون النزاهة شرطاً- أيضاً- وهو ما يفهمه كلام صاحب "البحر" حيث قال: وتعتبر النزاهة؛ كي لا يستمال بالطبع. والقاضي أبو الطيب عطف ذلك على الفقه، فأفهم أن المراد به الاستحباب، وإليه يرشد قول الشافعي، وبه صرح الرافعي، ولما جعل الماوردي العدالة شرطاً قال: لا يجوز أن يستكتب عبداً وإن استكمل الأوصاف الأربعة؛ لأن الحرية شرط في كمال العدالة. وتبعه في ذلك الروياني. و [هو] في "تعليق" البندنيجي أيضاً.
وقضية قول من جوز أن يكون كافراً أو فاسقاً، جواز استكتاب العبد حيث يجوز استخدامه، وقد استحب الأصحاب فيه أن يكون حاسباً؛ لأنه يحتاج إليه
الحساب في المقاسم والمواريث.
قال ابن القاص- كما قال ابن الصباغ في أوائل الباب-: ويحرص أن يكون فصيحاً عالماً بلغات الخصوم، حافظاً العجمية إلى العربية.
قال: ولا يتخذ حاجباً ولا بواباً؛ لما قدمناه في [باب] أدب السلطان، وقد رُوِيَ أَنَّ عُمَرَ بْنَ الخَطَّابِ- رضي الله عنه قَلَّدَ سَعْدَ بْنَ أَبِي وَقَّاصٍ الكُوْفَةَ، فَقَضَى فِيْهَا زَمَاناً بِغَيْرِ حَاجِبٍ، ثُمَّ اتَّخَذَ حَاجِباً؛ فَعَزَلَ عُمَرُ حَاجِبَهُ، ولأنه ربما أخر المتقدم وقدم المتأخر، ومنع من له ظلامة، فلو خالف واتخذه كره.
قال: فإن احتاج اتخذ حاجباً؛ لأجل الحاجة، عاقلاً [أي] كما وصفنا في الكاتب، أميناً بعيداً من الطمع؛ لأن اتصافه بذلك يمنع ما ذكرناه من المحذور.
ثم هذه الأوصاف يظهر أن تكون واجبة، وإن لم تكن واجبة في الكاتب؛ لأن ما يتفق من خيانة [لو اتفقت من الكاتب، أزاحها القاضي بنظره، وما يتفق من خيانة] تصدر من الحاجب والبواب، لا مستدرك لها، ويقوي ذلك أن الماوردي قال: الشروط المعتبرة في الحاجب نوعان: واجب، ومستحب:
فأما الواجب: فثلاثة: العدالة، والعفة، والأمانة.
وأما المستحب: فخمسة: أن يكون حسن المنظر، جميل المخبر، عارفاً بمقادير الناس، بعيداً من [الطمع] والهوى والعصبية، معتدل الأخلاق بين الشراسة واللين.
وحكى القاضي أبو الطيب عن ابن المنذر: أنه يستحب أن يكون خصيّاً؛ حتى يكون أبلغ في العفة.
وهذا في وقت انتصابه للأحكام؛ كما نبه عليه كلام الشيخ الآتي من بعد، أما إذا اتخذه في غير وقت انتصابه للحكم لم يكره.
قال الماوردي: بل إذا احتجب عن الناس في ذلك الوقت كان أحفظ لحشمته وأعظم لهيبته، وكان بعض أصحابنا يقول: إنما يكره للقاضي اتخاذ الحاجب في زمان [الاستقامة وسداد أهله، فأما في زمان] الاختلاط والتهارج واستطالة السفهاء والعامة، فالمستحب له أن يتخذ حاجباً؛ لحفظ هيبته، [ومَنْع] استطالة الخصوم. قال في "البحر": وبهذا أقول في زماننا. وقال القاضي أبو الطيب في أوائل الباب: ويستحب [له] أن يتخذ حاجباً يقوم على رأسه إذا قعد، ويقدم الخصوم ويؤخرها، فإذا حكم بين الخصمين وقاما دعا بغيرهما.
وفي "النهاية": أن الصيدلاني ذكر وجهين في أن القاضي هل يتخذ حاجباً؟ ثم ذكر طريقين في محل الوجهين.
إحداهما: أنه إذا لم يجلس للحكم فلم ذلك، وإن جلس له ففيه وجهان.
والثانية: [عكس هذه].
قال الإمام: ولا معنى عندنا للخلاف، ولكن إن كثرت الزحمة وكانت المصلحة في اتخاذ حاجب ليمنع الزحمة اتخذه، وإن كانت المصلحة على خلاف ذلك اتبعها. وهذا منطبق على ما حكاه الشيخ وكذا صاحب "الكافي".
قال: ويأمره ألا يقدم خصماً على خصم، ولا يخص في الإذن قوماً دون قوم، أي عند الاستواء؛ حراسة للقلوب عن التباغض.
قال: ولا يقدم أخيراً على أول؛ لأن تقديم المتقدم واجب، ومخالفة ذلك حرام؛ ففي أمره بذلك تحامٍ عن الظلم.
والخصم- بفتح الخاء- يقع على الرجل والمرأة، والجماعة منهما- بلفظ واحد.
قال الجوهري: ومن العرب من يثنيه ويجمعه، فيقول: خصمان وخصوم.
والخصيم هو الخصم، وجمعه: خصماء، وخاصمته مخاصمة وخصاماً، فخصمته، أخصمه- بكسر الصاد-[والاسم: الخصومة. [واختصموا] تخاصموا، والخصم- بفتح الخاء وكسر الصاد]-: شديد الخصومة. ويقال للجانب من الغرارة والخرج، وكل شيء: خصم، بضم الخاء.
قال: ويوصي الوكلاء على بابه بتقوى الله- تعالى- ويأمرهم بطلب الحق؛ لأنه الحق، [وخلافه حرام].
قال: ويوصي أعوانه، أي الرسل الذين يحضرون الخصوم [إليه] بتقوى الله- تعالى- والرفق بالخصوم؛ لأن الإجحاف ظلم، والأمر بتركه من جملة الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، والقاضي أحق به.
[ثم واحد]"الأعوان": عون، وأصله: الظهير المعاون. وتقوى الله- تعالى-: امتثال أمره واجتناب نهيه، ومعناه: الوقاية من سخطه وعذابه، سبحانه وتعالى.
قال: ولا يتخذ شهوداً مرتبين لا يقبل غيرهم؛ لأن ذلك يؤدي إلى إدخال المشقة على عامة الناس؛ لأن من احتاج أن يشهد على حقه احتاج أن يقطع غليهم المسافة، وربما وجب له حق في موضع لم يحضروه؛ فلا يمكنه إثباته بالشهادة فيضيع.
قيل: [وأول] من اتخذ ذلك إسماعيل بن إسحاق المالكي، واتبعه سائر القضاة في بعض البلاد.
وهذا المنع قال في "الحاوي": إنه مكروه؛ لأنه مستحدث خولف فيه الصدر الأول، وتبعه صاحب البحر، والذي جزم به القاضي أبو الطيب وغيره: أن ذلك حرام؛
لأنه مخالف للكتاب والسنة والإجماع، قال الله تعالى:{وَأَشْهِدُوا ذَوَى عَدْلٍ مِنْكُمْ} [الطلاق: 2]، ولم يخص، وقال صلى الله عليه وسلم:"شَاهِدَاكَ أَوْ يَمِينُهُ"، ولم يفرق، وقد أجمع المسلمون على أن العدل مقبول الشهادة.
أما إذا رتب قوماً للشهادة ولكنه لا يمتنع من قبول [شهادة] غيرهم- قال الماوردي: فذلك جائز من غير كراهة.
قال: ويتخذ قوماً من أصحاب المسائل أمناء ثقات برآء من الشحناء بينهم وبين الناس؛ ليعرف حال من يجهل عدالتهم من الشهود؛ لأنه لا يمكنه البحث بنفسه.
واعتبار الأمانة- وهي العدالة- خشية من الخيانة في المسألة والطمع في الاستمالة بأخذ الرشا.
واعتبار الثقة التي أرادها وهي وفور العقل؛ ليصلوا بوفور عقولهم إلى غوامض الأمور بلطف، ويؤمن أن يتم عليهم خداع أو حيلة، وأيضاً فإن وافري العقل يتجنبون قول المتهم؛ فلا يسألوا عن الشاهد عدوه، فيظهر قبيحاً [ويخفي حسناً، أو صديقه، فيظهر حسناً ويخفي قبيحاً].
واعتبار البراءة من الشحناء- وهي بالمد-: البغض والعداوة بسبب نشب، أو حسد، أو مذهب كأهل الأهواء والعصبية- حتى لا يحملهم ذلك على جرح مخالفيهم وأعدائهم وتعديل موافقيهم وأحبابهم.
قال الماوردي: ولأن مَنْ طباعه العداوة والحسد، من الخير بعيد، ومن الشر قريب، فلم يوثق بخبره.
ومجموع لفظ الشافعي- رضي الله عنه في "الأم" و"المختصر" في صفاتهم: أن يكونوا جامعين للأمانة في أديانهم، وافري العقول لا يغفلون بأن يسألوا الرجل عن
عدوه فيخفي حسناً ويقول قبيحاً، أو عن صديقه فيخفي قبيحاً ويقول حسناً، برآء من الشحناء بينهم وبين الناس، [أو الحيف عليهم] أو الحيف على أحد، وألا يكونوا من أهل الأهواء والعصبية والمماطلة للناس؛ أي: اللجاج؛ لأن اللجوج ينصر هواه ويرتكب ما يهواه، ولا يرجع عن الخطأ إن ظهر له الصواب.
قال الماوردي: فإذا تكاملت هذه الأوصاف في أصحاب المسائل- وإن كان كمالها متعذراً- صاروا أهلاً أن يعول عليهم في البحث ويرجع إلى أقوالهم في التعديل والجرح. وهذا يقتضي اشتراطها، وفي "النهاية": أن هذه الأوصاف مستحبة.
قال: ويجتهد ألا يعرف بعضهم بعضاً، أي: بالصفة المذكورة؛ خشية أن يجمعهم الهوى على التواطؤ، ومن طريق الأولى: ألا يكونوا معروفين بذلك للناس؛ خشية أن يحتاج عليهم الشهود، أو المشهود له أو عليه، برشوة أو غيرها.
قال الماوردي: وكذا يحرص ألا يعرفوا لمن يسألونه حال الشهود فيأمنوا من احتيال أعداء الشهود في إظهار الجرح، وأصدقائهم في إظهار التعديل.
وأرباب المسائل الذين أرادهم الشافعي- رضي الله عنه هم المذكورون، كما ذكره الماوردي.
وقال [الإمام]: إن من الأصحاب من قال ذلك، ومنهم من قال: إنه أراد بهم الرسل الذين يحملون الرقاع إلى المزكين للبحث عن أحوال الشهود.
وهذا كأنه قول أبي إسحاق الذي سنذكره في [الباب] التالي لهذا.
وحكى ابن أبي الدم أن منهم من قال: أراد: الذين يسألون المذكورين عن أحوال الناس.
قال: ولا يولي ولا يحكم ولا يسمع البينة في غير عمله، فإن فعل ذلك لم يعتد به؛ لأنه لا ولاية له فيه فأشبه سائر الرعية، وهكذا الحكم في الكتابة إلى قاض آخر.
وحكى الرافعي قبيل القسمة أن ابن القاص قال: إنه لا يحكم ولا يشهد في غير محل ولايته، فأما الكتاب فلا بأس به.
قال الرافعي: وهو الذي يستمر على أصل الشافعي، رضي الله عنه.
وظاهر كلام الشيخ [يقتضي] أنه لا فرق في البينة التي سمعها في غير عمله بين أن تكون شاهدة بالحق كالغصب والإقرار ونحوه وهي ثابتة العدالة عنده، أو لا، ولا بين أن تكون شاهدة بالتزكية، وقد وقعت الشهادة بأصل الحق في العمل.
وفي "أدب القضاء" للزبيلي: أنه لو سمع الشهادة في غير عمله، ووقف على عدالتهم في عمله، وحكم بها- ففيه قولان. [قال]: وهذا بناءً على أن القاضي، هل يحكم بعلم نفسه أم لا؟
قلت: وفي هذا كلامان:
أحدهما: منع كون هذه الصورة من صور القضاء بالعلم؛ كما سيأتي.
والثاني: على تقدير التسليم، فأي معنى لفرض سماع عدالتهم في عمله، بل قد يظهر أن يقال: إن مأخذ الخلاف أن الاعتبار في شهادة الشهود إذا زكوا بوقت الأداء أو بوقت التزكية، وفيه كلام يرشد إليه قول الغزالي وإمامه في كتاب صلاة العيدين، فيما إذا شهد شاهدان بعد الغروب في يوم الثلاثين من رمضان رؤية الهلال ليلة الثلاثين-: إنا لا نصغي إليهما، ولو شهدا بعد الزوال يوم الثلاثين [وقبل الغروب عمل بشهادتهما في الفطر، وبان فوات العيد، ولو شهدا بعد الزوال وعدلا بعد الغروب] ففي فوات الصلاة وجهان:
أحدهما: [لا]؛ لأن النظر إلى وقت التعديل [؛ فيصلون من الغد بلا خلاف]، وقد عدلوا في غير وقته.
والثاني: النظر إلى وقت الشهادة، على أن [النظر إلى] هذا أيضاً بعيد.
ولو انعكس الحال، فسمع الشهادة في عمله والتعديل في غير عمله- قال ابن القاص: يحكم به؛ كذا حكاه في "الإشراف"، وزاد الرافعي في الحكاية عنه أن هذا
بناءً على [أن له أن يقضي بعلمه.
وقال أبو سعد: هذا يخرج على] قول من يقول: إن الشهادة على العدالة تجوز بالاستفاضة. وقال [أبو] عاصم العبادي وغيره: القياس عندي أنه لا يحكم.
قال: ولا يجوز أن يرتشي؛ لما روى أبو بكر بن المنذر عن أبي هريرة قال: لَعَنَ رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم الرَّاشِي وَالْمُرْتَشِي فِي الْحُكْمِ.
وروى أبو داود عن عبد الله بن عمر- رضي الله عنهما قال: لَعَنَ [رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم الرَّاشِي وَالمُرْتَشِي. وأخرجه ابن ماجة.
وروى ثوبان عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: "لَعَنَ] اللهُ الرَّاشِيَ، وَالمُرْتَشِيَ، وَالرَّائِشَ: الَّذِي يَمْشِي بَيْنَهُمَا"، وروى أنس نحوه.
ولأنه [إن أخذ للحكم] بغير حق، فالحكم بغير الحق حرام، والأخذ عليه حرام، وإن أخذ على إيقاف الحكم فهو يلزمه الحكم لمن وجب له؛ فتركه حرام، وإن
أخذ على أن يحكم بالحق فليس له؛ لأنه يأخذ الرزق [على ذلك] من الإمام، فليس له أن يأخذ عليه عوضاً آخر.
أما دفع الرشا فهل يجوز؟ قال الأصحاب كما حكاه أبو الطيب [والإمام] والماوردي وابن الصباغ: إن كان يطلب بما دفع الحكم بغير الحق [أو إيقاف] الحكم بالحق حرم عليه، وإن كان يطلب به وصوله إلى حقه لم يحرم عليه، وإن كان حراماً على غيره؛ كما لا يحرم عليه أن يفك الأسير بماله.
قال في "المرشد": وتحمل لعنة الراشي والمرتشي على ما إذا قصد بها إيقاف الحكم [بالحق] أو الحكم بالباطل، ولذلك قال الله- تعالى:{لِتَاكُلُوا فَرِيقاً مِنْ أَمْوَالِ النَّاسِ بِالإِثْمِ وَأَنْتُمْ تَعْلَمُونَ} .. [الآية][البقرة: 188]، والمتوسط بينهما هو تابع لموكله فيهما، فإن [كان وكيلاً] عنهما كان فعله حراماً.
وهذا الكلام من الأصحاب يدل على أن الرشوة تكون لطلب حق ولطلب باطل، وقد حكي عن ابن كج [أنه] قال: الرشوة عطية بشرط أن يحكم له بغير حق، والهدية عطية مطلقة.
وكلام الماوردي يخالفه؛ فإنه قال: الرشوة: ما تقدمت الحاجة، والهدية ما تأخرت.
والذي حكاه الغزالي في "الإحياء" منطبق على الأول؛ فإنه قال: المال [إن] بذل لغرض آجل فهو قربة وصدقة، وإن بذل لغرض عاجل: فإن كان لغرض مال في مقابلته فهو [هبة] بثواب مشروط أو متوقع، وإن كان لغرض عمل محرم أو واجب متعين فهو رشوة، وإن كان مباحاً فإجارة أو جعالة، وإن كان للتقرب
والتودد للمبذول له: فإن كان لمجرد نفسه فهدية، وإن كان ليتوسل بجاهه إلى أغراض ومقاصد: فإن كل جاهه بعلم أو نسب أو صلاح فهدية، وإن كان بالقضاء والعمل بولاية فرشوة.
وقد تقدم في هذا الباب حكم البذل في هذه الحالة.
قال القاضي أبو الطيب في "تعليقه"، وكذا الشيخ أبو حامد كما حكي عنه: إن تحريم أخذ الرشوة على الحاكم إذا كان [له رزق] من بيت المال، فأما إذا لم يكن له رزق، [أي]: وكان ممن يجوز أن يفرض له، فقال للمتحاكمين: لست أقضي بينكما حتى تجعلا لي رزقاً [عليه]- فإنه حينئذ يحل له ذلك. [وعلى ذلك][جرى] الجرجاني في "التحرير".
قال ابن الصباغ: ويجوز مثل ذلك؛ لأنه لم يذكر أنه طلبه من أحدهما، وأما أخذه من أحدهما للحكم بالحق، فإنه يجري مجرى الهدية، وسنذكرها.
واعتبر البندنيجي في جواز ذلك: أن يكون مشغولاً في معاشه بحيث يقطعه النظر عن اكتساب المادة؛ كما [قاله في "الحاوي"]، أما إذا لم يقطعه إما لغنائه بما يستجده، وإما لقلة المحاكمات التي لا تمنعه من الاكتساب- لم يجز أن يرتزق من الخصوم، ثم اعتبر [الماوردي] في حالة الجواز- مع ما ذكرناه- ثمانية شروط:
أحدها: أن يعلم به الخصمان قبل التحاكم إليه، فإن لم يعلما إلا بعد التحاكم لم يجز أن يرتزقهما.
الثاني: أن يكون على الطالب والمطلوب، ولا يأخذ من أحدهما فيصير [به]
متهماً.
الثالث: أن يكون عن إذن الإمام؛ فإن لم يأذن لم يجز.
الرابع: ألا [يوجد متطوع]؛ فإن وجد لم يجز.
الخامس: [أن يعجز [الإمام] عن دفع رزقه، فإن قدر [على ذلك] لم يجز.
السادس]: أن يكون ما يرتزقه من الخصوم غير مُضِرٍّ بهم، فإن أضَرَّ بهم وأثر عليهم [لم يجز].
السابع: ألا يستزيد على قدر حاجته، فإن زاد عليها لم يجز.
الثامن: أن يكون قدر المأخوذ مشهوداً، يتساوى فيه جمع الخصوم، وإن تفاضلوا في [المطالبات، فإن فاضل بينهم لم يجز إلا أن يتفاضلوا] في الزمان؛ فيجوز.
قال: وفي مثل هذا معرة [تدخل على جميع] المسلمين، وإن جازت في الضرورات فواجب على الإمام وكافة المسلمين أن تزال مع الإمكان؛ إما بأن يتطوع منهم بالقضاء من يكون من أهله، وإما بأن يقام لهذا بالكفاية؛ لأنه لما كانت ولاية القضاء من فروض الكفايات كان رزق القاضي بمثابة ولايته، فلو اجتمع أهل البلد مع أعوان بيت المال على أن جعلوا للقاضي من أموالهم رزقاً دارّاً جاز، وكان أولى أن يؤخذ من أعيان الخصوم.
وفي "الرافعي" أن القاضي أبا سعد الهروي قال: الأكثرون منعوا ما إذا رزقه أهل ولايته [أو واحد من الناس. وقال في موضع آخر- أعني: الرافعي-: لو رزق الإمام القاضي من مال نفسه، أو رزقه أهل ولايته]، أو واحد منهم- فالذي
خرجه صاحب "التلخيص": أنه لا يجوز له قبوله. لكن قد ذكرنا في باب الأذان: أنه كما يجوز أن يكون رزق المؤذن من بيت المال، يجوز أن يكون من مال الإمام أو واحد من الرعية.
وأطلق الماوردي وصاحب "البحر" في كتاب القسمة القول بأنه لا يجوز للقاضي أن يأخذ [شيئاً] من الرعية إذا لم يكن له رزق من بيت المال، وفرق بينه وبين القسمة بما سنذكره فيها، إن شاء الله تعالى.
وحكي [عن] ابن كج أنه قال: ذكر جماعة من فقهاء أصحاب أبي حنيفة والشافعي: إذا لم يكن للقاضي شيء من بيت المال فله أن يأخذ عشر ما يتولاه من أموال اليتامى والوقوف؛ للضرورة. ثم بالغ [في] الإنكار عليه، وقال: أي ضرورة في هذا؟! [إن لم يتفرغ للقضاء من غير رزق فليمتنع.
ومن ذهب إلى هذا] فكأنه ذكر العشر تمثيلاً وتقريباً، ولابد من النظر إلى كفايته وإلى قدر المال والعمل، والله أعلم.
تنبيه: في الرشوةِ وجَمْعِها أربعُ لغاتِ: رِشْوة ورِشَا- بكسر الراء في المفرد والجمع- ورُشوة ورُشاً- بالضم فيهما- ورِشَوْة- بالكسر، ورُشاً بالضم- وعكسهما، ورشوة- بالفتح- وقد رشاه يرشوه [رَشْواً]، وارتشى: أخذ رشوة، واسترشى: طلبها.
قال: ولا يقبل هدية ممن لم يكن له عادة بالهدية [له] قبل الولاية، أي: وإن لم يكن له حكومة؛ لقوله صلى الله عليه وسلم: "هَدَايَا الْعُمَّالِ غُلُولٌ"، وروي "سُحت"، وإذا كان ذلك في العامل، ففي القاضي أولى.
وفي "الوسيط": أن القبول في حال عدم المحاكمة والحالة هذه جائز، لكن الأولى أن يُثيب أو يضع في بيت المال.
