المَكتَبَةُ الشَّامِلَةُ السُّنِّيَّةُ

الرئيسية

أقسام المكتبة

المؤلفين

القرآن

البحث 📚

‌باب صوم التطوع - كفاية النبيه في شرح التنبيه - جـ ٦

[ابن الرفعة]

الفصل: ‌باب صوم التطوع

‌باب صوم التطوع

التطوع بالصوم مندوب إليه وهو من أولى القربات، وفيه أجر عظيم، قال الله تعالى:{إِنَّمَا يُوَفَّى الصَّابِرُونَ أَجْرَهُمْ بِغَيْرِ حِسَابٍ} [الزمر:10] والصوم من أنواع الصبر.

وعن سهل بن سعد قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "إن في الجنة باباً يقال له: الريان يدخل منه الصائمون" أخرجه البخاري ومسلم، زاد النسائي فيه:"فإذا دخل آخرهم، أغلق، فلم يدخل منه أحد"، وقال:"من دخل منه شرب ومن شرب منه لم يظمأ أبداً".

وروى البخاري ومسلم عن أبي سعيد الخدري قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "ما من عبد يصوم يوماً في سبيل الله إلا باعد الله بذلك اليوم وجهه عن النار سبعين خريفاً".

وهو منقسم إلى ما شرع في وقت مخصوص وإلى ما لم يعين الشارع له وقتاً، ثم المعيَّن وقته منه ما يتكرر بتكرر السنين خاصة ومنه ما يتكرر بتكرر الشهور خاصة ومنه ما يتكرر بتكرر الأسبوع خاصة وسيأتي على ذلك كلام الشيخ كما نبينه، إن شاء الله تعالى.

ص: 393

قال: والمستحب لمن صام رمضان أن يتبعه بست من شوال؛ لما روى مسلم عن أبي أيوب الأنصاري أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: "من صام رمضان ثم أتبعه ستاً من شوال كان كصيام الدهر"، ورواية أبي داود:" [بست من شوال] فكأنما صام الدهر"، ومعناه: أن الحسنة لما كانت بعشر أمثالها، كان مبلغ ما حصل له من الحسنات في صوم الشهر والأيام الستة ثلاثمائة وستين حسنة عدد أيام السنة، فكأنه صام سنة كاملة، وقد جاء هذا مفسراً في حديث ثوبان مولى رسول الله صلى الله عليه وسلم قال:"صيام شهر رمضان بعشرة أشهر، وصيام ستة أيام بشهرين، قدر صيام سنة"، وفي لفظ: "جعل الله عز وجل الحسنة بعشر

" فذكره وأخرجه النسائي.

قال الشيخ زكي الدين في "حواشي السنن": وإسناده حسن.

والأولى أن يصومها متتابعة عقيب الفطر كما قال في "البحر" وغيره، فإن أخَّرها وصامها في شوال متفرقات فقد حاز الفضيلة.

فإن قيل: إذا كان معنى الحديث ما ذكرتم، فهو لا يختص برمضان وست من شوال، بل من صام رمضان وستاًّ من ذي القعدة، أورجباً وستاًّ من شعبان هكذا حكم حسناته؛ فيلزم أن يكون قد صام الدهر.

قيل: المراد في الخبر: فكأنما صام الدهر فرضاً، وهذا لا يكون في غير ما نص عليه صاحب الشرع.

ص: 394

قلت: ويحتمل أن يكون معنى قوله: "فكأنما صام الدهر"، أي: الذي كان واجباً في ابتداء الإسلام على قولنا: إن الأيام في قوله تعالى: {أَيَّاماً مَعْدُودَاتٍ} [البقرة: 184] هي الأيام البيض كما تقدم وهي ثلاثة أيام من كل شهر؛ لأن مجموع ذلك ستة وثلاثون يوماً، ويؤيده ما سنذكره من رواية أبي داود عن ابن ملحان، لكن قد جاء في مسلم في خبر طويل عن أبي قتادة قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "ثلاث من كل شهر؛ ورمضان إلى رمضان؛ فهذا صيام الدهر كله" وهذه الزيادة تنفي الاحتمال.

وقد حكى عن الشيخ أبي حامد [أنه] قال في "التعليق" بعد ذكر هذه المسألة – أعني: صوم الأيام الستة – ولا أعرف هذا للشافعي – يعني: استحبابها – ولكن كذا قال الأصحاب.

تنبيه: اتبع الشيخ في قوله: "بست من شوال" النبي صلى الله عليه وسلم؛ [فإنه] هكذا ورد عنه كما تقدم، وقد أورد عليه سؤال، فقيل: من قاعدة العرب: أنهم يثبتون الهاء في المذكر، و"اليوم" مذكر، فلم حذفت؟

قيل: العرب إنما تلزم الإتيان بالهاء في المذكر الذي هو [دون] أحد عشر إذا صرحت بلفظ المذكر: [كقوله تعالى: {وَثَمَانِيَةَ أَيَّامٍ} الآية [الحاقة: 6]، فأما إذا لم يأتوا بلفظ المذكر] فيجوز إثبات الهاء وحذفها، فتقول: صنما ستاًّ ولَبثْنَا عشراً وتريد الأيام، [ومنه قوله تعالى:{يَتَرَبَّصْنَ بِأَنفُسِهِنَّ أَرْبَعَةَ أَشْهُرٍ وَعَشْراً} الآية [البقرة: 234]، أي: عشرة أيام] ومنه قوله تعالى: {إِنْ لَبِثْتُمْ إِلَاّ عَشْراً} الآية [طه: 103]، نقل ذلك الفرَّاء وابن السكيت، وكذا ابن الأعرابي، كما نقله الماوردي في كتاب العدد وغيرهم. قال النواوي: ولا يتوقف فيه إلا جاهل غبي.

