المَكتَبَةُ الشَّامِلَةُ السُّنِّيَّةُ

الرئيسية

أقسام المكتبة

المؤلفين

القرآن

البحث 📚

‌باب زكاة الفطر - كفاية النبيه في شرح التنبيه - جـ ٦

[ابن الرفعة]

الفصل: ‌باب زكاة الفطر

بسم الله الرحمن الرحيم

‌باب زكاة الفطر

اعلم أنه يقال: زكاة الفِطْر، وزكاة الفِطْرة- بكسر الفاء -:

فالأول: يجعل وجوبها بدخول الفطر.

والثاني: أوجبها على الفطرة، والفطرة: الخِلْقة، قال الله تعالى:{فِطْرَةَ اللَّهِ الَّتِي فَطَرَ النَّاسَ عَلَيْهَا} [الروم: 30] [أي: خِلْقَته التي جَبَل الناس عليها، والفُطرة - بضم الفاء-: اسم للمُخْرَج في زكاة الفطر، وهو مولَّد.

وقد تقدم أن الزكاة في اللغة: الزيادة والبركة، [والنمو] والمدح، وسميت زكاة المال زكاةً؛ لأنه ينمو إذا زكِّيَ، وسميت صدقة الفطر زكاة]؛ لأنها تزكي النفس وتطهرها، وتنمي عملها، ويقال للعمل الصالح زكاة؛ لأنه ينمي عامله، ويرفع من شأنه، وقد قيل في قوله تعالى:{وَالَّذِينَ هُمْ لِلزَّكَاةِ فَاعِلُونَ} [المؤمنون: 4]: إنها العمل الصالح.

ص: 3

قال الماوردي: واختلف أصحابنا هل وجبت ابتداء بما وجبت به زكاة الأموال أو وجبت بغيره؟ على مذهبين:

أحدهما- وهو قول البغداديين-:أنها وجبت بالظواهر التي وجبت بها زكاة الأموال من الكتاب والسنة؛ لعمومها في الزكاتين.

والثاني-: وهو قول البصريين-: أنها وجبت [بغير ما وجبت] به زكاة الأموال؛ فإن وجوبها أسبق؛ لما روي عن قيس بن سعد بن عبادة [أنه] قال: "أمرنا رسول الله صلى الله عليه وسلم بزكاة الفطر قبل نزول آية الزكاة، فلما نزلت [آية الزكاة] لم يأمرنا ولم ينهنا".

ومن قال بهذا اختلفوا هل وجبت بالسنة [أو بالكتاب. والسنة مبينة [للكتاب] على مذهبين:

أحدهما: أنها وجبت بالسنة] بحديث قيس بن سعد، فعلى هذا يكون وجوبها من طريق السنة، والدلالة [على] وجوبها من طريق السنة ما رواه الشافعي بسنده عن ابن عمر أن: رسول الله صلى الله عليه وسلم فرض زكاة الفطر-وفي بعضها: صدقة الفطر- في رمضان على الناس صاعاً من تمر أو صاعاً من شعير، على كل حر وعبد، ذكر

ص: 4

وأنثى من المسلمين".

وروى جعفر بن محمد عن أبيه مثله، وزاد فيه:"عمن تمونون"،قال عبد الحق: والأخبار الصحاح [المشهورة] ليس فيها: "عمن تمونون"، وقوله:" [فرض] زكاة الفطر على الناس" معناه أوجب عليهم، ولا يجوز أن يكون معناه: قدر عليهم؛ لأنه ذكر التقدير من بعد، وقوله:"على كل حر وعبد" معناه: عن كل حر أو عبد؛ لأن حروف الصفات يقوم بعضها مقام بعض [لغة]، قال الله تعالى:{وَيْلٌ لِلْمُطَفِّفِينَ (1) الَّذِينَ إِذَا اكْتَالُوا عَلَى النَّاسِ يَسْتَوْفُونَ} [المطففين] فأراد- والله أعلم-[إذا اكتالوا] من الناس، وقال الشاعر:

إذا رضيت عليَّ بنو قُشَيْرٍ لعَمْرُ الله أعجبني رضاها

ومعناه: [إذا رضيت عني.

ص: 5

وتعين] ما ذكرناه هنا؛ لوجهين:

أحدهما: أن العبد لا يخاطب بإخراجها؛ لأنه لا يملك شيئاً، وقد روى [مسلم] عن أبي هريرة عن النبي صلى الله عليه وسلم [أنه قال]:"ليس في العبد صدقة إلا صدقة الفطر".

والثاني: أن حمل قوله: "على كل حر" على الإيجاب يؤدي إلى التكرار لأن قوله في الابتداء: "على الناس" أفاد الإيجاب؛ فيجب أن يحمل على فائدة مجددة، وقد روى أبو داود عن ابن عباس-رضي الله عنهما قال:"فرض رسول الله صلى الله عليه وسلم زكاة الفطر طهرةً لصائم من اللغو والرفث، وطعمةً للمساكين، من أداها قبل الصلاة فهي زكاة مقبولة ومن أداها بعد الصلاة فهي صدقة من الصدقات" وأخرجه ابن ماجه.

والمذهب الثاني: أنها وجبت بكتاب الله تعالى، وإنما البيان مأخوذ من السنة كما أخذ بيان الأموال المزكيات، ومن روى أن رسول الله صلى الله عليه وسلم فرضها؛ فمعناه: قدرها؛ كما قال في زكاة الإبل: "هذه فريضة الصدقة التي فرضها رسول الله صلى الله عليه وسلم" بمعنى: قدرها؛ لأن فرض زكاتها بالآية.

ومن قال بهذا اختلفوا بأية آية وجبت؟ على مذهبين:

أحدهما: بقوله تعالى: {قَدْ أَفْلَحَ مَنْ تَزَكَّى * وَذَكَرَ اسْمَ رَبِّهِ فَصَلَّى} [الأعلى] فإن سعيد بن المسيب وعمر بن عبد العزيز [قالا:] هي زكاة الفطر. [وقال عطاء: زكاة الفطر] وزكاة المال.

والثاني: بقوله تعالى: {وَيُقِيمُوا الصَّلاةَ وَيُؤْتُوا الزَّكَاةَ} [البينة:5].

قال: وتجب زكاة الفطر على كل حر مسلم [فضل] – أي حالة وجوبها – عن

ص: 6

قوته وقوت من تلزمه نفقته أي ليلة الفطر ويومه كما نص عليه الشافعي- رحمه الله وأصحابه، ما يؤدي في الفطرة، أي إما عنه كما إذا كان الفاضل عما ذكره أحد الأصناف التي يجزئ إخراجها، أو ما يمكن تحصيل الواجب بهن ووجهه ما ذكرناه.

وحكى ابن الصباغ تبعاً للقاضي أبو الطيب أن أبا الحسن [بن] اللبان الفرضي من أصحابنا قال: إنها غير واجبة. قال في "الروضة": وهو غلط صريح.

واحترز الشيخ بالحر عن العبد؛ لأنه لا يملك شيئاً وإن ملك على القديم إذا ملكه السيد فهو ملك ضعيف لا يصلح للمواساة؛ لأنه لا يجب عله نفقة قريبه وهي آكد من زكاة الفطر، وإذا لم تجب نفقة القريب عليه فزكاة الفطر أولى ولا يقدح في ذلك ما تقدم من قوله صلى الله عليه وسلم:"من حر أو عبد"؛ لأنا قد بينا أن معناه: عن حر أو عبد، [ويؤكده قوله- عليه السلام:"ليس على المسلم في عبده ولا قريبه صدقة إلا صدقة الفطر" فأثبت على السيد زكاة الفطر].

[ولأجل ما ذكرناه من المعنى] لم تجب على المكاتب على المذهب المنصوص الذي حكاه الإمام والبندنيجي؛ قياساً على زكاة المال وعنه احترز الشيخ أيضاً.

وعن ابن سريج تخريج قول أنها تجب عليه كنفقته، وكذلك أطلق الصيدلاني في المسألة قولين، قوال القاضي الحسين والبغوي: إن فيها وجهين.

وقد قيل: إن فطرته تجب على سيده؛ لأنه باق على ملكه فأشبه العبد الآبق والمغصوب، قوال البندنيجي وغيره: إن أبا ثور حكاه عن القديم والقاضي الحسين نقله عن القديم، ولم ينسبه لرواية أبي ثور، وقال:[إنه بناه] في القديم على قوله القديم في جواز بيعه.

وأنكر الشيخ أبو علي أن يكون هذا قولاً للشافعي- رحمه الله وقال: إنه مذهب أبي ثور نفسه.

وأم الولد والمدبر والمعلق عتقه بصفة، كالقن.

فإن قلت: لفظ الحر كما أخرج من ذكرته يخرج من بعضه حر وباقيه رقيق عن أن

ص: 7

تجب عليه زكاة الفطر؛ فقد قال الأصحاب: إن لم يكن بينه وبين [مالك بعضه] الرقيق مهايأة وجب عليه من الفطرة بقدر من فيه من الحرية إذا ملك ذلك، فاضلاً عما يخص ما فيه من الحرية من قوته ليلة العيد ويومه؛ فإذا كان نصفه حراًّ وملك نصف صاع فاضلاً عن [نصف] قوته وجب عليه إخراجه؛ لأن جميعه لو كان حراً لوجب عليه صاع، ولو كان رقيقاً لوجب على مالكه؛ فوجب أن يوزع عليهما عند اجتماع الرق والحرية.

وإن كان بينهما مهايأة فهل تدخل زكاة الفطر فيها كما تدخل النفقة الراتبة، أو لا تدخل كما لا يدخل أرش الجناية التي يجنيها [فيها]؟ فيه وجهان في "الحاوي" وغيره، وقال: إن الأظهر- وهو الذي أورده جمهور أصحابنا-: عدم الوجوب. ولم يحك القاضي أبو الطيب والبندنيجي وابن الصباغ هنا غيره، لأن طريق المهايأة طريق المعارضة، ولا معاوضة في الفطرة، وعلى هذا يكون الحكم كما لو لم يكن بينهما مهايأة، سواء وجد وقت الوجوب في نوبة السيد أو العبد.

وقال الإمام: إن الخلاف في المسألة ينبني على أن المؤن النادرة هل تدخل في المهايأة أو لا تدخل؟ وفيها وجهان، فإن قلنا: تدخل، دخلت زكاة الفطر، وإن قلنا: لا تدخل، فهل زكاة الفطر من المؤن النادرة أو المؤن الدائرة؟ فيه وجهان: فإن قلنا بالأول- وهو الذي عليه الجمهور- فالحكم كما تقدم، وإن قلنا بالثاني وجبت على من حصل وقت الوجوب في نوبته، وهو ما ادعى الرافعي أنه الأظهر، اللهم إلا أن نقول: وقت الوجوب مجموع الوقتين، ووجد الغروب في نوبة أحدهما، وطلوع الفجر في نوبة الآخر؛ فإنها تجب عليهما لأنه لم ينفرد واحد منهما في نوبته بموجب الفطرة.

والخلاف الذكور مطرد فيما إذا كان عبدان اثنان وجرت بينهما مهايأة.

واحترز [الشيخ] بالمسلم عن الكافر الأصلي؛ فإنها لا تجب عليه للخبر، ولأنها طهرة للصائم، وليس للكافر أهلية التطهير ولا أهلية إقامة العبادات.

وأما المرتد ففيه الأقوال المذكورة في أول الكتاب، صرح به في "المهذب".

ص: 8

وهذا في فطرة نفسه، أما فطرة رقيقه المسلم وقريبه، فسيأتي الكلام فيه.

وقد اقتضى كلام الشيخ أنه لا يشترط في الوجوب ملك النصاب كما هو ظاهر الخبر؛ فإنه لم يفرق بين الغني والفقير، [بل] في بعض الأخبار:"عن كل حر وعبد، ذكر وأنثى، صغير أو كبير، غني أو فقير، أما الغني فيزكيه الله، وأما الفقير فيرد الله عليه أكثر مما أعطى"، ولأنه حق مالي لا يزيد بزيادة المال؛ فوجب ألا يعتبر فيه وجود النصاب قياساً على الكفارات.

فإن قيل: ظاهر الخبر أيضاً يدل [على الوجوب] على من لا يملك إلا قوته وقوت من تلزمه نفقته، وقد قلتم: إنها لا تجب عليه فما وجه مخالفته؟

[قيل]: لأن ذلك آكد من نفقة الفطر، بدليل ما تقدم، وقد قال صلى الله عليه وسلم:"أغنوهم عن الطلب في هذا اليوم"؛ فلم يجز أن يؤمر بإغناء غيره ويحوج نفسه إلى أن يغنيه غيره، ومن تلزمه نفقته كنفسه.

ومن ها هنا يؤخذ أن الدين إذا استغرق ماله منع وجوب زكاة الفطر؛ لأن نفقته دين

ص: 9

يسقط في حق القريب بمرور الزمان، ومع ذلك منعها؛ فالدين الذي لا يسقط بحال بذلك أولى، وهذه الطريقة في "المهذب" لم يحك الغزالي غيرها تبعاً لإمامه؛ فإنه قال: ديون الآدميين تمنع [وجوب] زكاة الفطر وفاقاً، ولو ظن ظان أنها لا تمنعها على قول كما لا تمنع وجوب الزكاة كان مبعداً، ووراءها طرق:

إحداها: أن القولين في زكاة المال فيها.

والثانية: أنها تجب قولاً واحداً؛ لأن زكاة الفطر [تجب في الذمة لا تعلق لها بالمال؛ فلا يؤثر فيها الدين.

وهذان الوجهان حكاهما المتولي، وإلى الثانية منهما ميل كلام العراقيين في كتاب زكاة الفطر] تبعاً لظاهر النص فيه؛ حيث قال: ولو مات حين أهل شوال وله رقيق فزكاة الفطر عنه وعنهم في ماله مبدأٌ على الدين وغيره من ميراث ووصايا.