وفي "النهاية" أن القبول مكروه في هذه الحالة، وهو أشد كراهة من القبول فيما إذا [لم تكن] له عادة بالهدية له قبل الولاية [وهو في غير عمله،]، وعلى ذلك جرى في "البسيط".
والذي أورده العراقيون الأول، وكذلك البغوي وصاحب "الكافي"، واستدلوا له بما رواه الشافعي مسنداً عن أبي حميد الساعدي- رضي الله عنهما قال: اسْتَعْمَلَ رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم رَجُلاً مِنْ بَنِي الأَوْدِيَةِ، يُقَالُ لَهُ ابْنَ اللُّتْبِيَّةِ عَلَى الصَّدَقَةِ، فَلَمَّا قَدِمَ قَالَ:"هَذَا لَكُمْ، وَهَذَا أُهْدِيَ إِلَيَّ؛ فَقَامَ رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم عَلَى المِنْبَرِ [خَطِيْباً]، فَقَالَ: "مَا بَالُ العَامِلِ نَبْعَثُهُ عَلَى بَعْضِ أَعْمَالِنَا، فَيَقُولُ: هَذَا لَكُمْ وَهَذَا أُهْدِيَ إِلَيَّ؟! أَلَا جَلَسَ فِي بَيْتِ أَبِيهِ أَوْ أُمِّهِ، فَيَنْظُرُ أَيُهْدَى لَهُ أَمْ لَا؟! وَالَّذِي نَفْسِي بِيَدِهِ لَا يَاخُذُ أَحَدٌ مِنْهَا شَيْئَاً إِلَّا جَاءَ بِهِ يَوْمَ القِيَامَةِ يَحْمِلُهُ عَلَى رَقَبَتِهِ، إِنْ كَانَ بَعِيْراً لَهُ رُغَاءٌ، أَوْ بَقَرَةٌ لَهَا جُؤَارٌ، أَوْ شَاةٌ تَيْعِرُ"، ثُمَّ رَفَعَ يَدَهُ حَتَّى رَأَيْنَا عَفْرَ إِبْطِهِ، ثُمَّ قَالَ: "اللَّهُمَّ هَلْ بَلَّغْتُ، اللَّهُمَّ هَلْ بَلَّغْتُ"، وقد أخرجه مسلم والبخاري وغيرهم، وإن اختلفت ألفاظهم.
وابن اللتبية: هو عبد الله، وهو بضم اللام وسكون التاء ثالثة الحروف وتحرك أيضاً، وبعدها باء موحدة مكسورة وياء آخر الحروف مشددة، وتاء تأنيث. وقد قيل: ابن الأتيبة، بضم الهمزة وسكون التاء ثالثة الحروف وتحرك أيضاً.
وتيعر- بفتح التاء ثالثة الحروف، وسكون الياء آخر الحروف، وبعدها عين مهملة تفتح وتكسر، وراء مهملة-: الصياح، وقد قيل الثُّغاء للضأن، واليُعار للمعز، والجؤار- بضم الجيم وبعدها همزة-: الصوت، وحكى الأخفش أن بعضهم قرأ:{عِجْلاً جَسَداً لَهُ جُؤار} [الأعراف: 148].
قال: ولا ممن كانت له عادة- أي: بسبب رحم أو مودة- ما دامت له خصومة؛ لأن القبول في هذه الحالة بمثابة الرشوة.
قال البندنيجي: وهكذا لو أحس أنها لحكومة حرم القبول.
قال: فإن لم تكن [له] خصومة جاز أن يقبل، أي قدر ما جرت عادته بقبوله منه، ومثله؛ لخروج ذلك عن سبب الولاية، وهذا ما حكاه ابن الصباغ عن النص في "الأم"، ولفظه: وما أهدى له ذو رحم ومودة كان يُهاديه قبل الولاية، فالترك أحب إليّ، ولا بأس أن يقبل ويتمول.
قال ابن الصباغ: ومن أصحابنا من قال: لا يجوز قبولها؛ للحديث السابق. ووجهه في "الحاوي": بأنه يجوز أن تحدث له محاكمة، فيكون قد تسبب بالهدية للممايلة. وقضية كلام هذا القائل: أنه لا يجوز للحاكم قبول الهدية [بحال، وهو ما أورده الفوراني والمسعودي.
وعلى الأول- وهو ما ادعى البندنيجي أنه المذهب]- قال [الشيخ]: والأولى ألا يقبل؛ حسماً لمادة التهمة [بكل حال، وظاهر النص في "الأم" الذي تقدم: أنه يستحب ألا يقبل]، وعلى هذا اللفظ جرى القاضي الحسين والإمام والبندنيجي وأبو الطيب.
أما إذا أهدي إليه أكثر مما جرت به عادته أو أرفع منه، مثل أن كان يهاديه بالطعام، فصار يهاديه بالثياب- لم يجز قبولها؛ كما صرح به الماوردي، وتبعه البغوي وصاحب "الكافي"؛ لأن الزيادة هدية بالولاية- وكان قضية هذا التعليل أن يطرد ذلك في الهدية للإمام، وسنذكر عنه ما يخالفه، وعلى رأي الغزالي وإمامه: لا يحرم القبول.
وهذا كله إذا كانت الهدية في عمله من أهل عمله.
قال الماوردي: ونزوله على أهل عمله ضيفاً كقبول الهدية منهم، ولو كانت الهدية في غير عمله من غير أهل عمله- لسفره عن عمله- قال الماوردي: فنزاهته عنها أولى به من قبولها، فإن قبلها جاز ولم يمنع منها، وحكى ذلك الفوراني والبغوي أيضاً، ولفظ ابن الصباغ حكاية للفظ الشافعي: فإن أهدي إليه في غير عمله كرهت له ذلك؛ فإن قبل جاز. فأجراه الشافعي مجرى من جرت عادته بالهدية له، ومن أصحابنا من حرمه، وقد حكى هذا الوجه البندنيجي وأبو الطيب أيضاً.
[وعلى الأول] قال في "الحاوي": لو نزل ضيفاً عليهم فلا يكره إن كان عابر سبيل، ويكره إن كان مقيماً.
ولو كانت الهدية في عمله من غير أهل عمله بأن أرسل بها رسول، فإن كان للمهدي حكومة حرم القبول، وكذا لو دخل بها [المهدي] بنفسه ولا حكومة له؛ لأنه صار من عمله بالدخول [فيه]، وإن أرسل بها ولا حكومة له؛ ففي جواز قبولها وجهان في "الحاوي".
فرع: ما حكم المال المأخوذ إذا قلنا: لا يجوز أخذه؟ أطلق ابن الصباغ فيه وجهين إتباعاً للقاضي أبو الطيب:
أحدهما: يرد إلى بيت المال للمصالح؛ لأنه أهدى إليه لمكان ولايته، وهو منتصب لمصلحة المسلمين، وكأن المهدي أهداه للمسلمين يصرف في مصالحهم.
والثاني: يرد إلى صاحبه، ثم قال: وكذلك العامل في الصدقات إذا أهدى له، فيه وجهان:
أحدهما: يرد إلى الصدقات.
والثاني: يرد إلى مالكه.
والمذهب في "تعليق" البندنيجي في الصورتين: الأول، وفي "الحاوي" تخصيص الوجهين في الهدية للقاضي بالهدية المبتدأة التي لا مقابل لها، وقال فيما إذا وقعت قبل الحكم: فهي رشوة، فترد إلى مالكها وينفذ الحكم على المهدي إذا ردها قبله أو بعده، وكذلك ينفذ له إن ردها قبل الحكم، وإن ردها بعده ففي نفوذه وجهان. وقال فيما إذا وقعت الهدية بعد الحكم جزاء لما جرى: إنها ترد على مهديها، وإن الحكم معها نافذ.
وقد حكى المراوزة فيما يفعل بالمال مع القول بالتحريم- وجهين:
أحدهما: يرد لمالكه، وهو الذي عليه الأكثرون؛ كما حكاه الإمام.
والثاني: أن القاضي يملكه؛ لأن الهبة صدرت من مطلق، وكذلك القبول والتحريم محمول على التعريض للتهمة في الأمر الظاهر، فالملك بالإضافة إلى التحريم كالصلاة في الدار المغصوبة، وهذا ما اختاره صاحب "التقريب"؛ كما حكاه الفوراني.
وأشار الإمام إلى أن هذا الخلاف يقرب من تردد الأصحاب في أن من دخل عليه وقت صلاة في السفر، ومعه ماء يكفيه لوضوئه، فوهبه ممن لا يحتاج إليه لسقيه- فهل يملكه؟ وأن الخلاف في مسألتنا مرتب على الخلاف في مسألة الماء.
وفي "التهذيب" و"الكافي" حكاية الخلاف في ملك القاضي له إذا لم يثبه، أما إذا أثابه ملكه.
وعن القفال أن البذل إن كان ممن له خصومة لم يملكه، وإن كان المهدي من أهل ولايته، ولا خصومة له و [لا] كان يعتاد- الإهداء- فهل يملكه؟ فيه وجهان وهذا قريب من كلام الماوردي.
قال مجلي عقيب هذا الكلام: فإن قلنا: لا يملكه. فما الذي يفعل به؟ فيه وجهان:
أحدهما: يدفع لبيت المال.
والثاني: يرد [إلى مالكه]. وكأنه أخذ هذا من مجموع الطريقين.
قال الرافعي: والقياس ما ذكره أبو الفرج الزاز، وهو أنه إذا لم يملكها يردها على مالكها، فإن لم يعرفه وضعت في بيت المال.
وهذا حكم الهدايا للقضاة، [وأما الهدايا] للأئمة، فقد قال [في "الحاوي"]: إنها إن كانت من هدايا دار [الإسلام]، فهي على ثلاثة أقسام:
أحدها: أن يهدي إليه من يستعين به على حق يستوفيه، أو على ظلم يدفعه عنه، أو على باطل يعينه عليه- فهذه [رشوة محرمة]، ويجب ردها على باذلها، ولا يجوز أن توضع في بيت المال، ويحرم على المهدي البذل في الصورة الأخيرة دون الأوليين.
الثاني: أن يهدي إليه من كان يهاديه قبل الولاية، فإن كان بقدر ما كان يهاديه قبل الولاية لغير حاجة عرضت [له]، فيجوز له قبولها، وإن اقترن بها حاجة عَرَضَتْ فيمتنع من القبول عند الحاجة، ويجوز أن يقبلها بعد الحاجة، وإن زاد في هديته على قدر العادة لغير حاجة، فإن كانت الزيادة من جنس الهدية جاز قبولها؛ لدخولها في المألوف، وإن كانت من غير جنس الهدية منع [من] القبول.
الثالث: أن يهدي إليه من لم يكن يهاديه قبل الولاية، فإن كان لأجل ولايته فهو رشوة يحرم عليه أخذها وإن كان الباذل مستحقّاً؛ للولاية، ويجب ردها، وهل يحرم البذل؟ فيه كلام ذكرته فيما تقدم في هذا الباب. وإن كان لأجل جميل صدر له منه إما واجباً أو تبرعاً، فلا يجوز قبولها [أيضاً؛ لأنه يصير مكتسباً لمجاملته،
ويجب ردها، ولا يحرم البذل على المهدي]. وإن كان لا لأجل ولايته ولا مكافأة على جميل فهذه هدية بعث عليها جاهه، فإن [كان] كافأه عليها جاز له قبولها، وإن لم يكافئه عليها فلا يقبلها لنفسه، وهل يقبلها لبيت المال؛ لأن جاه السلطنة لكافة المسلمين، أو يردها ولا يقبلها؛ لأنه المخصوص بها؟ فيه وجهان، ولا خلاف في أن رسول الله صلى الله عليه وسلم كان يقبل الهدية؛ لأنه كان يكافئ عليها، ولا يميله عن الحق شيء؛ فذلك جاز له ولم يجز لغيره.
وإن كانت من هدايا دار الحرب جاز له قبول هداياهم، ثم ينظر: فإن كانت لأجل السلطنة كانت الهدية للمسلمين، وإن كانت لأجل مودة سلفت بينه وبينهم قبل السلطنة جاز [له] أن يتملكها، وإن كانت لأجل حاجة عرضت، فإن كان لا يقدر على قضائها إلا بالسلطنة كان بيت المال أحق بها منه، وإن كان يقدر عليها بغير السلطنة كان أحق بها من بيت المال.
والهدية للعمال على جباية الخراج والصدقات إن صدرت من غير أهل عمله، فهي كالمهاداة بين غير الولاة من الرعايا، وسنذكر حكمها.
وإن كان من أهل عمله: فإن كانت قبل استيفاء الحق منه فهي رشوة يحرم عليه أخذها، سواء كان له رزق أو لا، وإن كانت بعد أخذ الحق منه: فإن كانت لأجل جميل صدر منه له كان يجب على العامل فعله، لم يجز أن يقبلها لنفسه إلا أن يعجل المكافأة، وهل يقبلها لبيت المال أو يردها على مالكها؟ فيه وجهان، وإن كانت بعد أخذ الحق منه على غير سبب أسلفه، فإن عجل المكافأة عليها بمثل قيمتها جاز أن يتملكها، وإلا فثلاثة أوجه:
أحدها: أنها تقر على العامل؛ لأن رسول الله صلى الله عليه وسلم أَقَرَّ ابْنَ اللُّتْبِيَّةِ عَلَى الهَدِيَّةَ، وَلَمْ يَسْتَرْجِعْهَا مِنْهُ.
والثاني: تسترجع لبيت المال، وتضم [إلى] المال الذي استعمل عليه؛
لوصولها بسببه، فإن رأى الإمام باجتهاد أن يعطيه إياها جاز إذا كان مثله يجوز أن يبدأ بمثلها، وإن رأى أن يشاطره عليها جاز؛ كَمَا فَعَلَ عُمَرُ- رضي الله عنه فِي ابْنَيْهِ حِيْنَ أَخَذَا مَالَ الفَيْءِ قَرْضاً، وَاتَّجَرَا فَرَبِحَا.
الثالث: إن كان العامل مرتزقاً قدر كفايته أخذت منه لبيت المال، وإن كان غير مرتزق أقرت عليه، ولو كان مرتزقاً ولم يكتف برزقه عما تدعوه الحاجة إليه استرجع منه ما تجاوز قدر حاجته. كذا قال تخريجاً لنفسه.
ويجوز بعد أخذ الحق منه أن يدخل في ضيافته إن كان مختاراً، ولا يجوز إن كان مستوطناً ولا قبل أخذه الحق منه.
والهدية من الرعايا بعضهم لبعض إن كانت لطلب آجل أو عاجل، هو مال أو مودة- فجائزة، وفي بعض الصور مستحبة؛ كما تقدم في الباب، وفي الهبة.
وإن كانت لأجل شفاعة، فإن [كانت] الشفاعة في محظور: كطلب محظور، أو إسقاط حق، أو معونة في ظلم- فقبولها حرام، وإن كانت الشفاعة في مباح لا يلزمه، فإن شرط [الهدية على المشفوع له فقبولها محظور، [وكذلك إن قال] المهدي: هذه الهدية جزاء شفاعتك، فقبولها محظور] أيضاً. وإن لم يشترطها الشافع، وأمسك المهدي عن ذكر الجزاء: فإن كان مهادياً له قبل الشفاعة لم يكره القبول، وإلا كره له القبول ما لم يكافئه عليها، فإن كافأه لم يكره.
فرع: يكره للحاكم البيع والشراء في نفقة عياله وتدبير ضياعه، وكذا الإتجار بنفسه؛ لقوله- عليه السلام:"مَا عَدَلَ [وَالٍ] اتَّجَرَ فِي رَعِيَّتِهِ أَبَداً"، ولأنه يشتغل بذلك عن القضاء الذي أخذ الرزق عنه، وربما حوبي، والمحاباة هبة.
قال الشافعي- رضي الله عنه في "الأم": وذلك في مجلس الحكم أكره [له].
وينبغي أن يكون [له] وكيل يقوم بذلك، ولا يعرف أنه وكيله؛ كي لا يحابي، فإن وكل وكيلاً يعرف بوكالته استبدل به غيره، ولو لم يجد من ينوب عنه تولى ذلك بنفسه؛ لأنه لابد [له] منه.
فإذا وقعت لمن باعه حكومة استخلف من يحكم بينه وبين خصمه؛ لأنه إذا تولى الكم بنفسه لم يأمن أن يميل إليه، قاله في "المهذب"، وهذا التحكيم على وجه الاستحباب، كما أشار إليه في "الحاوي".
قال: ولا يحكم لنفسه ولا لوالده، أي: من ذكر وأنثى وإن علا، ولا لولده أي: من ذكر وأنثى وإن سفل، ولا لعبده أي: القن أو المكاتب الكامل له أو له فيه شقص، وأمته أي: القنة أو المكاتبة أو أم الولد؛ لما يلحقه في ذلك من التهمة، ولأنه إذا لم تجز الشهادة لهم، فالحكم- وهو فوق الشهادة- أولى.
قال: وإن اتفق لواحد منهم خصومة، حكم فيها بعض خلفائه؛ إذ لا تهمة تلحقه، وهذا ما أورده [القاضي] أبو الطيب وابن الصباغ والبغوي وغيرهم، وقالوا: إذا لم يكن [له] خليفة [ثَمَّ]، ترافعا إلى قاضي [بلد] آخر، وإن كانا في بلد الإمام ترافعا إليه، وقيل: إن قلنا: إن الخليفة ينعزل بموته، لم يحكم له؛ كذا قاله الغزالي، وهو مطرد في أبعاضه، كما قاله الرافعي، وجعله ابن يونس الأظهر فيما إذا كانت الخصومة له.
وقد حكى الماوردي هذا الوجه، ولم ينبه على ما ذكر. ومقتضى البناء: أن يقال: إذا ترافع الإمام الأعظم وبعض الرعية إلى أحد القضاة، ألا يحكم له إذا قلنا: إن القاضي ينعزل بموت الإمام- كما سنذكره- وقد جزم الماوردي وغيره بجواز الحكم له؛ لأن القضاة ولاة في حقوق المسلمين، وإن صدرت ولايتهم عن الإمام.
وقد حاكم علي يهوديّاً إلى شريح في دِرْع وهو قاضيه، وعمر حاكم [أبي ابن] كعب إلى زيد بن ثابت، وعثمان حاكم طلحة إلى جبير بن مطعم، ولم ينكر [ذلك] أحد.
والفرق بين القاضي والإمام على هذا الوجه: أن القاضي يمكنه الترافع إلى قاض آخر [أو إلى] الإمام، وليس كذلك الإمام لو امتنع ذلك.
وقد استدل بعضهم على جواز حكم الخليفة لقاضيه بفعل هؤلاء الصحابة- رضي الله عنهم والفرق الذي ذكرناه يمنع الاستدلال، وما ذكره الشيخ من منع الحكم للوالد ونحوه هو المشهود في الطرق.
وقد اختلف كلام الماوردي [فيه]:
فقال قبيل كتاب الشهادات: إن حكمه لهم مردود في قول جميع الفقهاء، وحكي عن أبي ثور جوازه [كالحكم] لغيره. قال: وهو خطأ؛ لأن الحكم أقوى من الشهادة، وهو ممنوع من الشهادة لهم؛ فكان أولى أن يمنع من الحكم [لهم].
وقال [قبل "كتاب] قاض إلى قاض" بأربع أوراق: في جواز حكمه لوالديه ومولوديه ثلاثة أوجه:
أحدها: لا يجوز حكمه لهم كالشهادة.
والثاني: يجوز، وإن لم يجز أن يشهد لهم؛ لأن طريق الحكم ظاهر، وطريق الشهادة باطن؛ فتوجهت إليه التهمة في الشهادة، ولم تتوجه إليه في الحكم.
والثالث: أنه يجوز أن يحكم لهم بالإقرار، ولا يجوز أن يحكم لهم بالبينة؛ لأنه [قد] يتهم بأنه يعدل [منها ما ليس بعدل]، ولا يتهم في الإقرار.
وكلام الإمام يقرب من هذا؛ لأنه قال بعد حكاية ما ذكره الشيخ عن الأصحاب:
والأصح التفصيل، فنقول: قضاؤه له بعلمه مردود إن جوزنا القضاء بالعلم؛ قياساً على الشهادة، وأما إذا قضى له ببينة، ففيه وجهان:
أصحهما- كما قال عند الكلام في تزكية الوالد للولد-: أنه يقضي.
[وقال] في "الوسيط": الأصح أنه لا يقضي؛ إذ إليه الاستقصاء في دقائق [أداء] الشهادة والرد بالتهمة، وإليه التسامح فيه. وهذا لعله أخذه من كلام الإمام الذي سنذكره من بعد، وقد حكى الفوراني وجهاً: أنه يحكم لهم إذا قبلنا منه الشهادة لهم، وقد حكاه صاحب "التلخيص" أيضاً.
ثم على المذهب: فروع:
أحدها: إذا تحاكم إليه ولده ووالده، ففي الحكم لأحدهما على الآخر وجهان محتملان في "الحاوي"، أشار إليهما في "المهذب" بقوله: فقد قال بعض أصحابنا: إنه يحتمل وجهين.
والظاهر في "الرافعي"، وهو الذي أورده البغوي: المنع، ومقابله هو المختار في "المرشد"؛ لأنهما استويا في القرب، فانتفت تهمة الميل.
الثاني: لو سمع البينة، وفوض القضاء إلى غيره، فهل يجوز؟ فيه وجهان حكاهما الإمام، ثم قال: والوجه عندنا أن يقال: لا يقبل تعديله البينة فيما يتعلق بولده، وكذلك إذا كان هو الناقل. وفي "تعليق" القاضي الحسين أن ظاهر ما ذكره في "المختصر": أنه تسمع منه الدعوى، وتسمع منه البينة، ولا يقضي له؛ لأنه قال: يرد حكمه. فخص الحكم بالرد، ونص عليه؛ فدل على أن ما عدا الحكم غير مردود، وحكى مع ذلك احتمالاً للقفال في المنع.
الثالث: للوالد تحليف الولد عند الدعوى عليه، وإن كان فيه تفريغ ذمته وإسقاط المطالبة عنه؛ كذا قاله القاضي الحسين، وتبعه في الحكم البغوي وصاحب
"الكافي"، وقالا: لأن التحليف ليس بحكم، بل هو قطع للخصومة. وقالا أيضاً:[إنه] إذا أقام المدعي على الابن بينة، فأراد الابن دفعها ببينة، لم يسمعها، [بل يسمعها] خليفته.
