الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
باب القسمة
القسمة- بكسر القاف-: الاسم من قولك: قسم المال، يقسمه قسماً- بالفتح وقاسمه، [و] تقاسما واقتسموا وتقاسموا.
وهي في اصطلاح العراقيين نوعان:
قسمة رد.
وقسمة لا رد فيها.
وفي اصطلاح المراوزة: ثلاثة أنواع:
قسمة رد.
وقسمة إفراز.
وقسمة تعديل.
قال: تجوز قسمة الأملاك؛ لقوله تعالى: {وَإِذَا حَضَرَ الْقِسْمَةَ} الآية [النساء: 8]، وقوله تعالى:{وَنَبِّئْهُمْ أَنَّ الْمَاءَ قِسْمَةٌ بَيْنَهُمْ كُلُّ شِرْبٍ مُحْتَضَرٌ} [القمر: 28] يريد: بين الناقة وبين قوم ثمود؛ فيكون لهم يوم، وللناقة يوم.
وقوله- عليه السلام: "الشُّفْعَةُ فِيمَا لَمْ يُقْسَمْ، وَإِذَا وَقَعَتِ الْحُدُودُ وَصُرِفَتِ الطُّرُقُ فَلا شُفْعَةَ".
وَقَدْ قَسَّمَ رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم غَنَائِمَ بَدْرٍ قَرِيْباً مِنْهَا بِشِعْبٍ مِنْ شِعَابِ الصَّفْرَاءِ، وَغَنَائِمَ خَيْبَرَ بَأَوْطَاسٍ، وَقِيْلَ: بِالْجِعْرَانَةِ.
وقد كان للخلفاء الراشدين قسام، وكان علي يعطي رزق قاسمه من بيت المال، ولم ينكره أحد؛ فكان إجماعاً.
وقد صرح البغوي وصاحب "البحر" وغيرهما بأن القسمة مجمع عليها، مقتصرين على ذلك؛ لأن بالناس إلى قسمة المشترك حاجة داعية إليها؛ ولأجل هذا قال الأصحاب- كما حكاه صاحب "التهذيب"، و"الكافي"، وغيرهما-: إنه لا يجوز للإمام أن يخلي نواحي الإسلام من قسام تحصل بهم الكفاية؛ كالحكام.
وفي "تعليق" أبي الطيب: أنه يستحب للحاكم أن يتخذ قاسماً، وهذا إذا كان رزقه من بيت المال، فلو لم يكن، فلا ينبغي أن يجعل له قاسماً معيناً، بل يدع الناس يستأجرون من يختارونه.
وهل هذا على وجه الوجوب أو الندب؟
الكلام فيه كما قدمناه في اتخاذ الكاتب؛ كذا صرح به الأصحاب.
قال: فإن كان فيها رد، أي: مثل: أن يترك شخص لولديه دارين، أو عبدين، قيمة أحدهما ستمائة درهم، و [قيمة] الآخر ألف؛ فيجعلان النفيس بينهما والخسيسس بينهما على أن من يحصل له النفيس يرد مائتين للآخر حتى يعتدل.
أو يكون بينهما أرض في أحد جانبيها بئر، أو بناء، أو شجر لا يمكن قسمته، فتنضبط قيمة ما اختص بذلك الجانب، وتقسم الأرض بذلك، على أن يرد من يأخذ الجانب الذي في البئر أو البناء أو الشجر بذلك القيمة.
قال: فهو بيع، أي: إذا اتفقا على أن من يأخذ الأكثر قيمة يدفع [المائتين] للآخر في المثال الأول؛ لأنه يأخذ عما يؤخذ من ماله عوضاً هو مال، وذلك حقيقة البيع.
وهذه القسمة تسمى: قسمة الرد، وإن كانت بيعاً ولا إجبار فيها على المشهور؛
إذ البيع لا يدخل الإجبار فيه بطلب أحد الشريكين.
وعن "أمالي" أبي الفرج: أن من أصحابنا من خرج في الإجبار قولاً مأخوذاً من خلاف سنذكره فيما لو كان بينهما عبدان، قيمة أحدهما ألف، وقيمة الآخر ستمائة، فأراد أحدهما أن يقسما، على أن يجعل الخسيس وخمس النفيس سهماً وأربعة أخماس النفيس سهماً وفيها طريقان.
قال الرافعي: لكن إطلاق القول بالتخريج بعيد؛ لأنه لا رد في تلك الصورة، ولا تصرف إلا في المشترك، بخلاف ما نحن فيه.
قال: فما لا يجوز في البيع، قال الجيلي: كما إذا كان بينهما أرض فيها بذر مبذور، لا يجوز في هذه القسمة، لكونه تبعاً.
وفيما قاله الجيلي من تصوير المسألة نظر يظهر لك مما ذكرته في البيع.
وما ثبت في البيع من غير شرط وهو خيار المجلس يثبت في هذه القسمة ما لم يتفرقا.
ولو شرطا في حال الرضا خيار الثلاث، كان لهما؛ [كما قال] الماوردي.
أما إذا لم يتفقا على من يأخذ الأكثر قيمة، لكن تراضيا بإخراج القرعة فسيأتي الكلام فيه.
قال: وإن لم يكن فيها رد، أي: سواء كانت قسمة تعديل، أو لا تعديل فيها: كالأرض المتساوية الأجزاء، أو قسمة ذوات الأمثال- ففيه قولان:
أحدهما: أنه تمييز للحقين، أي: يبين أن [ما] حصل لكل واحد منهما هو الذي ملكه، كالمال الثابت في الذمة يتعين بالقبض، وإن لم تكن العين المقبوضة ديناً، ولا نجعلها عوضاً عن الدين؛ إذ لو قدرنا ذلك لما صح قبض المسلم فيه من جهة امتناع الاعتياض عنه.
ولأنها لو كانت بيعاً لما دخلها الجبر، ولما تعين حق كل واحد منهما بالقرعة، ولثبتت فيها الشفعة للثالث من الشركاء إذا تقاسم شريكاه حصتهما، وتركا حصة شائعة معهما برضاه؛ إذ يظهر جواز هذه القسمة كما سنذكره.
وهذا ما اختاره في "المرشد"، وقال الجيلي: إنه المختار في "حلية" الروياني، وأشار إليه في "المحرر"، وقال ابن أبي الدم: إنه الأصح عند العراقيين.
وعلى هذا قال: فما أمكن فيه القسمة، جازت قسمته، أي: وإن لم يجز بيعه؛ إذ لا مانع منها.
ويجوز أن يتفرقا في قسمة الربويات من غير قبض.
ويقسم بالكيل، والوزن؛ على حسب اختيارهما، وهل يجوز أن يقسم بالخرص [في نخلة وشجرة؟ فيه قولان في "الحاوي" قال: وأصح هذين القولين: أنه يمنع بالخرص] في قسمة الإجبار [لأن المقصود بها التحقيق المعلوم في الخرص، ويجاز بالخرص في قسمة الاختيار]؛ لأنها محمولة على التراضي.
وحكى ابن الصباغ القولين في باب زكاة الثمار في جواز قسمة ثمر النخل خاصة.
وفي "المهذب" و"الرافعي": أن ثمرة الكرم والنخل تجوز قسمتها خرصاً. كما يجوز خرصها للفقراء، وأن ثمرة غيرهما لا تقسم خرصاً؛ لأن الخرص لا يدخلها؛ وهذا يكون وجهاً ثالثاً.
قال: وما لم يمكن فيه القسمة: كالأرض مع البذور، والأرض مع السنابل – لا تجوز قسمته، [أي]: إذا أريدت قسمة المجموع، للجهالة بالمقصود، وكذا لو أريدت قسمة البذر وحده، والسنابل وحدها، لم يجز أيضاً؛ للجهالة.
نعم، لو طلب أحدهما قسمة الأرض دون البذر، والسنابل، أجبر الآخر.
ولو كان البذر قد طلع، ولم يسنبل، بل هو يعد حشيشاً، جازت قسمة المجموع؛
كما صرح به أبو الطيب؛ وكذا قسمة الحشيش وحده على هذا القول الذي عليه نفرع، لكن هل يجبر الممتنع إذا أريدت قسمة الأرض والحشيش؟ قال في "البحر": قال بعض أصحابنا: لا يجبر؛ لأن الإجبار على ما يبقى ويدخر.
والصحيح: أنه يجبر، والله أعلم.
والقول الثاني: أنه بيع، أي: لنصيب أحدهما في الجانب الأيمن بنصيب الآخر في الجانب الأيسر؛ لأن كل جزء مشترك [بينهما]، فإذا [أخذ] أحدهما أحد الجزأين، فقد ابتاع حق صاحبه منه بحقه من الجزء الآخر؛ وهذا أصح عند صاحب "التهذيب"، و"الكافي"، وآخرين، ومنهم- كما قال ابن أبي الدم-: الإمام والشيخ أبو علي.
وقال الماوردي في باب الربا: إنه المشهور.
ونقل ابن الصباغ في باب زكاة الثمار عن المزني: أنه قال: القسمة بيع عنده.
والقائلون به أجابوا عن الإجبار، وعن دخول القرعة: بأن ذلك جوز للحاجة؛ ألا ترى أن للحاكم بيع مال المديون جبراً؛ لأجل الحاجة، ولا يخرجه ذلك عن أن يكون بيعاً؟
[وعلى هذا] قال: فما جاز بيع بعضه ببعض، جازت قسمته: كالأراضي، والحبوب، والأدهان، وغيرها، ويعتبر [في] الربويات منها التقابض قبل التفرق، وأن تقع القسمة بمعيار الشرع.
[وقد ذكرت] في آخر باب الربا: أنه لا يثبت فيها خيار الشرط، وكذا خيار المجلس مع فوائد أخر؛ فلتطلب منه.
قال: وما لا يجوز بيع بعضه ببعض: كالعسل الذي عقد أجزاؤه [على النار]، وخل التمر- لا تجوز قسمته؛ حذراً من الربا، وكذا لا تجوز قسمة الثمار الرطبة.
قال القاضي أبو الطيب: وكذا الزرع الأخضر الذي في الأرض لا يقسم منفرداً عنها؛ على هذا القول؛ لأن بيعه لا يجوز إلا بشرط القطع، والقسمة لا تكون بشرط القطع، بل لا تكون إلا مطلقة، والبيع مطلقاً لا يجوز.
أما نصيب من حصل له الجانب الأيمن من الجانب [الأيمن]، وكذا نصيب من حصل له الجانب الأيسر من الجانب الأيسر- فالقسمة فيه إفراز؛ على هذا القول أيضاً؛ كما نبه عليه الرافعي.
والقاضي حسين قال في "التعليق" بعد حكاية القولين: والأصح أن يقال: القسمة تمييز، وإفراز [على هذا] بتعويض؛ لأنه ما من جزء إلا وهو مشترك بينهما، فإذا اقتسما، فما وقع في نصيب أحدهما بعضه يكون عوضاً عما له في نصيب صاحبه، وبعضه يعين ما كان له عند الشيوع.
وهذا الذي ذكره الشيخ من كون قسمة الرد بيعاً، وفيما عداها القولان- هو المنقول من طريقة العراقيين؛ لأن القسمة عندهم- كما ذكرنا- نوعان لا غير.
وقد يفهم من كلام البندنيجي حكاية القولين في أن القسمة بيع أو تمييز للحقين في قسمة الرد أيضاً؛ فإنه قال: اختلف قول الشافعي في القسمة على قولين، ثم قال: والقسمة ضربان: قسمة لا رد فيها، وقسمة فيها رد:
فالتي لا رد فيها هي قسمة الإجبار، وصورتها: ما أمكن تعديل السهام بالأجزاء، أو بالقيمة من غير رد.
وأما التي فيها رد، فهي قسمة التراضي، وصورتها: ما لا يمكن تعديل الأنصباء فيها بالأجزاء، ولا بالقيمة؛ حتى يرد أحدهما على صاحبه بدل الفاضل مما يحصل في يده.
وسنذكر من كلام الشيخ في هذا الباب ما يقوي هذا الإفهام.
وأما المراوزة فلما جعلوا القسمة ثلاثة أنواع، قالوا: قسمة الرد بيع؛ كما قاله العراقيون، وما لا رد فيها إن لم يحتج فيها إلى تقويم: كقسمة ذوات الأمثال، والبراح
من الأرض المتساوي القيمة- ففيه القولان.
والأصح منهما عند الغزالي [في "الوجيز"] في كتاب الرهن، وتبعه النواوي- الأول.
وقال الرافعي: إنه الذي يوافقه جواب الأصحاب في مسائل متفرقة [تتفرع] على القولين.
وذكر في "العدة": أن الفتوى عليه.
واختلفوا في محل القولين- كما حكاه البغوي، وتبعه في "الكافي"- على طريقين:
أحدهما: أن محلهما إذا جرت القسمة بالإجبار، أما إذا جرت بالاختيار، كانت بيعاً وجهاً واحداً.
والثاني: أنهما جاريان في الحالين، وهي التي صححاها، وقد حكاهما الرافعي عن رواية المحاملي أيضاً.
وفي "تعليق" القاضي الحسين: أن الظاره الطريق الأول، ولم يحك سواه.
وإن احتاج القاسم في القسمة إلى تقويم: كالعبدين، والدارين، ونحو ذلك- ففي كونها بيعاً أو إفرازاً طريقان- على قولنا: يجري الإجبار فيها؛ كما هو الأصح عند الإمام، وعند الشيخ أبي حامد-:
إحداهما: القطع بأنها بيع: لانفصال العين عن العين، وتمييز المشترك عن المشترك؛ وهذا أصح عند الغزالي.
والثانية: إجراء القولين فيها أيضاً؛ اعتماداً على الإجبار على القسمة، وهي قضية إيراد صاحب "التهذيب"، وأبي الحسن العبادي.
أما إذا قلنا: لابد فيها من التراضي، قال الإمام: فالمذهب الذي يجب القطع به: أنها بيع.
وأبعد بعض أصحابنا فأجرى القولين في ذلك، وقد يجريهما ويقول في
أحدهما: إفراز مشروط بالتراضي؛ كما يقول في القسمة الجبرية: بيع جاز جبراً من غير تراض.
وقال الرافعي: يشبه أن يكون الطريقان في الصورة الأولى مبنيين على أن هذه القسمة هل يجبر عليها؟ إن قلنا: نعم، ففيها القولان، وإن قلنا: لا، فهي بيع لا محالة.
وهذا منه دليل على أنه لم يقف على تصوير الإمام محل إجرائهما بقولنا بالإجبار عليها.
وقد اعترض الإمام على الأصحاب في إطلاقهم القول بأن القسمة التي فيها رد- بيع، وقال: الوجه الذي نراه – بناء هذا على الإجبار على القسمة.
وقد قال الأصحاب: لا سبيل إلى الإجبار على بذل العوض أصلاً.
وهل يجري الإجبار على القدر الذي لا حاجة فيه إلى الرد، بأن يجعل العبد المساوي ستمائة سهماً، ويجعل ستمائة من العبد المساوي ألفاً سهماً، ويبقى الشيوع في مقدار أربعمائة؟ فيه خلاف، فإذا تحرر ذلك، قلنا: القدر الذي يقابل العوض لا شك أنه مبيع، وما يجري فيه- بيع، ومن سمى هذا القدر. قسمة، فهو متجوز أو غافل. وما لا يقابله العوض، فإن قلنا: يجري الإجبار فيه؛ ففي ذلك القدر قولَا الإفراز والبيع مذهباً واحداً. وإن قلنا: لا يجري الإجبار فيما وراء ذلك، ففي القسمة المفتقرة إلى التراضي طريقان، سبقا؛ فليجريا هاهنا.
وقد بطل إطلاق القول بالقطع بأن القسمة المشتملة على الرد بيع، وبأن هذا التفصيل لا بد منه، ولم نذكره إلا بعد أن رأينا في كلام الأئمة ما يدل عليه.
ولما رأى الغزالي ما فيه اقتصر على إيراده في "الوسيط".
قلت: وفيما قاله الإمام من التخريج نظر؛ من حيث إن هذه القسمة اعتمدت التقويم والتعديل، فإنا نجعل أربعة أخماس النفيس في مقابلة جملة الخسيس [وذلك تقويم وتعديل، وقد حكينا عنه من قبل]، فيما إذا احتاجت القسمة إلى تقويم، وقلنا بالإجبار- رواية طريقين:
أحدهما: القطع بأنها بيع، وهي التي صححها الغزالي.
والثاني: إجراء القولين.
وإن قلنا بعدم الإجبار، فالمذهب أنها بيع.
وقضية ذلك: أن ينعكس ما أبداه من التخريج، ويقال: إن قلنا بعدم الإجبار فالوجه القطع بأنها بيع؛ بناء على المذهب. وإن قلنا بالإجبار ففيها الطريقان، والله أعلم.
واعلم أن للقولين في أن القسمة بيع أو إفراز، فوائد أخر:
منها: إذا وقف على قوم بعض دار، فأرادوا قسمتها، فإن كان باقيها طلقاً، قال المراوزة: إن قلنا: إنها بيع، لم تجز، وإلا جازت.
قال الرافعي- حكاية عن الروياني-: وهو الاختيار.
وقال في "الحاوي" هاهنا: إن قلنا: إنها إفراز، جازت هاهنا جبراً، وإن قلنا: إنها بيع؛ ففي جواز القسمة قولان:
أحدهما: لا تجوز جبراً ولا اختياراً؛ تغليباً للوقف.
والثاني: تجوز جبراً واختياراً؛ تغليباً للملك.
وقال في "المهذب"- وتبعه في "المرشد"-: إن قلنا: إن القسمة بيع، لم تصح، وإن قلنا: إنها تمييز للحقين، نظرت: فإن لم يكن فيها رد صحت، وإن كان فيها رد: فإن كان من أهل الوقف جاز؛ لأنهم يبتاعون الطلق، وإن كان من أهل الطلق، لم يجز؛ لأنهم يبتاعون بجواز الوقف.
وفي هذا نظر من جهة أنه يقتضي أن القولين في أن القسمة تمييز للحقين أو بيع، جاريان في قسمة الرد أيضاً؛ كما قلنا: إن كلام البندنيجي يفهمه، وأن قسمة الرد تكون بيعاً في شيء دون شيء، وقد قدمنا عن العراقيين وغيرهم أن القسمة التي فيها الرد بيع. نعم، هو موافق لما قاله الإمام تفقهاً واستنباطاً من كلام الأصحاب.
[و] إن كان باقي الدار وقفاً- أيضاً- فإن كان على جهة أخرى، فقد قال الماوردي في كتاب الوقف: إن قلنا: إن القسمة بيع، لم تجز، وإلا جازت إذا لم يكن ثم رد، وتلزم القسمة في الحال، وفيما بعد. وإن كان على تلك الجهة بعينها، قال في "الوسيط": لم تجز قسمتها، وإن قلنا: إن القسمة إفراز؛ لأنه كالتغيير لشرط الواقف؛ وبهذا جزم القاضي الحسين والبغوي.
والماوردي هاهنا قال: وفيه وجه: أنه يجوز؛ لأنه قد يشرف على الانهدام؛ فيحتاج إلى القسمة؛ وهذا قول الشيخ أبي محمد.
[و] قال الإمام في كتاب الرهن: إن ما يمتنع البيع فيه، ففي إجراء القسمة فيه قولان مبنيان على أن القسمة إفراز أو بيع. وقد يطرأ على قول البيع في بعض الصور قول في جواز القسمة؛ وذلك لمكان الضرورة؛ كما سنذكره في قسمة
الوقف؛ فإنه على التأبيد، والشركة القائمة قد تجر عسراً عظيماً. فإذا لم تعرض ضرورة ظاهرة، انطبق جواز القسمة ومنعها على القولين في أن القسمة بيع أو ليست بيعاً.
وهذا منه [يفهم أن] الخلاف في جواز قسمة الوقف بعضه من بعض، يأتي وإن قلنا: إن القسمة بيع، ويقوي هذا أنه ألحقه في باب القسمة بالخلاف في [أن] قسمة الرطب في الزكاة إذا احتاج واقتضى القطاف قبل الأوان، وإن منعنا قسمة الرطب؛ للضرورة، وإذا كان كذلك اتجه أن يجري الخلاف المذكور في قسمة الوقف بالطلق؛ تفريعاً على قولنا: إن القسمة بيع.
وقد حكى الماوردي الخلاف الذي ذكره الغزالي في كتاب الوقف، لكنه قيده بحالة قولنا: إن القسمة إفراز، وقال: إن وجه المنع مبني على القول بأن رقبة الوقف لا تملك، وإن وجه الجواز مبني على القول بأن رقبة الوقف تملك، وأنها على هذا تكون لازمة للمتقاسمين من أربابه غير لازمة لمن بعدهم من البطون.
ومنها: أن المتقاسمين لو تقايلا، هل ينفذ؟
قال صاحب "التهذيب" و"الكافي" وغيرهما: إن قلنا: إنها بيع، صحت، وعاد الملك شائعاً كما كان، وإلا فلا يصح.
وأطلق في "البحر" القول بأنهما إذا تقايلا عادت الإشاعة، حكاه في الفروع المذكورة قبيل كتاب الشهادات.
وقد اتفقوا على أن أحدهما لو وجد بما صار إليه عيباً: أن له فسخ القسمة؛ صرح به البغوي والماوردي وغيرهما.
ومنها: لو أرادوا قسمة المستأجر، فإن قلنا: إن بيع، خرجت على القولين. وإن قلنا: إنها إفراز، فإن لم يتضرر بها المستأجر، جازت، وإلا فلا؛ قاله في "البحر".
قال: لو قال: والله، لا بعت شيئاً يقاسم- فإن قلنا: إنها بيع، ففي حنثه وجهان في "البحر" واقتضى إيراده ترجيح عدم الحنث.