والثالثة- قالها القاضي الحسين في باب الدين مع الصدقة- إنا إن قلنا: [إنه يمنع] زكاة المال، فزكاة الفطر أولى، وألا فوجهان، والفرق: أن محل زكاة الفطر: الذمة، والدين محله الذمة، فلما اجتمعا في محل واحد دفع أحدهما الآخر بخلاف زكاة المال؛ فإنها تتعلق بالعين والاحتياج إلى الكسوة في ليلة العيد ويومه كالاحتياج إلى النفقة فيهام؛ فيعتبر أن يكون ما يؤديه في الفطرة فاضلاً عنها؛ لأن ذلك لا يباع في الدين ففي الفطرة أولى، وهذا ما صرح به في التتمة، وهو مما لا خلاف فيه كما قال الرافعي، وإن كان الشافعي-رحمه الله-وجمهور أصحابه لم يتعرضوا له، بل اقتصروا على ما ذكره الشيخ.

وقال الإمام: الذي أراه أن المعتبر أن يكون المؤدي في الفطرة فاضلاً عنه هو المعتبر في الكفارة، والعبد لخدمته لا يلزمه إعتاقه عن كفارته المرتبة، قال: وقد رأيت من الأصحاب في أنه غير معتد به في الفطرة أيضاً، وحينئذ فالمسكين المحتاج إليه أولى من العبد. نعم، قد ذكرنا أن الصحيح: أن عبد الخدمة في حق من أخرج

ص: 10

صاعاً عن نفسه لا يملك غيره يجب إخراج الفطرة عنه، فهو إذا غير محسوب في فطرة المولى، وهو معتد به في الفطرة المضافة إلى العبد نفسه على المذهب الظاهر.

وفي "التهذيب" سوى بين المسألتين فقال: إن كان له عبد يحتاج إلى خدمته هل يباع بعضه في صدقة الفطر عن العبد وعن نفسه؟ فيه وجهان، أصحهما: لا، وهو كالمعدوم كما في الكفارة، ويشهد له نص الشافعي – رحمه الله – على أنه لو كان لابنه الصغير عبد هو محتاج إلى خدمته يجب على الأب نفقة ذلك العبد وفطرته، ولولا أن العبد غير محسوب [لسقط بسببه] نفقة الابن وفطرته عن الأب.

والثاني: يباع كما يباع في الدين، بخلاف الكفارة؛ فإن لها بدلاً تنتقل إليه فخفف الأمر فيها، وهذا ما رجحه الشيخ أبو علي، رحمه الله.

قلت: ويمكن أن ينبني الخلاف على أن الدين هل يقدم [على زكاة الفطر أو لا؟ فإن قلنا: إن زكاة الفطر مقدمة على] الدين، فيباعان في الفطرة؛ لأنهما يباعان في الدين وهي مقدمة [عليه] فيتبعهما فيها من طريق الأولى، وإن قلنا: إن الدين مقدم على زكاة الفطر، فيجوز أن يقال: لا يباعان فيها، ويجوز أن يجيء الوجهان.

ثم ما أيد به البغوي عدم [البيع] من النص [ينازع] فيه قول الإمام في باب نفقة الأقارب: ولا خلاف أن عبد الرجل مبيع في نفقته، وإن كان ذلك يلجئه إلى التبذل والتبسط [نفسه] في الحاجات الدنيئة كاستقاء الماء وما أشبهه. على أن له أن يقول: هذا خاص بالكبير، والصغير بخلافه، والله أعلم.

وما يؤدي في الفطرة هو الصاع كما سيأتي.

قال: فإن فضل بعض ما يؤدي فقد قيل: يلزمه؛ لقوله صلى الله عليه وسلم: "إذا أمرتكم بأمر فأتوا منه ما استطعتم" وهذا حد استطاعته، وقيل لا يلزمه كما لو وجبت عليه كفارة مرتبة وهو يملك نصف رقبة أو غير مرتبة وهو يملك [كسوة خمسة أو إطعامهم]؛ فإنه لا يجب عليه إخراج ذلك.

والوجهان مرويان عن أبي إسحاق – رحمه الله – وقال في "البحر": إن أصحهما

ص: 11

الثاني، وفي "الحاوي": أن مذهب الشافعي – رحمه الله –وما ذكره منصوصاً في بعض كتبه: الأول، وهو الأصح في "تعليق" القاضي الحسين وغيره، وبعضهم قال: إن مقابله غلط، وفرق بين الفطرة والكفارة بوجهين:

أحدهما: أن الكفارة لا تتبعض في الجملة، والفطرة تتبعض؛ بدليل أن من بعضه حر يلزمه منها بقدر ما فيه من الحرية.

والثاني: أن الكفارة [لها] بدل؛ فصار كما لو وجد ما يستر به بعض العورة؛ فإنه يلزمه الستر به.

وقد تكلم الإمام هاهنا فيما يجب عند نقصه عن المقدور، وما لا يجب، فقال: كل أصل ذي بدل فالقدرة على بعض الأصل لا حكم لها، والمستثني من ذلك وجود المقدار من الماء الذي لا يكفي لتمام الطهارة فإن فيه قولين، وسبب الخلاف ورود الماء مطلقاً في الشرع من غير تقدير وتوقيف ثم التيمم مشروط في لفظ الشارع بعدم جنس الماء، وهذا لا يتحقق في الكفارات المرتبة، فأما الفطرة فلا بدل لها؛ فالوجه إيجاب الميسور فيها، وكذلك إذا انتقضت الطهارة بانتقاض بعض المحل، فالوجه القطع بالإتيان بالمقدور عليه، وقد ذكر بعض الأصحاب فيه اختلافاً بعيداً أو هو قريب من التردد فيما نحن فيه، ومن انتهى في الكفارة المرتبة إلى إطعام ستين مسكيناً فلم يجد إلا طعام واحد تعين عليه؛ فإن طعام كل مسكين في حكم كفارة. نعم، لو وجد بعض مد فقد يتطرق إليه احتمال.

قال: ومن وجبت عليه فطرته وجبت عليه فطرة كل من تلزمه نفقته، أي بسبب زوجية أو قرابة أو ملك، إذا كانوا مسلمين، ووجد ما يؤدي عنهم؛ لقوله في الخبر السابق:"من تمونون"، وهذا قد رواه الشافعي مرسلاً، وغيره أسنده، وقد جاء أنه صلى الله عليه وسلم قال: ["أدوا زكاة الفطر عمن تمونون" قاله الماوردي.

وقال الإمام]: إن الأثبات نقلوه، وهذا الخبر وإن لم يقع فيه تعرض للإسلام

ص: 12

فقد وقع في غيره، وروى البخاري ومسلم عن أبي سعيد الخدري- رضي الله عنه قال:"كنا نخرج إذا كان فينا رسول الله صلى الله عليه وسلم زكاة الفطر عن [كل] صغير وكبير، حر أو مملوك: صاعاً من طعام، أو صاعاً من أقط، أو صاعاً من شعير، أو صاعاً من تمر، أو صاعاً من زبيب"، وزاد أبو داود:"أو صاعاً من حنطة"[قال]: وليس بمحفوظ عندنا. وهذا مستند الوجوب؛ إذ لو رددنا إلى القياس الذي عقلناه لما أثبتنا على الإنسان صدقة فطر غيره؛ فإن القربات بعيدة من التحمل، وإن نحن قلنا:[إن] الفطرة غير متحملة، بل وجوبها [بسبب الغير بمثابة وجوب زكاة المال بسبب المال] – فهذا بعيد [أيضاً من جهة] أن قريب الإنسان ليس محل ارتفاق كماله، فيبعد إيجاب إخراج الفطرة عنه قياساً على زكوات الأموال.

ولكن أجمع المسلمون على أن الفطرة تجب على الغير بسبب الغير في الجملة؛ لما ذكرناه، لكن هل نقول: الوجوب لاقاه ابتداء أولاً في المنفق عليه، ثم تحمله؟ فيه وجهانا في "المهذب" وغيره، والفوراني وكذا القاضي الحسين روياهما قولين للشافعي، قوال الإمام: إن منهم من خصها بالزوجة الموسرة. وإنهما فيها يستنبطان من معاني كلام الشافعي رحمه الله[لأنها لو كانت خالية عن الزوج لوجبت عليها]؛ فأمكن أن يقال: يحملها عنها الزوج، أما إذا كانت معسرة أو كان المنفق عليه قريباً أو رفيقاً فلا نقول:[إنه] يجب عليه شيء ثم يتحمل عنه، بل الوجوب يلاقي المنفق ابتداءً؛ لأنه لو فقد المنفق لم يجب عليه فطرة نفسه، فكيف يقال: إن الوجوب يلاقيه؟! وهذه الطريقة هي التي رجحها الإمام واقتضاها كلام الشيخ في أول الباب.

ص: 13

لكن القائلون بطرد وجه التحمل في هؤلاء تمسكوا بظاهر الخبر؛ فإنه مقتض لإيجاب الفطرة على العبد وغيره من طريق الأولى، قال الإمام: ولولاه لما عددت إجراء الخلاف في المذهب، وغاية الممكن في توجيهه أن يجعل السيد مادة العبد ومتعلقه؛ فكذا القريب الملتزم بنفقة قريبه مادة قريبة.

قال الرافعي: ثم [حيث] فرض الخلاف وقلنا بالتحمل فهو كالضمان أو كالحوالة؟ حكى أبو العباس الروياني في "المسائل الجرجانيات" فيه قولين:

قلت: والذي حكاه البندنيجي: أنا إذا قلنا بالتحمل كان المنفق كالضامن، وإن قلنا: إن الوجوب لاقاه ابتداء، جعلناه كالمحال عليه. وقد صرح به هكذا في "البحر" أيضاً.

وبنى الأصحاب على هذا الخلاف – مع ما سنذكره- أن الزوجة الموسرة لو أخرجت فطرة نفسها بدون إذن الزوج، وكذا القريب لو اقترض وأخرج فطرة نفسه بغير إذن قريبه: هل يجزئه؟ إن قلنا: إنها وجبت على المنفق ابتداءً، فلا، وألا أجزأه.

[وقال الماوردي: القريب إذا اقترض وأدى زكاة فطرة [نفسه] أجزأه] بالإذن وبدونه، والزوجة إذا أخرجت عن نفسها فإن كان بالإذن أجزأ، وإن كان بغير الإذن فوجهان كما سبق، والفرق: أن نفقة القريب وفطرته وجبت مواساة بدليل سقوطها بغناهم، ولا يرجعون بما أنفقوه على أنفسهم، والزوجة نفقتها وزكاة فطرها أوكد لأنها تجب معاوضة، بدليل وجوب ذلك مع غناها ورجوعها بما تنفقه على نفسها. قال: وليس للزوجة مطالبة زوجها بإخراج الفطرة عنها؛ لأنا وإن أجريناها مجرى الحوالة فليس للمحيل المطالبة، وإن أجريناها مجرى الضمان فليس للمضمون عنه مطالبة الضامن.

وقال في "البحر": في مطالبتها بالإخراج وجهان؛ بناء على أن الوجوب على الزوج ابتداءً، أو عليها ثم يتحمل. وهما [كما] لو حلق حلال شعر محرم مكرها هل له أن يطالب الحالق بإخراج الجزاء؟ وفيه قولان. قال: وهكذا الحكم في الأب الزمن. ثم قال: والمذهب ما حكيناه [عن "الحاوي"].

واحترز الشيخ بقوله: "ومن وجبت عليه [فطرته وجبت عليه] فطرة كل من

ص: 14

تلزمه نفقته" عن مسائل:

إحداها: الكافر إذا ملك عبداً مسلماً، أو كان له قريب [مسلم] تجب عليه نفقته، فإن فطرته لا تجب عليه على طريقة حكاها في "التتمة" مع أخرى، وهي التي حكاها في "المهذب" وغيره عن العراقيين: أن ذلك يبني على أن الفطرة تجب على المنفق ابتداءً أو تحملاً؛ فعلى الأول – وهو الذي قلنا: إن كلام الشيخ يقتضيه – لا تجب في هذه الصورة، وكذا فيما إذا أسلمت ذمية تحت ذمين ثم جاء وقت الوجوب والزوج كافر، ثم أسلم في العدة، وقلنا بوجوب نفقتها عليه. وعلى الثاني: تجب، قال الإمام: وكان يحتمل أن يقال: لا تجب على الثاني أيضاً، ويمتنع التحمل بما يمتنع به الإلزام، قال: وهو منتجه، ثم إن قلنا بالوجوب فالنية لا تصح منه، ولم يصر أحد من أصحابنا إلى تكليف من منه التحمل ألبتة، وكيف يقدر ذلك وقد يكون صغيراً؟! فلا خروج لها إلا على استقلال الزكاة بمعنى المواساة؛ كما تخرج الزكاة من مال المرتد.

وعبارته في "التتمة": أن الإمام يأخذها من ماله كما يأخذها من المسلم الممتنع.

وبقوله: "إذا كانوا مسلمين"، عن الكفار؛ فإنه [لا] يجب عليه فطرتهم، وإن قلنا: إنها تجب على المنفق ابتداءً؛ لأنها طهرة للمخرج عنه، كما جاء في خبر ابن عباس، والكافر ليس من أهل الطهرة، وقد ادعى الإمام اتفاق علمائنا على ذلك، وفي "تعليق" القاضي الحسين حكاية وجه لبعض أصحابنا: أن المسلم يخرج الفطرة بسبب عبده الكافر كما قاله أبو حنيفة، رحمه الله.

قلت: وكأنه نظر إلى قولنا: إنها تجب ابتداءً على السيد، وإن صح هذا وجب طرده في [الزوجة و] القريب، وبه صرح في "التتمة" هكذا، والله أعلم.

المسألة الثانية: المكاتب إذا ملك عبداً أو تزوج امرأة فإن نفقتها تجب عليه، ولا تجب عليه فطرتها [إذا لم نوجب عليه فطرة نفسه، أما إذا أوجبناها عليه وجبت عليه فطرتهما]. قاله ابن سريج وادعى الإمام اتفاق الأصحاب على ذلكن وقال القاضي الحسين هنا وفي باب [من] تجب عليه الزكاة: إنا إذا أوجبنا عليه فطرة نفسه ففي

ص: 15

فطرة عبده وجهان.

الثالثة: العبد إذا ملكه السيد مالاً، وقلنا: إنه يملكه، فإنه تجب عليه نفقة زوجته، ولا يجب عليه فطرتها، لأنه لا تجب عليه فطرة نفسه.