قال: ويستحب [أن يصوم] يوم عرفة؛ لما روى مسلم في حديث طويل عن

ص: 395

أبي قتادة أنه صلى الله عليه وسلم قال: "صيام [يوم] عرفة أحتسب [على] الله أن يكفر السنة التي قبله والسنة التي بعده، وصيام يوم عاشوراء أحتسب على الله أن يكفر السنة التي قبله". ورواية الشافعي عن أبي قتادة أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: "صيام يوم عرفة كفارة سنة والسنة التي تليها، وصيام يوم عاشوراء يكفر سنةً".

قال الإمام: وقوله – عليه السلام:"السنة التي تليها" يحتمل معنيين: أحدهما: السنة التي قبلها؛ فيكون إخباراً أنه كفارة سنتين ماضيتين، ولا يمتنع حمله على السنة المستقبلة، وهو ما ذكره القاضي الحسين، قوال: إنهم اختلفوا في كفارة السنة التي تليها:

فقيل: كفارتها الحراسة فيها، والعصمة عماي وجب الإثم، وبمثله قال في "الحاوي" في السنة الأخرى؛ لأنه ذكر الخبر ثم قال: وفيه تأويلان:

أحدهما: أن الله يعصمه في هاتين السنتين؛ فلا يعصي فيهما.

والثاني: أنه كفارة لما يرتكبه، وهو من الأصول في جواز تقديم الكفارة على الحنث.

ثم ما هو المكفر؟ قال مجلي: قال بعض الأصحاب: الصغائر دون الموبقات.

وكأنه – والله أعلم – يشير إلى الإمام، فإنه هكذا [قال]، ثم قال مجليك وهذا يحتاج إلى دليل، وفضل الله واسع.

قال: إلا أن يكون حاجًّا بعرفة، فيكره له؛ لأن المقصود من الحاج يوم عرفة كثرة الدعاء آخر النهار، والصوم يضعفه؛ فلذلك كره، وقد أفطره – عليه السلام – روى البخاري ومسلم عن أم الفضل بنت الحارث: أن ناساً تماروا عندها يوم عرفة في صيام رسول الله صلى الله عليه وسلم، فقال بعضهم: هو صائم، وقال بعضهم: ليس بصائم، فأرسلت

ص: 396

إليه بقدح لبن، وهو واقف [على بعير بعرفة]، فشربه.

وقد قيل: إن صوم الواقف بعرفة ليس بمكروه بل فاعله تارك للأولى، وهو الذي صححه النواوي.

والذي أورده البندنيجي: الأول.

وفي "التتمة": أن الواقف بعرفة إن كان في زمان [الصيف والحر]، أو في الشتاء ولكنه ضعيف – فيكره له الصوم، ون كان قويًّا لا يؤثر فيه الصوم، فالأفضل في حقه أن يصوم حتى يجمع بين العبادتين، لأن عائشة كانت تصوم يوم عرفة، وقد روى في "البحر" ذلك عن بعض الأصحاب، وكأنه – والله أعلم – يشير إليه، وما ذكره يقرب من مذهب أبي حنيفة وعطاء؛ [لأن أبا حنيفة قال: أستحب صومه إلا أن يضعفه عن الدعاء ويقطعه عنه. وعطاء قال: أصومهم] في الشتاء، وأفطره في الصيف.

قال القاضي أبو الطيب: وهذا قريب من مذهبنا.

والمشهور عندنا كما قال غيره: أنه لا فرق في ذلك.

ويوم عرفة أفضل الأيام على المشهور، وحكى القاضي الحسين وجهاً آخر أن أفضلها يوم الجمعة.

قال: ويستحب [أن يصوم] تاسوعاء وعاشوراء من المحرم: أما صوم عاشوراء؛ فلما ذكرناه من الحديث السابق، وقد روى أبو داود عن ابن عباس قال: لما قدم النبي صلى الله عليه وسلم [المدينة، وجد] اليهود يصومون عاشوراء، فسئلوا عن ذلك، فقالوا: هذا

ص: 397

اليوم الذي أظهر الله فيه موسى على فرعون، ونحن نصومه؛ تعظيماً له، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم:"نحن أولى بموسى منكم، وأمر بصيامه" وأخرجه البخاري وكذا مسلم، ولفظه:"نحن أحق بموسى منكم. [فصامه] وأمر بصيامه" وروى مسلم عن ابن عباس أنه قال- وقد سئل عن صيام يوم عاشوراء:- "ما علمت أن رسول الله صلى الله عليه وسلم صام يوماً يطلب فضله على الأيام إلا هذا اليوم، ولا شهراً إلا هذا الشهر"، يعني: رمضان.

