المَكتَبَةُ الشَّامِلَةُ السُّنِّيَّةُ

الرئيسية

أقسام المكتبة

المؤلفين

القرآن

البحث 📚

‌ ‌كتاب الصيام ["الصيام"] و"الصوم" في اللغة: الإمساك عن كل شيء، يقال: - كفاية النبيه في شرح التنبيه - جـ ٦

[ابن الرفعة]

الفصل: ‌ ‌كتاب الصيام ["الصيام"] و"الصوم" في اللغة: الإمساك عن كل شيء، يقال:

‌كتاب الصيام

["الصيام"] و"الصوم" في اللغة: الإمساك عن كل شيء، يقال: صام فلان، أي: أمسك عن الكلام، قال الله تعالى:{إِنِّي نَذَرْتُ لِلرَّحْمَنِ صَوْماً} [مريم: 26] أي: صمتاً وسكوتاً؛ [ألا ترى إلى قوله تعالى: {فَلَنْ أُكَلِّمَ الْيَوْمَ إِنسِيّاً} [مريم: 26]؟! وتقول العرب لوقت الهاجرة: قد صام النهار؛ لإمساك الشمس فيه عن السير، وتقول: خيلٌ صِيامٌ؛ بمعنى: واقفة قد أمسكت عن السير، قال النابغة:

خيلٌ صيامٌ وخيلٌ غير صائمةٍ تحتَ العَجاجِ وأخرى تَعْلُكُ اللُّجُما

وفي الشرع: إمساك جميع النهار القابل للصوم، عن إدخال عين من الظاهر إلى الباطن في منفذ مفتوح، وعن الجماع واستنزال الماء والاستقاء، مع النية، من عاقل مسلم ظاهر عن الحيض والنفاس. وسيأتي على ذلك كلام الشيخ. قال: يجب صوم رمضان على كل مسلم بالغ عاقل قادر على الصوم.

ص: 225

الأصل في ذلك قبل الإجماع عليه، من الكتاب قوله تعالى:{كُتِبَ عَلَيْكُمْ الصِّيَامُ كَمَا كُتِبَ عَلَى الَّذِينَ مِنْ قَبْلِكُمْ} الآية [البقرة: 183]، والمراد: فرض عليكم، كما في قوله تعالى:{كَتَبَ اللَّهُ لأَغْلِبَنَّ أَنَا وَرُسُلِي} [المجادلة: 21] أي: فرض الله، والمراد بالأيام المعدودات: أيام شهر رمضان، وذكرها بجمع القلة، ليهونها على النفوس، ولأنها قليلة بالنسبة إلى أيام السنة، ويدل على ذلك قول ابن عباس:[إن] أول ما فرض صوم شهر رمضان فذكره بلفظ الأيام مجملاً، ثم بينه بقوله: شهر رمضان.

فإن قيل: الآية تأبى ذلك؛ لأنه قال: لم يكن واجباً على من قبلنا.

قلنا: قد حكى القاضي الحسين أن ما من أمة من الأمم السالفة إلَاّ وقد فرض عليهم شهر رمضان، إلا أنهم قد ضلوا عنه، ولئن سلمنا أنه لم يكن واجباً على من قبلنا فالتشبيه في أصل الصوم تشبيه لنا في الابتلاء به إلا أنه كهو من كل وجه. ويجوز أن يكون التشبيه عائداً إلى صفة الصوم؛ [لأن في بعض الشرائع السالفة إذا قام المكلف بالصوم] حرم عليه الإفطار إلى الليلة المستقبلة، وقد نقل أنه كان في صدر الإسلام الأكل والشرب والنكاح مباحاً للصائم ما بين صلاة المغرب و [صلاة] العشاء حسب، فإذا صلى العشاء أو نام قبل ذلك حرم عليه الأكل والشرب والجماع إلى الليلة المستقبلة، ثم نسخ، وسبب نسخه: أن رجلاً اختان نفسه

ص: 226

وجامع أهله بعد أن نام، وروي نحو من ذلك عن عمر بن الخطاب، وروى البخاري وغيره أن صرمة بن قيس كان يعمل في أرض له وهو صائم، فجاء إلى أهله وقت الغروب والتمس عشاء، فذهبت امرأته تصنعه له فرجعت إليه، وقد غلبه النوم، فأنبهته وقالت: خَيْبَةً لك، فلم يذق في ليلته شيئاً. ولما كان من الغد مضى إلى عمله فغشي عليه، فأنزل الله تعالى:{عَلِمَ اللَّهُ أَنَّكُمْ كُنتُمْ تَخْتَانُونَ أَنفُسَكُمْ} الآية [البقرة: 187].

وقد قيل [إن:] المراد بالأيام: الأيام البيض؛ لأنه قال: أيَّاماً، و"الأيام" إنما تطلق على ما دون العشرة، وعلى هذا لا تكون الآية دالة على وجوب صوم رمضان، بل

ص: 227

تكون دالة على وجوب صوم الأيام البيض كما قال به بعضهم، وأن ذلك نسخ بقوله: شهر رمضان. ويعضده قول عائشة: يعتبر فرض الصوم على ثلاثة أنحاء: فرض [يوم] عاشوراء، ثم نسخ بقوله:{أَيَّاماً مَعْدُودَاتٍ} [البقرة: 184] وهي أيام البيض، ثم نسخ بشهر رمضان. كذا قاله القاضي الحسين، وحكى الإمام نحواً من ذلك عن معاذ.

وقد قيل: إن صوم رمضان ناسخ لوجوب يوم عاشوراء، حكاه الماوردي، ولم يورد البغوي غيره.

والذي اختاره الشافعي – كما قال القاضي الحسين -: الأول، وعبارة الماوردي: إن ذلك أشبه بمذهبه.

ومن السنة: ما روى مسلم في "صحيحه" عن أبي سعيد الخدري أن النبي صلى الله عليه وسلم قال لأناس من عبد القيس:"آمركم بأربعٍ: اعبدوا الله ولا تشركوا به شيئاً، وأقيموا الصَّلاة،

ص: 228

وآتوا الزَّكاة، وصوموا رمضان، وأعطوا الخمس من الغنائم". وروى مسلم عن [ابن] عمر عن النبي صلى الله عليه وسلم قال:"بني الإسلام على خمسٍ: على أن توحِّدوا الله، وإقام الصَّلاة، وإيتاء الزَّكاة، وصيام رمضان، والحجِّ"، فقال رجل: الحج، وصيام رمضان قال:"لا، صيام رمضان والحج"، هكذا سمعته من رسول الله صلى الله عليه وسلم.

وكان فرض صوم شهر رمضان في شعبان سنة اثنتين من الهجرة، وهي السنة التي فرضت فيها زكاة الفطر، وخطب رسول الله صلى الله عليه وسلم [بذلك] قبل الفطر بيومين، وفيها خرج إلى المصلَّى، فصلَّى بالناس العيد، وهو أول عيد صلى فيه، [وفيها أقرَّت صلاة السفر، وزيد في صلاة الحضر؛ لأنها كانت ركعتين فجعلت أربعاً]، وفيها حولت القبلة من بيت المقدس إلى الكعبة كما تقدم.

وقد اقتضى كلام الشيخ أن الحائض والنفساء يجب عليهما صوم رمضان، وإن كان لا يصح منهما ويحرم عليهما فعله، وهو رأي بعض الأصوليين، ولم يحك البندنيجي غيره، واقتضى إيراد القاضي الحسين ترجيحه، وهو موافق لقول الشافعي

ص: 229

الذي سنذكره، لكن المشهور أنها لا تخاطب بالوجوب ما لم تطهر؛ فتخاطب بالقضاء، وكذلك قال في "التهذيب": صوم رمضان فريضة على كل مسلم عاقل بالغ، إذا كان مقيماً قادراً، فالكافر لا يصح صومه، فإذا أسلم لا قضاء عليه، بخلاف المرتد، ولا يجب على الحائض والنفساء، فإذا طهرتا يجب عليهما القضاء.

ولمن تصدى لتصحيح كلام الشيخ إذا أراد حمله على [ذلك] كما حمل عليه النص، أن يقول: الشيخ تجوَّز في هذا اللفظ، وأحلَّ السبب محل المسبَّب؛ فإن رمضان بلا خلاف هو السبب في وجوب الصوم في غيرهن وذلك جائز.

تنبيه: قول الشيخ: يجب صوم رمضان، من غير إضافة الصوم إلى الشهر – اتبع فيه ما ثبت في الصحيح أن النبي صلى الله عليه وسلم قال:"من صام رمضان وقامه إيماناً واحتساباً خرج من ذنوبه كيوم ولدته أمُّه"، ولا معارضة بين ذلك وبين قوله صلى الله عليه وسلم:"لا تقولوا رمضان، و [لكن] قولوا: شهر رمضان" كما رواه أبو هريرة. وقد جاء أنه اسم من

ص: 230

أسماء الله؛ لأنا نحمل النهي على ما إذا لم تكن قرينة تدل على أن المراد الشهر، وقول النبي صلى الله عليه وسلم:"من صام رمضان" قرينة دالة على أن المراد الشهر؛ فنزل ذلك منزلة النطق به، كذا قال القاضي الحسين والماوردي والبندنيجي، وقالوا: يكره ذلك مع [عدم] القرينة [ولا يكره مع القرينة].

ولماذا سمي بـ"رمضان؟ " اختلف فيه:

قال القاضي الحسين: روي عن أنس أنه قال: سمي رمضان؛ لأنه وافق ابتداء الصوم زماناً حاراً، وكنا يرمض فيه العشب –يعني يحترق – لالتهاب الرمضاء في ذلك [الوقت؛ فسمي رمضان لشدة الحر، ثم ثبت اسمه فيما بعد ذلك]. وحكى البندنيجي ذلك عن ابن عمر.

وقيل: سمي رمضان؛ لأنه يرمض الذنوب، أي: يحرقها، وهذا ما عزاه الماوردي والبندنيجي إلى أنس، وقال [القاضي] أبو الطيب: إنه قول النبي صلى الله عليه وسلم.

قال: فأما الكافر: فإن كان أصليَّا لم يجب عليه؛ لأنه لا يصح منه فعله في

ص: 231

حال كفره، ولا يجب عليه قضاؤه بعد إسلامه؛ فكان بمنزلة الحائض في تركها الصلاة، وهذا ما أورده الماوردي [أيضاً]، وحكاه القاضي أبو الطيب وغيره وجهاً لأصحابنا، وقال: الأصح: أنه واجب عليه ومخاطب به؛ لقوله تعالى: {مَا سَلَكَكُمْ فِي سَقَرَ} الآية [المدثر: 42]. قلت: وهو ظاهر النص في "المختصر"؛ فإنه قال: وصوم شهر رمضان واجب على كل بالغً من رجل وامرأة وعبد. والكلام فيه محال على كتاب الصلاة. قال: وإن كان مرتداً وجب عليه: لأنه حق التزمه بالإسلام فلا يسقط بالردة كحقوق الآدميين.

قال: وأما الصبي فلا صوم عليه؛ للخبر المشهور، ولأنها عبادة على البدن من شرطها النية؛ فلم تجب على الصبي كالصلاة، وقولنا: من شرطها النية، أخرجنا به العدَّة، فإنها عبادة تجب على الصغيرة لكن النية ليست شرطاً فيها، بدليل ما لو طلقت المرأة ولم تعلم حتى انقضت عدتها حلَّت، على أنها ليست على البدن.

قال: غير أنه يؤمر به لسبع، أي: إذا كان يطيقه، ويضرب على تركه لعشر؛ قياساً على الصلاة، والحكمة في ذلك تمرنه على العبادة.

قال: وما زال عقله بجنون، أو مرض، لم يجب عليه الصوم؛ للخبر المشهور، ولما ذكرناه من القياس، ولا يتلحق به المغمي عليه في ذلك، بل هو ملحق بالنائم بلا خلاف، ولأنه مكلف. قال البندنيجي: نعم، في "تعليق" القاضي الحسين عن القديم إلحاقه بالإغماء؛ فإنه قال: إن الشافعي قال في القديم: لو أصابه لمم أذهب عقله، أو أغمي عليه جميع الشهر –لزمه قضاء الشهر، ولا يلزمه قضاء الصلاة. واللمم: هو الجنون، فجعل الجنون كالإغماء. قال: وإليه ذهب ابن سريج والإصطخري. واقتصر الماوردي وأبو الطيب على [نسبته] إلى ابن سريج لا غير، وخطَّأه [فيه، وقال] أبو الطيب: إنه ليس مذهب الشافعي، والفرق بينه وبين الإغماء: أن الإغماء مرض يحدث مثله للأنبياء، والجنون نقص يزول معه التكليف، ولا يجوز حدوث مثله على الأنبياء.

ص: 232

وعن المحاملي أن المزني نقل في "المنثور" عن الشافعي أنه قال: إذا أفاق في أثناء الشهر لزمه قضاء ما مضى كمذهب أبي حنيفة، وألا فلا، وهو ما ادعى الإمام أن العراقيين نسبوه إلى ابن سريج، ولعله لا يصح عنه.

قلت: وكذلك منع البندنيجي نسبة القول الأول إليه أيضاً، وقال: إنه حكى أن المزني حكى في "المنثور": أن الشافعي قال: يقضي ما مضى. وقال أبو العباس: الذي حكاه المزني لا يعرف للشافعي.

فرع: لو شرب دواء حتى زال به عقله، وفاته بذلك رمضان، ثم أفاق بعد الشهر أو في أثنائه-هل يلزمه القضاء أم لا؟

قال: فإن بلغ الصبي، أي: مفطراً؛ لأن الكلام فيما إذا بلغ صائماً سيأتي، ولأنه قرنه بالمجنون يفيق، وسوَّى بينهما [في الحكم]، ولا صوم مع الجنون، أو أفاق المجنون في أثناء النهار - لم يلزمهما صوم ذلك اليوم على ظاهر المذهب؛ لأنهما لم يدركا من الوقت بعد وجود أهلية التكليف ما يمكن فيه الصوم؛ لفقد شرطه وهو النية من الليل؛ فأشبه ما لو طرأ الحيض والجنون على من دخل [عليه] وقت الصلاة ولم يمض قدر ما يؤدي فيه الفرض؛ فإنها لا تجب، وعلى هذا لا يجب قضاؤه، كما لو بلغ الصبي وأفاق المجنون بعد الغروب، وهذا ما حكاه ابن الصباغ عن نصه في "البويطي" فيهما وصححه.

وخلاف ظاهر المذهب: أنه يلزمهما كما تلزمهما الصلاة بإدراك جزء من آخر وقتها وإن كان لا يسعها، وكونه لا يصح صومهما فيما أدركاه من الوقت لا يقدح في الوجوب، دليله: وجوب الصوم على الحائض؛ فعلى هذا يلزمهما قضاء يوم كامل.

والقائلون بالأول فرّقوا بينه وبين إدراك آخر وقت الصلاة بأنه لم يمكنه أن يتم الصلاة خارج الوقت؛ فكان إدراك بعضها موجباً لكلها، ولا كذلك في الصوم؛ لأنه

ص: 233

لا يمكن إتمامه؛ فهو نظير ما ذكرناه من طروء الحيض في أول وقت الصلاة.

وقد افهم كلام بعضهم أن الواجب صوم ما أدرك من النهار فقط على هذا الوجه، وأداؤه لا يمكن، وقضاؤه لا يمكن إلا بصوم كامل؛ فوجب كما نقول فيمن وجب عليه وهو محرم كفارة هي نصف مدٍّ، وأراد الصوم، فظاهر كلام الشيخ الأول، وكلام غيره إلى الثاني أميل.

وقد أثبت القاضي الحسين الخلاف في المسألة وجهين، وقال: إنهما ينبنيان على أنه إذا قال: لله علي أن أصوم اليوم الذي يقدم فيه فلان، فقدم في خلال النهار – هل يقضي يوماً مكانه أم لا؟ [وفيه] قولان، كذلك هاهنا، وقال في موضع آخر: إن [على] الخلاف يخرج ما إذا نذر صوم نصف يوم، هل ينعقد نذره أم لا؟ إن قلنا: لا يلزمه القضاء [هنا]، لم ينعقد، وإلا انعقد.

ويجيء في المسألتين وجهان آخران؛ لأن الغزالي حكى تبعاً للفوراني والقاضي الحسين: في أنه هل يجب عليهما وعلى الكافر إذا أسلم في أثناء النهار إمساك بقية النهار؟ أربعة أوجه، فقال الإمام: إنها متفرقة في الطرق:

أحدها – وهو الذي أورده القاضي أبو الطيب والماوردي لا غير، وحكاه البندنيجي عن نصه في "البويطي"-: أنه لا يلزمهم؛ كما إذا قدم المسافر مفطراً في أثناء النهار، وقد عزاه القاضي أبو الطيب في "الكافي" إلى نصه في "حرملة"، وصححه في الجميع ابن الصباغ والإمام.

والثاني: يلزمهم؛ لأنهم صاروا مخاطبين في بعض النهار، فيجعل كأنهم خوطبوا به في ابتدائه، إلا أنهم لم ينووا فلم يصح صومهم؛ فلا أقل من أن يتشبهوا بالصَّائمين، وقد حكاه البندنيجي عن بعض الأصحاب، و [قد] نسبه ابن الصباغ في الصبي والكافر إلى [رواية أبي حامد في "التعليق"، موجهاً له بأنه لا يجب عليهما القضاء.

والثالث: أنه يلزم الكافر] [دونهما؛ لأنه غير معذور في كفره، وهما

ص: 234

معذوران].

[والرابع: أنه يلزم الكافر] والصبيَّ دون المجنون؛ لأن الصبي مأمور بالصوم وهو ابن سبع، ومضروب عليه وهو ابن عشر، والكافر يقدر على صحة الصوم بالإسلام، بخلاف المجنون. وهذا الوجه يؤخذ من كلام البندنيجي- أيضاً – لأنه حكى الوجهين الأولين في المجنون تفريعاً على أن الجنون ينافي الصوم، ثم قال: أما إذا قلنا: إنه لا ينافيه، فهو ملحق بالمريض، والمريض إذا برأ في أثناء النهار الذي أفطر فيه يلزمه إمساك بقيته قولاً واحداً كما قال، وإن كان فيه شيء سأذكره.

ثم قال الغزالي: إن الأصحاب قالوا: إن قضاء هذا اليوم في حقهما يبني على الإمساك فمن ألزم الإمساك ألزم القضاء، ومن لا فلا. وقال الصيدلاني: من أوجب الإمساك اكتفى [به]،ومن لا يوجبه أوجب القضاء.

وهذا ما أورده في "التتمة" حيث قال: الصبي إذا بلغ في أثناء النهار مفطراً هل يلزمه التشبه بالصائمين؟ فيه وجهان ينبنيان على أنه هل يجب عليه القضاء أم لا؟ فإن قلنا: لا يجب، وجب التشبُّه: لأنه أدرك زمان العبادة [وليس يلزمه ترك العبادة]، فإذا لم يأمره بالإمساك لا يظهر لإدراك وقت العبادة أثر.

وهذا موافق لما قدمت ذكره من تعليل الشيخ أبي حامد، وقد عكس في "التهذيب" ذلك فقال: إن قلنا: يجب القضاء، وجب التشبُّه، وإلاّ فلا. فإذا عرفت ذلك وتأملته ظهر لك الوجهان؛ لأن من جعل وجوب القضاء مفرعاً على وجوب الإمساك يلزمه أن يقول: يجب القضاء على الصبي دون المجنون على وجه، كما وجب عليه الإمساك دون المجنون، وكذلك قال الفوراني: إن الأوجه الأربعة في وجوب الإمساك جارية في القضاء. وقد أشار إليه صاحب "التهذيب" حيث حكى الوجهين في المجنون كما هما في الصبي، [ثم قال: ومنهم من قال: لا يجب عليه قولاً

ص: 235

واحداً، وذلك ستمد من قول القاضي الحسين: إن الوجهين في وجوب القضاء على المجنون مرتبان على الوجهين في الصبي]، وأولى بالمنع، والفرق: أن الصبي يمكنه أن ينوي من الليل فلم يكن معذوراً فيه، بخلاف المجنون، وعلى قول الصيدلاني يلزمه أن يجب القضاء على المجنون دون الصبي إذا قلنا: إن الإمساك لا يجب على المجنون ويجب على الصبين وهذا لم أره فيما وقفت عليه.

واعلم أن الشيخ قد سكت عن بيان حكم الكافر في قضاء اليوم الذي يسلم فهي من رمضان، وسكوته [عنه] يجوز أن يكون لاعتقاده إمكان أخذه من الحكم الذي ذكره في المجنون إذا أفاق في أثناء النهار؛ لأنهما متساويان عنده في عدم الوجوب في أوله وعدم القدرة على النية من الليل مع تلك الحالة؛ فيجيء فيه الخلاف الذي ذكره، وقد حكاه الماوردي وغيره من العراقيين وقال: إن مذهب الشافعي الذي نص عليه في "حرملة" و"البويطي": أنه لا يلزمه.

وحكى أبو الطيب ذلك عن "الأم" والقديم، وقضية ما حكيناه عن الصيدلانيِّ وغيره من بناء القضاء على الإمساك: أن يكون فيه مع الصبي والمجنون أربعة أوجه.

ثالثها – وهو ما اقتضاه كلام الصيدلاني-: أنه لا يجب عليه، ويجب على الصبي والمجنون، وهذا في نهاية البعد، وبه يظهر تضعيف قول الصيدلاني وإن كان [الإمام] قد قال: إنه [ليس] خالياً عن الفقه. ورابعها: أنه يجب عليه دون الصبي والمجنون، وهو ما اقتضاه كلام غير الصيدلاني كما تقدم، وقد حكاه البغوي والمتولي حيث حكيا القولين فيه كالصبي، ثم قالا: ومنه من قال: إنه يجب عليه قولاً واحداً. قال في "التهذيب": وهو الأصح؛ لأن الكافر مخاطب بالصوم في أول النهار، بخلاف الصبي. وهذا أخذ من قول القاضي الحسين: إن الكافر مرتب على الصبي: إن قلنا: يلزم الصبي القضاء، فالكافر أولى، وألا فوجهان، والفرق ما ذكرناه.

وقد اعترض الرافعي على قول من جعل وجوب القضاء مرتباً على وجوب [الإمساك فيما ذكرناه، وعلى من جعل وجوب الإمساك مرتباً على وجوب]

ص: 236

القضاء، وهو صاحب "التهذيب" وغيره كما قال، وعلى الصيدلاني، فقال: إن الأول والثاني يشكل بالحائض والنُّفساء إذا طهرتا في خلال النهار؛ فإن القضاء واجب عليهما لامحالة، والإمساك غير واجب عليهما: إما بلا خلاف على ما رواه الإمام، وإما على الأظهر؛ لأن صاحب "المعتمد" حكى طرد الخلاف فيهما، وإذا كان كذلك لم يستقم القول بأن القضاء فرع الإمساك، ولا بأن الإمساك فرع القضاء، وقول الصيدلاني يشكل بصوم يوم الشك والمتعدِّي بالإفطار؛ فن القضاء لازم مع التشبيه، وماذكره لا يخفى جوابه على متأمل.

قال: وأما من لا يقدر على الصوم، أي: أصلاً أو لو صام لأجهده وأضرَّ به ضرراً غير محتمل؛ لكبر أو مرض لا يجري برؤه – فلا يجب عليه الصوم إلا أنّه تلزمه الفدية عن كل يوم مد من طعام في أصح القولين؛ لقوله تعالى: {وَعَلَى الَّذِينَ يُطِيقُونَهُ فِدْيَةٌ طَعَامُ مِسْكِينٍ} [البقرة:184]، وجه الدلالة منها:[أنها] مقتضية تخيير القادر على الصوم بين الصوم والفدية كما كان مخيراً في صدر الإسلام، والمخير بين شيئين إذا عجز عن أحدهما تعين عليه الآخر: كالمكفِّر يعجز عن العتق والكسوة يتعين عليه الإطعام، وأيضاً فقد قيل: إن كلمة "لا" مضمرة فيها، والتقدير: وعلى الذين [لا] يطيقونه فدية، وعلى هذا وجه الدلالة ظاهر.

فإن قيل: هذا التقدير خلاف الأصل، والقراءة المشهورة منسوخة؛ فلا دليل لكم فيها.

قلنا: لانسلم أن النسخ يشمل العاجز؛ لأن الآية الناسخة قوله: {فَمَنْ شَهِدَ مِنْكُمْ الشَّهْرَ فَلْيَصُمْهُ} [البقرة: 185]، وأجمعنا على أن الشيخ الهمَّ ومن في معناه لا يدخل في الآية الناسخة؛ فدل على أنه باق على [حكم] تلك الآية، وقد روي عن عمر وعلي وعبد الله بن عمر وابن عباس وأبي هريرة أنهم قالوا: الشيخ الهمُّ عليه الفدية إذا أفطر، ولي سلهم في الصحابة مخالف.

ص: 237

وهذا القول نصَّ عليه في "المختصر" وعامة كتبه كما قال القاضي أبو الطيب، وهو مصرح بأن رمضان لو كان ناقصاً لم يلزمه سوى تسع وعشرين يوماً كما هو مصرح به في "التهذيب" وغيره.

قال: ولا يلزمه ذلك في الآخر؛ لأنه أفطر لأجل نفسه بعذر فوجب ألا تلزمه الفدية، كالمسافر والمريض إذا ماتا قبل انقضاء السفر والمرض، وهذا ما حكاه في "الشامل" و"التَّتمة عن نصه في "شرح" حرملة و"مختصر" البويطي والفوراني والبغوي [عن القديم]، وقال الإمام: إنه منقاس، ومع ذلك فلا تعويل عليه في المذهب.

واعلم أن ظاهر كلام الشيخ يقتضي أمرين:

أحدهما: أن الصوم لا يجب على من لا يقدر عليه؛ لما ذكرناه، وإنما الواجب عليه على القول الصحيح: الفدية لا غير، وهو ما اقتضاه كلام القاضي الحسين والبغوي والذي سنذكره من بعد، وقول البندنيجي: أما الشيخ الهمُّ ففرضه الإطعام، فقد حكاه المتولي وهاً في المذهب، وقال تفريعاً عليه: إنه لو نذر الصوم لم يلزمه، وهو الذي صححه في "الروضة"؛ لأنه [غير] قادر عليه، ولا الفدية؛ لأنه لم يلزم إلا الصوم، بخلاف ما إذا قلنا بمقابله كما سنذكره؛ فإنه تلزمه الفدية.

وقال القاضي الحسين في "التعليق" وآخرون – كما قال الرافعي:- يحتمل أن تبنى صحة نذره على أن النذر يسلك به مسلك إيجاب الله تعالى أو إيجاب الآدمي؟

ص: 238

وفيه قولان، والصحيح: أن الصوم واجب على الشيخ الهمِّ ومن في معناه، وهو مخير بين أن يأتي به وبين أن يطعم على القول بوجوب الفدية؛ للآية، ووجه الدلالة منها من وجهين.

أحدهما: أن ابن عباس وعائشة كانا يقرآن – كما حكاه المتولي عن رواية البخاري في "صحيحه" عنهما: "وعلى الذين يُطَوَّقونه فدية

" ومعناه: وعلى الذين يكلفون بالصوم ولا يطيقونه، قال الماوردي وأبو الطيب وغيرهما: لأن قراءة الصحابي تجري مجرى خبر الواحد في وجوب العمل به، لأنه لا يقول ذلك إلا سماعاً وتوقيفاً.

ونسب القاضي الحسين هذه القراءة إلى غير ابن عباس، وأنه كان يقول: إن الصوم لما فرض انحتم فعله على القادر عليه ولم يخير فيه، وإن الآية محكمة لم تنسخ.

