المَكتَبَةُ الشَّامِلَةُ السُّنِّيَّةُ

الرئيسية

أقسام المكتبة

المؤلفين

القرآن

البحث 📚

‌باب صدقة التطوع - كفاية النبيه في شرح التنبيه - جـ ٦

[ابن الرفعة]

الفصل: ‌باب صدقة التطوع

‌باب صدقة التطوع

وتستحب الصدقة في جميع الأوقات؛ لقوله تعالى: {مَنْ ذَا الَّذِي يُقْرِضُ اللَّهَ قَرْضاً حَسَناً فَيُضَاعِفَهُ لَهُ} [البقرة: 245]، وقوله عليه السلام:"ما تصدَّق أحدٌ بصدقةٍ من طيِّبٍ - ولا يقبل الله إلَاّ الطَّيِّب -إلا أخذها الرَّحمن بيمينه وإن كانت تمرةً، فتربو في كفِّ الرَّحمن حتَّى تكون عند الله أعظم من الجبل، كما يُربي أحدكم فَلُوَّه أو فَصِيله"، أخرجه مسلم.

قال: ويستحب الإكثار منها في شهر رمضان؛ لما روى الشافعي بسنده عن ابن عباس: "أن النبي صلى الله عليه وسلم كان أجود ما يكون في شهر رمضان، كان كالريح المرسلة؟ ما سئل شيئاً إلا أعطاه"، ولفظ الإمام في رواية ذلك:"كان أجود الناس، فإذا جاء شهر رمضان، كان أجود الناس بالخير، وكان أجود ما يكون في شهر رمضان، كان كالريح المرسلة؟ ما سئل شيئاً إلا أعطاه"، ولفظ الإمام في رواية ذلك:"كان أجود الناس، فإذا جاء شهر رمضان، كان أجود بالخير من الريح المرسلة"، وفي ذلك معنيان:

أحدهما: أنه أسرع إلى الخير من الريح تهب.

والثاني: أنه أعم بالخير من غيره؛ فخيره يعم البر والفاجر وكل أحد، كالريح تهب على كل صعود وهبوط، وخبيث وطيب، ورطب ويابس.

ص: 216

والمعنى فيه: أن الناس في رمضان يكونون أشغل بالطاعات منهم في غير رمضان؛ فلا يتفرغون لمكاسبهم ومعايشهم على حسب ما يتفرغون في غيره من الأيام، وهذه العلة ترشد إلى أنه يستحب الإكثار منها في الأماكن الشريفة المقصودة بالعبادة كمكة والمدينة، وفي الغزو والحج؛ للاشتغال بالعبادة، وبذلك صرح في "الروضة"، وقال: إنه يستحب الإكثار أيضاً في الأوقات الفاضلة: كعشر ذي الحجة، وأيام العيد.

قال الماوردي: ويستحب أن يوسع في رمضان على عياله، ويحسن لذي رحمه وقرابته، لا سيما في العشر الأواخر [منه].

قال: وأمام الحاجات، أي: قدامها بين يديها؛ لأنه أرجى لقضائها – وهو بفتح الهمزة – قال في "الروضة": وكذا يستحب الإكثار منها عند الكسوف والسفر والمرض.

قال: ولا يحل ذلك لمن هو محتاج إلى ما يتصدق به في كفايته، وكفاية من تلزمه كفايته؛ لقوله – عليه السلام:"كفى بالمرء إثماً أن يضيِّع من يعول".

قال: أوفي قضاء دينه؛ لأنه حق واجب عليه؛ فلا يجوز تركه بصدقة التطوع، قال في "الروضة":[وهذه عبارة أبي الطيب] وابن الصباغ والشيخ في "المهذب" و"التهذيب" والدارمي والروياني في "الحلية" وآخرين.

وعبارة الرافعي: أنه لا يستحب له التصدق، وربما قيل: يكره.

قال في "الروضة": وهذه العبارة موافقة لعبارة الماوردي والغزالي والمتولي وآخرين، وهذا أصح في نفقة نفسه، والأول أصح في نفقة عياله، وأما الدين فالمختار: أنه إن غلب على ظنه حصول وفائه من جهة أخرى فلا بأس بالتصدق، وإلا فلا يحل. انتهى.