نعم، لو أذن له السيد في إخراج فطرتها منه فقد حكى الإمام عن شيخه في ذلك وجهين، قال: وعندي أن ذلك يترتب على ما تقدم في زوجة المكاتب، وما نحن فهي أولى بألا تجب؛ فإن العبد لا استقلال له أصلاً، والوجه: القطع بعدم الوجوب.

فإن قيل: العبد إذا تزوج بإذن مولاه تعلقت نفقتها بكسبه فهلا كانت فطرتها كذلك، وهي تنحو نحو النفقة؟

قيل: النفقة تلزم ذمة العبد، ولما كان النكاح بإذن المولى اقتضى الإذن في الإلزام إذناً في التأدية، ولا محل لذلك أقرب من كسب العبد، أما الفطرة فإنها [عمن تلزمه نفقته]، والعبد ليس من أهل التزام النفقة، والسيد لم [تلزمه نفقة زوجة العبد] حتى تتبع الفطرة النفقة، كذا قاله الإمام.

وقد اقتضى كلام الشيخ- رحمه الله – أموراً:

أحدها: وجوب فطرة عبد ولده الصغير الذي لا يستغني عن خدمته؛ لأن نفقته واجبة عليه، وقد حكيناه عن النص، وقال في "البحر": إنه نص عليه في القديم، وإن الداركي من أصحابنا حكى وجهاً:[أنه لا يباع، وتكون زكاة الفطر في ذمته، ووجهاً] آخر: أنه يباع منه بقدر الزكاة، وهو ما أبداه الإمام احتمالاً لنفسه من عدم إيجاب فطرة زوجة الأب. وهذا الذي حكيته عن "البحر" رأيته في نسخة منه، وقد حكى فيها بعد ذلك ما يوهم توقفاً فيما تقدم، فمن عثر على خلافه من نسخة صحيحة فليلحقه بحاشية كتابنا هذا.

الثاني: وجوب فطرة زوجة الأب الذي يجب [نفقته إذا أوجبنا على ابنه إعفافه؛ لأن نفقتها تجب] على الابن، وهو أحد الوجهين في المسألة، والذي صححه الغزالي وطائفة.

ص: 16

ومقابله: عدم الوجوب، وهو الأصح في "التهذيب" و"العدة" وغيرهما؛ لأن الأصل في القيام بأمرها هو الأب والابن متحمل عنه، والفطرة غير لازمة على الأب [بسبب] الإعسار؛ فلا يتحملها الابن، بخلاف النفقة فإنها لازمة مع الإعسار فيتحملها، ولأن فقدها النفقة يمكنها من الفسخ، وإذا فسخت احتاج الابن إلى تزويجه، وفقد الفطرة بخلافه.

قال الرافعي: ويجري الوجهان في فطرة مستولدته.

الثالث: وجوب فطرة خادم زوجته إن كانت ممن تخدم، كما صرح به في كتاب النفقات، وهو المحكي عن نصه في "المختصر"، ولم يورد الماوردي غيره، وقال الإمام بعد حكايته عن بعض الأئمة: والأصح عندنا أنها لا تجب، فإن نفقة الخادمة غير مستقلة إذ يمكنه تحصيل الغرض بمتبرعة أو مستأجرة، وتصوير محل الوجوب مذكرو في كتبا النفقات. أما وجوب فطرة الزوجة فلا خفاء فيه؛ فلذلك لم أنبه عليه، نعم، حكى القاضي الحسين فيما إذا تزوج [الحر الموسر بمكاتبة] هل تجب فطرتها عليه؟ خلافاً ينبني على أن فطرة الكاتب هل تجب على [نفسه، أو لا؟ فإن قلنا: لا تجب عليه] فطرة نفسه، فها هنا لا تجب على الزوج فطرتها، وإن قلنا: تجب، فهاهنا يجب على الزوج فطرتها.

قلت: والجزم فيه بعدم الوجوب على الزوج إذا قلنا: لا يجب على المكاتب فطرة نفسه – فيه نظر؛ بل يظهر أن [يبني على] أن الفطرة تجب على الزوج تحملاً أو ابتداء؟ [فإن قلنا تحملاً، فالأمر كم قال، وإن قلنا: ابتداءً]، فلا، وكلامه في موضع آخر يرشد إلى ذلك، لأنه قال: إذا قلنا بالجديد وهو أن المكاتب لا تجب فطرة نفسه-[فلا تجب فطرة] المكاتبة على زوجها؛ لأنها ليست من أهل الفطرة، وإذا لم تجب عليها فكيف يتحمل عنها؟! والله أعلم.

الرابع: وجوب فطرة العبد الآبق على رأي؛ لأن الإمام حكى هاهنا خلافاً في أن

ص: 17

العبد الآبق هل يستحق النفقة أم لا؟ وأبداه قبيل باب صدقة الخلطاء احتمالاً وقد حكى في "المهذب" في وجوب فطرته طريقين:

أحداهما: القطع بالوجوب؛ لأن فطرته تجب بحق الملك، والملك لا يزول بالإباق.

والثانية: في فطرته قولان كالزكاة في المال المغصوب.

وكذا حكى الطريقين فيه المراوزة والقاضي أبو الطيب والبندنيجي وابن الصباغ في أواخر باب صدقة الغنم، [ونسبت طريقة القطع بالوجوب إلى الشيخ أبي حامد.

قال ابن الصباغ: وهو ظاهر كلام الشافعي- رحمه الله] وطريقة القولين تنسب إلى باقي الأصحاب والبندنيجي فرض الطريقين هكذا ها هنا فيما إذا كان الآباق لا يعرف موته ولا حياته وكذا غيره من العراقيين [فرضهما] فيمن لم يعرف موته ولا حياته، وقالوا: إن الأولى طريقة أبي إسحاق، والثانية طريقة المزني وغيره من الأصحاب، وإن الاختلاف أخذ من قوله في "المختصر" هنا: ويخرج عن عبيده الحضور والغيب وإن لم يرج رجعتهم إذا علم حياتهم. وقال في موضع آخر من "المختصر": يزكي عنهم وإن لم يعلم حياتهم. فأبو إسحاق يقول: قد نص أنه يزكي عنهم إذا علم حياتهم، ولم يسقط الزكاة عنهم إذا [لم يعلم] حياتهم، ولا يجب أن نجعل لكلامه دليل خطاب فكانت المسألة على قول واحد وهو الوجوب. وغيره جمع بين صريح أحد لفظيه ومفهوم [الآخر، وأثبت فيهما قولين منصوصين.

والمراوزة قالوا: إن الاختلاف أخذ من نصه على] وجوب فطرته وعلى عدم إجزاء عتقه عن الكفارة فمن اثبت القولين نقل وخرج ومن قطع بالوجوب قرر النصين وفرق بأن الفطرة تجب بالملك والأصل بقاؤه والأصل شغل الذمة بالكفارة فلا تسقط بالشك.

والصحيح – وإن ثبت الخلاف كما قال القاضي أبو حامد والماوردي وغيرهما -: الوجوب وإذا قلنا به فهل يجب الإخراج في الحال؟ قال البندنيجي وغيره: فيه قولان نص عليهما في "الأم"،والمذكور منهما في "تعليق" القاضي

ص: 18

الحسين: الوجوب ومقابله ليس بشيء باتفاق الأصحاب وفرقوا بين زكاة المال الغائب حيث لا يجب إخراجها قبل حضوره وبين زكاة فطرة العبد الغائب: بأن إمكان الأداء شرط في الضمان في زكاة المال، والمال الغائب يتعذر فهي الأداء وليس كذلك زكاة الفطر فإنها تجب [على ما تؤدَّى] منه.

والطريقان جاريان – كما حكاهما القاضي أبو الطيب والإمام متصلاً بباب صدقة الخلطاء – في فطرة العبد المغصوب، وقال الإمام هنا: إن الذي ذهب إليه المحققون أن صدقة الفطر على المملوكين لا يُنْحَى بها نحو زكاة الأموال حتى [يرعى في إيجابها تمكن] السيد [من] مملوكه؛ فإن المالية غير مرعية في هذه القاعدة؛ ولهذا وجبت الفطرة بسبب الابن والزوجة. وذهب بعض أصحابنا إلى تنزيل فطرة العبد منزلة زكاة الأموال. [ثم قال]: فإن قلنا بوجوبها ففي وجوب إخراجها على التعجيل وجهان والذي أورده العراقيون والماوردي وجوب زكاة فطرته، [وكذا المرهون]،وبه قطع المراوزة [فيه].

وقال الإمام عند الكلام في إيجاب زكاة الفطر [على الورثة في] العبد الموروث: وعندي أن انسداد التصرف بالرهن لا ينقص عن انسداده بغصب العبد فيجيء فيه الطريقان، وعادة أئمة المذهب إذا ذكروا شيئاً ضعيفاً ألا يعودوا إليه، والمنقول في "الإبانة" وغيرها: الأول.

وقال الماوردي: ولا يجوز للسيد إخراجها منه بل يخرجها من ماله وهذا بخلاف المال المرهون حيث أخرجت زكاته منه على أحد القولين لأن فطرة العبد في ذمة سيده وزكاة المال على أحد القولين في عينه.

وحكى في "البحر" وجهاً آخر: أنه يباع منه بقدرها كأرش الجناية، وقد حكى [عن] ابن عبدان طرد الطريقين فيما إذا حيل بين الزوج وزوجته عند الاستهلال.

الخامس: وجوب فطرة مطلقته الحامل طلاقاً بائناً؛ فإن نفقتها واجبة، وهي طريقة

ص: 19

حكاها الإمام وصححها، وحكى طريقة أخرى عن رواية الشيخ أبي علي-: وهي التي أوردها الماوردي والجمهور-أن ذلك يبني على أن النفقة لها أو للحمل؟ فن قلنا: لها- وهو الأصح – وجبت، وإلا فلا؟ إذ الحمل لا تجب الفطرة عنه.

واعلم أنا إذا أوجبنا الفطرة في الصور السابقة كانت القاعدة التي ذكرها الشيخ مطردة وهل هي منعكسة حتى نقول: ومن لاتجب نفقته لاتجب فطرته؟ [فيه خلاف]؛ لأن الشيخ أبا بكر بن الحداد قال: إذا كن له ولد صغير يملك قوت يوم العيد وليلته فلا تجب على الأب نفقته في ذلك اليوم وتجب [عليه] فطرته، ولو فرضت [هذه الصورة] في الابن البالغ قال: لاتجب فطرته؛ لأنه لم يفضل من قوته شيء، ولا تجب الفطرة على الأب-أيضاً – لسقوط النفقة عنه في يوم وجوب الفطرة، والفرق: أن نفقة الصغير آكد؛ لأن الأم تتسلط على استقراضها على الأب في غيبته وعند امتناعه وهذا يفضي إلى تقرير النفقة في الذمة من جهة الاستقراض، ومثل ذلك لا يثبت للابن البالغ المعسر فإذا كانت نفقة الصغير آكد عدت الفطرة جزءاً من النفقة.

وهذا ما أورده القاضي الحسين في "تعليقه" لا غير، وكذلك المتولي، وإذا قلنا به لا تكون القاعدة منعكسة.

والذي حكاه الإمام عن شيخه: أن فطرة الولد الصغير لا تجب [كالولد الكبير] وهو القياس، والأول بعيد عنه، وأنه تردد في جواز الاستقراض وقال: القياس المرتضى امتناع ذلك من الأم، إلا أن يسلطها السلطان.

فعلى هذا تكون القاعدة منعكسة أيضاً.

ص: 20

وقد أفهم قول الشيخ: "ووجد ما يؤدي عنهم"، أن من ملك عبداً لا مال له بعد قوت يوم العيد وليلته، [وصاعاً يخرجه عن نفسه غيره] – أنه لا تجب فطرته، وقد حكى الإمام فيه ثلاثة أوجه:

أحدها: هذا؛ لأنه لو وجب عليه بيع جزء منه لأجل فطرته لأدى إلى اتحاد المخرج والمخرج عنه.

والثاني أنها تجب، وهو الذي ذهب إليه الأكثرون كما قال الإمام في موضع من هذا الباب وقال [في آخر منه: إنه المذهب] الظاهر. ولم يحك القاضي أبو الطيب في "شرح الفروع" غيره؛ فإن المعتمد في المال المعتبر في إيجاب الفطرة: أن يفضل عن القوت يوم العيد مقدار الفطرة والعبد في نفسه فاضل عن القوت.

والثالث: [إذا كان العبد مستغرقاً بالخدمة][فلا فطرة لتعذر تقدير بيعه، وإن لم يكن الرجل محتاجاً إلى الخدمة] فالعبد كسائر الأموال وهذا ما ادعى الرافعي أنه الأظهر.

وأنت إذا أفردت كل حالة من حالتي العبد كان لك فيها وجهان وقد حكاهما البغوي فيما إذا كان العبد مستغرقاً لخدمته وصحح المنع كما تقدم وحكاهما في "الوسيط" فيما إذا كان مستغنياً عن خدمته وأبدى الإمام على قول من لمي وجب الفطرة فقهاً فقال: قد يقال لهذا القائل: مقدار الصدقة من الرقبة إن كان ينقص عن المالية فالزائد عليه يجب أن يخرج قسطه من الفطرة عنه؛ تخريجاً على إيجاب الفطرة عن العبد المشترك، وهذا ما لابد منه ولكن الذي أطلقه الأصحاب نفي الزكاة في وجه، ولست أرى ذلك وجهاً؛ ولأجل ذلك حكى في "الوسيط" في الصورة التي حكى فيها الخلاف، وهي ما إذا كان مستغنياً عن خدمة العبد وجهاً ثالثاً، قال: وهو الأعدل وإن لم يكن محكياً على هذا الوجه- أنه إن استغرق الصاع قيمته فلا يخرج وإن كان عشرة مثلاً يشتري بتسعة أعشار صاع فليخرجه عن الباقي بعد بيع العشر؛ لأن من لا يملك إلا تسعة أشعار عبد يلزمه تسعة أعشار صاع فلا يؤدي إلى الاتحاد المحذور، وقد قال في "التتمة": إن قلنا: إن العبد المحتاج إليه للخدمة يباع في فطرة السيد، فهل يباع بعضه في فطرة نفسه؟ فيه وجهان. وهذا الترتيب قد أبداه

ص: 21

الرافعي احتمالاً لنفسه.