قال: ويجوز للشركاء أن يتقاسموا بأنفسهم، ويجوز أن ينصبوا من يقسم بينهم، أي: يجعلوه حكماً في القسمة، ويجوز أن يترافعوا إلى الحاكم؛ لينصب من يقسم بينهم؛ لأن المقصود يحصل [بكل ذلك].
وفي "تعليق" القاضي أبي الطيب حكاية قول: أنه لا يجوز أن يحكموا رجلاً في القسمة، فيجعلوه حكماً في القسمة.
قال: فإن ترافعوا إليه- أي: إلى الحاكم – في قسمة ملك من غير بينة، أي: وهو في أيديهم، [بلا] منازعة بينهم فيه، ولا بينهم وبين غيرهم في ملكه- ففيه قولان:
أحدهما: لا يقسم عليهم؛ لأنه قد يكون الملك لغيرهم، فإذا قسمه بينهم كان متصرفاً في ملك الغير قبل ثبوت موجبه.
وأيضاً: فربما يتعلقون بالقسمة، ويعدونها حجة في ثبوت الملك، وهم مبطلون مطلوبون، ولا حاجة إلى هذا.
وهذا هو الصحيح عند الشيخ أبي حامد وطبقته؛ كما قاله الرافعي، وقد وافقه النواوي، والمنصوص عليه للشافعي باتفاق الأصحاب، وقد حكاه ابن أبي الدم وجهاً.
والثاني: يقسم بينهم؛ [لأن الحجة على الملك كالبينة، ولو أقاموا بينة بالملك لقسم] فكذلك هاهنا.
قال: إلا أنه يكتب: أنه قسم بينهم بدعواهم؛ لينتفي الاحتمال الذي ذكرناه.
قال الإمام: واحتمال كون الملك للغير؛ فيكون متصرفاً فيه قبل ثبوت موجبه- مندفع بجواز دخول القاضي تلك الدار لعبادة ونحوها، وما زال الأتقياء الأبرار يعتادون مثل ذلك، ويبنون الأمر على ظاهر اليد، وإن لم تقم عندهم حجج في الأملاك، ولا نعرف خلافاً في أن من باع داراً في يده، وأشهد على البيع القاضي- أثبت القاضي إقراره، ولم يطالبه بتثبيت الملك قبل البيع.
وهذا القول صححه البندنيجي والإمام، وتبعه الغزالي وابن أبي الدم، [و] إليه ميل [القاضي] أبي الطيب وابن الصباغ.
وعلى هذا [القول] قال الماوردي والروياني: يستظهر القاضي أمرين:
أحدهما: أن ينادي: هل من منازع؟
والثاني: يحلفهم: [إنه] لا حق فيه لغيرهم، لكن هذه اليمين واجبة أو مستحبة؟ فيه وجهان.
وعلى الأول لا تجوز له القسمة قبل التحليف.
وقد حكى الرافعي أن في كتاب أبي الفرج السرخسي وجهاً: أنه لا يحتاج القاضي إلى أن يكتب أنه قسم بينهم بدعواهم، وهذه الطريقة التي حكاها الشيخ لم يورد القاضي الحسين غيرها، وحكاها الماوردي عن الأكثرين، وقال الرافعي: إنها أظهر الطريقين.
والثانية حكاها القاضي أبو الطيب [وابن الصباغ والماوردي، وغيرهم يقطع بالقول الأول، وبهذا قال أبو الطيب] بن سلمة، وأن القول الثاني حكاية لمذهب الغير؛ فإنه قال في "المختصر" بعد حكاية القول الأول: وقد قيل: يقسم، ويشهد أنه قسمها على إقرارهم، ولا يعجبني ذلك. قال في "البحر": وهذه الطريقة أصح.
وقد فهم مما ذكرناه أنهم لو أقاموا بينة بالملك لقسم بينهم قولاً واحداً، وهو المنصوص.
واعترض ابن سريج فقال: إنما تقام البينة وتسمع على خصم، ولا خصم هاهنا.
وأجاب ابن أبي هريرة بأن القسمة تتضمن الحكم لهم بالملك، وقد يكون لهم خصم غائب؛ فتسمع البينة ليحكم لهم عليه.
وفي هذا الجواب نظر.
ويكفي في البينة شاهد وامرأتان، قال ابن كج: ولا يكفي شاهد ويمين؛ لأن اليمين إنما تشرع حيث يكون هناك خصم ترد عليه إن فرض نكول.
وعن ابن أبي هريرة أنه يكفي.
قلت: وهو موافق لجوابه السابق.
والإمام أعرض عن ذلك، وقال: إن ثبت عند القاضي ملكهم بطريق من الطرق أجابهم.
ثم ليعلم أن الخلاف في جواز إقدام القاضي على القسمة في مسألة الكتاب إذا جاءوا إليه راضين بها، أما وجوبها عليه فلا خلاف في عدمه؛ كما قاله القاضي الحسين، والفوراني، وصاحب "البحر".
وعكس الإمام فقال: وليس ينقدح عند الامتناع من القسمة وجه. نعم، يجوز القطع بجواز القسمة، وأما وجوبها ولم يثبت بعد عند القاضي الملك، فهذا فيه تردد من جهة أن الوجوب يجوز أن يستدعي موجباً، فأما الجواز فيكتفي فيه بظاهر الحال.
وحكى في [حالة] مجيء واحد منهم طالباً وامتناع الباقين، طريقين:
إحداهما: يجيب في هذه الحالة؛ ليقطع الخصومة.
والثانية: طرد القولين.
أما إذا كان ثم منازع في الملك، ففي "الحاوي": أنه لا يجوز للحاكم إذا حكم لهم به بأيديهم أن يقسمه بينهم مع ظهور المنازع إلا ببينة تشهد به لهم، وهذا مما لا يختلف فيه قوله؛ لأن قسمة الحاكم إثبات لملكهم، واليد توجب إثبات التصرف، ولا توجب إثبات الملك.
وكذا قال فيما لو تنازعوا هم في ذلك، فادعى كل واحد ملك الجميع؛ فإن الحاكم يجعله في أيديهم، ولا يجوز أن يقسمه بينهم إن سألوه؛ لأن في تنازعهم إقراراً بسقوط القسمة. نعم، لو تقاسموا بأنفسهم لم يمنعهم، وادعى في "البحر" أنه لا خلاف فيه.
تنبيه: قول الشيخ: "في ملك"، يشمل ما إذا كان التنازع في عقار أو غيره من
المنقولات، ولا شك في جريان ما قلناه في العقار، وأما المنقولات فقد حكى ابن كج فيها طريقين:
أظهرهما في "الرافعي"- وبه جزم البندنيجي، والبغوي، وغيرهما-: أنه كالعقار.
[والثاني: القطع بأنه يقسم وإن لم تكن بينة؛ لأن العقار] يتأبد ضرره، فيكون أجدر بالاحتياط؛ ولذلك خص بإثبات الشفعة.
قال: فإن كان في القسمة رد، اعتبر التراضي في ابتداء القرعة؛ لأنه لا إجبار فيها- كما تقدم- وما لا إجبار فيه يعتبر فيه التراضي؛ كالبيع.
قال: وبعد الفراغ منها على المذهب؛ لأن القسمة المشتملة على الرد بيع، والبيع لا يحصل بالقرعة؛ فافتقر إلى الرضا عند خروجها، ويتعين المبيع. وإلى هذا أشار الشافعي بقوله في "المختصر":"وإن كان في القسمة رد، لم يجز حتى يعلم كل واحد منهم موضع سهمه، وما يلزمه ويسقط عنه، فإذا علم كما يعلم البيوع التي تجوز أخذ به لا بالقرعة".
تنبيه: [وقيل:] لا يعتبر التراضي بعد خروج القرعة، أي: فيلزم من خرج له الأكثر بذل ما يقابل الزائد؛ قياساً على قسمة الإجبار؛ فإن القرعة فيها ملزمة. وهذا قول الإصطخري، وضعفه الأصحاب، وفرقوا بأن هذه القسمة يعتبر التراضي في ابتدائها، بخلاف قسمة الإجبار.
تنبيه: ظاهر قول الشيخ يقتضي أموراً:
أحدها: إجراء القرعة في قسمة الاختيار، وهو الذي جزم به البندنيجي وغيره.
وفي "الحاوي": أنهم لو تراضوا بإخراج القرعة ففي جواز الإقراع وجهان:
أحدهما: لا يجوز؛ لأنه بيع، وليس في البيع قرعة.
والثاني: يجوز؛ تغليباً لحكم القسمة، واعتباراً بالمراضاة.
الثاني: حيث يجوز الإقراع فلا فرق في اعتبار التراضي بين أن يكون المخرج
لها قاسماً من جهة الحاكم أو غيره.
وفي "الحاوي": أن المخرج لها إن كان قاسماً من جهة الحاكم فلا خيار لهم بعد القرعة، وإن كان من قبلهم ثبت لهم الخيار بعد القرعة، وهل هو خيار عيب، فيكون على الفور، أو خيار مجلس؛ فيكون على التراخي إلى أن يتفرقا؟ فيه وجهان.
الثالث: أنه يكفي فيه التراضي دون الإتيان بلفظ البيع أو التمليك، وهو ما ادعى الرافعي: أنه الظاهر، ولم يذكر الماوردي سواه؛ فإنه قال: وتتم القسمة بينهم بالمراضاة بعد التلفظ بالتراضي؛ لأن البيع لا يصح إلا باللفظ؛ فيكون تلفظهم بالتراضي جارياً مجرى البذل والقبول، والصيغة- كما قاله غيره- أن يقولا- إن كانا اثنين-: رضينا بهذه القسمة، أو: بما أخرجته القرعة، أو: بما جرى.
وفي "التهذيب"، و"الكافي": أنه لا بد من لفظ "البيع" أو "التمليك" في هذه القسمة، وطرداه في كل قسمة تفتقر إلى التراضي، والله أعلم.
قال: فإن لم يكن فيها رد، فإن تقاسموا بأنفسهم، لزم [ذلك] بإخراج القرعة؛ لحصول مقصودهما بفعلهما، وهذا لم أر له ذكراً هكذا في غير هذا الكتاب، بل المنقول في "تعليق" البندنيجي: أنه [لا يلزم إلا] بالتراضي حتى [بعد] خروج القرعة، قولاً واحداً.
وفي "النهاية" ما يقرب منه؛ فإنه قال: لا بد في هذه الصورة من الرضا بعد القسمة؛ إذ لا متوسط بينهما حتى تكون قسمة مستندة لرضاهما.
ثم قال: هذا هو الظاهر، وفيه احتمال؛ فإنه لو توسطهما قاسم، لكان التعويل على قسمته، لا على عينه.
وفي "تعليق" البندنيجي في موضع آخر من الباب: أن كل قسمة يشترط التراضي في ابتدائهما، فهل تفتقر إلى التراضي في انتهائها وهو بعد القرعة؟ فيه وجهان، سواء كان فيها رد أو لم يكن.
قال: وإن نصبوا من يقسم بينهم- أي: حَكَمًا – اعتبر التراضي بعد خروج القرعة على المنصوص؛ لأن هذه قسمة لا بد في ابتدائها من التراضي؛ فكذلك في الانتهاء كقسمة الرد؛ وهذا ما قطع به المراوزة كما قاله الإمام، وبه أجاب الشيخ أبو حامد كما قال الرافعي، وقال: إن إليه مال المعتبرون.
وعلى هذا: فهل يكفي أن يقول كل واحد بعد خروج القرعة: رضيت بهذه، وما في معناه، من غير اشتراط ذكر القسمة؛ إذ كان صدر القسمة قد صار عن تراض أم لا بد أن يقول: رضيت بهذه القسمة، [أو: قاسمتك، أو يذكر عبارة عن مقصود القسمة] من التمييز، والتفاضل، وما أشبههما؟ فيه وجهان حكاهما الإمام عن العراقيين، وأشار في "الوسيط" إلى أنهما مبنيان على قولنا: إن القسمة بيع.
وحكى الإمام عن العراقيين وجهاً آخر: أن الشركاء إذا استمروا على الرضا حتى خرجت القرعة، لزم حكمها لهم؛ كما لو أحدثوا التراضي بعد القرعة؛ وهذا ما عبر عنه الغزالي بقوله: إنه يكفي عند العراقيين السكوت بعد خروج القرعة. وبين العبارتين فرق بين.
ولم يحك الإمام خلافاً في عدم اشتراط الإتيان بلفظ "البيع" أو "التمليك" إذا أنشئوا الرضا بعد القرعة؛ وهذا ما عبر عنه الغزالي بقوله: إنه يكفي عند العراقيين السكوت بعد خروج القرعة. وبين العبارتين فرق بين.
ولم يحك الإمام خلافاً في عدم اشتراط الإتيان بلفظ "البيع" أو "التمليك" إذا أنشئوا الرضا بعد القرعة.
وقال في "الوسيط": إن العراقيين أجمعوا على ذلك وإن قلنا: إن القسمة بيع.
وفي "التهذيب" و"الكافي" حكاية وجهين في اشتراط ذلك؛ بناء على قولنا: [إن] القسمة بيع.
وإيراد البغوي يقتضي ترجيح الاشتراط.
[وقيل فيه] قول مخرج من التحكيم: أنه لا يعتبر التراضي؛ لأن القاسم مجتهد في تعديل السهام والإقراع؛ فلزم الرضا بعد قرعته؛ كالحاكم، وهذا مفرع على القول الصحيح الذي جزم به المعظم في جواز التحكيم في الإقراع.
أما إذا كانوا قد نصبوا من يقسم بينهم وكيلاً [عنهم]، فلا تلزم قسمته إلا بالتراضي بعد إخراج القرعة جزماً؛ صرح به القاضي أبو الطيب، وتبعه ابن الصباغ، وسنذكره ثانياً؛ لغرض فيه.
قال: وإن ترافعوا إلى الحاكم، فنصب من يقسم [بينهم]- أي: قسمة هو مجبر فيها- لزم ذلك بإخراج القرعة؛ لأن به يحصل مقصود الإجبار، ولأنه لما لم يعتبر التراضي في ابتدائها، لم يعتبر في انتهائها. ولأن قرعة القاسم من جهة الحاكم كحكم الحاكم الصادر عن الاجتهاد، ومن هذا الوجه ألحق الشافعي القاسم بالحاكم حيث قال:"القسام حكام"؛ كما قاله القاضي أبو الطيب، والحسين، وابن الصباغ.
والبندنيجي قال: إنه أراد تشبيهه بالحاكم من هذا الوجه وفي اشتراط العدالة، لا في جميع الصفات.
وفي "الحاوي" أنه إنما قال: "إنهم حكام"؛ لأمرين:
أحدهما: أنهم يوقعون القسمة جبراً؛ كما يجبر الحاكم في الأحكام. وهو راجع إلى ما قاله الأولون.
والثاني: أنهم يستوفون الحقوق لأربابها كاستيفاء الحاكم.
وفي "النهاية" أنا إذا قلنا: [إن] القسمة الجبرية بيع؛ فلا يبعد أن يجبر كل واحد على أن يقول: بعت مالي في نصيبك بمالك في نصيبي. ثم قال: وهذا لم يشترطه أحد من الأصحاب.
قال: ولا يجوز للحاكم أن ينصب للقسمة إلا حراً- أي: كامل الحرية- بالغاً،
عاقلاً، عدلاً- لأن هذه ولاية من جهته، ومن لم يتصف بذلك فليس بأهل للولايات- عالماً بالقسمة، [أي: لمعرفته بالحساب والمساحة؛ لأنهما آلة القسمة] كما أن الفقه آلة القضاء.
واعتبر الماوردي والبغوي في هذا الباب وراء ذلك: أن يكون قليل الطمع نزيه النفس؛ حتى لا يرتشي فيما يلي ويخون.
وقال الماوردي وغيره عند الكلام في صفة كاتب القاضي: إن الشافعي قال: والقاسم في صفة الكاتب، عالم بالحساب، لا يخدع. ثم قال: وهذا صحيح؛ لأن القاسم أمين الحاكم؛ فوجب أن يكون على صفات الكاتب في من العدالة، والأمانة، واستكمال الأوصاف الأربعة، أي: المذكورة ثم.
ونزيد عليها: أن يكون عارفاً بالحساب والمساحة، وأن يكون عارفاً بالقيم؛ فإن خفيت عليه القيمة؛ لاختلاف الأجناس المقومة، لم يكن ذلك تقصيراً في صنعته، ورجع الحاكم في التقويم إلى غيره.
والقاضي أبو الطيب والبندنيجي قالا: يستحب أن يكون عارفاً بذلك، جاز، ويسأل مقومين عدلين عن قيمة ما يقسمه إذا أراد أن يقسم. وتبعهما في ذلك ابن الصباغ.
وفي "تعليق" القاضي الحسين حكاية وجهين في احتياج القاسم إلى معرفة ذلك، حكاهما الرافعي عن رواية أبي الفرج الزاز.
وقد استغنى الشيخ وغيره عن التصريح باشتراط الذكورة وإن كانت معتبرة- كما صرح به الرافعي- بإطلاق ما ذكروه؛ [فإن المفهوم منه الذكورة]؛ على أن في بعض النسخ ذكرها.
أما الشركاء إذا أرادوا أن ينصبوا من يقسم بينهم:
فإن لم يجعلوه حكماً في ذلك، بل وكيلاً، جاز أن يكون عبداً، وفاسقاً؛ كما صرح به البندنيجي، والقاضي أبو الطيب، وابن الصباغ، وأفهمه كلام الماوردي.
ووجهه القاضي بأنه نائب عنهم في القسمة، ووكيل لهم فيها، ولو اقتسموا هم جاز ذلك على أي حال كانوا؛ فكذلك إذا وكلوا رجلاً عنهم في القسمة، جاز على أي حال كان، قال: غير أنه إذا قسم وأقرع بينهم، لم تلزم القسمة حتى يقع التراضي بها بين الشركاء بعد الإقراع، وعلى هذه الحالة يحمل كلام الشيخ في "المهذب".
وفي "الرافعي": أنه ينبغي أن يكون توكيل العبد في القسمة على الخلاف في توكيله في البيع والشراء.
وإن كانوا قد جعلوه حكماً يحكم بينهم في القسمة، فقد أطلق البندنيجي، والقاضي أبو الطيب، وصاحب "المرشد" القول باعتبار صفات القاسم المنصوب من جهة الحاكم فيه.
وقال ابن الصباغ بعد حكاية ذلك- أيضاً-: ينبغي إذا قلنا: لا تلزمهم- أي: قسمته- إلا بتراضيهم، ألا يشترط في الابتداء الحرية والعدالة.
[قلت]: وفيما قاله نظر: بل لا ينبغي جواز ذلك وإن قلنا: لابد من التراضي بعد القرعة؛ لأن القائل بهذا يجعل تمام التحكيم موقوفاً على هذا الرضا؛ كما قال بمثله في التحكيم في الأموال، وإذا كان [كذلك فالقسمة] الواقعة من المحكم إذا رضي بها الشركاء بعد الإقراع- قسمة من حاكم؛ فاعتبرت فيه صفات الحاكم؛ كما أنا نعتبرها في المحكم في الأموال وإن لم يلزم حكمه إلا بالرضا بعده، والله أعلم.
قال: وإن لم يكن في القسمة تقويم- أي: وقد أمر بها الحاكم جبراً- جاز قاسم واحد؛ لأن قسمته تلزم بنفس قوله كحكم الحاكم؛ فاكتفى فيها بالواحد؛ كالحكم؛ وهذا ما أورده القاضيان: أبو الطيب والحسين، والبندنيجي، والمعظم؛ كما قال الرافعي، وبه قطع قاطعون؛ تمسكاً بقول الشافعي:"القاسم حاكم".
وفي "الحاوي": أنه قال في موضع آخر: إذا لم يكن في القسمة تعديل ولا تقويم، أمر الحاكم الشركاء أن يجتمعوا على قاسمين. وظاهر هذا أنه لا يجزئ قاسم واحد؛ ولأجل ذلك قال [أكثر] الأصحاب: في المسألة قولان:
أحدهما: يجزئ قاسم واحد؛ كما يجوز كيال واحد، [ووزان واحد].
والثاني: لا يجوز أقل من قاسمين؛ كما لا يجزئ أقل من مقومين، وكما لا يجزئ في جزاء الصيد أقل من مجتهدين، ولا يمتنع إذا كان القاسم كالحاكم أن يجمع فيه بين اثنين؛ كما قال- تعالى-:{فَابْعَثُوا حَكَماً مِنْ أَهْلِهِ وَحَكَماً مِنْ أَهْلِهَا} [النساء: 35].
والغزالي حكى القولين، [وقال: إن] مأخذهما أن منصبه منصب الحاكم، أو منصب الشاهد؟
وحكى الماوردي عن بعضهم: أنه منع الخلاف في المسألة، ونزل النصين على حالين؛ فقال: إن كان في الشركاء طفل أو غائب لا يجيب عن نفسه لم يجزئ أقل من قاسمين، وإن كانوا حضوراً يجيبون عن أنفسهم، أجزأ قاسم واحد.
وفي "النهاية": أن صاحب "التقريب" قال: إن كان في الشركاء طفل، أو مجنون، فلا بد من قاسمين، وإن لم يكونا فعلى قولين. ثم قال: و [هذا] ليس فقهاً متيناً؛ فإن ما يدعى من العدد في البينات لا يختلف بأمثال [ما] ذكره.
وبهذه الطريقة يتحصل في المسألة أربعة طرق.