والثاني: على القراءة المشهورة [أن] المخاطب برمضان كان مخيراً فيه بين فعله وبين الفدية، للآية، ثم نسخ ذلك بقوله:{فَمَنْ شَهِدَ مِنْكُمْ الشَّهْرَ فَلْيَصُمْهُ} [البقرة: 185] رواه البخاري ومسلم وغيرهما عن سلمة بن الأكوع. قال القاضي أبو الطيب: فمقتضى ذلك إيجابه في حق كل أحد، إلا أنَّا أجمعنا على أنه لم ينحتم في حق الشيخ الهم ومن في معناه؛ فكأن حكمه باق على الأصل، واختصاص الشيخ بالقادر على الصوم، وقد روى أبو داود عن ابن عباس أنه قال: كانت رخصة للشيخ الكبير والمرأة [الكبيرة] وهما يطيقان الصيام أن يفطرا ويطعما مكان كل يوم

ص: 239

مسكيناً، والحبلى والمرضع إذا خافتا. قال أبو داود:[يعني]: على أولادهما.

قلت: ولمن أجرى كلام الشيخ على ظاهره أن يقول: قراءة ابن عباس مردودة بقوله تعالى: {فَمَنْ تَطَوَّعَ خَيْراً فَهُوَ خَيْرٌ لَهُ وَأَنْ تَصُومُوا خَيْرٌ لَكُمْ} [البقرة: 184]؛ فإن العاجز عن الصوم مأمور بتركه لا بفعله، ولا نسلم أن العاجز عن الصوم دخل فيما اقتضته الآية على القراءة المشهورة، بل إنما تناولت فقط لقوله:{فَمَنْ تَطَوَّعَ خَيْراً فَهُوَ خَيْرٌ لَهُ وَأَنْ تَصُومُوا خَيْرٌ لَكُمْ} [البقرة: 184]، والفطر في حق الشيخ [الهمّ] ومن في معناه خير من الصوم، وهذا اعتراض المزني، وجوابه: أنه لا يمتنع أن يعود قوله: {وَأَنْ تَصُومُوا} لبعض ما دخل في اللفظ الأول، وسنذكر لذلك نظائر في كتاب الله تعالى. [وعلى هذا] لمن تصدى لتصحيح كلام الشيخ أن يقول: مراده: أنه لا يجب عليه الصوم حتماً كما يجب على غيره مقيماً كان أو مسافراً، طاهراً أو حائضاً، إلا أنه تلزمه الفدية إن لم يطعم عن كل يوم مدًّا من طعام في أصح القولين، ويؤيد ذلك أن البندنيجي قال: فرض الشيخ الهِمِّ: الإطعام، فلو حمل على نفسه وصام فلا إطعام، والله أعلم.

الأمر الثاني: أن المد يجب سواء كان قاراً عليه أو عاجزاً عنه، وقد قيد الماوردي وجوبه بما إذا كان قادراً عليه، ولفظ القاضي الحسين أصرح منه؛ فإنه قال: لو كان الهمُّ فقيراً لا مال له فلا فدية عليه في الحال ولا إذا أيسر، ويحتمل أن يقال: يجب؛ بناء على أن الاعتبار في الكفارات بحال الوجوب أم بحال الأداء؟ وفيه خلاف.

وقد [حكى في "التهذيب"] في وجوب الإخراج عليه عند القدرة قولين

ص: 240

كالقولين في الكفارة فيما إذا كان معسراً حالة إفطاره بالجماع، وقال: إن الشيخ الهمَّ لو كان عبداً واتصل رقه بالموت لا شيء عليه، [و] إن عتق قبل الموت وأيسر، فإن قلنا في الحرّ إذا أيسر: لا يلزمه، فالعبد أولى، وألا فوجهان، والفرق: أن العبد لم يكن وقت الفطر من أهل الفدية بخلاف الحر.

وما ذكره البغوي إذا تأملته كان أجود مما ذكره القاضي، وقد اقتضى كلام الماوردي في موضع آخر مخالفته لما قيد به الوجوب؛ فإنه قال: لو مات قبل الإمكان سقط المُدُّ. وهذا يدل على وجوبه حالة العجز عنه، وعبارة البندنيجي: أنه إذا مات قبل الصيام والإطعام نظرت: فإن مات وهو قادر على الإطعام أطعم عنه، ون مات وهو لا يقدر على الإطعام فلا شيء عليه.

فروع:

أحدها: لو أراد الهرم ومن في معناه تقديم المد على شهر رمضان – كما قال الرافعي في كتاب الزكاة – فهل يجوز تقديمه على أيام الشهر؟ فيه وجهان: أحدهما: نعم؛ كزكاة الفطر، والثاني: لا ككفارة الجماع. قال القاضي الحسين: والأول أصح؛ لأنه معذور فيه، وقد قيل بطرده في كفارة الجماع، حكاه الرافعي في كتاب الزكاة عن الحناطي.

والذي أورده في "الروضة"[في مسألتنا]: الثاني، وفرع عليه أنه لو أخرجه بعد طلوع الفجر عن يوم من رمضان أجزأه عن ذلك اليوم، وإن أداه قبل الفجر ففيه احتمالان حكاهما في "البحر" عن والده، وقطع الدارمي بالجواز، وهو الصواب.

الفرع الثاني: إذا لم يَفْدِ حتى صار قادراً على الصوم، قال القاضي الحسين – وتبعه البغوي -: لا يلزمه الصوم، بخلاف المعضوب الموسر، فإنه إذا لزمه الحج،

ص: 241

وحج الغير عنه بإذنه، ثم قدر على مباشرته بنفسه – يلزمه الحج، والفرق: أن المعضوب كان مخاطباً بالحج ما بنفسه أو بأمر الغير، فلهذا قلنا: يلزمه، بخلاف الشيخ الهِّم؛ فنه من كان مخاطباً [بأصلٍ]، وإنما هو مخاطب ببدله فقط. انتهى. وهذا ما أشرت إليه من قبلن وهذا الفرق فيه نظر تنبه له صاحب "التهذيب": وهو أن الشيخ الهمَّ ومن في معناه إنما يكون فرضه الفدية لا الصوم، لاقتضاء حاله الإياس من فعله بنفسه قضاء [أو أداءً] يدل عليه أن من به مرض غير ميئوس [منه] ليس واجبه الفدية، بل الصوم، لاحتمال قدرته عليه قضاء؛ ولذلك لو مات قبل التمكن منه لا تجب الفدية باتفاق الأصحاب. وقال الإمام: إنه لا يعرف فيه خلافاً. وقاسه في "التهذيب" وغيره على ما [إذا أتلف ماله بعد الحول وقبل التمكن، وألحقوا به المسافر إذا] دام سفره إلى الموت.

وإذا كان كذلك فقد انكشف الحال على أن الشيخ الهمِّ ومن في معناه واجبه الصوم، فهو كالحج سواء، فيجب عليه أن يصوم بلا خلاف كما لو برأ المعضوب قبل أن يحخج عنه، وإن قدر على الصوم بعد إخراج المد فكذلك على الصحيح.

الثالث –وهو في الحقيقة ارجع إلى تحقيق صورة المسألة. قال القاضي أبو الطيب عند الكلام في الحامل والمرضع: لو كان الشيخ الهم يعجز عن الصوم للكبر في زمان دون زمان فإنه يجب عليه الصوم، ولا يجوز له الفطر ويفتدي.

تنبيه: "برء" فيه ثلاث لغات: إحداها: برئ من المرض يَبْرَأ بُرْءاً، بضم الباء، والثانية: بَرَأَ يَبْرَأ بَرْءًا، بفتحها. والثالثة. بَرُؤَ بُرْءًا.

قال: ومن ترك الصوم جاحداً لوجوبه – أي وهو قديم عهد بالإسلام – كفر؛ لأنه كذَّب الله تعالى ورسوله في خبره.

ص: 242

قال: وقتل بكفره، لقوله – عليه السلام: "لا يحلُّ دم امرئٍ مسلمٍ إلَاّ بإحدى ثلاثٍ: كفرٍ بعد إيمانٍ

"، وهذا الحكم ثابت بترك صوم أول يوم. نعم، الحكم في استدامته مذكور في باب الردة، وأما حديث العهد بالإسلام فيعرَّف أنه واجب عليه، فإن رجع عنه، وألا كان حكمه ما تقدم.

قال: ومن تركه غير جاحد حبس ومنع الطعام والشراب، أي: في النهار، لتحصيل صورة الصوم بذلك، ولأنه إذا فهم أنه يعامل بذلك ينوي من الليل.

قال: ولا يجب صوم رمضان إلا برؤية الهلال، فإن غم عليهم وجب [عليهم] استكمال شعبان [ثلاثين يوماً]، ثم يصومون؛ لقوله تعالى:{فَمَنْ شَهِدَ مِنْكُمْ الشَّهْرَ فَلْيَصُمْهُ} [البقرة: 185]، والمراد بالشهادة هاهنا: العلم، [والعلم][به] تارة يكون بالرؤية وتارة باستكمال العدد؛ لأن الله تعالى لم يجر العادة بأن الشهر يكون أكثر من ثلاثين يوماً، قال صلى الله عليه وسلم:"إنَّا أمة أميَّةٌ لا تكتب ولا تحسب، الشَّهر هكذا وهكذا. وعقد الإبهام في الثَّالثة، والشَّهر هكذا وهكذا وهكذا. يعني تمام الثلاثين" كذا رواه البخاري ومسلم عن رواية ابن عمر. ولما روى مسلم عن أبي هريرة قال: ذكر رسول الله صلى الله عليه وسلم الهلال، فقال:"إذا رأيتموه فصوموا، وإذا رأيتموه فأفطروا، فإن أغمي عليكم فعدُّوا ثلاثين"، ورواية أبي داود عنه أنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "الشَّهر تسعٌ وعشرون؛ فلا تصوموا حتَّى تروه، ولا تفطروا حتَّى تروه، فإن غمَّ عليكم فاقدروا له"، وروى البخاري في "صحيحه" عنه عن النبي صلى الله عليه وسلم قال:

ص: 243

"صوموا لرؤتيه، وأفطروا لرؤيته، فإن غمَّ عليكم فأكملوا عدَّة شعبان ثلاثين"، وروى أبو داود عن عائشة قالت:"كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يتحفظ من شعبان ما لا يتحفظ من غيره، ثم يصوم لرؤيته رمضان، فإن غمَّ عليه عد ثلاثين يوماً ثم صام". قال الدارقطني: وهذا إسناد صحيح. وقال غيره: إن رجال إسناده كلهم محتج [بهم] في "الصحيحين" على الاتفاق والانفراد.

وقد اقتضى كلام الشيخ أمرين:

أحدهما – بمنطوقه -: أنه [إذا] اقتضى حساب المنجمين دخول رمضان قبل استكمال العدة، وقد غم الهلال: أنه لا يجب الصوم على من عرف ذلك ولا على غيره من طريق الأولى، بل لا يجوز لهم الإقدام عليه؛ أخذاً من قوله:"فإن غم عليهم وجب [عليهم] استكمال شعبان ثلاثين يوماً، ثم يصومون"، والطرق مختلفة في ذلك، والمشهور منها: أنه لا يجب على من لا يعرف الحساب العمل بقول من عرفه وإن وثق بقوله، بل لا يجوز له، وهل يجب على من عرفه؟ فيه وجهان، وعلى ذلك

ص: 244

جرى في "الوسيط" وغيره، وأصح الوجهين عند القاضي الروياني: عدم الوجوب، [والثاني- قاله] ابن الصبَّاغ -: أنه لا يجب على من عرفه وعلى من لم يعرفه، ولا يجوز لمن يعرف ذلك الصيام اعتماداً على قوله. وله يجوز لمن عرفه؟ فيه وجهان، وقد حكاهما القاضي الحسين والبغوي:

ووجه الجواز – وهو اختيار ابن سريج والقفال -: قوله تعالى: {وَعَلامَاتٍ وَبِالنَّجْمِ هُمْ يَهْتَدُونَ} [النحل: 16]، وقوله عليه السلام:"فاقدروا له" أي: اسحبوا منازل سيره.

ووجه المنع – وبه قطع الطبري -:ما ذكرناه، ولأنه لو جاز فعله لوجب لأن الوقت متعين والفعل واجب على الفور، ولا مانع منه، والمراد بالآية: الاهتداء بالنجم في دلائل القبلة ومسالك السابلة في البحر والبر؛ بدليل قوله: [{يَسْأَلُونَكَ عَنْ الأَهِلَّةِ} [المرسلات:23] قال الفرَّاء وغيره من أهل العلم: معناه: فقدَّرنا. على أنه قد روي: "فاقدروا له ثلاثين"، وإن لم يثبت ذلك فقد بينه قوله – عليه السلام – في رواية مسلم:"فعدوا ثلاثين"، و [في] رواية البخاري:"فأكملوا عدة شعبان ثلاثين".

قال الرافعي: ورأيت في بعض المسوَّدات تعدية الخلاف في جواز العمل به إلى غير المنجَّم، وفائدة الجواز: أنه لو ثبت أن ذلك اليوم من رمضان بشهادة عدلين، وقد صامه من عرف أنه من رمضان بالحساب، أو من وثق بقول – فمن لم يعرف ذلك بنية من الليل أنه عن رمضان [أنه] يجزئه عن رمضان، ولا قضاء عليه، صرَّح به الماوردي والقاضي أبو الطيب غيرهما.

وعن الشيخ أبي حامد أنه ذكر في "التعليق" وجهاً: أن ذلك بمنزلة الشهادة على

ص: 245

الرؤية؛ فيتعدى الوجوب ممن عرفه بالحساب إلى من لم يعرفه، ويوافقه قوله في "البيان" في مواقيت الصلاة: إن صاحب "الفروع" قال في وقت الصلاة: إذا كان يعلم دخول الوقت بالحساب فهل يقبل قوله فيه وفي شهر رمضان؟ وجهان. والمذهب: أنه يعمل عليه بنفسه، فأما غيره فلا يعمل عليه.

وحكى الماوردي وجهاً ثالثاً في الإجزاء إذا نوى معتمداً على ذلك، فارقاً بين أن يكون قد علم ذلك من منازل القمر وتقدير سيره فيجزئه، وبين أن يكون قد علمه بالنجوم فلا يجزئه.

الأمر الثاني: أنه إذا رُئي في بلد عم حكمه سائر البلاد، وهو المعزيُّ إلى اختيار القاضي أبي الطيب، وقد حكى الماوردي فيه ثلاثة أوجه:

أحدها: هذا؛ إذ ليس رؤية جميع من في البلد الواحد شرطاً في وجوب الصيام عليهم، بدليل إجماعهم على وجوب الصيام على الأعمى والمحبوس وإن لم يره، وإذا كان كذلك في البلد الواحد فكذلك في كل البلاد؛ لأن فرض الله على جميعهم واحد.

والثاني: لا يلزمهم صيامه حتى يروه، لأن الطوالع والغوارب قد تختلف باختلاف البلدان، وكل قوم إنما خوطبوا بمطلعهم ومغربهم، دليله مواقيت الصلاة.

والثالث: أنه يلزم أهل البلدان من ذلك الإقليم، دون أهل البلدان في إقليم آخر لما روي أن ثوبان قدم المدينة من الشام، فأخبر برؤية الهلال قبل المدينة بليلة، فقال ابن عباس: لا يلزمنا، لهم شامهم ولنا حجازنا. فأجرى على الحجاز حكماً وإن اختلفت بلاده، وفرَّق بينه وبين الشام، وهذا ما نسب إلى الشيخ أبي حامد، وهو الذي أورده البندنيجي، حيث قال: إن لم يكن بين البلدين – التي رئي فيها، والتي لم ير فيها- مسافة تختلف المطالع لأجلها: كالموصل وبغداد والبصرة، كان حكم الجميع واحداً، ويجب على أهل البلدة التي لم ير فيها [قضاء يوم، وإن كان بينهما] مسافة تختلف المطالع فيها: كبغداد وخراسان والحجاز وبغداد والشام، كان لكل بلد رؤية

ص: 246

نفسه؛ فلا يلزم أهل البلد التي لم ير فيها قضاء يوم، وقد حكى القاضي أبو الطيب في "تعليقه" هذا الوجه الأول، ولم يرجح واحداً منهما، وجزم القاضي الحسين في "تعليقه" والبغوي والمتولي بأن ما تقارب من البلاد حكمهم واحد، وفي المتباعد وجهان: أصحهما عند القاضي: التعميم. وإن اقتضى نظم كلامه ترجيح مقابله، وهو الذي صححه في "التهذيب" و"الروضة"؛ لأن كريباً أخبر عن ابن عباس وهو بالمدينة، أنه رأى الهلال بالشام ليلة الجمعة، فقال ابن عباس: لكنَّا رأيناه ليلة السبت؛ فلا نزال تصوم حتى نرى الهلال أو نكمل العدد ثلاثين، فقال له كريب: أما يكفيك رؤية معاوية والناس؟ فقال: هكذا أمرنا رسول الله صلى الله عليه وسلم، أخرجه مسلم بمعناه.

قال القاضي الحسين: واختلف في قوله: "هكذا أمرنا": فمنهم من قال: أراد به قوله: " [صوموا] لرؤيته

" الخبر، ومنهم من قال: هو كان يحفظ حديثاً أخص منه في هذه الحادثة.

وعلى هذا لو شك في التقارب، قال في "الروضة": لم يجب الصوم على الذين لم يروا؛ لأن الأصل عدم الوجوب. وعلى خلافه، وهو إذا جعلنا للبعد أثراً فما ضابطه؟ فيه وجهان في "التتمة":

أحدهما – وهو ما أورده الغزالي والبغوي تبعاً للفوراني والأصحاب، كما قال الإمام-: مسافة القصر.

والثاني: اختلاف المطالع، وقد أبداه الإمام احتمالاً لنفسه، ثم قال: ولكن لا قائل به؛ فإن درك هذا يتعلق بالأرصاد والتموردات الخفية، وقد تختلف المناظر في

ص: 247

المسافة القاصرة عن مسافة القصر للارتفاع والانخفاض، والشرع لم يبن على إلزام مثل هذا، وإلى هذا أشار الغزالي في تعليل قوله:"إنه لا ضابط إلا مسافة القصر" أن تحكم المنجم قبيح شرعاً، وحكى القاضي الحسين مع هذا الوجه وجهاً آخر: أنه انقطاع القوافل، فإن لم تكن منقطعة بينهما فهما متقاربان.

فرع: حيث قلنا: لكل بلد حكم نفسها، لو سافر شخص من بلدة رئي فيه الهلال إلى بلدة لم ير فيها، وتم له ثلاثون يوماً، ولم ير الهلال في البلدة التي سافر إليها – فهل يفطر أم لا؟ فيه وجهان، قال في "التتمة": يقربان من الوجهين فيما إذا صاموا بشهادة واحدٍ ثلاثين يوماً ولم يروا الهلال. والذي أورده القاضي الحسين: وجوب الإفطار، والمنسوب إلى القفَّال مقابله، [وهو] الذي أورده في "الإبانة" والغزالي، وحكى الإمام عن الأصحاب القطع به؛ لأنه روى عن ابن عباس أم كريب بالصوم معهم بعد إكماله ثلاثين يوماً بحكم رؤيته. نعم، حكى عن شيخه فيما إذا أصبح معتداً مفطراً لرؤية هلال شوال، فجرت به السفينة إلى قطر لم ير الهلال فيه – أنه يلزمه الإمساك تشبهاً. قال: وعندي فيه نظر؛ فإنه ليس فيه أثر، واليوم الواحد يبعد أن يتبعض حكمه وقد عاين الهلال في ليلته في البقعة الأولى.

وعكس هذا الفرع: لو سافر شخص من البلد الذي لم ير فيها الهلال إلى بلدة رئي فيها، وأقام فيها إلى أن أفطر أهلها- فهل يفطر معهم؟ نظر: إن أفطروا بالرؤية وافقهم، وإن أفطروا بإكمال العدد فهل يفطر معهم؟ فيه وجهان في "التتمة".

قال الإمام: ولا فرق في ذلك بين أن يكون من ذكرناه قد نوى الإقامة أو لا.

تنبيه: الهلال إنما يكون هلالاً الليلة الأولى والثانية والثالثة، ثم هو قمر، قاله الجوهري وغيره.

وحكى في "المهذب" خلافاً فيما يخرج به عن هذه التسمية وتسميته قمراً، فقيل: إذا استدار، وقيل: إذا بهر ضوءه.

ص: 248

وقوله: "غم عليكم"، قال العلماء: هو من قولهم: غممت الشيء، إذا غطيته، وغمَّ علينا الهلال غمًّا، وغمِّي، وأغمي، فهو مغمى.

قال: وإن رأوا الهلال بالنهار، أي قبل الزوال أو بعده، فهو لليلة المستقبلة؛ لقوله – عليه السلام:"صوموا لرؤيته" أي: بعد رؤيته، كقوله:{أَقِمْ الصَّلاةَ لِدُلُوكِ الشَّمْسِ} [الإسراء: 78] يعني: بعد طلوع الشمس، ولأن الخصم – وهو أبو يوسف وأبو ثور وغيرهما – قد وافقنا على أنه لو رئي بعد الزوال لكان لليلة المستقبلة؛ لأنه أقرب إليها، بخلاف ما قبل الزوال؛ فنه أقرب إلى الماضية، فنقول له: الاعتبار بالقرب والبعد إلى وقت ظهوره وهو أول الليل، وإذا رئي قبل الزوال فهو أقرب إلى الليلة المستقبلة من الماضية؛ فكان كما لو رئي بعد الزوال، وقد روي عن عمر وعلي وعبد الله بن عمر وعبد الله بن مسعود وأنس ابن مالك أنهم قالوا: إذا رئي الهلال يوم الشك فهو لليلة المستقبلة. ولا مخالف لهم.

وقد أفهم كلام الشيخ أن ما ذكره مقصور على هلال رمضان، ولا فرق [فيه] بينه وبين هلال شوال وغيرهما عندنا، لما روت عائشة:"أن رسول الله صلى الله عليه وسلم أصبح يوم الثلاثين صائماً، فرأى هلال شوال بالنهار، فلم يفطر حتى أمسى"، وروى عن أب وائل أنه قال: أتانا كتاب عمر ونحن بخافقين: "إن الأهلة بعضها أعظم من بعض، فإذا رأيتم الهلال بالنهار فلا تفطروا حتى يشهد شاهدان أنهما رأياه بالأمس"، كذا ذكر في "التتمة" الحديث والأثر، وغيره يروي: بخانقين.

ص: 249

قال: ويقبل هلال رمضان [من] عدل واحد في أصح القولين؛ لما روى أبو داود عن عكرمة عن ابن عباس قال: جاء أعرابي إلى النبي صلى الله عليه وسلم فقال: إني رأيت الهلال – قال الحسن، وهو الحلواني، في حديثه: يعني رمضان – فقال: "أتشهد أن لا إله إلا الله؟ " قال: نعم، قال:"أتشهد أنَّ محمَّداً رسول الله؟ قال: نعم، قال: "يا بلال، أذِّن في النَّاس أن يصوموا غداً"، وعن عكرمة أنهم شكُّوا في هلال رمضان مرة، فأرادوا ألا يقوموا ولا يصوموا، فجاء أعرابي من الحيرة، فشهد أنه رأى الهلال، فأتى به النبي صلى الله عليه وسلم فقال: "أتشهد أن لا إله إلا الله وأنِّي رسول الله؟ قال: نعم، وشهد أنه رأى الهلال، فأمر بلالاً، فنادى في الناس أن يقوموا وأن يصوموا". وأخرجه الترمذي النسائي وابن ماجه مسنداً ومرسلاً. وعن ابن عمر قال: تراءى الناس

ص: 250

الهلال، فأخبرت رسول الله صلى الله عليه وسلم أني رأيته. فصام، وأمر الناس بصيامه. قال الدارقطني: وهذا تفرد به مروان بن محمد عن ابن وهب وهو ثقة.

وفي "الحاوي": أن ابن عمر قال: رأيته وحدي. وروى أن مر خرج يتراءى الهلال، فاستقبلته راكباً، فقال عمر: من أين أقبلت؟ فقال: من الشام، فقال: أهللت؟ قال: نعم، فقال: يكفي المؤمنين أحدهم. وأمر الناس بالصوم، وهذا ما أشار إليه الشافعي بقوله: ولو شهد على رؤيته عدلٌ واحد رأيت أن أقبله؛ للأثر فيه وللاحتياط ولأن الصوم عبادة بدنية، فإذا أخبر الواحد بدخول وقتها وجب أن يقبل قوله كالصلاة. وهذا ما نص عليه في عامة كتبه كما قال أبو الطيب، وقال الماوردي والقاضي الحسني: إنه نص عليه في القديم و"الإملاء".

قال: ولا يقبل في الآخر إلا عدلان؛ لما روى عبد الرحمن بن زيد قال: أدركنا جماعة من أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم [فكلهم قال: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم] يقول: "صوموا لرؤيته، وأفطروا لرؤيته، فإن غمَّ عليكم فأكملوا، وإن شهد ذوا عدلٍ فصوموا وأفطروا وانسكوا". ولأنها شهادة على معين فاعتبر فيها العدد كسائر الشهادات،

ص: 251

وبالقياس على هلال شوال. وأما حديث الأعرابي [وابن عمر] فيحتمل أن يكون [شهد] عند رسول الله صلى الله عليه وسلم [قبلهما] غيرهما، فأمر الناس بالصوم لذلك، وهذا قاله في القديم كما قال أبو الطيب ونقله البويطي، وقال الفوراني: إنه أقيس.

والجمهور على تصحيح الأول، ومنه من قطع به، وتعزى هذه الطريقة إلى أبي إسحاق، والقائل بها قال: حديث عبد الرحمن نحن قائلون به؛ فإنه إذا شهد ذوا عدل وجب الصوم، وأيضاً فالنبي صلى الله عليه وسلم جمع بين الصوم والفطر والنسك؛ فلذلك ذكر ذوي عدل، لأن الفطر والنسك لا يقبل فيهما أقل من شاهدين، والقياس على سائر الشهادات غير منتظم، لأن حكم الشهادات مختلف: فالزنى لا يقبل فيه إلا أربعة، والحدود والقصاص تثبت برجلين، والأموال تثبت بشاهد وامرأتين وشاهد ويمين، وإذا حلف لم يجز اعتبار بعضها ببعض كما في أعداد ركعات الصلاة، والفرق بين هلال رمضان وشوال: أنه لا تهمة تلحق الشاهد في رمضان، لأن ما يدعيه من لزوم الصوم يلزمه كغيره، والعدد في الشهادة لإزالة التهمة، ولا كذلك في شوال؛ فإن التهمة لاتلحقه، ولأن في ذلك احتياطاً للعبادة كما أشار إليه الشافعي ويوافقه قول علي - كرم الله وجهه - وقد شهد عنده واحد برؤية هلال رمضان:"لأن أصوم يومً من شعبان أحبُّ إليَّ من [أن أفطر] يوماً من رمضان"، وصام وأمر الناس بالصيام، مع أنه كنا يحتاط في الشهادة ويبالغ فيها حتى نقل عنه تحليف الشهود، وربما قيل: إن هذا هو الأثر الذي راعاه [الشافعي].

ص: 252

وأما قولهم: إنه يحتمل أن يكون قد شهد عند النبي صلى الله عليه وسلم قبل الأعرابي وابن عمر غيرهما – فالجواب: أنه لو كان لنقل، ولأن الحكم إذا نقل معه السبب كان بمنزلة العلة للحكم ثم ثبت أن العلة لا يجوز الزيادة فيها، فكذلك السبب، ويدل عليه: ما روى طاوس عن ابن عباس وابن عمر أنهما قالا: (كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يقبل شهادة الواحد في هلال رمضان، ولا يقبل الواحد في هلال شوال).