وقد جزم الغزالي وغيره بأن السيد يخرج الصاع عن نفسه، وهو بناء على الصحيح في أنه [إذا] لم يجد إلا صاعاً وقد اجتمع معه من يجب عليه فطرته: أنه يخرجه عن نفسه أما إذا قلنا في هذا الصورة: إنه يتخير أو يجب توزيعه- كما سيأتي-فمثل ذلك يأتي في مسألة العبد لا محالة إذا قلنا: لا يجب بيع جزء منه لأجل فطرته، والله أعلم.

قال: وإن وجد ما يؤدي عن البعض بدأ بمن يبدأ بنفقته لأن الفطرة تابعة لها بمقتضى الخبر، وهذا ما عليه أكثر أصحابنا كما قاله البندنيجي وصححه النووي.

فعلى هذا: يبدأ بفطرة نفسه؛ لقوله-عليه الصلاة والسلام: "ابدأ بنفسك، ثم بمن تعول"، ولأنه لو كان هو ومن تلزمه نفقته مضطرين ومعه طعام قليل كان هو أولى بالطعام، وكذلك إذا جامع امرأته ومعه ماء قليل يكفي لغسل واحد كان هو أولى به فكذا في مسألتنا، فإن فضل عنه شيء صرف عن زوجته؛ لأن استحقاقها آكد من استحقاق القرابات؛ إذ كانت تستحق النفقة بعقد معاوضة بإزاء التمكين من الاستمتاع والاحتباس في منزله، ولأن نفقتها تثبت في حال اليسار والإعسار وتثبت ديناً في ذمته وليس كذلك نفقة الأقارب.

فإن فضل شيء صرفه عن ولده الصغير؛ لأن نفقته ثبتت [بنص القرآن] والسنة وزكاة فطرته إجماع بخلاف فطرة الأب.

فإن فضل شيء صرفه عن أبيه، ثم عن أمه، ثم عن ولده الكبير.

وهذا ما ذكره في "المهذب" تفريعاً على هذا الوجه؛ اتباعاً للقاضي أبي الطيب والماوردي، قال [الرافعي]: وهو الأظهر.

ص: 22

وقد حكى القاضي الحسين وجهاً آخر على هذا: أنه يقدم بعد فطرة نفسه وزوجته فطرة الأب، ثم الأم، ثم الولد الصغير، ثم الكبير.

وحكى البندنيجي والفوراني [وجهاً]: أنه يقدم فطرة نفسه، ثم [فطرة] زوجته، ثم ولده الصغير، ثم ولده الكبير، [ثم الأب فالأم.

ولو] اجتمع الأب والأم فثلاثة أوجه مبنية على أيهما مقدم في النفقة، وفيها ثلاثة أوجه:

أحدها: [تقدم نفقة الأب] فعلى هذا تقدم فطرته.

والثاني: تقدم نفقة الأم فعلى هذا تقدم فطرتها.

والثالث: تقسم بينهما وعلى هذا قال أبو حامد: يقسم الفاضل بينهما إن شاء وإن شاء أخرجه عمن شاء منهما.

قال في "البحر": ينبغي أن يقال: يخرج عمن شاء منهما ولا يقسم؛ لأنا هذا تفريع على قول الترتيب وأداء التمام، [لا] على قول القسمة وترك الترتيب.

والصحيح: أن الأب أولى. وهذا إذا اجتمع متفاوتون في الدرجة، فلو فضل صاع بعد فطرته واستوى الباقون في الإنفاق، فهل يقسم بينهم أو يتخير؟ فيه وجهان في "الوسيط" وغيره قال الرافعي: ولم يتعرضوا للإقراع هاهنا، وله مجال في نظائره.

قال: وقيل يقدم فطرة الزوجة على فطرة نفسه؛ لأنها [تتبع النفقة] ونفقتها تجب بحكم المعاوضة فتثبت في الذمة بخلاف نفقة غيرها فكانت آكد، قال في "الوجيز": ولأن فطرتها دين، والدين يمنع وجوب هذه الزكاة.

ص: 23

قال الرافعي: وصاحب الوجه الأول قد يمنع في هذه الصورة كونها تصير ديناً في الذمة، [وإن أراد أنها تكون ديناً في الذمة] في الجملة فنفقة القريب كذلك، وهذا الوجه حكاه أبو إسحاق المروزي، وقال الإمام: إنه من غلطات المذهب. فإذا قلنا به قدم فطرة نفسه ثم من ذكرناه.

قال البندنيجي والمتولي: والمذهب تقديم فطرته على فطرتها.

والوجهان متوافقان على تقديم فطرتها على الأقارب، وقد حكى وجه يعزى إلى ابن أبي هريرة: أنه يقدم فطرة نفسه ثم أقاربه ثم الزوجة؛ لأن علقة القرابة لا تنقطع، بخلاف الزوجية، وقال الإمام: هذا لا أرى له وجهاً، ولم يذكره إلا بعض المصنفين.

قال: وقيل: يبدأ بفطرة نفسه ثم هو بالخيار في حق غيره؛ لقوله-عليه الصلاة والسلام: "ابدأ بنفسك ثم بمن تعول"، قال الإمام وهذا لا وجه له عندي.

وقيل: هو بالخيار في حق نفسه وحق غيره، لأن كل واحد لو انفرد لوجبت فطرته، وقال الإمام: لعل قائله تلقى مذهبه من مذهب الإيثار في النفقة لما رأى الفطرة متلقاة من النفقة، وهو ساقط من جهة أن الفطرة قربة ولا إيثار في القرب، ولست أعرف خلافاً في [أن] من وجد من الماء ما يكفيه لطهارته لم يكن له أن يؤثر به رفيقه ليتطهر به وما يتخيله من أمر النفقة لا أصل [له]؛ فإنا لم نتبع الفطرة النفقة على معنى معقول حتى [يلزم تنزيل] الفرع على الأصل إن كان ينتظم ذلك، وإنما اتبعنا فيه الخبر.

وادعى الشيخ أبو حامد- رحمه الله – أن هذا الوجه ظاهر المذهب؛ لأنه قال في "المختصر": ومن دخل عليه شوال وعنده قوت وقوت من يقوت يومه وما يؤدي به زكاة الفطر عنه وعنهم أداه فإن لم يكن عنده بعد قوت اليوم إلا ما يؤدي عن بعضهم [أدى عن بعضهم]. فأطلق الأداء عن البعض إطلاقاً؛ فدل على تخيره.

وال الرافعي: إنه الذي رجحه القاضي الروياني، فإذا قلنا به لمن أراد أن يوزع الصاع هل له أن يفعل ذلك؟ نقل الإمام [فيه] وجهين، ووجه الجواز: صيانة البعض عن

ص: 24

الحرمان ووجه المنع- وهو الأصح عنده -: نقصان المخرج عن قدر الواجب في حق الكل مع أنه لا ضرورة إليه، والوجهان كما قال في "الوسيط" على [قولنا]: إن من لم يجد إلا بعض الصاع يخرجه، فإن لم يلزمه إخراجه لم يجز التوزيع وجهاً واحداً.

قال الرافعي: وقد أورد المسعودي وجه التوزيع إيراداً يشعر بأنه يتعين عليه ذلك محافظة على الجوانب.

قلت: وهو مصرح به كذلك في الإبانة والبحر وابن يونس والقاضي الحسين ذكره هكذا فيما فضل عن فطرة نفسه فقال: إذا كان معه صاعان فأخرج أحدهما عن نفسه – فالصاع الآخر يجب توزيعه على من تلزمه نفقته. وهكذا أورده المتولي والإمام عن الصيدلاني وقال: إنه [ركيك مع تفاوت الرتب] ولا ينقدح إلا حيث ينقدح الإيثار.

وقد حكى الماوردي في المسألة وجهاً آخر: أنه يخرج الفاضل عن قوته وقوت من تلزمه نفقته إذا كان صاعاً عن واحد لا بعينه ليحتسب [الله به] عمن شاء؛ لأنه [لو] كان واجد الفطرة جميعهم لم يلزمه أن يعينها عن كل واحد منهم؛ فكذا إذا كان واجد الفطرة واحداً منهم لا يلزمه أن يعينها عن واحد منهم.

قلت: وهذا الوجه يظهر بناؤه على أن [فطرة] من تلزمه نفقته تجب ليه ابتداء لاتحملا وبه صرح الإمام حيث قال في آخر الفصل: [إنا] إذا قلنا: الوجوب [يلاقي] المخرج ابتداء لا تحملا فلا معنى للتقديم والتأخير. نعم إن عين من قلنا إنه مؤخر فسد بتعيينه ما أخرجه وكان [هذا] كما لو نوى إخراج الزكاة عن بضاعته التي بالري فإذا هي تالفة- وسنذكره - أما إذا قلنا: إن المخرج يتحملها عن المنفق عليه فلابد من تعيين من يخرج عنه بالقصد، وإن كان لا يجب عليه مراجعته فهي استنابة شرعية قهرية.

قلت: وقد اقتضى كلام الإمام أن الخلاف فيمن يستحق التقديم في الفطرة جار على قولنا: [إن المخرج يلقاه الوجوب ابتداء أو تحملاً، ولا شك في ظهوره

ص: 25

إذا قلنا]: إنه يتحمل، أما إذا قلنا: إن الوجوب يلقاه ابتداء، فلا يظهر جريانه؛ إذ لا أثر له؛ فإن من [لم يخرج] عنه إذا كان موسراً – وهو إنما يتصور في الزوجة – لا يجب [عن نفسه على هذا القول كما سيأتي ومن أخرج عنه غير مثاب، والله أعلم.

تنبيه: قول الشيخ: "فإن وجد بعض ما يؤدي عن البعض"، ظاهره أنه وجد ما يؤدي عن بعض من تلزمه نفقته مع وجدانه ما يؤديه عن فطرة نفسه، وإذا كان كذلك لم يستقم قوله من بعد:"وقيل: يقدم فطرة الزوجة على فطرة نفسه"؛ فإن هذا القول يقتضي أن الموجود صاع واحد لا غير، وأيضاً فإنه جعل الشرط في وجوب فطرة من تلزمه نفقته أن تكون فطرة نفسه قد وجبت عليه وإذا وجب عليه إخراج الصاع الذي قدر عليه عن زوجته لم تكن فطرة زوجته قد وجبت عليه وجواب هذا أنه أراد: من صلح لأن تجب عليه فطرة نفسه في الجملة وجب عليه فطرة كل من تلزمه نفقته

إلى آخره، والله أعلم.

قال: وإن زوج أمته بعبد أو حر معسر أي: وسلمها إليه ليلاً أو نهاراً، أو تزوجت موسرة بحر معسر- ففيه قولان.

القولان في هذه المسألة بالنقل والتخريج؛ لأن الشافعي – رحمه الله – نص كما حكاه البندنيجي وغيره فيما إذا زوج أمته من عبد أو مكاتب أو حر معسر على وجوب فطرتها على سيدها، وقال في الحرة إذا تزوجت بحر معسر:"لا يبين لي أن تجب عليها؛ لأنها مفروضة على غيرها"، فاختلف الأصحاب لأجل ذلك في المسألة، فالأكثرون منهم – كما قال الماوردي والإمام – قالوا: لا فرق بين الحرة والأمة؛ لأن الحرة من نفسها بمنزلة الأمة من مولاها؛ لأن نفقة الحرة قبل التزويج على نفسها في مالها، ونفقة الأمة قبل التزويج على مولاها في ماله، فإذا قال الشافعي – رحمه الله – في المولى:"يجب عليه زكاتها"، وجب أن يكون على الحرة في مالها، وإذا قال في الحرة:"لا تجب عليها"، وجب ألا يكون على المولى، فحينئذ يكون في المسألة قولان كما حكاهما الشيخ رحمه الله.

قال: أحدهما: يجب على السيد فطرة الأمة، وعلى الحرة فطرة نفسها؛ لأن الزوج المعسر الذي لا يقدر على إخراج الزكاة بمنزلة المعدوم، ولو لم يكن لها زوج وجبت على المولى والحرة؛ فكذلك هاهنا.

ص: 26

والثاني: لا تجب؛ لأنها زكاة واجبة على الزوج، فوجب أن تسقط بعجزه عنها كزكاة نفسه. قال القاضي أبو الطيب: وفي "المهذب" و"البحر": وقد قال بعض أصحابنا: إن القولين ينبنيان على أن زكاة الفطر تجب على الزوج بطريق التحمل أو ابتداءً؟ فإن قلنا: تحملاً، فإذا لم يكن من أهل التحمل بقي وجوبها على السيد والحرة، وإن قلنا: تجب ابتداءً، سقطت، ولا تجب على المولى والحرة. وهذا لذي قاله هو الذي قاله البندنيجي وابن الصباغ والقاضي الحسين والفوراني والغزالي لا غير، وفيه نظر من وجهين:

أحدهما: أن الخلاف في أن الفطرة تجب على الزوج تحملاً أو ابتداء [فيه] وجهان، فكيف يمكن بناء القولين على وجهين؟ وهذا يمكن جوابه من وجهين:

أحدهما: أنا قد ذكرنا أن بعضهم أثبت الخلاف قولين، وعلى هذا لا إشكال.

والثاني: أنا وإن سلمنا أنه وجهان، فالوجهان مخرجان من أصول الشافعي – رحمه الله – وحينئذ فلا يمتنع بناء قوليه على أصليه، والله أعلم.

النظر الثاني: أنا قد حكينا عن رواية الرافعي عن أبي عباس الروياني: أنا إن قلنا: إنها وجبت بطريق التحمل، فهل المؤدي كالضامن أو كالمحال عليه؟ فيه قولان، فإن قلنا: إنه كالضامن – وهو ما حكيته عن البندنيجي [و] صاحب "البحر" لا غير- اتجه ما قالوه من البناء على بعد، وإن قلنا: إنه كالمحال عليه، فلا وجه لمطالبة المحتمل عنه عند إعسار المحتمل؛ كما لا مطالبة [للمحتال] على المحيل عند إعسار المحال عليه.