قال: ون كان [فيها] تقويم، لم يجز إلا قاسمان، لأن التقويم لا يثبت إلا باثنين؛ [وهذا ما] حكاه الماوردي، والبندنيجي، وصاحب "التهذيب"، و"الكافي"، و"البحر"، وقضيته: أن الحاكم لو فوض للقاسم سماع البينة بالتقويم، وأن يقسم وحده بعد ثبوت ذلك عنده- أنه [لا] يكتفي بذلك، وقد قال الإمام: إن ذلك سائغ، وعليه ينطبق ما حكيناه عن القاضي أبي الطيب وغيره عند الكلام في صفة القاسم.
[ثم قد ينقدح] على ما قاله الشيخ وغيره [سؤال وجواب] يتحرك بهما فوائد، فيقال: فلو فوض الحاكم إلى مقوم أن يحكم بالتقويم باجتهاده، لم يكف؛ كما رآه الإمام، ولم يحك سواه، وتبعه الغزالي في ذلك.
وإذا كان كذلك فينبغي إذا كان القاسمان هما المقومان- كما هي صورة الكتاب-
ألا يجوز أيضاً؛ بناء على هذا؛ لأن الذي امتازت به هذه الصورة عما ذكرناه- إن كان الحاكم قد فوض أمر التقويم إليهما- موافقة أحدهما للآخر في الاجتهاد، وذلك لا يوجب ثبوت القيمة التي يترتب عليها القسمة، وإنما قلنا: إنها لا توجب ثبوت القيمة؛ لأن كل واحد منهما في نفسه قد قلنا: إنه لا يجوز أن يعتمد في حكمه بالقيمة على اجتهاده خاصة، وصاحبه إن شهد عنده بشرط الشهادة فلا تثبت القيمة به وحده؛ فإنه لا خلاف على المذهب: أنها لا تثبت بأقل من اثنين؛ فلم يوجد ما يقتضي الثبوت.
ولا يقال- أيضاً-: بتخريج الحكم في مثل هذه الصورة بالقيمة، على خلاف سبق ذكره في أنا إذا قلنا: لا يقتضي القاضي بعلمه، فشهد شاهد عنده بما علمه، هل يقضي إذ ذاك أم لا؟ لأن المستند ثم العلم، وهاهنا هو ظن.
ولا خلاف عندهم: أن القاضي لا يقضي بظنه المستند إلى [غير] قول شاهدين، أو شاهد ويمين، ونحوهما، إلا في التعديل- على رأي قطع به بعضهم – لاتساع النظر في التعديل والجرح، وخروجهما عن الضبط، وليس التقويم كذلك؛ فإنه أمر قريب من الضبط، والرجوع فيه إلى معرفة قيم الأمثال مع تداني الصفات.
وطريق الجواب: أن يقال: ما ذكره الإمام وغيره من منع تفويض الحكم في التقويم إلى شخص باجتهاده، مفروض فيما إذا فوض إليه التقويم خاصة؛ ليخبر به القاسم أو الحاكم، أما إذا كان هو القاسم فقد يمنع ذلك؛ فإن ثبوت القيمة يقع تبعاً، والتابع قد لا يشترط فيه ما يشترط في المقصود، ويستأنس لذلك بأن الإمام جزم القول بأن القاضي لو فوض إلى شخص التزكية، لا يجوز أن يحكم فيها باجتهاده؛ لأن حاصل ذلك يرجع إلى رد شهادة مزكيين إلى واحد، وذلك غير محتمل فيما يشترط فيه العدد، وجزم هو وغيره بأن للقاضي أن يحكم في التعديل باجتهاده؛ ففرق بين أن تقع التزكية مقصودة، وبين أن تقع تابعة لغيرها، فكذلك نقول هاهنا.
فإن قلت: باب التقويم مغاير لذلك؛ فإن الأصحاب سووا فيه بين من فوض إليه التقويم وبين القاضي في كون كل واحد منهما لا يقضي [فيه] باجتهاده، وإذا
كان كذلك لم يحسن ما قلته.
قلت: قد حكى الإمام عن الأصحاب في أن القاضي هل يقضي في التقويم باجتهاده- طريقين:
إحداهما: القطع بالمنع؛ لأن القاضي ليس له أن يقضي بما لا يتحققه ويعلمه ببصيرة نفسه، وهذا منه.
والثانية: طرد القولين في القضاء بالعلم، فإن قلنا بالجواز اندفع السؤال من أصله، وإن قلنا بالمنع فجوابه: أنا ذكرنا ذلك على سبيل الاستئناس، لا أنه دليل الحكم، وإذ قد بطل كونه مستأنساً، لم يضرنا ذلك في الجواب، والله أعلم.
وقد جمع في "الذخائر" بين هذه المسألة والتي قبلها، وقال: في اعتبار العدد لأصحابنا أربع طرق:
إحداها- وهي طريقة العراقيين-: ما ذكره الشيخ.
والثانية: إن كان فيها تقويم فلا بد من اثنين، وإن لم يكن فيها تقويم فقولان.
والثالثة: أن المسألة على قولين من غير تفصيل:
أحدهما: يكتفي بواحد؛ كالقاضي.
والثاني: لا بد من اثنين.
والرابعة- قالها صاحب "التقريب"- إن تعلقت القسمة بصبي أو مجنون، فلا بد من العدد، وإلا فلا.
وهذا الذي ذكره يفهم: أن القسمة إذا كان فيها تقويم يجيء فيها الطريقة الثالثة والرابعة، ولم أرهما في غيره.
قال: وإن كان فيها خرص، ففيه قولان:
أحدهما: يجوز واحد؛ لما روت عائشة- رضي الله عنها "أَنَّ رَسُوْلَ اللهِ صلى الله عليه وسلم كَانَ يَبْعَثُ عَبْدَ اللهِ بْنَ رَوَاحَةَ خَارِصاً؛ فَكَانَ يُخَيِّرُ اليَهُوْدَ، فَيَقُولُ: إِنْ شِئْتُمْ فَلَكُمْ، وَإِنْ شِئْتُمْ فَلِي".
ولأن الخارص لا يخلو عن نوع مجازفة، فلو فرضنا خارصين، لبعد اتفاقهما،
وفيه تعطيل التعويل على الخرص.
والثاني: لا يجوز إلا اثنان؛ إلحاقاً له بالتقويم؛ لشبهه به.
قال الإمام: وهو القياس؛ فليس يتجه بين المقوم والخارص فرق؛ فإن كل واحد منهما يبني قوله على التخمين والحدس مع الاستمساك ببصره عنده.
والقائلون بالأول- وهو الصحيح عند النواوي وغيره- فرقوا بأن الخارص يجتهد، ويعمل باجتهاده، فكان كالحاكم، والمقوم يخبر بقيمة الشيء، فهو بمنزلة الشاهد؛ فاحتيج إلى اثنين.
أما إذا لم تكن القسمة [بأمر] الحاكم، بل المفوض لها الشركاء- ففي "الحاوي"، و"البحر": أنهم يحملون في العدد على ما اتفقوا عليه من واحد أو اثنين؛ كما حملوا فيه على اختيارهم القاسم وإن لم يكن مختاراً. قالا: ولا يقبل الحاكم قول هذا القاسم؛ لأنه ليس بنائب عنه، ولا يسمع شهادته؛ لأنه شاهد على فعل نفسه.
وسيأتي الكلام في هذا، إن شاء الله تعالى.
فرع: حيث قلنا: يكفي قاسم واحد، يقبل الحاكم قوله وحده؛ لاستنابته له؛ كما يقبل قول خلفائه. وحيث قلنا: لابد من اثنين، لم يقبل قول الواحد، وقبل قول الاثنين؛ قاله في "الحاوي"، و"البحر".
ثم قال الروياني: ولا يفتقر القاسم إلى لفظ الشهادة، وقال بعض أصحابنا: فيه وجهان، وليس بشيء. وكأنه- والله أعلم- يشير إلى الفوراني؛ لأن الوجهين في "الإبانة".
قال: وأجرة القاسم- أي: المنصوب من قبل القاضي- من بيت المال- أي: من سهم المصالح- لأن نصيبه من المصالح.
قال القاضي أبو الطيب والبندنيجي وابن الصباغ: وللإمام أن يستأجره بأجرة مقدرة، أو يجعل له رزقاً راتباً؛ لأنه بمنزلة الحاكم، وقد كان لعلي- كرم الله وجهه-
قاسم هو عبد الله بن يحيى، وكان يعطيه [رزقه] من بيت المال.
وفصل الماوردي فقال: إن كثرت القسمة والطلب، فرض أرزاقهم مشاهرة من سهم المصالح، وإن قلت أعطوا منه أجرة كل قسمة.
وعن "شرح مختصر" الجويني حكاية وجه عن أبي إسحاق: أنه لا يرزق القاسم من بيت المال؛ لأنه لا يحتاج إلى تفريغ النفس والعمل، بخلاف القاضي.
قال: فإن لم يكن، فعلى الشركاء- أي: إن لم يجدوا متبرعاً- لأنه يعمل لهم.
قال الماوردي: ولا تمنع نيابة القسام [عن القضاة] أن يعتاضوا عن القسمة، بخلاف القضاة الممنوعين من الاعتياض على الأحكام من الخصوم؛ لوقوع الفرق من وجهين:
أحدهما: أن في القضاء حقاً لله- تعالى- فمنع به القضاة من الاعتياض عنه، والقسم من حقوق الآدميين المحضة؛ فجاز للقسم الاعتياض عنها.
والثاني: أن للقاسم عملاً يباشره بنفسه؛ فصار كصانع الأعمال في جواز الاعتياض عنها، والقضاة مقصورون على الأوامر والنواهي التي لا يصح الاعتياض عنها.
وفي "البحر" فرق آخر، وهو أن القضاة يعملون للشرع، وينوبون عن كافة المسلمين؛ فإن الحكم من فرائض الكفايات، [والقسمة لا تفرض على الأعيان ولا على الكفاية].
قال: ويقسم عليهم على قدر أملاكهم؛ لأنها مؤنة لزمت الملك المشترك؛ فوجب أن تقسط على قدر الأنصباء؛ كنفقة العبد المشترك، والبهيمة؛ وهذا ما حكاه العراقيون والماوردي، وهو المنصوص في "المختصر".
وحكى المراوزة مع هذه الطريقة طريقة أخرى، وهي إجراء قولين في المسألة:
أحدهما: أنها على الأنصباء.
والثاني: أنها على عدد الرؤوس؛ [على ما قاله القاضي الحسين].
وهما مبنيان على أن الشفعة تقسم على قدر الأنصباء، أو على عدد الرؤوس؟ وفيه قولان سبقا.
قلت: وقد حكيت عنه في باب الشفعة: أن القولين في أن [الشفعة [تقسم] على قدر الأنصباء، أو على عدد الرؤوس-[مبنيان] على القولين في أن] مؤنة القسمة تكون على قدر الأنصباء، أو على عدد الرؤوس؟ وهذا متناقض، فليت شعري ما الصحيح من البناءين؟
وقد تمسك بعضهم في جعل مؤنة القسمة على عدد الرؤوس بأن العمل في النصيب اليسير كالعمل في النصيب الكثير؛ لأنه لا يتميز أحدهما من الآخر؛ فالعمل في الجميع، وإذا كان العمل فيهما واحداً، استووا في الأجرة.
وبعضهم قال: العمل في اليسير أكثر منه في الكثير؛ لأن الحساب في الجزء اليسير أغمض، ولأن القسمة تقع بحسب أقل الأجزاء، فإن لم يجب على من قل نصيبه زيادة، فلا أقل من التساوي.
والأصح باتفاق الأصحاب: الطريق الأول؛ لأنه قد يقل سهم أحد الشريكين حتى يكون سهماً من مائة سهم؛ فلو ألزم نصف الأجرة، لجاز أن يستوعب قيمة ملكه؛ فيؤدي إجازة ملكه بالقسمة إلى إزالة ملكه بها، وهذا مدفوع في المعقول، والقائلون به فرقوا بينه وبين الشفعة بشيء يحصل به الجواب عما ذكره من انتصر للقول الثاني بما ذكرناه أولاً، وهو أن الشفعة شرعت لإزالة الضرر، وقطع ضرر الدخيل، وضرر صاحب اليسير كضرر صاحب الكثير؛ فاستويا في قدر الشفعة، وأجرة القاسم تستحق بالعمل، والعمل لصاحب الكثير أكثر؛ فإنه يكيل لصاحب العشر مرة، ولصاحب الباقي تسع مرات. وإن كان ذلك في أرض، فإنه إذا فرغ من العمل والتمييز، يعلم أن العمل الذي [وقع] في أكثرهما أكثر؛ فإنه إذا ذرع ذراعاً كان سدسه لصاحب السدس، وخمسة أسداسه لصاحب الباقي؛ فوجب أن يختلف الأجر
باختلاف الأنصباء، وإن كان العمل لا يتميز؛ ألا ترى أن الشريكين إذا استأجرا راعياً؛ ليرعى لهما مائة شاة بينهما، ولأحدهما عشرها- فإن الأجرة تكون على الأنصباء، وإن كان حفظ العشر منها لا يحصل إلا بحفظ الجميع ومراعاته؟ كذا قاله أبو الطيب.
وليعلم أن المسألة مصورة بصورتين:
إحداهما: أن يكون الحاكم قد أمر بالقسمة، ولم يسم للقاسم شيئاً؛ فإن أجرة المثل- كما قال الماوردي، وصاحب "البحر"- واجبة [له] عليهم، وفي هذه الحالة لو تولى القسمة اثنان، استحق كل منهما أجرة مثله.
وفي معنى هذه الصورة: ما إذا دعا الشركاء القاسم إلى القسمة، ولم يسموا [له] أجراً، وقلنا باستحقاقه الأجرة إما على وجه مطلقاً، أو على وجه إن كان القاسم ممن يأخذ الأجرة، دون ما إذا كان لا يأخذها؛ كما حكاه الماوردي.
الثانية: أن يستأجره الشركاء بعقد واحد بأجرة مطلقة، فيستحقها عليهم، وهذه الصورة أوردها العراقيون والمراوزة.
ولو كان المستأجر فيها على القسمة اثنين استحقا المسمى لا غير، وفي كيفية اقتسامهما إياه وجهان في "الحاوي".
أحدهما: [أنه] يقسم نصفين؛ اعتباراً بالعدد.
والثاني: أنه يقسم على قدر أجرة مثليهما؛ اعتباراً بالعمل.
ولو استأجر كل واحد منهم القاسم في حقه خاصة دون شركائه، قال الماوردي، والبندنيجي، وابن الصباغ، وغيرهم: فهذا جائز، ويختص كل واحد منهم بإلزام ما سماه، ولا فرق بين أن يتساووا أو يتفاضلوا، وهذا مما لا خلاف فيه عندنا، وعليه نص الشافعي.
وفي "النهاية" أن هذا ظاهر فيما إذا فرض اجتماعهم على الاستئجار؛ قال الرافعي: بأن [قالوا:] استأجرناك؛ لتقسم بيننا كذا بدينار على فلان، ودينارين على فلان،
أو وكلوا وكيلاً فعقد لهم كذلك.
والصورة الأولى هي التي يقتضيها كلام أبي الطيب.
قال الإمام: أما إذا فرضت عقود مترتبة؛ بأن استأجر صاحب النصف القاسم على تمييز حصته، ثم استأجره صاحب الثلث على تمييز حصته، ثم استأجره صاحب السدس على تمييز حصته- ففيه سؤال أبداه القاضي الحسين في صحة إجارة الأجير؛ لأن الأولين [لما] استأجراه لإفراز نصيبهما [صار إفراز نصيبه مستحقاً- أيضاً- عليه؛ إذ لا يمكن إفراز نصيبهما] إلا بإفراز نصيبه، فإذا استأجره صادفت الإجارة عملاً مستحقاً عليه لغيره؛ فأشبه الإجارة على الإجارة. وأجاب عنه بأن إفراز النصيبين من غير عمل في نصيب الثالث بالمساحة والتخطي لأجلها، وإدخال اسمه في البنادق والقرعة- مما لا يتأتى، وهذه الأعمال غير مستحقة عليه بإجارة شريكيه؛ فيقع استئجار الثالث عليها.
قال الإمام: وهذا لا يدرأ الإشكال، وسبيل الجواب: أن استئجار الأولين لا يتم الغرض منه ما لم يستأجر الثالث؛ فإن هذا مفروض في غير الإجبار، وكيف يتأتى التمييز إلا بالتصرف في جهة الثالث، ولامتناع التصرف في ملك الغير إلا برضاه، ولو فرضت الكلام في حالة الإجبار من جهة السلطان فهو ينزل المؤنة عليهم على اجتماع- كما تقدم- فليس مما نحن فيه.
نعم، المشكل في غير صورة الإجبار- أن كل واحد من استئجار الأول والثاني بعيد عن التصرف؛ فإن القسمة من ضرورتها بسط العمل على الحصص؛ فكما أن الملك قبل القسمة غير متميز فعمل القسام غير متميز، وحينئذ فانفراد بعض الشركاء بالاستئجار على تمييز حصته باطل.
ولو أراد أن يستأجر؛ ليغرم تمام الأجرة عن الكل: فإن لم يرضوا فكذلك؛ لما ذكرناه. وإن رضوا فهو متبرع عليهم، موكل عنهم في الاستئجار، فيصح؛ كما لو وكل الجميع وكيلاً في الاستئجار عنهم بتفاوت في الأجرة، ففعل ذلك في عقد واحد؛ فإن عمله استحق دفعة واحدة لهم، وغايته تخيل شيوع في
العمل [المستحق].
ولخص في "الوسيط" ذلك، فقال: ليس لواحد أن ينفرد بالاستئجار بغير إذن الشريك؛ لأن تردده في الملك المشترك ممنوع [بدون الإذن؛ فيكون العمل ممنوعاً]، والإجارة فاسدة، بل يعقد واحد بإذن الباقين، أو الوكيل [بإذن الجميع].
وفي "البحر": أنه لو قال: أجرت نفسي منك؛ فأفرز نصيبك، وهو النصف من هذه الدار على كذا- صح إن رضي الباقون بالقسمة، أو كان بحيث لا يحتاج إلى رضاهم. فأما حيث يحتاج إلى الرضا ولم يرضوا [بعد] فعقده فاسد في نصيب هذا، والله أعلم.
أما إذا عدل الشركاء عن القاسم المنصوب من جهة القاضي إلى قاسم ارتضوه، فأجرته عليهم وإن كان في بيت المال فضل، وتجب على جميعهم إن كان الطالب أحدهم، وأجبروا عليها؛ كما صرح به البندنيجي، والروياني، وغيرهما.
وعن ابن كج رواية وجه عن ابن القطان: أنها على الطالب خاصة.
والمشهور: الأول.
وعلى هذا: فلا فرق بين أن يكون على الممتنع ضرر أو لا، وسواء كان يتيماً أم لا.
وفي "الحاوي" وغيره: أنه إذا كان شريك الطالب يتيماً [وعليه] ضرر في القسمة، قال الشافعي:"ففي نفسي من أن أحمل عليه شيئاً، وهو مما لا يرضى له- شيء"، وأن الأصحاب اختلفوا في: ماذا أشار إليه:
فقال بعضهم: أشار إلى أصل القسمة، فخرجها على وجهين:
أحدهما: يمنع الطالب.
والثاني: يجاب، وهو الذي أورده الفوراني والإمام؛ قياساً على رد الشيء عليه بالعيب.
وقال آخرون: أشار إلى أجرة القسمة، لأن القسمة لا تمنع لحق الصغير إذا أجبرنا الكبير؛ لأن الصغر لا يمنع الحقوق؛ فيكون في لزوم الأجرة له وجهان:
أحدهما: يلزمه الحاكم قسطه منها مع عدم حظه.
والثاني: يقول الحاكم للطالب: إن أردت القسمة التزم المؤنة. وهذا ما أجاب به في "العدة"، وقال الفوراني: إنه أصح القولين. وإلى ذلك أشار في "البحر" بقوله: إن هذا اختيار أكثر أصحابنا بخراسان، وإلا فالإمام قال بعد حكايته عن رواية صاحب "التقريب"، والقاضي: إنه ضعيف، لا أصل له، وإن من العاملين به من طرده وإن لم يكن في القسمة ضرر على الطفل، وطلب من وليه القسمة، وهذا في نهاية الضعف.
قلت: وهذا راجع إلى الوجه المحكي عن ابن القطان.
قال: وإن طلب القسمة أحد الشريكين، وامتنع الآخر، نظر:
فإن لم يكن على واحد منهما ضرر: كالحبوب، والأدهان، والثياب الغليظة- أي: التي لا تنقص قيمتها بالقطع- والأراضي، والدور- أجبر الممتنع؛ لأن الطالب يطلب الانتفاع بماله على الكمال، والخلاص من سوء المشاركة، فأجيب إليه؛ لإمكانه من غير إضرار بشريكه؛ كما لو اختلط له درهم بعشرة دراهم؛ كذا قاله أبو الطيب.
وهذه القسمة تسمى: قسمة الإفراز والإجبار، وتتناول كل متساوي الأجزاء؛ حتى قال القاضي الحسين: إنها تجري في اللبن المسبوك في قالب واحد، بخلاف ما لو تفاوتت أشكاله لتفاوت القوالب؛ فإنه يكون كالعرض.
ولا فرق فيها بين أن يتساوى الشريكان في الملك، أو تختلف حصتهما.
وعن ابن كج حكاية وجه عن ابن [أبي] هريرة: أنه لا إجبار عند تفاوت الأنصباء؛ لأنه لا يمكن أن يدفع إلى صاحب السدس الجزء الثاني، ولا الجزء الخامس، وإنما يحسن الإجبار إذا استوى الشريكان في احتمال أخذ كل واحد من الأجزاء.
وهذا التعليل ينفي إجراء هذا الوجه فيما إذا لم يكن في الملك سوى شريكين وإن اختلفت حصتهما، والمذهب: أنه لا فرق بين أن يكون في الملك شريكان أو شركاء؛ وعلى هذا: لو كان الشركاء في مثل هذه الأموال ستة على التساوي، والممتنع خمسة- قال في "الحاوي": قسم أسداساً، وأفرد للطالب سدسه، وكان خمسة أسداسه مشتركاً بين الباقين.