التفريع: إن قلنا بالصحيح فهل يسلك بقول الواحد مسلك الشهادة أو مسلك الرواية؟ فيه وجهان حكاهما القاضي أبو الطيب في شهادة النساء قولين وأصحهما في (الرافعي) الأول، [ويدل عليه قصة الأعرابي، واختار أبو إسحاق المروزي الثاني]، يدل عليه قول ابن عمر.

فإن قلنا بالأول، اشترطنا مع العدالة الحرية والذكورة ولفظ الشهادة، وهو ما ادعى القاضي الحسين –على هذا- أنه ظاهر المذهب.

ويشترط الإقامة في مجلس الحكم كما قال الإمام، وهل يجوز فيه الشهادة على الشهادة؟ فيه وجهان حكاهما المراوزة كالوجهين في جوازها في حدود الله تعالى، والأصح –كما قاله الشيخ أبو علي-:[القطع] بالجواز؛ فإن سبب الاختلاف [في الحدود] شبهة وكون المشهود به عقوبة متعرضة للسقوط بالشبهات، والأمر هنا على نقيض ذلك، وعلى هذا: هل يشترط العدد في شاهد الفرع؟ فيه وجهان، المذكور منهما في (التهذيب): اشتراط العدد، وإن قلنا بمقابله قبلناه من الأمة

ص: 253

[مع] ظهور الثقة، وهو المحكي في "الحاوي" عن أبي إسحاق، حيث قال: أقبل فيه قول من أقبل روايته. قال الإمام: ولم نشترط لفظ الشهادة، وقلنا: إذا أخبر واحد الناس بالرؤية لزم اتباع قوله وإن لم يذكر ذلك بين يدي القاضي. ووافقه في الأخيرة ابن الصباغ.

والمحكي عن ابن عبدان والغزالي في "الإحياء"، والمذكور في "تعليق"البندنيجي و"التهذيب": أنهم قالوا بذلك، ولم يفرعوا على شيء. قال الإمام: وفي قبول [قول] الصبي المميز الموثوق به فيه، وجهان مبنيان على قبول رواية الصبيان، المنسوب منهما للشيخ أبي حامد في "تعليق" البندنيجي: القبول، وظاهر المذهب في "تعليق" القاضي الحسين: المنع، وفي "الإبانة" و"التهذيب":[أنه] لا يقبل فيه قول الصبي قولاً واحداً، وإن كانت تقبل روايته على وجه صححه الفوراني.

وفي اشتراط العدد في الخبر عن المخبر بالرواية – إذا جوزناه على الوجه الذي عليه نفرع – الخلاف، والمذهب: أنه لا يشترط؛ حرصاً على حكم الرواية، ومن اشترطه – وهو الأصح في "التهذيب" –زعم أن قول الفرع شهادة، وإن لم يجعل قول الأصل شهادة. واستدل له بأنه لابد من لفظ الشهادة من الفرع، [وأنه] لا قائل بأنه يكفي أن يقول الواحد: حدثني فلان عن فلان قال: رأيت الهلال، بل هو مردود إجماعاً، كما قال أبو علي والماوردي. وقال الإمام: إن هذا بعيد لا اتجاه له، ودعوى الإجماع لا تسلم عن النزاع.

[ولا خلاف في أنه لا يقع الطلاق والعتق المعلق بدخول رمضان، ولا يحل الدين المؤجل به، قاله القاضي الحسين والبغوي.

قال الرافعي: ولو قال قائل: هلَاّ يثبت ذلك ضمناً كما سبق نظيره لأحوج إلى

ص: 254

الفرق – قلت: إن ما سبق لازم للمشهود به، والطلاق والعتاق والدين ليس يلزم استهلال الشهر، وقد أشار إلى مثله ابن الصباغ في كتاب الطلاق.

نعمن لو قضى القاضي بشهادة الواحد في هلال رمضان ثم قال لامرأته: إن كان هذا من رمضان فأنت طالق – قال القاضي الحسين: قال ابن سريج: يقع الطلاق. وغيره من أصحابنا. قال: لا فرق بين أن يكون قبل القضاء أو بعده؛ فإنه لا يقع الطلاق،] وإن قلنا بالقول المعزيِّ إلى القديم سلكنا به مسلك الشهادات المختصة بحقوق الله تعالى حتى تسمع فيه شهادة الحسبة.

قال الرافعي أيضاً: ويشترط فيهما العدالة الباطنة. وهو ما أبداه الإمام تفقهاً، وإلا فقد قال في "الإبانة": إنا لا نشترط العدالة الباطنة في الشهادة على رؤية الهلال، ونشترط الظاهرة بأن يكون مستور الحال.

وأبلغ منه قول القاضي الحسين: إنا على القولين نكتفي بظاهر العدالة. [وعلى ذلك جرى البغوي والمتولي. وقال الإمام: إن ما قاله الفوراني بعيد لا اتجاه [له]؛ بل الوجه اشتراط العدالة الباطنة]، والمعنى بها: البحث الذي يعتاده القضاة بالمباحثة والرجوع إلى المزكين. نعم، قد نقول: للقاضي أن يأمر الناس بالصيام بظاهر العدالة؛ فإن الأمر يفوت، ثم يبحث بعد ذلك، ويتعين البحث إذا استكملنا العدد ولم ير هلال شوال.

قلت: وإذا عرفت أنه لا يشترط العدالة الباطنة في الشاهدين عند من ذكرنا، مع أنه يسلك بقولهما مسلك الشهادة – فعدم اشتراطها في الشاهد الواحد من طريق الأولى، وقد حكى الإمام فيها وجهين مبنيين على اختلاف في قبول رواية المستور، والأصح – كما قال في "الحاوي" عند الكلام في أصحاب المسائل-: عدم قبولها [كالشهادة]. قال: والفرق على مقابلة بينهما من وجهين:

[أحدهما:] أن أخبار الديانات يستوي فيها المخبر وغير المخبر، وكانت التهمة [منتفية والاعتبار أخف، والشهادة تختلف فيها الشهادة والمشهود عليه، وكانت

ص: 255

التهمة] متوجهة والاعتبار أغلظ.

قلت: وهذا الفرق منتفٍ في الشهادة بالهلال؛ فلا جرم قال من قال [بعدم] اشتراط العدالة الباطنة فيها.

والثاني: أن الرواية تقبل من النساء والعبيد دون الشهادة؛ فكانت أغلظ؛ فاحتيط فيها.

وقد فرع المتولي على القولين: ما إذا شهد واحد بإسلام ذمِّي: هل يصلَّى عليه أم لا؟ قال: فيه وجهان، كما في إيجاب الصوم. وفرع عليهما في "البحر" ما لو نذر صوم شعبان فشهد واحد برؤيته – فهل يجب عليه الصوم إذا قلنا: يجب به صوم رمضان؟ قال: فيه وجهان.

قال: ولا يقبل في سائر الشهور إلا عدلان؛ لما ذكرناه من خبر طاوس. وعن أبي ثور: أنه يقبل في هلال شوال عدل واحد، وأن صاحب "التقريب" قال: لو قلت به لم يكن بعيداً. قال الإمام: وهو متجه في القياس، لما ذكرناه من أن الإخبار عن الهلال يعرض لوقت العبادة؛ فهلال رمضان به يستبان دخول وقت العبادة، وهلال شوال به يستبان خروج وقت العبادة.

قلت: ويعضد هذا الاحتمال قول القاضي الحسين في "تعليقه" في ضمن فرع من هذا الباب: إن الأحكام المتعلقة برؤية الهلال غير الصوم ضربان: أحدهما: يتضمن عبادة لا حق فيها للآدمي: كالوقوف بعرفة، والطواف ونحو؛ فهذا هل يقبل فيه شاهد واحد عدل أم لا؟ فيه وجهان، وعلى المشهور فالفرق بين رمضان وغيره ما ذكرناه من أنه لا تهمة في رمضان، بخلاف شوال، والفرق بين رمضان وذي الحجة – ما قاله المتولي -: أن الهلال في ذي الحجة ليس له تأثير في إيجاب العبادة، ولكن تأثيره في تقديم وقتها وتأخيره، وهنا وجوب الصوم بالنهار؛ لأجل رؤية الهلال، ولولاه لما وجب؛ [فهو كالزوال] ونحوه.

قال: فإن قامت البينة بالرؤية في يوم الشك، وجب عليهم قضاؤه؛ لأنه بان أنه من

ص: 256

رمضان، وهل يجب على الفور بعد انقضاء رمضان ويوم العيد؟ قال في "التتمة": ذلك مبني على أنه هل يجب عليه إمساك بقية النهار أم لا؟ فإن قلنا: لا يجب، فقد ألحقناه بالمعذورين؛ فلا يلزمه القضاء على الفور، وألا وجب. وهذا البناء فيه نظر. قال: وفي إمساك بقية النهار، أي: إذا كان قد أكل – كما صوره الإمام والقاضي أبو الطيب – قولان:

وجه المنع – وهو الذي حكاه القاضي أبو الطيب والغزالي عن نصه في "البويطي"-: أنهم أبيح لهم الفطر في أوله؛ فكذا في آخره؛ كما لو طهرت الحائض أو قدم المسافر مفطراً في أثناء يوم من رمضان.

ولأن الإمساك عقوبة؛ فليختص بالإثم، وألا فلا إثم عليهم، وعلى هذا يستحب لهم الإمساك.

ووجه الوجوب – وهو الذي نقله عامة أصحابنا وصححوه، وإن كان الإمساك في حكم العقوبة-: أنه [إنما] أبيح لهم الفطر بشرط: وهو كونه ليس من رمضان، وقد بان خلافه؛ فظهر أنه غير مباح، ولا كذلك الحائض والمسافر؛ فإنه أبيح لهما الفطر مع العلم بكونه من رمضان، والإباحة باطنة كما هي في الظاهر، ولا نظر إلى عدم الإثم؛ لأن الكفارة تجب على المخطئ في القتل وهي عقوبة مع أنه [لا إثم.

أما] إذا لم يكن قد طعم ولا نوى، قال القاضي أبو الطيب: فإنه يجب عليه أن يصوم؛ لكونه من رمضان، ويقضيه؛ لأنه لم ينو من الليل، وهذه الحالة هي التي نص عليها في "المختصر" فإنه قال:"وإن أصبح لا يرى أن يومه من رمضان، ولم يطعم، ثم استبان ذلك – فعليه صيامه وإعادته"، وقد جزم [بذلك] الماوردي والفوراني، وكذا القاضي الحسين، وإن أكل، لكن قال القاضي: إذا لم يكن قد أكل فينوي الصوم؛ خروجاً عن الخلاف، ويقضي يوماً مكانه، وإن أكل يمسك بقية نهاره. وتبعه البغوي في الجزم بوجوب الإمساك في الحال، وقاسه على ما لو نوى الصوم، ثم أفسده، وقال: إن الحكم كذلك فيما لو نسي النية من الليل، وقد ذكره

ص: 257

البندنيجي أيضاً فيها.

وحكى المتولي القولين فيما إذا قامت البينة قبل الأكل، وحكى وجهين فيما إذا كان قد أكل مرتين على القولين.

فإن قلنا فيما إذا كان [لم] يأكل: إنه لا يحرم الأكل، فهنا أولى، وألا فوجهان، والصحيح أنه لا يباح له الأكل في بقية النهار؛ لما ذكرناه، وقد قال الإمام في كتاب الظهار عند الكلام فيما يقطع التتابع: إن الخلاف في مسألة الكتاب يجري فيما لو نسي النية من الليل، وإن الرأي الأصح [أنه] يلزمه، وإن كان الإمساك في حكم التغليظ، وحكاهما في "الإبانة" فيما إذا أصبح غير صائم، وهذا يحتمل أن يكون أراد به ما إذا لم ينو عمداً أو سهواً.

فرع: ما وجب من الإمساك هل هو صوم شرعي أم لا؟!

حكى الماوردي فيه وجهين، ولو كان قد أكل:

أحدهما –وهو قول أبي إسحاق-: أنه يسمى: صوماً شرعياً؛ لوجوب الإمساك فيه.

والثاني- وهو قول أكثر الأصحاب-: أنه إمساك واجب، فأما أن يكون صوماً شرعياً فلا؛ لأنه لا يقع الاعتداد به عن رمضان ولا عن غيره.

والإمام حكى الوجهين عن العراقيين فيما إذا أفسد الصوم، والبندنيجي حكاهما فيما إذا طلع عليه الفجر وهو غير ناوٍ، وأفهم كلامه تقييدهما بما إذا لم يأكل، وهي الصورة التي حكى ابن الصباغ فيها عن أبي إسحاق أنه يكون صوماً شرعياً.

قال الإمام: ولست أرى في هذا الاختلاف فائدة؛ لأنه لو جامع فيه لم يلزمه بسببه شيء غير المأثم. نعم لو أصبح غير ناوٍ، ونوى التطوع بالصوم قبل الزوال، فالذي ذهب إليه الجماهير: أن الصوم لا يصح، وذهب أبو إسحاق إلى صحة الصوم. ووجه الرد عليه: أن الإمساك واجب، ولو صح تطوعه بالصوم، والصوم إمساك منوى، لوقع الإمساك عن جهة الوجوب متطوعاً به عن جهة التطوع، وهذا متناقض وأيضاً: فإن المسافر عندنا يتطوع بالصوم في سفره، وإن كان يسوغ له الإفطار، وسببه: أن

ص: 258

الذي حط عنه وجوب الصوم الترخص بالفطر، فإن لم يفطر فقد ترك الترخص، وليس بين إقامة الصوم وبين الترخص بالفطر مرتبة، والشرع [لم] يجعل شهر رمضان في حق المسافر كسائر الشهور حتى يصح فيه أي صوم شاء.

قال: وأبو إسحاق لما جوز للمقيم الذي أصبح غير ناوٍ أن يتطوع بالصوم؛ فإنه على قياسه يجوز للمسافر أن يتطوع، وهذا حيد عن مذهب الشافعي وقياسه.

قلت: ولأجل ما ذكره الإمام من إلزام أبي إسحاق من صحة تطوع المسافر بالصوم، جعل الغزالي فيما إذا نوى المسافر التطوع به أو أصبح المقيم ليلة الشك غير ناوٍ، ونوى التطوع – أنه يصح على وجه، لكن ما ذكره الإمام في الرد على أبي إسحاق بأن المسافر عندنا لا يتطوع بالصوم في سفره

إلى آخره، إنما يلزم أبا إسحاق أن لو كان قياس مذهبه يقتضي أنه إذا نوى التطوع من الليل وهو مسافر أنه يصح تطوعه، وليس قياس مذهبه يقتضي ذلك، بل الذي يقتضيه قياسه: أنه لو لم ينو الصوم من الليل، ونوى التطوع قبل الفطر نهاراً قبل الزوال أنه يصح، بل أولى؛ لأن المسافر لا يجب عليه الإمساك، بخلاف من أصبح يوم الشك غير ناوٍ، ولا يرد عليه ما قاله الإمام؛ لأنه قد ترخص عنده بأمرين:

أحدهما: أنه ترك نية الفرض من الليل التي لولا السفر، لوجبت.

والثاني: أنه إنما يكون في صوم التطوع صائماً من قوت نيته كما سنذكره عنه.

وله أن يقول فيما إذا نوى التطوع من الليل: إنه لا يصح؛ لما ذكره الإمام، ويجوز أن يقول بالصحة، ويمنع كون الشيء إذا وقع واجباً يمتنع أن يقع تطوعاً، ويستشهد بمن دخل المسجد، ونوى بفرضه الفرض وتحية المسجد فإنهما يحصلان له، وإن كانت أفعاله الواقعة عن الفرض لا يجوز إبطالها بالخروج قبل استكمالها [وأفعاله الواقعة عن تحية المسجد يجوز إبطالها بالخروج قبل استكمالها]، ولا نظر إلى تقدم الوجوب في مسألة الصوم واقترانه بالتطوع في مسألة الصلاة، والله أعلم.

وقد عدل المتولي عن كون الإمساك صوماً شرعياً أو غير شرعي، إلى أن من

ص: 259

أمرناهم بالإمساك هل يثابون عليه أم لا؟! وحكى فيه ثلاثة أوجه:

أحدها: لا؛ لأن الفعل غير معتد به.

والثاني: إن لم يكن متعدياً بالفطر فيثاب، وألا فلا؛ عقوبة له على تعديه.

والثالث - وهو الذي صححه -: أنه يثاب عليه أبداً؛ لأنه لو تركه استحق العقاب فإذا لم يتركه، وجب أن يستحق الثواب. وهذا ما أبداه ابن الصباغ احتمالاً لنفسه بعد حكاية الوجهين السابقين وتصحيح الثاني منهما، وقال: ينبغي أن يحمل قول أبي إسحاق: إن من وجب عليه الإمساك وليس متعدياً بالإفطار، فأمسك، يكون صوماً شرعيًّا - على أنه إمساك شرعي يثاب عليه خاصة.

قال: فإن صاموا بشهادة واحد ثلاثين يوماً، ولم يروا الهلال، أفطروا؛ لأنهم قد استكملوا العدة؛ فأشبه ما لو صاموا بشهادة اثنين.

وقيل: لا يفطرون، لأنه يؤدي إلى الفطر بقول واحد؛ وهولا يجوز أن يفطر بقوله لو ابتدأ الشهادة، فكذلك إذا اقتضته الشهادة السابقة، وهذا ما اقتضى إيراد الغزالي ترجيحه، وقد حكى عن ابن الحداد أنه قال بمثله فيما إذا صاموا بشهادة اثنين وثلاثين يوماً ولم يروا الهلال مع الصحو؛ لأن العيان يقين وشهادة شاهدين مستترة، واليقين لا يزال بالمستتر، وقد نسب هذا إلى ابن سريج أيضاً.

والأصح في مسألة الكتاب عند الأكثرين - كما قال الرافعي -: الأول، وحكوه عن نصه في الأم.

والفرق بينه وبين ما إذا ابتدأ الشهادة برؤية هلال شوال: أن الشيء قد يثبت ضمناً، ولا يثبت صريحاً؛ كشهادة النساء، لا تقبل في المواريث والأنساب، والولايات ابتداءً، وتثبت بشهادتين ضمناً إذا شهدن بالولادة.

وقال الإمام: إن في هذا نظر؛ فإن الولادة إذا ثبتت يلحق النسب الفراش، وهو قائم لا نزاع فيه، ولم يتحقق مثل ذلك فيما نحن فيه.

قال الرافعي: وللمحتج أن يقول: لا معنى للثبوت الضمني إلا هذا، وأما ما ذكره

ص: 260

ابن الحداد، فقد قال القفال وغيره: إنه غلط فيه، وإنما أجاب على أصل أبي حنيفة؛ فإنه التقط هذه المسألة من كتبه، ووجه غلطه: أن الشافعي نص في "الأم"، و"أمالي" حرملة على الفطر؛ لأن الشاهدين لو شهدا على رؤية هلال شوال والسماء مصحية، يجب على الحاكم أن يقبل شهادتهما ويحكم بها، وإذا جاز قبول شهادتهما ابتداءً؛ فتبعا من طريق الأولى؛ ولأجل ذلك قال الإمام: إنه غير معدود من المذهب.

ثم ما محل الوجهين في مسألة الكتاب؟ فيه طريقان في "التهذيب" و"التتمة":

أحداهما: إذا كانت [السماء] مصحية، أما إذا كانت مغيمة، فيفطرون قولاً واحداً، وهي التي أوردها في "العدة".

وفي مثل هذه الحالة وافق ابن الحداد على الفطر في مسألة الشاهدين.

والثانية- وهي الموافقة لإيراد الغزالي والأكثرين؛ كما قال الرافعي -: أنهما يجريان في الحالين.

ورأيت في "شرح الفروع" للقاضي أبي الطيب حكاية الخلاف في حالة الغيم خاصة، والسكوت عن حالة الصحو، وهذا يجوز أن يكون طريقة ثالثة، وفي هذه الحالة حكى في "التتمة" نص الشافعي في "الأم" على الفطر.

قال: وإن اشتبهت الشهور على أسير، تحرى وصام، أي: ما غلب على ظنه أنه رمضان؛ كما يتحرى في القبلة عند الاشتباه، ويصلي إلى الجهة التي يغلب على ظنه أنها القبلة، والتحري في حقه يكون بالنظر في التواريخ المتقدمة، والحر، والبرد والخريف والربيع.

قال: فإن وافق الشهر، أو ما بعده – أي: إذا فك أسره، وظهر له أنه وافق الشهر أو ما بعده- أجزأه.

ووجهه إذا وافقه: أنه أدى العبادة بالاجتهاد عن أمارة، وقد صادفت الوقت فأجزأته، كالصلاة إذا خفي عليه وقتها فأداها بالاجتهاد، ثم ظهر أنه أوقعها في وقتها.

وأما إذا وافق ما بعده، فالقياس على ما لو أخطأ الناس في العدد، فوقفوا في العاشر؛ فإنه يجزئهم.

ص: 261

قال في "التتمة": ولأن غاية الأمر أنه وقع القضاء بنية الأداء، والإجماع على أنه لو شرع في الصلاة في آخر الوقت، ثم خرج الوقت: أنه تصح صلاته، وإن كان ما يقع من صلاته خارج الوقت ليس بأداء، وقد أوقع الفعل بنية الأداء، وهذا ما نص عليه الشافعي، وهو موافق لنصه فيمن خفي عليه وقت الصلاة، فتحرى وصلى معتقداً أنه أداء، ثم بان أنه صلى بعد خروج الوقت- أن صلاته صحيحة.

قال القاضي أبو الطيب: وهذا دلالة على أن تعيين الأداء والقضاء غير واجب في [الصوم والصلاة]، خلافاً لقول الشيخ أبي حامد: إن التعيين واجب، وهذا منه دليل على أن صومه [وقع قضاء.

وقد اختلف المراوزة في أن صومه إذا وافق ما بعده وقع أداء أو قضاء على طريقين] حكاهما المتولي وغيره وأثبتهما القفال قولين، وتبعه الفوراني، والبغوي رواهما وجهين، وأظهر القاضي الحسين أثرهما فيما لو اجتهد المسافر في وقت الصلاة، وصلى بنية القصر ثم بان أنه صلى بعد الوقت: إن قلنا: يكون صومه أداء صحت صلاته. وإن قلنا يكون صومه قضاء، يلزمه قضاء الصلاة.

وقد اقتضى ظاهر كلام الشيخ: أنه لا فرق في الإجزاء بين أن يوافق ذلك شوال، وذا الحجة، أو غيرهما، سواء كان ما وافقه تاماً أو ناقصاً، ورمضان تام أو ناقص، وقد اتفق الأصحاب على أنه إذا وافق شوال لا يصح منه صوم يوم العيد، ويصح ما عداه،

ص: 262

والواجب عليه عدد أيام رمضان، فإن كان ما صح له من شوال قدر ما عليه من رمضان، بأن كان شوال تاماً، ورمضان ناقصاً – فقد خرج عما عليه.

وفي "تعليق" القاضي الحسين و"التتمة" وجه آخر: أنه يجب عليه قضاء يوم آخر، والخلاف مبني على أن [من] صامه يكون قضاء – وهو الذي أورده القاضي أبو الطيب والماوردي – أو أداء فإن قلنا: قضاء، كفاه، وإن قلنا: أداء، قضى يوماً؛ كما لو أفطر يوماً من رمضان.

ولقائل أن يقول: أيام رمضان كلها قابلة للصوم، فقد خوطب بجميعها، ولا كذلك شوال، ولو كان شوال ناقصاً، ورمضان كاملاً، أو كانا كاملين – وجب عليه الإتيان بيومين، ولو كانا ناقصين قضى يوماً، صرح به ابن الصباغ والقاضي أبو الطيب.

وحكينا عن الشيخ أبي حامد: أنه يلزمه قضاء يومين، وأنه بنى ذلك على أنه يلزمه أن يقضي [شهراً بالهلال] أو ثلاثين يوماً، ولا يعتبر عدد أيام رمضان وهو ما حكاه البندنيجي.

قال القاضي: وهو غلط، وليس بمذهب للشافعي وإنه نص على أنه يجب عليه أني قضي مثل عدد رمضان سواء قضى ما بين الهلالين أو عدداً، لقوله تعالى:{فَعِدَّةٌ مِنْ أَيَّامٍ أُخَرَ} [البقرة: 184].

ونسب القاضي الحسين هذا إلى الخضري.

ولو وافق صومه ذا الحجة، بطل منه أربعة أيام: يوم النحر، وثلاثة [أيام] بعده، ولزمه صيام عدد أيام رمضان؛ كذا قاله البندنيجي وأبو الطيب وغيرهما.

ويجيء على قول من جوز صوم أيام التشريق للمتمتع ومن في معناه: ألا يبطل سوى يوم واحد، وحينئذ يجيء ما تقدم في شوال، وقد حكى الرافعي أن ابن عبدان

ص: 263

ذكره استدراكاً على الأصحاب.

وأما إذا وافق سوى الشهرين، صح له جميعه، ثم إن كانت أيامه وأيام رمضان سواء فلا كلام، وإن كانت أيامه تسعاً وعشرين، فعن الشيخ أبي حامد: أنه يجزئه، ولا يلزمه سواه إذا [كان] وقع صومه ما بين الهلالين، وادعى البندنيجي أنه ظاهر المذهب، وقد صرح بمثله القاضي الحسين والبغوي والمتولي؛ تفريعاً على أن ما يأتي به يكون أداء، وقال القاضي أبو الطيب: إنه غلط؛ لما ذكرناه.

قال: وإن وافق ما قبله – أي: ولم يظهر ذلك إلا بعد فوات رمضان بجملته – لم يجزئه في أصح القولين.

قال أبو الطيب: لأنه عبادة يزيل عقدها الجماع؛ فإذا فعلها قبل وقتها بالاجتهاد، وجب ألا تجزئ؛ كالصلاة.

قلت: ولك أن تقول: الصلاة أزال عقدها الملامسة قبل الجماع؛ فلا جامع.

نعم لو قال: لأنه عبادة تفتقر إلى النية قصداً، ولا يجب المضي في فاسدها، فإذا فعلت قبل وقتها بالاجتهاد لم تجزئه، كالصلاة – لانتظم القياس.

وقولنا: "تفتقر إلى النية [قصداً]

" إلى آخره – احتراز عن الوقوف في الحج إذا وقع في الثامن.

لكن هذا القياس يفهم أن الأسير لو اجتهد في أوقات الصلاة، وصلى قبل الوقت: أنه يعيد قولاً واحداً، وليس كذلك، بل الأمر فيه كما في الصوم وفاقاً وخلافاً؛ صرح [به] الإمام [حكاية] عن شيخه هنا، وفي كتاب الصلاة، [قال: إن في صورة القولين نقول: الصلاة] أولى بذلك من الصوم؛ فإن الأمر فيها أخف، ولذلك سقط قضاؤها عن الحّيَّض وإن لم يسقط عنهن قضاء الصوم. قال: وجماهير الأصحاب على تجويز الاجتهاد في أوقات الصلاة مع إمكان درك اليقين بالصبر، والمتفق على قضاء الصلاة فيه – كما قال الإمام – إذا اجتهد القادر في الوقت مع

ص: 264

قدرته على الصبر حتى يتحقق دخول الوقت، أو اعتمد على قول المؤذن في دخول الوقت، فصلى، ثم ظهر أنه صلى قبل الوقت؛ كما قال ابن الصباغ، وقاس عليه مسألة الكتاب.