قال: وقيل: تجب على السيد ولا تجب على الحرة؛ وهو ظاهر المنصوص، أي: في المسألتين؛ لأن المولى لا يلزمه تسليم الأمة إلى زوجها نهاراً، وإنما يلزمه ذلك ليلاً، فإذا أسلمها نهاراً كان متبرعاً به، فلم تسقط بذلك زكاة واجبة عليه، وليس كذلك الحرة؛ فإنه يجب عليها بالعقد تسليم نفسها إلى زوجها ليلاً ونهاراً، فانتقلت فطرتها عنها بغير اختيارها فلم تعد إليها، ولأن الأمة اجتمع فيها في التحمل سببان: الملك والزوجية، والملك أقوى بدليل تقديمه في الاستخدام على النكاح؛ فإن السيد يسافر بها دون إذن الزوج، ولا يسافر بها الزوج إلا بإذن السيد؛ فتعلق الوجوب بالسبب الأقوى، ولا كذلك الحرة؛ فإنه لم يوجد في حقها إلا

ص: 27

سبب واحد، فأنيط الحكم به.

وهذه طريقة أبي إسحاق المروزي وغيره كما قال البندنيجي، وهي المصححة في "الروضة".

والصحيح عند الشيخ أبي علي وغيره: الطريقة الأولى، وما ذكره أبو إسحاق منتقض بما إذا كان [الزوج] موسراً؛ فإن فطرتها واجبة على الزوج وجهاً واحداً، أبي أو رضي، وما ذكره موجود فيه.

وأشار الإمام- رحمه الله – إلى ضعف الفرق بقوله: وذهب بعض أصحابنا إلى محاولة الفرق، ولا يكاد ينقدح.

ثم الفرق الأول إنما هو على قولنا: إن الأمة إذا سلمت ليلاً فقط، لا تجب نفقتها كما هو الصحيح، أما إذا قلنا: تجب فلا يتأتى؛ لأنه تبرع فعلى هذا تكون كالحرة سواء في الفطرة، وإن قلنا:[إن] الواجب بتسليمها ليلاً نصف النفقة، فينبغي على سياق هذا: أن يسقط النصف ويجب النصف، وإن وجد التسليم ليلاً ونهاراً؛ كما لو كان نصف العبد لقادر على فطرته، [ونصفه لعاجز عنها، وقلنا: لايباع العبد في فطرته، أو نصفه حر وهو عاجز عن الفطرة]، ونصفه لقادر عليها، فقد صرح الإمام بذلك فيما إذا سلمها ليلاً دون النهار وأبداه في "البحر" احتمالاً.

ولا فرق في جريان الطريقتين في الحرة – كما قال البندنيجي وتبعه في "البحر" – بين أن يكون الإعسار مقارناً لعقد النكاح أو طارئاً عليه.

ثم حيث قلنا: لا يجب علها فطرة نفسها، فالأولى أن تخرجها، نص عليه في "المختصر". ولو نشزت، فسقطت فطرتها عن الزوج لسقوط نفقتها، فقد قال الإمام – رحمه الله: الوجه عندي القطع بإيجاب الفطرة عليها وإن قلنا: إن الوجوب لا يلاقيها؛ لأنها بالنشوز أخرجت نفسها عن إمكان التحمل، وبه صرح ابن الصباغ في آخر باب صدقة الغنم.

قلت: ويؤيده أن الماوردي – رحمه الله – لم يحك خلافاً في أنها تجب على السيد إذا لم يسلم الأمة إلى الزوج، وهو ما نص عليه في "المختصر"، أما لو تزوجت

ص: 28

الحرة الموسرة بعبد أو مكاتب، وقلنا: لا تجب على المكاتب فطرة نفسه، فلا شك أن فطرتها لا تجب على الزوج، وهل تجب عليها؟ فيها طريقان عند المراوزة:

أحداهما: فيها قولان؛ كما لو تزوجت بحر معسر، وهي التي أوردها البندنيجي لا غير.

والثانية: القطع بالوجوب؛ [لأن العبد أو المكاتب] ليس بأهل لأن تجب عليه فطرة نفسه؛ فلا يصلح للتحمل، [بخلاف الحر فإنه من أهل التحمل] في الجملة.

قلت: والطريقان يمكن أخذهما من أن القولين فيما إذا تزوجت بحر أصلان بأنفسهما وعليهما ما سلف أو هما مبنيان على أن الفطرة تجب على الزوج تحملاً أو ابتداء؟ فإن قلنا: هما أصلان –لما ذكرناه من العلة – جرياً ها هنا؛ لأن علتهما موجودة، وإن قلنا: هما مبنيان على ما تقدم، قطعنا هنا بالوجوب عليها لما ذكرناه، وحينئذ يكون الطريقان في طريقة العراقيين أيضاً، وقضية ذلك: أن تطرد الطريقة القاطعة بالوجوب عليها فيما إذا زوج أمته بعبد، وإن قلنا: إنه [لو] زوجها بحر معسر كان في فطرتها القولان لما ذكرناه من المعنى، وبه صرح الفوراني والقاضي الحسين وغيرهما.

قال: وتجب صدقة الفطر إذا أدرك آخر جزء من شهر رمضان، وغربت الشمس في أصح القولين؛ لقول ابن عمر – رضي الله عنه: إن رسول الله صلى الله ليه وسلم فرض زكاة الفطر من رمضان، [وقول ابن عباس – رضي الله عنهما: إنه عليه السلام فرض زكاة الفطر من رمضان] [طهرة] للصائم. فأضاف الزكاة إلى الفطر المطلق من صوم رمضان.

وأول فطر يحصل إنما هو بغروب الشمس في آخر أيامه؛ فدل على أن ذلك سببها الموجب لها، وهذا هو الجديد، ووافق الشيخ على تصحيحه من عداه، وهو في هذه العبارة متبع للشافعي – رحمه الله –فإنه قال في "المختصر": وإنما يجب عليه أن يزكي عمن كان عنده منهم في شيء من نهار آخر يوم من شهر رمضان وغابت الشمس ليلة شوال، فيزكي عنه.

فإن قلت: إدراك آخر جزء من شهر رمضان لا يدرك إلا بغروب الشمس ليلة

ص: 29

العيد، فلأي معنى قال: وغربت الشمس؟

قلت: ليبين لك أن مجموع الزمنين – أعني: آخر جزء من شهر رمضان، وأول جزء من ليلة العيد هو سبب الوجوب، وهو مراد الشافعي – رحمه الله – بما حكيناه عنه؛ ولذلك قال القاضي أبو الطيب: كأن الشافعي اعتبر آخر جزء من آخر يوم من رمضان إلى أول جزء من ليلة شوال، قال الماوردي – رحمه الله: لأن زكاة الفطر إما أن تجب بخروج رمضان أو بدخول شوال، وغروب الشمس يجمع الأمرين؛ فكان تعلق الزكاة به أولى.

قال: وتجب بطلوع الفجر في الثاني؛ لقوله – عليه السلام:"أغنوهم عن الطَّلب في هذا اليوم"، وأراد به يوم الفطر؛ فدل على أن الوجوب يتعلق باليوم دون الليلة؛ ولأنها عبادة تتعلق بالفطر من رمضان؛ فوجب أن تتعلق بيوم الفطر كصلاة العيد، وهذا ما نص عليه في القديم.

والقائلون بالأول قالوا: الخبر حجة لنا؛ لأن الإغناء عن الطلب في هذا اليوم يقتضي أن يكون الإعطاء سابقاً؛ حتى يكون غنيّاً من أول النهار إلى آخره، والقياس لا حجة فيه؛ لأنا لا نسلم أن صلاة العيد تتعلق بالفطر من صوم رمضان على أنا نقلبه عليهم فنقول: وجب ألا تتعلق بطلوع الفجر من يوم الفطر كصلاة العيد.

وقد حكى المراوزة قولاً ثالثاً: أنها تجب [بإدراك مجموع] الوقتي، ونسبه القاضي الحسين والإمام إلى حكاية صاحب "التلخيص"، وقال الإمام: إنه لا يكاد يتجه. ووجَّهه القاضي بأن حقيقة الفطر إنما تدخل بطلوع الفجر؛ إذ الليل غير قابل للصوم؛ فاشترطنا كلا الطرفين: أحدهما: لدخول وقت الفطر، والثاني: لتحقق الفطر.

وقال في "البحر": إن هذا القول مخرج ذكره صاحب "التلخيص"، ولا يعرف

ص: 30

للشافعي رحمه الله – وعن الصيدلاني: أن الأصحاب استنكروه.

التفريع: إن قلنا بالأول، فلو اشترى مملوكاً، أو تزوج امرأة أو وُلد له قريب، أو أسلم بعد الغروب – لم يجب شيء. ولو وجد ذلك قبل الغروب، واستمر الوجود إلى أن غربت الشمس – وجبت الفطرة، ولا يضر الموت بعد ذلك، إلا إذا حصل [قبل] التمكن من إخراج الفطرة؛ فإن في سقوطها وجهين في "تعليق" القاضي أبي الطيب عن ابن سريج:

أحدهما: نعم؛ كزكاة المال.

والثاني: لا؛ لأنها تجب [في الذمة]، ولا تعلق لها بالعين أصلاً، وتخالف زكاة المال؛ فإنها تتعلق بالعين تعلق شركة أو رهن عند العراقيين.

وقد حكى الإمام والمتولي والبغوي الوجهين من غير عزو إلى ابن سريج، وكذا الشيخ في "المهذب"،والذي أورده البندنيجي وصاحب "البحر" منهما: الثاني، والوجهان يجريان فيما لو تلف ماله بعد الوجوب وقبل التمكن، كما حكاه القاضي أبو الطيب في أواخر باب صدقة الغنم والمشهور منهما: الثاني.

فإن قلنا بالثاني أجرينا ما ذكرناه من التفصيل قبل الغروب وبعده، قبل طلوع الفجر وبعده. [وإن قلنا بالثالث فلو وجد ذلك قبل الغروب، وزال قبل طلوع الفجر، أو حدث بعد الغروب]، واستمر إلى طلوع الفجر – لم تجب. نعم، لو ملك عبداً قبل الغروب، وغربت الشمس وهو في ملكه، ثم مات السيد وله وارث معين، وبقي العبد حتى طلع الفجر – فالمذهب على الثالث: أنه لا تجب فطرته، وحكى الشيخ أبو علي [أن] من أصحابنا من أوجبها؛ بناء على القديم في أن الوارث يبني

ص: 31

على حول الموروث.

ولو ملك عبداً قبل الغروب، وباعه [بعده]، ثم اشتراه قبل طلوع [الفجر]، وطلع الفجر وهو في ملكه – ففي وجوب فطرته عليه على هذا القول وجهان، بناء على أن الزائل العائد كالذي لم يزل أو كالذي لم يعد، وعلى القولين الأولين يجب بلا خلاف.

وعلى الأقوال كلها: لو ملك عبداً، أو ولد له ولد، أو تزوج امرأة بعد الغروب، ثم زال الملك والزوجية، ومات الولد قبل طلوع الفجر- لا زكاة بسبب ذلك، والله أعلم.

قال: والأفضل أن تخرج قبل صلاة العيد؛ لما روى البخاري ومسلم وغيرهما عن ابن عمر قال: "أمرنا رسول الله صلى الله عليه وسلم بزكاة الفطر أن تؤدي قبل خروج الناس إلى الصلاة" وهذا ما نص عليه في القديم كما قال أبو الطيب وابن الصباغ، لكن ما المراد بالقبلية المذكورة؟ في "التهذيب" أنها تحصل بالتفرقة في ليلة العيد ويوم العيد قبل الصلاة، و [قال القاضي أبو الطيب والماوردي والبندنيجي: إن الأفضل إخراجها يوم العيد قبل الصلاة]، وهو الذي يقتضيه ظاهر الخبر، وهو الأولى للخروج من الخلاف في جواز التعجيل.

[قال: ويجوز إخراجها في جميع شهر رمضان؛ لأن إخراجها قبل ذلك بيوم أو يومين جائز بإجماع الخصم، وهو مالك – رحمه الله – وليه يدل ما رواه أبو داود: أن ابن عمر

ص: 32

كان يؤديها قبل الصلاة بيوم أو يومين، وإذا جاز التعجيل] بيوم أو يومين قلنا بجوازه في شهر رمضان قياساً، والجامع: إخراجها في جزء من رمضان، وقد وجهه الأصحاب بأنها تجب بأمرين يختصان بها، وهام: إدراك رمضان والفطر، وما وجب بأمرين يختصان به جهاز تقديمه على أحدهما كزكاة المال والكفارة؛ فإنه يجوز تعجيل الزكاة بعد ملك النصاب وقبل الحول للخبر كما سنذكره، ويجوز إخراج الكفارة بعد اليمين وقبل الحنث بوفاق الخصم. وقولنا: يختصان به، احتراز من الإسلام والحرية؛ فإنهما لا يختصان بها، وإدراك رمضان [ووقت الفطر يختصان بها].

قلت: وهذا القياس منتظم على قولنا: إن وقت الوجوب الغروب أو مجموع الوقتين، أما إذا قلنا: وقته طلوع الفجر، فلا؛ لأن من ولد له ولدن أو ملك عبداً بعد الغروب، وبقي إلى طلوع الفجر – تجب فطرته وإن لم يدرك رمضان؛ فدل على أن إدراكه على هذا القول ليس بسبب، وإذا كان كذلك فلا سبب لها إلا واحد، وقضية ذلك [أنه لا يجوز] التعجيل؛ لأن ما له سبب واحد لا يجوز تعجيله عليه، وهذا لم أره لأحد من الأصحاب، غير أن البندنيجي والماوردي حكياً أن أبا عبيد بن حروبويه من أصحابنا قال: لا يجوز تعجيل زكاة المال أصلاً، وذلك في زكاة الفطر أولى؛ لأنها فرعه.

ص: 33

[فإن قلت: من قال بأنها تجب] بطلوع الفجر يجوز أن يجعل وجود الشخص في نفسه سبباً ثانياً؛ لأن زكاة المال عن المال، وهي أحد سببيه؛ فكذا هاهنا، [وحينئذ فيكون] التعجيل بتقدم أحد السببين؛ فجاز كما في زكاة المال.