أما الحكم على من امتنع الحكم له، فلا شك في نفوذه في حق الوالد ومن في معناه، والعبد والأمة، وأما في حق نفسه فقد قال في "الحاوي": إنه يؤاخذ به، لكن لكون ذلك إقراراً أو حكماً؟ فيه وجهان، فإن قلنا: يكون إقراراً، صح فيما يصح الإقرار به، ويرد فيما لا يلزم الإقرار به؛ كشفعة الجوار إذا قال: حكمت بها على نفسي للجار. وإن [قلنا]: يكون حكماً على نفسه، فإذا حكم بها على نفسي للجار. وإن [قلنا]: يكون حكماً على نفسه، فإذا حكم [عليها] بشفعة الجوار لزمته، [وإذا حكم [على نفسه] بمقاسمة الإخوة الجد في الميراث، وكان جدّاً لزمه.
وعكس ما نحن فيه [العدو] إذا حكم عليه عدوه لا ينفذ حكمه، وإذا حكم له نفذ [حكمه، كما] حكاه القاضي الحسين والغزالي وغيرهما.
وفي "الحاوي" عند الكلام في التحكيم في نفوذ الحكم عليه ثلاثة أوجه:
أحدها: لا يجوز أن يحكم عليه بولاية القضاء ولا بولاية التحكيم؛ كالشهادة.
والثاني: يجوز بهما، بخلاف الشهادة، [والفرق: أن أسباب الحكم ظاهرة، وأسباب الشهادة] خافية؛ فانتفت التهمة عنه في الحكم، وتوجهت إليه في الشهادة، وهذا ما جزم به في "الأحكام السلطانية"، وقبل كتاب قاض إلى قاض كما ذكرنا.
وقال الرافعي لما وقف من كلامه على هذه الطريقة: وهذا يشكل بالتسوية بينهما في حق الأبعاض.
وفرق الماوردي بينهما بفرقين:
أحدهما: أن أسباب العداوة حادثة تزول بعد وجودها، وتحدث بعد عدمها،
وأسباب الأنساب لازمة، لا تحول ولا تزول؛ فغلظت هذه، وخففت تلك.
والثاني: أن الأنساب محصورة متعينة، والعداوة منتشرة [مستبهمة] يفضي ترك الحكم معها إلى امتناع كل مطلوب بما يدعيه من العداوة.
والوجه الثالث: يجوز بولاية التحكيم؛ لانعقادها عن اختياره [، ولا يجوز بولاية القضاء؛ لانعقادها بغير اختياره].
تنبيه: مراد الشيخ بالحكم لعبده وأمته فيما ليس بمال إذا كان فيئاً كالقصاص في الأطراف على رأيه الذي حكيناه عنه في باب العفو والقصاص، والتعزير على رأيه ورأي غيره، وكذا [في] المال إذا كان العبد هو المتصرف فيه بأن كان مكاتباً، والكاف في قوله:"حكم فيها بعض خلفائه" مخففة.
فرع: وصي اليتيم إذا ولي القضاء فلا يقضي له؛ لأنه خصم في حقه كما في حق نفسه وولده، وهذا ما اختاره ابن الحداد.
وقال القاضي: يقضي؛ لأن كل قاض فهو ولي الأيتام.
قال [في]"الوسيط"- وتبعه صاحب "الأشراف" والرافعي-: وهو الصحيح.
ولأجل ذلك قال ابن أبي [الدم: إنه] الصحيح عند متأخري الأصحاب، وعليه العمل في الأمصار.
قال: ومن تعين عليه القضاء وهو مستغن [عنه،] لم يجز أن يأخذ [عليه الرزق من بيت المال؛ لأنه فرض تعين عليه؛ فلم يجز أن يأخذ]؛ لإسقاطه بدلاً؛ كما لا يجوز أن تعتق الرقبة الواجبة [في الكفارة بعوض عليها، ولا تخرج الزكاة بعوض يشترطه على المسكين والفقير].
وفي "الرافعي": أن صاحب "التقريب" قال: يجوز أخذ الرزق [في هذه الحالة] كصاحب الطعام في المخمصة، وهذا ما حكاه في "الإشراف" عن أصحابنا بالعراق،
والأول عن أصحابنا بخراسان؛ ولأجله قال الشيخ أبو علي: المعروف لأصحابنا أنه لا يجوز. كما حكاه عنه ابن أبي الدم.
قال: وإن كان محتاجاً جاز [له]؛ لأنه لا يلزمه تضييع أمر نفسه لمراعاة حق غيره.
قال البندنيجي: ولأنه إذا أخذ الرزق في [هذه] الحالة قام بفريضتين: فريضة القضاء، وفريضة الإنفاق على نفسه وعياله، والحاجة تتحقق بأن يكون لا مال له ولا كسب، أو له كسب لكن يتعطل [عنه] بسبب القضاء.
ثم المأخوذ في هذه الحالة ما يحتاج إليه لنفسه ولخادمه من غير إسراف ولا تقتير؛ كما قاله الماوردي.
قال في "التهذيب" و"الكافي": ويعتبر في الكسوة ما يليق بحاله في زمانه، ولا يستحق ذلك إلا من حين وصوله لعمله ونظره فيه، [أو تصديه] للنظر وإن لم ينظر؛ كالأجير في العمل إذا سلم نفسه لمستأجره فلم يستعمله، ولو لم يتصد للنظر فلا رزق له، قاله الماوردي قبل الكلام في العزل.
قال: ومن لم يتعين عليه جاز أن يأخذ [ما يحتاج إليه] لنفسه وخادمه؛ لما روى أبو داود عن عبد الله بن بريدة عن أبيه عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: "مَنِ اسْتَعْمَلْنَاهُ عَلَى عَمَلٍ فَرَزَقْنَاهُ رِزْقاً، فَمَا أَخَذَ بَعْدَ ذَلِكَ فَهُوَ غُلُولٌ"، وَلِأَنَّ عُمَرَ- رضي الله عنه اسْتَقْضَى شُرَيْحاً وَجَعَلَ لَهُ فِي كُلِّ شَهْرٍ مِائَةَ دِرْهَمٍ، [فَلَمَّا أَفْضَتِ الخِلَافَةُ إِلَى عَلِيٍّ- رضي الله عنه جَعَلَ لَهُ فِي كُلِّ سَنَةٍ خَمْسَمِائَةِ دِرْهَمٍ]، وَقَدْ أَخَذَ زَيْدُ بْنُ ثَابِتٍ عَلَى القَضَاءِ رِزْقاً، ولأن الله- تعالى- جعل للعاملين على الصدقات جزءاً منها، والقضاة بذلك
أولى؛ لأن النفع بهم أهم [وأعم]، ولأن ما لا يتعين فرضه يجوز أخذ الرزق عليه؛ كغسل الميت وحمله ودفنه.
قال الماوردي: ويكون هذا الرزق جعالة ولا يكون أجرة؛ لأن الأجرة مستحقة بعقد لازم، والجعالة مستحقة بعقد جائز، والقضاء من العقود الجائزة؛ فلذلك كان الرزق عليه جعلاً، وما ذكره من الحكم ينطبق عليه قول ابن الصباغ: لا يجوز عقد الإجارة على القضاء.
ووجَّهه بأنه عمل غير معلوم، والشيخ أبو حامد وجَّهه بأنه عمل لا يعمل الغير عن الغير، وإنما يقع عن نفسه ويعود نفعه على الغير.
وقال البندنيجي: ومن أصحابنا من سها، فقال: يجوز أخذ الأجرة على القضاء.
وعن "فتاوى" القاضي الحسين إلحاق ذلك بالأذان حتى تجوز الإجارة عليه على رأي؛ لأن كل واحد منهما يعود نفعه إلى عامة المسلمين.
قال: وللقرطاس الذي يكتب فيه المحاضر؛ لأن الحاكم لا يستغني عن إثبات الحجج والمحاكمات وكتب المحاضر والسجلات؛ خشية من النسيان، وذلك من عموم المصالح، فكان بيت المال أحق بها.
وفي معنى [ذلك] أرزاق أعوانه من كاتب وحاجب ونائب وقاسم وسجان، وأجرة سجن أو ثمنه وأجير يحضر الخصوم.
قال البندنيجي: وقد بين الشافعي من يأخذ الجعل على عمل الخير فقال: ولو أن القاضي والقاسم وكاتب القاضي وصاحب الديوان وصاحب بيت المال والمؤذنين لم يأخذوا جعلاً وعملوا محتسبين، كان أحب إليَّ، وإن أخذوا جعلاً لم يحرم عليهم عندي، وبعضهم أعذر في أخذ الجعل من بعض، وما منهم من أحد كان أحب إليَّ أن يترك الجعل من المؤذنين، ولا بأس أن يأخذ الأجرة على الحج إذا كان قد حج عن نفسه، ويأخذ الجعل على أن يكتال [للناس، ويزن لهم ويعلمهم القرآن والنحو، وما يتأدبون به من شعر ليس بمكروه ونحوه].
قال: وإن احتسب ولم يأخذ، أي: لنفسه وخادمه- فهو أفضل؛ ليقع أجره على الله- تعالى-[مع] أنه أبعد عن التهمة.
وحكى ابن أبي الدم عن الشيخ أبي علي أنه يكره له الأخذ والحالة هذه.
ومحل الجواز إذا لم يجد متطوعاً بالقضاء، فإن وجده وهو صالح، فلا يجوز أن يعطى من بيت المال، صرح به الماوردي وصاحب "البيان"، وأشار إليه البندنيجي وابن الصباغ حيث قالا: ولا يولي من يطلب على القضاء رزقاً، فإن لم يجد كان له أن يولي من يعطيه رزقاً على نظره.
فرع: إذا تعذر الأخذ من بيت المال، فأمر ما يأخذه القاضي من الخصوم وغيرهم قد تقدم، وأما القرطاس ونحوه فقد قال الشافعي- رضي الله عنه: إنه يقول للطالب: إن شئت فَاتِ بصحيفة تكتب فيها شهادة شاهديك وكتاب خصومتك، ولا أُكرهك، ولا أقبل أن يشهد لك شاهد بلا كتاب. فأنسأ شهادته، واختلف الأصحاب في مراده بقوله: ولا أقبل أن يشهد لك .. إلى آخره، على وجوه ليس هذا الكتاب موضوعاً لمثلها، وإن كنت قد ذكرتها في المبيضة.
وما ذكره الشيخ [من تحريم أخذ الرزق وجوازه، قال ابن الصباغ والبندنيجي:] وهو جارٍ في تحمل الشهادة وأدائها وإقامة الصلاة والأذان، وكذا العون يكون على من أرسله في طلب خصمه، وكذا كراء السجان على صاحب الحق؛ لأنه كالأجير له يحفظ مديونه، صرح [به] الزبيلي، بخلاف أجرة السجن؛ فإنها على المحبوس.
فرع: إذا جعل الإمام على القضاء رزقاً، فإن سماه للأصل اختص به، وإن سمي القضاء وأطلق شاركه فيه خلفاؤه بحسب كفاياتهم في النظر وكثرة العمل، فإن عزل من استخلفه وقام بعمله، جاز أن يأخذ رزقه، وإن لم يقم به لم يجز أن يأخذه، قاله في "البحر" عند الكلام في الاستخلاف.
قال: ويحضر الولائم أي: عند من ليس له حكومة ولم يعملا له بخصوصه؛ لأن الإجابة إلى الوليمة فرض على الأعيان [على قول بعض أصحابنا، وعلى قول آخرين. فرض على الكفاية]. وحضور غيرها من الدعوات مستحب، والجمع بين الفرضين، فرض الحكم [وفرض الإجابة، أو بين فرض الحكم] واستحباب الإجابة- أولى من انفراد أحدهما، هكذا أورده القاضي أبو الطيب، وكلامه في "المهذب" يميل إليه، ومختصر ما حكاه الماوردي ثلاثة أوجه:
أحدها: أن الإجابة فرض عليه؛ كما هي فرض على غيره؛ فيأثم بالترك.
والثاني: لا تجب الإجابة عليه وإن وجبت على غيره على وجه، بل هي مستحبة.
قال في "البحر": وأخذ هذا من قول الشافعي- رضي الله عنه: ولا أحب أن يترك الوليمة، إما أن يجيب كُلاًّ أو يترك كُلاًّ. فلم يجعلها واجبة بل جعلها مستحبة، وهذا قول [أبي علي] بن أبي هريرة، ولم يورد ابن الصباغ سواه، وهو الذي صححه في "البحر"، فعلى هذا يكره تركها.
والثالث: إن كان مرتزقاً لم يحضر؛ لأنه أجير المسلمين [فلم يجز أن يفوت [عليهم] حقوقهم [من ذلك الزمان]، وإن كان متطوعاً غير مرتزق [حضر]، وكان كغيره من الناس.
وهكذا حكم الأئمة، ثم على كل حال إذا حضر المرتزق، فإن قل زمان حضوره كاليوم وما قاربه لم يلزمه رد شيء من رزقه، وإن طال- وأقل [زمان طوله] ثلاثة أيام- ردَّ من رزقه بقسط ما أخل من نظره، ذكره في "الحاوي".
أما إذا كان لصاحب الوليمة محاكمة، [أو لا وعملت] للقاضي بخصوصه- فهي كالهدية.
وفي "التهذيب": أنه يكره أن يجيب [إلى] دعوة خص بها القاضي أو الأغنياء، فإن دعا جيرانه وهو فيهم، أو دعا العلماء والقاضي منهم- لم تكره [له] الإجابة.
وفي "تعليق" القاضي الحسين: أنه إن دعي مع العامة لا تكره له الإجابة، وكذلك إذا دعاه مع جيرانه، وإن دعاه مع السادة والمشايخ تكره له الإجابة؛ لأن الداعي [ربما][يظن أنه] يتخذ عنده يداً بجمعه بينه وبينهم؛ فيطمع أن يميل فيما يرفعه إليه من خصوماته.
قلت: وما أطلقه من ذكر العامة لعله محمول على من ليس بسفلة منهم، ولا من أراذلهم، فأما المتصفين بذلك فقد ذكرنا في باب الوليمة أن أظهر الوجهين: أنه لا تجب الإجابة في هذه الحالة ولا تستحب، وإذا كان كذلك فقد حضر إلى ما ليس بمطلوب للشارع؛ فينبغي أن يمتنع [من الحضور].
قال: ويشهد مقدم الغائب؛ لأن هذه قربة يندب إليها جميع الناس، فكان الولاة فيها كغيرهم؛ لأن المقصود بها طاعة الله- تعالى- وطلب ثوابه.
ومقدم الغائب- بفتح الميم والدال-: قدومه.
قال: ويسوي بين الناس في ذلك؛ تطييباً لقلوبهم وتحاشياً عن الميل.
قال: فإن كثرت عليه وقطعته عن الحكم امتنع [في حق] الكل؛ لأن القضاء لا يقوم فيه غيره مقامه، وفي حضوره عند الجميع قطع له عنه، وفي حضوره عند قوم دون آخرين ترجيح يورث ضغانة في النفوس.
قال الشافعي- رضي الله عنه: ويعتذر إلى [الذي يدعوه ويعرفه اشتغاله] بالحكم، ويسأله أن يحلله.
قال في "البحر": والأولى في زماننا هذا ألا يجيب أحداً؛ لأن السرائر قد خبثت، والظنون قد تغيرت، ولكنه يعتذر إليهم، ويسألهم التحلل.
وألحق في "الإبانة" بحالة الكثرة ما إذا وجد من طبعه [أنه لا] يجيب غير الداعي إذا دعاه، وقال: إن محل [جواز] الإجابة ما إذا كان يجد من طبعه أنه يجيب غيره.
ثم ظاهر ما حكيناه من تعليل القاضي أبي الطيب بجواز حضوره الولائم، يقتضي استحباب الإجابة في وليمة العرس وغيرها، وعليه ينطبق قول البغوي: ولا يستحب للقاضي التخلف عن الولائم إذا دعي إليها، خصوصاً وليمة العرس والختان.
قال: ويعود المرضى ويشهد الجنائز؛ لما في ذلك من وافر الأجر، وكامل الثواب، روي عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال:"عَائِدُ المَرِيضِ فِي مَخْرَفٍ مِنْ مَخَارِفِ الجَنَّةِ حَتَّى يَرْجِعَ".
والمخرف: البستان، وقيل: الطريق، قاله القلعي.
وَعَادَ رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم جَابِراً وَسَعْداً فِي مَرَضِهِمَا، وَعَادَ غُلَاماً يَهُوْدِيّاً فِي جِوَارِهِ، وَعَرَضَ عَليْهِ الإِسْلَامَ فَأَجَابَ.
قال: فإن كثرت عليه، أتى من ذلك ما لا يقطعه عن الحكم.
قال الماوردي: والفرق بين هذين وحضور الولائم من وجهين:
أحدهما: أن الولائم من حقوق الداعي؛ فاستوى [جميع] الدعاة في استحقاق الإجابة والعيادة، وحضور الجنائز من حقوقه؛ لأنه يقصد [به] الثواب؛ فجاز أن يخص.
والثاني: أن [في] الولائم ظنة ليست في العيادة والجنازة؛ فكان العموم فيها مزيلاً للظنة.
قال القاضي أبو الطيب- وهو في "البحر"[أيضاً]-: ولأن [في] عيادة المرضى والجنائز كثرة، وفي حضورها كلها مشقة شديدة وانقطاعه عما عليه من النظر، وفي ترك البعض تفويت للأجر بالكلية، ولأن ما لا يمكن استيعابه لا يكون تخصيص البعض دون البعض [فيه]، ميلاً وتفضيلاً.
قال [القاضي] أبو الطيب: ألا ترى أنه لو أصلح [هو] دعوة، كان له أن يدعو البعض [ويدع البعض]؛ لعدم إمكان الاستيعاب، وهذا بخلاف الولائم، فإنها قليلة في العادة، والاستيعاب لا يقطعه.
قال في "الشامل": ويقدم [فيها] الأقرب فالأقرب.
وقد ألحق الماوردي والقاضي أبو الطيب وابن الصباغ والبندنيجي والبغوي والمصنف في "المهذب" مقدم الغائب بالعيادة؛ نظراً إلى الكثرة.
وحكى في "البحر" أن ابن المرزبان قال: سمعت القاضي أبا حامد يقول: الصحيح أن يعود الكل أو يترك الكل، وكذلك في الجنازة ومقدم الغائب.
قال الروياني: وهذا بخلاف ما قاله [سائر أصحابنا]، والشافعي ذكر ذلك في إجابة الوليمة دون غيرها؛ فلا يصح هذا القول.
قلت: وإذا عرفت ذلك علمت أن الشيخ في هذا الكتاب أخذ بقول القاضي أبي حامد في مقدم الغائب؛ لقربه من حضور الولائم في الظنة [به] وإمكان تصنعه، وبقول باقي الأصحاب في عيادة المرضى وشهادة الجنائز، والله أعلم.
قال: ولا يقضي وهو غضبان ولا جائع، أي: جوعاً شديداً، ولا عطشان، أي كذلك، ولا مهموم، أي:[همّاً] كبيراً، ولا فرحان، أي: كذلك، ولا يقضي والنعاس يغلبه، ولا يقضي والمرض يقلقه، ولا يقضي وهو حاقن، أي: يدافع البول، ولا حاقب، أي: يدافع الغائط، ولا في حر مزعج، ولا برد مؤلم.
والأصل في ذلك ما روي أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: "لَا يَقْضِي الحَاكِمُ بَيْنَ اثْنَيْنِ وَهُوَ غَضْبَانُ" كما أخرجه البخاري ومسلم، ورواية الشافعي أن النبي صلى الله عليه وسلم قال:"لَا يَنْبَغِي لِلْقَاضِي أَنْ يَقْضِيَ بَيْنَ اثْنَينِ وَهُوَ غَضْبَانُ".
قال الأصحاب: ومعلوم أنه ما أراد الغضب نفسه، وإنما أراد [الاضطراب الذي يحصل بالغضب. وهذا أخذوه من قول الشافعي- رضي الله عنه: ومعقول في قوله صلى الله عليه وسلم: "لَا يَحْكُمُ الْحَاكِمُ بَيْنَ اثْنَيْنِ- أَوْ: لَا يَقْضِي القَاضِي بَيْنَ اثْنَيْنِ- وَهُوَ غَضْبَانُ"، أنه أراد] أن يكون القاضي حين يحكم في حال لا يتغير فيها عقله [ولا خلقه، وإذا كان كذلك فهذه الأحوال يتغير فيها عقله]؛ فالنهي عن الحكم فيها مأخوذ من النص، ويؤيده أنه جاء في رواية عن عبد الرحمن بن أبي بكرة عن أبيه- وهو راوي حديث مسلم والبخاري السابق- أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال:"لَا يَقْضِي [القَاضِي] وَهُوَ غَضْبَانُ وَلَا مَهْمُوْمٌ وَلَا مُصَابٌ،"، وعن أبي سعيد الخدري قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "لَا يَقْضِي الحَاكِمُ [إِلَّا] وَهُوَ شَبْعَانُ
رَيَّانُ"، وما ذكرناه من أن عمر كتب إلى أبي موسى الأشعري: إياك والضجر والقلق والتأذي بالناس، والتنكر عند الخصومة- والمعنى فيه: أنه في هذه الأحوال لا يتوفر على الاجتهاد؛ لشغل قلبه.
وهذا المنع على وجه الكراهة، صرح به القاضي أبو الطيب وابن الصباغ وصاحب "الكافي"، وكلام الماوردي يقتضي أن الأولى عدم الحكم في هذه الأحوال.
قال: فإن حكم في هذه الأحوال نفذ حكمه.
استدل الأصحاب لهذا بما رواه البخاري ومسلم عَنْ عَبْدِ اللهِ بْنِ الزُّبَيْرِ عَنْ أَبِيْهِ أَنَّ رَجُلاً مِنَ الأَنْصَارِ خَاصَمَ الزُّبَيْرَ- رضي الله عنه فِي شِرَاجِ الْحَرَّةِ الَّتِي يَسْقُونَ مِنْهَا، فَقَالَ الأَنْصَارِيُّ: سَرِّحِ الْمَاءَ يَمُرَّ، فَأَبَى عَلَيْهِ الزُّبَيْرُ، فَقَالَ رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم لِلزُّبَيْرِ:"اسْقِ يَا زُبَيْرُ، ثُمَّ أَرْسِلِ الْمَاءَ إِلَى جَارِكَ"؛ فَغَضِبَ الأَنْصَارِيُّ فَقَالَ: يَا رَسُولَ اللهِ، أَنْ كَانَ ابْنَ عَمَّتِكَ؟! فَتَلَوَّنَ وَجْهُ رَسُولِ اللهِ صلى الله عليه وسلم ثُمَّ قَالَ:"اسْقِ ثُمَّ احْبِسِ الْمَاءَ حَتَّى [يَرْجِعَ إِلَى] الجَدْرِ"، فَقَالَ الزُّبَيْرُ: فَوَاللهِ إِنِّي لَأَحْسِبُ هَذِهِ الْآيَةَ نَزَلَتْ فِي ذَلِكَ: {فَلا وَرَبِّكَ لا يُؤْمِنُونَ حَتَّى يُحَكِّمُوكَ فِيمَا شَجَرَ بَيْنَهُمْ} الآية.