وأما تاسوعاء؛ فلما روى أبو داود عن ابن عباس قال: "حين صام النبي – صلى الله عليه وسلم يوم عاشوراء وأمر بصيامه، قالوا: يا رسول الله، إنه يوم تعظمه اليهود والنصارى، فقال رسول لله صلى الله عليه وسلم: "فإذا كان العام المقبل، صمنا يوم التاسع فلم يأت العام المقبل حتى توفى رسول الله صلى الله عليه وسلم" وأخرجه مسلم.

قال العلماء: وهو يحتمل معنيين:

أحدهما: أن ينقل صيام العاشر إلى التاسع.

والثاني: أن يصومهما معاً، وقد توفي ولم يبن مراده؛ فكان الاحتياط الجمع بينهما.

قلت: وهذا الخبر إذا تأملته، كان فيه ما يقتضي مناقضة الخبر الأول؛ فإنه دال على أنه – عليه السلام – صام العاشر حين قدم المدينة أول الهجرة، وهذا يدل على أنه لم يصمه إلا في سنة إحدى عشرة من الهجرة.

قال الأصحاب: ولأي معنى استحب صوم [يوم] التاسع؟ فيه معنيان:

ص: 398

أحدهما: ما دل عليه الخبر، وهو مخالفة أهل الكتاب، وقد روي عن ابن عباس أنه قال:"صوموا التاسع والعاشر، ولا تتشبهوا باليهود"، ولى هذا لو فاته صوم التاسع، يستحب له [أن] يصوم مع العاشر الحادي عشر.

والثاني: أنه للاحتياط [في تحصيل صوم العاشر] لأنه قد يتفق أن يكون في أول الشهر غيم؛ فيعدون ذا الحجة ثلاثين، ويكون ناقصاً؛ فيكون التاسع هو العاشر، وقد روي عن ابن عباس أنه كان يصوم عاشوراء يومين يوالي بينهما؛ مخافة أن يفوته؛ فعلى هذا يستحب [له] أن يصوم يوم الثامن من ذي الحجة؛ احتياطاً لتحصيل يوم عرفة، وقد حكاه في "البحر" عن بعض الأصحاب من غير بناء، [وعلى هذا] أيضاً إذا فاته صوم التاسع لا يصوم الحادي عشر بدله.

وقد البندنيجي يستحب له أن يصوم مع [يوم] عاشوراء يوم التاسع، فإن صام بعده يوماً آخر كان أكمل ولم يبنه على شيء مما ذكرناه؛ ولأجله قال في "البحر": قال بعض أصحابنا: الأكمل أن يصوم يوماً قبله ويوماً بعده، وروي أنه – عليه السلام قال:"لاتتشبهوا باليهود، وصوموا يوماً قبله، ويوماً بعده".

وما ذكره الشيخ من أول الباب إلى هاهنا هو القسم الأول الذي أشرنا إليه في أول الباب.

تنبيه: تاسوعاء وعاشوراء ممدودان على المشهور، وحكى القلعي قصرهما وهو شاذ أو باطل.

قال الجوهري: ويقال: عشوراء بالمد أيضاً.

ص: 399

وتاسوعاء: هو التاسع من المحرم، وعاشوراء:[هو] العاشر منه.

وعن بعض العلماء: أنه قال: عاشوراء: هو يوم التاسع.

قيل: وهو غلط؛ لقوله – عليه السلام: "إن عشت إلى قابل، لأصومن التاسع"، ولأنهم قالوا في الخبر السابق: إن هذا اليوم الذي نجى الله فيه موسى وقومه [وغرق فرعون وقومه] والذي غرق فيه فرعون هو اليوم العاشر من المحرم.

واختلف فيماذا سمي العاشر من المحرم بـ "عاشوراء"؟

فقيل: لأنه عاشر المحرم.

وقيل: لأنه عاشر كرامة أكرم الله تعالى بها هذه الأمة.

وقيل: لان الله – تعالى- أكرم فيه عشرة [من] الأنبياء بعشر كرامات؛ حكى ذلك الشيخ زكي الدين في "حواشي مختصر السنن".

قال: وأيام البيض من كل شهر؛ لما روى أبو داود عن ابن ملحان القيسي عن أبيه قال: كان رسول الله صل الله عليه وسلم يأمرنا أن نصوم البيض: ثلاث عشرة، وأربع عشرة، وخمس عشرة، قال: وقال: "هن كهيئة الدهر"، وأخرجه النسائي وابن ماجه.

ص: 400

وقد كان عمر وابن مسعود وأبو ذر يصومونها، والاستدلال [بما ذكرته أولى من الاستدلال] بما روى البخاري وغيره عن أبي هريرة قال:"أوصاني خليلي بثلاث: صيام ثلاثة أيام من كل شهر، وركعتي الضحى، وأن أوتر قبل أن أنام"؛ لأنه لا تعرُّض في ذلك إلى كونها البيض، بل يجوز أن تكون غيرها؛ خصوصاً وقد روى مسلم عن معاذة العدوية أنها قالت: سألت عائشة زوج النبي صلى الله عليه وسلم: أكان رسول الله صلى الله عليه وسلم يصوم من كل شهر ثلاثة أيام؟ قالت: نعم فقلت لها: من أي أيام الشهر [كان] يصوم؟ قالت: لم يكن يبالي من أي أيام الشهر يصوم.