ولو كان الطالب منهم اثنين؛ ليحوزا سهميهما مجتمعين، قسمت أثلاثاً، وأفرد لطالبي القسمة ثلثها مشتركاً بينهما، وكان الثلثان مشتركين بين الباقين.
وإن طلبها ثلاثة؛ ليحوزوا سهامهم مجتمعة، قسمت نصفين، وأفرد أحد النصفين للطالبين، والنصف الآخر للممتنعين.
[ثم] على هذا الاعتبار فيما زاد، ونقص، واجتمع، وافترق.
واعلم أن ما ذكرناه مصور بما إذا كان التنازع في قسمة كل ثوب من الثياب المذكورة، أو أرض أو دار، [كما صرح به الأصحاب، وظاهر كلام الشيخ يقتضي أنه لا فرق فيما ذكره في الأرض والدار] والثوب بين أن تتساوى أجزاء ذلك، أو تختلف وتعدل بالقيمة، وهو ما أورده البندنيجي وغيره.
وفي "الحاوي": أن الثوب الواحد إذا اختلفت قيمته لاختلاف نقوشه وألوانه، قسم اختياراً لا إجباراً، [وإن تماثل، ولم يختلف، ولم تنقص قيمته بقطعه- ففي قسمته إجباراً] وجهان، وقد حكاهما الفوراني، وبناهما على جواز بيع ذراع من ذلك.
وفي "البحر": أن قيمته إن انتقصت بالقطع، لم يجبر الممتنع، وإن لم تنقص فوجهان، ونسب هذا إلى الخراسانيين، وقال:[إن] ابن سلمة من أصحابنا قال: إنه يجوز بكل حال؛ لأن الثياب لا تنقسم بنفسها، بخلاف الدور.
وقال الإمام: الأصحاب أطلقوا قسمة الدور، وأجروا فيها الإجبار كإجرائهم ذلك في العرصات، وهذا فيه نظر؛ فإن الدور تشتمل على أبنية وسقوف وبيوت وأروقة، وهي ذوات أشكال مختلفة، والأغراض في السكن تتفاوت تفاوتاً بيناً، وهذا زائد على الأغراض التي تفرض في العبيد، وقد أجري الخلاف في الإجبار على قسمتها؛ فكيف يطلق الوفاق في الإجبار على قسمة الدور مع ما وصفناه؟ فالوجه أن يقال: إن استوت الأبنية، وكان في شرقي الدار صفة بيت، وكذلك في غربها، ويتأتى التعديل بتبعيض العرصة؛ [فتشتمل كل حصة على ما تشتمل عليه الأخرى] من الأبنية- فيجوز أن يقال: يجري الإجبار على مثل هذه القسمة.
فأما إذا اختلفت أشكال الأبنية؛ فيتعين عندي قطعاً تخريج الخلاف- أي: المذكور في قسمة النقل والتعديل- في إجراء القسمة فيها؛ لما أشرت إليه من تفاوت الأغراض، واختلاف المنافع؛ وهذا ما أورده في "الوسيط" و"الوجيز".
وحكى عن الأصحاب أنهم قالوا: [إذا اختلفت قيمة جوانب العرصة؛ لقرب بعضها من الماء، بحيث يكون] الثلث بالمساحة نصفاً بالقيمة-: إنه يجبر على قسمتها كذلك، وأنهم لم يخرجوه على الخلاف.
وفي "المهذب"، و"الحاوي"، و"البحر" حكاية قولين في الإجبار على هذه القسمة إذا لم يمكن قسمة الأكثر قيمة والأقل قيمة، والأصح منهما في "التهذيب": عدم الإجبار، وقال القاضي الحسين: إنه [المذهب.
و] المذكور في "تعليق" البندنيجي، وهو اختيار الشيخ أبي حامد: مقابله.
قالوا: وعلى هذا فأجرة القاسم توزع بحسب الشركة في الأصل، أم بحسب المأخوذ قلة وكثرة؟ فيه وجهان، أقربهما في "الرافعي": الثاني، وهو المختار في "المرشد".
أما إذا أمكن قسمة الأكثر قيمة والأقل قيمة؛ كما إذا كان الجيد في مقدمها،
والرديء في مؤخرها، وإذا قسمت بينهما نصفين، صار لكل واحد منهما من الجيد والرديء مثل ما لصاحبه من الجيد والرديء- فهذه تدخلها قسمة الإجبار كالمتساوية الأجزاء.
وحكم الأرض التي يسقى بعضها بالنضح، وبعضها يسقى بالنهر- حكم ما ذكرناه.
وكذلك قال البغوي فيما إذا كان [في] بعض الأرض شجر أو بناء، وبعضها خال، أو كانت الدار بعضها مبني بالآجر، وبعضها [مبني] بالخشب والطين.
قال: وإن كان عليهما ضرر: كالجواهر، والثياب المرتفعة- أي:[التي] تنقص قيمتها بالقطع- والرحى، والبئر، والحمام الصغير- لم يجبر الممتنع.
أما [في] الجواهر وما في معناها، فقد وافق الخصم- وهو الإمام مالك- عليه.
وأما في الباقي؛ فلقوله صلى الله عليه وسلم: "لَا ضَرَرَ وَلَا ضِرَارَ فِي الإِسْلَامِ".
ولأن في ذلك إضاعة للمال، وَقَدْ نَهَى صلى الله عليه وسلم عَنْ إِضَاعَةِ الْمَالِ.
وبالقياس على الجواهر.
ثم بماذا يعتبر دخول الضرر؟ فيه أوجه ذكرناها في باب الشفعة.
تنبيه: كلام الشيخ مصرح في الصورة المذكورة بامتناع الإجبار، ومفهومه: الجواز عند التراضي، والحديث قد يأباه، والمنقول في "الحاوي" امتناع قسمة الجوهرة وما يتلف بها وإن وجد التراضي؛ للنهي عن إضاعة المال؛ فإنه سفه يستحق به الحجر، والجواز في الحمام، والسفينة، والسيف، والثوب، وفي الأرض- من طريق الأولى، وقد صرح به القاضي أبو الطيب وغيره.
وفي "الرافعي": أنهم إذا التمسوا قسمة ما فيه ضرر من القاضي، فإن كانت المنفعة تتعطل بالكلية: كالسيف يكسر، فلا يجيبهم في أصح الوجهين، لكن
[لا] يمنعهم من أن يقسموا بأنفسهم.
قال في "البحر": وهذا اختيار القاضي الطبري، وهو ظاهر المذهب.
قال: وإن كان على أحدهما ضرر [دون الآخر- أي:] مثل أن يكون لأحدهما [عشر] أرض، وللآخر باقيها، وإذا قسمت أمكن صاحب الأعشار الانتفاع بها؛ إما لاتساع ما يحصل له، أو لضيقه ومجاورته لملك آخر له، إذا أضيف إليه انتفع بهما؛ كما قاله البغوي؛ أخذاً مما سنذكره من كلام الشافعي عند قسمة عرصة الجدار، ولم يوجد مثل ذلك لصاحب العشر.
قال: فإن كان على الطالب، لم يجبر الممتنع؛ لأنه متعنت وسفيه يطلب ما يضره.
قال في "البحر": وهذا قول أبي إسحاق، وهو الصحيح المشهور من المذهب.
قال: وإن كان على الممتنع، فقد قيل: لا يجبر؛ لأن فيها ضرراً؛ فهو كالضرر عليهما، وقد روى نصر مولى معاوية: أَنَّ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم نَهَى عَنْ قِسْمَةِ الضِّرَارِ.
وقيل: يجبر، وهو الأصح؛ لأنه يطلب حقاً له ينتفع به، فوجب إجابته وإن أضر بالمطلوب منه؛ كما يطالب الغريم بدينه وإن كان لا يملك إلا قدره.
و [أما] الخبر فقد قال في "البحر": إنه مرسل.
وهذان الوجهان نسبهما العبادي إلى ابن سريج، وقال في "البحر": إن الثاني هو المنصوص عليه، والأول قال به أبو ثور.
قال ابن يونس: واعلم أن ما ذكره الشيخ هو الترتيب المنقول عن الخراسانيين، وأما المشهور عن العراقيين، فهو: أن الضرر إن كان على الطالب فوجهان في الإجبار، أصحهما: المنع. وإن كان على الممتنع، أجبر قولاً واحداً.
وما ذكره عن العراقيين هو الذي رأيته في ["تعليق" البندنيجي، وأبي الطيب،
و"الشامل"، وكذا في "الحاوي"، و"المهذب"، وقالوا: إن المنع من] الإجبار في حالة ضرر الطالب هو المذهب، وما ذكره عن الخراسانيين صحيح أيضاً، ولم يورد الفوراني والبغوي سواه، لكن في "النهاية": أن العراقيين والقاضي قالوا: من أصحابنا من جعل في كل واحدة من الصورتين وجهين إذا طلبت القسمة: أما إجراء الوجهين في حق صاحب الكثير فعلى ما ذكرناه، وأما إجراؤهما في حق صاحب القليل فمن جهة أنه يقول: لي أن أبطل حق نفسي، وأنت لا تتضرر تضرراً معتبراً فما عليك؟ فأجبني، ولا تشقق علي، فإني مطلق التصرف في حصتي.
قال الإمام: وهذه الطريقة لا بأس بها، والأشهر: الأولى، وهي ما في الكتاب.
وقد فرعوا في حالة كونا لضرر على الممتنع: أن أربعة لو كان بينهم أرض: لواحد نصفها، ولكل من الباقين السدس، ولا ضرر في قسمتها نصفين، وفي قسمتها أسداساً ضرر لصاحب السدس، فطلب صاحب النصف القسمة- قالوا: الثلاثة بالخيار بين أن يفرز النصف لهم مشاعاً، وبين أن يفرز كل واحد [منهم] سهمه؛ فهذا معنى قول الشافعي:"وأقول لمن كره القسمة لقلة حصصهم: إن شئتم جمعنا حقوقكم، وكانت مشاعة بينكم؛ لتنتفعوا بها".
وإذا رضوا بقسمتها نصفين، ثم أراد واحد من الثلاثة إفراز نصيبه- لم يجب إليه؛ لأن هذه القسمة الضرر فيها يلحق الجميع.
ولو طلب الثلاثة من صاحب النصف أن يقاسمهم، فيترك لهم النصف، ويأخذ النصف، وامتنع- أجبر عليه، قاله الروياني، والإمام.
قال: وإن كان بينهما دور، ودكاكين، أو أرض في بعضها شجر، وبعضها بياض، فطلب أحدهما أن تقسم بينهما أعياناً بالقيمة، أي: بأن تجعل دار في مقابلة دار، ودكان في مقابلة دكان، وأرض في مقابلة أرض؛ ليتساوى ذلك في القيمة.
قال: وطلب [الآخر] قسمة كل عين- أي: جزأين، وذلك ممكن من غير
ضرر- قسمت كل عين؛ لأن كل واحد منهما له حق في الجميع؛ فجاز أن يطالب به، ولا يجاب الآخر؛ لأن القسمة تمييز الحقين في العين؛ وهذا نقل ملك من عين إلى عين أخرى؛ فهو معاوضة، ولا إجبار عليها.
قال الإمام: وهذا متفق عليه بين الأصحاب.
وفي "الرافعي": أن في "الرقم" للعبادي حكاية وجه: أنه يجبر على قسمتها أعياناً بالقيمة من غير فرق بين التجاور والتباعد، لكنه ذكر هذا الوجه فيما إذا طلب أحدهما أن تقسم [بينهما] أعياناً بالقيمة، وسكت عن حال الآخر.
وفي "الإبانة" ما يقتضي هذا الوجه- أيضاً- فإنه قال: لو كان بينهما قطعتا أرض في قريتين، أو بستانان في موضعين مختلفين، فدعا أحدهما إلى القسمة- فهل يقسمان جبراً بالقرعة أم لا؟ فيه وجهان: أحدهما: نعم؛ لاتفاق الجنس، والمنفعة، والثاني: لا؛ لاختلاف المحل والغرض. والمذهب الأول، ويخالف ما لو كان بينهما قرية ذات مساكن، فدعا أحدهما إلى قسمة جميع القرية، ودعا الآخر إلى قسمة كل مسكن منها- فإنه يجاب الأول، ويقسم لكل واحد منهما نصفها بما اشتمل عليه من مساكنه، كما حكاه الماوردي؛ لأن القرية شاملة لمسااكنها كالدار الجامعة لبيوتها، ولا يجوز أن يقع الإجبار في قسمة الدار على [قسمة كل] بيت منها، كذلك القرية.
ثم لا فرق- كما قاله القاضي أبو الطيب، وابن الصباغ- بين أن تكون الدور والحوانيت متجاورة أو متفرقة، ولا بين أن يكون أحدهما كبيراً والآخر صغيراً ينفذ إلى الدار ولا ينفذ حجره لها أو لا.
وأما الأراضي: فإن كانت متفرقة: كأراضي الضياع، فالحكم فيها كذلك، وإن كانت متجاورة متلاصقة، وكل أرض تنسب إلى ضيعة من ضياع القرية- قال أبو إسحاق: هي في حكم الأرض الواحدة؛ فيضم بعضها إلى بعض في قسمة الإجبار، على أن يكون لأحدهما قراح، وللآخر قراح آخر، سواء اختلفت الطرق
واختلف المشرب أو لم يختلف.
وقال غيره من أصحابنا: الحكم كذلك في حال المجاورة، واتحاد الطريق والمشرب، فإن اختلف الطريق والمشرب فهي في حكم الأراضي المتفرقة؛ فلا يضم بعضها إلى بعض في قسمة الإجبار.
قال القاضي أبو الطيب، والبندنيجي: وهذا ظاهر قول الشافعي.
وقال ابن الصباغ: إنه أشبه بكلام الشافعي؛ لأنه قال: "ولا عنب مع نخل"، وأراد به: إذا كان بينهما مراحان في أحدهما نخل، وفي الآخر كرم؛ لأنه لو كان النخل والكرم في مراح واحد، ضم بعضه إلى بعض.
وفي "الحاوي" في حالة التجاور: إن تماثلت في الثمن والمنفعة والمؤنة، فيضم بعضها إلى بعض، وتقع قسمة الإجبار على جميعها؛ كضياع القرية التي يتصل جميعها] ولا يتميز شيء منها، وإن اختلفت أسماؤها.
وفي حال التجاور: واختلاف المنفعة؛ بأن يكون بعضها مزروعاً، وفي بعضها شجر، وفي بعضها كرم، و [في] بعضها نخل؛ أو تختلف في الثمن؛ لنفاسة بعضها على بعض- فإن مذهب الشافعي: أن قسمة الإجبار واقعة على كل أرض منها، ولا يضم بعضها إلى بعض في قسمة الإجبار مع اختلافها.
وعلى كل حال: لا فرق – كما قاله القاضي أبو الطيب، والبندنيجي، وابن الصباغ- في الإجبار على قسمة كل مراح من الأرض بين أن يكون فارغاً، أو ما فيه من الأشجار من نوع واحد، أو مختلف الأجناس: كالنخل، والكرم، وغير ذلك؛ فيضم بعض ذلك إلى بعض، ويعدل، ويكون بمنزلة البيوت والأبواب والسقوف المختلفة في دار واحدة.
وفي "الرافعي": أن الخلاف الآتي في قسمة التعديل يجري فيما إذا كان البستان الواحد بعضه نخل، وبعضه كرم، وأن صاحب "التهذيب" رجح من القولين منع
الإجبار، والعراقيون من أصحابنا وغيرهم رجحوا الإجبار.
قال: ويشبه أن يكون الخلاف المذكور مختصاً بما إذا لم يمكن قسمة كل نوع، فإن أمكن، فلا جبر على قسمة التعديل؛ كما لو كانا شريكين في أرض يمكن قسمة كل جيد ورديء منها [بالآخر أو] بالأجزاء، لا يجري الإجبار على التعديل.
فرع: لو كان بينهما أرض واحدة، وفيها بناء أو شجر، فأراد أحدهما قسمة الأرض دون البناء والشجر- قال في "الحاوي" و"البحر": لا يقع في هذه القسمة إجبار.
نعم، لو تراضيا على هذه القسمة، دخل في الأرض قسمة الإجبار ما داما مقيمين على هذا الاتفاق، وقسمت بينهما جبراً بالقرعة، وإن رجع أحدهما عن الاتفاق، زالت قسمة الإجبار.
قال: وإن كان بينهما عضائد، أي: دكاكين، صغار، لا تقبل كل عضادة القسمة؛ كما قاله البندنيجي وأبو الطيب وابن الصباغ وأكثر الناقلين- متلاصقة، فطلب أحدهما قسمتها أعياناً بالقيمة، وامتنع الآخر- فقد قيل: يجبر؛ لأنها إذا كانت صفاً واحداً، كانت بمنزلة بيوت في دار واحدة، أو خان واحد وقد تقدم أنه يجبر على ذلك؛ إذا تساوت قيمة الأجزاء على المذهب؛ فكذلك هاهنا.
قال الرافعي: وهذا أصح على ما ذكره القاضي الروياني [وغيره]، وتبعهم النواوي.
وقيل: لا يجبر؛ لأن كل عضادة مسكن منفرد؛ فأشبهت الدور والدكاكين الكبار المتجاورة.
قال البندنيجي: وهذا هو المذهب.
وفي "الجيلي": أن هذا إذا لم تنقص القيمة بالقسمة، أما إذا نقصت فلا يجبر على القسمة وجهاً واحداً.
أما إذا كان كل عضادة تقبل القسمة، فقد قدم ذكرها بقوله:"ودكاكين"، والشيخ في "المهذب" عبر عن الدكاكين بالعضائد، وأجرى الوجهين في حالة قبولها القسمة.
قال: وإن كان بينهما عبيد، أو ماشية، أو ثياب، أو أخشاب أي: تنقص بالقطع-
فطلب [أحدهما] قسمتها أعياناً، أي: لتساوي ذلك في القيمة والنوع، وامتنع الآخر، فالمذهب: أنه يجبر الممتنع؛ لأنه لا يمكن قسمتها من غير ضرر إلا كذلك؛ فوجب كالدار الواحدة.
وقد وافق الشيخ في هذا اللفظ البغوي.
وقال البندنيجي: إن هذا القول هو الذي نص عليه، وعليه أكثر أصحابنا: كابن سريج، وأبي إسحاق، ولم يحك الفوراني سواه.
وقيل: لا يجبر؛ لأنها أعيان منفردة؛ فأشبهت الدور المتفرقة، وهذا قول أبي علي بن أبي هريرة، وابن خيران.
وقد حكى الخلاف في الرقيق وغيره- كما حكاه الشيخ- الماوردي، والبندنيجي، والإمام.
وقال ابن الصباغ، والقاضي أبو الطيب: الخلاف في غير الرقيق، فأما الرقيق فيجبر الممتنع فيه قولاً واحداً عند أصحابنا؛ لأنه صلى الله عليه وسلم جزأ العبيد الستة الذين أعتقهم الرجل في مرض موته ثلاثة أجزاء، وأقرع بينهم، ولأن الرقيق لما وجب تكميل الحرية فيه، دخلته قسمة الإجبار بالقيمة، بخلاف غيره، وعلى هذا جرى في "المرشد"، وهو الذي حكاه في "البحر" عن نص الشافعي في كتاب العتق.
وفي "تعليق" البندنيجي: [أن ابن] خيران قال: إنما فعل رسول الله صلى الله عليه وسلم ذلك لمزية الحرية، وفي مسألتنا لا مزية.
والأواني من الرصاص والنحاس والحديد، إن اختلفت وتفاضلت لم تقسم إجباراً، وإن تشابهت وتماثلت ففي قسمتها إجباراً وجهان؛ كالحيوان والثياب.
فإن قيل: ذكرتم في علة القول المنصوص: أنه لا يمكن قسمة هذه الأشياء من غير ضرر إلا كذلك؛ فوجب كالدار الواحدة، وهذه العلة تقتضي أنه لو كان بين شريكين حمامان أو طاحونان لا يمكن قسمة كل واحد منهما على الانفراد – أن يقسما كذلك.
قال الماوردي: قد كان بعض أصحابنا يخرج إجبار قسمة الحمامين بين الشريكين على وجهين؛ كالحيوان والثياب، وهذا الطريق في "النهاية" – أيضاً- وقال: إن من
أصحابنا من قال: لا إجبار في الأبنية والبقاع على التصوير الذي ذكرناه، بخلاف العبيد؛ لأن تفاوت الأغراض في البقاع أوضح.
وفي "البحر": أن ابن القاص ذكر عن ابن سريج أنه كان يفرق، ويقول: الأصل البقاع والرحى، والحمام بقعة، وإنما لا يتهيأ قسمتها؛ للحجارة ونحو ذلك.
فإذا كان كذلك كان معناه معنى القسمة التي فيها الرد، فلم تجز إلا بالتراضي، وليس كذلك الحيوان؛ لأن كل واحد منهما لا ينقسم، وهو أصل بنفسه، وبنا ضرورة إلى إفراز حقوقهم؛ فجاز إذا كثروا أن يقتسموا إجباراً، وهو كالوجهين في الدكاكين الضيقة.
أما لو اختف النوع والقيمة كالضأن والمعز، فهو كاختلاف الجنس من الحرير والقطن والكتان؛ فلا يجبر الممتنع جزماً عند العراقيين، وكذا الجمهور؛ كما قال الرافعي.