وفي "الحاوي" في أوائل كتاب الأقضية: أنه قيل: إن خصم الزبير حاطب بن أبي بلتعة.
قال الأصحاب: ووجه الدلالة من هذا الخبر أن رسول الله صلى الله عليه وسلم حكم في حال غضبه.
قلت: وفيه نظر من وجهين:
أحدهما: أن الإمام وصاحب "التهذيب" وجماعة- كما قال الرافعي- قالوا: إن الغضب المنهي عن الحكم معه هو الواقع لغير الله- تعالى- أما الواقع لله- تعالى- في الحكم فلا يكون منهيّاً عنه، وغضب رسول الله صلى الله عليه وسلم في هذه الواقعة لله تعالى؛ فلا [يستدل بحكمه فيه على نفوذه] في غيره، وهذا فيه بعد؛ لأن المحذور من الحكم في هذه الحالة ونحوها- كما ذكرنا- عدم توفره على الاجتهاد، و [ذلك] لا يختلف بين أن يكون لله- تعالى- أو لغيره، وكذلك قال صاحب "البحر" بعد أن [حكاه عن بعض الأصحاب بخراسان، وهو غريب.
الثاني: [أنا] إذا] قلنا: إن رسول الله صلى الله عليه وسلم لم يكن يحكم إلا عن وحي، فالمعنى الذي لأجله [نهى] عن الحكم بسببه منتفٍ في حقه؛ فلا يستدل بفعله الذي لم تشاركه أمته في سببه، على فعل غيره، وإن قلنا بما عليه جمهور أهل العلم، وهو الظاهر من مذهب الشافعي، كما قاله الماوردي في كتاب الأقضية: إن له ولغيره من الأنبياء- عليهم السلام أن يجتهدوا، فقد اختلف أصحاب الشافعي في أنهم في اجتهادهم معصومون من الخطأ أم لا، على وجهين:
أحدهما: أنهم معصومون؛ لتسكن النفس إلى [التزام] أوامرهم بانتفاء الخطأ عن أخبارهم، وعلى هذا لا يحسن التمسك به أيضاً.
نعم، إن قلنا بالثاني، وهو أنهم غير معصومين من الخطأ؛ لوجوده منهم، لكنهم لا يقرهم الله- تعالى- عليه؛ ليزول الارتياب- فقد يحتج به، والله أعلم.
تنبيه: شراج الحرة: بكسر [الشين] المعجمة، واحدها: شرجة-[بفتح الشين-: مسيل الماء من الحِرار إلى السهل، والحَرَّة: كل أرض] ذات حجارة سود؛ وذلك لشدة حرها ووهج الشمس فيها.
والجدر- بفتح الجيم وسكون الدال المهملة-: الجدار، وقيل المراد به- ها هنا-
أصل الحائط، وقيل: أصل الشجر، وقيل: جذور المشارب التي يجتمع فيها الماء في أصول النخل.
قال: والمستحب أن يجلس للقضاء في موضع [فسيح]، أي: كالرحبة والقضاء؛ كي لا يتأذى بضيقه الخصوم، ولا يزاحم فيه الشيخ والعجوز، ولا يحصل فيه ملل، فقد قيل: خير المجالس ما سافر فيه البصر.
قال: بارز، أي: يعرفه الخاص والعام، ويصل إليه كل أحد، أي: من غريب ومستوطن وقوي وضعيف؛ ليصل كل أحد على طلب حقه ودفع الظلم عن نفسه. وهذا فيه إشارة إلى أنه لا يكون له حاجب في حال جلوسه للقضاء؛ كما تقدم.
قال الأصحاب: ويستحب أن يكون مجلس حكمه [في الصيف] ظليلاً متصلاً بمهاب الريح، وفي الشتاء كنيناً، وأن يكون في الزمنين بعيداً عن دخان يتأذى به أو رائحة منتنة.
واستحب أبو عبيد [بن] حربويه من أصحابنا وغيره أن يكون موضع جلوسه مشرفاً: كدكة ونحوها؛ ليسهل عليه النظر للناس، و [تسهل] عليهم المطالبة.
قال [الرافعي]: وحسن أن توطَّأ له الفرش وتوضع الوسائد؛ ليعرفه كل داخل، وليكون أهيب عند الخصوم، وأرفق به فلا يمل. وكذلك حكى بسط البساط ونحوه ابن الصباغ وغيره.
قال الماوردي: وليكن مع ذلك جلوسه في صدر مجلسه؛ ليعرفه الداخل ببديهة النظر.
ولو خالف [الناس]، وجلس للقضاء في بيته كان مكروهاً [كما] صرح به صاحب "المرشد" وغيره، ولو جلس فيه لغير الحكم، فحضره خصمان لم يكره أن
يحكم بينهما؛ لأنه- عليه السلام فَعَلَ ذَلِكَ، وَتَحَاكَمَ عُمَرُ مَعَ أُبَيِّ بْنِ كَعْبٍ إِلَى زَيْدِ ابْنِ ثَابِتٍ فِي بَيْتِهِ، وَقَالَ عُمَرُ: فِي بَيْتِهِ يُؤْتى الحكم. نَعَمْ، لَوْ كَثُرَتِ المُحَاكَمَاتُ خَرَجَ إِلَى مَجْلِسِ حُكْمِهِ.
قال: [ولا يحتجب] إلا لعذر كما تقدم.
وظاهر هذا الكلام من الشيخ أن القاضي يصرف أوقاته كلها في الانتصاب لفصل القضاء، إذا لم يكن ثم عذر، وعليه ينطبق قول القاضي الحسين: إنه يكره للقاضي أن يعين يوماً أو يومين في الأسبوع للقضاء، بل ينبغي أن يكون مرصداً للقضاء في جميع الأوقات إلا في أوقات الاستراحة والأكل والشرب.
وفي "الحاوي": أنه يجعل زمان نظره معيناً من الأيام؛ ليتأهب الناس للتحاكم إليه، فإن كثرت المحاكمات ولم يتسع لها بعض الأيام لزمه النظر في كل يوم، ويكون وقت نظره من اليوم معروفاً؛ ليكون باقيه مخصوصاً في [أمور] نفسه ولراحته ودعته، وإن قلت المحاكمات واتسع لها بعض الأيام جعل يوم نظره في الأسبوع مخصوصاً بحسب الحاجة من يوم أو يومين أو ثلاثة، ويختار أن تكون [أيام نظره من الأسبوع: السبت والاثنين والخميس، فإن تجدد في غير] يوم النظر ما لا يمكن تأخيره، نظر فيه ولم يؤخره.
قال في "التهذيب": إنه لا يجوز أن يؤخر النظر إذا وقعت لإنسان خصومة، إلا أن يكون مشتغلاً بصلاة أو أكل أو مُهِمٍّ؛ فلا بأس بالتأخير إلى الفراغ [منه، والله أعلم].
قال: ولا يجلس للقضاء في المسجد؛ [لِمَا رَوَى][ابْنُ] بُرَيْدَةَ عَنْ أَبِيْهِ أَنَّ رَسُولَ اللهِ صلى الله عليه وسلم سَمِعَ رَجُلاً يَنْشُدُ ضَالَّةً فِي الْمَسْجِدِ، فَقَالَ:"لَا وَجَدْتَهَا؛ إِنَّمَا بُنِيَتِ المَسَاجِدُ لِذِكْرِ اللهِ- تَعَالَى- وَالصَّلَاةِ"؛ فدل على كراهة ما عداهما فيه.
وروى معاذ أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: "جَنِّبُوا مَسَاجِدَكُمْ صِبْيَانكُمْ وَمَجَانِيْنَكُمْ، وَرَفْعَ أَصْوَاتِكُمْ، وَخُصُوْمَاتِكُمْ، وَحُدُودَكُمْ، وَسَلَّ سُيُوْفِكُمْ، وَشِرَاءَكُمْ وَبَيْعَكُمْ".
وقد نهى عمر القضاة أن يقضوا في المساجد.
والمعنى فيه: أن حضور الخصوم لا يخلو [غالباً] من لغط، وربما تعدى إلى سب ومشاتمة، والمساجد تصان عن هذا؛ ولأنه ربما كان في القوم جنب [أو حائض أو كافر].
قال: فإن اتفق جلوسه فيه، أي: لاعتكاف أو لانتظار صلاة فيه، فحضره خصمان- لم يكره أن يحكم بينهما؛ لأن رسول الله صلى الله عليه وسلم قضى في المسجد على هذا الوجه، وقال الحسن: دخلت المسجد فرأيت عثمان- رضي الله عنه وقد ألقي رداءه على كومة حطاب، ونام عليه، فتاه سَقَّاءٌ بقربته ومعه خصم، فجلس عثمان وقضى بينهما، ولم ينكره أحد، وَعَلَى [مِثْلِ] هَذِهِ الحَالَةِ حَمَلَ أَصْحَابُنَا قَضَاءَ عُمَرَ وَعَلِيٍّ- رضي الله عنهما بَيْنَ النَّاسِ فِي المَسْجِدِ.
ثم في قول الشيخ: لم يكره أن يحكم بينهما، ما يعرفك أن الحكم [فيه] في غير هذه الحالة مكروه، وهو ما أورده الفوراني.
وفي "الرافعي" و"التهذيب"[حكاية وجه]: أنه لا يكره اتخاذ المسجد مجلساً للحكم [على وجه]، كمذهب مالك وأحمد وإحدى الروايتين عن أبي حنيفة، كما لا يكره الجلوس فيه للفتوى وتعليم القرآن والعلم، وهذا أخذ من نص الشافعي- رضي الله عنه في موضع آخر [على] أنه لا يستحب جلوسه للقضاء في المسجد، وإلى ذلك أشار في "الوسيط".
وكلام المزني مشير إلى أن اتخاذه مجلساً لا يكره، لكن الأولى تركه، والصحيح: الكراهة، وهي كراهة تنزيه؛ كما صرح به في "البحر"[وغيره].
وعلى هذا لو خالف وحكم [فيه] جاز. قاله ابن شداد.
قال: ويستحب أن يجلس مستقبل القبلة؛ لما روى عبد الله بن عباس أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: "لِكُلٍّ شَرَف، وَإِنَّ أَشْرَفَ المَجَالِسِ مَا استُقْبِلَ بِهِ الْقِبْلَهُ"، ولأن الجلوس للحكم بين الناس قربة وطاعة؛ فاستحب [له] فيه استقبال القبلة؛ كالصلاة والأذان.
وحكى ابن شداد عن ابن القاص أنه قال [في أدب القضاء]: ويجلس مستدبر القبلة، ووجهه مقابل لأهل المجلس، وهم مستقبلون القبلة؛ كمقابلة الخطيب للناس يوم الجمعة. وقد حكاه ابن أبي الدم عن رواية الشيخ أبي علي أيضاً.
قال: ويجلس وعليه السكينة والوقار؛ لأنه أعظم لهيبته وأدعى لطاعته.
قال الماوردي: وليكن أيضاً غاضَّ الطرف كثير الصمت، قليل الكلام، يقتصر من كلامه على سؤال [أو جواب]، ولا يرفع بكلامه صوتاً إلا زجراً من تأديب، وليقلل الحركة والإشارة، والذي ذكره [القاضي] أبو الطيب قلة الكلام؛ لأن كثرته تذهب الهيبة.
قال: من غير جبرية ولا استكبار؛ [كي لا يهابه] الخصوم وأصحاب الحقوق.
والجبرية- بفتح الجيم، والباء ثانية الحروف-: الكبر والتعاظم والارتفاع والقهر. ويقال: جَبَرُوةٌ- بالواو- وحُبُّورةٌ: بفتح الجيم وضم الباء المشددة، والاستكبار والكبر: أصله الأنفة مما لا ينبغي أن يؤنف منه.
قال القاضي أبو الطيب: ولا يليق به مد رجليه في المجلس، ولا الاتكاء.
ويحكى عن ابن أبي أحمد: الكراهية في الاتكاء؛ لما روي أنه- عليه السلام أَبْصَرَ رَجُلاً جَالِساً وَقَدِ اتَّكَأَ عَلَى يَدِهِ اليُسْرَى، فَقَالَ: "هَذِهِ جِلْسَةُ الْمَغْضُوبِ
عَلَيْهِمْ"، فأنكر الاتكاء.
قال الأصحاب: ويستحب أن يدعو عقيب جلوسه بالتوفيق والعصمة والتسديد، والأولى فيه ما روته أم سلمة، قالت: كان رسول الله صلى الله عليه وسلم إذا خرج من بيته يقول: "اللَّهُمَّ إِنِّي أَعُوذُ بِكَ أَنْ أَزِلَّ [أَوْ أُزَلَّ، أَوْ أَضِلَّ] أَوْ أُضَلَّ، أَوْ أَظْلِمَ أَوْ أُظْلَمَ، أَوْ أَجْهَلَ أَوْ يُجْهَلَ عَلَيَّ".
وروي أن الشعبي كان يقولهن، ويزيد عليهن: أَوْ أَعْتَدِي أَوْ يُعْتَدَى عَلَيَّ، اللَّهُمَّ أَعِنِّي بِالعِلْمِ، وَزَيِّنِّي بِالْحِلْمِ، وَأَكْرِمْنِي بِالتَّقْوَى حَتَّى لَا أَنْطِقَ إِلَّا بِالْحَقِّ، وَلَا أَقْضِي إِلَّا بِالْعَدْلِ.
قال في "الحاوي" و"البحر": ويستحب أن يكون جلوسه عقيب صلاة ركعتين، فإن كان جلوسه في المسجد كانت الصلاة تحية، وإن كانت في غير المسجد فلا [يصليها في أوقات الكراهة].
ولم يذكر ابن الصباغ الصلاة فيما إذا كان في غير المسجد، [وقال: إنه يصلي إذا كان في المسجد].
وكذلك البندنيجي قال ذلك، وصوره بما إذا اتخذه لعذر من مطر أو غيره، وقال فيما إذا كان في غير المسجد: وهو مخير: إن شاء صلى، وإن شاء ترك، إذا لم
يكن في وقت الكراهة.
ويستحب عند خروجه للحكم أن يخرج على الهيئة التي يجيء عليها إما راكباً إن كان له مركوب، أو ماشياً؛ كذا قاله أبو الطيب وابن الصباغ.
وفي "الرافعي": أنه يستحب أن يكون راكباً، ويسلم على كل من يلقاه يميناً وشمالاً؛ لما روي أنه- عليه السلام قال:"لِيُسَلِّم الرَّاكِبُ عَلَى الْمَاشِي، وَالْمَاشِي عَلَى الْقَاعِدِ، [وَالْقَلِيلُ عَلَى الْكَثِير"، وفي رواية أخرى:"يُسَلِّم المَاشِي عَلَى القَائِمِ، وَالقَائِمُ عَلَى القَاعِدِ"]، وهذا السلام أدب؛ كما قاله الماوردي في السير.
[ثم] إذا دخل مجلسه سلم على الخصوم المجتمعين فيه، ويردون عليه السلام أو بعضهم، وينادي من على رأسه. هل من خصم؟ وكان اللائق أن يذكر هذا قبل الجلوس، لكن ترتيبات الكتاب اقتضى تأخيره.
قال: ويترك بين يديه القمطر مختوماً، ليترك فيه ما يجتمع من المحاضر ونحوها.
والقمطر- بكسر القاف وفتح الميم وتسكين الطاء-: ما تصان فيه الكتب، وجمعه: قماطر، ويقال فيه: قمطرة، بالهاء.
وفي "ابن يونس": أن أصل [القمطر: دفاتر] الحساب وغيرها، تصر وتجمع في مكان واحد، وتُعبَّأ وتُشد، يقال: قمطرت الحساب قمطرة، إذا عبَّأته وشددته.
قال: ويجلس الكاتب بقربه؛ ليشاهد-[أي: القاضي]- ما يكتبه، أي: من إقرار [أو سماع] بينة أو تنفيذ حكم، وذكر سببه مع ذكر المحكوم له و [المحكوم] عليه، وكذا حِلاهما عند الجهالة، [والمحكوم به]،
و [المعنى] في ذلك: انتفاء التهمة عن الكاتب وصيانته من غلط [يقع] فيه إن اتفق.
قال الماوردي: والقاضي فيما يكتبه الكاتب من ذلك بين أمرين: إما أن يلقيه عليه حتى يكتبه من لفظه، أو يكتب الكاتب بألفاظه، والقاضي ينظر إليه أو يقرؤه بعد كتابته، ويعلم فيه القاضي بخطه، ويشهد [به] على نفسه؛ ليكون حجة للمتحاكمين، ويكتب الكاتب [ذلك] نسختين، تكون إحداهما في ديوان القاضي، والأخرى بيد المحكوم له.
فإن قصر القاضي فيما وصفناه كان مفرِّطاً في حقوق ولايته وحقوق الخصوم، ثم الجهة التي يجلس فيها الكاتب جهة اليسار؛ كما ذكره الماوردي وغيره.
وفي "الشامل" و"الرافعي": أنها بين يديه، وكذلك حكاه البندنيجي وقال: لا يجلسه يميناً ولا شمالاً.
قال القاضي أبو الطيب- وتبعه ابن الصباغ-: ولو أبعد الكاتب بناحية جاز، وفي هذه الحالة إذا ترافع إليه خصمان، فأقر أحدهما للآخر- لم يبعث بهما للكاتب ليكتب ما جرى، إلا بعد أن يشهد على المقر بحضرته، [أو يثبت اسم المقر] والمقر له، ويرفع في نسبه حتى يتميز المقر ويتعين؛ لأنه ربما جحد الإقرار وادعى أنه المقر له؛ حكى أبو بكر الصيرفي أن رجلين اختصما عند حاكم، فأقر أحدهما للآخر [بمال]، فبعث بهما إلى الكاتب، فرجع المقر عن إقراره، وادعى أن صاحبه هو الذي أقر له؛ فاشتبه الأمر على الحاكم؛ فذهب الإقرار وسقط؛ ولذلك قلنا: إنه يشهد على المقر أو يكتب اسمه ونسبه؛ حتى لا يتفق مثل ذلك.
قال: ويستحب ألا يحكم، أي: لا ينتصب للحكم، إلا بمشهد من الشهود؛ احتياطاً
للحق؛ فإنه قد يتفق بعد الحكم أمر يحتاج فيه إلى البينة.
قال ابن الصباغ والبندنيجي قبيل الكلام في النظر في المحبَّسين: ثم إن كان الحاكم ممن يحكم بعلمه أجلسهم بالبعد منه، حتى إذا احتاج إلى شهادتهم على حكمه استدعاهم ليشهدوا بذلك، وإن كان ممن لا يحكم بعلمه أجلسهم بالقرب منه؛ حتى يسمعوا كلام المتخاصمين، ويحفظوا على المقر إقراره؛ كي لا ينكر [بعد ذلك] ويجحد.
قال البندنيجي: فإن جحد شهدوا عليه بذلك، وحكم الحاكم عليه، وعلى هذا جرى في البحر، وفي هذا كلام سنذكره.
قال الماوردي: ويكون مقعدهم في مجلسه متميزاً عن غيره، ولا يساويه واحد منهم في مقعده، ولا فيما يختص به من سواد وقلنسوة، وينبغي أن يختص الشهود في ملابسهم بما يتميزون به، ويسلموا على القاضي بلفظ الرياسة، ويرد عليهم مجيباً أو مبتدئاً على تماثل وتفاضل، ويقدم بعضهم على بعض في المجلس والخطاب؛ لما يتميزون به من علم وفضل، وقد يستدل لذلك بما رواه أبو داود عن عائشة قالت: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "أَنْزِلُوا النَّاسَ مَنَازِلَهُمْ".
ثم يمينه [من] مجلسه أولى من ميسرته، فإن افترقوا في الميمنة والميسرة جاز، وإن كان اجتماعهم أولى. ويكف القاضي عن محادثة الشهود، ويكفوا عن محادثته، ويكون كلام القاضي مقصوراً على الإذن في الشهادة، وكلامهم له مقصوراً على أداء الشهادة، ويغضوا عنه أبصارهم، وإذا حضروا في غير مجلس الحكم جلسوا في مقاعدهم المعروفة في مجلسه، ورتبهم فيه على اختياره، وقطع تنافسهم
فيه؛ فإن التنافس يوهن العدالة، ويحادثهم ويحادثونه، [ويؤانسهم] ويؤانسونه بما لا تتخرق به الحشمة، ولا تزول به الصيانة.
قال: وبمحضر من الفقهاء، [أي]: الذين يحل لهم الفتوى، ويصح أن يتولوا القضاء [كما] قاله البندنيجي، والمعنى في حضورهم ما سيذكره الشيخ.
ثم المفتي: من اتصف بالعدالة المعتبرة في الرواية، وأهلية الاجتهاد في الأحكام الشرعية؛ كما تقدم.
فالرجل والمرأة، والحر والعبد، والبصير والأعمى أهل للفتوى إذا اتصفوا بالعدالة؛ لأن روايتهم صحيحة؛ لكن لا يحضر النسوة مجلس الحكم، وتجوز مشاورتهم في غيره؛ كما قاله الماوردي.
ولو اتصف العالم بالفسق لم يجز [له] قبول فتواه؛ لأنه لا يوثق بقوله. نعم، عليه أن يعمل لنفسه باجتهاده، وفي جواز مباحثته وجهان في "الحاوي"، وجه المنع: خشية ما يستحدثه بمباحثته من شبهة فاسدة.