وروى أبو داود عن حفصة قالت: "كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يصوم ثلاثة أيام من [كل شهر]: الإثنين، والخميس، والإثنين من الجمعة الأخرى".

ولأجل ذلك قال في "البحر": لو صام ثلاثة أيام من كل شهر غير البيض كان مستحباً له؛ بهذا الخبر.

واعلم أن [الشيخ محيي الدين النووي] قال: إن الذي ضبطناه عن نسخة المصنف ما ذكرناه وهو: أيام البيض. قال: ويقع في بعض النسخ أو أكثرها: الأيام البيض، وكذلك يقع في كثير من كتب الفقه وغيرها، وهو غلط عند أهل العربية معدو في لحن العوام ومن أجرى كلام الشيخ على هذا قال: ما الموصوف بالبياض؟

ص: 401

قيل: نفس الأيام؛ لأن قنبراً مولى علي – كرم الله وجهه – روى أن عليًّا سئل عن ذلك فقال: إنما سميت: أيام البيض؛ لأن الله تعالى لما أهبط آدم – عليه السلام – من الجنة إلى الأرض فشرقت عليه شمس الدنيا، فاسود جميع بدنه، فلما تاب الله عليه، فشكا إلى جبريل ذلك، فأوحى الله – عز وجل – إليه، وأمره أن يصوم أيام البيض، فلما صام اليوم الثالث عشر ابيض ثلث بدنه، فلما صام الرابع عشر ابيض ثلث بدنه فلما صام الخامس عشر ابيض جميع بدنه.

وقيل: ليالي ذلك، وهو الصحيح؛ لأن الأيام كلها بيض والتقدير: أيام الليالي البيض. وسميت بيضاً؛ لأنها مضيئة بالقمر، كما يضيء جميع النهار بالشمس، وهذا قول القتبي.

ثم ما هي الأيام المشار إليها؟ الصحيح: أنها الثالث عشر والرابع عشر [والخامس عشر، كما دل على ذلك الخبر والأثر.

وقيل: إنها [الثاني عشر] والثلث عشر والرابع عشر؛ قاله في "الحاوي"، ويزعى إلى الصيمري.

ص: 402

وهذا الصوم هو القسم الثاني الذي أشرنا إليه في أول الباب.

قال: وصوم [يوم] الإثنين؛ لما روى مسلم عن [أبي] قتادة أن رسول الله صلى الله عليه وسلم سئل عن صوم يوم الإثنين، فقال:"فيه ولدت، وفيه أنزل عليّ القرآ،".

قال: والخميس؛ لما روى النسائي عن كيسان المقبري قال: حدثني أسامة بن زيد، قال: قلت: [يا] رسول الله، إنك تصوم حتى لا تكاد تفطر، [وتفطر] حتى لا تكاد تصوم إلا يومين إن دخلا في صيامك وألا صمتهما؟ قال: وأي يومين؟ قلت يوم الإثنين ويوم الخميس، قال:"ذلك يومان تعرض فيهما الأعمال على رب العالمين، وأحب أن يعرض عملي وأنا صائم". قال الشيخ زكي الدين: وهو حديث حسن.

[وعن عائشة قالت: "كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يتحرى صوم يوم الإثنين والخميس"، قال الترمذي: وهو حسن] غريب.

وهذا هو القسم الثالث الذي أشرنا إليه في أول الباب، وقد بقي قسم رابع وهو ما يستحب صيامه من الأشهر من بين الشهور، وهو المحرم، لقوله – عليه السلام:

ص: 403

"أفضل الصيام بعد الفرض شهر الله المحرم"، ثم بعده: رجب؛ لرواية ابن عباس أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: "صوم أول يوم من رجب كفارة ثلاث سنين، وصوم الثاني [منه] كفارة سنتين، وصوم الثالث منه كفارة سنة، ثم صوم كل يوم كفارة سنة".

ثم بعد رجب: شعبان، قال – عليه السلام:"من سره أن يذهب كثير من وحر صدره، فليصم شهر الصبر، [وثلاثة أيام من كل شهر"، وأراد بشهر الصبر]: شعبان وقيل إنه رمضان ومعنى"وحر صدره": أي: غش صدر وبلابله وقذره.

[وقد] قالت عائشة: "ما استكمل رسول الله صلى الله عليه وسلم صيام شهر قط، كان يصوم شعبان إلا قليلاً".

وأما ما لم يعين له وقت فالأفضل فيه صيام داود وهو صوم يوم وإفطار يوم؛ قال في "البحر"؛ وقيل: إنه أفضل من صوم الدهر، أي إذا أفطر في أيام النهي ولم يترك فيه حقاًّ ولم يخف ضرراً؛ لأن هذه الحالة هي التي لا يكره فيها صوم الهر.