[و] في "النهاية": أنه لو كان بين الشركاء عبد وطاحون وحمام، وأمكن التعديل بجعل كل صنف سهماً- ففي الإجبار وجهان مرتبان على ما إذا لم تختلف الأصناف، وهذه الصورة أبعد من الإجبار، وقد نسب الرافعي مثل هذا الطريق في مختلف النوع إلى أبي الفرج السرخسي، وقال: إن الصحيح الأول.
ولو اختلف النوع، واتحدت القيمة، فهل يكون كاختلاف الجنس واتحاد النوع؟ فيه وجهان في "الحاوي".
ولو اتحد النوع، واختلفت القيمة، مثل: أن كان المشترك بينهما ثلاثة أعبد، قيمة واحد مائتان، وكل من الآخرين مائة- فإن قلنا في مسألة الكتاب: لا إجبار، فهاهنا أولى، وإلا فوجهان، لظهور التفاوت في العدد؛ كذا قاله الإمام.
وأثبت الرافعي الخلاف قولين، ثم قال: وهما كالقولين في الأرض المختلفة الأجزاء؛ لإلحاقنا الأعيان المتماثلة كالأرض المتساوية الأجزاء.
قلت: إن أراد في أصل إجراء الخلاف فنعم، وإن أراد أنه كهو من كل وجه، فلا؛
لأن الصحيح عند العراقيين- وبه جزم أكثرهم- الإجبار ثم، والمنع منه هاهنا.
ولو اختلفت قيمة النوع، بأن كان المشترك بينهما حمامين: صغيراً، وكبيراً، وكان السهمان لا يعتدلان إلا بأن يجعل الحمام الصغير مع ثلث الحمام الكبير سهماً، ويجعل [ثلثا] الحمام الكبير سهماً- فالأصح: أنه لا إجبار على هذا النوع؛ فإن القسمة على ذلك لا تميز ولا تفصل، بل تبقى اشتراكاً.
وبعضهم- أيضاً- خرجه على الخلاف.
قال الإمام: وهو بعيد.
قلت: هذه الطريقة هي التي يظهر صحتها؛ لأن الفوراني وصاحب "البحر" حكيا فيما إذا كان بينهما عبدان: قيمة أحدهما مائة، والآخر مائتين، وأراد أحدهما القسمة بأن يجعل [كل] الخسيس وربع النفيس سهماً، وثلاثة أرباع النفيس سهماً- عن الشافعي قولين في هذه الصورة، ولا فرق بينها وبين التي قبلها في التعليل المذكور، وقد حكى الرافعي فيها طريقة جازمة بالإجبار.
فرع: قسمة الكلاب هل يجري فيها الإجبار؟ فيه طريقان في "الحاوي":
إحداهما: نعم؛ لأن الشافعي أجاز قسمة الكلاب مع الغنم كما أجاز الوصية بها، وأنها بخروجها من القسمة تجري مجرى ذوات الأمثال.
[و] الثانية: تخريجها على الوجهين، وجعل هذا النص دليلاً على أنها أصحهما.
قال: وإن كان بينهما دار، وطلب أحدهما أن تقسم، فيجعل العلو لأحدهما، والسفل للآخر، وامتنع شريكه- لم يجبر الممتنع.
قال الشافعي في "الأم": لأن أصل الحكم أن من ملك السفل ملك ما تحته، وما
فوقه من الهواء، فإذا أعطى هذا سفلاً لا هواء له، وهذا علواً لا سفل له- فقد أعطي كل واحد منهما على غير أصل ما يملك الناس؛ أي: ووضع القسمة التمييز.
ولأن العلو والسفل بمنزلة الدارين، وقد تقدم أنه لا يجبر على قسمتهما بحيث ينفرد كل واحد منهما بدار؛ فكذلك هنا.
ولأن العلو تبع للسفل؛ بدليل أنه إذا بيع له السفل والعلو تثبت الشفعة فيهما، وإذا بيع العلو وحده، لم تثبت فيه، وفي هذه الصورة جعل التابع متبوعاً، وذلك يجوز.
نعم، لو تراضيا على هذه القسمة جاز، ولو طلب أحدهما أن يقسم العلو والسفل نصفين، وكان ينقسم، أجبر الآخر؛ لأن البناء في الأرض بمنزلة الغراس فيها.
ولو طلب أن يقسم العلو في دفعة، والسفل في دفعة أخرى- فلا يجبر الآخر، لأنه ربما خرج لأحدهما بالإقراع من السفل النصيب الذي حصل على حصة صاحبه من العلو؛ [فالمشاركة] واختلاط الأيدي بعد باقية، والقصد من القسمة إزالة ذلك.
نعم، لو رضيا بذلك جاز؛ قاله أبو الطيب وابن الصباغ وغيرهما.
ومن هاهنا يظهر لك أن أحدهما لو طلب قسمة العلو، وبقاء السفل مشتركاً- لا يجبر الآخر عليه؛ لاحتمال أن يطلب أحدهما قسمة السفل بعد ذلك؛ فيقع المحذور المذكور.
[وعلى هذه الحالة يحمل قول الروياني في "البحر" وغيره في دليل مسألة الكتاب]: ألا ترى أنه لو كان بينهما غرفة، فطلب أحدهما القسمة، لم يجبر الآخر عليها؟
وفي "الرافعي": أنه لو طلب أحدهما قسمة السفل، وترك العلو على الإشاعة، لم يجبر الآخر؛ لما ذكرناه من العلة.
والروياني في "البحر" ذكر الحكم، ولم يعلله.
قلت: ولو قيل في هذه الصورة بالإجبار لم يبعد، ونقول: إذا طلب أحدهما بعد ذلك قسمة العلو يقسم- يعني: بلا] قرعة- ويجعل لكل واحد منهما النصيب الذي هو علو ما حصل له من السفل؛ كما نقول فيما إذا أجبرنا على قسمة
العرصة بين الملكين عرضاً في كمال الطول: إنه لا إقراع فيها، ونجعل لكل واحد ما يلي ملكه من الجوار، ويخالف ما إذا طلب أحدهما قسمة العلو، وترك السفل على الإشاعة؛ حيث قلنا: لا يجبر الآخر، ولم نبد فيه هذا الاحتمال؛ لأنا لو قلنا بهذا ثم، لجعلنا السفل الذي هو أصل تابعاً للعلو الذي هو تابع، وذلك لا يجوز، والله أعلم.
قال: وإن كان بين ملكيهما عرصة حائط، فأراد أحدهما أن تقسم؛ فيحصل لكل واحد منهما نصف الطول في كمال العرض، أي: على هذا الشكل:
???????
???????
???????
وامتنع الآخر- أجبر عليه؛ لأنه ملك مشترك يمكن انتفاعهما به بعد القسمة من غير ضرر.
قال: وإن أراد أن تقسم عرضاً، فيجعل لكل واحد منهما نصف العرض في كمال الطول- أي: على الشكل:
?????????
?????????
?????????
وامتنع الآخر- فقد قيل: يجبر؛ لأنه ملك مشترك يمكن كل واحد منهما أن ينتفع بحصته [إذا قسم فأجبر على القسمة- كما في المسألة قبلها، وهذا قول ابن أبي هريرة].
وقيل: لا يجبر؛ لامتناع القرعة؛ فإنه ربما خرجت القرعة لكل واحد منهما مما يلي ملك الآخر؛ فلا ينتفع به، وكل قسمة لا تدخلها القرعة، لا يجبر عليها كالتي فيها الرد، وهذا قول أبي إسحاق، وبه جزم في "التهذيب"، و"الكافي".
وقال الرافعي: الصحيح عند العراقيين وغيرهم: الأول، وهو كذلك في "تعليق" البندنيجي، وأبي الطيب، و"المهذب"، وبه جزم في "الوجيز".
وقال ابن الصباغ في كتاب الصلح: إنه ظاهر كلام الشافعي، وأشار بذلك إلى قول الشافعي في "المختصر":"وقسمته بينهما إن شاءا: إن كان عرصته ذراعاً، أعطيته شبراً في طول الجدار، ثم قلت له: إن شئت أن تزيد من عرصة دارك أو بيتك شبراً آخر، ليكون لك جدار خالص- ذلك لك".
ويخالف ما فيه رد؛ لأن دخول العوض يجعلها بيعاً، ولا يجبر على البيع.
وقول الشافعي: "ثم قلت له: إن شئت أن تزيد على عرصة دارك أو بيتك شبراً .. " إلى آخره- لم يقله مشورة- كما عابه من جهل معنى كلامه- وإنما قاله ليبين أن كل واحد منهما قد ينتفع بما [قد] صار إليه، ثم ذكر وجه المنفعة بأن يضم إلى العرصة شبراً؛ ليصير جداراً كاملاً.
وعلى هذا القول [فرعان:].
أحدهما: أنه لا يحتاج إلى القرعة، بل يجعل لكل واحد منهما ما يلي [ملكه] جداراً مما قاله القائل الثاني، وهذا ما أورده البندنيجي، وابن الصباغ، ووجهه الماوردي: بأن القرعة إنما تدخل في القسمة؛ لتميز ما أشبه الانتفاع به، والأنفع لكل واحد منهما، والأنفع هنا: أن يأخذ كل واحد ما يلي ملكه، فلم يكن لدخول القرعة وجه، وإنما نسب بعضهم هذا إلى صاحب "التقريب".
والثاني: لو طلب أحدهما أن يقسم طولاً في [كمال] العرض، وطلب الآخر أن يقسم عرضاً في كمال الطول- لم يجبر واحد منهما، بل يتركان إلى أن يصطلحا، كذا قاله ابن يونس، وابن شداد.
وفيما وقفت عليه من "الشامل": أنها تقسم عرضاً في كمال الطول، ويجعل لكل واحد مما يلي ملكه، بخلاف ما إذا قلنا: لا يجبر على قسمتها عرضاً في كمال الطول [فإنها تقسم- والحالة هذه- طولاً في كمال العرض.
قال: وإن كان بينهما حائط، أي: وعرصة لهم، فطلب أحدهما أن يقسم عرضاً في كمال الطول]، وامتنع الآخر- لم يجبر، واختلف في تعليله:
فقيل: لأنا لو أجبرنا لأقرعنا، والقرعة ربما تعين الشقص الذي يلي دار زيد لعمرو، وبالعكس؛ فلا يتمكن واحد منهما من الانتفاع بما صار له، وهذه علة من منع الإجبار على القسمة عند عدم الإقراع.
وقيل: لأنه لا يتأتى فيه فصل محقق؛ لأن ذلك إتلاف، وغايته رسم خط بين الشقصين ومع ذلك فإذا بنى أحدهما على ما صار له تعدي الثقل والتحامل إلى الشق الآخر؛ فيكون منتفعاً بنصيب شريكه.
وضعف الإمام هذه العلة بأن هذه القسمة جائزة بالتراضي؛ كما سنذكره؛ وذلك يدل على أن رسم الخط كاف في القسمة والمفاصلة.
وعن صاحب "التقريب" وجه: أنه يجاب الطالب، ويجبر الممتنع، لكن [لا] يقرع، بل يخص كل واحد بما يليه، ولا خلاف في جواز هذه القسمة بالتراضي، لكن كيف يقسم؟ فيه وجهان حكاهما الرافعي:
أحدهما: يعلم بعلامة، وبخط يرسم.
والثاني: يشق، وينشر بالمنشار.
قال القاضي الحسين وغيره، ولو طلبا من الحاكم القسمة بهذا النوع، لم يجبهما إلى [ذلك؛ كما] ذكره العراقيون؛ لأن شق الجدار في الطول إتلاف له وتضييع، ولكنهما يباشران القسمة بأنفسهما إن شاءا؛ كما لو هدماه، واقتسما النقض.
[فإن قلت]: لم [لا] خرج جواز القسمة في هذه الحالة على أن القسمة بيع أو إفراز، فإن قلنا: إنها بيع، فينبغي ألا تصح؛ لن بيع ما تنقص قيمته بقطعه لا يجوز؟
قلت: الجواب عنه من وجهين:
أحدهما: أن الأصحاب قالوا ثم: إن المانع من صحة البيع عدم القدرة على التسليم، إلا بتنقيص غير المبيع، ولا شيء غير المبيع تنقصه هذه القسمة هنا.
الثاني: أن القسمة إنما تقع بعد التمييز بالسبق ونحوه، فلم تكن القسمة إذا وقعت مقتضية للتنقيص.
ووزان ذلك: أن يقطع ذراعاً من ثوب تنقص قيمته بالقطع، ثم يبيعه؛ فإنه يصح وجهاً واحداً.
على أن صاحب "الحلية" جزم القول بمنع قسمته عرضاً في كمال الطول بالتراضي- أيضاً- من غير بناء على أن القسمة بيع أو إفراز، ووجهه بأن ما يصير إلى كل واحد منهما من نصف العرض مضر به وبصاحبه؛ لأنه إن أراد هدمه لم يقدر عليه إلا بهدم ما لشريكه [أو شيء منه، وإن أراد وضع شيء عليه وقع الثقل على ما لشريكه] فأضر به.
ثم قال: لو تراضيا بهدمه في الحال واقتسام آلته، جاز، والمنع من قسمته بناء قائماً وتحديد ما لكل واحد منهما متصلاً.
وقد سلك الفوراني في حالة التراضي طريقاً آخر، فقال: إن اقتسماه بالقرعة، لم يجز، وإن لم يكن بالقرعة فعلى وجهين.
قلت: وهذا منه يدل على أنهما إذا تقاسما بأنفسهما تلزم القسمة بنفس إخراج القرعة؛ كما ذكره الشيخ من قبل.
قال: وإن طلب أحدهما [أن يقسم] طولا في كمال العرض، وامتنع الآخر- فقد [قيل]: لا يجبر؛ لما ذكرناه من علة القول الثاني في مسألة العرصة؛ كذا قاله ابن الصباغ.
ووجهه الماوردي بأنه قد لا يقدر على هدم النصف الذي صار إليه إلا بهدم شيء من نصيب صاحبه؛ فصارت ضرراً عليهما؛ وهذا [هو] ظاهر قول أبي إسحاق وبه جزم في "الوجيز".
وقال الرافعي: إنه أشبه الوجهين، والنواوي والمستظهري قالا: إنه أصحهما.
وقيل: يجبر، [وهو الأصح]، وكذا قال في "المهذب" تبعاً للبندنيجي،
وتبعهما مجلي؛ لإمكان قسمته على وجه ينتفعان به، والضرر فيه يسير؛ فأشبه العرصة، وهذا قول ابن أبي هريرة.
وعلى هذا: إن كان القطع يضر بالحائط، لم يقطع، بل يجعل بينهما علامة.
وإن كان القطع لا يضر به، قطع بمنشار إن كان بالطين واللبن؛ كالثوب إذا كان قطعه لا يضر.
ولا خلاف في جواز هذه القسمة بالتراضي؛ صرح به الماوردي وغيره.
أما إذا لم يكن لهما إلا حائط دون العرصة؛ كما إذا كانت أرضه محتكرة، ففي "الحاوي": أنه لا يجوز قسمته جبراً؛ لأن البناء لا يعلم ما فيه- ليتساويا في الاقتسام به- إلا بعد هدمه، وفي هدمه ضرر؛ فلم يدخله إجبار، فإن اصطلحا عليه جاز.
قال: وإن كان بين رجلين منافع، أي: كعين لا تقبل القسمة: كالعبد، والدابة، والدار اللطيفة؛ أو تقبلها كما في الدار الفيحاء ذات البيوت والأرض، ولكنها مستأجرة لهما، أو موصى لهما بمنافعها.
قال: وأرادا قسمتها بينهما بالمهايأة- أي: بأن تجعل العين في يد أحدهما يوماً، أو أسبوعاً، أو شهراً، أو سنة، ثم في يد الآخر مثل [تلك المدة]- جاز؛ لأن المنافع كالأعيان، وقد رضي المتأخر منهما بتأخير حقه؛ فلا يعترض عليه، وهذا بخلاف ما لو كان بينهما بقرة حلوب، فأرادا المهايأة في لبنها، لم يجز؛ لأن اللبن ربوي، وهو مجهول؛ قاله القاضي الحسين والبغوي، وهذه القسمة يجوزأن يعين فيها من يستوفي المنافع أولاً، ويجوز ألا يعين ويقرع بينهما؛ كما ذكر في "التهذيب".
وإذا تهايآ فالنفقة المعتادة على العين إذا احتيج إليها كالنفقة على البهيمة، والعبد على مستوفي المنفعة في مدته؛ قاله في "المهذب"، و"التهذيب"، وغيرهما.
والمؤن النادرة: كزكاة الفطر، والفصد، والحجامة- على من تكون؟ حكمها حكم الأكساب النادرة: كالوصية، والهبة، ووجدان الركاز في زمن المهايأة، ولمن تكون؟ فيها قولان:
أحدهما: لمن وقعت في نوبته، وهو الأصح في "الكافي"، والأظهر في "الرافعي"؛ فعلى هذا تكون المؤن النادرة عليه.
والثاني- وهو المختار في "المرشد"-: تكون بينهما؛ وعلى هذا لا تحسب المدة التي اكتسب فيها ذلك من مدة من هو في يده؛ كما نقله ابن شداد عن "البيان"، وتكون المؤن النادرة عليهما.
قلت: وكذلك المعتادة في زمن تحصيل ذلك، والله أعلم. وقد تقدم ذكر القولين في باب اللقطة.
قال الرافعي هاهنا: وينبغي أن ينظر في الكسوة إلى قدر النوبة حتى تبقى على الاشتراك إن جرت المهايأة مياومة.
فرع: إذا استوفى أحدهما نوبته، ورجع عن المهايأة، فقد أطلق القاضي احلسين هاهنا القول بأنه لا ينفعه الرجوع حتى لو اتفقا على المهايأة، لزمت؛ لأنها نوع قسمة، والقسمة تلزم بالتراضي.
وجزم في "الذخائر" بجواز الرجوع بعد التراضي بها، وحكى وجهين في جواز رجوعه بعد استيفاء نوبته.
والرافعي جزم بجواز الرجوع في أثناء نوبته، وحكى الوجهين في الجواز بعد استيفائها، وهما في "النهاية" مفرعان على القول بعدم الإجبار على المهايأة ابتداء؛ كما هو المذهب، وقال: إن أقيسهما جواز الرجوع. وقد بناهما البغوي هاهنا، وكذا القاضي الحسين في كتاب الصلح- كما أظنه- على أن أحدهما لو امتنع منها ابتداء، هل يجبر عليها أم لا؟ وفيه خلاف سنذكره. فإن قلنا: لا يجبر، كان له أن يرجع، ويغرم نصف أجرة مثل ما استوفاه، وإلا فلا يرجع، ويستوفي الآخر مدته.
وقضية هذا البناء: ألا يفرق بين ما قبل الاستيفاء وما بعده.
وقد بنى البغوي على الخلاف- أيضاً- ما إذا جاءت النوبة لأحدهما، فامتنع من استيفائها، فإن قلنا بالإجبار فلا شيء على الآخر؛ لأنه المضيع لحقه، وإلا كان له الامتناع، وطلب نصف أجرة المثل.
قلت: وينبغي أن يجب عليه نصف المؤنة.
قال: وإن أراد أحدهما ذلك، وامتنع الآخر، لم يجبر الممتنع؛ لأن حق كل
واحد منهما معجل؛ فلا يجبر على تأخيره بالمهايأة؛ وهذه العلة شاملة لكون الأصل في ملكهما وكونه في غير ملكهما.
وعلل ابن الصباغ المنع في حالة كون الأصل [في] ملكهما وكونه في غير ملكهما: بأنه إذا كان الأصل مشاعاً فالمنفعة تابعة، ولا يصح أن ينفرد ببعض المنفعة مع الاشتراك في الأصل إلا على سبيل المعاوضة، وهي غير واجبة.
وعلله القاضي الحسين في "فتاويه" في كتاب الإجارة، في حالة عدم ملكهما الأصل بعلة أخرى مع العلة الأولى، وهي أن الرقبة ليست مملوكة لهما.
قال في "المهذب": ومن أصحابنا من قال: إنه يجبر على المهايأة كما يجبر على قسمة الأعيان.
وقد حكى القاضي الحسين والإمام ذلك عن ابن سريج؛ وعلى هذا فالمبدوء به من خرجت له القرعة.
قال الرافعي: ويجوز أن يكون الحكم في قدر النوبة كذلك.
والصحيح المنصوص عليه: الأول، وبه جزم ابن الصباغ، ثم قال: ويخالف قسمة الأصل؛ لأنه إفراز للنصيبين، وتمييز للحقين.
والشيخ فرق بأنه ليس في قسمة الأصل تأخير واحد منهما عن حقه، بخلاف ما نحن فيه.
وقد يظهر من الفرقين تخريج خلاف فيما لو كانت الدار المستأجرة لهما- أو الموصى لهما بمنفعتها، وقد تنازعا في المهايأة- ذات بيتين متساويين في الصورة والمنفعة، فأراد أحدهما أن يكون له منفعة [هذا] البيت الآخر [والآخر منفعة البيت الآخر]، وامتنع شريكه:
فإنا إذا نظرنا إلى ما علل به ابن الصباغ [المنع] في المسألة السابقة، وجدناه موجوداً في هذه الصورة مع قيام الفرق الذي ذكره أيضاً، وقضيته: عدم الإجبار هنا، وهو ما اختاره في "المرشد".
وإن نظرنا إلى ما علل به الشيخ، وجدناه مفقوداً فيها مع انعدام الفرق الذي أبداه، وقضية ذلك: الإجبار، كالأعيان.
وقد صرح القاضي الحسين في "فتاويه" بحكاية وجهين في هذه الصورة، وهي ما إذا استأجر أرضاً للزراعة، وأراد المهايأة فيها بأن يكون لكل واحد قطعة منها، وهي مستوية؛ بناء على أن مأخذ [المنع السابق] تأخير حق الأحق، وكون الرقبة ليست مملوكة لهما، فإن قلنا بالأول أجبرنا هنا، وإلا فلا.