قلت: لو كان هذا المأخذ لجاز إخراجها في جميع السنة كما قاله أبو حنيفة – رحمه الله – وبعض أصحابنا، كما حكاه القاضي الحسين والرافعي في باب تعجيل الصدقة؛ لاعتقادهما أن وجوده في نفسه سبب، والذي جزم به العراقيون والجمهور ممن حكى أن الوجوب متعلق بطلوع الفجر: أنه لا يجوز إخراجها قبل رمضان؛ فانتفى هذا الاحتمال. ولا ينجي من هذا ما قاله القاضي أبو الطيب وغيره في الرد على أبي حنيفة – رحمه الله: من أن وجوده وإن عد سبباً [في وجوبها] فالصوم والفطر سببان أيضاً، والشيء إذا تعلق بثلاثة أسباب لا يجوز تقديمه على اثنين منها، دليله: كفارة الظهار؛ فإن النكاح سببها، ولا يجوز تقديمها على الظهار والعود؛ فكذا هاهنا. انتهى.

ولأن التفريع على أن إدراك رمضان ليس بسبب، وإنما السبب وجوده في نفسه وطلوع الفجر، وحينئذ فيكون التقديم على رمضان تقديماً على أحد السببين لا غير؛ فانتفى الجواب.

وكل ذلك دليل على ضعف القول بأنها تجب بطلوع الفجر، فافهمه، والله أعلم.

وقد وافق الشيخ – رحمه الله – الجهور في جواز التعجيل في رمضان، إلا المتولي وصاحب "البحر" تبعاً للفوراني في "الإبانة"؛ فإنه قال: جواز التعجيل يختص بطلوع فجر أول يوم من رمضان إلى غروبها من آخر يوم منه. [وإن] قلنا: الوجوب يتعلق بالغروب وإلى طلوع الفجر يوم العيد على القول الآخر، وما قبل طلوع الفجر أول يوم من رمضان إلى غروب الشمس [من] آخر يوم من شعبان – لا يجوز؛

ص: 34

لأن وجوب الصدقة بالفطر عن رمضان؛ فاعتبر الشروع في صوم رمضان كما اعتبر في سائر الزكوات الشروع في سببها وهو الحول.

فرع: إذا أدى زكاة الفطر عن عبده قبل غروب الشم، ثم باعه – يلزم المشتري أداء زكاة الفطر عنه. ولو مات المخرج، فانتقل العبد إلى وارثه المعين، هل عليه إخراج الفطرة عنه؟ فيه قولان مخرجان، [قال] في "البحر": وقد نص في زكاة المال إذا جلها، ثم مات: يجزئ عن ورثته، وسنذكره.

قال: ولا يجوز تأخيرها عن يوم الفطر؛ لقوله – عليه السلام: "أغنوهم عن الطلب في هذا اليوم"، فإن أخرجها فيه بعد الصلاة أجزأه مع الكراهة، كما قال القاضي أبو الطيب؛ لما ذكرناه من خبر ابن عباس، وقال البندنيجي: إنه يكون تاركاً للأفضل، وهو ما يقتضيه كلام الشيخ.

قال: فإن أخرها أثم؛ لمخالفة الأمر، ولزمه القضاء؛ لأنه حق مال وجب عليه وتمكن من أدائه؛ فلا يسقط عنه بفوات وقته كالزكاة، كذا قاله ابن يونس. والشيخ في "المهذب" لم يقل: كالزكاة، وكأنه – والله أعلم- إنما سكت عنه؛ لظهور الفرق؛ فإن زكاة الفطر وجبت لمصلحة في الوقت؛ بدليل اعتباره في حق سائر الناس، والوقت في زكاة المال لا مصلحة فيه؛ بدليل اختلافه باختلاف ابتداء ملك النصاب، وإنما يتعين له الوقت الأول لمصلحة أربابه؛ ولهذا لا يوصف من أداها بعده بالقضاء، ولا كذلك زكاة الفطر.

فرع: إذا قلنا: إن من مات بعد الوجوب وقبل إمكان الأداء يسقط عنه

ص: 35

الوجوب، فلو مات بعد التمكن وقبل انقضاء يوم العيد فالذي أطلقه الأصحاب: الاستقرار.

قلت: وهل يأثم؟ يظهر تخريجه على ما لو مات في أثناء وقت الصلاة وقد تمكن من فعلها؛ لأن الشرع جعل وقتها موسعا ًكوقت الصلاة ولا كذلك زكاة المال كما سيأتي، والله أعلم.

قال: والواجب منه صاع، أي من المخرج، برا كان أو تمراً أو غيرهما؛ لخبر أبي سعيد الخدري السابق، وقد روى الدارقطني: أن أبا سعيد ذكروا عنده صدقة رمضان فقال: "لا أخرج إلا ما كنت أخرجه في عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم صاعاً من تمر، أو صاعاً من حنطة، أو صاعاً من شعير، أو صاعاً من أقطٍ، فقال رجل: أو مدّاً من قمح؟ فقال: لا، تلك قيمة معاوية، لا أقبلها ولا أعمل بها"، وهذا نص في إخراج صاع من الحنطة، وأيضاً فقد وافق الخصم – وهو أبو حنيفة – على أن المخرج إذا كان تمراً كان الواجب صاعاً منه،

ص: 36

فنقول له: قوت مخرج عن صدقة الفطر؛ فكان مقدراً بالصاع كالتمر.

قال: بصاع رسول الله صلى الله عليه وسلم؛ لما روى النسائي عن ابن عمر قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "المكيال على مكيال أهل المدينة، والوزن على وزن أهل مكة"، وصاع المدينة هو صاع رسول الله صلى الله عليه وسلم.

قال: وهو خمسة أرطال وثلث بالبغدادي، كذا ذكره الترمذي والشافعي، واستدل له الماوردي وأبو الطيب وغيرهما بقوله – عليه السلام – لكعب بن عجرة وقد آذاه هوامٌّ رأسه "احلق، ثم اذبح شاة نسكاً، أو صم [ثلاثة أيام، [أو أطعم] ثلاثة آصع] " كما أخرجه البخاري ومسلم، وروي أنه قال له:"أو أطعم ستة مساكين فرقاً من زبيب" كما أخرجه أبو داود، ووجه الدلالة من ذلك: أن القصة واحدة، وقد نقل عنه – عليه السلام – أنه أمره بثلاثة آصع، وقد نقل [عنه] أنه أمره بفرق، والفرق –بتحريك الراء -: ستة عشر رطلاً، [كما قاله القتبي في كتاب الأشربة؛ فدل ذلك على أن ثلاثة آصع ستة عشر رطلاً]: إما لكون النبي صلى الله عليه وسلم قال: ثلاثة آصع فرق، أو يكون السامع عبر عن الفرق [بالآصع وعن الآصع بالفرق]، وهو يدل على استوائهما.

وأوضح من هذا الدليل [قول مالك]: أخرج لي نافع صاعاً وقال: هذا صاع أعطانيه [ابن عمر وقال: هذا صاع] رسول الله صلى الله عليه وسلم فعيَّرته به، فكان بالعراقي خمسة أرطال وثلثاً.

وروي أن الرشيد – رحمه الله – حج ومعه أبو يوسف، فلمّا دخل المدينة جمع

ص: 37

بينه وبين مالك – رحمه الله – فسأل أبو يوسف مالكاً عن الصاع، فقال: خمسة أرطال وثلث، فأنكر أبو يوسف ذلك؛ لأن أبا حنيفة يعتقد أنه ثمانية أرطال؛ فاستدعى مالك – رحمه الله – أهل المدينة، وسأل كل واحد منهم أن يحضر صاعه معه، فاجتمعوا ومع كل واحد منهم صاعه يقول: هذا ورثته عن أبي، وحدثني [أبي] أنه ورثه عن جدي، وأنه كان يخرج به زكاة الفطر إلى رسول الله صلى الله عليه وسل، فوزنه الرشيد فإذا هو خمسة أرطال وثلث؛ فرجع أبو يوسف إلى هذا؛ لظهوره في الصحابة، واشتهاره في المدينة، وتواتر نقل الخلف عن السلف، وليس هذا لأنه عمل بقول أهل المدينة؛ [بل] لأنه خبر منهم، فرجع إليهم فهي كما رجع إليهم في [الأخبار في القبر] والمسجد وسائر ما نقلوه من آثار رسول الله صلى الله عليه وسلم.

وما تمسك به أبو حنيفة – رحمه الله – من أنه ثمانية أرطال هو رواية أنس بن مالك – رضي الله عنه – قال: كان رسول الله صلى الله عليه وسلم "يغتسل بالصاع ويتوضأ بالمد" والمُدُّ: رطلان، [وهو] ضعيف. ولو صح [هذا] لم يكن فيه حجة؛ لأنه وارد في صاع الماء، وخلافنا في صاع الزكاة، وقد كانت في عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم آصعٌ مختلفة، وقال: أصغر الصيعان صاعنا.

وقال القاضي أبو الطيب- رحمه الله: ولنا طريق آخر في [أن] الواجب ما ذكرناه، وهو أنه أقل ما قيل فيه، وهو مجمع على وجوبه، وما زاد [عليه] مختلف فيه: بعضهم يثبته، وبعضهم ينفيه؛ فتعارض القول فيه فلم يجب، ووجب ما أجمع عليه، [أو نقول]: الأقل ثابت بالإجماع، وما زاد متنازع فيه، والأصل براءة الذمة منه فلا يزاد بغير دليل.

[و] إذا تقرر ذلك فجملة وزنه – كما قال الرافعي -: ستمائة درهم وثلاثة

ص: 38

وتسعون درهماً وثلث درهم.

قلت: و [هذا] بناء على أن الرطل البغدادي مائة وثلاثون درهماً، وقد تقدم أن الصحيح خلافه، والأصل فيه – كما قال ابن الصباغ -: الكيل، وإنما قدره العلماء بالوزن استهاراً. [قلت]: وعليه يدل قول الشافعي – رحمه الله –في [أوائل] كتاب الزكاة من القديم: والصاع خمسة أرطال وثلث، زيادة شيء أو نقصانه. قال البندنيجي وغيره: عنى به أنه يختلف باختلاف الكيل بحسب خفته وثقله، فلو كان الاعتبار بالميزان لما وجبت الزيادة، ولما جاز الننقصان، فلو أخرج خمسة أرطال وثلثاً، وهو لا يعلم أنه صاع – لم [يجزئه. انتهى].

وقال في "البحر": إن جماعة من أصحابنا غلطوا حيث قالوا: يعتبر الوزن.

وما غلَّطهم فيه هو الذي أورده الإمام في باب زكاة الثمار حيث قال: ثم الذي لا نستريب فيه أن الصاع والمد لا يعني بهما ما يحوي المد وغيره، وإنما هو مقدار موزون مضاف إلى الصاع والمد؛ فإن الصيعان يبعد ضبط أجوافها على وتيرة حتى لا تتفاوت؛ فقد تكون متسعة الأسافل متضايقة الأعالي على تخريط؛ فيعسر تساوي صاعين. ثم تفاوت الأوزان في الأنواع ليس من النادر الذي تسامح فيه، وكنت بمكة أرى ملء صاع من الحنطة المجلوبة من سراة تزن خمسة أمناء، ومثل ذلك بعينه من الحنطة المضرية أربعة أو أقل، فإذا اتفق الأئمة على مقدار موزون دل على أنهم عنوا بالصاع هذا المقدار، فالصاع في الفطرة: خمسة أرطال وثلث، ولا ينبغي للفقيه في هذا المقام أن يلاحظ التساوي [المرعي] في الربويات.

قال الرافعي في كتاب الظهار: اعلم أن في قدر الفطرة ونحوها نوع إشكال؛ لأن الصيدلاني وغيره من الأئمة ذكروا أن الاعتبار في ذلك بالكيل دون الوزن، وأرادوا به أن المقدار [الذي] يحويه الصاع يختلف وزنه باختلاف جنس المكيل ثقلاً وخفة، والواجب الذي يحويه المكيال بالغاً ما بلغ، وذكر بعضهم [أن] الذي نقل في وزن الصاع كأنه اعتبر فيه البر والتمر، وقضية هذا الكلام: أن يجزئ من الشعير مادون ذلك المقدار في الوزن إذا ملأ الصاع، لكن اشتهر عن القاسم بن سلام [ثم] عن ابن

ص: 39

سريج: أن درهم الشريعة خمسون حبة وخمساً حبة، ويسمى ذلك: درهم الكيل؛ لأن الرطل الشرعي منه يُرَكَّب، ويركب من الرطل المد، ومن المد الصاع.

وذكر الفقيه عبد الحق بن أبي بكر بن عطية أن الحبة التي يتركب منها الدرهم هي حبة الشعير المتوسطة التي [لم] تقشر، وقطع من طرفيها ما امتد. وقضية هذا: أن يحوي الصاع هذا المقدار من الشعير، وحينئذ فإن اعتبر ما يملأ الصاع من البر بهذا الوزن لم ينتظم القول: إن الواجب ما يحويه الصاع، وإن اعتبر بالكيل كان ما يحويه من البر أكثر مما يحويه من الشعير، وقد ذكرت في كتاب الظهار شيئاً من ذلك، فليطلب منه.

قال: ويجب ذلك من الأقوات التي تجب فيها الزكاة، وهي التمر والزبيب والبر والشعير وما أشبهها.

أما في التمر؛ فلخبر أبي سعيد وغيره، وأما في الباقي فبالقياس بجامع الاقتيات، وعن صاحب "الإفصاح" حكاية قول عن القديم: أنه لا يجزئ إخراج العدس والحمص [في الفطرة] لأنهما أدمان، قال الرافعي في كتاب الظهار: وقد نقل السرخسي – رحمه الله – وجهاً في الأرز: أنه لا يجزئ في الكفارة، وعن ابن كج: أنه [لا] يجزئ إلا إذا نحيت عنه القشرة العليا، قال: ولم يَجْرِ في الفطرة [ذكر] هذا الخلاف، ويشبه أن يجيء في كل باب ما نقل في الآخر، والمذهب: الأول.

وقد أفهم كلام الشافعي – رحمه الله – إجراء الخلاف في الباقلاء، حيث قال: لا أحسبه يقتات، فإن كان قوتاً أجزأه إذا أدى منه صاعاً.

قال في "البحر" وغيره: وأجمع أصحابنا على أنه قوت تجب فيه الزكاة وتخرج منه زكاة الفطر.