ومقابله: أنه يجزئه؛ لأنها عبادة يتعلق جبرانها بالمال، فإذا فعلها بالاجتهاد قبل وقتها، وجب أن تجزئه؛ كالحج إذا وقف [فيه] في الثامن.

وقاسه الفوراني والبغوي والمتولي على ما إذا وقفوا في العاشر، أنه فعل العبادة في وقت لا يصح فعلها فيه مع العلم بالحال.

وهذان القولان حكاهما القاضي أبو الطيب عن نصه في "الأم" والقديم، وقال الماوردي: إن الذي صرح به في كتبه الأول والثاني أخذ من قوله في موضع من الأم: "ولو قال قائل: إذا تأخر؛ فبان له صيام ما قبله يجزئه، كان مذهباً".

وقال القاضي الحسين: إن الثاني قول الشافعي في القديم

قال في التتمة: ويمكن بناؤهما على أنه إذا وافق ما بعده يكون أداء أو قضاء؟ فإن قلنا: أداء صح، وألا فلا؛ لأن القضاء لا يسبق الأداء، وما أبداه [الإمام] احتمالاً قد صرح به القاضي الحسين عن القفال، وتبعه الفوراني والبغوي.

وعن بعضه القطع بالمنع، وينسب إلى أبي إسحاق، وأنه قال: ما قاله في "الأم" حكاية عن مذهب الغير، لا أن ذلك مذهب له.

قال القاضي الحسين: وهو الأصح، والفرق بينه وبين الحج: أن الحج لا يزيل عقدة الجماع، والصوم يزيل عقدة الجماع؛ فهو كالصلاة.

ولأن الحج يشق قضاؤه، ولا يؤمن مثل ما وقع في القضاء، والصوم بخلافه.

والذي عليه شيوخ أصحابنا-: كالربيع، والمزني، وابن سريج، وغيرهم؛ كما قال البندنيجي – الطريق الأولى، ولم يحك الإمام غيرها، ثم قال: فإن قيل: هل يناظر ما ذكرتموه من صور الخلاف والوفاق القول في خطأ الحجيج؛ فإنهم لو أخطئوا، فوقفوا يوم العاشر، أجزأهم الوقوف ولو وقفوا في الثامن؛ ففي إجزائه وجهان، وهذا

ص: 265

يناظر تقديم [صوم]؛ الأسير على [شهر] رمضان – قلنا: [هذا] تشبيه من جهة الصورة؛ فإن الذي أوجب الفرق بين الثامن والعاشر عموماً تصور الغلط في العاشر، وندور ذلك في الثامن، وأما غلط الأسير؛ فإنه على وتيرة واحدة في التقدم والتأخر؛ فلا ينبغي أن يعتقد اتحاد مأخذ المسألتين. نعم، حكى الإمام الطريقتين فيما لو انجلى الإشكال وقد بقي بعض رمضان؛ فنه يجب صوم البقية، كما يجب صوم الجملة لو انجلى الحال قبل مضيه، وفي إجزاء ما مضى طريقان؛ فإن منهم من خرجه على القولين، ومنهم من قطع بأنه يجب استدراك البقية.

فرع: إذا وافق صومه [ما] بعد رمضان أو قبله، وقلنا: يجزئه، فلو كان قد أفسد يوماً منه بجماع، فلا كفارة؛ لأنها تجب لحرمة رمضان، هي غير موجودة. نعم لو وافق رمضان، وجبت كما لو صام بشهادة واحد، وجامع.

وقد بقي من تقاسيم المسألة ثلاث صور:

إحداها: أن يزول الأسر، ولا يظهر له أي شهر صامه؟ وقد قال في "الحاوي": أنه لا يلزمه شيء؛ لأن الظاهر من الاجتهاد صحته.

الثانية: أن يزول الأسر، ويظهر أن كان يصوم الليل، ويفطر النهار.

وقال البندنيجي: قال أصحابنا: عليه القضاء. وظاهره: أنه بلا خلاف على المذهب؛ لأنه زمان لا ينعقد صيامه؛ فهو كزمان الحيض والنفاس والعيدين.

الثالثة: إذا اجتهد، فغلب على ظنه أن رمضان قد فات، فصامه قضاء، ثم زال الأسر، وظهر له أن ما صامه رمضان –فهذا يظهر أن يكون كما لو صام على ظن أنه رمضان، فوافق ما بعده؛ لأنه ثم نوى الأداء وكان قضاء، وهنا عكسه، ولم أعثر في هذا على نقل.

ص: 266

نعم، إن أُجري كلام الشيخ على ظاهره، أمكن أخذ هذا الحكم منه.

ثم ما ذكرناه مصور بما إذا اجتهد، فغلب على ظنه شيء بأمارة، وعمل عليه كما تقدم، أما إذا اجتهد ولم يترجح عنده شيء بأمارة دلت عليه، فقد قال الشيخ أبو حامد: يصوم شهراً بالتخمين، ويعيد كمن اشتبه عليه القبلة، ولم يعرف الدلائل، أو كان أعمى، ولم يجد من يقلده، فيصلي على حسب حاله ويعيد.

ولا يقال: إنا إذا أجرينا قول المصنف: "تحرَّى وصام" على ظاهره أمكن أخذ هذا الحكم منه لأن قول الشيخ: "فإن وافق الشهر أو ما بعده أجزأه" يناقضه.

والصحيح: أنه لا يؤمر بالصوم والحالة هذه، والفرق بينه وبين من اشتبهت عليه القبلة: أنه ثمَّ تحقق وجوب الصلاة في وقتها؛ فلذلك [أمر بها]؛ حتى لا يخلو الوقت عنها، وهنا لم يتحقق وجوب الصوم، ولا غلب على ظنه؛ فلم يجب، كما لو شك في دخول وقت الصلاة.

وما ذكره الشيخ أبو حامد هو الذي أورده البندنيجي، لكنه صور المسألة بما إذا لم يكن معه دليل يستدل به، ووقع في قلبه: أن هذا الشهر رمضان.

واعلم أن ما ذكره الشيخ في فرض المسألة في الأسير تبعاً للشافعي – لا يختص به، بل هو جارٍ فيه ومن [هو] في معناه: كمن حبس في مطمورة، أو كان في طرف بلاد الإسلام، أو في موضع لا يعدون الشهور، وإنما ذكره الشافعي ومن تبعه في الأسير؛ لأن أكثر ما يقع ذلك للأسارى.

قال: وإن رأى هلال شوال، أي ليلة الثلاثين من رمضان وحده أفطر؛ لعلمه بسبب تحريم صومه.

قال: سرًّا حتى لا يعرض نفسه للعقوبة؛ فإنه إذا شوهد مفطراً؛ ولم تثبت رؤيةالهلال، عزر، فلو أفطر جهراً، ثم شهد مع عدل آخر عند الحاكم، قال في "التتمة": لم

ص: 267

تقبل شهادته؛ لأنه يدفع التعزير عن نفسه بالشهادة. نعم، لو شهد قبل الأكل مع غيره، فردت شهادتهما، ثم أكلا لم يعزرا، بخلاف ما لو أكلا قبل الشهادة.

قال: القاضي الحسين: ولو قبلت شهادتهما، عمل بها بلا خلاف؛ لورود الخبر بذلك ولا يعارضه ما ثبت في البخاري ومسلم وغيرهما عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال:"شهرا عيد لا ينقصان: رمضان، وذو الحجة"؛ لأنه ليس المراد أنه لا يتصور نقصهما؛ لوجود نقصهما مشاهدة، وقد قال ابن مسعود:"صمنا مع النبي صلى الله عليه وسلم تسعاً وعشرين أكثر مما صمنا معه ثلاثين" كذا أخرجه أبو داود والترمذي، وإذا كان كذلك، فقد اختلف في المراد بعدم النقص.

فقيل: لا ينقصان في سنة واحدة، بل إن نقص أحدهما تم الآخر وهو قول أحمد ابن حنبل.

وقيل: نه أخرجه مخرج الغالب؛ فإنهما لا يجتمعان في النقص.

وقيل: إن الإشارة بذلك كانت إلى سنة معلومة؛ ذكره أبو بكر بن فورك.

وقيل: نه إنما أراد بذلك تفضيل العمل في عشر ذي الحجة، وأنه لا ينقص في الأجر والثواب عن شهر رمضان.

وقيل: إن الناس كانوا يكثرون الاختلاف في هذين الشهرين؛ لأجل عيدهم

ص: 268

وحجهم، فأعلمهم أن الشهرين وإن نقصت أعدادهما، فحكمهما على التمام والكمال في حكم العبادة؛ كي لا يقع في القلوب شك إذا صاموا تسعة وعشرين، أو وقع في وقوفهم غلط في الحجيج؛ فبين أن الثواب تام وإن نقص العدد، وهذا معنى ما حكاه البندنيجي عن أبي إسحاق.

فإن قيل: قد أخرج أبو القاسم الطبري من حديث عبد الرحمن بن أبي بكر قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "كل [شهر] حرام لا ينقص ثلاثين يوماً وثلاثين ليلة"[و] رجال إسناده ثقات.

قيل: لا يمكن حمل هذا إلا على الثواب، أي يثاب العامل فيها ثواب ثلاثين يوماً وثلاثين ليلة في الصلاة والصيام ونحوها.

قال: ولا يصح صوم رمضان ولا غيره من الصيام الواجب – أي: كالصوم في الكفارات، وعن قضاء رمضان والنذر – إلا بنية؛ لقوله تعالى:{وَمَا لأَحَدٍ عِنْدَهُ مِنْ نِعْمَةٍ تُجْزَى * إِلَاّ ابْتِغَاءَ وَجْهِ رَبِّهِ الأَعْلَى} [الليل]، فأخبر أن المجازاة لا تقع بمجرد الفعل حتى يبغي به الفاعل وجه الله تعالى بإخلاص النية.

وللخبر المشهور.

ولأن الإمساك يقع تارة عبادة، وتارة عادة؛ فلابد من النية ليميز بينهما.

قال: من الليل، لما روى أبو داود عن حفصة زوج النبي صلى الله عليه وسلم:[أن رسول الله] قال: "من لم يجمع الصيام قبل الفجر، فلا صيام له" وأخرجه الترمذي والنسائي وابن ماجه.

ص: 269

قال في "الحاوي": وقد روى ذلك – أيضاً – عائشة وأم سلمة وابن عمر، وفي رواية بعضهم:"لمن لم يُبَيِّت الصيام ["من الليل"، وفي رواية لبعضهم: "لمن لم ينو الصيام] قبل الفجر".

ولا يقال: إنه محمول على نفي الكمال؛ لأن الأصل في الإطلاق الحقيقة، وقد ادعى الماوردي الإجماع على ذلك في صيام النذر المطلق والكفارة وقضاء رمضان، وإذا كان ذلك مجمعاً عليه، قسنا صيام رمضان عليه، بجامع الاشتراك في الوجوب.

قال كل يوم؛ للخبر، فن قيل: إذا نوى في أول الشهر من الليل، فقد أجمع الصيام قبل الفجر، ونوى الصيام من الليل؛ فوجب أن يجزئه؛ كما قال مالك.

ص: 270

قلنا: إنما أراد النبي صلى الله عليه وسلم تبييت الصيام في كل ليلة، ولو كان قصده ما قالوه، لم يجز لأحد أن يفرد لكل يوم نية من الليل، وللزمه أن ينوي في أول ليلة صوم جميع الشهر، ولما أجمعنا على أن إفراد كل يوم بنيته جائز؛ دل على أن ما ذكرناه هوا لمقصود بالخبر، وحينئذ فمقتضاه: أنه لو نوى صوم أيام الشهر في أول ليلة منه، لا يصح له [إلا صومي اليوم الأول، وقد حكى الإمام عن شيخه تردداً فيه، وقال: إنه فيه إشكال واحتمال.

قال الرافعي: وقد رأيت ابن عبدان أجاب بصحته، وهو الأظهر.

ولأن صوم كل يوم عبادة منفردة؛ لأنه [لا] يفسد بفساد ما قبله، ولا بفساد ما بعده؛ فأشبه صلوات اليوم؛ وبهذا يظهر الفرق [بين] صوم أيام رمضان وركعات الصلاة وأركان الحج، على أن في اشتراط النية في كل ركن من أركان الحج عند الإتيان به خلافاً ستعرفه في موضعه.

وقيل: تصح نيته مع الفجر؛ لأن النية اقترنت بأول العبادة؛ فوجب أن تصح كسائر العبادات، والحديث فقد قال أبو داود: إنه وقفه على حفصة معمر والزبيدي وابن عيينة وغيرهم، وقال الترمذي:[لا نعرفه] مرفوعاً إلَاّ من هذا الوجه. وإن كان كذلك؛ فلا حجة فيه حتى يقال: إن هذا قياس في مقابلة النص؛ وهذا وجه حكاه القاضيان: أبو الطيب، والحسين، وبه أجاب ابن عبدان.

وقيل في النذر المطلق: إنه يجوز نيته من النهار؛ بناء على أن النذر يسلك به مسلك جائز الشرع؛ حكاه القاضي الحسين والمتولي وغيرهما.

والمنصوص عليه – وهو الصحيح باتفاق الأصحاب – الأول، ولم يذكر

ص: 271

الماوردي والبندنيجي غيره؛ فإن الحديث قد رواه الليث وإسحاق بن حازم أيضاً عن عبد الله بن أبي بكر مثله، يعني: مرفوعاً، وقال الدارقطني: رفعه عبد الله بن أبي بكر عن الزهوي، وهو من الثقات.

وقال الخطابي: عبد الله بن أبي بكر بن عمرو قد أسنده، وزيادات [الثقات] مقبولة.

والفرق بينه وبين سائر العبادات: أن إقران النية بأولها لا يخلي جزءاً منها عن النية، بخلاف الصوم لو جوز إقران النية [به] لخلا أول العبادة عنها، وعلى هذا هل يتعين لها النصف الأخير من الليل أم لا؟ فيه وجهان:

الصحيح: لا، بل أي وقت نوى فيه أجزأه؛ للخبر.

قال الإمام: ومقابله لا أعده من المذهب. وقال الترمذي: إنه غلط؛ لما في مراعاة ذلك من المشقة التي لأجلها جوزت من الليل.

وعلى كل حال، فهل من شرطها ألا يطرأ بعدها في الليل مناف للصوم: كالأكل، والشرب، والجماع، أو لا يشترط؟ المنقول عن أبي إسحاق: الاشتراط؛ حتى لو فعل شيئاً من ذلك بعدها، لزمه تجديدها، وزاد فقال: لو نام، ثم استيقظ قبل الفجر، لزمه تجديدها.

قال الماوردي وأبو الطيب: وهو غلط: مذهباً وحجاجاً:

أما المذهب؛ فلأن الشافعي قال: "لو طلع الفجر عليه، وهو مجامع أخرج مكانه، وصح صومه"، فلو لزمه تجديد النية، لبطل صومه؛ لأن نيته بعد الإخراج تصادف أول [النهار].

وأما الحجاج؛ فلقوله تعالى: {وَكُلُوا وَاشْرَبُوا} [البقرة: 187]، فإن قال أبو إسحاق:

ص: 272

لا يجوز له الأكل والشرب إلى طلوع الفجر، خالف نص القرآن، وإن قال: يجوز له ذلك، فإنه يوجب عليه النية بعد طلوع الفجر؛ وهذا باطل على المذهب.

ولأنه مفطر في الليل وإن لم يأكل؛ فتركه الأكل والجماع مع كونه مفطراً غير مفيد.

وقد حكى أبو الطيب وغيره عن أبي سعيد الإصطخري أنه قال: يستتاب أبو إسحاق؛ فإن تاب وإلا قتل.

وحكى أن أبا إسحاق رجع عن قوله في هذه المسألة، أي: عام حجه؛ كما قاله [الفوراني والإمام] وأنه أشهد على نفسه.

وقال البندنيجي وابن الصباغ: إن هذا القول يحكي عن أبي إسحاق حكاية، وليس بموجود في كتبه.

واعلم أن ظاهر كلام الشيخ يقتضي أن الصبي لو نوى صوم رمضان بالنهار لا يصح وإن كان نفلاً في حقه، وكلام الشافعي في "المختصر" يخرّجه؛ فإنه قال:"ولا يجزئ أحداً [صيام] فرض شهر رمضان ولانذر ولا كفارة إلا من ينوي من الليل قبل الفجر".

قال: ويصح النفل بنية قبل الزوال، أي: إذا لم يكن قد فعل ما ينافيه، [ولا يصح بنية بعده].

ص: 273

ووجه صحته بنية قبل الزوال: ما روى مسلم عن عائشة قالت: دخل عليَّ النبي صلى الله عليه وسلم ذات يوم، فقال:"هل عندكم شيء؟ " فقلنا: لا، قال:"فإني إذاً صائم". ثم أتانا يوماً آخر، فقلنا: يا رسول الله، أهدي لنا حيس، فقال:"أرينيه؛ فلقد أصبحت صائماً"، ثم أكل.

وروى – أيضاً – عن الربيع بنت معوذ أن عفراء قالت: أرسل رسول الله صلى الله عليه وسلم غداة عاشوراء إلى قرى الأنصار التي حول المدينة: "من كان أصبح صائماًن فليتم صومه، ومن كان أصبح مفطراً، فليتم بقية يومه".

ومعلوم أن يوم عاشوراء كان نافلة؛ فإنه لم يأمر من أفطر بالقضاء مع شدة حاجتهم إلى بيان الحكم فيه أن لو كان واجباً، وقد أمرهم بصومه نهاراً.

وقد [جاء في] حديث عائشة أنه قال: "هل عندكم من غداءٍ؟ "؛ والغداء – كما قال أبو الطيب -: اسم لما يؤكل قبل الزوال، والمأكول بعد الزوال يسمى: عشاء.

ووجه عدم صحته بنية بعد الزوال: التمسك بحديث حفصة، وما قبل الزوال خرج بما ذكرناه.

ولأنه لو جاز بنية بعد الزوال لخلا معظم العبادة عن النية، بخلاف ما قبله.

وقد حكى الإمام عن شيخه تردداً مع التفريع على هذا القول فيما إذا وقعت نيته.

ص: 274

بعد منتصف الزمان من طلوع الفجر إلى الغروب، وهو يقع ضحوة، والمنع موافق لمن اعتبر أكثر العبادة.

قال الإمام: ولعل من اعتبر الزوال على هذا اعتبره؛ لأنه بني، وضبط وسط الوقت مع الاحتساب من طلوع الفجر عسير، ولا خلاف أن [النهي عن] السواك منوط بما بعد الزوال؛ فإن المرعي فيه ظهور الخلوف، وهو في الغالب مختص بما بعد الزوال.

وعن المزني: أنه لا يصح النفل إلا بنية من الليل؛ لخبر حفصة، وبه قال بعض الأصحاب، وهو البلخي.

قال الإمام: وهو القياس، وفعله – عليه السلام – وأمره يرد عليهما.

وقيل: يصح بنية بعد الزوال أيضاً؛ [أي]: إذا لم يتصل آخر نيته بغروب الشمس؛ لأنه لما كان الليل محلاً للنية في صوم الفرض [واستوى حكم جميعه فيها، وكان النهار محلاً للنية في صوم التطوع] – وجب أن يستوي حكم جميعه فيها، وقول الربيع لا حجة فيه؛ لجواز أن الأمر لم يبلغهم إلا بعد الزوال؛ وهذا ما نقله حرملة؛ كما قال القاضيان أبو الطيب والحسين، وحكاه البندنيجي عن نصه في "اختلاف على وعبد الله"، وقال:"إنه إذا اتصلت نيته بغروب الشمس، لم يصح قولاً واحداً"، والأول هو ظاهر ما نقله المزني والربيع، وقال القاضيان أبو الطيب، والحسين: إنه الذي نص عليه في القديم والجديد.

والفرق بين جميع الليل وجميع النهار: أن اعتبار النية في الليل إنما كان للمشقة، فلو اختصت بوقت منه، تحصلت، وليس كذلك النية قبل الزوال؛ فإنه لا مشقة فيها.

وحكى القاضي الحسين عن القفال: أنه كان يبني هذا الخلاف على أصل [آخر] مقصود في نفسه، وهو أنه إذا نوى قبل الزوال من أي وقت يصير صائماً؟ وفيه وجهان:

أحدهما – وهو قول أبي إسحاق-: أنه يكون صائماً من وقته، وقبل ذلك يكون

ص: 275

ممسكاً إمساك عادة، لا يثاب عليه، وهو الأصح في "الإبانة"،وقال الإمام: إنه الذي ذهب إليه القائسون.

قال الرافعي: ويقال: إنه اختيار القفال؛ لأن النية في العبادات شرط، والعبادة لا تسبق الشرط.

والمذهب أنه يكون صائماً من أول النهار، وبه قال أكثر الأصحاب؛ كما قال الماوردي وأبو الطيب.

فإن قلنا: يصير صائماً من أول النهار، لم تجزئه النية بعد الزوال؛ لأنه لم يبق معظم النهار.

وإن قلنا: يصير صائماً من قوت النية، صحت نيته بعد الزوال. وهذا فيه نظر من وجهين:

[أحدهما]: أن الخلاف المذكور في وقت النية- كما ذكرنا – قولان، فكيف يمكن بناؤهما على وجهين أو على قول ووجه؟!

والثاني: أن الرافعي وغيره حكوا الخلاف في انه هل يكون صائماً من وقت نيته أو من أول النهار فيما إذا كان نوى قبل الزوال أو بعده وصححناه، ولو كان

ص: 276

مبنياً على ما ذكره، لم يكن يما إذا نوى بعد الزوال خلاف في أنه يكون صائماً من وقته.

وقد غلط الماوردي أبا إسحاق فيما قاله، وصحح خلافه؛ موجهاً له بأنه: لو أكل في أول النهار، ثم نوى أن يصوم بقية نهاره، لم يصح؛ لامتناع تبعيض الصوم، وتفريق حكم اليوم؛ فإذا كان ذلك ممتنعاً، وقد حكم له بصوم بعض اليوم، وجب أن يحكم له بجميعه، ولا بعد في ذلك؛ فإن المصلي إذا أدرك الإمام في الركوع، حسب له جميع الركعة وثواب جميعها وإن كان مدركاً لبعضها.

وقد حكى القاضي الحسين عن الشيخ أبي زيد من أصحابنا والفوراني عن ابن سريج والرافعي عن ابن جرير الطبري: أنهم قالوا: لو أكل، ثم نوى صوم التطوع، صح صومه.

قال القاضي: وهو خلاف النص الذي لم يورد البغوي غيره.

وقال الفوراني في توجيه ما صححه: لا يمتنع أن تكون عبادة في وقت، ويشترط تقديم شرط على ذلك الوقت؛ كما أن من أدرك الجمعة، فجمعته من وقت ما يشرعه في الصلاة، ويشترط تقديم الخطبة.

وقد قال بعضهم: إن ما حكى عن أبي زيد لا يحل نقله، أي: للعمل به.

ثم الخلاف المشهور فيما إذا طهرت الحائض أو أسلم الكافر في أثناء يوم، ثم نوى التطوع، فإن قلنا: إنه يكون صائماً من أول النهار، لم يصح، وألا فوجهان، حكاهما المتولي، وكذا الإمام عن شيخه مع قطعه بأنه إذا كان قد أكل لا يصح صومه، وقال:[إنه لعمري] يقرب بعض القرب، فأما تصوير الصوم بعد الأكل في النهار فهو في حكم الهزو عندنا.

قال: ولا يصح صوم رمضان ولا غيره من [الصيام] الواجب - أي: وإن تعين وقته: كقضاء ما عليه من رمضان إذا لم يبق من شعبان إلا قدره، ونذر صوم يوم

ص: 277

بعينه- إلا بتعيين النية، أي: بأن ينوي في كل ليلة: أنه صائم غداً من رمضان، أو عن قضائه، أو عن نذره، أو عن كفارته؛ على حسب ما هو عليه؛ لقوله – عليه السلام:"لا صيام لمن لم يجمع الصيام قبل الفجر" وقوله: "إنما الأعمال بالنيات".

ووجه الدلالة من ذلك: أنه إذا لم يعين رمضان، ولا قضاءه، ولا النذر، ولا الكفارة – لم يجمع صوم ذلك من الليل ولا نواه، وقد وافق [الخصم] – وهو أبو حنيفة- فيما سيقت المسألة لأجله، وهو صوم رمضان في الحضر على أنه لا يصح صوم قضائه والنذر المطلق والكفارة إلا بالتعيين.

فنقول له: صوم رمضان عبادة يفتقر قضاؤها إلى تعين النية؛ فوجب أن يفتقر أداؤها إلى التعيين، وأصل ذلك الصلاة.

فإن قيل: رمضان يقبل الفطر والصوم؛ فلذلك افتقر إلى أصل النية، ولا يقبل صوماً غيره فلهذا لم يشترط التعيين فيها [بخلاف] زمن قضائه والنذور والكفارات؛ فإنه يقبل ذلك ويقبل غيره؛ فافتقر إلى التعيين في نيته؛ كما في أوقات الصلاة.

قلنا: قد قال به الحليمي من أصحابنا لهذا الفرق؛ كما ذكره المتولي، لكنه لا أثر له عند الخصم؛ لأنه [لا] يجوز الصوم فيما إذا نذر صوم يوم بعينه من غير تعيين وإن كان ذلك الزمن [لا] يقبل صوماً غيره، وكذلك لو نوى المسافر الصوم وأطلق انصرف إلى رمضان عنده وإن قبل عنده صوماً غيره من النذر والقضاء والكفارة، فإذا تقرر أنه لابد من ذلك، فهل يشترط معه التعرض للفرضية والأداء وكونه من رمضان هذه السنة؟ فيه وجهان:

المنسوب منهما [إلى أبي] إسحاق في الأولى – وهو الذي صححه أب والطيب والبغوي – الاشتراط.

وإلى مقابله فيها ذهب ابن أبي هريرة، وهو المذهب في "تعليق" البندنيجي،

ص: 278

وسكت العراقيون عن الكلام فيما عداها، والخلاف فيه مذكور في الطريق المراوزة.

قال الإمام: وقول بعض المتأخرين: إنه يجب أن ينوي أداء رمضان هذه السنة غير محتفل به عندي، وإنما [هو] تحريف في الفهم.

ولا خلاف في انه لا يشترط النطق بشيء من ذلك، وإن حكى وجه في اشتراط النطق بالمنوي في الصلاة.

وإذا عرفت ذلك، عرفت أن النية الكاملة في رمضان: أن ينوي صوم الغد من أيام شهر رمضان هذه السنة أداء لله تعالى.

فرع: لو نوى قضاء فريضة أول يوم من رمضان والفائت يوم آخر، أو نوى أن يقضي يوماً من رمضان [عينه كذا والفائت من رمضان] آخر – قال في التتمة: لا يجزئه، وهو ما حكاه البندنيجي عن الشيخ أبي حامد، وحكاه القاضي أبو الطيب في تعليقه وجهاً مع وجه آخر: أنه يجزئه، وهما في المهذب احتمالان.

ووجه المنع: القياس على ما لو كانت عليه كفارة القتل، فأعتق عن كفارة الظهار، لا يجزئه.