ص: 217

قلت: والأولى عندي في ذلك الجمع بين النقلين بالتنزيل على حالين:

فما قاله الشيخ وغيره محمول على كفايته وكفاية من تلزمه كفايته في الحالة الراهنة، وقضاء الدين الذي تعين وفاؤه على الفور إما بطلب رب الدين أو بدونه، كما نبهنا على ذلك في أول باب التفليس.

وما قاله الماوردي وغيره محمول على كفاية الأبد – وكلام بعضهم يرشد إليه – والدين الذي لم يجب أداؤه على الفور.

ثم إذا قلنا بالتحريم فهل يملكه المتصدق عليه؟ ينبغي أن يكون فيه خلاف كالخلاف فيما إذا وهب الشخص ما معه من الماء بعد دخول الوقت، ومثل هذا جارٍ في تصدقه بجميع ماله تطوعاً بعد وجوب الزكاة وتمكنه من أدائها والله أعلم.

قال: وتكره، أي: الصدقة بالفاضل عن الكفاية في الحال لمن لا يصبر على الإضافة؛ لما روى أبو داود عن جابر بن عبد الله الأنصاري قال: "كنا عند رسول الله صلى الله عليه وسلم إذ جاء رجل بمثل بيضة من ذهب، فقال: يا رسول الله صلى الله عليه وسلم، ثم أتاه قبل ركنه الأيمن، فقال مثل ذلك؛ فأعرض عنه، ثم أتاه من قبل ركنه الأيسر؛ فأعرض عنه، ثم أتاه من خلفه، فأخذها رسول الله فحذفه بها، فلو أصابته لأوجعته أو لعقرته، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "يأتي أحدكم بما يملك فيقول: هذه صدقةٌ، ثمَّ يقعد يستكُّف النَّاس، خير الصَّدقة ما كان عن ظهر غنى"، [وفي رواية]: "خذ [عنَّا] مالك لا حاجة لنا به"، فلما فهم – عليه السلام – منه أنه لا يصبر على الإضافة لم يقبلها

ص: 218

منه، والإضافة: الحاجة والضيق.

قال الماوردي: وفي قوله – عليه السلام:"عن ظهر غنّى" تأويلان:

أحدهما: بعد استغناء نفسه عن تتبع ما يخرجه عن يده.

والثاني: بعد استغنائه عن [أداء] الواجبات.

قال القاضي الحسين: معناه: وراء الغنى، يعنيك ما فضل عن حاجته، وقيل: إن المصدق لا ينتظر من المصدق عليه المكافأة.

أما من يصبر على الإضافة فيستحب له ذلك؛ لما روى أبو داود عن أبي هريرة أنه قال: يا رسول الله، أي الصدقة أفضل؟ قال:"جُهْدُ المُقِلِّ وابْدَا بِمَنْ تَعُولُ"، وعن مر بن الخطاب قال: أمرنا رسول الله صلى الله عليه وسلم أن نتصدق، فوافق ذلك ما لا عندي، فقلت: اليوم أسبق أبا بكر إن سبقته يوماً، فجئت بنصف مالي، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم:["ما أبقيت لأهلك؟ "]، [قلت: مثله]، قال: وأتى أبو بكر بكل ما عنده، فقال له رسول الله صلى الله عليه وسلم:"ما أبقيت لأهلك؟ "، قال: أبقيت لهم الله ورسوله، قلت: لا أسابقك إلى شيء أبداً. وأخرجه الترمذي وقال: صحيح.

وجه الدلالة من ذلك: أنه لما علم أن أبا بكر – رضي الله عنه ممن يصبر على الإضافة ولا يتضجر، قبل ذلك منه.

قال القاضي الحسين: وهذا الفعل كان منهما حين نزل قوله تعالى: {وَأَقْرِضُوا اللَّهَ قَرْضاً حَسَناً} [المزمل: 20].

وقد روى عنه صلى الله عليه وسلم أنه دخل على بلال، فوجد عنده كسرة خبز على رأس كوز، فقال:"ما هذا يا بلال؟ " فقال: هذا فضل عن فطري البارحة، فأعددته لأفطر به الليلة،

ص: 219

فقال – عليه السلام: "أنفق يا بلال، ولا تخش من ذي العرش إقلالاً".