ولفظ الشافعي في "مختصر البويطي": "لا بأس بسرد الصيام إذا أفطر الأيام التي

ص: 404

نهى رسول الله صلى الله عليه وسلم عن صيامها"، وبهذا يقع الرد على صاحب "التهذيب" وغيره من أصحابنا الذين أطلقوا القول بكراهة صوم الدهر؛ لأجل ما روي أنه – عليه السلام – قال لعبد الله بن عمرو: "لا صام من صام الدهر"، ولما روي أنه – عليه السلام – نهي عن صيام الهر.

وأجاب القائلون بعدم الكراهة في هذه الحالة التي ذكرناها – ومنهم صاحب "المهذب"[و"البحر"] عن الخبر بأنه محمول على ما إذا صام ما نهي عنه؛ ولذلك قالت عائشة – وقد كانت تصوم الدهر، كما ذكرنا-:"من أفطر يوم النحر ويوم الفطر، فلم يصم الدهر".

ولو نذر صوم الدهر، انعقد نذره إلا في زمان العيدين وأيام التشريق ورمضان. ولو أفطر في رمضان؛ لعذر من سفر أو مرض، فعليه القضاء فيقضي ويدع النذر وهل يلزمه الفدية لأجل النذر؟

قال ابن الصباغ والروياني فيه احتمالان لابن سريج، ذكرهما القاضي أبو الطيب وجهين على قولنا: إن زمان رمضان يدخل في نذره كما هو أحد الوجهين أما إذا قلنا: لا يدخل تحت نذره فلا يلزمه الفدية وبه أجاب في "التهذيب".

وفي "البحر" عن والده: أنه قال: لو أفطر يوماً في غير رمضان، هل يقضيه؟

قال أصحابنا: لا، فلو قضاه في يوم آخر هل يصح عن القضاء، أو لا يصح لا قضاء ولا أداء؟ فيه وجهان.

قلت: يمكن أخذهما من وجهين حكيا عن ابن سريج فيما إذا نذر صوم [يوم] بعينه، ثم أراد أن يأتي فيه بنفل أو فرض آخر عن النذر: هل يصح؟ وفيه وجهان:

ص: 405

أحدهما: لا؛ كما في رمضان.

ثم على الثاني يلزمه الإطعام في الحال؛ لأنه أيس من استدراك هذا اليوم بالقضاء. قال في "البحر": قلت: ويحتمل وجهاً آخر.

ولو سافر هذا الرجل يحل له الفطر، وهل عليه الإطعام في الحال؟ فيه وجهان، المذكرو منهما في "الرافعي": عدم الوجوب، بخلاف ما لو أفطر بغير عذر؛ فإنه جزم بالوجوب.

ولو نذر من قد [نذر صوم] الدهر صوم يوم آخر، لم ينعقد نذره قاله الرافعي.

قلت: ويتجه أن يكون كنذر الشيخ الهمَّ الصوم وقد تقدم.

ولو لزمه صوم كفارة صام عنها، وفدى عن النذر.

ولو نذرت المرأة صوم يوم فللزوج منعها، ولا قضاء ولا فدية. وإن أذن، ولم تصم، لزمها الفدية.

وفي "المهذب": أنه لا يجوز للمرأة أن تصوم تطوعاً وزوجها حاضر إلا بإذنه؛ لما روى أبو هريرة: أن رسول الله صلى الله ليه وسلم قال: "لا تصوم المرأة وبعلها شاهد إلا بإذنه".

قال: ومن دخل في صوم تطوع أو صلاة تطوع، استحب له إتمامها؛ لقوله تعالى:{يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا أَوْفُوا بِالْعُقُودِ} الآية [المائدة:1]، وقوله تعالى:{وَلا تُبْطِلُوا أَعْمَالَكُمْ} [محمد: 33]، وإنما لم يجب؛ لما روى مسلم عن عائشة في [حديث طويل] قالت: ثم أتانا يوماً آخر، فقلنا: يا رسول الله، أهدي لنا حيس، فقال: أرينيه، فلقد أصبحت صائماً. فأكل منه" ونقيس الصلاة على الصوم، ولأن ذلك عبادة يتحلل منها بالفساد فإذا تبرع بها لم يلزمه إتمامها، أصله: الاعتكاف، نعم، لو نذر إتمام الصوم فهل يلزمه؟ قال في "البحر" فيه وجهان، أصحهما: اللزوم.

ولا فرق فيه بين ما قبل الزوال أو بعده.

ص: 406

قال: فإن [خرج منها] لم يلزمه القضاء؛ لما روت أم هانئ قالت: دخل عليَّ صلى الله عليه وسلم يوم الفتح، فأتي بإناء من لبن، فشرب منه، ثم ناولني فشربت، وقلت:[يا] رسول الله، كنت صائمة، لكني كرهت أن أرد سؤرك، فقال:"إن كان قضاء رمضان فاقضي يوماً مكانه، وإن كان تطوعاً فإن شئت فاقضيه، وإن شئت فلا تقضيه".

ولأنه دخل في عبادة يتحلل منها بالفساد، فإذا خرج منها قبل استتمامها، لم يلزمه قضاؤها؛ كالاعتكاف.

وهل يوصف فعله بالكراهة؟ قال القاضي الحسين: قال الشافعي: "كرهته"، وهو الذي أورده البندنيجي.