قال في "التتمة": وهذا بخلاف ما لو قال في الأداء: نويت صوم غد من رمضان سنة كذا، وكانت السنة [غير] التي عينها، أو قال: يوم الاثنين، واليوم يوم الثلاثاء – فإن الصوم صحيح؛ لأن الوقت متعين، فالخطأ في السنة لا يضر، وهو ما أبداه ابن الصباغ احتمالان لنسه – كما قال بعضهم – أخذاً من قول القاضي أبي الطيب في "المجرد": إنه إذا نوى أن يصوم غداً من رمضان هذه السنة، وظنها سنة تسعين أو اثنتين وتسعين، وكانت [سنة] إحدى وتسعين، أو نوى أن يصوم غداً وهو يظنه

ص: 279

يوم الإثنين، وكان يوم الثلاثاء – إنه يصح. وإن كان المحكي عن القاضي أبي الطيب فيما إذا نوى صوم الغد من رمضان سنة اثنتين وتسعين، وكانت سنة إحدى وتسعين – أنه لا يصح.

قال بعضهم: ولعل القاضي فرع في أمر السنة على أن تعيين السنة في النية شرط، كما تقدم.

قال: ويصح النفل بنية مطلقة [كما تصح صلاة النفل بنية مطلقة].

واعلم أن كل ما يجب التعرض له في النية، فلابد من العلم به وإحضاره بالبال؛ ليتعلق القصد به، فإن أحضره بقلبه، ولم يعلم معناه، لم يجزئه؛ لاستحالة صحة القصد مع الجهل به، والمقصود معنى الألفاظ دون صورها.

ولا يشترط في تعيين النية في رمضان أن تستند إلى تحقيق أن ذلك من رمضان. نعم، لابد أن تستند إلى علم أو ظن شهد له الشرع بالاعتبار، وهو الناشئ عن استصحاب الحال في آخر يوم من رمضان إذا وقع الشك فيه أو إخبار عدل بالرؤية في ليلة الثلاثين من شعبان، وكذا إخبار المرأة والعبد إذا [وثق بهما][كما] صرح به القاضي أبو الطيب وغيره، وحكاه البندنيجي عن الشيخ أبي حامد، ولم يحك سواه.

ولو كان قد غلب على ظنه دخول الشهر بحساب النجوم أو منازل القمر، أو أخبره [بذلك] من يثق به منهم – فقد تقدم الكلام فيه.

والظن الناشئ عن الاجتهاد في حق الأسير ومن في معناه كاف فيما نحن فيه، كما تقدم.

ولو وجد التعيين مع انتفاء العلم والظن الناشئ عما ذكرناه، كما إذا نوى ليلة الشك أنه صائم غداً من رمضان – فقد حكى الإمام عن رواية صاحب "التقريب" وجهين في المسألة، والشهور: عدم الصحة؛ لأن الجزم غير ممكن، فإن صور

ص: 280

مصور جزماً فذاك إجراء حديث تعيين، وليست النية حديثاً، وإنما هي قصد واقع، ولا يتصور مجرده مع التردد في المقصود.

ومن طريق الأولى إذا نوى صومه من رمضان – إن كان من رمضان – وتطوعاً إن كان من شعبان، بان أنه من رمضان؛ لأجل التعليق.

وحكى الفوراني عن المزني: أنه يجزئه، وليس بشيء.

وقد حكى الإمام مثله عن طوائف من الأصحاب فيما إذا ردد النية هكذا؛ وكان قد ثبت عنده أصل يثبت غلبة الظن: كشهادة عدل، أو وصية ذوي رشد، وقال: إنه لعمري موافق لمذهب المزني، فظاهر المذهب: أنه لا يصح صومه عن رمضان، ولو بان منه. نعم، [لو بان أنه] من شعبان، وقع نفلاً.

قال في التتمة: لأن نية النفل اعتضدت بأصل، وهو بقاء شعبان؛ فصار كما لو كان له مال غائب، فقال: هذا زكاة مالي الغائب إن كان سالماً، وإن لم يكن سالماً فنافلة، فبان سالماً – يجزئه.

وعلى هذه المسألة قاس البندنيجي ما إذا نوى [ليلة] آخر يوم من رمضان: أنه صائم غداً من رمضان إن كان منه، وإلا أفطر؛ فبان من رمضان: أنه يصح له.

قلت: ويتجه فيما إذا نوى ليلة الشك الصوم عن رمضان، فبان أنه من شعبان: أنه هل ينعقد نفلاً أم لا – [الخلاف فيما إذا نوى صوم الفرض بالنهار؛ فإنه لا يصح رضاً، وهل يصح نفلاً أم لا؟] كما هو فيما إذا تحرم بالظهر قبل الزوال.

فروع:

أحدها: إذا نوى صوم الغد من رمضان – إن شاء الله –فهل تصح نيته؟

قال في "الحاوي": الصحيح: أنه لا صوم له.

ص: 281

وفيه وجه آخر: أن صومه جائز؛ لعلتين مدخولتين:

أحداهما: أن قوله: "إن شاء الله" قول باللسان، والنية اعتقاد بالقلب، والأقوال لا تؤثر في الاعتقاد.

والثاني: [أن الله شاء] صومه.

والمذكور في "تعليق" القاضي الحسين و"التهذيب": أنه إن قصد بذلك الشك في فعله، لم تصح، [وإن قصد] الإعانة من الله – تعالى- صحت، وإن أطلق لم تصح، وبذلك يحصل في المسألة ثلاثة أوجه، وقد حكاها في "البيان"، ونسب الثالث إلى ابن الصباغ.

الثاني: إذا نوت الحائض قبل أن تطهر صوم الغد، فانقطع دمها قبل الفجر، [فهل] تجزئها تلك النية؟ نظر: إن لم تكن لها عادة بانقطاع دمها في ذلك الوقت، لم تكفها، وإن كانت عادتها ذلك، فوجهان [في] تعليق القاضي الحسين وغيره، وهذا فيما إذا نوت قبل انتهاء أكثر الحيض، فإن نوت وكان انتهاء مدة الحيض قبل الفجر، أجزأها ذلك.

الثالث: لو قال: أتسحر؛ لأقوى على الصوم، قال أبو المكارم في "العدة": لم يكف.

قال الرافعي: ونقل بعضهم عن نوادر الأحكام لأبي العباس الروياني: أنه لو

ص: 282

تسحر للصوم، أو شرب لدفع العطش نهاراً، أو امتنع من الأكل والشرب والنكاح؛ مخافة الفجر – كان ذلك نية للصوم.

قال: وهذا هو الحق إن خطر بباله الصوم بالصفات التي شرط التعرض لها؛ لأنه إذا تسحر ليصوم كذا، فقد قصده.

قال: ومن مرض، فخاف الضرر –أي: إن صام- جاز له أن يفطر، وعليه القضاء – أي: إذا برئ، وتمكن منه – لقوله تعالى:{فَمَنْ شَهِدَ مِنْكُمْ الشَّهْرَ فَلْيَصُمْهُ وَمَنْ كَانَ مَرِيضاً أَوْ عَلَى سَفَرٍ فَعِدَّةٌ مِنْ أَيَّامٍ أُخَرَ} [البقرة: 185] تقديرها: فأفطر فعدة من أيام أخر، ومثل هذا الإضمار ملحق [بلحن] القول، وهو ما يفهم من سياق القول، وإن لم يصرح به؛ قال الله تعالى:{وَلَتَعْرِفَنَّهُمْ فِي لَحْنِ الْقَوْلِ} [محمد:30]، وأعاد الله – تعالى- هذه الآية وإن كان قد ذكرها من قبل بلفظ الفاء؛ ليعلم أن هذا الحكم ثابت بعد النسخ، فإن هذه الآية نسخت ما قبلها كما تقدم.

ولا فرق في جواز الفطر لأجل المرض بين أن يكون قد طرأ قبل الفجر أو بعده، بخلاف ما سنذكره في السفر. نعم، إن كانت عادة المرض أن يأتيه في وقت دون وقت، فإن كان وقت الشروع فيه، فله ترك النية، وإلا فعليه أن ينوي من الليل، ثم إن عاد واحتاج إلى الإفطار، أفطر، ولا يجب عليه مع القضاء فدية إن كان فطره بغير الجماع، سواء قصد بفطره الترخص وقد نوى من الليل الصوم، أو لم يقصده.

وفي تعليق القاضي الحسين وغيره: أنه إن نوى بفطره الترخص فلا فدية عليه، وإن لم ينو الترخص [فيه وجهان] ينبنيان على أن الصحيح إذا أفطر متعمداً، هل تلزمه الفدية؟ وفيه وجهان:

إن قلنا هناك: لا تلزمه، فهاهنا أولى.

وإن قلنا هناك: لا تلزمهن فهاهنا وجهان.

والفرق: أنه هاهنا معذور، بخلاف ثم.

وأما إذا كان فطره بالجماع، وقد نوى الصوم من الليل، فيظهر أن يكون الحكم فيه

ص: 283

كالمسافر، وسنذكره، كما أن المسافر إذا نوى الصوم، وأكل حيث يجوز له لو قصد الترخص أو لم يقصده – ينبغي أن يكون حكمه في الفدية كما حكيناه عن القاضي في حق المريض أيضاً؛ لاستوائهما في العذر.

والمراد بخوف الضرر هاهنا –كما قال في "المهذب" -: خوف الزيادة فيه عند الصوم، ورجاء زواله عند فقده.

وغيره اكتفى برجاء خفة المرض عند الفطر أو وقوفه.

وعبارته في "التهذيب": أنه إذا كان يجهده الصوم، ويلحقه بسببه ضرر يشق عليه احتماله – جاز له الفطر.

ويجهده: يقال بفتح الياء والهاء، وبضم الياء وكسر الهاء، والأول أفصح.

وفي "النهاية" في باب التيمم أو جماع التيمم: أن الأصحاب قالوا: المرض الذي يجوز فيه الفطر هو الضرر الظاهر، وعندي أنه كل مرض يقع منه التضرر مع الصوم، وهو المعني بالضرر الظاهر الذي ذكره الأصحاب، فإنه جاز الإفطار لأجل السفر؛ حتى لا يتعذر على طوائف يكثرون التقلب في أسفارهم.

وعن "البسيط": أن بعض الأصحاب قال: إنه يكفي فيه ما يسمى: مرضاً، واستوهنه، واختار: أنه إذا كان الضرر ظاهراً، أو كان يزداد بالصوم ولو أفطر لوقف أو خف، ومن عطش فخاف الهلاك إن لم يشرب – قال في "التتمة": يباح له الفطر كالمريض. وهذا ما يشعر كلام البندنيجي أن الشافعي قاله؛ لأنه قال: [إن] الشافعي [قال] في "حرملة" و"البويطي": "لا فدية على الشيخ الهم أصلاً، كمن أجهده العطش فأفطر؛ فإنه لا كفارة عليه". أما إذا أفطر واتصل مرضه بالموت، لم يجب عليه

ص: 284

شيء، صرح به الأصحاب.

قال: ومن سافر قبل الفجر سفراً يقصر فيه الصلاة، جاز له أن يفطر، أي: إما بترك النية من الليل، أو بتعاطيه ما سنذكره من المفطرات في النهار بعد نيته من الليل، واستمر السر؛ للآية، ولقوله – عليه السلام:"إن الله وضع عن المسافر الصوم، وشطر الصلاة"، وأراد: إذا اختار الفطر والقصر، وقد صح عن رسول الله صلى الله عليه وسلم أنه أفطر في السفر، وصام فيه، وكذلك الصحابة.

وروى البخاري ومسلم عن أنس قال: "سافرنا مع رسول الله صلى الله عليه وسلم في رمضان، فصام بعضنا، وأفطر بعضنا، ولم يعب الصائم على المفطر، ولا المفطر على الصائم".

وروى مسلم عن أبي سعيد الخدري نحوه.

قال في "المهذب": ويحتمل عندي أنه لو أراد أن يفطر في اليوم الذي شرع في صومه، وهو بعد في السفر – لم يكن له ذلك؛ لأنه دخل [في] فرض المقيم؛ فلا يجوز له أن

ص: 285

يترخص برخصة المسافر؛ كما لو دخل في الصلاة بنية الإتمام، ثم أراد أن يقصر.

وقد أبدى الإمام هذا الاحتمال – أيضاً – لنفسه، وحكاه القاضي الحسين في [باب] صوم التطوع وجهاً للأصحاب.

وقال الإمام: إنه لا ينفعه إلحاق السفر بالمرض؛ فإن المريض إذا أصبح صائماً، ثم عنَّ له الفطر، جاز؛ لأنا لو جرينا على هذا التشبيه، للزم أن يقال: من أصبح صائماً مقيماً، ثم سافر، يجوز له أن يفطر؛ كما لو كان صحيحاً في أول النهار ثم مرض، وهذا لا يجوز.

قلت: الدافع له رواية جابر أن رسول الله صلى الله عليه وسلم خرج إلى مكة عام الفتح في رمضان حتى بلغ كراع الغميم فصام وصام الناس معه، فقيل له: إن الناس قد شق عليهم الصيام، فدعا بقدح من ماء بعد العصر، فشرب والناس ينظرون. كذا أورده في التتمة، وقال: إن مسلماً رواه في صحيحه.

والفرق بين ما نحن فيه على المذهب وبين الإتمام إذا قدم من السفر: ما قاله الماوردي: إن الفطر يضمن بالقضاء وعذر الإفطار قائم بدوام السفر، وليس كذلك القصر؛ لأنه لا يضمن بالقضاء، وقد ضمنه بالإتمام عن نفسه؛ ولهذا المعنى فصل بينهما.

والقاضي الحسين فرق بأنه مخاطب مأمور بأصل الصلاة في سفره، إلا أنه رخص له في القصر، فإذا شرع فيه فقد أعرض عن الرخصة؛ فلزمه الإتمام، ولا كذلك الصوم، فإنه يباح له أن يخلي الوقت عن الصوم أصلاً؛ فجاز أن يخرج عنه بعد الشروع فيه؛ وعلى هذا هل [يكره له] الفطر؟ روى عن القاضي الحسين حكاية وجهين فيه.

ص: 286

فرع: حكاه الإمام في صالة المسافر عن العراقيين -:

إذا أفطر المقيم في يوم من رمضان بعذر، ثم سافر، وشرع في القضاء، ثم عَّن له في أثنائه أن يفطر مترخصاً – فله ذلك؛ كما يفطر في أداء رمضان مسافراً. ولو كان أفطر مقيماً عاصياً من غير عذر، ثم سافر وشرع في القضاء، ثم أراد أن يترخص بالإفطار – فهل له ذلك؟ فيه وجهان:

أحدهما: [لا]؛ لأنه كان عاصياً بالإفطار أولاً، وكان يجب عليه القضاء على الفور، فإذا شرع فيه لم يجز له قطعه.

والثاني: له ذلك؛ فإن المعصية قد انقضت، وهو الآن غير عاص بسفره، وهو مرخص للفطر.

قال: والأفضل أن يصوم – أي: إذا قدر عليه من غير هجد – لعموم قوله تعالى: {وَأَنْ تَصُومُوا خَيْرٌ لَكُمْ} [البقرة: 184]، ولرواية أبي داود عن سنان بن سلمة عن أبيه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم:"من كانت له حمولة، ويأوي إلى شبع فليصم رمضان حيث أدركه".

ولأن الأداء أفضل من القضاء.

ولأن الأصل وجوب الصوم، والفطر رخصة؛ فكان الإتيان بالأصل أفضل، دليله غسل الرجلين مع القدرة [على مسح] الخفين؛ فإنه أفضل.

ص: 287

والفرق بين ما نحن فيه والقصر حيث قلنا: إنه أفضل على أصح القولين: أن ذمته تبرأ بالقصر من غير ضرر يلحقه في نفس ولا مال، والفطر يوجب القضاء؛ فتبقى الذمة مشغولة.

والمسح ينقص مالية الخف، وذلك ضرر.

أما إذا كان يجهده الصوم ويدخل [عليه] به الضرر، قال القاضي الحسين: فالفطر له أفضل بلا إشكال، كما في حق المريض، ويدل عليه رواية مسلم عن جابر قال: كان رسول الله صلى الله عليه وسلم في سفر، فرأى رجلاً قد اجتمع الناس عليه، وقد ظلل عليه، فقال:"ما له؟ "قالوا: رجل صائم، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم:"ليس [من] البر أن تصوموا في السفر إذا كنتم لا تطيقونه كهذا".

وألحق الأصحاب بذلك من يطيق الصوم، لكن سفره للغزو أو سفر حج، وكان يخاف أن لو صام لضعفت قوته، قاله المتولي.

وفي مسلم ما يدل على ذلك في حالة الغزو.

قال: فإن أفطر، لزمه القضاء – أي: إذا تمكن منه بعد الإقامة – للآية، أما إذا اتصل سفره بالموت، فلا شيء عليه، وإنما خصصنا الفطر بالسفر الذي تقصر فيه الصلاة؛ لأنه إسقاط فرض يتعلق [بمسافة؛ فوجب أن يتقدر بأربعة برد أصله: قصر الصلاة. وقد روى البخاري] بإسناده عن ابن عباس وابن عمر: أنهما كانا يفطران ويقصران في أربعة برد، ولم ينكر عليهما [أحد].

واعلم أنه لا فرق في كون الصوم أفضل من الفطر بين أن يبلغ سفره ثلاثة أيام فأكثر أو لا يبلغ [ذلك]؛ لما ذكرناه، نعم، هو فيما بلغ الثلاث أفضل؛ لوجه آخر،

ص: 288

وهو الخروج من خلاف أبي حنيفة؛ فإنه لا يجز الفطر فيه كالقصر، وبهذا ينتفي وهم من قد يتوهم أن كلام الشيخ يعود إلى هذه الصورة؛ لأنه أناط الجواز والأفضلية في الصوم بالسفر الذي تقصر فيه الصلاة، وهو أربعة برد كما تقدم.

وقد احترز الشيخ بقوله: "قبل الفجر" عما إذا سافر بعد الفجر، وقد نوى الصوم [في الليل فنه يلزمه إتمام الصوم] كما لو تحرم بالصلاة في الحضر، ثم سافر.

وعن المزني: أنه بالخيار: إن شاء أتم، وإن شاء أفطر؛ لفطره – عليه السلام – حيث بلغ كراع الغميم وقد خرج إلى مكة، كما تقدم.

وفي "التتمة" نسبة هذا القول إلى أبي إسحاق المروزي، وهو اختيار ابن المنذر؛ كما قاله ابن التلمساني، وزعم الموفق بن طاهر: أنه قاله ابن خيران؛ ولأجل ذلك حكى الحناطي طريقاً: أن المسألة على وجهين، والمذهب الأول.

قال البندنيجي: وقد حكى عن المزني: أنه رجع عن هذا وخط عليه في "المنثور"، وقال:"يلزمه الإتمام"؛ لأنه كان يظن أن صومه – عليه السلام – وفطره كان في يوم واحد، وليس كذلك؛ فإن بين المدينة وكراع الغميم مراحل، هي ثمانية أيام، كما قال الإمام.

وفي "الرافعي": [أنه إنما رجع عن الاستدلال بالحديث، لا عن مذهبه.

ويقر منه قول الإمام]: إنه يأتي في بعض النسخ استدلاله بالحديث مخطوطاً عليه.

قال: وإذا خافت الحامل والمرضع على أنفسهما، أي: ضرراً بينًّا من الصوم، مثل: الضرر الذي ينشأ للمريض من الصوم – كما قال البندنيجي – أفطرتا، وعليهما القضاء بالقياس على المريض، ولا يجب عليهما الفدية، وهو مما لا يختلف المذهب فيه، كما قال أبو الطيب.

ولا فرق بين أن يتضرر الولد معهما أو لا، كما قاله القاضي الحسين.

قال: وإن خافتا على ولديهما – أي: مثل أن خافت الحامل أن يسقط الحمل، أو المرضع أن يقل اللبن، فيهلك الولد أيضاً أفطرتا، لقوله – عليه السلام: "إن الله

ص: 289

وضع عن المسافر الصوم وشطر الصلاة، ون الحبلى والمرضع الصوم" أخرجه النسائي.

قال: وعليهما القضاء؛ لأنه إذا وجب عند الفطر للخوف على النفس، فعند عدمه أولى، وهذا مما لا خلاف فيه.

قال: وفي الفدية ثلاثة أقوال:

أحدها: [أنه يجب] عليهما عن كل يوم مد من طعام؛ لقوله تعالى: {وَعَلَى الَّذِينَ يُطِيقُونَهُ فِدْيَةٌ طَعَامُ مِسْكِينٍ} [البقرة: 184] فأوجب الفدية على [كل] من أطاق الصيام، فأفطر.

وقد روي عن ابن عباس وابن عمر أنهما قالا: "الحامل والمرضع إذا أفطرتا، يجب عليهما الفدية، عن كل يوم مد لمسكين" ولا مخالف لهما.

ولأنه فطر بسبب نفس عاجزة عن الصوم في أصل الخلقة، فأوجب الفدية؛ كالشيخ الهم.

ولأنها مقيمة صحيحة باشرت الفطر لعذر معتاد، فوجبت عليها الفدية كالشيخ الهم، وهذا ما نص عليه في عامة كتبه من "المختصر" و"الأم" والقديم؛ قاله أبو الطيب.

والثاني: أنها مستحبة، أما كونها لا تجب؛ فلقوله – عليه السلام:"إن الله وضع عن المسافر الصوم

" الخبر، فسوى بين المسافر وبينهما في وضع الصوم، والمسافر لا تجب عليه الفدية مع القضاء، فكذا هما.

ولأنهما أفطرتا بعذر، فوجب القضاء؛ فلم تجب به الفدية، أصله: فطر المريض والمسافر، والمراد قياس الحامل على المريض؛ لأن الضرر الذي يصيب الولد يتعدى

ص: 290

إليها وقياس المرضع على المسافر؛ لأنهما يفطران كي لا يمنعهما الصوم عما هما بصدده، وهو السفر والإرضاع.

قال الرافعي: وقد يشبهان معاً بالمريض والمسافر؛ من حيث إن الإفطار سائغ لهما، والقضاء يكفي تداركاً.

وقولنا: يوجب القضاء، احتراز من فطر الشيخ والشيخة الهمَّين؛ فإنه لا يجب القضاء ويجب عليهما الفدية.

وأما استحبابها فللخروج من الخلاف، وهذا ما حكاه أبو علي الطبري في الإفصاح، كما قال أبو الطيب وغيره.

وفي تعليق القاضي الحسين: أن بعضهم حكاه عن رواية حرملة، وكذلك قاله الرافعي، واختاره المزني وابن المنذر، كما قال ابن الصباغ والروياني في "الحلية".

والثالث: أنها تجب على المرضع دون الحامل؛ لأن المرضع أفطرت لمعنى منفصل عنها؛ [ففارقت المريض والمسافر، والحامل أفطرت لمعنى متصل بها]؛ لأن الولد إذا تضرر لحقها ضرره، فأشبهت المريض، وهذا ما نص عليه في "مختصر" البويطي، قال القاضي الحسين: وهو اختيار المزني.

وعن الشيخ أبي حامد حكاية طريقة قاطعة بوجوبها على المرضع، وتذكر حكاية قولين في وجوبها على الحامل، وهي التي أوردها البندنيجي لا غير، وادعى

ص: 291

القاضي الحسين أنها المذهب؛ ولأجل ذلك قال الإمام: الأصح القطع بإيجاب الدية عليها مع القضاء.

والأصح - وإن ثبت الخلاف - القول الأول؛ لما ذكرناه.

فإن قيل: الآية التي استدللتم بها منسوخة؛ لأن الإنسان كان مخيراً في صدر الإسلام بين الصوم والفطر وإخراج الفدية، ثم نسخ ذلك بقوله:{فَمَنْ شَهِدَ مِنْكُمْ الشَّهْرَ فَلْيَصُمْهُ} [البقرة: 185]، فإن قلتم: إن النسخ عام في كل واحد، فلا يصح لكم الاحتجاج بها، وإن قلتم [هو عام] إلا في حق المرضع والحامل، بطل قولكم بقوله تعالى:{وَأَنْ تَصُومُوا خَيْرٌ لَكُمْ} [البقرة: 184] لأن الفطر خير [للحامل والمرضع] بالإجماع.

وأيضاً: فينبغي أن توجبوا عليهما الفدية دون القضاء؛ لأن هذا هو الحكم في صدر الإسلام، وقد قلتم به في حق الشيخ الهم لما ادعيتم أنها غير منسوخة في حقه. وكذلك ابن عباس لما قال: إن الآية كانت رخصة للشيخ الهم والعجوز، وهما يطيقان الصيام: أن يفطرا ويطعما مكان كل يوم مسكيناً، والحبلى والمرضع إذا خافتا قال أبو داود: يعني: على أولادهما، قال: تجب الفدية دون القضاء. وهو المحكي عن ابن عمر [أيضاً، ومن] هنا ظهر أنه [لا] حجة في قولهما أيضاً؛ لأنكم توجبون القضاء مع الفدية.

فالجواب: أنا لا نسلم أن الآية منسوخة كما قال بعضهم، وإن سلمناه كما هو الصحيح، قلنا: هي منسوخة، إلا في حق الشيخ الهم، والحامل والمرضع للإجماع على جواز الفطر لهما مع القدرة وقوله تعالى:{وَأَنْ تَصُومُوا خَيْرٌ لَكُمْ} [البقرة: 184] لا يبطل ذلك؛ لأنه خاص بالشيخ الهم، [دون] [المرضع

ص: 292

والحامل] وإن كان صدر الآية عاما في حق الكل، وقد جاء مثل ذلك في مواضع من الكتاب العزيز، قال الله تعالى:{وَالْمُطَلَّقَاتُ يَتَرَبَّصْنَ بِأَنفُسِهِنَّ ثَلاثَةَ قُرُوءٍ} [البقرة: 228] فهو عام في حق الرجعية وغيرها، ثم قال:{وَبُعُولَتُهُنَّ أَحَقُّ بِرَدِّهِنَّ} [البقرة: 228] وهو في الرجعية خاصة. وقال تعالى: {وَإِنْ طَلَّقْتُمُوهُنَّ مِنْ قَبْلِ أَنْ تَمَسُّوهُنَّ وَقَدْ فَرَضْتُمْ لَهُنَّ فَرِيضَةً فَنِصْفُ مَا فَرَضْتُمْ} [البقرة: 237] عام في [الكبيرة والصغيرة]، ثم قال:{إِلَاّ أَنْ يَعْفُونَ أَوْ يَعْفُوَ الَّذِي بِيَدِهِ عُقْدَةُ النِّكَاحِ} [البقرة: 237] وهو في الصغيرة خاصة. وقال تعالى: {وَلَقَدْ جِئْتُمُونَا فُرَادَى كَمَا خَلَقْنَاكُمْ أَوَّلَ مَرَّةٍ} [الأنعام: 94] وهذا عام في المسلمين والمشركين، ثم قال:{لقد تقطع بينكم} الآية [الأنعام: 94]، وهي خاصة بالمشركين.

ولا نسلم أن القضاء لم يكن واجباً في صدر الإسلام، بل كان يجب [مع] الفدية؛ لقوله تعالى:{فَمَنْ كَانَ مِنْكُمْ مَرِيضاً أَوْ عَلَى سَفَرٍ فَعِدَّةٌ مِنْ أَيَّامٍ أُخَرَ وَعَلَى الَّذِينَ يُطِيقُونَهُ فِدْيَةٌ} [البقرة: 148]؛ فإن تقدير الآية: وعلى الذين يطيقونه عدة من أيام أخر وفدية، والعرب تعطف الشيء على الشيء، وتحذف الواو، فتقول: أكلت خبزاً سمناً، وتريد: خبزاً وسمناً.

وكون ابن عباس وابن عمر قالا: لا يجب القضاء، لا يمنع ذلك من الاحتجاج بقولهما على الخصم، في إيجاب الفدية؛ لأنهما حكمان.