ولو كان عدلاً لم يبلغ رتبة الاجتهاد مطلقاً، لكنه بلغ ذلك في مذهب إمام- فقد حكى الفوراني وغيره في قبول فتواه وجهين، اختيار القفال منهما الجواز، قالوا: وأصل الوجهين أن المستفتي له مقلد له أو للميت صاحب المذهب، وفيه وجهان، فإن قلنا بالأول لم يجز، وإن قلنا بالثاني جاز، وهذا تفريع على جواز تقليد الميت؛ كما هو الصحيح؛ لأنه لو بطل قول القائل بموته، لبطل الإجماع بموت المجمعين، ولصارت المسألة اجتهادية، وقد منع [منه] بعضهم؛ فعلى هذا يرتفع الخلاف في المسألة، وهذا عند وجود المجتهد المطلق، فأما عند الفقد كما في [زماننا وقبله] فلا وجه إلا استفتاء الذين بلغوا رتبة الاجتهاد في مذاهب الأئمة، وهم الذين يستحب إحضارهم مجلس الحكم في هذا الزمان أيضاً، والأولى أن
يكونوا من الموافقين للقاضي في المذهب والمخالفين له؛ كما أشار إليه الغزالي بقوله: الأدب السادس: ألا يخرج حتى يجتمع [علماء الفريقين].
قال: فإن اتفق أمر مشكل شاورهم فيه؛ لما بيناه في الإمامة، ولأن أحداً من أهل العلم لا يمكنه الإحاطة بجميع السنن والآثار؛ فربما حضر بعضهم من ذلك ما لم يحضر البعض الآخر، فإذا استشار بان له ذلك بالمذاكرة، ولأن المشاورة أبعد من التهمة وأطيب لنفوس الخصوم، وإذا شاورهم ذكر كل واحد مذهبه ودليله، وتأمله القاضي، وليس لهم قبل المشاورة الاعتراض عليه، والرد إذا حكم [إلا حكم] بحكم يسوغ نقضه؛ كما سنذكره، وإن كان قد أساء بترك المشاورة؛ كما قاله الماوردي.
ثم بعد المشاورة قال: [الشيخ]: فإن اتضح له الحق حكم به؛ لحصول المقصود.
قال الأصحاب: ويستحب له إذا أراد أن يحكم أن [يجلس] المحكوم عليه، ويقول له: قد قامت البنية عليك بكذا، ورأيت الحكم عليك بكذا؛ ليكون أطيب لقلبه وأبعد [عن التهمة].
وعن نصه في "الأم": أنه يندبهما إلى الصلح بعد ظهور وجه الحكم، ويؤخر الحكم [اليوم واليومين] إذا سألهما فجعلاه في حل من التأخير، فإن لم يجتمعا على التحليل لم يؤخره؛ لأن الحكم إذا بان وجهه كان على الفور، وتأخيره ظلم.
قال: وإن لم يتضح، أخره إلى أن يتضح، [ولا] يقلد غيره في الحكم، أي: وإن كان أعلم منه؛ لقوله تعالى: {فَإِنْ تَنَازَعْتُمْ فِي شَيْءٍ فَرُدُّوهُ إِلَى اللَّهِ وَالرَّسُولِ} [النساء: 59]، وقوله تعالى:{وَمَا اخْتَلَفْتُمْ فِيهِ مِنْ شَيْءٍ فَحُكْمُهُ إِلَى اللَّهِ} [الشورى: 10]، وهذا ينفي جواز التقليد، وكذا حديث معاذ المشهور، وهو قوله
- عليه السلام[له]: بِمَ تحكم .. " إلى آخره، ولأنه من أهل الاجتهاد؛ فلم يجز أن يقلد غيره؛ كما لو أراد أن يقلد من هو مثله في الفروع، ومن هو أعلم منه [بأصول الديانات]، وهذا قول أبي إسحاق المروزي؛ كما حكاه الماوردي.
وقيل: إن حضره ما يفوته كالحكم بين المسافرين، وهم على الخروج- جاز أني قلد غيره، ويحكم؛ لقوله تعالى:{فَاسْأَلُوا أَهْلَ الذِّكْرِ إِنْ كُنْتُمْ لا تَعْلَمُونَ} [النحل: 43] وهذا لا يعلم، ولأنه لا يمكنه إذا فرضه باجتهاده؛ فجاز له التقليد للضرورة قياساً على العامي، وهذا قول ابن سريج.
قال: وليس بشيء؛ لأن الاجتهاد شرط في صحة فرضه؛ فلا يسقط بخوف الفوت، كسائر الشروط، مثل: الطهارة والستارة بالنسبة إلى الصلاة، وما ذكر من الآية فالخطاب فيها لغير أهل الذكر الذين لا يعلمون البينات والزبر- وهي الحجج- بسؤال أهل [الذكر، والعالم عالم بالبينات والزبر، ثم لا نسلم تحقق الضرورة]؛ فإنه يمكنه أن يفوض الحكم إلى ذلك الغير فيحكم، وعلى تقدير التسليم؛ فالفرق بين العالم والعامي: أن العامي عاجز عن الاجتهاد، والعالم متمكن من الاجتهاد؛ فلم يجز اعتبار أحدهما بالآخر؛ كما لا يجوز اعتبار من لم يجد الماء والسترة بمن يقدر عليهما، ولكنه يخاف فوت الوقت إن استعملهما.
قال: وإن حضره خصوم بدأ بالأول فالأول؛ لأن الأسبق أحق بالتقديم إلى حق هو له؛ كالسابق إلى مكان مباح، والاعتبار بحضور المدعي دون المدعى عليه، كما قاله أبو الطيب وابن الصباغ والفوراني وغيرهم، فلو اتفق أن المدعي والمدعى عليه حضرا في وقت واحد، وانتهت خصومة المدعي، فأراد المدعى عليه أن يدعي على المدعي بحق له- ففي "الحاوي" حكاية وجهين في تقدمه على غيره:
أحدهما: يقدم؛ لهذا السبق.
والثاني: لا يسمعها إلا في مجلس آخر أو بعد انقضاء خصومات الحضور.
قال: وهو الذي أراه صواباً؛ لأن اسمه لم يثبت في هذا التقديم لنفسه، وإنما ثبت لحق غيره.
قلت: ويظهر على هذا أن يقال: لو حضرا معاً، ومراد كل واحد منهما الدعوى على صاحبه بحقه- أن يسمع بلا خلاف.
فرع: قال الأصحاب: المستحب للقاضي أن يقدم كل يوم ثقة؛ حتى يثبت [كل] أسامي الخصوم ويكتبها أولاً فأولاً، والأسبق فالأسبق، فإذا جلس للحكم تقدم إليه من سبق على الترتيب، فلو ضاق ذلك المجلس عن استيعابهم، بدأ في المجلس الثاني بالذين تأخروا في المجلس [الأول على ترتيبهم في السبق، ويقدمون على من حضر المجلس] الثاني قبلهم، وهكذا يفعل في المجلس الثالث والرابع.
قال: فإن كان فيهم مسافرون، أي: لو تأخر الحكم بينهم لتخلفوا عن القافلة؛ كما قاله الإمام والبغوي- قدمهم، أي: وإن كانوا متأخرين في الحضور؛ دفعاً [لضرر الإقامة] عنهم، ولأن الله- تعالى- خفف [عنهم أمر] العبادة بالفطر والقصر؛ فجاز أن يسامح لهم في باب الخصومة- أيضاً فيقدموا على غيرهم، ولا فرق على هذا بين أن يرضي المقيمون بذلك أو يكرهوا، وحكم المسافرين بعضهم مع بعض حكم المقيمين في الترتيب والقرعة.
قال: إلا أن يكثروا، [أي] مثل أن يكونوا قدر المقيمين أو أكثر؛ كالحجيج إذا نزلوا بمكة والمدينة، فلا يقدمهم؛ دفعاً للضرر عن المقيمين.
وفي "الحاوي" و"النهاية" و"المهذب" وجه أنهم لا يقدمون وإن قلوا إلا برضا المقيمين.
وظاهر النص الأول، وهو الصحيح، وبه جزم أكثرهم، [وما ذكره الشيخ] في المسافرين في حالة القلة والكثرة حكى مثله الإمام والبغوي في [اجتماع] النساء [مع الرجال، وحكى الإمام الوجه الآخر فيهن عن الأصحاب، على أنهم قالوا: الأولى للقاضي ألا يشرك بين النساء والرجال] في محل النظر، ويجعل للنساء وقتاً، وللرجال وقتاً.
قال فإن استوى جماعة في الحضور، أو أشكل السابق منهم، أقرع بينهم، فمن خرجت القرعة [له] قدم؛ لأنه لما انتقى المرجح تعينت القرعة؛ كما في المسافرة ببعض النساء.
وفي "الإشراف": أن القاضي يقدم من يشاء منهم إن شاء بالقرعة، وإن شاء باجتهاده، فلو آثر بعضهم بعضاً بالتقديم جاز.
ثم إن هذا إذا كان الخصوم يمكن أن يقرع بينهم؛ فلو كثروا، قال ابن الصباغ وغيره: كتب أسماءهم وجعلها بين يديه، [يمد يده] فيأخذ رقعة، ويقدم صاحبها [حسب ما] يتفق.
قال: ولا يقدم السابق في أكثر من حكومة؛ دفعاً للضرر عن الباقين، فإنا لو قدمناه في أكثر منها لاستوعب المجلس بدعاويه، فعلى هذا يقال له: الحق لغيرك، فإن أردت فاجلس حتى تسمع من الخصمو دعاويهم، ثم أنظر بعد ذلك في خصومتك [الثانية] إن بقي وقت، [ولم أضجر].
وهذا إذا كانت الخصومة الثانية مع غير المدعى عليه أولاً، [أما إذا] كانت معه أيضاً، ففي "الحاوي" حكاية وجهين في السماع، وحكاه الإمام في الخصومتين
والثلاث لا غير، ثم قال: وهذا بعيد مع فتح الباب؛ فعدم الزيادة على الثلاث لا أصل له؛ فالوجه ألا يزيد على خصومة واحدة.
ورأيت فيما وقفت عليه من "الإشراف" أن [القاضي] أبا سعيد الإصطخري يجوز الدعاوى على رجال ولا يجوزها على رجل واحد، وهذا إن صح كان وجهاً [ثالثاً].
فرع: دخيل في هذا الباب: إذا استبق طلبة العلم، ينظر: فإن كان [ذلك] العلم مما لا يجب تعلمه، فالخيار إلى المعلم، وإن كان مما يجب تعلمه، فلو خصص أقواماً منهم، فهل يجوز له ذلك؟ فيه وجهان.
قال الإمام: والأولى المنع من التخصيص؛ فإنه لا يدري من المفلح، ومن المتحرج، فليقصد التعميم، فإن كان لا يتأتى الجمع في التعليم فعند ذلك يتبع السبق أو القرعة.
قال: ويسوي بين الخصمين، أي: وإن اختلفا في الشرف وغيره، والرق والحرية، في الدخول، أي: لا يدخل أحدهما قبل الآخر، والمجلس، أي: فلا يكون أحدهما أقرب إليه من الآخر، والإقبال عليهما، أي: فلا يبش في وجه أحدهما ولا يقطب، ولا يقوم لأحدهما ويترك الآخر، [بل] إما أن يقوم لهما أو يترك- كما قاله الشيخ أبو علي- والإنصات غليهما، أي: فلا يصغي لكلام أحدهما دون الآخر.
والأصل في ذلك قوله تعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا كُونُوا قَوَّامِينَ بِالْقِسْطِ شُهَدَاءَ لِلَّهِ} إلى قوله: {فَإِنَّ اللَّهَ كَانَ بِمَا تَعْمَلُونَ خَبِيراً} [النساء: 135].
قال أبو عبيد في "أدب القضاء"- كما حكاه أبو الطيب-: نزلت هذه الآية في الخصمين يجلسان بين يدي القاضي، فيلوي عن أحدهما، ويعرض للآخر، وروى عطاء عن أم سلمة أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: "مَنِ ابْتُلِيَ بِالقَضَاءِ بَيْنَ المُسْلِمِينَ فَلْيَعْدِلْ بَيْنَهُمْ فِي لَفْظِهِ وَإِشَارَتِهِ وَمَقْعَدِهِ، وَلَا يَرْفَعْ صَوْتَهُ عَلَى أَحَدِهِمَا أَكْثَرَ مِمَّا
يَرْفَعُهُ عَلَى الآخَرِ".
وقد ذكرنا أن عمر كتب إلى أبي موسى: "آسِ بَيْنَ النَّاسِ فِي مَجْلِسِكَ وَوَجْهِكَ وَقَضَائِكَ"، وروي أَنَّ عُمَرَ وَأُبَيَّ بْنَ كَعْبٍ انْطَلَقَا إِلَى زَيْدِ بْنِ ثَابِتٍ فِي خُصُومَةٍ فِي نَخْلٍ، فَلَمَّا بَلَغَا البَابَ، قَالَ عُمَرُ: السَّلامُ عَلَيْكَ، فَقَالَ زَيْدٌ: وَعَلَيْكَ السَّلَامُ- يَا أَمِيْرَ المُؤْمِنِيْنَ- وَرَحْمَةُ اللهِ وَبَرَكَاتُهُ. فَقَالَ عُمَرُ: هَذَا أَوَّلُ جَوْرِكَ، فَلَمَّا دَخَلَا قَالَ زَيْدٌ: هَا هُنَا يَا أَمِيْرَ المُؤْمِنِيْنَ، فَقَالَ عُمَرُ. وَهَذَهِ مَعَ هَذِهِ، ثُمَّ قَالَ: لَا، بَلْ أَجْلِسُ مَعَ خَصْمِي. ثُمَّ إِنَّ أُبَيَّ بْنَ كَعْبٍ ادَّعَى عَلَيْهِ النَّخْلَ، فَقَالَ عُمَرُ: نَخْلِي وَفِي يَدِي. فَقَالَ زَيْدٌ لأِبَيِّ: هَلْ لَكَ [مِنْ] بَيِّنَةٍ؟ فَقَالَ: لَا. فَقَالَ: [إِذَنْ] اعْفُ أَمِيْرَ المُؤْمِنِيْنَ عَنِ اليَمِيْنِ. فَقَالَ عُمَرُ: مَا زِلْتَ جَائِراً مُنْذُ دَخَلْنَا [بِقَوْلِكَ]: وَعَلَيْكَ السَّلَامُ يَا أَمِيْرَ المُؤْمِنِيْنَ، [وَقَوْلُكَ:] هَا هُنَا يَا أَمِيرَ المُؤْمِنِينَ، وَاعْفُ أَمِيرَ المُؤْمِنِيْنَ، وَلَوْ عَرَفْتَ لِي حَقّاً أَخَذْتُهُ بِيَمِينٍ، ثُمَّ حَلَفَ فَقَالَ: إِيْ وَاللهِ إِنَّكَ لَصَدُوْقٌ، وَمَا حَلَفْتَ إِلَّا عَلَى حَقٍّ. [فَقَالَ عُمَرُ:] وَهِيَ لَكَ.
ولأن الحاكم إذا فضل أحد الخصمين انكسر قلب الآخر، ولحقه الضرر في استيفاء حجته والقيام بها؛ فلهذا قلنا بالتسوية بينهما.
وقد أبدى ابن أبي الدم [هنا] لنفسه احتمالاً في منع القيام لهما جميعاً؛ [لأنه قد يكون أحدهما شريفاً والآخر وضيعاً،] فإذا قام لهما علم الشريف [أنه] إنما قام له، و [علم] الوضيع [أنه لم يقم له]؛ فترك القيام لهما أقرب
إلى العدل وأنفى للتهمة، وعلى هذا سير الحكام الماضين: وَرُوِيَ أَنَّ الَمْهِديَّ أَمِيْرَ المُؤْمِنِيْنَ مُحَمَّدَ بْنَ المَنْصُوْرِ تَقَدَّمَ مَعَ خُصُومٍ لَهُ- وَهُوَ أَمِيْرُ المُؤْمِنِيْنَ- إِلَى قَاضِي البَصْرَةِ عَبْدِ اللهِ بْنِ الحَسَنِ العَنْبَرِيِّ، فَلَمَّا رَآهُ القَاضِي مُقْبِلاً أَطْرَقَ إِلَى الأَرْضِ حَتَّى جَلَسَ المَهْدِيُّ مَعَ خُصُوْمِهِ مَجْلِسَ المُتَحَاكِمِيْنَ، فَلَمَّا انْقَضَتِ الحُكُومَةُ بَيْنَهُمْ قَامَ القَاضِي فَوَقَفَ بَيْنَ يَدَيْهِ، فَقَالَ لَهُ المَهْدِيُّ: وَاللهِ، لَوْ قُمْتَ حِيْنَ دَخَلْتُ عَلَيْكَ لَعَزَلْتُكَ، وَلَوْ لَمْ تَقُمْ حِيْنَ [انْقَضَى الحُكْمُ] لَعَزَلْتُكَ. والمهدي [أخذ هذا] عن أبيه؛ فإن أباه فعل هكذا بالمدينة عند قاضيها.
ثم ما ذكرناه من التسوية مستحب أو واجب؟ فيه وجهان، المذكور منهما في "تعليق" القاضي أبي الطيب و"الشامل" و"المرشد": الأول، وفي "تعليق" البندنيجي ،"التهذيب": الثاني، وهو الذي حكاه ابن شداد عن الشيخ أبي حامد، والرافعي عن الأكثرين.
فرع: لو سلم الخصمان على القاضي رد عليهما، وإن سلم عليه أحدهما ففي فرض رده ثلاثة أوجه مجموعة في "ابن يونس"، وهي مأخوذة من كلام مجلي:
أحدها: يرد عليه [في الحال].
والثاني: يرد عليه بعد الحكم.
والثالث: يرد عليهما، والذي أورده القاضي الحسين، وبه أجاب في
"التهذيب": أنه إما أن يسكت، أو يقول للآخر: سلم أنت أيضاً، فإن سلم ردها [جواب سلامهما].
واعترض الرافعي [على ذلك] بعد حكايته عن الأصحاب لا غير، فقال: في قوله للآخر: سلم أنت أيضاً، اشتغال [منه] بغير الجواب، ومثله يقطع الجواب، ثم قال: وكأنهم احتملوا ذلك كي لا يبطل معنى التسوية.
وقال الإمام: ما ذكره القاضي من امتناع الرد عندي سرف؛ فإن رد السلام محمول على ابتداء أحدهما بالسلام، وهذا مما لا يخفي ولا يظهر ميلاً.
قال: وإن كان أحدهما مسلماً والآخر كافراً، أي: محقون الدم- قدم المسلم على الكافر في الدخول، ورفعه عليه في المجلس؛ لما روى إبراهيم التيمي قال: رأى عليُّ بن أبي طالب درعاً على يهودي، [فقال] [علي]: درعي سقطت يوم كذا، فقال اليهودي: لا أدري ما تقول، درعي وفي يدي، وفي ذلك بيني وبينك قاضي المسلمين، فارتفعا إلى شريح وهو نائب عن علي- رضي الله عنه فلما رآه قام عن مجلسه، قال بعضهم: فقال له عليّ: هذا أول جورك، ثم أسند ظهره إلى الجدار، وبعضهم قال: إنه لما قام عن مجلسه أجلسه موضعه وجلس مع اليهودي بين يديه، فقال علي- كرم الله وجهه-: إن خصمي لو كان مسلماً لجلست معه بين يديك والذي سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: "لَا تُسَاوُوْهُمْ فِي المَجَالِسِ، وَلَا تَعُوْدُوْا مَرْضَاهُمْ، وَلَا تُشَيِّعُوا جَنَائِزَهُمْ، وَاضْطَرُّوْهُمْ إِلَى أَضْيَقِ الطُّرُقِ".
وهذا ما أورده القاضي أبو الطيب وابن الصباغ والروياني والغزالي في المجلس خاصة، وحكاه البندنيجي عن بعض الأصحاب ولم يحك سواه.
وفي "المهذب" و"الحاوي" حكاية وجهين في التسوية بينهما في المجلس:
أحدهما: ما ذكره الشيخ هنا وغيره، وهو المختار في المرشد والمذهب
في "تعليق" القاضي الحسين.
والثاني: يسوي بينهما [كما يسوي بينهما] في المدخل والكلام. وهذا التعليل منهما يدل على أنه لا خلاف في التسوية في الدخول.
وقال الرافعي: يمكن أن يكون الوجهان في رفع المجلس جاريين في سائر وجوه الإكرام، وقد صرح بذلك الفوراني قبله.
فرع: قال ابن الصباغ: الحاكم يجلس الخصمين بين يديه؛ لأن ذلك أمكن للحاكم في الإقبال عليهما والنظر في خصومتهما، وذلك على وجه الاستحباب، صرح به [في]"المهذب"، واستدل له بما روى عبد الله بن الزبير أن النبي صلى الله عليه وسلم قَضَى أَنَّ الْخَصْمَيْنِ يَقْعُدَانِ بَيْنَ يَدَيِ الْحَاكم. وقد خرجه أبو داود، لكن في رجاله مصعب بن ثابت المديني، ولا يحتج بحديثه. نعم، قد يستدل له بالخبر الذي ذكرناه عن علي- كرم الله وجهه- عند الكلام في كتاب العهد والتوصية بتقوى الله تعالى.
وقد أشار الشيخ إلى هذه الهيئة بقوله في الباب الثاني: إذا جلس بين يدي القاضي خصمان، [قال الأصحاب: وإذا كان الخصمان] شريفين فلا بأس أن يجلس أحدهما عن يمينه والآخر عن يساره، لكن الأولى الجلوس بين يديه؛ تأدباً مع الشرع، وتواضعاً لله تعالى.
قال الماوردي: ولا يسمع الدعوى بينهما وهما قائمان، حتى يجلسا بين يديه تجاه وجهه، ومن عادة جلوس الخصوم أن يجلسوا في التحاكم بروكاً على الركب؛ لأنه عادة العرب في التنازع، وعرف الحكام في الأحكام، لكن إذا كان التخاصم بين نسوة جلسن متربعات؛ لأنه أستر لهن، وإن كان بين رجل وامرأة برك الرجل وتربعت المرأة. قال: وإذا جلس الخصمان تقاربا، إلا أن يكون أحدهما رجلاً والآخر امرأة غير محرم له؛ فيتباعدا ولا يتلاصقا.
وينبغي أن يكون مجلس الخصوم عند القاضي أبعد من مجالس غيرهم؛ ليتميز به الخصوم من غيرهم، وأبعد ما يكون [الخصمان أن يسمع كلامهما، وكذا أبعد ما يكون] بينهما: أن يسمع كل منهما كلام الآخر، ولو تقدم أحد الخصمين في الجلوس وتأخر الآخر، [فالأولى أن ينظر القاضي: فإن كان المتقدم قد جلس في مجلس الخصوم [وتأخر عنه الآخر] قدمه إليه، وإن كان المتأخر قد جلس في مجلس الخصوم] وتقدم الآخر أخره إليه، ولو رد المتقدم وقدم المتأخر كيف كان، جاز، قاله الماوردي.