وقال الإمام: إن شيخه كان يقول: الإفطار بالعذر مشروع ومن جملة المعاذير [في ذلك] أن يعز على من أضافه امتناعه من الطعام.

فإن لم يكن عذر، فهل يكره قطع الصوم والصلاة؟ فعلى وجهين.

قال: ولا بعد في ذكرهما مع الخلاف في تحريم القطع. يعني: بيننا وبين أبي حنيفة وغيره.

أما لو دخل في صوم واجب، أو صلاة واجبة، لم يجز له الخروج منها.

قال الشافعي في كتاب فرض الصلاة والصيام من "الأم": ومن دخل في صوم

ص: 407

واجب عليه: شهر رمضان، أو قضاء، أو صوم من نذر أو كفارة من الوجوه، أو صلاة مكتوبة في وقتها أو قضائها، [أو صلاة نذرها]، أو صلاة طواف – لم يكن له أن يخرج من الصلاة والصوم ما كان مطيقاً للصوم والصلاة. وإن خرج من واحد منهما بلا علة كان مفسداً عندنا.

وقال ابن الصباغ: إن الأمر كما ذكر؛ لأن العبادة [إن] كانت متعينة: كصوم رمضان، والصلاة الواجبة إذن، فلا يجوز الخروج منها؛ لأنه وجب عليه الدخول في ذلك؛ فلا يجوز الخروج منه. وإن كانت غير متعينة: كقضاء الصلاة، والنذر المطلق، والكفارة؛ فتتعين بالدخول؛ لأنها واجبة في زمان لا بعينه، فإذا تلبس بها كانت تعييناً لذلك الزمان؛ فصار بمنزلة الفرض، بخلاف التطوع؛ فإنه ليس بواجب فالشروع فيه لا يصيره واجباً؛ وهذا ما أورده البندنيجي وصاحب "البحر" أيضاً.

وفي ابن يونس حكاية وجه في جواز الخروج من صلاة الوقت إذا لم يضق، وكذا من قضاء الصوم، وهو مختار الإمام حيث قال في كتاب التيمم: إن المسافر الذي يجوز له الفطر لو أصبح صائماً، ثم اراد أن يفطر – فله ذلك؛ فإن الشروع لا يلزمه عندنا شيئاً إلا في الحج. وأنا أقول: من شرع في الصلاة في أول الوقت، فالذي أراه أنه لو أراد أن يقطعها قطعها؛ فإنها لا تجب بأول الوقت وجوباً مضيقاً، فالأمر موسع بعد الشروع كما كان موسعاً قبله؛ اعتباراً بمسألة الفطر، ومن لزمته فائتة غير مضيقة، فشرع فيها – فما قدمته من القياس يقتضي الخروج من الفائتة، والذي أراه: أن من شرع في صلاة جنازة، فله التحلل منها إذا كانت الصلاة لا تتعطل بتحلله، ومصداق هذا من نص الشافعي أنه قال:"من تحرم بصلاة على الانفراد، ثم وجد جماعة – فله أن يخرج عن صلاته؛ ليدرك الجماعة"، ولو كان الخروج ممتنعاً لما جاز بسبب إدراك فضيلة الجماعة.

وقال في كتاب اللقيط: من شرع في فرض من فروض الكفايات، وكان متمكناً من

ص: 408

إتمامه، فأراد الإضراب عنه – فقد نقول: ليس له ذلك، ويصير فرض الكفاية بالملابسة متعيناً، وهذا فيه نظر.

واقتصر الغزالي في كتاب التيمم على ما أباده الإمام من جواز الخروج من الصلاة قبل تضيق وقتها، وقال هاهنا في صوم القضاء: إن ما يجب قضاؤه على الفور يلزمه إتمامه عند الشروع فيه، و [ما] هو على التراخي فيجوز الإفطار فيه. وهو ما حكاه القاضي الحسين عن القفال، واختاره البغوي.

وقال القاضي: عندي أنه يتخرج خروجه مما لم يجب قضاؤه على الفور على الوجهين فيما إذا أصبح المسافر صائماً هل له أن يفطر أم لا؟ [و] فيه وجهان تقدم حكايتهما عنه.

وقد تقدم بيان ما يجب قضاؤه على الفور وما لا يجب في الباب قبله.

قال: ومن دخل في حج تطوع أو عمرة [تطوع] لزمه إتمامهما؛ لأنه يجب المضي في فاسدهما، فكيف في صحيحهما؟!

قال: وإن أفسدهما لزمه القضاء؛ لما سيتضح في كتاب الحج.

قال: ولا يجوز صوم يوم الشك، أي: تطوعاً [مطلقاً] أو تحرياً لرمضان كما قال البندنيجي؛ لما روى أبو داود عن صلة – وهو [ابن زفر] – قال: كنا عند عمار في اليوم الذي يشك فيه، فأتى بشاة – أي مصلية – فتنحى بعض القوم، فقال

ص: 409

عمار: من صام هذا اليوم فقد عصى أبا القاسم صلى الله عليه وسلم. قال الترمذي: وهو حسن صحيح. ولا يجوز أني ضيف عمار العصيان إلى النبي صلى الله عليه وسلم إلا توقيفاً.