قال: وأما الأقط فقد قيل يجوز؛ لما ذكرناه من حديث أبي سعيد الخدري؛

ص: 40

فإنه ثابت في "الصحيحين" فوجب العمل به لقول الشافعي – رحمه الله: "إذا صح الحديث فهو مذهبي". وقد روى كثير بن عبد الله بن عمرو عن أبيه عن جده قال: "فرض رسول الله صلى الله عليه وسلم زكاة الفطر صاعاً من تمر أو صاعاً من شعير، [أو صاعاً من زبيب]، أو صاعاً من أقط، أو صاعاً من طعام"، وهذا نص في المسألة، وهذه طريقة أبي إسحاق، وعليها نص في القديم و"الأم"، قال ابن الصباغ:[و] قال بعض أصحابنا: إنه علق [القول] فيه في "الأم"، وهو المذكور في "تعليق" البندنيجي.

وقيل: فيه قولان:

وجه الجواز: أنه مقتات مدخر يستند إلى أثر؛ فجاز إخراجه كالتمر، أو مقتات يتولد مما تجب فيه الزكاة ويجزئ فيه الصاع؛ فجاز إخراجه في زكاة الفطر كالحب.

ووجه المنع: أنه [مقتات] لاتجب الزكاة فيه؛ فلا يجوز إخراجه في زكاة الفطر كالفَثِّ وحب الحنظل والبَلُّوط.

وهذه الطريقة حكاها القاضي أبو حامد في "جامعه، وقال هو والمتولي وغيرهما: إن أصح القولين الجواز، وبه أجاب منصور التميمي في "المستعمل"، وهذه الطريقة أظهر عند الرافعي، ولم يورد الإمام ومن تبعه غيرها، وقال الإمام: إن مثار التردد أن الخبر ليس على الحد المرضي في الصحة عند الشافعي – رحمه الله – وليس هو على حد التزييف عنده؛ فلذلك تردد قوله. وقال الماوردي: إن صح الخبر أن أبا سعيد كان يخرج الأقط بأمر رسول الله صلى الله عليه وسلم أو بعلمه أجزأ قولاً واحداً، وإن لم يثبت أن أبا سعيد كان يخرج الأقط بأمر رسول الله صلى الله عليه وسلم أو بعلمه، ولا صح الخبر الآخر في إسناده – ففيه القولان، والقديم منهما: الجواز، والجديد: المنع؛ لما ذكرناه.

ثم إذا قلنا بالجواز – إما جزماً أو على قولٍ – فهل يقوم اللبن مقامه؟ فيه وجهان في "الحاوي" و"تعليق" القاضي الحسين "والإبانة""والتتمة":

ص: 41

أحدهما: نعم، وهو الذي أورده الإمام والقاضي أبو الطيب وابن الصباغ؛ فإنه أولى [معتبراً فيما يعتمد] الاقتيات، والجبن ملحق به أيضاً، لكن هل يجوز اللبن مع وجود الأقط؟ أو يجوز عند عدمه فقط؟ فيه وجهان: الذي قاله أبو الطيب: الأول، والذي أفهمه كلام الشيخ أبي حامد: الثاني، وقال البندنيجي: إنه نص عليه في القديم.

والوجه الثاني: أنه لا يجوز اللبن مطلقاً، وهو ما ادعى الماوردي أنه الأصح، [و] الفرق بينه وبين الأقط: وثبت الأثر في الأقط وعدمه في اللبن، ولأن الأقط له حالة ادخار فجاز كالتمر، واللبن بخلافه فلم يجز كالرطب.

قلت: والفرق الأول يقتضي إلحاق الجبن باللبن في المنع، وهو ما حكاه في "البحر" عن بعض المراوزة، والفرق الثاني يقتضي إلحاقه بالأقط في الجواز؛ لأنه يدخر، قال في "البحر": وهو الأصح.

ولا خلاف أنه لا يجزئ السمن؛ لأنه ليس قوتاً، وكذا المصل والكشك، وهل يجزئ اللحم على قولنا بإجزاء اللبن؟ حكى الإمام عن رواية العراقيين فيه قولين، قال: وهو بعيد؛ فإن إلحاق الأقط بما قدمَّناه يقرب من إلحاق الشيء بالشيء إذا كان في معناه أو يتصل بالشبه الظاهر، واللحم بعيد عنه، ولكنهم اعتقدوا الأقط أصلاً للنص فيه، وترقوا منه إلى اللبن؛ لأنه قوت، [ثم] قالوا: إنما يقوت من حيث إنه عصارة اللحم، فارتقوا منه إلى اللحم، والذي جزم به القاضيان أبو الطيب والحسين والماوردي: [المنع، وعنه احترزنا في دليل قول إجزاء الأقط بقولنا: وهو مما يجزئ فيه الكيل.

وكل هذا في أهل البادية إذا كان ذلك قوتهم لا غير، لو كان لهم قوت غيره لم يجزئهم بلا خلاف، وكذا لو كان قوت أهل الحاضرة لا غير؛ لأن ذلك نادر. قاله الماوردي]، وقد حكى الرافعي في كتاب الظهار فيما إذ قلنا: يجزئ في كفارته الأقط، هل يختص بأهل البادية، أو يعم الحاضر والبادي؟ فيه وجهان عن رواية ابن كج، ولا بعد في مجيئهما هاهنا، وقد أورد الماوردي على ما حكاه سؤالاً

ص: 42

فقال: فإن قيل: قد قال أبو سعيد: "كنا نخرج الأقط"، وهو من أهل الحضر.

قلنا: قد كان أبو سعيد يسكن البادية كثيراً؛ ألا ترى إلى قوله – عليه السلام – له: "إذا كانت في باديتك فارفع صوتك بالأذان"، على أن [قوله]:"كنا نخرج"، كناية عنه وعن غيره ممن كان على عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم، وقد كان كثير منهم أهل بادية.

فإن قلنا بعدم الإجزاء وإن كان قوتهم، قال أبو الطيب والماوردي: أخرجوا من قوت أقرب البلاد إليهم، فإن استوى بلدان في القرب وكان قوتهما مختلفاً قال أبو الطيب: تخيروا، والأفضل أن يخرج أغلاهما.

و [قال] في "التتمة": إن هكذا الحكم فيما إذا قلنا: الواجب في الفطرة على التعيين، لا على التخيير، فإن قلنا: إنه على التخيير – كما سيأتي – تخيروا من أي الأجناس شاءوا.

والأقط: بفتح الهمزة وكسر القاف، ويجوز إسكان القاف مع فتح الهمزة وكسرها، وهو لبن يابس غير منزوع الزبد.

قال: وتجب الفطرة مما يقتات به من هذه الأجناس؛ لأنها تابعة للمؤنة وواجبة في الفاضل عنها؛ فوجب أن تكون منها، وكما تعتبر في الزكاة ماشيته، وهذا ظاهر [نصه في "المختصر" و"الأم"] كما قال أبو الطيب والماوردي، وبه قال الإصطخري وأبو عبيد بن حربويه من أصحابنا، وقال ابن عبدان: إنه الصحيح عندي. فعلى هذا لو كان يقتات من نوعين، [و] أحدهما الأغلب أخرج منه، فإن استويا أدى من أيهما شاء، والأفضل أن يؤدي من خيرهما، قاله القاضي الحسين، وفي "البحر".

وقيل: من غالب قوت البلد، أي: من وقت وجوب الفطرة، لا في جميع السنة،

ص: 43

كما قاله في "الوسيط" قال الرافعي: ولم أظفر بهذا التقييد في كلام غيره، ووجه هذا الوجه: قوله- عليه السلام: "أغنوهم عن الطَّلب في هذا اليوم"، والإغناء إنما يحصل لهم بغالب قوتهم؛ لأنه إذا دفع إليهم ذرة أو شعيراً، وهم يأكلون الحنطة لم يحصل لهم بذلك غناء، واحتاجوا إلى صرفه فيما يقتاتون به حتى يستغنوا، وبالقياس على الكفارة. وهذا قول ابن سريج وأبي إسحاق كما قال الماوردي والبندنجي، وقال القاضي أبو الطيب: إنه قول أكثر الأصحاب، وقالوا: قول الشافعي – رضي الله عنه: " [من] غالب قوته"، إنما أراد به:[من] غالب قوت البلد؛ لأن غالب قوت [أهل] البلد غالب قوته، وهذا ما صححه في "الرافعي" و"البحر" وغيره.

فعلى هذا: إن كان [في الحجاز] أخرج التمر، وإن كان ببلاد العراق وخراسان ومصر فالحنطة، وإن كان بطبرستان أو جيلان فالأرز، ولو كان ببلد فيها أقوات مختلفة لا يفضل بعضها بعضاً أخرج من أيها شاء، والأفضل أن يخرج [من] أغلاها ثمناً، قاله البندنيجي.

قلت: ويتجه أن يقال: الأفضل أن يخرج الأعلى وإن كان قليل الثمن – كما سنذكره – وعليه ينطبق قوله في "المهذب": والأفضل أن يخرج من أفضلها.

ص: 44

قال: فن عدل عن القوت الواجب، أي: على قولنا إن الاعتبار بقوته أو بغالب قوت البلد، وفيها قوت غالب، إلى قوت أعلى منه - أجزأه؛ لأنه زاد خيراً فأِبه ما لو وجبت عليه بنت مخاض، فأخرج بنت لبون، وهذا ما أورده الجمهور، وحكاه الماوردي عن النص مع وجه آخر: أنه لا يجزئه؛ لأنه غير ما وجب عليه؛ فأشبه ما لو أخرج عن زكاة الشعير قمحاً، وعن زكاة الدراهم ذهباً.

والفرق على الأول ما قاله القاضي الحسين – رحمه الله – في "تعليقه": إن زكاة الفطر تتعلق بالقوت، والأعلى مما يقتات، وأما زكاة المال فإنها تتعلق بجنس ذلك النصاب الذي وجبت فيه الزكاة؛ فوجب أن يكون المخرج من جنسه.

وأورد الرافعي لنفسه قريباً منه فقال: الزكوات المالية متعلقة بالمال؛ [فأمر أن] يواسي الفقير مما واساه الله تعالى، والفطرة زكاة البدن؛ [فوقع] النظر فيها إلى ما هو غذاء البدن وبه قوامه، والأقوات متشاركة في هذا الغرض، وتعيُّن شيء منها رفقٌ، فإذا عدل [إلى الأعلى] كان في غرض هذه الزكاة؛ كما لو أخرج كرائم ماشيته.

قال: وإن عدل إلى ما دونه ففيه قولان:

أحدهما: لا يجزئه؛ لما فيه من الإضرار بالمستحقين، وهذا ما أورده الماوردي لا غير، سواء قلنا: إن الواجب من قوته أو غالب قوت البلد، وادعى بعض الشارحين أنه لم ير في الكتب المشهورة تفريعاً على اعتبار قوته غيره، وفيه ما ستعرفه. فعلى هذا: هل يسترد ما دفعه إن كان باقياً، وصرح بأنه غير زكاته أو صدقة المدفوع إليه؟ يظهر أن يكون الحكم فيه كما لو أخرج الرديء من النقد عن الجيد منهن وقد ذكرته في باب زكاة الناض، والجامع: أن المقصود القوت، وهو اسم جامع؛ ولذلك جاز إخراج الأعلى [منهما] عن الأدنى، كما أن الذهب والفضة اسم جامع

ص: 45

لأنواعهما، ويجوز إخراج الأعلى منهما من الأدنى.

والثاني: يجزئه؛ لأن ظاهر الخبر يقتضي التخيير، فإذا أخرج بمقتضاه وجب أن يعتد به.

قلت: ويشهد لذلك ما تقدم فيما إذا أخرج الرديء من الذهب أو الفضة عن الجيد: أنه يجزئه على رأي، والجامع ما تقدم.

وقد روى القولين هكذا ابن الصباغ وغيره، والقاضي أبو الطيب قال: إن أبا إسحاق المروزي رواهما في الشرح هكذا، وإنه صحح الثاني. وقال في "البحر": إن القاضي هو الذي صححه. فلعله رآه في غير "تعليقه".

قال القاضي: ومن قال بالأول أجاب عن الخبر بأنه ليس بتخيير؛ وإنما معناه: صاعاً من تمر إن كان ذلك غالب القوت، يدل عليه: أن أبا سعيد – رحمه الله – ذكر التمر والزبيب، ولم يكن الزبيب قوتاً لأهل المدينة، وإنما كان قوت أهل الطائف، وهذا كقوله تعالى:{إِنَّمَا جَزَاءُ الَّذِينَ يُحَارِبُونَ اللَّهَ وَرَسُولَهُ} الآية [المائدة: 33] فإنها على الترتيب، وإن كان ظاهرها التخيير.

وقد حكى البندنيجي القولين هكذا فيما إذا قلنا: إن الواجب من غالب قوت البلد، فأخرج من الأدنى منه، وقال: إنا إذا قلنا بعدم الإجزاء رجع حاصله إلى [أنه مخير بني قوت البلد وأعلى منه، وإذا قلنا] بالإجزاء رجع [حاصله] أن الأقوات التي يجب فيها [العشر] – وهو مخير فيها – يخرج منها ما شاء ويجزئه.

قلت: ويجوز أن نقول بالإجزاء وإن لم يكن مخيراً في الأصل كما تقدم نظيره، ويشهد له – أيضاً – أن من وجبت عليه الجمعة لو أوقع الظهر قبل فوات الجمعة وفاتته الجمعة، يجزئه ما أوقعه من الظهر عن فرضه على قولٍ، وإن لم يكن مخيراً بين الظهر والجمعة.

نعم، في أصل المسألة قول حكاه الماوردي عن نص الشافعي – رحمه الله – في بعض كتبه: أن الواجب صاع من الأقوات التي تجب فيها الزكاة على التخيير، واستدل له بالخبر، وبان الزكاة مواساة، والتخيير فيها أيسر، والتسوية بين جميعها أرفق، وقد أثبته في

ص: 46

"المهذب" وغيره وجهاً، وقال الإمام: إنه غير سديد، والخبر محمول على التنويع كما تقدم، والذي نص عليه في المختصر وأكثر كتبه – كما قال الماوردي – عدم التخيير، والواجب من غالب القوت، لكن قوته أو قوت بلده؟ [فيه ما] سبق] ".