والفرق بينهما وبين المريض والمسافر والشيخ الهم ومن في معناه حيث لا يجب عليهم إلا أمر واحد، وهو القضاء أو الفدية: أن فطر كل منهم لم ترتفق به إلا نفس واحدة، وفطر الحامل والمرضع ارتفق به نفسان، فلذلك وجب به أمران: القضاء، والفدية.

وعلى هذا فروع:

أحدها: لو كانت الحامل والمرضع في سفر أو مرض، فأفطرتا، هل يجب عليهما الفدية؟ نظر:

ص: 293

إن أفطرتا بسبب السفر أو المرض فلا، وإن أفطرتا لأجل الولد فنعم.

وإن لم يكن لهما نية، ففي الفدية وجهان؛ بناء على الخلاف المحكي في طريق المراوزة في المسافر بصلاة على قصد الرخصة، هل يجب عليه الكفارة أم لا؟ كما سنذكره: إن ألزمناه ثم فهاهنا كذلك، وألا فلا.

وقد وافق القاضي الحسين على هذا البناء في حق المرضع المريضة، وقال في المسافرة: إن ألزمنا المجامع في السفر الكفارة، فهاهنا أولى، وإلا فوجهان. والفرق: أن المرضع يجوز أن يلزمها الفدية، وإن كان يباح لها الإفطار وهي إذا كانت في الحضر، كذلك هاهنا.

وقيل: لا تجب الفدية هاهنا بحال، لوجود السفر والمرض، ولايختلف الحال بالقصد وعدمه.

الثاني: لو أشرف شخص على الغرق واضطر من ينقذه إلى الإفطار، فأفطر - وجب عليه مع القضاء الفدية، وكذا إذا دفع عن الشخص من يقتله، واضطر الدافع إلى الفطر، فأفطر.

قال القاضي الحسين: وكذلك كل فطر مأذون فيه لأجل غيره، يجب فيه الفدية مع القضاء.

وحكى الفوراني والبغوي وجهاً في مسألة الغريق: أنها لا تجب مع جزمهما بالوجوب على المرضع.

وفرق البغوي بينهما بأن فطر المرضعة لأجل نفس عاجزة عن الصوم؛ فأشبه صوم

ص: 294

الشيخ الهم، وفطر المنقذ للغريق صادر من غير عاجز عن الصوم؛ وبهذا يظهر لك إجراء الوجه في باقي الصور.

وقد جعل الشيخ أبو محمد الوجهين في إيجاب الفدية في مسألة الغريق مبنيين على الخلاف في إيجابها على المرضع إن أوجبناها عليها وجبت هنا وألا فلا.

الثالث: إذا كان للمرضع ولدان، وأفطرت بسببهما فهل تتعدد الفدية؟ فيه وجهان في "التتمة" وغيرها، أصحهما في "الرافعي"، وهو المذكور في "التهذيب" -: عدم التعدد.

الرابع: لو أرادت الحامل والمرضع بعد الشروع في الصوم أن تخرجا الفدية قبل الإفطار هل يجوز؟ فيه وجهان، [أظهرهما -كما قال الرافعي في كتاب الأيمان-: الجواز]، وهوا لذي أورده في "الروضة" هناهنا؛ وعلى هذا ففي جواز تعجيل الفدية لسائر الأيام وجهان؛ بناء على الخلاف في تعجيل زكاة عامين، والله أعلم.

تنبيه: فرض الشيخ الكلام في المرضع لولدها، قد يفهم اختصاص الحكم بذلك، لكن في "التتمة": أن المرضع لولد غيرها بالأجرة وغير أجرة إذا خافت عليه، يجوز لها الفطر، وتقضي، وتفتدي؛ كالسفر لما جوز الفطر، استوى فيه سفره لحاجة نفسه وحاجة غيره.

وفي "فتاوى" الغزالي: أنها إذا أجرت نفسها للإرضاع في رمضان، وكان الصوم ينقص لبنها، فلا يجوز لها الفطر بعذر الإجارة وإن جاز للأم؛ لأنها في حكم المتعينة طبعاً لإرضاع الولد، ولا خيار للمستأجر؛ لأن تأثير الصوم في نقص اللبن ظاهر، إلا إن تعذر فيمن يخفى عليه ذلك، فلا يبعد الخيار، كالأمة إذا عتقت تحت عبد فسكتت؛ جهلاً بالخيار.

ص: 295

قال في "الروضة": والصحيح قول صاحب "التتمة"، وبه قطع القاضي الحسين في "فتاويه"، فقال: يحل لها الإفطار، بل يجب إن أضر الصوم بالرضيع، وفدية الفطر على من تجب؟ قال: يحتمل وجهين؛ بناء على ما لو استأجر المتمتع، فعلى من يجب دمه؟ فيه وجهان.

ولو كان هناك مرضع، فأرادت أن ترضع صبياً؛ تقرباً لله تعالى، جاز الفطر لها. قال: وإذا حاضت الصائمة أو نفست، بطل صومها؛ لأن الحيض مناف للصوم إذا قارن ابتداءه بإجماع الصحابة، فإذا طرأ عليه أبطله؛ كالردة، والنفاس دم حيض مجتمع.

قال: وعليها القضاء؛ لأنها مخاطبة بالقضاء إذا لم تشرع في الصوم إجماعاً؛ للخبر مع عدم قدرتها عليه بجملته، فلأن يجب، وقد فسد بعد صحته من طريق الأولى.

وقد قدم الشيخ الكلام في تحريم الصوم على الحائض والنفساء في باب الحيض. [قال الماوردي: ولم يخالف أحد في ذلك إلا طائفة من الحرورية؛ بزعم أن الفطر لها رخصة، فإذا صامت أجزأها.

ولو خرج الولد، لوم تر نفاساً، فهل يبطل صومها؟]

قال الماوردي في باب النفاس: فيه وجهان مبنيان على وجوب الغسل: إن أوجباه بطل، وألا فلا. وفيه نظر؛ لأن من أوجب الغسل وجه بأن الولد مني منعقد، وقد خرج منها؛ فأوجب الغسل، وخروج المني في الصوم من غير سبب يقتضي خروجه في حال الصوم من قبلة أو مباشرة لا يبطله؛ ألا ترى: أنه لو نظر، فأنزل، لم يبطل صومه، ولو جامع معتقداً بقاء الليل فنزع مع الفجر، وأنزل بعده، لا يفطر وإن كان خروج المني على هيئته؟! فما شأنك بخروج الولد.

قال: وإن جن، بطل صومه؛ لأن الجنون معنى ينافي الصوم في الابتداء فنافاه في الدوام؛ كالحيض.

قال: ولا قضاء عليه؛ لأنه في أول النهار مشتغل بالعبادة، وفي باقيه قد سقط عنه التكليف؛ لنقصه؛ فلم يجب عليه القضاء كالصغير، وهذا هوا لجديد كما قال ابن الصباغ، وحكاه القاضي أبو الطيب عن القاضي أبي حامد في "الجامع".

ص: 296

وقال في القديم كما قال أبو حامد وكذا [في]"البويطي" كما قال البندنيجي: إذا جن في أثناء النهار، كان كما لو أغمي عليه؛ فيتخرج على الأقوال. وهذا ما اقتضى كلام البندنيجي ترجيحه؛ حيث قال: والمذهب أنه لا فرق بين الإغماء والجنون إلا في فصل، وهو أن الجنون إذا استدام الشهر كله يسقط القضاء، ولو كان مكانه إغماء لا يسقط القضاء.

والمذهب في "التهذيب" ماذكره الشيخ، ولم يورد الماوردي غيره، وهو مفرع إلى المذهب في أنه إذا لم يفق إلا بعد مضي رمضان أو بعضه، لا يجب قضاؤه كما تقدم.

فرع: لو طرأ الجنون بعد ردة أو سكر، هل يسقط القضاء؟ فيه وجهان عن رواية الحناطي قال الرافعي: ولعل الأظهر الفرق بين اتصاله بالردة واتصاله بالسكر؛ كما في الصلاة.

[فرع] آخر: الموت هل يلحق بالجنون في إبطال الصوم؟ فيه وجهان في "تعليق" القاضي أبي الطيب في كتاب الجنائز، وأن القائل بعدم الإبطال تمسك بما روي أنه – عليه السلام – قال لعثمان:"أنت تفطر عندنا الليلة".

قال: وإن أغمى عليه جميع النهار –أي: وكان قد نوى الصوم من الليل – لم يصح صومه؛ لأن الصوم نية وترك، ولو انفرد الترك عن النية، لم يصح؛ فكذلك إذا انفردت النية عن الترك.

قال: وعليه القضاء؛ لأن الإغماء مرض؛ ولذلك يجوز طروءه على الأنبياء، وإذا كان كذلك اندرج تحت قوله تعالى:{فَعِدَّةٌ مِنْ أَيَّامٍ أُخَرَ} [البقرة: 185].

وقيل: لا قضاء عليه؛ كالمجنون؛ حكاه البغوي عن ابن سريج؛ وهذا يظهر أن يكون قاله تخريجاً على المذهب في أن المجنون لا قضاء عليه، وإلا فمذهب ابن

ص: 297

سريج: أن المجنون يجب عليه القضاء –كما تقدم – فكيف بالمغمي عليه؟!

وقيل: يصح صومه؛ كما لو نام جميع النهار وقد نوى من الليل؛ وهذا قول المزني، وقد جعله المراوزة قولاً مخرجاً في المسألة.

وقال القاضي الحسين تفريعاً عليه: إن الشخص لو جن بعد النية من الليل جميع النهار، صح صومه، وإن من أصحابنا من قال: هو في المجنون بعيد، ولا يبعد في الإغماء، لأن الجنون يزيل الخطاب كله.

والمذهب: ما ذكره الشيخ، وقد قال أبو العباس والإصطخري وأبو الطيب بن سلمة بمثله في النائم جميع النهار، وهو مأخوذ من قوله في "المختصر": فإن أفاق في بعض النهار، فهو صائم – يعني: المغمي عليه – ثم قال: وكذلك إن أصبح راقداً ثم استيقظ: فأشعر كلامه باشتراط الاستيقاظ في بعض النهار.

لكن المذهب أنه لا يبطل، والفرق بينه وبين الإغماء: أن النوم جبلة وعادة، والنائم ثابت العقل؛ فنه إذا نبه انتبه، وله حكم المستيقظ؛ فإنه لا تسقط ولايته على ماله؛ بخلاف المغمى عليه.

ولأن النوم لا يزيل الخطاب بشيء من العبادات، بخلاف الإغماء؛ فإنه يزيل الخطاب بالصلاة؛ فأشبه الحيض.

وإذا عرفت أن من أغمي عليه جميع النهار وقد نوى من الليل، [يجب عليه القضاء] – عرفت أن وجوبه عليه إذا لم ينو أولي؛ وهو مصرح به كذلك.

وقد قيل: إنه لا يلزمه أيضاً كالمجنون.

قال: وإن أغمي عليه في بعض النهار – أي: وكان قد نوى من الليل – ففيه ثلاثة أقوال:

أحدها: يبطل صومه؛ [لأنه لو دام جميع النهار، أبطل صومه]، فإذا طرأ في بعضه، أبطله؛ كالجنون.

[ولأنه معنى إذا طرأ أسقط فرض الصلاة، فأبطل الصوم كالحيض]؛ وهذا ما نص عليه في "اختلاف العراقيين"، و"اختلاف الحديث"، ولفظه في "اختلاف

ص: 298

العراقيين": "وإن أغمي عليها وهي صائمة، أو حاضت، بطل صومها"، ولفظه في "اختلاف الحديث": "لو أصاب الرجل امرأته في شهر رمضان، ثم أغمي عليه، أو حاضت [المرأة] – فقد قيل: لا كفارة عليه، وقيل: عليه الكفارة"، وقد اختاره في "المرشد".

والثاني: لا يبطل.

قال بعضهم: لأنه وجد منه النية وإمساك، مع العقل في بعض النهار؛ فأشبه ما لو كان في أول النهار.

قلت: وهذا يقتضي تعليل الشيخ بنفسه؛ لأن من جملة ما اشتمل عليه هذا القول إذا كان قد أغمي عليه وقد أصبح مفيقاً؛ ولأجل ذلك قال في "المهذب": إن هذا القول لا أعرف له وجهاً.

ووجه القاضي الحسين بأن الصوم لابد فيه من وجود القصد، فإذا لم يفق في شيء من النهار لا يكون قاصداً إليه، وإذا أفاق جزءاً من النهار، فقد قصد، ثم استدامة القصد ليست بشرط؛ كما لو نام في النهار، أو عزبت نيته، لا يضره ذلك.

وادعى في الخلاصة أن هذا القول أعدل الأقوال، وهو الذي صححه الرافعي، ونص عليه الشافعي في كتاب الصيام من "المختصر"؛ حيث قال: إذا نوى من الليل، وأصبح مغمى عليه، واتصل أكثر من يوم – فاليوم الذي بعد الأول لا يصح؛ لأنه ما نواه من ليلته، وأما الأول: فإن لم يفق [في بعضه] لم يصح صومه، وإن أفاق في بعضه، صح صومه، ولا فرق عليه بين أن يكون زمن الإفاقة كثيراً أو يسيراً.

والثالث: إن كان مفيقاً في أول النهار لم يبطل، أي: وإن كان مغمى عليه بطل لأنه وقت الشروع في العبادة؛ فكان ما بعده تابعاً له، وهذا ما نص عليه في كتاب الظهار من "البويطي"، ولفظه: إن كان مفيقاً عند طلوع الفجر صح صومه.

ص: 299

وصححه القاضي أبو الطيب والغزال في "الوجيز".

قال الرافعي: والجمهور على تصحيح الذي قبله.

وقيل: إن كان مفيقاً في طرفيه، لم يبطل. هذا قول ابن سريج خرجه من اعتبار النية في طرفي الصلاة على القول الصحيح؛ وبه يحصل في المسألة أربعة أقاول: ثلاثة منصوصة، وواحد مخرج؛ وهذه طريقة أبي إسحاق المروزي؛ كما قال في "الحاوي"، وقال: إنها إحدى المسائل التي غلط فيها على الشافعي؛ لأنه جعل ما قاله ابن سريج قولاً رابعاً، وليس للشافعي ما يدل عليه، ووراءها طرق:

إحداها – وهي التي نسبها القاضي الحسين إلى أبي إسحاق المروزي، وذكرها الماوردي، ولم يعزها إلى أحد -: أن المسألة على قولين لا غير: ما نص عليه في أراد بالإغماء الجنون.

والثانية: القطع بأن المسألة على قول واحد، وهو الثالث: حكاها ابن الصباغ وغيره، واختارها أبو العباس بن سريج؛ كما قال الماوردي وأبو الطيب، وأنه أول نصه فيما عداه، فقال:

أما قوله في كتاب الصيام: ["إذا أفاق في بعض النهار"، فإنه أطلقه، ثم قيده هنا؛ فيحمل المطلق على المقيد.

وأما قوله في "اختلاف العراقيين"، ففيه تأويلان:

أحدهما: أنه ذكر الحيض والإغماء، وأجاب عن الحيض.

والثاني: أنه أراد بالإغماء هنا الجنون.

والثالثة- حكاها الغزالي-: القطع بالقول الثاني وأن نص الإبطال محمول على الإغماء المستغرق.

وقوله في كتاب الظهار: "إذا كان في أول النهار مفيقاً لم يبطل" جرى اتفاقاً من غير قصد، والمقصود التنصيص على لحظة ما، وهي المنسوبة في "تعليق" القاضي الحسين إلى القفال.

ص: 300

أما إذا لم يكن قد نوى من الليل، لزمه القضاء بلاخلاف.

فرع: لو كان قد نوى من الليل، ثم شرب دواء؛ فزال عقله بالنهار – قال في "التهذيب": يترتب على الإغماء: فإن قلنا هناك: لا يصح، فهاهنا أولى، وألا فوجهان، والأصح: أن عليه القضاء.

ولو شرب المسكر ليلاً، وبقي سكره في جميع النهار، فعليه القضاء، وإن بقي في بعضه، ثم صحا؛ فهو كالإغماء في بعض النهار؛ قاله في "التتمة".

قال: وإن طهرت الحائض، أو أسلم الكافر، أو أفاق المجنون، أو قدم المسافر، وهو مفطر – استحب لهم مساك بقية النهار تشبها بالصائمين، وللخروج من خلاف أبي حنيفة؛ فإنه أوجب على المذكورين سوى المجنون الإمساك؛ كما حكاه القاضي أبو الطيب عنه، ولا يجب ذلك:

أما في المسافر؛ فلقوله – عليه السلام: "إذا قدم المسافر من سفره مفطراً، أكمل فطره" رواه الدارقطني.

وأما في المجنون والحائض؛ فلأنهما أفطرا بعذر أبلغ من السفر؛ لأنهما لا يصح منهما الصوم؛ فكانا بعد الوجوب أولى.

وأما في الكافر؛ فلأن الشرع ألحقه بالمذورين عند إسلامه؛ بدليل عدم إيجاب القضاء عليه؛ وهذا ما أورده الماوردي، وكذا القاضي أبو الطيب، وحكاه عن نصه [في"المختصر" في الحائض والمسافر، وفي "حرملة" في الكافر، وحكاه البندنيجي عن نصه] في "البويطي" في الكافر يسلم والمجنون يفيق والصبي يبلغ، مع حكاية وجه في وجوب الإمساك عليه، وقد تقدمت حكايته.

ص: 301

وسكت الشيخ عن الصبي؛ لاستغنائه بذكر المجنون؛ لأنه سوى بينهما في عدم إيجاب يوم الإفاقة [و] البلوغ على ظاهر المذهب، وقد حكى ابن يونس وجوب الإمساك على الحائض تطهر والمسافر يقدموه ومفطر، وادعى القاضي الحسين: أن أصحابنا لم يختلفوا في ذلك، وتبعه الإمام؛ لتحقق المبيح لهم، ولعله أراد المراوزة، وألا فقد حكى صاحب "المعتمد" في وجوب الإمساك على الحائض والنفساء وجهين، وجريانهما في المسافر من طريق الأولى. وسكوته عن المريض تعافى، يجوز أن يكون لاعتقاده أنه ملحق بالمسافر يقيم في أنه يستحب له الإمساك، كما ألحقه البغداديون به، ولم يحك البندنيجي والقاضي أبو الطيب وابن الصباغ غيره، ويؤيده ما سنذكره عن نصه في "البويطي" فيما إذا بدأ وهو صائم. ويجوز أن يكون لاعتقاده أنه يجب عليه الإمساك؛ كما صار إليه البصريون من أصحابنا، وحكاه القاضي الحسين أيضاً، وفرق بأن الفطر بالمرض ضرورة، فإذا ارتفع زالت الضرورة؛ فزالت به إباحة الأكل، والفطر بالسفر ليس بضرورة؛ فلا يتغير بالإقامة.

قال الماوردي: والقول الأول أقيس؛ وهذا أشبه.

ص: 302

والحامل والمرضع إذا زال خوفهما، قال البندنيجي:[ليس] لأصحابنا فيهما نص، والذي يجيء أنهما كالمريضين.

والحكم فيما إذا قدم المسافر من سفره نهاراً، ولم يكن قد أكل، ولا شرب، ولا نوى الصوم من الليل – كالحكم فيما لو قدم وكان قد أكل.

وحكى القاضي الحسين والإمام وغيرهما من المراوزة وجهين في إباحة الأكل في هذه الصورة.

ووجه المنع: أنه لم يتحقق [فطره] بالأكل.

والصحيح: الجواز، وهما – كما قال الرافعي – مفرعان على المذهب الصحيح في أنه إذا قدم صائماً يلزمهم إتمام الصوم، والله أعلم.

قال: وإن بلغ الصبي أو قدم المسافر وهما صائمان، فقد قيل: يلزمهما إتمام الصوم؛ لان سبب الرخصة زال قبل الترخص؛ فلم يجز الترخص بعده؛ كما لو قدم المسافر في أثناء الصلاة، وبل أولى؛ لأنه قد نوى القصر وه والمرخص فيه وهنا نوى الصوم [وهو] ضد الرخصة، وبالقياس على ما لو زال المرض وهو صائم، فإنه يلزمه [الإتمام] قولاً واحداً؛ كما قاله ابن الصباغ وغيره، وهذا ما جزم به ابن الصباغ والإمام تبعاً لأبي الطيب في حق الصبي في موضع، وحكاه عن أبي إسحاق في حق المسافر في آخر.

فعلى هذا إذا أتم المسافر صومهن لا قضاء عليه، وإن أتمه الصبي فهل يجب عليه قضاؤه؟ قال ابن الصباغ والبندنيجي وغيرهما: إذا لم نوجب عليه القضاء وقد بلغ مفطراً، فهاهنا أولى، وإذا أوجبناه ثم، ففي وجوبه هاهنا وجهان:

قال أبو إسحاق: لا قضاء.

وقال غيره: [عليه] القضاء؛ لأنه لم ينو الفرض.

ص: 303

ومثل هذا الخلاف قد تقدم فيما إذا بلغ الصبي في أثناء الصلاة.

والمذهب في حق المسافر – كما قال القاضي الحسين -: لزوم الإتمام لأن الشافعي قال: "إن قدم نهاراً مفطراً، أكل"، دل على أنه لو قدم صائماً لا يأكل، ولم يحك في "الوسيط" تبعاً للإمام غيره.

وقد قيل: إنه لا يلزمهما إتمام الصوم وهو المنسوب في "الحاوي" في حق الصبي إلى ابن سريج، وأنه يجب عليه القضاء، وفي حق المسافر إلى ابن أبي هريرة؛ كما حكاه ابن الصباغ وغيره.

وقال البندنيجي: إنه نص عليه في "البويطي"، وقال الماوردي: إنه نص عليه في "حرملة"؛ لأنه أبيح له الإفطار في أول النهار ظاهراً وباطناً فجاز له استدامة ذلك؛ كما لو أفطر. وهذا التعليل يقتضي عدم إلحاق الصبي به إن كان يقول: [إن الصبي إذا قدم وهو مفطر] يلزمه إمساك بقية النهار، [ويقتضي إلحاقه به إن كان يقول: لا يلزمه إمساك بقية النهار].

وقد ألحق به في "المهذب" المريض يبرأ وهو صائم، يجوز له الفطر، وحكاه البندنيجي عن نصه في "البويطي" أيضاً.

قال الشيخ: وعندي: أنه يلزم المسافر دون الصبي؛ لأن المسافر شرع فيه وهو فرض عليه بنية الفرضية، وسبب الرخصة قد زال قبل الترخص فلم يكن له الترخص كما لو قدم المسافر في أثناء الصلاة؛ فإنه لا يقصر، والصبي شرع في

ص: 304

[فعل] بنية النفل؛ فلا يجزئه عن الفرض، وإذا لم يجزئه صار كما لو بلغ مفطراً، لا يلزمه الإمساك.

وقد ادعى الماوردي أن مذهب الشافعي وما عليه جمهور أصحابه: أنه يتم صومه واجباً، ولا إعادة عليه، ولا يمتنع أن يكون متنفلاً بالصيام في أوله مفترضاً في آخره؛ كالصائم المتطوع إذا نذر إتمام صومه إن قدم زيد، فإذا قدم زيد لزمه إتمامه وإن كان متطوعاً في ابتدائه.

قال: ومن نوى الخروج من الصوم، أي: مثل: أن قال: أبطلت الصوم، أو قطعت النية – بطل صومه؛ لأن النية شرط في جميعه، فإذا قطعها في أثنائه، بقي الباقي بغير نية؛ فبطل، وإذا بطل البعض، بطل الكل.

قال القاضي الحسين: وللشافعي ماي دل عليه في صوم المظاهر؛ فإنه قال: "إن صام فيها يوماً تطوعاً، أو غير النية إلى التطوع – فعليه أن ستأنف" وهذا ما أورده البندنيجي.

وقيل: لا يبطل؛ لأنها عبادة تتعلق الكفارة بجنسها؛ فلم تبطل بنية الخروج؛ كالحج. وهذا ما ادعى الرافعي في كتاب الاعتكاف أنه أظهر، وحكاه ابن الصباغ عن القاضي أبي الطيب والشيخ أبي حامد، واقتصر على حكايته، [وقد رأيت في تعليق القاضي أبي الطيب [قبل باب الاعتكاف حكاية الوجهين، وفرق على الأول – وهو الذي صححه البغوي] وصاحب البحر في باب صوم التطوع وغيرهما – بينه وبين الحج بأن الحج لا يخرج منه بما يفسده، والصوم يخرج منه بما يفسده؛ فكان كالصلاة.

وقد جعل الماوردي محل الوجهين ما إذا قصد الأكل والجماع، ولم يفعل، والمذكور منهما في تعليق القاضي الحسين - والصورة هذه – عدم البطلان.

قال الماوردي: وإذا قلنا بالبطلان ففي زمان فطره وجهان:

أحدهما: في الحال.

والثاني: حتى يمضي عليه من الزمان قدر الأكل والجماع.

وحكى الشيخ أبو حامد الوجهين فيما إذا شك هل [يخرج] من صومه أم لا؟

كما قال ابن الصباغ.

ص: 305

والمختار في "المرشد": الإبطال، وبه جزم الماوردي والقاضي الحسين؛ فإنه إذا نوى أن يفطر بعد ساعة، [لا يكون مفطراً، وكان على صومه؛ وهذا بخلاف الصلاة على أحد الوجهين إذا نوى أن يكون بعد ساعة] غير مصل.

[و] قال في التهذيب: إذا نوى أن يخرج إذا قدم زيد، فهل يخرج إذا قدم؟ فيه وجهان كالصلاة.

فرع: لو كان صائماً عن فرض غير رمضان، فنوى أن يقلبه نذراً، وقلنا: إن نية الخروج مبطلة – لم يحصل له النذر، وهل يبقى تطوعاً؟ فيه وجهان، قال في "التهذيب": وهما جاريان فيما لو رفض نية الفرضية فقط، ولو كان ذلك في صوم رمضان، لم ينقلب نفلاً؛ لأنه لا يقبله كما تقدم.

قال: وإن أكل أو شرب، أي: ما يعتاد أكله وشربه أولاً، وصل إلى جوفه أو لا؛ كما إذا وصل إلى حلقه، ثم ذرعه القيء؛ كما قاله في "التهذيب"، وحكى عن ابن القاص، وأشار إليه الإمام بقوله: فإذا جاوز الشيء الحلقوم، أفطر.

[أو] استعط، أي: وهو [أخذ] الدواء وغيره من أنفه، حتى يصل دماغه، أو احتقن، أي: وهو جعل الدواء ونحوه في الدبر، أو صب الماء في أذنه، فوصل إلى دماغه، أو طعن جوفه، أي: فنفذت الطعنة إليه، أو طعن بأذنه، أو داوى جرحه؛ فوصل الدواء إلى جوفه، أي: فنفذت الطعنة إليه، أو طعن بأذنه، أو داوى جرحه؛ فوصل الدواء إلى جوفه، أو استقاء، أي الطعام او الشراب وإن لم يصل إلى الأمعاء كما صرح به الإمام، وسواء في ذلك رجع من فيه إلى جوفه أو لا؛ بأن تحفظ عن ذلك، أو جامع؛ أي: في قبل أو دبر، ولو من بهيمة أنزل أو لم ينزل، أو باشر فيما دون الفرج، أي: بالمضاجعة والمعانقة، أو المفاخذة، أو التقبيل؛ فأنزل، أو استمنى فأنزل، ذاكراً للصوم، عالماً بالتحريم – بطل صومه:

أما في الأكل والشرب والجماع؛ فلأن الله تعالى أباح ذلك إلى الفجر بقوله: {مِنْ

ص: 306

الْفَجْرِ} [البقرة:187] فعنى إباحة ذلك [إلى الفجر]؛ فالحكم بعد الغاية مخالف لما قبلها، وسنذكر من حديث أبي هريرة في الأكل والشرب ناسياً ما يدل على الفطر بهما إذا تعمدهما.