ولو كان الخصم وكيلاً وحضر موكِّله مجلس المخاصمة، حكى الزبيلي في "أدب القضاء" له:[أنه] يجب أن يكون الوكيل والموكل والخصم مستوين، فلا يجوز أن يكون الموكل بجنب القاضي، [ويقول: وكيلي جالس مع الخصم.
وإذا دخل خصم دون خصم، فقام له القاضي]: إما ظناً منه بأنه لم يأته محاكماً، أو جهل ذلك، أو ارتكب المحذور فيه- قال ابن أبي الدم: فإما أن يقوم لخصمه كقيامه له؛ جبراً لما فعله؛ أو يعتذر إليه بأنه قام له ولم يشعر بمجيئه محاكماً.
قال: ولا يضيف أحدهما؛ لقوله صلى الله عليه وسلم: "لَا تُضِفْ أَحَدَ الخَصْمَينِ إِلَّا وَمَعَهُ خَصْمُهُ"، وروي عن عمر بن عبد العزيز أنه كان إذا ادعي عنده على شريف حجبه حتى يقضي بينه [وبين خصمه]؛ ولأنه إذا أضاف أحد الخصمين [انكسر قلب صاحبه.
وحكى ابن أبي الدم عن أبي القاسم الداركي أنه قال: هذا إذا كانت دار الخصم
بعيدة عن دار القاضي، أما إذا كان [أحد الخصمين]] جاراً للحامك أو من أقاربه، جاز للقاضي أن يدعوه إلى [داره وضيافته]؛ لأن فيه قضاء حق الجوار والقرابة؛ فلا تهمة. وقال: هذا عندي على العكس؛ فإن التهمة تتمكن من الجار والقريب أكثر من البعيد؛ لقربهما من قلب الحاكم ومودته؛ ولذلك منع الحكم للفروع والأصول، والزوج والزوجة على رأي، ثم يلزم على ذلك جواز قبول هدية أحدهما إذا كان جاراً أو قريباً، ولا قائل به مع قيام الخصومة.
قال: ولا يشاوره ولا يلقن أحداً دعوى ولا حجة، أي: مثل أن يقول: قل كذا؛ لما في ذلك من إظهار الميل المؤثر كسر قلب الآخر، وقد يفضي ذلك إلى تعطيل حجته.
قال القاضي أبو الطيب: وضابطه: ألا يلقن أحدهما ما فيه ضرر على الآخر، ولا يهديه إليه، مثل أن يقصد [الإقرار فيلقنه [الإنكار، ويقصد] النكول فيجرِّئه على اليمين، أو يقصد] اليمين، فيلقنه النكول، وكذا إذا توقف الشاهد في أداء الشهادة لا يجرِّئه عليها، وإذا أقدم عليها لا يوقفه عنها، إلا في الحدود التي تدرأ بالشبهات؛ لأن ذلك يضر بأحد الخصمين، [وذلك لا يجوز، وكذا] لا يجوز أن يتعنت الشاهد، كما نص عليه الشافعي، رضي الله عنه.
وعنت الشاهد قد يكون من ثلاثة أوجه؛ كما قال الماوردي:
إظهار المنكر عليه والاسترابة، وهو ظاهر الستر، موفور العقل، وهذا ما أورده أبو الطيب وابن الصباغ.
والثاني: أن يسأله من أين علمت ما شهدت به؟ وكيف تحملت؟ ولعلك سهوت؟ وهذا عندي داخل في الأول؛ لأن هذا إنما يفعل مع المستراب.
والثالث: أن يتتبعه في ألفاظه ويعارضه إلى ما جرى مجرى ما ذكرناه؛ لأن عنت الشاهد قدح فيه، وميل على المشهود له، ومفض إلى ترك الشهادة عنده.
وكذا لا يجوز أن يصرخ على الشاهد، ولا ينتهزه لأن ذلك عنت.
قال: ولا يعلمه كيف يدعي؛ لأن [في] ذلك إعانة له على خصمه.
وقيل: يجوز أن يعلمه؛ إذ لا يستضر الآخر [بصحة دعواه]؛ فإن الحق لا يثبت بقوله، وهذا قول الإصطخري، ولم يحك في "الإشراف" سواه.
قال: والأول أصح؛ لما ذكرناه، وهو الذي عليه سائر الأصحاب كما قاله أبو الطيب، وعلى هذا يقول [له]: إن حققت دعواك سمعتها، وإلا صرفتك حتى تتحقق [لك].
ولا بأس على الوجهين بالاستفسار، مثل أن يدعي دراهم، فيقول: أهي صحاح أم مكسرة؟ أو قتلاً، فيقول: عمداً أو خطأ؟ ونحو ذلك، صرح به القاضي الحسين والبغوي [والرافعي] وغيرهم.
وحكى الإمام في كتاب قاض إلى قاض الخلاف فيه أيضاً، لكنه ادعى أن ظاهر النص- يميل إلى الجواز، ولو قال له: استعن بمن ينوب عنك، قال الماوردي: فإن أشار بذلك إلى الاستعانة [في الاحتجاج عنه لم يجز، وإن أشار به إلى الاستعانة] في تحقيق الدعوى [جاز. ولا يعين له من يستعين به.
والخلاف المذكور في الكتاب في تعليم الدعوى] جارٍ في تعليم الشاهد كيفية أداء الشهادة، كما صرح به [في]"الحاوي" وغيره.
وقال في "العدة": الأصح الجواز [فيها]، وظاهر النص: المنع.
أما إذا لقنه ما يشهد به لم يجز.
قال: وله أن يزن عن أحدهما ما لزمه؛ لأن في ذلك نفعاً لهما، وله أن يشفع [له] إلى خصمه؛ لأن إجابة شفاعته إلى خيرة المشفوع إليه، ولأن الشفاعة إنما تكون بعد وجوب الحق، وحينئذ انتفى الميل، ولا يجوز أن ينهر الخصمين
فضلاً عن أحدهما، لأنه إذا فعل ذلك، لحقه الحصر والقصور عن القيام لحجته.
قال: وأول ما ينظر فيه أمر المحبسين؛ لأن الحبس عذاب، وإدامة العذاب من غير ثبت لا سبيل إليه، وليس هذا من تعقب أحكام القاضي الأول حتى يقال: لابد فيه من استعداء- كما سنذكره- بل لأنه قد يكون في الحبس مظلومٌ، و [هو] لا يتمكن من التظلم كما قاله في "الحاوي" و"البحر"، وقد يكون [فيه] من حبس تأديباً وفيما مضى من الحبس كفاية.
قال الإمام: وتقديم هذا حتم، وليس من الآداب حتى قال الأصحاب: لا ينبعث في خصومة ترفع إلى مجلسه [ما لم] يتفرغ قلبه من هذا الشغل، ويستخلف فيها إن جوزنا الاستخلاف، وكذا فيما نذكره من بعد من المهمات.
وكيفية النظر فيما نحن فيه- كما قاله في "البحر"-: أن يرسل أولاً رجلين من أمنائه يكتبان اسم كل من في الحبس، واسم من حبس له، وبأي شيء حبس، وقال بعض أصحابنا- يعني الماوردي؛ لأنه مذكور في "الحاوي"-:[ينفذ إلى الحبس] ثقة أميناً ومعه شاهدا عدل، وقيل:[يبعث ثقة] ولا يعتبر العدد. وهذا ما أورده البندنيجي.
ثم قال الروياني: وعندي الاحتياط في العدد، ويجوز أن يقتصر على واحد؛ لأن طريقه الخبر.
وإذا أراد الأمين أن يكتب [أسماءهم، قال في "الحاوي" و"البحر": أقرع [بينه]، فمن خرجت قرعته قدم اسمه. وقد نسب الرافعي ذلك إلى "أمالي" أبي الفرج السرخسي.
وفي "تعليق" البندنيجي: أنه يكتب] اسم كل واحد في قرعة.
وكلام الماوردي وصاحب "البحر" يقتضي أن يكون اسمهم في مكتوب واحد؛
لأنهما قالا بعد ذلك: فإذا حمل المكتوب إلى القاضي نادى في الناس ثلاثة أيام إن كان البلد كبيراً، [ويوماً] واحداً إن كان [البلد] صغيراً: إن القاضي بدأ بالنظر في أمور المحبَّسين؛ فمن كان له محبوس على حق فليحضر في يوم كذا.
قال الماوردي والبندنيجي: وليكن اليوم الرابع من [يوم] ندائه.
قال في "البحر": و [قيل]: ينادي هكذا أولاً، ثم يبعث الثقة فيكتب أسماء المحبوسين. وهذا ما أورده القاضي أبو الطيب والبندنيجي والرافعي.
قال الروياني: ولا بأس به عندي، فإذا كان ذلك [اليوم] واجتمعوا، أقرع بين المحبوسين؛ لأجل التقديم.
قال في "الحاوي": ولا يقتصر على القرعة الأولى؛ فمن خرجت قرعته أخرج من الحبس، ولا يحتاج فيه إلى إذن خصمه؛ لأنه يخرج في حقه لا في حق حابسه. كذا قاله في "البحر" أيضاً.
وينادي بإحضار خصمه، وقيل: إذا تبين خصم المحبوس الذي خرجت عليه القرعة وجهه القاضي مع أمينه إلى الحبس؛ حتى يأخذ بيد خصمه ويأتي به [إلى] مجلس الحكم. وهذا ما أورده أبو الطيب وابن الصباغ.
وإذا حضر فلا يسأل [خصم المحبوس]- كما قاله في "الحاوي" و"البحر" وغيرهما- بل يقول للمحبوس: لم حبست؟ ولا يكتفي بالسؤال [الأول] الذي وقع في الحبس، فإذا قال شيئاً، عارض الأول بالثاني، وعمل بأغلظهما [عند الاختلاف]، ولو ثبت في ديوان الحكم سبب حبسه، قابله بما قال في الأول والثاني، وعمل بأغلظ الثلاثة، ثم إذا انفصل أمره أخرج من وقعت عليه القرعة ثانياً وهكذا.
وهذا إذا كان الحبس قريباً بحيث لا يتعطل على القاضي زمان إذا انتظر إخراج
محبوس منه بعد محبوس، فلو كان بعيداً أخرج بالقرعة جميع من يقدر على النظر بينهم في مجلسه قبل شروعه في النظر.
وفي "تعليق" البندنيجي و"الشامل" و"الرافعي" و"المرشد": أنه إذا أراد أن ينظر، ترك الرقاع التي فيها أسماء المحبوسين بين يديه، ومد يده إليها؛ فما وقع في يده منها نظر فيه.
ولعل هذا إذا كثر المحبوسون، وتعذرت القرعة؛ كما ذكرنا مثله في حضور الخصوم للتحاكم.
قال: فمن حبس بحق رده إلى الحبس؛ لأنه يستحقه لو أنشئت المحاكمة عند هذا القاضي؛ فاستمراره أولى.
وهذه المسألة مصورة في كلام الأصحاب- كما قال الإمام والبغوي- بما إذا أقر المحبوس أنه حبس بحق، وبما إذا أقر أنه حبس [بدين وهو قادر عليه؛ كما قاله في "الشامل" و"المرشد" وغيرهما، أو أن الدين الذي حبس] فيه ثمن مبيع، أو قرض، أو عن غصب، ولم تقم بينة بتلفه، ولم يصدقه الخصم على ذلك، أو أقر بأن الدين صداق أو أرش جناية أو بدل متلف ونحوه، وأنه معسر، فأقام الخصم بينة على أنه كان له مال؛ كما قاله أبو الطيب، [أو] أقر بأن ما حبس عليه ثمن خمر أو خنزير [لذمي] أو قيمته عنهما، والقاضي الأول والثاني يريان ذلك.
وقد يفهم من كلام الشيخ أنه إذا حبس تعزيراً لأجل لَدَدٍ صدر منه ونحوه: أنه يعاد، وقد قال الغزالي: إن من حبس تعزيراً لا يعاد. وقال الرافعي: إن معظم الكتب ساكتة عن ذلك، ولعل وجه ما ذكره: أن التعزير يتعلق بنظر الحاكم الذي بانت عنده الجناية، ولا يدري هل كان الحاكم المصروف يديم حبسه أم لا؟ ولكن لو بانت جنايته عند الثاني ورأى إدامة حبسه، فالقياس جواز العود.
وفي "الحاوي" و"البحر": أن التعزير قد استوفي بعزل الأول، وإن لم يستكمل
مدة حبسه، مع بقاء نظر الثاني؛ لأن القاضي الثاني لا يعزر لذنب كان مع غيره، لكنه لا يطلقه حتى ينادي عليه- كما سنذكره- لاحتمال أن يكون قد حبس لخصم وأنكره، ويحلفه: إنه ما حبس بحق لخصم؛ كما قاله ابن أبي الدم.
قال: ومن حبس بغير حق خلاه؛ لأن استمراره معصية.
وهذه المسألة مصورة في كلام الأصحاب بما إذا صدق الخصم المحبوس على ما ادعى أنه حبس عليه، وكان ذلك لا يقتضي الحبس، وله صور:
منها: أن يصدقه على [أن] ما ابتاعه منه وحبس فيه قد تلف، أو قامت بينة بذلك ولم يعهد له مال غيره.
ومنها: إذا كان الدين عن صداق أو إتلاف أو ضمان، وقد ادعى المحبوس الإعسار، وصدقه فيه الخصم، أو كذبه في دعوى الإعسار، وحلف المحبوس؛ قال القاضي أبو الطيب: لأن الأصل أن لا مال له. وهذا بناءً على أن من [لم] يعرف له مال إذا لزمه دين لا بمعاوضة محضة، القول في الإعسار قوله، كما حكيناه في باب التفليس عن العراقيين، وقد وافقهم القاضي الحسين هنا، أما إذا قلنا بما نقله المراوزة فلا يخفى تفريعه.
ومنها: إذا ادعى أنه حبس في قيمة خمر أتلفه [على] ذمي أو خنزير ونحوه، وكان الحاكم الأول لا يرى ذلك، [وكذلك الثاني، أو كان الخصم مسلماً. نعم، لو كان الخصم ذميّاً، والحاكم الأول لا يرى ذلك كالشافعي]، [والثاني يراه كالحنفي- كان حكم الأول باطلاً، والثاني إن حكم بمذهبه حبسه. ولو انعكس الحال فكان الأول حنفيّاً، والثاني شافعيّاً- لم ينقضه باتفاق الأصحاب]، ولكن هل يلزمه إمضاؤه أم لا؟ فيه قولان:
فإن قلنا بالأول وهو ما اختاره في "المرشد"، وصححه الرافعي- أعاده إلى الحبس.
وإن قلنا بالثاني، قال في "الحاوي" و"البحر": فيعيده إلى الحبس من غير أن يلزمه القضاء؛ لأنه [لا] يراه، ولا يطلقه؛ لأنه لا ينقض الحكم به، وأقره حتى يصطلحا.
وفي "الكافي": أنه على هذا القول لا يرده إلى الحبس؛ لأن في اجتهاده أنه لا شيء عليه، ولا يمكنه نقض ما حكم به الحاكم الأول بالاجتهاد؛ فالطريق فيه: أن يوقف الأمر بينه وبين المدعي حتى يصطلحا. وهذا أقرب إلى كلام ابن الصباغ والبندنيجي حيث قالا: [لا] يمضيه، ويتوقف في بابه حتى يصطلحوا.
وأطلق القاضي أبو الطيب القول بأنه إذا حبس في ثمن نخمر أو خنزير: أنه يرده إلى الحبس؛ لأنها مسألة مختلف فيها، فإذا حكم الحاكم فيها لم ينقض حكمه؛ لأن الاجتهاد لا ينقض بالاجتهاد.
ثم إطلاق المحبوس في الصور التي ذكرناها منوط عند الروياني والبندنيجي وابن الصباغ بالنداء عليه ثلاثاً: ألا إن فلان بن فلان قد فرغ من حكومته بينه وبين خصمه، فإن كان لأحد عليه حق فليتقدم فإن القاضي يريد إطلاقه، ووجه ذلك: أنه يحتمل أن يكون له خصم آخر فأنكره.
والقاضي أبو الطيب أطلق القول بالإطلاق من غير تقييد بذلك، وقال في "المرشد": عندي أن النداء الثاني لا يحتاج إليه؛ لأن في النداء الأول غنية عنه، ولأن الخصم الآخر إن لم يكن محبوساً [له] فلا يجوز حبسه انتظاراً لخصم لم يتعين ولم يثبت له حق، وإن [كان] قد حبس له فقد عرف حقه.
فرع: لو أقر المحبوس أن خصمه أقام بينة عليه بحق ولم تُعدَّل، وأنه [قد] حبس لأجل استزكائها- فهل يلحق ذلك بالقسم الأول حتى يعاد إلى الحبس، أو بالثاني حتى يخلى سبيله؟ فيه وجهان مبنيان على أنه يحبس لأجل الاستزكاء أم لا،
وفيه خلاف بين أبي إسحاق والإصطخري كما حكاه البندنيجي وابن الصباغ وغيرهما.
قال القاضي أبو الطيب: فعلى قول [أبي إسحاق يرده] إلى الحبس؛ لأن الحبس عنده بحق؛ لأن الأصل العدالة، وإنما السؤال عن الجرح الذي يسقط الشهادة، وهذا ما اختاره في "المرشد". وعلى قول الإصطخري يخلى؛ لأن الحبس عنده بغير حق؛ لأن البحث عنده والسؤال عن الشهود إنما هو لإثبات الشهادة.
قال البندنيجي: ومحل التخلية إذا لم يكن المعزول قد حكم بوجوب الحبس عليه.
وقد أوضح ذلك الماوردي، فقال بعد حكاية الوجهين: ثم إن قلنا: إنه لا يجوز حبسه، وكان القاضي قد قال: حكمت بحبسه- لزم حبسه باجتهاده، ولا يجوز إطلاقه، وإن لم يقل: حكمت، وجب إطلاقه، ولكن لا يعجل بإطلاقه حتى ينادى عليه ثلاثة أيام، كما سنذكره.
قال ابن أبي الدم: وفيما قاله نظران:
أحدهما: أنه قال: وإن قلنا: لا يجوز حبسه. وفصَّل كما تراه، وكان من حقه أن يقول: إذا قلنا: لا يجوز حبسه للأول، فهذا إذا لم ير ذلك رأياً ومذهباً، وإلا فلو رأى الأول حبسه، جاز له ذلك قولاً واحداً؛ لأنها مسألة مجتهد فيها. ثم [إذا] رأى القاضي الأول حبسه وحبسه، فالقاضي الثاني إن رأى حبسه سائغاً بذلك فله استدامة حبسه قولاً واحداً، وإن لم ير جواز حبسه، والتفريع على أن القاضي الأول رأى جواز حبسه وحبسه- فهل يديم الثاني حبسه بطلب الخصم؛ [إمضاء لفعل [الحاكم] الأول]، أو يطلقه؟ فيه وجهان.
الثاني: أنه [قال]: [إن] قال الأول: حكمت بحبسه، لزم الثاني حبسه، وإلا أطلقه. وفي هذا إشارة إلى أن فعل الحاكم أو أمره بالفعل ليس بحكم، إنما الحكم قوله لفظاً: حكمت بكذا، أو لفظ آخر يقوم مقامه، وفي هذا تردد ظاهر. ثم إنه قد
ناقض قوله هذا؛ فإنه قال متصلاً بما ذكره: أما إذا [قال]: حبسني تعدياً بغير حق [ولغير خصم]، فدعواه تخالف الظاهر من أحوال القضاة، وحبسه حكم؛ فلا ينقض إلا بيقين الفساد. فقوله:"وحبسه حكم"، دليل على ما ذكرناه قطعاً.
قلت: وكأن الجواب عما ادعاه من المناقضة: أن الحبس حكم بالحق لا [حكم] بالحبس، والكلام ها هنا في الحبس لا في الحق.
وفي "تعليق" القاضي الحسين: أنه إذا قال: حبسني بشهود غير عدول، لم يقبل، ولكن يسأل عن عدالتهم: فإن كانوا عدولاً حبسه، وهل يحبسه في المدة التي يتعرف فيها أحوال الشهود؟ [فيه وجهان].
قال: ومن ادعى أنه حبس بغير خصم، أي: في [غير] حق، نادى عليه، أي: ينادي ثلاثة أيام- كما قال في "البحر"-: ألا من كان له عند فلان [بن فلان] حق فليحضر في يوم كذا؛ فإن القاضي عازم على إطلاقه من السجن.
وفي "تعليق" القاضي الحسين: أن بعضهم قال: ينادي عليه ساعة أو ساعتين، فإن كان له خصم وإلا خلي سبيله، وقال [بعضهم]: ينادى عليه حتى يشتهر في البلد، ووجه النداء [أنه]: يحتمل أن يكون له خصم قد كتمه؛ فيظهر بالنداء.
قال: [ثم يحلفه]، أي: إن لم يحضر خصم، ولا بينة تخالف دعواه [ولا توافقها؛ لأن دعواه] مخالفة للظاهر، فحلف معها، بخلاف المسألة قبلها؛ حيث قلنا: يخلى بغير يمين؛ لأن له خصماً [حاضراً]، وكان الظاهر معه، والأصل عدم خصم آخر.
وكيفية اليمين: أن يحلف بالله إنه حبس بغير حق؛ كما قاله أبو الطيب، وقد فهمت مما حكاه القاضي عن بعضهم: أنه لا يحتاج في الإطلاق إلى يمين.
قال: ويخليه؛ لأن تخليد الحبس عليه بعد ذلك إضرار به لا إلى غاية، مع أنه لو كان له خصم لظهر بذلك.
قال الإمام- وتبعه الغزالي-: وهو في مدة النداء لا يحبس ولا يخلى، بل ينصب من يراقبه، وهل [يأخذ منه كفيلا] ببدنه [احتياطاً]؟ فيه وجهان ذكرهما صاحب "التقريب":
أحدهما: [نعم؛ فعلى هذا: إذا امتنع من القيام بكفيل رددناه إلى الحبس.
والثاني: ليس على ذلك]، وهو الصحيح الذي قطع به الأئمة، كما قال الإمام.
وفي "الإبانة" إطلاق القول بأن المحبوس إذا قال: حبست بظلم، لا يقبل قوله، واقتصر على ذلك.