وقد أفهم كلام الشيخ أن الواجب عله على القول الأول جنس ما يقتاته، سواء كان يليق بحاله أو كان أعلى منه أو دونه، وقد حكى ابن يونس – رحمه الله – فيما إذا كان يليق به البر وهو يأكل الشعير بخلاص [، فأخرج الشعير]: هل يجزئه أم لا؟ قولين أو وجهين، مأخذهما: أن النظر إلى ما يليق به أو إلى [ما يأكله]، وأن الصحيح: النظر إلى ما يليق بحاله.

وهذا لم أره فيما وقفت عليه، بل الذي رأيته فيها عدم الإجزاء مع قطع النظر عما ذكرناه من الخلاف السابق، وحكوا الخلاف فيما إذا كان يليق بحاله الشعير فاقتات البر ترقّعاً: هل يجزئه إخراج الشعير، أو يتعين البر؛ بناء على المأخذ المذكور؟ وصححوا الأول.

وقال الرافعي: يشبه أن يرجع الخلاف إلى اختلاف عبارتين للأصحاب في حكاية وجه ابن حربويه؛ فإن بعضهم حكى عنه أن المعتبر فيه قوت الشخص نفسه، وهو ما ذكره في ["الحاوي" و]"التهذيب"، وبعضهم حكى عنه أن المعتبر القوت اللائق بأمثاله، وهو ما حكاه الصيدلاني كما قال، وقال في "البحر": إن القائل بهذا هو القفال. وإليه يرشد قوله في "التهذيب": ولم يورد الإمام غيره.

ثم قال الرافعي: وإن جرينا على الرواية الأولى لم يجزئه إخراج الشعير، وإن جرينا على الرواية الثانية أجزأه.

قلت: وهذا الذي قاله يرجع حاصله إلى نفي الخلاف في المسألة، وإنما يتم لو لم يقل بأن الاعتبار بقوت الشخص نفسه إلا ابن حربويه، وقد ذكرناه عن غيره.

ثم أعلى الأجناس المخرجة في الفطرة عند الماوردي وصاحب "البحر": البر والتمر، وهو نصه في "البويطي" كما قال في "البحر"، لكن أيهما أعلى من الآخر؟ فيه وجهان، أمثلهما بكلام الشافعي – رحمه الله – أنه البر؛ لأنه قال في "الأم":

ص: 47

"وإذا كان الرجل يقتات حبوباً مختلفة: شعيراً وحنطة وتمرا ًوزبيباً فالاختيار له أن يخرج زكاة الفطر من الحنطة، ومن أيها أخرج أجزأه، إن شاء الله تعالى"، وهذا يدل على أن الحنطة أعلى الأقوات عنده، وقد حكاه ابن المنذر عن الشافعي – رحمه الله – ولأجل ذلك صححه بعضهم، ووجهه بأنه أزيد في غرض الاقتيات، ولأنه قد اختلف في إجزاء مدين منه، ولم يختلف في أن الواجب من التمر صاع.

قال الماوردي: ولو قيل: إن أولاهما يختلف باختلاف البلاد، لكان مذهباً له في الاعتبار وجه. والأمر [كما قال] كما ستعرفه.

وكما ادعى في "الوسيط" أن البر أشرف من التمر في غرض الاقتيات، [ولا نظر إلى القيمة والتمر أشرف من الزبيب في غرض الاقتيات]، وفي الزبيب مع الشعير تردد، وهذا التردد حكاه الإمام عن شيخه، وأنه كان يتردد في التمر والزبيب وأيهما يقدم على الآخر، وأنه كان يقدم التمر على الشعير.

قلت: وتقديمه التمر على الشعير مع تردده في الزبيب والشعير لا يستقيم معه التردد في التمر والزبيب، بل يتعين بمقتضى ذلك تقديم التمر على الزبيب كما أورده الغزالي، وقال الإمام: إنه الأولى.

وقد حكى القاضي أبو الطيب وغيره وجهاً: أن النظر في الأعلى إلى القيمة؛ فما كان أكثر قيمة فهو المعتبر، واستدل له بقوله تعالى:{إِنَّمَا جَزَاءُ الَّذِينَ يُحَارِبُونَ اللَّهَ وَرَسُولَهُ} [آل عمران: 92] وبقوله – عليه السلام – وقد سئل عن أفضل الرقاب: "أغلاها ثمناً وأنفسها عند أهلها"، وهذا الوجه قد حكيت جزم البندنيجي به من قبل.

قال الرافعي: وعلى هذا تختلف الأحوال باختلاف [البلاد ولأوقات] إلا أن يعتبر زيادة القيمة في الأكثر.

قلت: وإلى اعتبار زيادة القيمة في الأكثر نظر البغوي حيث قال: لو أخرج التمر

ص: 48

عن القمح أو الشعير، لا يجزئه على الأصح وإنه يجوز إخراجهما عن التمر على الأصح؛ فإن الوجه [إجزاء التمر عن] القمح، وعدم إجزاء القمح عن التمر، وهو [الوجه] الصائر إلى أن النظر إلى القيمة لا إلى الأغلب في الاقتيات؛ فإن الغالب أن قيمة التمر أكثر، ولو كان ناظراً إلى القيمة في كل زمان لم يطلق القول بأنه يجزئ على وجه مطلقاً؛ بل كان يقيده بما إذا لم تنقص قيمته عن القمح، لكن القاضي الحسين قطع بعدم الإجزاء فيما إذا كانت قيمة التمر أقل، والله أعلم.

قال: ولا يجزئ صاع، أي: عن شخص واحد، من جنسين؛ كما لا يجزئ في كفارة اليمين أن يطعم خمسة ويكسو خمسة بلا خلاف عندنا، وحكى الإمام عن بعض الأصحاب وجهاً- قال: إنه غير معدود من المذهب- أنه لو أخرج نصف صاع من شعير حيث يجزئه؛ لكونه غالب قوت البلد، فنصف صاع من بر يجزئه؛ لأنه لو أخرج بقية الصاع شعيراً قبلناه فإذا أخرجه من الأعلى كان أولى بالقبول. وقد نسبه الرافعي إلى رواية بعض المتأخرين، قال الإمام: وهو لا يجزئ بالاتفاق فيما لو استوى الجنسان، وقد أطلق ابن يونس حكاية وجه في الإجزاء من غير تفصيل.

قال: وإن كان [عبد بين] نفسين مختلفي القوت، أي: وفرعنا على أن الاعتبار بقوت الشخص نفسه، كما هو ظاهر المذهب كما قال البندنيجي- فقد قيل: يخرج كل واحد منهما نصف صاع من قوته؛ لأنه لم ينتقص ما عليه. وهذا ما اختاره ابن الحداد، وصححه الرافعي والمتولي، [والنووي] وشبهه بما إذا قتل ثلاثة من المحرمين ظبية، فأخرج أحدهم ثلث شاة، وأطعم الثاني بقيمة ثلث شاة، وصام الثالث عدل ذلك – فإنه يجزئ اتفاقاً، ولو كان القاتل لها واحداً لم يجزئه ذلك على أحد الوجهين.

وقيل: يخرجان من أدنى القوتين، حذارا من ضرر التبعيض اللاحق بالمستحقين والإجحاف بالمخرج؛ فإن من قوته الأعلى يقدر على إخراج الأدنى، ومن قوته الأدنى لا يقدر على إخراج الأعلى؛ فلو كلفناه أن يخرج من الأعلى لأجحفنا به.

ص: 49

وهذان الوجهان [هكذا] منسوبان إلى ابن سريج وأبي إسحاق كما قال [الجمهور، وقال] البندنيجي: وهما فرعا ذلك على ظاهر المذهب [في أن] الاعتبار بقوت، لا على مذهبهما في أن الاعتبار بغالب قوت البلد، وينبنيان كما قال الشيخ أبو علي على أن فطرة العبد تجب على السيد ابتداء أو تحملاً فالأول علىقولنا: إنها تجب على السيد ابتداء، والثاني على أنها تجب عليه تحملاً؛ لأن الصاع واجب عن واحد، والشيء لا يتحمل ضماناً إلا كما وجب، لكن ما المنسوب إلى ابن سريج منهما، وإلى أبي إسحاق؟ الجمهور على نسبة الأول إلى أبي إسحاق، والثاني إلى ابن سريج، وعكس الفوراني والبغوي ذلك: فنسبا الأول إلى ابن سرجي، والثاني إلى أبي إسحاق، ونسب الإمام إلى ابن سريج عدم إجزائه من جنسين، لكنه قال: إنا إذا قلنا به لم نقل لمن قوته البر أن يخرج الشعير موافقة لمن قوته الشعير؛ بل على من قوته الشعير أن يخرج نصف صاع من بر، لا وجه غيره وإن كان يجر إجحافاً، وبهذا يتجه ما اختاره ابن الحداد.

وقيل: يخرجان من قوت البلد الذي فيه العبد [بناء] على أنها وجبت على العبد ويتحملها السيد عنه، وأن الاعتبار بغالب قوت البلد كما هو مذهب ابن سريج وأبي إسحاق. وإن قلنا بظاهر المذهب، وهو [أن] الاعتبار بقوت الشخص نفسه – أخرجا من قوت العبد.

وقال البندنيجي: إنا إذا قلنا باعتبار قوت الشخص نفسه فمذهب أبي إسحاق أنه يجزئ أيضاً صاع من جنسين، وقال ابن سريج: لا يجزئ.

وقال الرافعي: يشبه أن يخرج على الوجهين فيما إذا اعتبرنا قوتهما وكانا مختلفي القوت، والأب إذا كان في نفقة ولدين فالقول في إخراج الفطرة عنه كالقول في السيدين، وكذا العبد [الذي] بعضه حر وبعضه رقيق، وقوت العبد والمولى مختلف قاله الرافعي وغيره.

والوجه الآخر في الكتاب: يجزئ فيما لو كان [العبد] كله لشخص وهو في

ص: 50

بلدة وسيده في أخرى، وقوت البلدين مختلف – فيجب على السيد أن يخرج من قوت البلد الذي فيه العبد؛ بناء على أنه متحمل، ذكره في "التهذيب".

وعليه يخرج – أيضاً – ما حكاه القاضي الحسين وصاحب "البحر" فيما إذا كان له نصف عبدين وقوتهما الشعير، فأراد أن يخرج عن أحدهما نصف صاع شعير وعن الآخر نصف صاع بر – أنه يجوز. ويجيء على قولنا: إن الواجب يتلقاه السيد ابتداء، أنه لا يجوز؛ لأنه وجب عليه صاع فلا يجزئ من جنسين، كما لو أخرجه عن نفسه، وقد حكاه القاضي أبو الطيب أيضاً.

ولو كان له من تلزمه نفقتهم فأراد أن يخرج عن كل واحد صاعاً من جنس – فقد أطلق القاضي الحسين وصاحب "البحر" القول بالإجزاء، وقال البندنيجي: إنا إذا قلنا بالتخيير جاز، وإن قلنا: بتعيين غالب قوت البلد أو قوته، فأخرج منه أو من الأعلى أجزأه، وإن أخرج من الأدنى لم يجزئه.

قال: وإن كانوا في بادية لا قوت لهم فيها أخرجوا من قوت أقرب البلاد إليهم، [كما لو لم يكن نقد غالب يقوم به؛ فإنه يعدل إلى غالب نقد أقرب البلاد إليهم]. فلو استوى بلدان في القرب، واختلف الغالب من أقواتهما [تخير]، والأفضل أن يخرج [من] الأعلى كما تقدم.

والبادية: من البدو، بمعنى: مأخوذ من البدو، وهو الظهور.

قال: ولا يؤخذ في الفطرة دقيق ولا سويق؛ لأنه بدل، ولا مدخل للأبدال في الزكوات، ولأنه أنقص من الحق؛ ففي أخذه إضرار بمستحقه، والسويق نوع متخذ من القمح على ما سنذكره في كتاب الأيمان لا ما يفهم عرفاً. وهذا ما حكاه القاضي الحسين لا غير.

وذهب أبو القاسم بن بشار الأنماطي من أصحابنا إلى أن الدقيق أصل وكذا السويق لأنه جاء في خبر أبي سعيد الخدري- كما رواه سفيان بن عيينة: "أو صاعاً من دقيق"، وقد حكاه الإمام قولاً عن رواية العراقيين؛ أخذاً من الأقط المضاف إلى

ص: 51

اللبن، وقال: إنه مزيف لا أصل له. وغيره قال: إنه ليس بشيء؛ لان هذه الزيادة لم تثبت، وقد قال أبو داود:"إن سفيان بن عيينة وهم فيها ثم رجع عنها"، وإذا رجع الراوي عما رواه سقط الاحتجاج به، ولأنه أزيل عن كونه حبّاً فنقصت منفعته؛ فوجب ألا يكون أصلاً في زكاة الفطر كالخبز.

وقد قال ابن عبدان: [إن] قول الأنماطي يقتضي قياسه إجزاء الخبر أيضاً: وقال: إن قوله هو الصحيح؛ لان المقصود إشباع المساكين في هذا اليوم، والله أعلم.

قال: ولا حب معيب؛ لقوله تعالى: {وَلا تَيَمَّمُوا الْخَبِيثَ مِنْهُ تُنفِقُونَ} [البقرة: 267]، ولأنها تجب من القوت الغالب، والغالب السلامة، قال القاضي الحسين في "تعليقه": وهذا فيما إذا كان له غيره، أما إذا لم يكن له سوى المسوس والمعيب وهو يقتات منه، جاز له أن يخرج منه.

قلت: وعلى هذا ينبغي أن يخرج من المسوس قدراً يتحقق أنه يملأ الصاع من اللب بقشره لو أخرجه، كما ستعرفه [في الأقط.

والعيب تارة يكون بسبب تسوسه، وتارة بسبب دود فيه]، أو نتنته، أو تغير لونه كما قال الماوردي، وكل ما ينقص قيمته كما قال غيره.

ويجزئ فيه العتيق الصحيح الحب كما نص عليه، لكن المستحب إخراج الجديد [الحديث].

وحيث جوزنا إخراج الأقط، قال الإمام: فلا يجزئ المملح كثيراً؛ لأنه عيب فيه، ولو كان ملحه على الوجه المعتاد فلا يجزئ- أيضاً- لأن الملح [غير مجزئ] وهو ينقص من مكيلة الأقط، فإن أخرج منه مقداراً زائداً أو كانت الزيادة تقابل وزن الملح جاز، والمرجع في ذلك إلى أهله، والله أعلم.

ص: 52