وهذه التفرقة بني الصابر وغيره هي التي أوردها البندنيجي والإمام الغزالي وغيرهم، متمسكين بحمل الأحاديث المختلفة – ما ذكرناه وما لم نذكره – عليها بقوله – عليه السلام:"إنَّ لله عباداً لا يصلحهم إلا الغني؛ فلو أفقرهم لأطغاهم، وإنَّ لله عباداً لا يصلحهم إلا الفقر فلو أغناهم لأطغاهم".

وقد حكى المتولي ذلك وجهاً في المسألة وصححه، وحكى وراءه وجهين:

أحدهما: الكراهة مطلقاً؛ لظاهر الخبر الأول.

والثاني: أنه يستحب مطلقاً؛ لقصة أبي بكر وبلال، رضي الله عنهما.

وهما مذكوران في "تعليق" القاضي الحسين.

ص: 220

وهذا حكم المتصدق، وبقي الكلام في المتصدق عليه والمتصدق به، وكيفية التصدق:

فأما المتصدق عليه؛ فقد كانت صدقة التطوع حراماً علىرسول الله صلى الله عليه وسلم كالزكاة؛ صيانة له ولمنصبه عن أوساخ الأموال التي تعطى على سبيل التَّرَحُّم، وتنبئ عن ذل الآخذ، وأبدل الفيء المأخوذ على سبيل القهر والغلبة، المنبئ عن عز الآخذ وذل المأخوذ منه، كذا حاكه الإمام في قسم الصدقات والغزالي في مقدمة كتاب النكاح، وقال الإمام فيها: إن القاضي [أبا بكر] ذكر عن بعض الأصحاب أن صدقة التطوع ما كانت محرمة عليه؛ ولكنه كان يأنف من أخذها تعففاً، وقد حكى الغزالي الخلاف في قسم الصدقات، وغيره حكى فيه قولين.

وقال الماوردي في كتاب الوقف: إنهما منصوصان في "الأم"، وأصحهما – وهو اختيار البصريين -: التحريم.

وأما بنو هاشم وبنو المطلب فهل تحرم عليهم إذا قلنا بتحريمها عليهم، عليه السلام؟ فيه خلاف حكاه الإمام في قسم الصدقات [والمتولي قولين،] والغزالي في مقدمة النكاح وجهين، واقتضى إيراد الغزالي ترجيح التحريم؛ كما تحرم عليهم الزكاة، مع أنه جزم في قسم الصدقات بمقابله، وكذا الماوردي في كتاب الوقف، وهو المشهور؛ لأنه روى جعفر بن محمد عن أبيه أنه كان يشرب من سقايات بين مكة والمدينة، فقيل له: أتشرب من مال الصدقة؟ فقال: إنما حرم الله علينا الصدقة المفروضة.

والقائل بالتحريم [ثم] تمسك بعموم قوله – عليه السلام:"لا تحلُّ لنا الصَّدقة"، وهي تشمل الواجبة والمتطوع بها.

والصدقة المنذورة هل تلحق بالصدقة الواجبة أو بصدقة التطوع؟ فيه اختلاف

ص: 221

للأصحاب حكاه الإمام في قسم الصدقات، ويمكن بناؤه على أن النذر يسلك به مسلك واجب الشرع أو جائزه.

ويحرم على الغني أخذ صدقة التطوع مظهراً للفاقة كما قاله في "البيان"، وعليه يحمل قوله – عليه السلام – في الذي مات من أهل الصفة، فوجدوا له دينارين، فقال:"ديناران من نار"،ومن طريق الأولى إذا سألها، وبه صرح الماوردي وغيره فقالوا: إذا كان غنياً فسؤاله حرام، وما يأخذه حرام عليه، وهذا إذا كان غناه بالمال، فلو كان [غناه] بسبب قدرته على الاكتساب فقد قال الغزالي في كتاب النفقات: إن في حل المسألة له خلافاً للأصحاب، وظاهر الأخبار يدل على تحريمه؛ فقد وردت فيه تشديدات، وهذا ما أورده الماوردي.

قال الغزالي: وإذا سأل فلا يلح في السؤال، ولا يؤذي المسئول ولا يذل نفسه وتجوز الصدقة عليه وإن كان [غنياً] بالمال إذا لم يظهر الفاقة، لكن الأولى له ألا يقبلن ويكره له التعرض لها، وكذا تجوز على الكافر والفاسق من طريق الأولى، لكن المستحب والأفضل التصدق على أهل الخير والمحتاجين وتستحب الصدقة على ذوي القرابة الفقراء، والمحرم آكد من غيره كما تقدم، ويقدم الأقرب فالأقرب، ثم الزوج والزوجة، ثم المحرم بالرضاع، ثم بالمصاهرة، ثم المولى من أعلى وأسفل، ثم الجار.