فإن قيل: قضية كلامه الجزم بالإجبار في مثل هذه الصورة إذا كانت الدار أو الأرض لهما.
قلت: قد قدمت أن محل الكلام في الإجبار على المهايأة إذا كانت الدار لا تقبل القسمة؛ كما صوره البغوي، والغزالي، وصاحب "الكافي"، ومجلي، وأشار إليه القاضي أيضاً، والإمام، أما إذا [كانت] تقبلها، فلا إجبار على المهايأة بحال؛ كما قاله الرافعي، وابن شداد. وإذا كانت الصورة كما فرضنا فهي قابلة للقسمة؛ فلا إجبار جزماً، وهو قضية كلام ابن الصباغ في الصورة الأولى، والله أعلم.
ثم على المذهب الصحيح: إذا دام تنازعهما، وأهملوا الملك، فماذا يصنع به؟
قال مجلي من أصحابنا: يتركوا إلى أن يصطلحوا.
وقيل: إنه يباع الثمن.
قال الإمام: وهذا لا أصل له، ولا أعده من المذهب، وإنما هو قول بعض السلف.
وقال في "التهذيب": المذهب أنه لا يباع عليهما؛ لأنهما مكلفان مطلقان، بل يؤجر عليهما، وتصرف الأجرة إليهما. وهذا ما صححه ابن كج، وصاحب "الكافي"، وبه يحصل في المسألة ثلاثة أوجه.
ولو تركوا التنازع، قال الإمام: تركناهم.
فرع: لو كان بينهما دين وأرادا قسمته، قال في "الحاوي": إن كان على غريم
واحد، فقسمته فسخ الشركة فيه، فإذا فسخت انقسم الدين في ذمة الغريم، وصار لكل واحد منهما قدر حقه منه، ويجوز أن ينفرد باقتضائه وقبضه. ولو لم تفسخ الشركة لم يجز لأحدهما أن ينفرد باقتضائه وقبضه منه، و [كان ما] يقبضه مشتركاً بينهما إن قبضه من غير إذن شريكه، وإن أذن له في قبض حصته منه جاز، وكان إذنه فسخاً للشركة.
ولا وجه لمن خرجه على القولين في المكاتب إذا أدى إلى أحد الشريكين مال كتابته بإذن شريكه، أنه على قولين، [و] الفرق بينهما: ثبوت الحجر على المكاتب، وعدمه في الغريم.
والفوراني حكى وجهين في جواز انفراد أحدهما بما أخذ مع الإذن.
فإن كان الدين على جماعة، قال الماوردي: فلا يجبر واحد منهما على انحصار حقه على شخص من الغرماء؛ لأن الغرماء يتفاضلون في الذمة واليسار، وفي جواز قسمته اختياراً قولان، أصحهما عند أبي الفرج السرخسي: المنع، وبناهما الماوردي على أن القسمة بيع أو إفراز: فإن قلنا: إفراز، جازت، وإلا فلا؛ إذ بيع الدين بالدين لا يجوز.
وقد حكى الرافعي طريقة قاطعة بالمنع، وهي التي أوردها الفوراني، وصاحب "العدة"، وصححها الرافعي، وقال: إنا إذا قلنا: القسمة بيع، فظاهر، وأما إذا قلنا: إنها إفراز، فإفراز ما في الذمة ممتنع إلا بقبضه.
قال [في]"الحاوي" و"البحر": وطريق صحتها على قول المنع: أن يحيل كل واحد منهما لأصحابه بحقه على الغريم الذي لم يختره، ويحيله الآخر [بحقه] على الغريم الذي اختاره؛ فيتعين ذلك بالحوالة دون القسمة.
قال: ومتى أراد القاسم أن يقسم عدل السهام: إما بالقيمة إن كانت مختلفة، أي: مثل أن تكون الأرض بين ثلاثة أثلاثاً، وذرعها ستة أجربة، قيمة جريب منها عشرون؛ لإمكان سقيه بالسيح، وقيمة جريبين عشرون؛ لبعدهما عن السقي
بالسيح، وقيمة باقيها عشرون؛ لزيادة البعد- فيجعل الجريب الأول سهماً، والجريب الثاني والثالث سهماً، والثلاثة الباقية سهماً؛ لأن ذلك هو العدل، وهذا إذا لم [تمكن] التسوية بين الشركاء في الجيد والمتوسط والرديء، كما تقدم.
قال: أو بالأجزاء إن كانت غير مختلفة، أي: مثل أن كانت الأرض متساوية القيمة في مسألتنا؛ فتجعل ثلاثة أجزاء، كل جزء جريبان، وكذا لو كانت منقسمة إلى الرديء، والجيد، والمتوسط، والجيد في أولها، والمتوسط في وسطها، والرديء في آخرها، وإذا قسمت أثلاثاً صار لكل واحد منهم من الجيد والمتوسط الرديء مثل ما صار للآخرين، فهذه أيضاً تقسم بالأجزاء.
قال: أو بالرد؛ إن كانت القسمة تقتضي الرد، أي: كثلاثة أعبد بين ثلاثة، قيمة واحد منهم أربعمائة، وآخر خمسمائة، وآخر ستمائة- فيجعل الذي قيمته خمسمائة سهماً، والذي قيمته أربعمائة [مع مائة] تؤخذ ممن يقع الذي قيمته ستمائة له سهماً، والآخر سهماً.
قال الأصحاب: ويعين القاسم: أن هذا الأول، وهذا الثاني، وهذا الثالث، والخيرة إليه؛ [كما] صرح به الإمام، وله أن يجعل الابتداء في الأراضي والدور ونحوها من أي جهة شاء.
قال: فإن كانت الأنصباء متساوية: كالأرض بين ثلاثة [أنفس] أثلاثاً، أقرع بينهم.
[و] الأصل في الإقراع: قوله تعالى: {وَمَا كُنْتَ لَدَيْهِمْ إِذْ يُلْقُونَ أَقْلامَهُمْ أَيُّهُمْ يَكْفُلُ مَرْيَمَ وَمَا كُنْتَ لَدَيْهِمْ إِذْ يَخْتَصِمُونَ} [آل عمران: 44]، وقوله تعالى في يونس صلى الله عليه وسلم:{فَسَاهَمَ} [الصافات: 141].
قال: فإن [شاء] كتب أسماء الملاك في رقاع متساوية- أي: يكتب في كل رقعة اسم رجل منهم- وجعلها في بنادق من طين- أي: أو شمع- متساوية؛
لأنها لو اختلفت في القدر لكانت البندقة الكبيرة تخرج، وتسبق إلى اليد، وفي ذلك ترجيح لصاحبها.
لكن هذه التسوية من طريق الوجوب، أو الاحتياط؟ فيه تردد للشيخ أبي محمد، ورأى الإمام الأولى منه الثاني.
قال: ويجعلها في حجر رجل لم يحضر ذلك، أي: الكتابة والبندقة؛ ليخرج على السهام؛ لأنه إذا فعل ذلك رجع الخروج إلى الوفاق المحض من غير تحيل قصد في الإخراج.
قال الماوردي والإمام وغيرهما: وتوضع البنادق في الحجر مغطاة بعد تجفيفها. وهذا في "تعليق" القاضي أبي الطيب في كتاب العتق معزي إلى النص.
قال الأصحاب: ويقول القاسم للمخرج: أخرج بندقة [على السهم الأول]، فإذا أخرجها كسرت، ومن كان اسمه فيها تعين حقه فيه، [ثم يقول له: أخرج بندقة على السهم الثاني، فإذا أخرجها كسرت ومن كان اسمه فيها تعين حقه فيه]، وتعين السهم الثالث للشريك الثالث، ولا يحتاج إلى إخراج البندقة الثالثة.
قال: وإن شاء كتب السهام- أي: في الرقاع- فيكتب في رقعة: السهم الأول، وفي رقعة: السهم الثاني، وفي رقعة: السهم الثالث.
قال: ليخرجها على الأسماء، أي: يقال له: أعط كل شخص بندقة، وإذا أعطاه كان له من السهام المكتوب فيها.
وعلى هذا المثال يفعل فيما قل من العدد أو كثر؛ وهذا ما أورده العراقيون، وهو على وجه الاحتياط.
فإن لم يحتط في القرعة بما ذكرناه، واقتصر على أن أقرع بينهم بحصاة أو أقلام- جاز؛ حكى الواقدي أن رسول الله صلى الله عليه وسلم "قَسَّمَ غَنَائِمَ بَنِي قُرَيْظَةَ عَلَى خَمْسَةِ أَجْزَاء، وَأَقْرَعَ بِالنَّوَى".
وقال الماوردي في كتاب العتق: إنه متى أخل بشيء مما نص عليه الشافعي [من] الأشياء الخمسة، وهي المذكورة في الكتاب- فقد أساء.
قال: وإن كانت الأنصباء مختلفة، مثل: أن يكون لواحد السدس، وللثاني الثلث، وللثالث النصف- قسمها على أقل الأجزاء، وهي ستة أسهم؛ لاشتمال الأكثر [على الأقل؛ فيمكن إعطاؤه، بخلاف ما لو قسم على الأكثر] من الأجزاء؛ فإنه لا يمكن أن يعطي الأقل.
قال أبو إسحاق المروزي: ولو كان فيهم من له سدس وربع، قسمها على اثني عشر، ولو كان فيهم من له سدس وثمن، قسمها على أربعة وعشرين، فيقسم أبداً من أقل ما تخرج منه السهام كلها.
قال الفوراني: ونذكر في مسألتنا: الأول، والثاني، والثالث، والرابع، والخامس، والسادس.
قال: وكتب أسماء الشركات في ست رقاع: لصاحب السدس رقعة، ولصاحب الثلث رقعتان، ولصاحب النصف ثلاث رقاع، ويخرج على السهام، وإنما فعل ذلك، ولم يقتصر على ثلاث رقاع؛ لأن لصاحب النصف وصاحب الثلث مزية بكثرة المال؛ فكان لهما مزية في كثرة الرقاع؛ فإن في كثرتها فائدة، وهي أن يكون لهما غرض في الأخذ من أول الأرض، فإذا كانت سهامهما أكثر، كان أقرب إلى خروج اسمهما.
قال: فإن خرج اسم صاحب السدس، أعطي السهم الأول، ثم يقرع بين الآخرين، فإن خرج اسم صاحب الثلث أعطي السهم الثاني، والثالث- أي: وهو الذي يلي الثاني- بلا قرعة؛ لأنا لو أقرعنا، فلربما خرج اسم صاحب النصف؛ فيستحق الثالث، وذلك يؤدي إلى التفريق بين ما حصل لصاحب الثلث أولاً، وما يحصل له ثانياً، وذلك ضرر عليه، وكذا على صاحب النصف إن فعل معه مثل ذلك، والقصد بالقسمة إزالة الضرر.
وهذا كما قلنا فيما إذا أراد قسمة العرصة بين الدارين عرضاً في كمال الطول: لا تدخل القرعة، بل يعطي كل واحد ما يلي ملكه.
قال: والباقي لصاحب النصف- أي: بلا قرعة- لأنه لم يبق سواه؛ فتعين.
قال: وإن خرج اسم صاحب النصف أولاً، أعطي ثلاثة أسهم- أي: متوالية- لما ذكرناه، ثم يقرع بين الآخرين على نحو ما تقدم، أي: فإن خرج اسم صاحب السدس، أعطي السهم الرابع، [وكان الباقي لصاحب الثلث.
وإن خرج اسم صاحب الثلث، أعطي السهم الرابع] والخامس، وتعين السادس لصاحب السدس.
ولو خرج اسم صاحب الثلث أولاً، أعطي الأول والثاني، ثم يقرع بين الآخرين: فإن خرج اسم صاحب النصف، أعطي الثالث والرابع والخامس، وتعين السادس لصاحب السدس.
وإن خرج اسم صاحب السدس أعطي الثالث، والباقي لصاحب النصف.
ثم على هذا المثال فيما قل من السهام أو كثر يفعل.
قال: ولا تخرج السهام على الأسماء في هذا القسم؛ لأنه ربما خرج السهم الثاني أو الخامس لصاحب السدس؛ فيقطع نصيب صاحب الثلث، أو النصف؛ فيستضر به.
قال في "المهذب": ولأنه ربما خرج الرابع لصاحب النصف؛ فيقول: آخذه وسهمين قبله، ويقول الآخران: بل تأخذه وسهمين بعده؛ فيؤدي إلى الاختلاف والخصومة.
وقد ذكر البندنيجي المعنيين.
وهذا ما حكاه الأكثرون، ومنهم القاضي الحسين، والبغوي.
وحكى المراوزة أن الشافعي نص على أنه يكتب أسماء الملاك في الرقاع، ثم يخرج الرقاع على الأجزاء المعينة؛ كما ذكرنا، ونص في كتاب العتق على أن المريض إذا أعتق عبيداً لا يملك غيرهم، واحتجنا إلى رد العتق إلى الثلث: أنه يكتب في رقعة: الرق، وفي رقعة: الحرية، ولم يذكر كتبه أسامي العبيد، وأسامي الورثة، وقياس ذلك فيما نحن فيه: أن يكتب في الرقاع أعيان الأجزاء المعدلة، ثم يخرج
على الأسماء، وأن الأصحاب اختلفوا في ذلك:
فمنهم من قال: في المسألتين قولان؛ بالنقل والتخريج.
ومنهم من قال: ليست على قولين، لكنا نقرر النصين، والفرق: أن الحرية [حق لله] تعالى، وليست من حقوق العبيد؛ فإنهم لو أسقطوها لم تسقط؛ فكانت كتابة الحرية أولى، والعين المقسومة ملك الشركاء حقيقة فكتب أسمائهم أولى.
وفرق الرافعي بما ذكرناه من علة المنع، ثم قال: وهذا الخلاف في الجواز أو الأولوية؟ عبارة كتب شيوخنا تشعر بوضعه في الجواز.
وقال الإمام- وتبعه الغزالي-: إنه في الأولى باتفاق الأصحاب. وهو الأولى، والمحذور الذي أبداه القائلون بعدم جواز إخراج الأجزاء على الأسماء مندفع: أما ما ذكره في "المهذب"؛ فلأنه يجوز أن يقال: لا يبالي برأي الشركاء، بل يتبع نظر القاسم، كما في الجزء المبدوء به، واسم الشريك المبدوء به.
وما ذكره غيره؛ فلأنه إنما يلزم إذا أخرج أولاً اسم صاحب السدس، وهو في غنية عنه- بأن يبدأ باسم صاحب النصف: فإن خرج الأول باسمه، فله الأول والثاني والثالث، وإن خرج الثاني فكذلك؛ فيعطي مع الثاني ما قبله وما بعده، وإن خرج الثالث، ففي "شرح مختصر الجويني": أنه يتوقف فيه، ويخرج لصاحب الثلث، فإن خرج الأول، فله الأول والثاني، ولصاحب النصف الثالث واللذان بعده؛ وكذا لو خرج الثاني. وإن خرج الخامس، فله الخامس والسادس؛ ثم العمل هكذا. ولم يستوعب باقي الاحتمالات.
قال: وكان يجوز أن يقال: إذا خرج لصاحب النصف الثالث، فله الثالث واللذان قبله، وإن خرج الرابع فله الرابع واللذان قبله، ويتعين الأول لصاحب السدس، وإن خرج الخامس فله الخامس واللذان قبله، ويتعين السدس لصاحب السدس، وإن [خرج] السادس فله السادس واللذان قبله.
وإذا أخذ زيد حقه، ولم يتعين حق الآخرين يخرج رقعة أخرى باسم [أحد]
الآخرين؛ فلا يقع تفريق.
على أنه يمكن أن يقال: يبدأ باسم صاحب السدس، فإن خرج باسمه الأول والثاني دفع الأول إليه، وإن خرج الخامس والسادس، دفع السادس إليه، ثم يخرج باسم أحد الآخرين؛ فلا يقع تفريق.
وإن خرج له الثالث، دفع إليه، وتعين [الأول والثاني] لصاحب الثلث، والثلاثة الأخيرة لصاحب النصف.
[وإن خرج له الرابع، دفع إليه، وتعين الخامس والسادس لصاحب الثلث، والثلاثة الأولى لصاحب النصف].
ويمكن أن [يقال: يبدأ] باسم صاحب الثلث، فإن خرج له الأول أو الثاني، دفع إليه ذلك، وإن خرج الخامس والسادس دفعاً إليه، ثم يخرج باسم أحد الآخرين: فإن خرج الثالث، فله الثالث والثاني، ويتعين الأول لصاحب السدس، والثلاثة الأخيرة لصاحب النصف. وإن خرج الرابع فله الرابع والخامس، ويتعين السادس لصاحب السدس، والثلاثة الأولى لصاحب النصف.
والذي حكاه صاحب "البحر": أن من أصحابنا من خرج من المسألة هاهنا إلى مسألة العتق قولاً، وجعل فيها قولين بالنقل والتخريج. ومنهم من فرق بأنه لو كتب أسماء الأجزاء ربما يؤدي إلى تفريق ملك واحد؛ فلا يجوز إلا أن يكتب أسماء المستحقين، وفي العتق يجوز كلاهما؛ لأنه لا يوجد هذا المعنى. وكأنه [أراد- والله أعلم-] الفوراني؛ لأنه هكذا قال.
[قال]: وقيل: يقتصر على ثلاث رقاع لكل واحد رقعة- أي: يكتب فيها اسمه، وتكون السهام ستة؛ لأن صاحب النصف، وصاحب الثلث إنما يأخذ بالرقعة جزءاً واحداً، ثم يأخذ ما يليه إلى تمام حقه؛ فلا فائدة في كتب ما زاد
عليه؛ وهذا ما اقتضى إيراد ابن الصباغ وكذا القاضي [أبي] الطيب ترجيحه.
وحكي أن ابن أبي هريرة قال: إنه لا فائدة في كتب ست رقاع إلا سرعة خروج اسم صاحب الأكثر، ولا غرض في سرعة خروج اسمه.
وقال في "البحر": إنه ظاهر كلام الشافعي.
وقال في "الوسيط": إنه الصحيح. [وهو في ذلك متبع لصاحب "التقريب"؛ فإن الإمام حكى عنه [أنه قال]: إنه الصحيح]، ولا معنى لرعاية غرضه في طرف الدار؛ إذ ليس هو بالطرف أولى من صاحب السدس، ولو كان أولى بالطرف؛ لكثرة نصيبه، لكان أولى بما يعينه من غير قرعة؛ وعلى هذا: إن خرج اسم صاحب النصف أولاً تعين حقه في السهم الأول والثاني والثالث، ثم يقرع بين الآخرين، فإن خرج اسم صاحب الثلث تعين حقه في الرابع والخامس، وتعين السادس لصاحب السدس، وباقي الأقسام يعرف حكمها مما تقدم.
ولا يجوز أن يخرج السهام على الأجزاء في هذه القسمة- أيضاً- على هذا القول.
قال القاضي [أبو] الطيب، وابن الصباغ: لأنا إذا قلنا له: أخرج على صاحب السدس، فربما خرجت رقعة النصف أو رقعة الثلث؛ فلا يكون لذلك فائدة.
والصحيح عند العراقيين- كما حكاه الإمام عنهم-: الأول، [و] هو الذي أورده الماوردي، وقال البندنيجي وغيره: إنه المنصوص، وعليه أكثر أصحابنا.
وفي "البحر" نسبه إلى أبي إسحاق، ثم قال: وقد قيل: إنه المذهب، لما ذكرناه من الفائدة. وكأنه- والله أعلم- يشير إلى القاضي الحسين؛ فإن هذه عبارته في "تعليقه".
ثم هذا الخلاف في الأولى، حتى إذا وقعت القسمة على أي وجه [كان صحت]، أو في الوجوب حتى إذا وقعت [القسمة] موافقة لقول أحد القائلين، كانت جائزة عنده صحيحة، وغير جائزة عند مخالفه غير صحيحة؟
قال الإمام: الذي استبنت من كلام الأئمة [بعد التأمل]: الأول، [وقد] رأيت في كلام الشيخ أبي علي ما يدل على الثاني، وحكى [في كتاب] العتق ما يؤيده؛ فإنه قال فيما إذا أعتق المريض ثلاثة أعبد، لا مال له غيرهم، وهم متساوون في القيمة، وقلنا: يكتب في الرقاع الحرية والرق-: إن الأصحاب قالوا: الرق ضعف الحرية؛ فيجب أن تكون الرقاع على [هذه النسبة؛ فيكتب للحرية رقعة، وللرق رقعتين؛ لتكون الرقاع على] نسبة المطلوب في القلة والكثرة؛ فإن ما يكثر فهو حري أن يسبق إلى اليد.
وفي كلام الأصحاب ما يدل على استحقاق ذلك.
ومنهم من يقول: هذا استصواب، وإلا فيكفي رقعة للحرية، وأخرى للرق.
فرع: إذا اقتسما ملكاً، ولم يكن لواحد منهما طريق يختص به- أخرجا طريقين من ملكهما، والعبرة في سعته عندنا بما تدعو إليه الحاجة في الدخول والخروج على ما جرت به العادة.
قال: وإذا تقاسموا، ثم ادعى بعضهم على بعض غلطاً- أي: وعين قدره- فإن كان فيما تقاسموا بأنفسهم، لم تقبل دعواه، أي: سواء كانت هذه القسمة مما يدخلها الإجبار، أو لا يدخلها: كقسمة الرد؛ كما صرح به البندنيجي؛ لأنه رضي بأخذ حقه ناقصاً، فهو كما لو اشترى شيئاً يحسبه بثمن المثل، فتبين أنه بأكثر منه وقد غبن؛ كذا علله العراقيون، وحكاه الإمام عنهم.