وقد روى أبو هريرة عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه نهى عن صيام ستة أيام: يوم الفطر، ويوم النحر، وأيام التشريق، واليوم الذي يشك [فيه] أنه من رمضان.

ص: 410

قال: إلا أن يوافق عادة له؛ لما روى مسلم عن أبي هريرة عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: "لا تقدموا رمضان بصوم يوم ولا يومين إلا رجل كان يصوم صوماً فليصمه" وأخرجه البخاري و [غيره].

قال: أو يصله بما قبله؛ لأن بالوصل ينتفي قصد التحري لرمضان، وتحصل مخالفة من ليس من أهل الحق.

ثم ظاهر كلام الشيخ [يقتضي] انتفاء الكراهة فيما إذا وصله بيوم واحد، والحديث السالف دال على النهي عن ذلك؛ ولذلك قال البندنيجي: إنه لا يتقدم الشهر بصوم يوم ولا يومين، إلا أن يوافق ما كان [أبدا] يصومه، أو كان يسرد الصيام؛ فلا يكره له.

وقيل: [إذا انتصف شعبان لا يجوز] أن يصوم؛ لما روى أبو داود عن أبي هريرة أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: "إذا انتصف شعبان فلا تصوموا" قال الترمذي: وهو

ص: 411

[حسن] صحيح.

قال: إلا أن يوافق عادة له أو يصله بما قبله لما تقدم وهذا ما صححه النواوي، وجزم به في "المهذب"؛ لما تقدم.

والقائل بالأول يحمل الخبر الدال عليه على من كان يضعفه ذلك عن صوم رمضان.

والمتولي قال: إن أهل الحديث قالوا: إنه غير ثابت.

وسلك في "المرشد" طريقاً آخر فقال: إن وافق عادة له بأن كان يصوم الإثنين – مثلاً – فكان ذلك، لم يكره، وإن لم يوافق عادته: فإن كان قوياً ووصله بما قبل النصف جاز، وإن كان ضعيفاً ووصله بما زاد على يومين جاز؛ عملاً بالحديثين.

ولو أفراده بالصوم تطوعاً لم يصح، وبه جزم في "المهذب"، والمختار في "المرشد"، ويقال: إنه قول القاضي أبي الطيب، والذي رأيته في "تعليقه": أنه مكروه؛ فإن صامه فلا ثواب له.

وحكى المراوزة وصاحب "البحر" فيه وجهين كالصلاة في الأوقات المكروهة، وصحح الرافعي عدما لصحة؛ كصوم يوم العيد.

وقال في "البحر": المذهب أنه ينعقد.

ولو صامه عن فرض صح، وهل يكره؟ فيه وجهان:

قيل: مختار أبي الطيب: الكراهة، وهو الذي جزم به في "المهذب" وقال في "الحاوي" إنه مذهب الشافعي.

والذي رأيته في "تعليق" القاضي أبي الطيب: أنه يسقط عنه الفرض، ولا ثواب له، ويكون بمنزلة الصلاة في الدار المغصوبة.

ص: 412

واستبعد ابن الصباغ ما حكى عن ابن الطيب من الكراهة، وقال: لم أره لغيره من أصحابنا، وما قاله مخالف للقياس؛ لأنه إذا جاز أن يصوم فيه تطوعاً له سبب، كان الفرض أولى كالصلاة في الوقت المنهي عنه، ولأنه لو كان عليه يوم من رمضان فقد تعين عليه صومه فيه؛ لأن وقت القضاء قد ضاق لأجل ذلك.

[و] قال في "المرشد": إن صامه عن قضاء رمضان ينبغي ألا يكره؛ لأنه متعين، وقد حكاه في البحر وجهاً وقال: إنه أصح عندي.

ص: 413

ويوم الشك: أن يتحدث برؤية الهلال من لا يثبت بقوله: كالصبيان، والنسوان، والعدل الواحد؛ إذا لم نثبته بهم وبه، وكذا العوام إذا لم تثبت عدالتهم عند الحاكم أو لم يشهدوا به، أما إذا لم يتحدث برؤيته فلا شك.

وإن كان غيم في موضع رؤيته، فعن الشيخ أبي محمد فيما إذا كان في محل الرؤية قطع سحاب، ولم يتحدث بالرؤية – فهو يوم شك.

وقال في "البسيط": هذا غير واضح في البلاد الواسعة والقرى، وأما في الأسفار في حق الرفاق، فيمكن أن يجعل يوم شك؛ لجواز الرؤية والتحدث بها في البلاد التي يجتمع فيها من يشتغل بهذا الشأن وهو مأخوذ من قول الإمام.

وحكى الموافق بن طاهر عن أبي محمد اليامي أنه إذا كانت السماء مُصْحِيَة ولم ير الهلال فهو يوم شك وعن الأستاذ أبي طاهر: أن يوم الشك: ما تردد بين الجانبين من غير ترجيح، فإذا شهدت امرأة أو عبد أو صبي فقد ترجح أحد الجانبين، وخرج اليوم عن كونه يوم شك، والمشهور: ما تقدم.