وقد استحب أبو علي – كما قال في "الروضة" -: التصدق على أشد قرابته عداوة له؛ ليتألف قلبه، ولما فيه من سقوط الرياء وكسر النفس، وقد ورد فيه خبر ذكرته في باب قسم الصدقات.

وهل الأولى للمحتاج أن يأخذ من الزكاة، أو [من] صدقة التطوع؟

ص: 222

قال في "الإحياء": اختلف فيه السلف، وكان الجنيد والخوَّاص وجماعة يقولون: الأخذ من الصدقة أفضل كي لا يضيق على الأصناف، وكي لا يخل بشرط من شروطها، وقال آخرون: الزكاة أفضل؛ لأنها إعانة على واجب، ولو ترك أهل الزكاة أخذها أثموا، ولأن الزكاة لا منَّة فيها.

قال الغزالي: والصواب أنه يختلف بالأشخاص، فإن عرض له شبهة في استحقاقه لم يأخذ الزكاة، وإن قطع باستحقاقها، نظر: فإن كان المتصدق إن لم يأخذها هذا لا يتصدق فليأخذ [حد] الصدقة؛ فإن إخراج الزكاة لابد منه. وإن كان لابد من إخراج تلك الصدقة، ولم تضيق الزكاة، تخير، وأخذ الزكاة أشد في كسر النفس.

وأما المتصدق به فينبغي أن يكون من أطيب ما عنده؛ للخبر السابق، و [مما يحبه]؛ لقوله تعالى:{لَنْ تَنَالُوا الْبِرَّ حَتَّى تُنْفِقُوا مِمَّا تُحِبُّونَ} [آل عمران: 92]، فلو تصدق بالرديء، وما فيه شبهة، كره.

ولا ينبغي أن يمتنع من الصدقة بالقليل احتقاراً له؛ قال الله تعالى: {فَمَنْ يَعْمَلْ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ خَيْراً يَرَه} [الزلزلة: 7]، وفي الحديث الصحيح:"اتَّقوا النار ولو بشقِّ تمرةٍ"، قال في "الروضة": وقد جاءت أحاديث كثيرة بالحث على الصدقة الماء.

وأما كيفية التصدق، فقد قال في "الإحياء": إن الناس اختلفوا في إخفاء الصدقة وإظهارها أيهما أفضل، وفي كل واحد فضيلة ومفسدة، ثم قال: وعلى الجملة الأخذ في الملأ وترك الأخذ في الخلاء أحسن.

وقال القاضي الحسين في باب الاختيار في صدقة التطوع: إن الأفضل في التطوع: الإخفاء، وفي الصدقة المفروضة: الإظهار أولى من الإخفاء؛ كي يرغب الناس في أداء صدقاتهم إذا نظروا إليه، ولقوله – عليه السلام:"لن يتقرَّب إليَّ المتقرِّبون بمثل

ص: 223

أداء فرائضهم".

ولا يزول ملك الشخص عما أرسله إلى فقير على يد ولده أو غلامه قبل إعطائه، [وإذا قبضه الفقير، قال في "الروضة": ملكه].

وقد ذكرت خلافاً في احتياج صدقة التطوع إلى إيجاب وقبول في باب الهبة؛ فليطلب منه.

وإذا لم يدفعه غلامه أو ولده إلى الفقير فيستحب له ألا يعود فيه، بل يتصدق به، ومن تصدق بشيء كره له أن يتملكه من [جهته بمعاوضة] أو هبة، والكراهة فيما إذا تولى مباشرة ذلك بنفسه أو بوكيله – وهو عالم بأنه وكيل عن المتصدق – أشد مما إذا كان جاهلاً به كما قال الإمام في كتاب الزكاة. ولا بأس بتملك ذلك بالإرث من غيره. وينبغي أن يدفع الصدقة بطيب [نفس وبشاشة وجه]، قال النووي – رحمه الله – في"الروضة": ويحرم المن بها، وإذا من بطل ثوابها؛ لقوله تعالى:{لا تُبْطِلُوا صَدَقَاتِكُمْ بِالْمَنِّ وَالأَذَى} [البقرة: 264]، والله أعلم.

ص: 224