ووجهه في "البحر" بأن في دعواه تكذيباً لنفسه؛ فلم تسمع، ومقتضى التعليل الأول: أن الغرماء لو اعترفوا بالغلط، لم يفده اعترافهم شيئاً، [وبه صرح] في "الوسيط" عن العراقيين.
وفي "الحاوي" الجزم بأنهم إذا اعترفوا بالغلط، نقضت القسمة، واستؤنفت على الصحة، وهو مقتضى التعليل الثاني كما قلنا مثله في مسألة المرابحة؛ ولهذا قال في "البحر": إن بعض أصحابنا بخراسان قال: لو قال المدعي في هذه الصورة: إن
شركاءه يعلمون بالغلط، [يلزمهم اليمين على نفي العلم.
ومقتضى التعليلين: أنه لو أقام بينة بالغلط] لم تقبل، وقد صرح به في "المهذب"، ووجهه: بأنه يجوز أن يكون قد رضي بدون حقه.
والغزالي في "الوجيز" بنى ذلك على أن القسمة بيع، أو إفراز؟ فإن قلنا: إنها بيع، وجرى لفظ تملك، فلا ينفعه الغلط، وهو كالغبن لا يوجب النقض، وفيه: وجه أنه ينقض. وإن قلنا: إنها إفراز؛ فتتوجه اليمين، وتنقض عند قيام البينة.
وهذا أخذه من كلام الإمام في صحة القسمة في حال علم الشركاء في الابتداء بالتفاوت في المقسوم؛ فإنه قال فيها: الذي يقتضيه كلام الأصحاب صحة هذا، وفيه غائلة.
والوجه أن نقول: إن قلنا [إن] القسمة إفراز، فلا تصح القسمة إلا مع التعديل، وإن قلنا: إنها بيع، فإذ ذاك يجوز أن تلزم بالرضا مع العلم.
ثم يتضح عندي اشتراط لفظ البيع [هاهنا، [فإنا:] إنما نقيم لفظ "القسمة" مقام لفظ "البيع"] إذا جرت حقيقة القسمة، وحقيقتها التعادل، وهذا لطيف حسن.
قال: وإن قسمه قاسم من جهة الحاكم، فالقول قول المدعي عليه مع يمينه [أي:] إنه لا فضل معه، أو: لا يستحق عليه ما ادعاه، ولا شيئاً منه؛ لأن الظاهر صحة القسمة، وأداء الأمانة؛ كما أن الظاهر في حكم الحاكم جريانه على الصحة.
قال: وعلى المدعي البينة، أي: إن أراد إثبات الغلط، كما إذا ادعى أن الحاكم غلط عليه في الحكم، وأراد إثباته- فإن عليه البينة بذلك، فإن أتى بعدلين من أهل المعرفة بالقسمة، شهدا بالغلط بعد المساحة، نقضت القسمة.
قال في "البحر": لأن ذلك ليس بأكثر من الحكم، ولو قامت البينة أن الحاكم غلط في الحكم، نقض؛ كذلك هاهنا.
وقد ألحق أبو الفرج السرخسي بقيام البينة بالغلط ما إذا عرف أنه يستحق ألف
ذراع، ومسح ما أخذه فإذا هو تسعمائة.
وعن كتاب ابن كج: أن أبا الحسين ذكر [أن] ابن أبي هريرة حكى قولاً أن على الشريك البينة على القسمة الجارية عادلة، وأن مدعي الغلط لا يحتاج إلى البينة، وأن أبا إسحاق فصل فقال: إن كان يدعي الغلط؛ لأن القاسم الذي قسم لا يحسن القسمة، ولا يعرف المساحة والحساب- فالأصل ما يقوله؛ فعلى صاحبه البينة.
فرع: إذا لم يكن للمدعي بينة، وطلب يمين الشركاء، فامتنعوا من اليمين- حلف المدعي، ونقضت القسمة.
وإن حلف البعض، ونكل البعض، فحلف المدعي- قال في "الحاوي": بطلت القسمة في حق الناكل، وأمضيت في حق من حلف.
وحكى الإمام أن صاحب "التقريب" قال في هذه الحالة: إنا إذا قلنا: يمين الرد كالبينة، فقد قال بعض أصاحبنا بنقض القسمة في حق الكل: من حلف، ومن نكل؛ كما لو أقام بينة. وهذا سخيف، لا أصل له؛ فإن يمين الرد [تكون كالبينة في حق الناكل فحسب، فأما من حلف، قد رد يمين الرد] عن نفسه.
ولو ادعى على القاسم بأنه غلط في القسمة؛ ليرجع عليه بالأجرة، فدعواه غير مسموعة، إلا أن تكون له بينة، فإنه ليس له تحليفه؛ فإنه حاكم أو شاهد، وكل منهما لا يحلف.
نعم، [قد] يظهر أن يجيء [فيه] ما ذكرناه عن القاضي فيما إذا ادعى الخصم على القاضي: أنه حكم له بكذا في زمن ولايته؛ بناء على أن اليمين مع النكول كالإقرار؛ فإنه لو أقر بالغلط في القسمة، كان في الغرم كما لو قامت البينة بغلطه؛ كما صرح به القاضي الحسين [هنا]، وتبعه صاحب "التهذيب"، و"الكافي" فيه، [و] قالا: إنه لا يقبل قوله بالنسبة إلى نقض القسمة؛ كما لا يقبل قول القاضي: إني
غلطت، أو تعمدت الظلم في نقض الحكم، إذا كذبه المحكوم له.
قال: وإن نصبا من يقسم بينهما، أي: حكماً، فإن قلنا: يعتبر التراضي بعد خروج القرعة، أي: ورضوا بها- لم يقبل قوله، أي: دعواه؛ لأنه رضي بأخذ حقه ناقصاً؛ فكان كما لو تقاسما بأنفسهما.
قال الإمام: وهذا لا يجب أن يكون مقطوعاً به؛ فإن الرضا كان على تقدير التعديل والاستوءا، فإذا ظهر خلاف ذلك، ظهر الحكم بإفساد القسمة فكأن الرضا مقيد بشرط الاعتدال، وهذا كتقديرنا البيع بشرط السلامة. قال: وهذا متجه.
أما إذا لم يرضيا بعد خروج القرعة قالقسمة لم تتم؛ فله الرجوع وإن لم يدع الغلط.
قال: وإن قلنا: لا يعتبر [التراضي]، فهو كالحاكم؛ لوقوع ذلك جبراً.
قال الإمام: وهذا فيه نظر؛ فإن قاسم القاضي مولى أو شاهد، والذي ينصبه الشركاء ليس في هذا المعنى، والمسألة محتملة.
قلت: المسألة مصورة- كما ذكرنا- فيما إذا نصباه حكماً، وقلنا: إن التحكيم صحيح، وإن حكمه يلزم بنفسه، وإذا كان كذلك، فهو كقاسم الحاكم.
نعم، ما ذكره كان يتجه أن لو كان الخلاف فيما إذا نصباه وكيلاً، وليس في هذه الحالة عندهم خلاف في اعتبار التراضي بعد خروج القرعة؛ ولهذا قال القاضي أبو الطيب: إنه لا تسمع الدعوى جزماً؛ كما لو تقاسما بأنفسهما. وأشار إلى ذلك ابن الصباغ أيضاً.
قال: وإن كان فيها رد، أي: وقد [قسمها] قاسم الحاكم، وقلنا: يعتبر التراضي بعد خروج القرعة- لم يقبل قوله، أي:[في] دعواه.
وإن قلنا: لا يعتبر فهو كقسمة الحاكم، أي: التي لا رد فيها، وقد سبق بيانه.
فرع: لو تنازعا في بيت من دار اقتسماها، فادعى كل واحد منهما: أنه وقع [له] في سهمه، ولا بينة- تحالفا، ونقضت القسمة كما في المتبايعين؛ كذا قاله في "المهذب"، و"الحاوي".
والتنازع المذكور يفرض فيما إذا ادعى كل واحد منهما: أن البيت ما دخل في حد الآخر؛ بأن حده ينتهي بدونه؛ كما صوره في "البحر"، وقال: إن ما ذكرناه من الحكم منصوص عليه. ثم حكى أن أحدهما لو قال لصاحبه: حدي ينتهي إلى الموضع الفلاني، وأنت غصبته، وأضفته إلى حصتك- فالقول قول من هو في يده؛ لأنه اعترف له باليد، وادعى الغصب.
[فرع] آخر: إذا تناكر الشركاء، فادعى أحدهم القسمة، وأنكرها الباقون- فإن لم تكن متعلقة بقاسم من جهة الحاكم، قال الإمام: فالقول قول الباقي، وإن تعلقت بقاسم القاضي فالرجوع إليه؛ فإنه حاكم، أو شاهد.
قال: وإن تقاسما، ثم استحق من حصة أحدهما شيء معين لم يستحق مثله من حصة الآخر- بطلت القسمة؛ لأن لمن أخذ ذلك من نصيبه أن يرجع في شيء من سهم شريكه؛ فتعود الإشاعة، ويفوت مقصود القسمة.
ويندرج فيما قاله الشيخ ما إذا تقاسم الورثة التركة، ثم بان أن مورثهم أوصى بعين منها، وهي تخرج من الثلث، وقد صرح به القاضي الحسين وغيره.
قال: وإن استحق مثله من حصة الآخر- أي: بأن استحق قطعة أرض في نصيب كل واحد منهما بقدر حصته- لم تبطل [القسمة]؛ لأن ما بقي لكل واحد منهما بعد الاستحقاق قدر حقه، فلم يؤد إلى الإشاعة؛ وهذا ما حكاه البغوي، وصاحب "الكافي" أيضاً.
وقال الإمام: إنه حسن متجه، لكن في بعض الطرق ما يدل على بطلان القسمة في البقية؛ فإن القسمة لم تنشأ على البقية أولاً، وقد تغير وصفها بالاستحقاق؛ فلا
يمتنع الحكم ببطلانها، وهذا نازع إلى تفريق الصفقة.
ولو استحق من حصة أحدهما شيء، ومن حصة الآخر دونه، أو فوقه- بطلت أيضاً؛ صرح به العراقيون والمراوزة.
قال: وإن استحق من الجميع جزء مشاع، أي: مثل أن اقتسما الأرض نصفين، فخرج الثلث من الأرض مستحقاً.
قال: بطلت القسمة؛ لأن صاحب الجزء المستحق كان نصيبه مشاعاً في ملك كل واحد منهما، يقدر على إجارته مجتمعا بالقسمة؛ فلم يجز أن يجعل في ملكين لا يقدر على جمعه بالقسمة، وصار هذا كأرض بين ثلاثة غاب أحدهم، فاقتسمها الحاضران على أن حصة الغائب مشاعة في سهم كل واحد منهما- كانت القسمة باطلة في الجميع، كذا حكاه الماوردي [وابن الصباغ، وقال القاضي أبو الطيب: [لا تبطل قولاً واحداً].
ولا فرق في ذلك بين أن نقول: إن القسمة بيع أو إفراز؛ كما قال الماوردي]، وهذه طريقة أبي إسحاق، وهي الصحيحة في "البحر"، والمختارة في "المرشد"، وبها أجاب الروياني في "الحلية"، وقال البندنيجي: إنها المذهب.
وقيل: تبطل في المستحق، وفي الباقي قولا تفريق الصفقة، وهذه [طريقة] ابن أبي هريرة، وهي الصحيحة عند النواوي.
وقال الرافعي: إنها التي أخذ بها أكثرهم، ولم يحك في "الوسيط"، والإمام عن العراقيين سواها.
وصحح في "الوسيط" قول الصحة؛ بناء على قاعدته في تفريق الصفقة.
قال: وإن تقاسم الورثة التركة، ثم ظهر دين محيط بالتركة- أي: إما ببينة، أو بإقرارهم؛ كما قاله الماوردي- فإن قلنا: القسمة تمييز للحقين، لم تبطل القسمة؛ لأن كل واحد منهما قد ميز ملكه عن ملك صاحبه من غير ضرر لاحق برب [الدين]؛ فلم يمنع منه.
قال: فإن لم يقض الدين- أي: وصاحبه مطالب به- نقضت القسمة، أي: بالبيع؛ لوفاء الدين؛ لأن في عدم نقضها في هذه الحالة إضراراً برب الدين، وحقه أولى بالرعاية.
قال: وإن قلنا: إنها بيع، ففي بيع التركة قبل قضاء الدين قولان:
وجه المنع: أنه تعلق بها حق الغرماء [بالموت]؛ فشابهت العين المرهونة.
ووجه الجواز: أنهم لم يحدثوا ولا مورثهم عقداً يمنعهم من التصرف، بخلاف المرهون.
وقاسه في "التهذيب" على تصرف المريض مع تعلق حق الورثة بها؛ وعلى هذا يقال للبائع: أنت بالخيار بين أن تقضي الدين من عين التركة أو من غيرها، فإن قضيته من غيرها استقر بيعك، وإلا نقض وقضينا الدين من التركة.
وحقيقة هذا القول: أنا نصحح البيع موقوفاً.
وفي "النهاية" في كتاب العتق حكاية وجه ثالث: أن البيع يصح إذا كان البائع موسراً، ويلزم، ولا سبيل إلى نقضه، وقال:[إن] الشيخ أبا علي قال: لو كان البائع معسراً، لم ينفذ بيعه ألبتة، وإنما محل الخلاف إذا كان موسراً.
قال الإمام: ويتخرج لنفوذ بيع المعسر وجه حسن إذا قلنا: لا يلزم- من بيع المفلس ماله؛ فإنا قد أجرينا في بيعه قولاً على الوقف؛ فلا مانع من خروجه هاهنا.
وأيضاً: فإن في كلام الشيخ أبي علي أن الثمن مستحق للغرماء، فإن صح هذا، فما وجه الفرق بين أن يكون الوارث [معسراً أو موسراً]؟ واتجه في تنفيذ بيع المعسر احتمال بين لا يتجه مثله في إعتاقه؛ فإنه لا عوض في الإعتاق.
وقد وافق الشيخ ومن تبعه على حكاية الخلاف في هذه الصورة قولين هاهنا، وإن كان قد حكاه في "المهذب" وجهين، كما فعل الإمام في كتاب العتق، [و] القاضي أبو الطيب، والماوردي، والبندنيجي، وقالوا في تأسيس ذلك: كل حق إذا تعلق بعين ماله، نظرت: فإن [كان] قد تعلق باختياره: كالرهن، فالبيع باطل قولاً
واحداً، وإن كان بغير اختياره: كأرش الجناية، ووجوب الزكاة فيه، ومثل مسألة الميت إذا كان عليه دين- فالكل على قولين.
وقضية هذا أمران:
أحدهما: أن القولين في بيع التركة كالقولين في بيع العبد الجاني خطأ؛ وقد صرح بذلك الإمام عن شيخه في "فروع" ابن الحداد في كتاب العتق، وحكاه الغزالي في كتاب الرهن طريقة [قاطعة] مع طريقة أخرى: أن تعلق الدين بالتركة كتعلق الرهن؛ نظراً للميت، [ومبادرة إلى تبرئة ذمته].
وحكيت أنا الطريقين [و] الصحيح منهما في أول كتاب الفرائض.
الثاني: أن القولين مفرعان على القول الصحيح، وهو أن الدين لا يمنع الإرث، أما إذا قلنا: يمنعه؛ فلا يصح قولاً واحداً، وكذلك صرح به الإمام هاهنا، وقال في كتاب العتق: إن تنزيل التركة منزلة العبد الجاني [خطأ]- بعيد؛ لما بين المرهون والتركة من الفرق؛ فإن حق المجني عليه طرأ على ملك تام للسيد، ثم دام الملك له، والوارث يتلقى الملك بالخلافة، وهي مشروطة بتقديم حق الميت. ثم قال في هذا الباب: وللقولين التفات عندي على أصل، وهو أن المفلس لو تصرف في الأموال التي اطرد الحجر عليها، فيقطع ببطلان تصرفه، أو نوقفه قائلين: إن سقطت الديون فقد نفذ التصرف، وإن بقيت ومست الحاجة إلى تأديتها من الأعيان، أديت منها، فالوارث كالمحجور عليه المفلس، والمال كمال المحجور، وقد أشار إلى هذا المأخذ الفوراني- أيضاً- وقضيته: أن يكون الصحيح البطلان، كما صرح به النواوي، وغيره في كتاب الرهن؛ لأن الصحيح بطلان تصرفات المفلس.
ثم قال الإمام: وما ذكره العراقيون من تصحيح القسمة على قول الإفراز قولاً واحداً، ليسوا مساعدين عليه؛ فإن الإفراز تصرف في متعلق الدين؛ فيظهر إفساده كالبيع.
وقد أشار كاتب "تعليق" القاضي أبي الطيب إلى أن الجزم بصحة القسمة على
القول بأنها إفراز من فقه القاضي؛ فإنه قال: قيل للقاضي: إذا قلنا: إن القسمة إفراز حق، فهل يكون على القولين أم لا؟ فقال: يحتمل أن يكون على قول واحد: أنه يصح. وهذا ما أورده البندنيجي والماوردي وابن الصباغ.
قال: وفي قسمتها قولان، أي: مع العلم بالدين، ينبنيان على القولين السابقين، فإن قلنا ببطلان البيع لم تصح القسمة، وإلا صحت، وهو ما اختاره في "المرشد".
وقد أفهم كلام الشيخ: أن على [هذين] القولين ينبني نقض القسمة في مسألة الكتاب، وهي ظهور الدين بعد القسمة، فإن قلنا: إن القسمة لا تصح مع العلم بالدين، فإذا بان الدين بعدها، تبين بطلانها. وإن [قلنا:] تصح مع العلم بالدين، فإذا بان بعدها لم تنقض.
وقد صرح القاضي الحسين والفوراني بحكاية القولين في نقض القسمة بعد ظهور الدين، وكذلك مجلي، وقال: إنه لا فرق فيما ذكرناه بين وقوع القسمة والبيع مع العلم بالدين، أو مع جهله.
وقال الفوراني: إنهما يقربان من القولين في إقرار المحجور عليه بمال قد لزمه قبل الحجر.
[قال]: ووجه القرب والشبه: أن نقض هذه القسمة إنما هو بسبب متقدم.
وقال القاضي الحسين: إنهما يبنيان على [أن] الدين هل يمنع الإرث أم لا؟ فإن قلنا: يمنع، نقضت، وإلا لم تنقض.
وقضية ما حكيناه عن الإمام، وأشار إليه [أيضاً]- هاهنا: أنا إذا قلنا: [إن] الدين يمنع الإرث [تنقض] قولاً واحداً، وأن محل القولين إذا قلنا: إن الدين لا يمنع الإرث، وهو قضية كلام القاضي في آخر الفصل؛ حيث قال: إن أصل
القولين تصصرفات المفلس بالعتق والبيع والهبة، هل هي باطلة، أو موقوفة حتى إذا فك الحجر [عنه] تبينا أنها كانت نافذة؟ وفيها قولان؛ لأن القسمة تصرف مع تعلق حق الغير بالمتصرف فيه: كتصرفات المفلس انتهاء؛ فإنه لا [يحسن أن] يلحق تصرف الورثة بتصرف المفلس إلا إذا قلنا: إنهم ملكوا.
ثم قضية البناء الذي ذكره القاضي: أن يكون الصحيح عدم النقض؛ لأن الصحيح أن الدين لا يمنع الإرث.
وحكم ظهور الوصية بمائة درهم من التركة غير معينة، حكم ظهور الدين الثابت على الميت فيما ذكرناه؛ صرح به القاضي أبو الطيب، والبندنيجي، والماوردي، وغيرهم.
قال في "البحر": وكذا حكم حدوث دين على الشخص بعد موته وبعد القسمة. وأراد بذلك: ما إذا كان قد باع شيئاً، وأكل ثمنه، فرد بالعيب بعد الموت، ولزم رد بدل الثمن، أو تردى مترد في بئر كان قد احتفرها عدواناً.
لكن قد حكى الغزالي في هذه الصورة في كتاب الرهن وجهين- بناء على قولنا في الدين المقارن: [إنا نتبين] بطلان التصرف:
[أحدهما: أنا نتبين بطلان التصرف] في هذه الصورة- أيضاً- لتقدم السبب.
والثاني- وهو أظهر في "الرافعي"-: أنا لا نتبين؛ لأنه كان مسوغاً [لهم] ظاهراً.
أما إذا كان الدين لا يحيط بالتركة، فهل يكون الحكم كما لو كان محيطاً بها؟ فيه وجهان حكاهما الغزالي في كتاب الرهن:
أظهرهما- كما قال الرافعي-: نعم؛ كما هو قياس الديون والرهون، ولم يحك في "الحاوي" في كتاب الشركة سواه؛ حيث جزم القول بأنهم لا يتصرفون في شيء منها وإن كان في باقيها وفاء بالديون.
والثاني: لا، وينفذ تصرف الوارث إلى ألا يبقى إلا قدر الدين؛ فيكون الحكم فيه
كما في حال الإحاطة، ووجهه: أن الحجر في المال الكثير بشيء حقير بعيد، مع أنه لا تخلو تركة عن دين.
فروع- تتعلق بما نحن فيه-:
أحدها: إذا أعتق الورثة بالقرعة واحداً من العبيد الثلاثة، وظهر دين- قال القاضي الحسين هاهنا: ففيه قولان:
أحدهما: تنقص الحرية، ويعين واحد من الثلاثة للبيع في الدين؛ ثم يقرع بين الباقيين، فمن خرجت قرعته [عتق] منه ثلثاه، ورق ثلثه.
قال: وفيه إشكال.
والقول الثاني: لا تنقص، بل يباع واحد من الرقيقين في الدين، [ثم يقرع بين الباقي وبين من حكمنا بحريته، فمن خرجت قرعته عتق منه ثلثاه.