وقد وافق الشيخفي عبارته صاحب "التتمة"، وعبارة ابن الصباغ والبندنيجي وصاحب "البحر" والفوراني والقاضي الحسين: أن صوم يوم الشك مكروه.

وفي "الحاوي": أن النهي عن صومه؛ للكراهة [لا] للتحريم.

قال: ويكره أن يصوم يوم الجمعة وحده؛ لما روى البخاري ومسلم عن أبي هريرة قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "لا يصم أحدكم يوم الجمعة إلا أن يصوم قبله أو بعده"، وفي رواية أبي داود:"قبله بيوم"، وهذا ما حكاه الشيخ أبو حامد في "التعليق" والمتولي في "التتمة"، واختاره ابن المنذر.

وقد روى المزني في "جامعه" أن الشافعي قال: "إنه لا يكره صومه، ولا يتبين لي أن النهي عن صيام يوم الجمعة إلا على الاختيار لمن كان إذا صامه منعه عن الصلاة التي لو كان مفطراً فعلها"؛ ولهذا جزم الماوردي بأن مذهب الشافعي أن معنى النهي

ص: 414

عن الصوم فيه: أنه يضعفه عن حضور يوم الجمعة [والدعاء فيهن فكل من أضعفه الصوم عن حضور الجمعة] كان صومه مكروهاً، وأما من لم يضعفه الصوم عن حضورها فلا بأس أن يصوم.

قلت: وهذا يخدشه ما رواه البخاري ومسلم عن جويرية بنت الحارث أن النبي صلى الله علي وسلم دخل عليها يوم الجمعة وهي صائمة، فقال:"صمت أمس؟ " قالت: لا، قال:"تريدين أن تصومي غداً؟ " قالت: لا، قال: فأفطري".

قال: ولا يحل الصوم يوم الفطر والأضحى؛ لما روى البخاري ومسلم وغيرهما عن أبي سعيد الخدري قال: نهى رسول الله صلى الله عليه وسلم عن صيام يومين: [يوم] الفطر، ويوم الأضحى.

[وجاء في "الصحيحين" عن عمر أنه قال: إن رسول الله صلى الله عليه وسلم نهى عن صيام هذين اليومين]: أما يوم الأضحى فتأكلون من لحم نسككم، وأما يوم الفطر ففطركم من صيامكم.

قال: وأيام التشريق؛ لما روى مسلم عن نبيشة الهذلي قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "أيام التشريق أكل وشرب"، وفي رواية:"وذكر لله تعالى"، وروى أبو داود عن أبي مرة مولى أم هانئ، أنه دخل مع عبد الله بن عمرو على أبيه عمرو بن العاص، فقرب إليهما طعاماً، فقال: كل، قال: إني صائم، فقال عمرو:[كل]؛ فهذه الأيام التي كان

ص: 415

رسول الله صلى الله عليه وسلم يأمرنا بإفطارها، وينهانا عن صيامها، قال [مالك]: هي أيام التشريق.

وأيام التشريق ثلاثة بعد يوم النحر، وسيأتي ذكر ما سميت بذلك لأجله.

قال: فإن صام في هذه الأيام، أي: أمسك فيها عن المفطرات، ونوى من الليل – لم يصح صومه؛ لأن نفس العبادة عين المعصية، قال في "التتمة": وكان عاصياً آثماً.

قال: وقال في القديم: يجوز للمتمتع صوم أيام التشريق؛ لما روي عن ابن عمر وعائشة أنهما قالا: "لم يرخص في صوم أيام التشريق إلا للمتمتع الذي لم يجد الهدي"، وإلى هذا ميل الشيخ أبي محمد.

وبعضهم حكى عن المزني أن الشافعي رجع عنه؛ ولأجله لم يثبت بعض الأصحاب في المسألة خلافاً.

وقال القاضي الحسين: إن بعض أصحابنا قال: في المسألة قول ثالث: أنه يصح فيها جميع الصيام، ويكره؛ لأنها تتلو العيد فأشبهت ما يتلو الفطر، ولأن ما صلح لنوع من الصوم صلح لغيره؛ كسائر الأيام.

وغيره قال: إذا جوزنا للمتمتع صومها هل يجوز لغيره وله صيامها عن غير المتمتع؟ فيه وجهان – وقال الإمام: طريقان-:

أحداهما: القطع بالمنع.

والثانية: أنه كصوم [يوم] الشك.

وقال الماوردي: إن غير المتمتع لا يجوز له أن يصومها تطوعاً بغير سبب بلا خلاف.

ص: 416

وفي جوازه بسبب متقدم: كالنذر، والقضاء، والكفارة، وقضاء رمضان – فيه وجهان حكاهما أبو الطيب والبندنيجي أيضاً، ونسب الجواز إلى أبي إسحاق، وسيأتي الكلام في ذلك في كتاب الحج، إن شاء الله تعالى.

وقد حكى الإمام أن القاضي الحسين ذكر مسلكاً يفضي إلى تنزيل يوم العيد منزلة يوم الشك، وما نراه قاله عن قصد، وإنما ذكره في تقدير كلام تقديراً لا تحقيقا، وأصل المذهب لا يزال بهذا، والله أعلم.

ص: 417