وفي قصة الأعرابي ما يدل على فطره بالجماع.

وأما في الاستعاط؛ فلما روى أبو داود عن لقيط بن صبرة قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "بالغ في الاستنشاق إلا أن تكون صائماً"،قال الترمذي: وهو حسن صحيح.

وجه الدلالة منه: أنه نهى عن المبالغة فيه، فلولا أن الوصول [إلى أعلى] الدماغ ينافي الصوم، لما نهاه عن ذلك.

وأما في الاستقاء فلما روى أبو داود عن أبي هريرة قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "من ذرعه القيء وهو صائم، فليس عليه قضاء، وإن استقاء فليقض"، قال الترمذي وهو حسن غريب.

واختلف الأصحاب في علة الفطر:

فقيل: لكونه خروج خارج غير معتاد.

ص: 307

وقال ابن سريج لأنه يرجع شيء منه إلى الجوف؛ فيكون من قبيل دخول داخل.

قال الإمام: فإن قيل: الغالب أنه لا يرجع شيء إذا استقاء المرء والرجوع نادر فكيف يعلل الفطر به؟ قلنا: ليس كذلك؛ فإنه يمتزج بالريق [بما يمتزج ثم لأن الماء يمتزج بالريق] عند المضمضة من غير مبالغة؛ فينبغي أن يكون مفطراً؛ لأن الريق بطبعه لا يمازج الماء؛ لغلظه ولزوجته، والذي يمج الماء من فيه لا يجد للماء أثراً، إلا البرد الذي برده؛ لطبيعة تمازج الريق للمجانسة في الغلظ واللزوجة.

وأما في الإنزال عند المباشرة؛ فللإجماع؛ كما قال الماوردي.

وغيره استدل لذلك بأن المجامعة تبطل الصوم وإن لم يحصل بها المقصود، وهو الإنزال، فلأن يبطله تحصيل المقصود منه أولى.

وغيرهما استدل بما روى أبو داود عن جابر بن عبد الله قال: قال عمر بن الخطاب: هششت فقبلت وأنا صائم، [فقلت]: يا رسولا لله، صنعت اليوم أمراً عظيماً، قبلت وأنا صائم، قال:"أرأيت لو مضمضت من الماء وأنت صائم؟ قلت: لا بأس [قال]: "فمه". فشبه القبلة بالمضمضة، وهو إذا تمضمض، فوصل الماء إلى

ص: 308

جوفه، أفطرن وإن لم يصل لم يفطر.

وهذا فيه نظر من وجهين:

أحدهما: أن النسائي خرجه، وقال: هذا حديث منكر.

والثاني: ما سنعرضه في وصول الماء إلى الجوف عند الاستنشاق.

وأما في الباقي فبالقياس على ما نص عليه؛ لاشتراكهما في الوصول إلى الجوف بحيلة.

ووراء ما ذكره الشيخ في بعض الصور وجوه:

أحدها: فيما إذا احتقن: أنه لا يفطر كما حكاه الرافعي عن القاضي الحسين، وهو غريب.

والثاني: فيما إذا صب في أذنه شيئا ًفوصل إلى دماغه، كما سنذكره.

والثالث: فيما إذا استقاء وتحفظ، فلم يرجع منه شيء إلى جوفه، لا يفطر، بناء على علة ابن سريج.

ولو نزل إلى جوفه بعد التحفظ، قال الإمام: فهو كوصول الماء إلى الجوف عند المبالغة في المضمضة.

والرابع: أن إتيان البهيمة إذا لم يتصل به الإنزال، لا يفسد الصوم؛ إذا قلنا: الواجب فيه التعزير فقط؛ حكاه القاضي الحسين.

والخامس: إذا أنزل، وقد باشر من غير حائل: أنه كما إذا وصل الماء إلى جوفه عند المبالغة في المضمضة، وسنكمل الكلام فيه.

ص: 309

ثم [في] معنى الأكل سفُّ الأعيان ويلعها، سواء كان مما يعتاد فيها ذلك [أو لا] كالنرد والحصا والزجاج، ونحو ذلك، وكذا الخيط وإن بقي بعضه خارجاً؛ لأنه ممنوع من ذلك إجماعاً، ولولا أنه يفطر لما منع منه؛ قاله الماوردي.

وقال ابن الصباغ: إن الفطر بذلك مما أجمع عليه أهل العصر، وإن كان قد سبق خلاف العلماء فيه.

ولا يلتحق بذلك التصدي لحصول غربلة الدقيق وغبار الطريق في جوفه، مثل: أن يفتح فاه لأجل ذلك، على أصح الوجهين في "التهذيب"، كما لا يفطر به إذا حصل من غير قصد اتفاقاً.

قال الرافعي: وقد شبهوا هذا الخلاف بالخلاف فيما إذا قتل البراغيث عمداً أو تلوث بدمائها: هل يقع عفواً؟ وهو المذكور في "التتمة". وهل يلتحق به ابتلاغ النُّخامة وهو ما يستنزله من رأسه؛ فيحصل [في] فيه؟؟ فيه خلاف، وادعى البندنيجي: أن ظاهر المذهب الفطر، وبه وقال الماوردي بعد حكاية الوجهين في الفطر بالنخامة: والصحيح: أنه إن أخرجها من صدره، ثم ابتلعها، فقد أفطر؛ كالقيء، وإن أخرجها من حلقه أو دماغه، لم يفطر كالريق.

وحكى الإمام عن شيخه أنه كان يقول: ما يجري من النخامة من الدماغ إلى الحلقوم، فلا مؤاخذة به، ولا يكلف صرفه عن سير الحلق إلى فضاء الفم، ثم أراد رده، فهذا يفطر. قال: والوجه أن تقول: ما لا يشعر الصائم به، فهو محطوط عنه، وما يجري منه وهو على علم وخبر: فإن لم يقدر على رده، فلا فطر، وإن قدر على صرفه ومجه، فلم يفعل، ففيه خلاف بين الأصحاب:

ص: 310

منهم من لم يؤاخذه به، وحسم الباب ما لم يتكلف صرفه من مجراه إلى الفم.

ومنهم من حكم بالفطر إذا تركه في مجراه مع القدرة على مجه؛ وهذا ما أورده القاضيان الحسين وأبو الطيب.

قال الرافعي: وهو الذي أجاب به الحناطي وكثير من الأئمة، ولم يذكروا غيره.

وفي معنى الشرب بلع ما جمعه من ريقه في كفه أو خرج على ظاهر شفتيه؛ كما حكاه القاضي أبو الطيب والإمام، وكذا ما اتصل بالخيط المحروز بالفم كما يفعله الخياطون ولا أثر للقلة في ذلك.

وللشيخ أبي محمد احتمال فيه؛ لأن القدر النادر منه أقل مما يبقى من أجزاء الماء في داخل الفم بعد المضمضة.

قال الإمام: وللاحتمال في هذا مجال.

قال الرافعي: وخص في "التتمة" الوجهين بما إذا كان جاهلاً بأن ذلك لا يجوز، [و] قال فيما إذا كان عالماً: يبطل صومه بلا خلاف، ولا يلتحق به بلع ما اجتمع في فيه من غير قصد؛ فإنه لا يفطر [به]؛ لتعذر التحرز منه، وكذا لو جمعه في فيه قصداً وابتلعه على أحد الوجهين في "تعليق" البندنيجي وغيره.

ومقابله مأخوذ – كما قال الإمام – من قول الشافعي: "وأكره العلك؛ لأنه يجمع الريق في الفم".

والأصح في "النهاية": الأول. نعم: لو كان ريقه متغيراً بطاهر كما إذا أدخل

ص: 311

خيطاً مصبوغاً بطاهر، فتغير ريقه به وابتلعه – أفطر به، ومن طريق الأولى إذا تغير بنجس، ولو حكم بنجاسته من غير تغير كما إذا دميت لثته، فبصق حتى صار الريق أبيض ولم يغسل فاه، وابتلع ريقه بعد ذلك- فهل يفطر؟ فيه وجهان حكاهما القاضي الحسين، اختيار الحناطي والروياني منهما: عدم الفطر؛ لأن ابتلاع الريق مباح، وليس فيه عين أخرى وإن كان نجساً.

وقال في "التهذيب": إنه لا يجوز له ابتلاعه، ولو ابتلعه، فالمذهب بطلان صومه. وهو المذكور في "التتمة"، قال الرافعي: وهو الأظهر عند الأكثرين.

ولو أخرج الريق على طرف لسانه، ثم ابتلعه، قال الإمام حكاية عن الأئمة: فلا بأس؛ لأن اللسان معتبر بداخل الفم.

وفي "التهذيب" حكاية وجه في الفطر به.

وفي معنى الاستعاط: [ما] إذا وصل الموضوع في الأنف إلى الجوف؛ كما قال الماوردي.

وفي معنى الاحتقان: ما إذا أدخل إصبعه في دبره، أو فعل غيره به ذلك بإذنه.

قال القاضي الحسين: وإذا أخرجه بطل وضوءه.

قال: وينبغي للصائم أن يحفظ إصبعه حالة يستنجي، وخاصة رأس الأنملة من مسربته؛ فإنه لو دخل هي أدنى شيء من رأس أنملته لبطل صومه، والاحتياط أن يتغوط بالليل قبل الفجر، ويبول بالنهار، وكذا في معناها ما إذا قطر في إحليله شيئاً أو أدخل فيه مبضعاً؛ فوصل إلى مثانته.

ص: 312

وفي "الرافعي": أن أبا حنيفة لم يجعل المثانة مما يفطر الواصل إليها.

وفي "المعتمد" حكاية [وجه] يوافقه في المثانة، والذي رأيته في "تعليق" أبي الطيب: أن أبا حنيفة قال: إذا أدخل مروداً [في إحليله، فوصل] إلى المثانة، أفطر دون ما إذا لم يصل إليها. وهو ما حكاه غيره عن [بعض] الأصحاب، وقال الإمام: إنه لا أصل له.

وطريق الجمع بين النقلين عن أبي حنيفة: أن يقال: له في المسألة روايتان [كما] حكاهما القاضي الحسين: فالرافعي نقل أحداهما، وكذلك ابن الصباغ والفوراني، وأبو الطيب نقل الأخرى.

والمنقول في "تعليق" البندنيجي في حالة عدم الوصول إلى المثانة عن نص الشافعي في البويطي "والأم"-: الإفطار، وقاسه في "التهذيب" على ما إذا وصل الماء إلى حلقه، ولم يصل إلى معدته، وهل يلتحق بها ما إذا كان به ناسور، فرده إلى معدته بإصبعه أو لا؟ فيه وجهان، أصحهما في "التهذيب": لا؛ كما لو ردَّت بنفسها.

وفي معنى طعن الجوف المتبادر إليه الذهن عند الإطلاق- وهو جوف البدن – طعن ما عداه من الأجواف التي فيها قوة محيلة؛ كما قلنا: إن وصول الطعام وغيره إليها بفطر، وهكذا هي كالجوف في الفطر عند وصول ما تداوى به إليها.

قال الإمام: ومنه ما إذا وصل الدواء من شجة أمّةٍ إلى وراء القحف؛ فإنه يفطر به، ولا يتوقف الفطر على الوصول إلى ما وراء خريطة الدماغ، ولا يلتحق بذلك ما إذا طعن الساق والفخذ، وانتهى طرف السكين إلى مكان المخ؛ فإنه لا يفطر بذلك؛ إذ العضو لا يعد مجوفاً.

وفي معنى الاستقاء إذا قلنا: [إنه] يفطر به وإن لم يرجع منه شيء إلى جوفه عند التحفظ – كما هو الصحيح –ما لو اقتلع نخامة من صدره، ولفظها على أحد الوجهين في "النهاية"، وهو الذي يقتضيه كلام [القاضي] أبي الطيب، ولم يورد

ص: 313

القاضي الحسين سواه. نعم، قال: لو كان في حلقه حين أخرجه لم يفطر.

واحترز الشيخ بقوله: "فوصل إلى دماغه" عما إذا صب في أذنه، فلم ينته إلى الدماغ؛ فإنه لا يفطر بذلك؛ كما قطع به الشيخ أبو علي وطوائف من علماء المذهب؛ كما قال الإمام؛ فإن المفطر الوصول إلى باطنٍ فيه قوةٌ تحيل الواصل إليه غذاء أو دواء، وداخل الأذن ليس فيه ذلك.

وعن الشيخ أبي محمد: القطع بأنه يفطر.

وفي "التهذيب": أنه قيل: إذا صب في أذنه شيئا، لا يفسد صومه، وإن ظهر أثره في الدماغ؛ لأنه لا منفذ من الدماغ إلى الأذن، وإنما يصل إليه من المسام كما لو اكتحل لا يبطل صومه وإن وجد طعمه، وهذا ما أورده في "الإبانة" نقلاً وتوجيهاً.

قال الإمام: والتردد في داخل الإحليل فوق المثانة قريب من هذا التردد.

ولا خلاف عندنا في أن ما وصل إلى الجوف والدماغ والمثانة من المسام لا يفطر [به]، ومنه الكحل الحاد يجد الإنسان طعمه في الفم، ولا يفطر به، وكذا شم الروائح الزكيَّة، وألحق به إدراك الذوق مع مجٍّ جرم المذوق؛ قاله الإمام والمتولي وغيرهما.

واحترز الشيخ بقوله: "فوصل الدواء إلى جوفه" عما إذا جاوز الدواء سطح البشرة، ولم ينته إلى فضاء البطن؛ فإن الوجه القطع – كما قال الإمام – بأنه لا يفطر؛ فإن الوصول إلى هذا المكان لو كان يفطر لأفطر وصول السكين إليه في ابتداء الأمر بالجروح.

وفي بعض التصانيف غلط ظاهر بالحكم بالفطر بمجاوزة الدواء البشرة.

قال: وهذا محمول على [تدبيج] العبارة وسوء الإيراد، والمراد الوصول إلى الباطن كما وصفنا.

قلت: إن كان لا مأخذ للتغليط إلا ما ذكره الإمام من علة عدم الفطر فهي تندفع

ص: 314

بفرض المسألة في صورة وجد الجرح بغير إذنه.

وتقييد الشيخ الفطر بخروج المني بما إذا كان سببه المباشرة فيما دون الفرج أو الاستمناء يفهمك أنه لو خرج بغير هذين السببين، لا يفطر به، سواء كان على وجه الشبق أو عقيب النظر بالشهوة مرة واحدة أو مراراً، وإن كان بتكرار النظر آثماً كما صرح به الأصحاب.

وكذا يفهم أنه لو كان ذكره؛ لعارض؛ فأنزل: أنه لا يفطر، وقد حكى صاحب "البيان" عن الصيمري وجهين:

قال: ويشبه أن يكون ذلك بناء على القولين في سبق الماء إلى حلقه في المضمضة والاستنشاق.

ولفظ المباشرة يخرج ما [إذا] لمس الشعر؛ فأنزل - عن الفطر به أيضاً؛ لأن المباشرة مأخوذة من التقاء البشرة.

وفي "التتمة" في هذه الصورة وجهان؛ بناء على انتقاض الوضوء بلمسه، ومن طريق الأولى إخراج ما إذا قبل من وراء حائل؛ فأنزل - عن بطلان الصوم به، وهو موافق لقوله في "التتمة": لو قبل فوق خمار؛ فأنزل، لا يبطل صومه. لكن ظاهر كلام الشافعي - كما قال بعضهم، وادعى أنه المذهب - أنه [يفطر] فيما إذا وقعت القبلة ونحوها من غر حائل أو معه، وإن منهم من قال: إذا كان من غير حائل، واتصل بها الإنزال، فهو كوصول الماء إلى الجوف عند المبالغة في المضمضة، [وإن كان مع الحائل فكالمضمضة] وهو المذكور في "الوسيط"، وهو من تخريج الإمام؛ فإنه حكى عن شيخه رواية وجهين فيما إذا ضم امرأته إلى نفسه وبينهما حائل، ثم قال: وهو عندي كسبق الماء في صورة [المضمضة].

فإن ضاجعها متجرداً، فالتقت السرتان، فهو كصورة المبالغة في المضمضة، والذي عليه الجمهور الأول.

ص: 315

قال: وعليه القضاء؛ لقوله صلى الله عليه وسلم "وإن استقاء فليقض"؛ فنص عليه عند الفطر بالاستقاء، فنقيس الباقي عله، ولأنه واجب بالكتاب والسنة مع العذر – وهو السر والمرض والحيض فلأن يجب عند فقده من طريق الأولى.

ولأن فيه استدراكاً لمصلحة الأداء بقدر الإمكان.

وقيل: إن كان فطره بالجماع، فلا يجب؛ لما سنذكره، وفيه وجه آخر يأتي.

قال: وإمساك بقيه النهار تشبهاً بالصائمين بقدر الإمكان، هل يجب مع ذلك شيء آخر؟ ينظر:

إن كان فطره بالجماع، فنعم: وهو الكفارة لا غيرن كما سيأتي.

ون كان بغيره، فالتعزير، وهل يجب عليه مدُّ من طعام أو لا؟ فيه وجهان في كتب المراوزة:

وجه الوجوب: إلحاقه بالحامل، والمرضع إذا أفطرت؛ خوفاً على ولدها، بل أولى، وهو ما صححه النواوي والبغوي.

ووجه مقابله- وهو الذي أورده العراقيون لا غير، وقال الإمام: إنه أصح الوجهين، والرافعي: إنه أظهر الوجهين – أن المد لا يكفر عصيانه. وقد جعله المزني أصلاً، وقاس عليه عدم وجوب الفدية عند فطر الحامل والمرضع؛ للخوف على ولدها.

وقرب الإمام الوجهين [من الخلاف] فيمن ترك التشهد عمداً، هل يسجد؟

ووجه التقريب: أن الساهي بالترك أثبت له الشرع مستدركاً وجابراً، والمتعمد لا يستحق ذلك؛ فاستمر نقض الصلاة عليه.

وحكى القاضي الحسين وجهاً آخر، نسبه الماوردي إلى ابن أبي هريرة: أنه يجب

ص: 316

عليه فدية غير مقدرة: فوق كفارة الحامل والمرضع، ودون كفارة المجامع.

قال الماوردي: وهذا لا يدل عليه خبر ولا أثر ولا قياس.

وقيل: يجب عليه كفارة المجامع، كما سنذكره.

قال: وإن فعل ذلك ناسياً – أي: لرمضان –أو جاهلاً، أو فعل به شيء من ذلك مكرهاً – أي: بأن أوجر الطعام والشراب، أو شدت المرأة ووطئت، أو استدخلت المرأة ذكر رجل وهو نائم، أو عطن بغير إذنه – لم يبطل:

أما في النسيان؛ فلما روى مسلم عن أبي هريرة قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم:"من نسي وهو صائم، فأكل أو شرب، فليتم صومه؛ فإنما أطعمه الله وسقاه".

ورواية أبي داود عنه أنه قال: جاء رجل إلى النبي صلى الله عليه وسلم، فقال: يا رسول الله، إني أكلت وشربت ناسياً، وأنا صائم، فقال:"الله أطعمك وسقاك". قال في "مختصر السنن": وقد أخرجه البخاري ومسلم وغيرهما.

فنص على أنه لا يفطر بالأكل والشرب، ونبه به على أنه لا يفطر بما عداه من طريق الأولى.

وأما في الجهل والإكراه؛ فلأنهما ملحقان بالنسيان في وضع الإثم؛ قال – عليه السلام:"رفع عن أمتي الخطأ والنسيان وما استكرهوا عليه"؛ فكذلك في عدم الفطر.

ولأن الناسي جاهل بتحريم الصوم، وقد علل النبي صلى الله عليه وسلم عدم فطره بكون الله أطعمه وسقاه؛ فكان فيه دليل على أن الفطر لا يحصل بغير فعل الصائم.

ثم صورة الجهل المؤثر في عدم بطلان الصوم: أن يقدم على ذلك؛ لأنه حديث عهد بالإسلام، أو نشأ في بادية بعيدة؛ كما قال البغوي [وتبعه]

ص: 317

الرافعي.

وبعض المتأخرين صوره بما إذا أكل ناسياً أو اغتاب؛ فظن أنه أفطر بذلك؛ فتعاطى المفطرات عامداً؛ بناء على ذلك، ثم بان له أنه لم يفطر، وداعيه إلى ذلك: أن من شرط الصوم النية، وشرط المنوي: أن يعلم حقيقته، وحقيقة الصوم شرعاً – كما تقدم – الإمساك عن المفطرات، فمن لا يعلم المفطرات لا يعلم حقيقته، وإذا لم يعلم حقيقته؛ فلا [تصح نيته]؛ ولذلك لم يتعرض كثير من المصنفين إلى مسألة الجاهل، بل تكلموا في مسألة النسيان وهذه المسألة، ومنهم البندنيجي، وقاس عدم الفطر فيها على من سلم في الظهر من اثنتين [ناسيا]، فتكلم معتقداً أنه خرج من الصلاة، لم تبطل صلاته.

قال: وكذلك الحكم فيمن احتجم أو قبَّل؛ فلم ينزل، واعتقد أنه قد أفطر، الباب واحد، وقد طرده فيما إذا أكل ناسياً؛ فظن الفطر به؛ فجامع عامداً: أنه لا يبطل صومه، وحكاه [عن الشيخ] أبي حامد.

قال: وكذلك لو احتجم، أو اغتاب، أو اعتقد أنه قد نسي النية، فوطئ، ثم بان أنه ما كان كذلك – فالحكم في الكل واحد، لا كفارة ولا قضاء، وهو الذي حكاه الجرجاني في "المعاياة".

[و] لكن الذي جزم به الماوردي والفوراني والبغوي وشيخه فيما إذا أكل

ص: 318

ناسياً، فاعتقد أنه أفطرن فجامع عامداً -: وجوب القضاء دون الكفارة.

[وعدم وجوب الكفارة] قد حكاه البندنيجي عن النص، ويعزى إلى "الأم"، وقضية ذلك: أن يطردوا قولهم بالفطر في الأكل وغيره عامداً إن لم نقل بأن جماع الناسي يبطله، كما [لا] يبطله الأكل ناسياً.

وقد اقتضى كلام الشيخ: أنه لا فرق فيما فعله ناسياً [بين القليل والكثير.

وقد حكى المتولي والبغوي في الفطر بالأكل الكثير ناسياً] وجهين. وقال الإمام هاهنا: إن المذهب لم يختلف في أن من نسي صومه، وأكل، لم يفطر، سواء استقل أو استكثر، وسواء وجد ذلك مرة أو مراراً؛ لأنه روي في مأثور الأخبار أن أعرابياً جاء إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم، وذكر أنه أكل ناسياً، فلم يحكم رسول الله صلى الله عليه وسلم بفطره، فعاد مرة أخرى أو مرتين، فتبسم رسول الله صلى الله عليه وسلم، ولم يحكم بفطره، وقال:"إنك بعيد العهد بالصوم". والقاضي أبو الطيب حكى هذا أثراً عن أبي هريرة.

وتبع الغزالي هاهنا الإمام في الجزم بعدم الفطر، وإن كان قد حكى وجهين في كتاب الصلاة.

[وقال الإمام ثم: إن الأكل القليل لا يبطل الصوم، وفي الكثير وجهان مرتبان على الكلام الكثير في الصلاة ناسياً، فإن قلنا: لا تبطل الصلاة]، فالصوم أولى، وألا ففي الصوم وجهان؛ لأن الناسي يعذر؛ لأنه فعل ليس بنادر، فأما الكثير فيبعد وقوع النسيان فيه؛ فإنه ينتبه وينَّبه، وما يقع نادراً لا يعتد به.

و [قد] حكى هو والمتولي وغيرهما من المراوزة في جماع الناسي قولاً آخر: أنه يبطل الصوم؛ كما قيل: إنه يفسد الحج.

والذي أورده العراقيون: أنه لا يبطله.

وقال البندنيجي: ليس للشافعي في المسألة نص، والذي يجيء على قوله: أن الواطئ كالآكل سواء، لا يفطر، ولا كفارة.

ص: 319

ثم إذا قلنا بالفطر، فهل تجب الكفارة؟ فيه وجهان حكاهما القاضي الحسين وغيره، وأصلهما في "التتمة": الوجوب، وعلى مقابله – وهو الظاهر في "الوسيط" والرافعي – فالفرق بينه وبين الحج المقيس عليه الأصل من وجهين، ذكرهما القاضي الحسين وغيره:

أحدهما: أن الحاج معه علامة كونه حاجًّا؛ فيكون في نسيانه مفرطاً، وعلامة الصائم لا تظهر؛ فلا يكون مفرطاً كل التفريط.

والثاني- وهو المشهور-: أن الجماع في الحج دائر بين الاستمتاع والاستهلاك، ولا يفرق فيهما بين [العامد والساهي]، [ومحظورات الصوم لا يستوي فيها العامد والساهي]؛ ولهذين الفرقين كان الصحيح عدم الفطر [أيضاً] كما ذكره الشيخ.

وكذا مقتضى كلام الشيخ: أنه لا رق فيمن فعل به شيء من ذلك مكرهاً بين أن يكون قد فعل لمصلحته أو لا لمصلحته؛ كما إذا أغمي عليه، وقلنا: لا يبطل صومه، فأوجر في فيه دواء، وهو الأصح في "التهذيب" وغيره.

وفي الحالة الثانية وجه أو قول: أنه يفطر [به]، كما سيأتي مثله في لزوم الفدية له إذا طيب لمصلحته وهو محرم.

قال: وإن أكره حتى فعل بنفسه، ففيه قولان:

أصحهما: [أنه] لا يبطل؛ لما ذكرناه.

ومقابله: أنه يبطل؛ لأنه حصل بفعله مع علمه بالحال؛ لدفع الضرر عن نفسه؛ فبطل كما لو فعله لدفع المرض وشدة الجوع والحر فدل على عدم المأثم، ولا يلزم من نفيه عدم إيجاب القضاء، ولولا الخبر الآخر في حق الناسي، لما حكمنا بصحة صومه، وهذا ما صححه في "الوجيز"؛ كما قاله الرافعي.

ص: 320

والذي رأيته في بعض النسخ تصحيح الأول؛ موجهاً له بأنه غير آثم.

وقال الرافعي: هذه علة الفطر، ومعنى قوله:"ليس بآثم": أن الإكراه إنما يؤثر في [دفع الإثم] على ما اقتضاه الخبر، [و] حصول الفطر لا يتعلق به إثم؛ وعلى هذا [هل] يجب عليه مع القضاء شيء؟

إن كان فطره بالجماع ففيه ما سنذكره.

وقد قال بعض أصحابنا بإجراء القولين في مسألة الكتاب فيما إذا فعل به شيء من ذلك مكرهاً كما قيل بمثل ذلك في الحنث؛ حكاه القاضي أبو الطيب في تعليقه، وكذا الرافعي وقال: إنه غريب.

وقال الماوردي: إن أكره على الوطء فشدت يداه، وأدخل ذكره في الفرج بغير اختياره: فإن لم ينزل فهو على صومه، وإن أنزل، ففي صومه وجهان:

أحدهما: أنه على صومه، ولا قضاء، ولا كفارة.

والثاني: أنه أفطر، ويلزمه القضاء؛ لأن الإنزال لا يحدث إلا عن اختيار، وعلى هذا ففي وجوب الكفارة عليه وجهان.