وفي "الحاوي": أن دعواه [مخالفة للظاهر] من أحوال القضاة، وحبسه حكم؛ فلا ينقض إلا بيقين الفساد، ويطلب منه البينة: فإن شهدت أنه حبس بحق عزر [في جرحه] لحابسه، وإن شهدت أنه حبس ظلماً نادى عليه ثلاثاً كما ذكرنا، ثم يطلق إن لم يحضر خصم، وإن لم تقم بينة بأحد الأمرين أعاده إلى الحبس، ويكشف عن حاله حتى ييأس بعد الكشف من ظهور حق عليه، ويطالبه بكفيل بنفسه؛ لأن الحبس واجب عليه، فإن عدم كفيلاً استظهر في بقاء حبسه على [طلب الكفيل]، ثم يطلقه عند إعوازه، وهذا غاية ما يقدر عليه القاضي.
وحكى الإمام: أن في كلام القاضي ما يدل على أنه يخلى سبيله بمجرد قوله: حبست ظلماً، ولا يتشبث به، فإن ادعى عليه مدع، استعدى عليه؛ فإنا لا ندري أن
ذلك القاضي حبسه بحق أم لا، وحبس القضاة منقسم إلى حبس بحق، و [إلى] حبس ظلم وأدب، فيحمل على تأدية حق.
قال الإمام: ولست أنكر اتجاه هذا في القياس؛ فإن التشبث به من حق الحبس.
ولو ظهر بعد النداء خصم، وادعى أنه محبوس في حقه: فإن صدقه بأنه محبوس له لم يخف الحكم مما تقدم، وإن كذبه قيل للحاضر: أنت الآن مدع، فإن ادعيت بحق سمعناه، وإلا فأت ببينة تشهد بأنه كان محبوساً بدينك، وإلا خليناه؛ كذا قاله في "البحر".
وعن "أمالي" أبي الفرج [السرخسي]: أنه [لا] يكفي لاستدامة الحبس قيام البينة على أن [القاضي] المصروف حبسه بحق هذا المدعي إن لم يبين جنس الدين وقدره.
واعلم أنه [قد] وقع في بعض النسخ: "ومن ادعى أنه حبس بغير حق"، وقد يظن أنها المسألة [التي قبلها، وليس كذلك؛ لأن تلك المسألة] المحبوس أقر بما لأجله حبس، وصدقه الخصم؛ فكان الحبس بغير حق، وهذه لم يدع فيها شيئاً حبس بسببه غير الظلم، ولا عين خصماً له، والحكم الذي ذكرناه لا يختلف؛ [لأن اقتصاره] على ذلك مستلزم لعدم الخصم، ولو قال: حبسني فلان غير الحاكم ظلماً، لا يقبل ذلك منه؛ لأنه خلاف الظاهر، ويستكشف [على ما ذكرناه] فيما إذا قال: حبسني ظلماً.
قال في "البحر": وقيل: إن كان فلان حاضراً أحضره حتى يقيم البينة أن [له] عليه حقّاً، وإلا أطلقه، وإن كان غائباً فوجهان:
أحدهما: يطلق؛ لأن الأصل أن لا حبس.
والثاني: لا يطلق؛ لأن الظاهر أنه حبسه القاضي بحق، [هكذا] ذكره بعض أصحابنا بخراسان.
وكأنه يعني الفوراني؛ لأنه ذكر ذلك في "الإبانة"، والإمام حكى الوجهين في حال الغيبة البعيدة عن بعض المصنفين، وعناه أيضاً، وقال: إنا على القول بعدم الإطلاق نكتب إلى الموضع الذي فيه الخصم حتى يحرص على إظهار حجته، فإن قصر أطلقناه، وعلى مقابله يراقب، فأما الرد إلى الحبس فهو إدامة للعذاب، ولا سبيل إليه قال: وقد يرى الإنسان في مجموعات الأصحاب عبارات موهمة.
تنبيه: كلام الشيخ في هذه المسألة كالمصرح بأن القاضي ينبغي أن يكون له حبس [يعزر][بالحبس] فيه من يستحق التعزير، وقد صرح به الأصحاب على وجه الاستحباب، واستدلوا لذلك بما روي أن عمر- رضي الله عنه اشترى داراً بمكة واتخذها سجناً [بمكة]، وروي أن عليّاً- كرم الله وجهه- اتخذ سجناً.
قال القاضي أبو الطيب: وإذا لم يتخذ سجناً أمر بملازمة من توجه عليه الحق، فتقوم الملازمة مقام الحبس. ولذلك قال: يستحب أن يتخذ درة يؤدب بها من يستحق التأديب، ويرهب بها السفيه والجاهل، وقد اتخذها عمر، رضي الله عنه.
قال: ثم ينظر في أمر الأيتام، أي: الذين في عمله، والأوصياء، أي: عليهم، وكذا [على] المجانين والسفهاء، و [كذا] على تفرقة الصدقات؛ لتوليهم لمال من لا يملك المطالبة ولا يعبر عن نفسه؛ فكان النظر فيهم أولى.
قال الماوردي: ويبدأ بمن يرى من غير قرعة، بخلاف المحبوسين؛ لأن هذا منه نظر اجتهاد، ولأن النظر في المحبوسين لهم، وها هنا عليهم لا لهم. أما إذا كان المال والأوصياء في عمله والمولى عليهم في غير عمله، فنظره في ذلك مبني على أنه هل له نظر في ذلك المال أم لا؟ وفيه تردد جواب القاضي الحسين، والأصح في "أدب
القضاء" لابن أبي الدم، وإليه مال الإمام: لا؛ بل سبيل تصرفه فيه كتصرفه في أموال الغيب، وسنذكره.
ثم نظره في الأوصياء بعد ثبوت الوصاية لديه بإقامة البينة على الموصي بالوصاية، يكون باختياره في أمانته وقوته، وسنجده لا يخلو فيها من أربع أحوال:
إحداها: أن يكون أميناً قويّاً فيقره، ولا يجوز أن يستبدل به.
الثانية: أن يكون أميناً ضعيفاً لا يقدر على التفرد بتنفيذ الوصية؛ إما لكثرة المال أول ضعفه في نفسه؛ كما حكاه الرافعي، [فعلى القاضي أن يضم إليه من أمنائه من يقوى به][، ولا يدفع يده].
الثالثة: أن يكون خائناً في الأمانة فاسقاً في الديانة؛ فلا يجوز للقاضي أن يقره عليها، ويجب عليه أن يردها إلى غيره من الأمناء.
الرابعة: أن يكون ثقة في الأمانة فاسقاً في الديانة، فينظر في الوصية: فإن كانت بالولاية على الأطفال ونحوهم أو تفرقة الثلث [في غير] معينين [انتزعها منه، وردها إلى أمين، وإن كانت بالوصية في تفرقة الثلث في معينين] أو قضاء دين لمسميين، قال الماوردي: جاز أن يقرها في يده، والفرق: أن في تلك ولاية واجتهاداً، وليس الفاسق من أهلها، وهذه مقصورة بالتعيين على التنفيذ دون الاجتهاد.
وفي "البحر" وغيره إطلاق القول بنزع المال منه في حال [قوة] أمانته في التصرف وفسقه في الديانة.
وقد تتفق حالة خامسة، وهي أن يشك القاضي في عدالته، وقد حكى ابن الصباغ فيها وجهين:
أحدهما- عن الإصطخري-: أنه يقر المال في يده؛ لأن الظاهر الأمانة.
والثاني- عن أبي إسحاق، وهو المختار في "المرشد"-: أنه ينتزعه حتى تتحقق عدالته.
قلت: وهذا التوجيه يقتضي أن يكون مذهب كل واحد منهما خلاف ما حكيناه عنه فيما إذا حبس لأجل الاستزكاء.
ولو أقام الوصي بينة بأن القاضي المنصرف نفذ وصيته، وأطلق تصرفه في المال- قال ابن الصباغ والبندنيجي والمصنف: لم يكن [للقاضي الثاني] التعرض له، ويمضيه على ما ثبت عنده من حكم الأول؛ لأن الظاهر: أن الأول لم ينفذه إلا بعد ثبوت أهليته. نعم، يراعيه، فإن تغير حاله [إلى حالة] من الأحوال الثلاثة عامله بما ذكرناه، هكذا أورده صاحب "البحر" وغيره.
[ثم][في] الحالة التي يقر المال في يده لو كان موجوداً، لو ادعى أنه صرفه في جهاته، قال الرافعي: فإن كان مستحقوه بالوصية معينين، لم يتعرض له؛ لأنهم يطالبون لو لم يصل إليهم، وإن كانوا غير معينين فالقول قوله، ولا يضمنه، ولو كانوا أطفالاً ونحوهم فقد تقدم حكمهم في باب الحجر.
وفي "تعليق" القاضي الحسين: أن الوصي إذا كان قد أنفذ الوصاية وفرغ فالقاضي بالخيار: إن شاء حاسبه، وإن شاء ترك.
وفي الحالة التي ينتزع المال من يده لو كان باقياً، لو كان قد تصرف فيه، قال الماوردي وغيره: فإن [كان] مستحقوه معينين بالوصية تبرعاً أو في وفاء دينه، فلا يتعرض له، والمستحق هو المخاصم. وإن كان غير معين، أو كان طفلاً، قال الماوردي: فإن كان فسقه خفيّاً يفتقر [إلى اجتهاد] نفذ تصرفه، ولم يضمن إلا بالتعدي ما لم يحكم القاضي بفسقه، وإن كان فسقه ظاهراً لا يفتقر إلى اجتهاد
[رد] تصرفه، وغرمه إذا لم يمكن التدارك كما إذا فرق على المساكين. قال: وليس له أن يرجع على المساكين بما فرقه وإن صدقوه [على الوصية]؛ لأنه يقر بوصوله إليهم [بحق].
[وفي "المهذب" حكاية وجهين في ضمانه في هذه الصورة،] ووجه المنع بأنه دفعه إلى مستحقه فهم كالمعينين، والمختار في "المرشد": الأول.
وأطلق الرافعي القول بالضمان عند وجوده فاسقاً؛ لتصرفه لا عن ولاية من غير تفصيل بين فسق [خفي أو ظاهر. نعم، حكى أنه لو ادعى أنه فرق الثلث الموصي به لغير] معين؛ خوفاً عليه من أن يضيع- وجهين في ضمانه، وأظهرهما: الوجوب، ويظهر أن ينبني الخلاف فيما إذا فرقه الوصي [الفاسق] في حالة الخوف، على ما إذا فرقه من ليس بوصي في هذه الحالة وهو عدل، وفيه وجهان حكاهما ابن الصباغ وأبو الطيب، فإن قلنا: يضمن- وهو الصحيح في "تعليق" أبي الطيب، والمختار في "المرشد"- فالوصي الفاسق أولى، وإلا فوجهان.
وإذا جمعت بين ما حكاه في "المهذب" وغيره واختصرت، قلت: في ضمانه عند تفريقه في غير معين ثلاثة أوجه، ثالثها: إن كان في حال الخوف عليه لم يضمن، وغلا ضمن، وقد اتفق الكل على أن مستحق الثلث لو كان معيناً لم يضمن الوصي ولا الأجنبي وإن لم يكن ثم خوف؛ لأن للمعين الاستقلال بالأخذ.
قال: ثم ينظر في أمر أمناء القاضي- أي: الذي كان قبله- المنصوبين [للنظر] في أموال الأيتام والمحجور عليهم الذين لا وصي عليهم، وكذا في تفرقة الوصية؛ لما ذكرناه، والخيرة في التقديم [إليه] كما حكاه الماوردي، وإذا نظر فيهم:
فإن كانوا باقين على حالهم في العدالة والكفاءة أقرهم.
قال ابن الصباغ: ولا يحتاج إلى تولية؛ لأن الذي قبله ولاهم.
وإن كان قد تغير [حال] أحدهم بفسق عزله، وإن كان بضعف ضم إليه من يعينه.
وفي "تعليق" القاضي الحسين و"البحر": أنه بالخيار إن شاء [عزله و] انتزع ذلك منه عند بقائه على الاستقامة، وإن [شاء] أقره وحده أو ضم إليه غيره.
والأمر في باقي الأحكام [كما] تقدم في الأوصياء، ولابد من إقامة البينة على أن القاضي المنصرف [قد ولاه، ولا يكفي قول المنصرف: إني وليته،] فلو لم تقم بينة فكل ما أنفق وادعى غرمه على اليتيم وعلى غيره، حكمه فيه كالمستولى عليه من غير تولية أحد، قاله القاضي الحسين.
فروع:
إذا فعل الأمين ما لا يجوز عن جهالة به لم ينعزل، ويرد ما فعل، فإن أمكن استدراكه لم يغرمه، وإلا غرمه.
إذا ادعى الأمين أن القاضي [المنصرف] قطع له أجرة، فإن أقام [على ذلك] بينة، وكان ذلك القدر أجرة المثل- عمل بها، وإن كان أكثر من أجرة المثل رد الزائد عليها، وإن لم تقم بذلك بينة، ففي الأجرة قولان في "تعليق" القاضي الحسين وغيره:
أحدهما: لا شيء له.
والآخر: القول قوله، فيحلف ويستحق أجرة المثل.
وقد حكى الماوردي الخلاف المذكور وجهين، وأنهما مأخوذان من الوجهين فيما إذا ادعى راكب الدابة إعارتها، وادعى المالك [إجارتها]، في أنه هل يستحق
[عليه] الأجرة أم لا؟ فإن قلنا: لصاحب الدابة الأجرة، استحق الأمين ها هنا، وإلا فلا. وتبعه الروياني في ذلك.
وقال الإمام: إن الخلاف ها هنا مبني على الخلاف، فيما إذا عمل لغيره عملاً، ولم يسم له أجرة، هل يستحقها أم لا؟
على القاضي بعد تصفح أحوال الأمناء والأوصياء أن يثبت [في ديوانه] حال كل أمين ووصي وما في يده من الأموال، ومن [يلي] عليه من الأيتام؛ ليكون حجة في الجهتين، فإن وجد ذكره في ديوان القاضي الأول عارض به وعمل بأحوطهما، قاله في "الحاوي"، ولفظه في "البحر": يجب على القاضي. وسرد ذلك.
قال: ثم في أمر الضوال واللقطة؛ للمعنى الذي ذكرناه.
والضوال: الماشية من الإبل والبقر والغنم، واللقطة: كالمتاع والأعيان؛ كذا قاله ابن الصباغ.
وقال البندنيجي: إن الضوال: ما كان من البهائم التي لا يجوز التقاطها، وهو ما امتنع من صغار السباع؛ كما ذكرناه في بابه.
ونظره في الضوال: إن كان في بقائها ضرر أو تحتاج إلى مؤنة باعها وحفظ ثمنها، وإلا بقاها وتركها في الحمى حفظاً لمالكها.
ونظره في اللقطة: الذي وجدها: إن اختار تملكها فهو أحق بها، وإن لم يختر ذلك أمر أميناً بأخذها وحفظها على صاحبها، وإن رأى أن يخلطها بمال بيت المال، حتى إذا جاء صاحبها أعطاه قيمتها من بيت المال- فعل، كذا حكاه ابن الصباغ.
وقال البندنيجي: إن نظره فيها إذا ردها الملتقط ولم يختر تملكها فيحملها
[إلى] الحاكم؛ ليحفظها على ربها، [فينظر: إن كانت مما لا مؤنة في حفظها كالجواهر والأثمان، حفظها على ربها،] وإن كانت [مما لاستبقائها] مؤنة: كالأمتعة الجافة، [أو الحيوان] الذي يحتاج في حفظه إلى الإنفاق عليه- باعه وحفظ ثمنه [على صاحبه].
وكذا ينظر في الوقوف العامة والخاصة؛ كما قاله الماوردي:
أما العامة؛ فلأن مستحقيها لا يتعينون، فمل يقف النظر على مطالب.
وأما الخاصة؛ فلأن منتهاها إلى من لا يتعين من الفقراء والمساكين، ويكون نظره هل أفضت إليهم أم لا؟ وهل يستحق الولاية على من تعين منهم لصغر أو جنون أو سفه؟ وليعلم سبلها فتحمل على شرط واقفها. وإن تغير حال الولي عليها فعل ما قدمناه في الأولياء والأمناء؟
ومن تمام نظره فيها: تعاهدها بالإسجال [عند تطاول] المدة؛ لتكون الحجة باقية ومثبتة [في ديوانه، وقد حكيت ذلك في كتاب الوقف عن نص الشافعي- رضي الله عنه كما حكاه [القاضي أبو الطيب في باب عقد الذمة].
تنبيه: كلام] الشيخ في هذا الفصل والذي قبله يعرفك أن ولاية القاضي تتضمن النظر والتصرف فيما ذكره، كما اقتضى كلامه في أثناء هذا الباب وغيره تضمنها التصرف في أمور أخر، وقد تكلم الأصحاب فيما يقتضيه [مطلق] ولاية القضاء، وملخصه: أنه يستفيد به سماع البينة والحكم، والتحليف، وفصل الخصومات، بحكم أو بصلح عن تراض، واستيفاء الحقوق، والحبس عند الحاجة، والتعزير، وتزويج اللواتي ليس لهن ولي خاص، والولاية في مال الصغار والسفهاء والمجانين [عند عدم أولياء النسب والأوصياء]، والنظر في الضوال
و [اللقط] والوقوف؛ حفظاً للأًول، وإيصالاً للغلات إلى مصارفها بالفحص عن حال المتولي إذا كان [لها] متولٍّ، وبالقيام [به] إذا لم يكن، والنظر في الوصايا، وتعيين المصروف إليه إذا [كانت الوصية لجهة] عامة إذا لم يكن [لها وصي]، والفحص عن حال الوصي إذا كان كما تقدم، وله النظر في الطرق والمنع من التعدي فيها بالأبنية وإشراع ما لا يجوز إشراعه، كذا أطلقه الماوردي في "الأحكام" وغيره.
وفي "الحاوي": إن جاءه متظلم دخل في ولايته، ونظر فيه، وإن لم يأت متظلم دخل ذلك في الحسبة، وكان أحق بالنظر فيه، فإن لم يفتقر إلى اجتهاد تفرد به المحتسب، وإلا كان القاضي بالاجتهاد [فيه] أولى من المحتسب، ويكون المحتسب فيه منفذاً لحكم القاضي.
[وله] نصب المفتين والمحتسبين، وأخذ الزكوات كما قاله في "الإشراف".
وفصَّل الماوردي فيها، فقال: إن أقام الإمام لها ناظراً خرجت من عموم ولاية القاضي، وإلا فوجهان.
قال الرافعي: ويشبه أن يطرد هذا التفصيل في المحتسبين، وكذلك القول في إمامة صلاة الجمعة والعيدين.
قال الماوردي: إن أقام الإمام لها شخصاً، خرجت من عموم ولاية القاضي، وإلا فوجهان.
قال الرافعي: ويقرب من هذه الأمور نصب الأئمة في المساجد.
وله الحكم بنفقات الأقارب والزوجات والرقيق، وتقديرها برأيه واجتهاده، والنظر في التعديل والتجريح والتقليد والعزل.
وله إقامة الحدود على مستحقها فيما يتعلق بحقوق الآدميين: كحد القذف،
والقصاص على النفوس والأطراف، فأما ما يتعلق بحدود الله- تعالى-[المحضة]: كحد الزنى وشرب الخمر وتارك الصلاة، فقد جزم في "الأحكام" بأن له إقامتها- أيضاً- من غير طلب، وقال في "الحاوي": إن تعلقت باجتهادٍ كان القاضي أحق بها، ويأمر ولاة المعاون باستيفائها وهو أولى من مباشرتها بنفسه، وعليهم أن يعملوا بأمره فيها، وإن لم تتعلق باجتهاد كان الأمير أحق بها؛ لتعلقها بتقويم السلطنة، فإن تعلق بها سماع البينة، سمعها القاضي، واستوفى الأمير.
وأطلق في "الإشراف" القول بأنه لا يقتل مرتد دونه، ولا يستوفى [في] حد دونه، فإن فعله فاعل عزره القاضي.
وله- كما قال في "الإشراف"- إقطاع أراضٍ ورثها المسلمون في ولايته.
وفي جباية الخراج والجزية وحفظ مال بيت المال خلاف بين الأصحاب، والأظهر في "الرافعي" وبه جزم الماوردي: المنع.
والنظر في أموال الغيب، قال الماوردي: إن علموا بها فلا نظر للقاضي فيها؛ لوقوعها على اختيار، وإن لم يعلموا [بها بأن] ورثوها وهم لا يعملون، فهي داخلة في نظر القاضي، وعليه حفظها حتى يقدموا أو يوكلوا؛ فيتخرج حينئذ من نظره.
قال الإمام في أول كتاب قسم الفيء والغنيمة: وحفظها يكون بصيانتها إن لم يخشَ هلاكها، وإن خشي فهو كالبيع عند خوف الفوات بالكلية، وكذا خوفه تلف المعظم، ولا يجوز البيع عند خوف الاختلال الذي لا يتراقى إلى تلف المعظم [ولم يكن سارياً]؛ لأن معظم الأمة لا يعدون ذلك ضياعاً. وهذا إذا امتدت الغيبة، وعسرت المراجعة [قبل وقوع الضياع، ولم يمكن تدارك الضياع بالإجارة؛ فلو أمكنت المراجعة،] أو لم ينقطع الخبر انقطاعاً يغلب على الظن الإياس من
العود قبل المستدرك- فلا يسوغ التصرف مطلقاً، ولو أمكن التدارك عند عسر المراجعة بالإجارة، اكتفى القاضي بها ولم يبع.
قال الإمام: وإجارة القاضي لأملاك الغُيَّبِ في معنى بيع الأعيان المشرفة على الهلاك؛ فإن المنافع متعرضة للضياع على مر الزمان. قال: وهذا إذا لم يصدر من الغائب نهي عن التصرف في ماله؛ لأن جواز التصرف فيه كان من حيث إن قرائن الأحوال تدل على أن الغيب لا يأبون أن يرعى حقوقهم من يلي أمر المسلمين؛ فلو فرض من المرء عند الغيبة نهي عن البيع، وانتهى الأمر إلى الضياع- فلسنا نرى البيع جائزاً- والحالة هذه- إلا أن يكون حيواناً، فإنه يباع؛ لأجل حرمة الروح؛ كما يباع في حضرته إذا كان لا يستقل بالإنفاق عليه.