الفرع الثاني: إذا أعتق الوارث العبد قبل قضاء الدين]، قال الإمام في كتاب العتق: إن قلنا: لا ملك له، لم ينفذ. وعلى هذا لا يتجه لنا أن نقول: التركة ملك لا مالك له، بل هي مقررة على ملك الميت، ولا مطمع في إضافة الملك فيها إلى مستحق الدين. وإن قلنا: إن الملك له، قال الشيخ- يعني أبا علي-: فإن كان معسراً لا يمكنه أن يؤدي الدين من ماله، فلا ينفذ عتقه قولاً واحداً، وكان شيخي يخرج عتقه على عتق المرهون.
والأوجه: ما ذكره الشيخ؛ فإن حق الوثيقة طرأ على ملك تام للراهن، ثم دام الملك له، والوارث يتلقى الملك بالخلافة وهي مشروطة بتقديم حق الميت.
وإن كان موسراً، ففي نفوذ عتقه قولان:
أحدهما: ينفذ، ويلزم.
والثاني: أنه موقوف، فإن وصل الدين إلى مستحقه بان أن العتق نفذ مع لفظ الإعتاق، وإلا فالرق باق.
ثم من كلام الشيخ: أنا إذا أنفذنا العتق، نقلنا الدين بالغاً ما بلغ إلى ذمة الوارث، ولست أرى الأمر كذلك، فالدين لا يتحول إلى ذمة الوارث قط، بل هو بالإعتاق
متلف للعبد؛ فلا يلزمه إلا أقل الأمرين من الدين وقيمة العبد.
الفرع الثالث: إذا أنفذنا بيع الوارث، وقلنا: يلزم، فقد قال الشيخ: إذا سلم المشتري الثمن إلى الوارث، وتلف في يده- فللغرماء أن يطالبوا المشتري بالثمن؛ فإنه كان من حقه أن يسلمه إليهم؛ فإذا لم يفعل توجهت المطالبة عليه.
قال الإمام في كتاب العتق: وفي كلامه ما يدل على أنهم يطالبون الوارث بالثمن، فإن تعذر رجعوا إلى المشتري، والوجه القطع بأنهم [لا] يطالبون المشتري؛ فإنا إذا ألزمنا بيع الوارث، فبيعه بمثابة إعتاقه، وإذا أعتق فلا عوض، ولا مستدرك له إذا نفذ. نعم، هذا يضعف الوجه الذي عليه التفريع.
قال: وإن كان بينهم نهر، أو قناة، أو عين ينبع فيها الماء، فالماء- أي: الكائن في ذلك- بينهم على قدر ما شرطوا من التساوي أو التفاضل.
صورة ذلك: أن يشترك جماعة في حفر نهر أو قناة إلى جانب النهر الكبير المباح: كالفرات، والدجلة، ونحوهما؛ ليجروا منه الماء إلى ذلك، أو يحفروا عين ماء؛ لينتفعوا بذلك الماء، فإذا فعلوا ذلك، فقد ملكوا ما حفروه إذا هيئوه لما أرادوا؛ كما تقدم في بابه، ويكون ملكهم على قدر ما [شرطوه] في ابتداء الحفر، وأخرجوه من النفقة؛ [لأنه إنما ملك بالعمارة، والعمارة بالنفقة]، فكان الملك موزعاً عليها، فإن أنفقوا على السواء ملكوه على السواء، وإن أنفق واحد نصف النفقة، واثنان نصفها بالسوية، كان للأول النصف، ولكل [واحد] من الآخرين الربع، وهكذا.
فإذا تقرر ذلك، وحصل الماء في المحفور، كان بينهم على قدر أملاكهم، لأنه المقصود بالحفر؛ فملكوه بعد الوصول إليه؛ كما لو حفروا معدناً باطناً، فوصلوا إلى نيله؛ فإنه يكون بينهم على حسب ما أنفقوه.
وقيل: إن الماء لا يملك؛ لأنه لو ملك لم يبح لمستأجر الدار التي فيها بئر
شرب مائها؛ لأن الأعيان لا تستباح بالإجارة، ولما جاز بيع دار فيها بئر بدار فيها بئر؛ لأن الربا يجري في الماء لكونه مطعوماً، ولما جاز ذلك [دل] على أنه غير مملوك؛ فعلى هذا يكونون أحق بالماء الجاري في النهر والقناة، والنابع في العين من غيرهم.
لكن لو تعدى شخص، وأخذه، فقد ملكه، وليس عليه رده.
قال القاضي أبو الطيب، كما لو توحل في أرض الغير صيد، فليس لغيره أخذه، فإن تخطى وأخذه، ملكه.
ومن أراد تحصيل شيء [من ذلك]، فالحيلة فيه: أن يشتري سهماً من نفس النهر، والقناة، [والعين] والبئر.
قال: والمذهب الأول؛ لما ذكرناه ولجريان العادة بالتصرف فيه التصرف المشروع في الأملاك من غير إنكار.
قال القاضي أبو الطيب: وهذا القول نص عليه في القديم.
والجواب عن قولهم: إنه لو كان مملوكاً، لم يبح بالإجارة؛ لكونه عيناً- أن الأعيان قد تستباح بالإجارة؛ للحاجة: كاللبن في الاستئجار على الرضاع، مع أنه لا ضرر على الآجر في استيفاء الماء؛ لأنه يستخلف في الحال، وما لا ضرر على المالك في استيفائه ليس له منعه؛ كالاستظلال بالحائط.
وعن دليلهم الثاني: أنا نمنع كون الماء ربوياً، وإن سلمناه فنمنع صحة البيع في الصورة التي ذكروها كما حكيناه في بابه.
فرع: لو تنازعوا في قدر الملك في النهر والقناة، ففي "التتمة": حكاية وجهين فيه:
أحدهما: أنه يقسم على قدر الأراضي؛ لأن المقصود من النهر سقي الأراضي، والظاهر أن حقوقهم على قدر أملاكهم، وهذه طريقة الإصطخري.
والثاني: يقسم بالسوية؛ لأن انحفاره باليد لا بالملك، والنهر في أيديهم.
تنبيه: ظاهر كلام الشيخ يقتضي أن الخلاف في ملك الماء وعدم ملكه، جار في
الصور الثلاث، وقد قال القاضي أبو الطيب: إن الماء المختلف في كونه مملوكاً هو كل ما ينبع في ملكه من بئر أو عين، وأما الماء الجاري في النهر المملوك، فلا يملك؛ كما إذا جرى الفيض إلى ملك رجل، واجتمع فيه، ولم يملكه، ولكن يكون أهل النهر أولى به؛ لأن يدهم عليه، وليس لأحد أن يزاحمهم فيه؛ لأن النهر ملك لهم.
وعلى هذا جرى ابن الصباغ، والمتولي، والبغوي، وكلام الإمام موافق لكلام الشيخ؛ فإنه قال: إن الماء الذي يجري في النهر المملوك كماء القنوات مملوك على الرأي الظاهر لمالك القناة، وكل من تصرف فيه بما ينقصه ويظهر نقصه، فهو ممنوع منه، وما لا يظهر له أثر: كالشرب، أو كسقي دواب معدودة، وكأخذ قرب- فقد ذهب ذاهبون: أنه لا يسوغ المنع من هذا القدر.
قال الإمام: وهذا بعينه هو الذي نقلته عن شيخي، وأنكرته، وكأنه انتفاع بما هو مملوك.
وذهب القاضي وطبقته [من] المحققين إلى إجراء القياس والمصير إلى أن للملاك أن يمنعوا من هذا، وما درج عليه الأولون من التسامح فيه محمول على أن الناس لا يضنون بهذا القدر؛ فصارت قرائن الأحوال بمثابة التصريح بالإباحة.
قال: فإن أرادوا سقي أراضيهم من ذلك الماء بالمهايأة، جاز، أي: فيجعل لكل منهم شرب يوم معلوم؛ كالمهايأة في المنافع، ويخالف المهايأة، في لبن الشاة والبقرة- كما ذكرنا- لأن ذلك مجهول، وهذا ما جزم به [في]"التهذيب".
وعن القاضي الحسين: أن المهايأة لا تصح في الماء- أيضاً- لأن النوب تختلف من وجهين:
أحدهما: أن الماء يزيد وينقص.
والآخر: أنها تتفاوت في حاجات الدهقنة، فليس ما يقع من النوبة الأولى كما يقع في النوبة الأخيرة.
ثم على الأول: إذا صحت، فهل تلزم؟ حكى الإمام فيها وجهين، وعند الاختصار
يجتمع في المسألة ثلاثة أوجه.
قال: وإن أرادوا القسمة جاز؛ لأن بكل من ذلك يصلون إلى حقوقهم.
قال: فينصب- قبل أن يبلغ إلى أراضيهم- خشبة مستوية، ويفتح فيها كوى على قدر حقوقهم، ويجري فيها الماء إلى أراضيهم؛ لأن ذلك هو العدل.
وإذا [كان] فيهم شخص له العشر، ولآخر الخمس، ولآخر الباقي- جعل فيها عشر طاقات على السواء، وجعل لصاحب العشر واحدة، ولصاحب الخمس طاقتين، والباقي للآخر، وهكذا. وهذا إذا كان في الماء ضيق، أما إذا كان فيه اتساع بحيث يحصل لكل منهم فوق حاجته، فلا حاجة إلى ذلك.
[تنبيه] وقول الشيخ: "ويفتح كوى"، هو بكسر الكاف، وضمها مع التنوين فيهما، وأجود منهما: كواء، بكسر الكاف والمد، وقد سبق إيضاح الكلمة في باب الصلح.
قال: وإن أراد أحدهم أن يأخذ قدر حقه قبل أن يبلغ إلى المقسم ويجريه في ساقية له، أي: بمجراه، إلى أرضه، أو يدير به رحى- أي: بالساقية المذكورة- لم يكن له ذلك؛ لأن حريم النهر مشترك بينهم؛ فلا يجوز لواحد منهم أن ينفرد بالتصرف فيه بالسقي وإجراء الماء. نعم، لو أراد أن يدير بما فضل له من الماء المختص به رحى في ملكه، لم يمنع [منه]؛ صرح به في "التهذيب".
تنبيه: المَقْسِم: مفتوح الميم مكسور السين؛ كـ"المجلس"، وكذا سائر ظروف الزمان والمكان التي ثالث مضارعها مكسور، أو أولها واو أو ياء- بالكسر: المَجْلِس، والمَصْرِف، والمَوْعِد، والمَوْقِف.
قال: وإن أراد أن يأخذ الماء، ويسقي أرضاً ليس لها رسم شرب من هذا النهر- لم يكن له؛ لأنه يجعل لنفسه شرباً لم يكن له؛ فمنع منه؛ كما لو كانت له دار في درب غير نافذ، فاشترى داراً في درب آخر طريقها منه، فأراد أن ينفذها إلى الدار الأخرى- لم يكن له؛ لأنه يجعل لنفسه استطراقاً لم يكن إلى إحدى الدارين
من الأخرى؛ كذا قاله الشيخ أبو حامد.
قال ابن الصباغ: وهذا وجه جيد، غير أن الذي شبه به قد اختلف أصحابنا فيه، فمنهم من جوزه، لكن يمكن على هذا أن يفرق بينها وبين الأرض؛ لأن الدار لا يستطرق منها إلى [الدرب، وإنما يستطرق منها إلى] الأخرى، ومن الأخرى إلى الدرب، وهاهنا يحمل الماء في الساقية إليها؛ فيصير لها رسم في الشرب.
وفي "التتمة" حكاية وجه: أنه يجوز له أن يسقي بهذا الماء بعد القسمة أرضاً أخرى، وقال: إنه شبيه بالوجه المجوز لفتح باب بين الدارين. وقد تقدم الفرق بينهما.
نعم، قال ابن الصباغ: لو أراد أن يفعل مثل هذا في النهر الذي ليس بمملوك، فينبغي أن يجوز.
تنبيه: الشرب- بكسر الشين-: النصيب من الماء، وهو المراد هنا، وأما مصدر شرب يشرب، [فهو بضم] الشين، وفتحها، وكسرها، ثلاث لغات.
قال: وإن كان ماء مباح في نهر غير مملوك- أي: وهو صغير، قال الماوردي:[وقد] يسمى: ساقية- سقى الأول أرضه حتى [يبلغ إلى الكعب]، ثم يرسله على الثاني، وهكذا يسقي الثاني أرضه حتى يبلغ إلى الكعب، ثم يرسله إلى الثالث، ويقدم الأقرب إلى أول النهر، فالأقرب.
والأصل في اعتبار ذلك حديثان:
أحدهما: ما روي أن رجلاً خاصم الزبير في شراج الحرة التي يسقون بها، فقال الأنصاري: سرح الماء يمر، فأبى عليه الزبير، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم:"اسق يا زبير، ثم أرسل الماء إلى جارك"؛ فغضب الأنصاري، وقال: يا رسول الله، أن كان ابن عمتك!! فتلون وجه رسول الله صلى الله عليه وسلم وقال:"اسق يا زبير، ثم احبس الماء حتى يبلغ إلى الجدر".
والثاني: ما روى أبو داود: أن رجلاً من قريش كان لهم سهم في بني قريظة،
فخاصم إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم في نهر، والسبيل الذي يسقون ماءه، فقضى بينهم رسول الله صلى الله عليه وسلم:"أَنَّ الْمَاءَ إِلَى الْكَعْبَيْنِ، ثُمَّ يَحْبِسُهُ الأَعْلَى عَنِ الأَسْفَلِ؛ كَيْ يُرْسِلَهُ إِلَيْهِ".
فالحديث الأول دل على اعتبار الأقرب فالأقرب، إذا استكفى يرسله إلى جاره، والثاني دل على ذلك، وعلى اعتبار الكعبين.
وقد يستدل للمجموع بما روى عبادة بن الصامت: أن النبي صلى الله عليه وسلم قضى في شرب النخل من السبيل إلى الأعلى أن يشرب قبل الأسفل، ويجعل الماء فيه إلى الكعبين، ثم يرسل الماء إلى الأسفل الذي يليه، وكذلك حتى تنقضي الأرضون.
وقد تقدم شرح ألفاظ الحديث [الأول]، وذكر رواية في كتاب الأقضية، وتكلم الأصحاب هاهنا في تأويل قصة الزبير:
فقال بعضهم- كما حكاه ابن الصباغ-: إنما أمر الزبير بأن يستوفي أكثر من حقه؛ عقوبة للأنصاري؛ حيث لم يرض بقضائه.
وقال أبو جعفر الترمذي: كان النبي صلى الله عليه وسلم قد استنزل الزبير عن بعض حقه حين أذن له أن يسقي ولا يحبس الماء، فلما لم يقبل الأنصاري ذلك، أمره أن يستوفي حقه؛ وهذا ما أورده القاضي أبو الطيب، وهو الأشبه.
فإن قيل: ففي الحديث الآخر: أنه علق الحق بأن يبلغ الماء إلى الكعبين، وهذا مخالف لذلك.
قال القاضي أبو الطيب: قلنا: ليس فيهما خلاف؛ لأن الماء إذا بلغ إلى الكعبين، وكانت الأرض مستوية، رجع الماء إلى الجدر.
وما ذكره الشيخ هو المشهور.
وفي "التتمة": أن المرجع في قدر السقي إلى العرف والعادة، فإن كان الذي ملكه في أول النهر بستاناً والأشجار مغروسة على جداول؛ [فيحبس الماء حتى تمتلئ الجداول، ويصل إلى أصول الأشجار، وإن كانت الأرض قطعاً] فيحبس الماء حتى يصل إلى الكعبين.
قال: وإن احتاج الأول إلى سقي أرضه دفعة أخرى قبل أن [يرسل إلى] الثالث، سقى، ثم يرسل إلى الثالث، لأنه لا حق للثالث إلا فيما فضل عن حاجة الأول والثاني؛ ولهذا قال الأصحاب- كما حكاه أبو الطيب-: إن كان زرع الأسفل يهلك إلى أن ينتهي الماء إليه، لم يجب على من فوقه إرساله إليه.
ولو كان ماء هذا النهر يفضل عن حاجة أهله فلبعضهم أن يسوقه إلى أرض أخرى [له]، وأن يجعل مفيض أرض له أخرى إلى هذا النهر.
قال في "الحاوي": لأنه ليس بمملوك لواحد منهم؛ فصار كالطريق النافذ الذي يجوز استطراقه لكل واحد، وأن يفتح فيه باباً.
ويجوز أن يجعل على عرض النهر عبارة للماء؛ إذا لم تضر بأحد من أهله: كالساباط على الطريق النافذ، بخلاف النهر المملوك؛ فإنه لا يجوز ذلك؛ لأن فيه وضع شيء على ملك الشريك بغير إذنه، وهو جانبا النهر.
قال: وإن كان لرجل أرض عالية، وبجنبها أرض مستفلة، ولا يبلغ الماء في العالية إلى الكعب، حتى يبلغ في المستفلة إلى الوسط- سقى المستفلة حتى يبلغ [الماء إلى] الكعب، ثم يسدها، ويسقي العالية؛ لأن هذا يحصل مقصوده من غير إضرار بغيره؛ فاتبع.
قال: وإن أراد بعضهم أن يحيي أرضاً، ويسقيها من هذا النهر- أي: الصغير- الذي ليس بمملوك لأحد، ولجماعة شرب معلوم منه.
قال: فإن كان لا يضر بأهل الأراضي – أي: التي لها شرب معلوم منه- بأن يكون في أسفل النهر- لم يمنع؛ لأنه ينتفع به من غير إضرار بغيره؛ فأشبه النهر الكبير: كالفرات، والدجلة، والنيل، وسيحون، وجيحون؛ فإن لكل أحد أن ينتفع بمائه كيف شاء، وليس لأحد منعه؛ فإنه لا ضرر على أحد فيه؛ لاتساعه.
قال: وإن كان يضر بهم، أي: بأن كانت الأرض في أعلاه، وإذا سقيت قل الماء
على أهل الأراضي؛ فيستضرون به- منع؛ لأن [من] ملك أرضاً ملكها بمرافقها، والشرب من النهر من مرافقها؛ فلا يجوز مضايقة ملاكها فيه؛ وهكذا الحكم في مياه الأعين المباحة.
فرع: لو كان النهر الصغير غير معروف الأصل، هل هو مباح أو مملوك- قال في "الحاوي": فقد اختلف أصحابنا، هل يجري عليه حكم الإباحة أو حكم الملك؟ على وجهين:
أحدهما: أنه في حكم المباح، وهو قول من جعل أصل الأشياء على [الإباحة.
والثاني: أنه مملوك، وهو قول من جعل أصل الأشياء] على الحظر، ولم يحك المتولي سوى هذا؛ لأن كل من له أرض على الحافة، فله عليه يد، وفرع على هذا فرعين:
أحدهما: أنه إذا كان بالقرب من النهر أرض يمكن سقيها من النهر: إما على الحافة، أو متصلة بأرض على الحافة- فإن رأينا ساقية مادة من النهر إليها، يحكم بأن لها شرباً من النهر؛ لأن الظاهر يدل عليه. وإن لم يكن هناك ساقية: فإن كان لها شرب من نهر آخر، لم نجعل لها شرباً من النهر عند التنازع. وإن لم يكن لها شرب آخر، كان صاحبها شريكاً لأهل النهر؛ لأن الأرض المعدة للزراعة لا تستغني عن شرب، وليس للأرض شرب آخر؛ فدل ظاهر الحال [على] أن شربها من النهر.
الثاني: إذا كان للنهر نصيب في أجمة مملوكة، وحوالي النهر أراض مملوكة، فوقع التنازع بين أرباب الأراضي وصاحب الأجمة في الماء- فهو مقسوم بين الجميع؛ لأنا جعلنا البئر مملوكاً لأهله، فلم يختص البعض بالماء.
وقد نجز شرح ما في الباب، ولنختمه بفروع تتعلق به:
أحدها: إذا ملك أرضاً، وأراد زراعتها، ولا يمكن ذلك إلا بأن يسوق الماء في أرض جاره، فإن أراد أن يحفر نهراً على وجه الأرض- لم يجب على الجار تمكينه من ذلك، فإن أراد أن يحفر تحت الأرض طريقاً للماء إلى أرضه من غير أن يتعطل\
على مالك الأرض الانتفاع بظاهر الأرض، فهل يلزمه تمكينه؟ فيه وجهان في "التتمة" في كتاب إحياء الموات، والصحيح: أنه لا يلزمه.
الفرع الثاني: إذا كان لصاحب الأرض نهر ممدود في الأرض إلى طرف ملك جاره، وليس لجاره نهر يجري الماء فيه إلى أرضه، فأراد إجراء الماء في نهر جاره إلى أرضه- فإن كان صاحب النهر يحتاج إلى إجراء الماء [فيه]، لم تلزمه إجابته، وإن لم يكن محتاجاً إلى سوق الماء فيه- فهل تلزمه إجابته؟ فيه الوجهان، ووجه الوجوب: القياس على مسألة الجذوع، والمذهب: أنه لا يلزمه؛ كما لو كان له دار لا يحتاج إلى سكناها.
الفرع الثالث: إذا زاد النيل أو الفرات، ونحوهما، فدخل أملاك الناس، واجتمع فيها- قال القاضي أبو الطيب وابن الصباغ والبغوي: لم يملكوه؛ لأنه لو نزل مطر [واجتمع] في ملكه، أو ثلج فمكث، أو فرخ طائر في بستانه أو توحل طير في أرضه- لم يملكه، وكان لمن حازه؛ فكذلك الماء.
وعلى هذا: إذا دخل واحد، وأخذ منه شيئاً في إنائه، ملكه على أصح الوجهين في "التهذيب".
وفيه وجه آخر: أن لصاحب الملك أن يسترده؛ كما قالوا في فرخ الطائر، والله أعلم.