قال: وإن كان القاضي قبله لا يصلح للقضاء نقض أحكامه كلها، [أصاب فيها أو أخطأ؛ لأنه حكم من لا يجوز حكمه] فوجب نقضه كما لو صدر عن بعض الرعية من غير تحكيم، وهذا ما أورده البندنيجي [والبغوي والمصنف، قال الرافعي: وغيرهم.
وكلام الغزالي] في "الوسيط" الذي حكيناه من قبل مصرح بأن من ولاه السلطان ذو الشوكة تنفذ أحكامه، و [قد] حكينا عن صاحب "الكافي" إبداءه احتمالاً، وذكرنا ما قيل في ذلك، وفي "البحر": أن امرأة لو قلدت القضاء على مذهب أبي حنيفة، فيما يجوز أن تكون شاهدة فيه، فحكمت- هل للشافعي نقض حكمها؟ قال الإمام: جرى فيه وجهان:
أحدهما: [ينقض]، وهو اختيار الإصطخري.
والثاني: لا ينقض؛ لأنه مجتهد فيه.
قال: وإن استعداه خصم على القاضي قبله [لم يحضره حتى يسأله] عما بينهما؛ لجواز أن يقصد تعييبه وتبذيله وتحليفه بغير حق.
قال: فإن ادعى عليه مالاً غصبه أو رشوة أخذها على حكم أحضره؛ لأنه ذكر سبباً محتملاً، ويتعذر إثباته قبل إحضاره، وهكذا الحكم فيما إذا ادعى عليه ديناً وغيره.
ثم للمعزول أن يوكل عنه في سماع الدعوى عليه ولا يحضر، وإذا حضر استؤنفت الدعوى عليه، فإن أقر أو قامت عليه بينة بالمدعي، حكم عليه [به]، وإن أنكر ولا بينة فالقول قوله مع اليمين؛ كما صرح به الماوردي، [وقال] القاضي أبو الطيب في دعوى الرشوة: إن في تحليفه ما سيأتي.
قال: وإن قال: حكم عليّ بشهادة فاسقين أو عبدين، أي: وهو يعلم ذلك، وأنه لا يجوز، وأنا أطالبه بالغرم- فقد قيل: يحضره؛ لأن ما ادعاه محتمل، وكان عليه الحضور؛ كما لو ادعى عليه مالاً، وهذا قول الإصطخري وابن القاص كما حكاه أبو الطيب، وهو الأصح عند القاضي الروياني في "البحر"، وعند غيره- أيضاً- كما قاله الرافعي.
وقيل: لا يحضره حتى يقيم المدعي بينة أنه حكم عليه؛ لأن الظاهر من أحكام الحكام [نفوذها على] الصحة؛ فلم يجز أن يعدل بها عن الظاهر إلا ببينة؛ صيانة لولاة المسلمين عن البذلة إلا بما يوجبها.
قال ابن يونس: ولأنه يسهل على المدعي إقامة البينة على الحكم؛ لأنه يقع ظاهراً، بخلاف أخذ المال. وهذا فيه نظر؛ لأن القاضي أبا الطيب قال:[إنما] تسمع البينة على هذا الوجه إذا شهدت على إقراره بأنه حكم [عليه] بشهادة لا يجوز الحكم بها، وإذا كان كذلك فهذا كالمال سواء.
لكن في "الرافعي" أن البينة إن شهدت على إقراره بذلك أحضره، وإن شهدت بما ادعاه المدعي أحضره، وهذا الوجه أصح عند صاحب "التهذيب".
وفي "الحاوي" حكاية [وجه] ثالث [: أنه] إن اقترن بدعواه أمارة تدل
على صحتها من كتاب أو محضر ظاهر الصحة أحضره، وإن تجردت الدعوى عن أمارة لم يحضره، وفي هذا الوجه يندرج ما حكاه ابن يونس أنه قيل: يكفي في إحضاره أن يقيم بينة أنه حكم عليه بقضايا.
ولو ادعى المدعي أن الحاكم أخذ المال منه بشهادة المذكورين، ودفعه إلى فلان-[أحضره جزماً]؛ لأن هذا [الأخذ كالغصب].
قال [الشيخ]: فإن حضر، أي: تفريعاً على الوجه الأول، أو باختياره تفريعاً على الثاني؛ كما قاله في "البحر"، وقال: حكمت عليه بشهادة عدلين حرين- فالقول قوله مع يمينه، أي: بعد استئناف الدعوى، كما صرح به الماوردي؛ لأنه أمين ادعى عليه خيانة أنكرها؛ فكان القول قوله [مع اليمين] كالمودع.
وقيل: القول قوله من غير يمين؛ لأن في تحليفه امتهاناً له وابتذالاً، وفي خصوم الحاكم كثرة؛ فربما أدى ذلك إلى ألا يتولى أحد القضاء لما يلحقه من عاقبة الابتذال، وهو قول الإصطخري وصاحب "التلخيص" و"التقريب"، وإيراد القاضي أبي الطيب يقتضي ترجيحه، وقد صححه الشيخ أبو عاصم والبغوي والماوردي كما قاله الرافعي.
قال: والأول أصح؛ لما ذكرناه، ولأن حقوق الآدميين يستوي فيها الكافة، وقد حكى الرافعي هذا عن اختيار العراقيين والقاضي والروياني، وهو كذلك في "البحر"، وفي "الحاوي" نسبته إلى أبي إسحاق، أما إذا حضر بعد إقامة البينة عليه بالمدعي فلا بد- أيضاً- من تجديد الدعوى، ولا يتجه الإنكار؛ لوجود البينة. نعم، لا يكتفي بما شهدت به أولاً؛ بل [لا] بد من الأداء في وجهه على المعهود.
ولا فرق فيما ذكرناه بين أن يكون المدعي حكماً في مال أو [في] دم، وقد
نصب الغزالي الخلاف المذكور في الأعداء في سماع أصل الدعوى، وقال: إنه مبني على الخلاف في أن الحكم بشهادة العبدين ومن في معناهما، هل يقتضي غرماً؟ وأشار بهذا إلى [أن] ما يجب بخطأ الإمام، هل يجب في ماله أو على عاقلته إن كانت تتحمله، أم لا يجب إلا في بيت المال؟ فإن قلنا بالثاني لا تسمع الدعوى عليه، وإلا سمعت كما في قتل الخطأ.
وأطلق في "الإشراف": أن محمد بن جرير الطبري وغيره من أصحابنا قالوا: لا ينبغي أن يُفَوَّ سهم هذه الدعوى نحو القاضي؛ لأن فيه تشنيعاً عليه، وهو مستغن عن هذا التشنيع عليه، بأن يقيم بيِّنة على فسق الشهود. وحكى عن بعض الأصحاب أنه قال: دعوى الطعن في الشهود مسموعة على القاضي؛ لأنه ربما يتعذر عليه إقامة البينة.
وقال الرافعي: إن ما ذكره الغزالي من الخلاف غير معروف. نعم، إن كان المحكوم به قطعاً أو قتلاً، فعن الإصطخري: أن القاضي إنما يضمن إذا استوفاه بنفسه، أو أمر من استوفاه، [فأما إذا استوفاه] الولي بإذن القاضي فلا ضمان على القاضي. وخالفه الأكثرون، وقالوا: لا فرق؛ فإن القاضي هو [الذي] سلط الولي؛ فيمكن أن يجري هذا الخلاف في الأموال. انتهى.
قلت: وما أنكره الرافعي على الغزالي غير متجه عليه؛ لأن الإمام حكاه، ولفظه: إذا ادعى على الأول أنه ترك الصواب في حكمه، وقضى بشهادة عبدين أو معلنين بالفسق، فهل يقبل القاضي الجديد هذه الدعوى؟ ذكر العراقيون [فيه] وجهين:
أحدهما: لا يقبلها، ولا يستحضر المعزول لذلك. وهذا ليس بشيء.
والوجه: القطع باستحضاره، والبحث عن حقيقة حاله.
فرع: إذا ادعى على القاضي بعد العزل: أنك قتلت أبي، فقال: قتلته في أيام ولايتي قوداً، وعرف القاضي قاضياً فيما سبق من الزمان- قال صاحب "التقريب": فالقول قوله ولا يمين عليه. وذكر العبادي: أنه الأصح.
قال في "الإشراف": وعلى طريقة أبي حامد يحلفه. ثم قال: ويمكن بناؤهما- على طريقة أبي حامد- على القولين في تبعيض الإقرار، وهو إذا قال: له عليّ ألف من ثمن خمر [أو خنزير].
وهذا حكم الدعوى على المعزول، أما الدعوى على المتولي: فإن كانت بما لا يتعلق بالحكم حكم بينهما خليفته أو قاضٍ آخر كما سبق، وإن ادعى ظلماً في الحكم وأراد تغريمه؛ لم يمكن، ولم يحلف القاضي، ولا تغني دعواه إلا بالبينة، وكذا لو ادعى على الشاهد أه شهد بالزور وأراد تغريمه؛ لأنهما أمينان شرعاً، ولو فتح باب تحليفهما لانسد الأمر، ورغب القضاة عن القضاء، والشهود عن أداء الشهادات، وهذا ما حكاه الإمام في باب الامتناع عن اليمين، وكذا الحكم لو قال القاضي: قد عزلت، وأنكر، وعن الشيخ أبي حامد: أن قياس المذهب التحليف في جميع ذلك؛ كسائر الأمناء إذا [ادعيت عليهم خيانة]، وهو ما جزم بتخريجه القاضي أبو الطيب في الشهود، وقال: إن الشهادة عليهم بالتزوير إنما يتصور إقامتها على الإقرار.
قال: وإن قال: جار عليّ في الحكم؛ نظر [في الحكم]: فإن كان في أمر لا يسوغ فيه الاجتهاد؛ أي [: بأن] يكون مخالفاً للنص أو الإجماع أو القياس الجلي، [أو ما] في معناه كما سنذكره، وقد ثبت المدعي بالبينة أو بإقرار الخصم-[نقض حكمه؛ كما ينقض] حكم نفسه إذا ظهر له ذلك، وقد روي أن علي بن أبي طالب نقض حكم شريح لما حكم في ميراث امرأة ماتت وخلفت زوجاً وابني عم أحدهما أخ لأم: بأن للزوج النصف، والباقي للأخ من الأم؛ تشبيهاً بالأخ من الأب [والأم مع الأخ من الأب]، وقال له: في أي كتاب وجدت هذا؟! وحكم علي- كرم الله وجهه-[بأن] للأخ من الأم السدس، وقسَّم الثلث الباقي بينهما نصفين؛
لاعتقاده أن ما قضى به شريح مخالف لنص الكتاب العزيز؛ فإن الله- تعالى- يقول: {وَإِنْ كَانَ رَجُلٌ يُورَثُ كَلالَةً} الآية، وسنذكر في أواخر الباب التالي لهاذ بقية أدلة جواز النقض.
قال: وإن كان [في أمر] يسوغ فيه الاجتهاد كثمن الكلب وضمان خمر الذمي، فإن وافق رأيه لم ينقضه؛ لأن له الحكم به، بل يجب عليه، فكيف ينقضه؟!
قال: وإن خالفه؛ ففيه قولان:
أحدهما: ينقضه، قال ابن الخل: لأنه حكم يتعلق باجتهاده؛ فإذا خالفه لم يعتد به.
والثاني: لا ينقضه؛ [لأن نقضه] يمنع استقرار حق لأحد؛ لأنه يتسلط كل من ولي القضاء على نقض أحكام من قبله، وهذا ما اختاره النواوي.
واعلم أن بعض الشارحين لهذا الكتاب ومن يتبع ألفاظ الشيخ للاعتراض عليها، اعترض على الشيخ- رحمه الله فالمتأدب منهم، قال: القول بعدم النقض في هذه الصورة لم يذكر في مشاهير الكتب سواه، وغير المتأدب قال: قول النقض في هذه الصورة [على] خلاف الإجماع؛ لأن ما يسوغ فيه الاجتهاد إذا اتصل به حكم حاكم نفذ، ولا يجوز لأحد بعده نقضه، وعلى هذا مضت العصور، ولو فتح هذا الباب لوقع الناس في حرج عظيم في نقض الأحكام، واسترجاع ما مضى من الأمور بمجرد الوهم والخيال. وأطنب في القول [في ذلك]، ثم قالوا: نعم، حكى المحاملي في "المقنع" قولين فيما إذا خالف رأيه على غير هذا الوجه، وهما متجهان كما قاله بعضهم:
أحدهما: يمضيه.
والثاني: لا يمضيه، بل يمتنع عن الحكم في تلك الواقعة؛ ليرفع إلى غيره، كما يمتنع من القضاء لنفسه ولولده على خصمه.
قلت: وما ادعي من أن نقض الحكم الذي يسوغ فيه الاجتهاد خلاف
الإجماع، لم أر في كلام الأصحاب ما يخالفه، وقد وافق عليه ابن الصباغ حيث قال: وقد أجمعت الصحابة على ذلك؛ فإن أبا بكر- رضي الله عنه حكم في مسائل باجتهاده، وخالفه عمر- رضي الله عنه[فيها] ولم ينقض حكمه. وأما حكاية القولين في أنه إذا خالف [رأيه] هل يمضيه أو يتوقف؟ فهما صحيحان، وقد أوردهما أيضاً البندنيجي وابن الصباغ والماوردي وصاحب "الكافي" وغيرهم عند الكلام في النظر في أمر المحبسين، وتبعهم في ذلك، والرافعي حكاهما وجهين عن رواية أبي الفرج السرخسي، وأن أصحهما: أنه ينفذه، وهو الذي عليه العمل، [وأن] ابن كج حكى مقابله عن نص؛ لأن التنفيذ إعانة على ما هو خطأ عنده.
ومع هذا كله فعمَّا [أورد على] الشيخ- رحمه الله[أجوبة، ذكر منها الأولين صاحب "التهذيب":
أحدهما: حمل كلام الشيخ] على ما حكاه المحاملي وغيره؛ لأن نقض الشيء يكون حقيقة إذا نقض بجملته، وإذا نقض [بعضه] لم يمتنع إطلاق اسم النقض [عليه] بطريق المجاز، دليله: الحائط إذا نقض بعضه يصح أن يقال: نقض الحائط، وإذا كان كذلك فعدم إمضائه نقض لبعض الحكم؛ فصح هذا الإطلاق عليه.
الثاني: حمل ما قاله الشيخ على بعض الصور التي يسوغ فيها الاجتهاد، لا [على] كلها، وهي:
[ما] إذا حكم حاكم بشفعة الجوار، ثم رفع [الأمر] إلى حاكم شافعي-
فللشافعي في نقضه قولان؛ بناءً على أن شفعة الجوار هل تثبت عنده أم لا؟ والجديد: النقض؛ لأن الجديد عدم ثبوتها، والقديم: المنع؛ لأن في القديم أنها تثبت، حكاه الغزالي وغيره.
وإذا حكم حاكم بانقطاع زوجية [امرأة] المفقود، ثم جاء حاكم آخر وخالف رأيه رأي الأول- ففي نقضه قولان:
أحدهما: نعم؛ بناءً على الجديد.
والثاني: لا؛ بناءً على القديم.
لكن للمنازع أن يمنع هذا الجواب؛ لأن من نقض الحكم في الصورتين مستنده أن ذلك يخالف النص والقياس الجلي؛ فلم يتواردا على محل واحد، ثم- أيضاً- المراد: أن يجري القولان عند مخالفة رأيه، وعلى هذا التقدير لم يجريا مع المخالفة، بل من اعتقد الجواز لم ينقض، ومن منع الجواز نقض.
الثالث- وهو ما خطر لي-: أن هذا السؤال إنما جاء من إعادة الضمير في [قول الشيخ]: "وافق رأيه أو خالفه"، إلى القاضي الذي ترافعا إليه؛ لأن محل دعوى ابن الصباغ وغيره الإجماع عند المخالفة على عدم النقض، وأنا أقول: عوده إلى القاضي المعزول [ممكن، ويكون تقدير الكلام: نظر في الحكم، فإن وافق رأيه، [أي:] رأي الحاكم المعزول] بأن كان حنفيّاً، وحكم بضمان خمر الذمي وقيمة الكلب المعلم- لم ينقضه، أي: الحاكم [المولَّى]؛ للإجماع، كما ذكرنا من قبل، وقد حكينا عند الكلام في [أمر] المحبسين اتفاق الأصحاب عليه، وإن خالفه، أي: خالف رأي الحاكم المنصرف، بأن كان شافعيّاً وحكم بذلك- ففيه قولان:
أحدهما: ينقضه، وهو ما حكيناه عن الأصحاب من قبل؛ لأنه حكم بخلاف
مذهبه؛ فهو باطل.
والثاني: لا ينقضه؛ لأن إقدامه على الحكم دليل على أنه نظر في دليله فرآه صواباً، وهو لو صرح بذلك لم ينقضه، وكذلك عند الإطلاق؛ لأن تصرف الحاكم محمول على الصحة ظاهراً؛ ألا ترى أنه إذا ولى شخصاً أمراً حكميّاً تتضمن تلك الولاية [استجماع] جميع الشرائط المعتبرة فيها، وإن لم يصرح بهذا. وهذا القول لم أره منقولاً هكذا، ولكنه الذي تقتضيه قواعدنا وتظهر صحته.
ويمكن أن يكون أصل القولين: أن المجتهد في مذهب إمام إذا قلد القضاء ورأى [غير مذهبه] صواباً في واقعةٍ، هل له الحكم به أم لا؟ وفيه خلاف ذكرته عند الاستخلاف:
فإن قلنا: إنه لا يجوز، نقضه؛ لأنه حكم بما لا يجوز؛ كما نقول بنقض قضاء القاضي بعلمه إذا قلنا: إن القضاء بالعلم لا يجوز.
وإن قلنا: يجوز، لم ينقضه، و [يعضد هذا] أن الغزالي في "المستصفى" قال: إذا حكم مقلد بخلاف مذهب إمامه، هل ينقض؟ إن قضينا بأن المقلد لا يجوز له أن [يتبع أي مفت شاء]، بل عليه إتباع إمامه الذي هو أحق بالصواب في ظنه- فينبغي أن ينقض حكمه، وإن جوزنا ذلك فإذا وافق مذهب [ذي مذهب]، وقع الحكم في محل الاجتهاد؛ [فلا ينقض]، والله أعلم.
أما إذا لم يتظلم في حكم من قبله، فهل له أن ينظر في أحكامه؟ فيه وجهان في "الحاوي":
أحدهما- وهو قول الشيخ أبي حامد-: أنه يجوز وإن لم يجب عليه ذلك إلا بعد الرفع؛ لما فيه من [فضل] الاحتياط.
والثاني- وهو قول جمهور البصريين-: أنه لا يجوز له [أن] يتتبعها من
غير متظلم؛ لأنه تتبع [يقتضي] قدحاً في الولاية، فيتوجه عليه مثله.
ثم إذا تتبع أحكام من قبله فإن كان فيها ما يتعلق به حق الله- تعالى- مثل: الطلاق والعتاق وغيرهما، قال القاضي أبو الطيب: فسخه إن وجده مخالفاً لما لا يجوز مخالفته، وإن لم يتعلق به حق الله- تعالى- لم يفسخه، ولم يتعرض له؛ لأن له مستحقّاً معيناً. نعم، [هل] على القاضي تعريف الخصمين صورة الحال؛ ليترافعا إليه فينقض الحكم؟ حكى القاضي ابن كج [عن ابن سريج]: أنه لا يجب إذا عرفا أنه بان الخطأ، وعن سائر الأصحاب أنه يجب وإن علما أنه بان الخطأ؛ لأنهما [قد] يتوهمان أنه لا ينقض الحكم، وبتعريفهما يرتفع التوهم.
فرع- نختم به الباب، حكاه الإمام قبيل باب الامتناع من اليمين-: إذا نكح رجل امرأة، ثم استفتيا [مفتيا، فأفتى بفساد النكاح، والمسألة مجتهد فيها- فهل تبين المرأة عن الرجل] بالفتوى؟ ذكر صاحب "التقريب" في تضاعيف كلامه وجهين فيه:
أحدهما: لا، وإن وقع الرضا بالفتوى، وإنما ينقطع النكاح بقضاء القاضي.
والثاني: نعم؛ فإن إتباع الفتوى حتم على المكلف.
وذكر وجهاً ثالثاً مفصلاً، [فقال]: إن صحح النكاح قاض فالفتوى لا ترفعه، وإن لم يتصل تصحيحه بقضاء قاض [فالفتوى ترفعه].
وقال الماوردي عند الكلام في أن الحكم إذا وقع ينفذ ظاهراً وباطناً أم لا؟ قال: إن المناكح المختلف فيها- كالنكاح بلا ولي ونحوه- للزوج فيها حالتان: إحداهما: في عقده، والأخرى في حله.
فأما حال العقد: فإن كانا من أهل الاجتهاد [جاز] لهما أن ينفردا بالعقد
باجتهادهما من غير [حكم] حاكم واستفتاء [مجتهد، وإن كانا من غير أهل الاجتهاد؛ ففي جواز انفرادهما بالعقد من غير اجتهاد حاكم واستفتاء] مجتهد وجهان:
أحدهما: يجوز ما لم يمنعهما ذو حكم؛ لما في الاجتهاد من إباحته.
والثاني: لا يجوز ما لم يأذن لهما [فيه] ذو حكم؛ لما في الاجتهاد من خطره.
وأما حال الرفع والحل: فإن اختلف الزوجان [فيه فلا يرتفع ولا ينحل] إلا بحكم حاكم، وإن اتفقا عليه من غير طلاق: فإن كانا من غير أهل الاجتهاد فلا يرتفع [بأنفسهما، ونظر]: فإن كان زوَّجهما حاكم- لم يرتفع إلا بحكم حاكم؛ لتجاوزه على من يعقد النكاح من بعده، وإن كان الزوجان من أهل الاجتهاد؛ ففيما يرتفع به العقد وجهان:
أحدهما: يرتفع باجتهادهما؛ اعتباراً بعقده.
والثاني- وهو قول ابن سريج-: لا يرتفع إلا بحكم حاكم؛ لتجاوزهما إلى من يعقد النكاح من بعده.
فرع آخر: إذا تقدم للقاضي خصمان، وقالا: إن بيننا خصومة في كذا، وقد فصلها القاضي فلان بيننا وحكم بكذا، ولكنا نريد أن نستأنف الحكم بيننا باجتهادك، ونرضى بحكمك واجتهادك [فيه]- فعن ابن كج فيه حكاية وجهين، أشبههما في "الرافعي": الثاني. والله أعلم.