فرع: لو ابتلع خيطاً في الليل، وبقي بعضه خارجاً حتى أصبح، قال الأصحاب: فإن أخرجه، وابتلعه، بطل صومه، وإن أبقاه [صح صومه] ولم تصح صلاته؛ لاتصال

ص: 321

الظاهر بالباطن، وهو نجس؛ فالطريق في صحة عبادتيه: أن يقلع وهو نائم أو بغير اختياره، فإن لم يفعل ذلك، قال في "التهذيب": فالأولى أن يخرجه أو يبلعه؛ ليصلي، ويقضي الصوم.

وذكر في التتمة وجهين فيما يراعيه منهما:

أحدهما: يخرجه ويصلي؛ لأن حرمة الصلاة أعظم، ولأن بالإخراج لا يفوت إلا عبادة واحدة، وهي الصوم، وفي الإبقاء تفويت ثلاث صلوات.

والثاني: يترك على حاله، ويؤمر أن يصلي على حسب حاله، ويعيد؛ لأنه حصل شارعاً في الصوم، ولم يشرع في الصلاة، ومراعاة عبادة شرع فيها أولى من مراعاة عبادة لم يشرع فيها؛ وهذا الخلاف مذكور في تعليق القاضي الحسين في باب الأحداث، واختار القاضي الثاني.

قال: وإن تمضمض أو استنشق – أي: وهو عالم بصومه، غير قاصد إيصال الماء إلى جوفه ودماغه- فوصل الماء إلى جوفه – أي: أو دماغه – بطل صومه في أحد القولين؛ لما روى أبو داود عن جابر بن عبد الله قال: قال عمر بن الخطاب – [رضي الله عنه]-

[الحديث] السابق.

وجه الدلالة منه: أنه شبه القبلة بالمضمضة، وهو إذا قبل؛ فأنزل، بطل صومه فكذلك إذا تمضمض؛ فوصل إلى جوفه، ويقاس الاستنشاق عليها.

والهش: الارتياح إلى الشيء.

وهذا ما نص عليه في "المختصر"، واختاره المزني؛ كما قال الماوردي.

وقال البندنيجي وأبو الطيب: إنه نص عليه في القديم و"الأم".

قال: دون الآخر؛ لأنه وصل بغير اختياره فهو كغبار الطريق؛ وهذا ما حكاه الماوردي وغيره عن نصه في اختلاف أبي حنيفة و"ابن أبي ليلى" و"البويطي" و"الإملاء"؛ كما قال البندنيجي.

قال أبو الطيب: وهو اختيار الربيع، والصحيح. ووافقه المتولي على تصحيحه.

ومنهم من قطع به، واختلفوا في النص الذي نقله المزني، واختاره:

فمنهم من حمله على ما إذا بالغ فيهما، ونفي الخلاف في الحالين، وقد [حكاه

ص: 322

الفوراني.

ومنهم من حمله على ما إذا تعمد الازدراد، وقد قال في "الإبانة": إن القولين في الكتاب] حكاهما المزني، ولا فرق في جريانهما عندنا بين أن يكون قد فعل المضمضة والاستنشاق في وضوء واجب أو سنة؛ لأنه غير مضطر إليهما في الحالين.

قال: وإن بالغ، بطل؛ لحديث لقيط بن صبرة؛ فإن ذلك لو لم يفطر، لما نهى عنه. ولأنه تولد [من فعل منهي عنه؛ فكان] كالمباشرة؛ بدليل أنه لو جرح إنساناً فمات؛ فإنه كالمباشرة؛ وهذا ما أورده البندنيجي لا غير.

وقيل: على قولين؛ كالمسألة قبلها، ووجههما ما تقدم؛ وهذه الطريقة حكاها القاضي أبو الطيب والماوردي عن بعض أصحابنا البغداديين.

والطريقة الأولى: أصح باتفاق الأصحاب، والفرق: أنه في الأولى لم يصدر منه فعل منهي عنه، بخلاف الثانية، وقد ألحق الأصحاب بالمضمضة مسألتين:

أحداهما: لو دمي فمه فغسله، فوصل الماء في جوفه، فهو كما لو وصل في المضمضة؛ قاله البغوي.

وقال القاضي الحسين: لا يفطر.

ولو غسل فمه؛ تبرداً، أو تمضمض أربعاً، فوصل إلى جوفه في المرة الرابعة – قال البغوي: فإن بالغ بطل، وإن لم يبالغ ترتب على المضمضة، وهذا أولى بوجوب القضاء؛ لأنه غير مأمور به.

وأطلق القاضي الحسين احتمال تخريج وجهين في المسألة من غير تفصيل بين المبالغة وعدمها.

وكذلك قال في "التتمة" فيما إذا أدخل الماء [في] فيه: إن من أصحابنا من قال: حكم هذه المسألة حكم من يتمضمض، فسبق إلى جوفه؛ لأنه لم يقصد ارتكاب محظور الصوم. ومنهم من قال هنا: بطل؛ لأنه أقدم على ما لا حاجة به إلى فعله، بخلاف من تمضمض؛ فإنه يكره له تركها.

ص: 323

الثانية: بقية الطعام في خلل الأسنان، هل تبطل الصوم؟

الذي نص عليه الشافعي فيما نقله المزني: إن كان بين أسنانه ما يجري به الريق، فلا قضاء عليه.

ونقل الربيع عنه أنه يفطر به، واختلف الأصحاب في ذلك على طرق:

إحداها: أن المسألة على قولين، بناء على ما [إذا] سبق الماء في المضمضة؛ فإنه على قولين:

والثانية: أنه لا يفطر قولاً واحداً؛ لأن الأكل يباح له فإذا وصل بسببه بعد ما حرم الأكل [شيء إلى جوفه] عذر فيه، ولم يحكم بفطره.

قال الفوراني: وقائلها قال في المضمضة: إذا لم بالغ، فسبق الماء إلى جوفه، لم يفطر وإذا بالغ فذاك منهي عنه؛ فيفطر، وحمل نص الربيع في مسألتنا على ما إذا أراد ذلك عامداً.

وهذان [الطريقان حكاهما الفوراني والبغوي.

والثالثة: حكاها المتولي مع الأولى، وهي تنزيل] النصين على حالين [كما] نص عليهما في "الأم"، وهما: إن كان يتميز ما في فيه عن الريق أبطل، وإن كان لا يتميز عنه، لم يبطل، واختارها في "المرشد"، وهي التي أورد مثلهما الماوردي والبندنيجي والقاضي [أبو الطيب والحسين].

وقال المتولي: وعلى هذا لو وضع قطعة ذهب أو فضة، فنزلت في حلقه – فالحكم على ما ذكرناه.

والرابعة – قالها الغزالي تبعاً لإمامه -: إن قصر في تخليل الأسنان، فهو كصورة المبالغة، وإن لم يقصر، فهو كغبار الطريق قال الرافعي: ولك أن تقول: ترك التخليل إما أن يكون مكروهاً، أو لا، فإن لم يكن مكروهاً، فلا يتوجه إلحاقه بصورة المبالغة؛ لأن الوصول هنا [لم] يتولد من أمر مكروه، وإن كان مكروهاً، فالفرق ثابت

ص: 324

أيضاً؛ لأن ما بين الأسنان [أقرب] إلى الظاهر من الماء عند المبالغة، وربما ثبت في خلالها فلا ينفصل، وبتقدير أن ينفصل، فالتمكن من أخذه ومجه مما لايتعذر، والماء سباق إذا وجد منحدراً أسرع في النفوذ، وكان وصوله إلى الجوف أقرب.

قال: وإن أكل معتقداً أنه ليل، [أي:] إما لاعتقاده أن الشمس قد غربت، أو أن الفجر لم يطلع، فبان أنه نهار – لزمه القضاء:

أما في الأولى؛ فلما روى أبو داود عن أسماء بنت أبي بكر، قالت:"أفطرنا يوماً في رمضان في غيم على عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم، ثم طلعت الشمس"، قال أبو أسامة – وهو حماد بن أسامة – قلت لهشام – وهو ابن عروة: أمروا بالقضاء؟ قال: وبدٌّ من ذلك؟! وأخرجه البخاري وروت أم سلمة، قالت: جاء قوم إلى النبي صلى الله عليه وسلم، فقالوا: إنا ظننا أن الليل قد دخل، فأكلنا، ثم علمنا أنه كان نهاراً، فأمرهم النبي صلى الله عليه وسلم بإعادة يوم مكانه.

ولأنه مقصر بالفطر حيث لم يتثبت، وقد تعين له يقين الخطأ فيما يؤمن مثله في القضاء؛ فلزمه؛ كما لو صلى بالاجتهاد قبل الزوال، ثم تبين له ذلك، وكما لو أكل يوم الشك؛ معتقداً أنه من شعبان، ثم تبين أنه من رمضان.

واحترزنا بقولنا "تعين له يقين الخطأ" عمن اشتبهت عليه القبلة، فصلى مجتهداً إلى أربع جهات فإنه لا يلزمه القضاء؛ لأنه لم يتعين له الخطأ في جهة بعينها.

وقولنا: "فيما يؤمن مثله في "القضاء"، احتراز عن الناسي والغالط بالنسبة إلى الوقوف في اليوم العاشر.

وأما في الثانية فلأنه تعين له يقين الخطأ فيما يؤمن مثله في القضاء؛ فلزمه كما في المسألة قبلها؛ وهذا ما نص عليه في "المختصر"؛ حيث قال: "وإن كان يرى [أن]

ص: 325

الفجر لم يجب، وقد وجب، أو يرى أن الليل قد وجب، ولم يجب – أعاد"؛ ولأجله قال الإمام في كتاب الأيمان عند الكلام في الناسي والجاهل: إنه ظاهر المذهب.

وقد حكى [عن] المزني أنه قال: لا قضاء في الصورتين. وبه قال محمد بن إسحاق بن خزيمة من أصحابنا.

والذي حكاه القاضي الحسين عن المزني: أنه لا قضاء في الثانية، [ثم] حكى مثله هو وغيره عن بعض الأصحاب؛ لأنه معذور في استصحاب حكم الليل، وهو في "الحاوي" معزو إلى أبي إسحاق قال الإمام: والوجه القطع به وقائله غلط المزني فيما نقله عن الشافعي، [وقال: مذهب الشافعي]: أنه لا قضاء، وعبارته في الكبير:"وأحب تأخير السحور، فإذا صار إلى وقت يخشى طلوع الفجر، أمسك، وأحب تعجيل الفطر، فإن خاف بقاء النهار أمسك، فإن أفطر، وبان بقاء النهار، فعليه القضاء".

والفرق بين أوله وآخره أنه معذور في أوله؛ لما ذكرناه، عكسه آخره.

قال القاضي الحسين بعد حكاية ذلك: والمذهب: الأول؛ ولذلك صححه الرافعي وغيره.

قال: وإن أكل شاكًّا في طلوع الفجر، أي: ولم يبن له الحال بعد ذلك، لم يلزمه القضاء؛ لأن الأصل بقاء الليل؛ كما لو وقف بعرفة وهوي شك هل طلع الفجر أم لا، صح وقوفه؛ لأن الأصل بقاء الليل، ومن طريق الأولى إذا أكل ظاناًّ أن الفجر لم يطلع؛ لأمارة دلته حين اجتهد على ذلك، وفي هذه الحالة يجوز له الإقدام على الأكل بلا خلاف، وأما في [حالة] الشك فالذي قاله البندنيجي والقاضي الحسني في موضع: إنه يستحب له الإمساك عن الأكل.

[وقال البغوي: يكره له الأكل].

وقال غيرهم من المراوزة: نه لا يحل له الإقدام على الأكل هجوماً.

قال: وإن أكل شاكًّا في غروب الشمس، أي: ولم يتبين له الحال بعد ذلك – لزمه

ص: 326

القضاء؛ لأن الأصل بقاء النهار، ولا يلزمه مع القضاء الكفارة وإن كان فطره بالجماع، قال القاضي الحسين: لأنها تسقط بالشبهة.

أما لو تبين أنه أكل بعد الغروب، فلا قضاء عليه؛ لأنه يفطر بدخول الليل وإن لم يعلم، لكنه حال إقدامه على الأكل كان آثماً.

قال القاضي الحسين: لأنه لا يجوز الهجوم على الفطر مع أن الأصل بقاء النهار.

ولو أكل ظانًّا أن الشمس قد غربت، قال البندنيجي: ينظر: فإن كان ذلك عن دليل، فالمستحب له ألَاّ يأكل حتى لا يضر بالصوم، فإن أكل وبقي الأمر على ذلك، فلا قضاء عليه، وهو الذي أورده المتولي، وادعى القاضي الحسين: أنه لا خلاف فيه. وإن غلب على ظنه بغير دليل فأكل، وبقي الأمر على الشك، فعليه القضاء؛ لأن الأصل بقاء النهار، ولا دليل يعارضه.

قال الإمام: وحكى شيخي عن [شيخه] أبي إسحاق الإسفراييني النهي عن الاجتهاد والاعتماد عليه في هذا وفي وقت الصلاة؛ إذا أمكن الوصول إلى درك اليقين، أنه إن أفطر في آخر النهار مجتهداً، فعليه القضاء، وإن لم يبن الخطأ.

ويرد على أبي إسحاق فعل عمر – رضي الله عنه – والناس؛ فإنهم أفطروا، ثم طلعت الشمس، ولو كان الفطر لا يجوز إلا بيقين لما ما وقع في زمان عمر، رضي الله عنه.

قال: وإن طلع [عليه] الفجر، وفي فيه طعام، فلفظه أو كان مجامعاً فنزع – [صح] صومه، أي: وإن أنزل عقيبه:

أما في الأولى فلأنه لو وضع الطعام في فيه في أثناء النهار قصداً، ولم يصل منه شيء إلى حلقه – لم يفطر وإن وصل طعمه إليه، فأولى إذا كان الوضع في الليل، نعم، قال الماوردي: لو سبقه الطعام، ودخل إلى جوفه من غير اختياره؛ لازدراده،

ص: 327

وهو ذاكر للصوم – ففي إفطاره وجهان مخرجان من المضمضة والاستنشاق، وأصحهما: أن عليه القضاء.

وأما في الثانية: فلقوله تعالى: {أُحِلَّ لَكُمْ لَيْلَةَ الصِّيَامِ الرَّفَثُ إِلَى نِسَائِكُمْ} [البقرة: 187]؛ فاقتضت الإباحة إلى الفجر فإذا نزع مع طلوع الفجر فقد فعل ما أباحه الله تعالى له؛ وذلك يقتضي ألا يفسد صومه.

[وعن المزني: أنه يفسد صومه]، لأنه يلتذ بالإخراج كما يلتذ بالإيلاج.

قال الأصحاب: وهو غلط؛ لما ذكرناه.

ولأن الإخراج ترك الجماع، وضد الإيلاج؛ فوجب أن يختلف الحكم فيهما؛ ألا ترى أنه لو قال: لادخلت هذه الدار، وهو داخلها، أو: لا لبست ثوباً، وهو لابسه، فبادر إلى الخروج والنزع – لم يحنث؟ وكذا لو تطيب المحرم ناسياً، ثم تذكر، وأزال الطيب بيده – لا يجب عليه الكفارة؛ لأنه غير متطيب؛ وهذا ما نص عليه في "المختصر" حيث قال:"وإن كان مجامعاً، أخرج مكانه، فإن مكث شيئاً، أو تحرك لغير إخراجه، فسد، وقضى".

واختلف الأصحاب في مراده بقوله: "أخرج مكانه":

فقال القاضي أبو الطيب: ليس المراد إجراءه على ظاهره؛ لأنه إذا جامع وقد طلع الفجر، فصومه باطل، سواء نزع عن الجماع أو استدامه، بل تقدير السألة: أن يكون قد أولج قبل طلوع الفجر، ثم نزع مع طلوعه.

وعن أبي إسحاق أنه قال: هو محمول على ما إذا أحس بتباشير الصبح، فنزع بحيث يوافق ابتداء طلوع الفجر آخر النزع، أما إذا طلع الفجر، وهو مجامع، وعلم بالطلوع لما طلع، ونزع لما علم – فسد صومه.

قال الرافعي: والحكم بالفساد في هذه الحالة مستبعد، لامبالاة به، بل قضية نقل كلام [الأئمة] نقلاً وتوجيهاً: أن المراد من مسألة النص الذي حكوا فيها خلاف المزني وغيره ما سنذكره.

ص: 328

قلت: لكن كلام البندنيجي والقاضي الحسين يقتضي تصوير محل خلاف المزني بما قاله أبو إسحاق:

أما البندنيجي فإنه قال: إذا وقع النزع والطلوع معاً؛ بأن جعل الفجر يطلع، وجعل هذا ينزع – لم يقدح ذلك في صومه.

وقال المزني: فسد صومه، وعليه القضاء.

وأما القاضي الحسين فإنه قال: إذ طلع الفجر، وهو على الجماع، لم يصح صومه.

قال أصحابنا: وتأويل المسألة: أنه أولج قبل الفجر، ثم ابتدأ في النزع مع الطلوع؛ فلم يصادفه حالة الطلوع وهو على الجماع؛ بأن يكون على موضع عالٍ فرأى أمارات الفجر، ونزع، فصادف نزعه حالة الطلوع؛ فإنه صومه لا يفسد، وهو قول الكافة إلا المزني وزفر؛ فإنهما قالا: يفسد صومه، وعليه القضاء.

[و] في شرح ابن التلمساني: أن الإمام قال في "النهاية": إن محل عدم الفطر إذا خالط [بالسحر] على ظن المهلة، فأدركه الفجر وهو كذلك، ثم نزع، أما إذا خالط قريباً من الفجر، بحيث يدركه الفجر، وهو كذلك، ثم نزع، أما إذا خالط قريباً من الفجر، بحيث يدركه الفجر، وهو على حاله، فإذا وجد النزع مع الطلوع، أفطر؛ لأن ما حصل من النزع بسبب ما ورط فيه نفسه بتفريطه.

فإن قيل: أول الفجر لا ينضبط، فلابد أن يتقدم الطلوع على علمه؛ فيكون قد وجد منه الجماع نهاراً.

قلنا: قال الشيخ أبو محمد: في ذلك احتمالان:

أحدهما: أن هذا تقدير قدره الفقهاء، ولا يتصور تحقيقه عرفاً.

والثاني: أن الحكم تعلق بالمحسوس الذي يتعلق العلم به، وما يتقدم عليه وإن كان معلوماً بالفعل فلا اعتبار [به] كما نعلم أن الزوال يتقدم على ما يبدو للناظر من تحول الظل، ولكن يرتبط التكليف بما يظهر حساً.

ص: 329

وإذا علمت أنه [لا يبطل صومه إذا نزع مع الفجر أو كان آخر نزعه، علمت أن الجنابة] لا تنافي الصوم، بخلاف الحيض، وقد دل على ذلك قول عائشة وأم سلمة زوجتي النبي صلى الله عليه وسلم:" [كان رسول الله صلى الله عليه وسلم] يصبح جنباً [في رمضان] من جماع غير احتلام، ثم يصوم" أخرجه أبو داود، [وكذلك البخاري ومسلم وغيرهما مختصراً ومطولاً، وقال أبو داود:]"ما أقل من يقول هذه الكلمة"، يعني:"يصبح جنباً في رمضان" وأن الحديث: "كان يصبح جنباً وهو صائم"، وقد وقعت هذه الكلمة في صحيح مسلم، وما قال يعني به أبا هريرة من أن من أدركه الفجر جنباً، فلا صوم له – أحسن ما قيل في جوابه؛ كما قال الخطابي: أنه ظن أن ما كان من تحريم الجماع والأكل والشرب على الصائم بعد النوم أو صلاة العشاء غير منسوخ، [وقد ثبت نسخه] فارتفع [ما] ظنه.

قال: وإن استدام –أي: الأكل والجماع – [بطل؛ لتحقق الأكل والجماع] منه قصداً، ويجب عليه في الثانية مع القضاء الكفارة؛ لأنه آثم بالوطء، ومن هتك حرمة يوم من رمضان بالوطء مبتدئاً، وجبت عليه؛ فكذلك هاهنا، وبالقياس على القضاء؛ لأن كلاًّ منهما متعلق به عند الابتداء، فكذا في الدوام.

وقال المزني: لا كفارة؛ لأن الصوم لم ينعقد؛ لمصادفة ما ينافيه – وهو الجماع – فأشبه منترك النية ناسياً، ثم جامع: عليه القضاء، ولا كفارة.

ص: 330

والمذهب: الأول؛ لما ذكرناه.

وأما قوله: "إن الصوم لم ينعقد"، فقد يمنع، ويقال: بل هو منعقد؛ كما قال القاضي الحسين وشرذمة كما قال الإمام؛ ويدل عليه: أنه لو نز صح صومه، وليس كمن أحرم بالحج مجامعاً؛ فإنه لا ينعقد حجه على أحد الوجهين؛ لأن ذلك منسوب إلى اختياره، بخلاف من أرهقه الفجر مجامعاً. نعم، يجيء علىقول أبي إسحاق في حمل النص على ما ذكره: ألَاّ تجب الكفارة؛ لأن الصوم لم ينعقد على زعمه؛ كما حكاه الحناطي وجهاً، ولم يورد البندنيجي غيره لكنه جزم [بوجوب الكفارة] وقال: إنها وجبت لمنع الانعقاد، [لا] بالإفساد. [ومن قال: إنه انعقد صومه، ثم فسد] لا يعرف مذهب الشافعي، وهو في ذلك متبع للشيخ أبي حامد فإنه هكذا، قال في التعليق، وإنه أفسد قول من قال: إنه منعقد؛ تمسكاً بأنه إذا نزع، صح صومه، فإن الشرع إنما يحكم فيه بصحة الصوم إذا كان عازماً على الترك، فأما ونيته العود فلا؛ وهذا ما حكاه الإمام عن الأئمة، وقال بعضهم تفريعاً عليه: إنه لو مكث على حاله، ولم ينزع، ومضى زمان يمكنه النزع لم ينعقد وجهاً واحداً.

وقد حكى الرافعي وغيره عدم وجوب الكفارة؛ كما قاله المزني قولاً مخرجاً؛ لأن الشافعي نص في "المختصر" في هذه المسألة على وجوب الكفارة، وأشار في كتاب الإيلاء فيما إذا قال لزوجته:"إن وطئتك، فأنت طالق ثلاثاً" فغيب الحشفة – طلقت ثلاثاً إلا أنه لا يجب المهر، وإشارته – كما قال أبو الطيب-: سكوته عن ذكر إيجابه.

واختلف الأصحاب على طريقين في المسألتين، جاريتين – كما قال الرافعي- فيما لو جامع ناسياً، وقلنا: لا تجب الكفارة، ثم تذكر الصوم، واستدام:

أحداهما: أن فيهما قولين؛ نقلاً وتخريجاً.

وأصحهما: تقرير النصين.

والفرق أن ابتداء [الفعل] لم تتعلق به الكفارة؛ فتعلقت بانتهائه، حتى لا

ص: 331

يخلو الجماع في نهار رمضان عمداً عن الكفارة والوطء، ثم [غير] خال عن المقابلة بالمهر؛ لأن المهر في النكاح يقابل جميع الوطآت.

والبندنيجي والقاضي أبو الطيب جزماً القول في مسألتنا بالنص، وحكوا الخلاف في وجوب المهر.

وفرق القاضي على أحد القولين بأن المهر لا يجب إلا في زمان مخصوص، والكفارة تجب في كل وطء؛ فلم يصح اعتبار أحدهما بالآخر.

ولو طلع عليه الفجر وهو مجامع، فلم يعلم بطلوعه حتى فرغ من جماعه، ثم علم، وقلنا: يجب عليه القضاء؛ كما هو المذهب فيمن أكل معتقداً بقاء الليل، ثم بان أنه نهار – فلا كفارة هنا؛ لأنه لم يقصد هتك الحرمة، وأيضاً: فهي تسقط بالشبهة.

وكذا لو طلع [عليه] الفجر وهو مجامع؛ فظن أن صومه قد بطل ولو نزع، فمكث ساعة ممسكاً عن إخراجه – فعليه القضاء، ولا كفارة؛ لأنه غير قاصد لهتك الحرمة؛ قاله الماوردي والبغوي.

واعلم أن الفجر الذي يتعلق به ما ذكرنا هو الفجر المستطير لا المستطيل، روى مسلم عن سمرة بن جندب قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "لا يغرنكم من سحوركم أذان بلال، و [لا] بياض الأفق المستطيل هكذا، حتى يستطير هكذا"، وحكاه حماد بيديه، قال: يعني: معترضاً: وقد كان الرجل حين نزل قوله تعالى: {وَكُلُوا وَاشْرَبُوا حَتَّى يَتَبَيَّنَ لَكُمْ الْخَيْطُ الأَبْيَضُ مِنْ الْخَيْطِ الأَسْوَدِ} [البقرة: 187]، إذا أراد الصوم ربط أحدهم خيطين [في رجليه]:[الخيط] الأبيض، والخيط الأسود، [ولا]

ص: 332

يزال يأكل ويشرب حتى يتبين له أيهما فأنزل الله تعالى بعد ذلك: {مِنْ الْفَجْرِ} ؛ فعلموا أنه إنما يعني بذلك: الليل والنهار. أخرجه مسلم.

وقد روي عن عدي بن حاتم أنه قال: "لما نزلت هذه الآية أخذت عقالاً أبيض وعقالاً أسود، ووضعتهما تحت وسادتي، فنظرت، فلم أتبين ذلك، فذكرت ذلك لرسول الله صلى الله عليه وسلم، فضحك، [فقال]: "إن وسادك إذاً لعريض طويل؛ إنما هو الليل والنهار"، وقال عثمان -وهو ابن أبي شيبة -:"إنما هو سواد الليل وبياض النهار"، وأخرجه البخاري ومسلم وغيرهما.

قال: وإن جامع - أي: [من] هو من أهل التكليف بالصوم وقد نواه من الليل -[امرأته]، أي: مختارة في قبلها، في نهار رمضان، من غير عذر - لزمهما القضاء؛ كما تقدم، وهو نصه في "المختصر".

وقيل: لا يلزمه؛ لأنه عليه السلام لم يأمر الأعرابي في القصة التي سنذكرها به، ولو كان واجباً لذكره كالكفارة، وهذا ما أومأ إليه في "الأم" مع الأول؛ كما قال البندنيجي، وهو الذي حكاه ابن الصباغ عنه.

وإذا كفر الواطئ احتمل ألَاّ يكون عليه القضاء؛ [فإن القضاء داخل في الكفارة، واحتمل أن يكون عليه القضاء].

ولا فرق على هذين القولين بين أن يكفر بالصوم أو غيره كما قال البندنيجي، وكذا القاضي [الحسين]، ثم قال: ومن أصحابنا من قال: لم يختلف قوله: أن

ص: 333

القضاء واجب، وهو أصح، وسكوته؛ لعلمه بأنهم يعلمون أن القضاء لازم عليه. والذي سمعته في الدرس: أنه إن كفر بغير الصيام، فعليه القضاء، وإن كفر بالصيام؛ فحينئذ فيه طريقان على ما بينا؛ ولأجل هذا حكى بعضهم قولاً ثالثاً في المسألة [أنه] إن كفر بالصوم اندرج فيه، وإلا فلا.

والصحيح: الأول؛ لما رواه أبو داود عن أبي سلمة بن عبد الرحمن [عن أبي هريرة] قال: جاء رجل إلى النبي صلى الله عليه وسلم أفطر في رمضان

وساق الحديث، قال: فأتي بعرق تمر - قدر خمسة عشر صاعاً- وقال فيه: "كله أنت وأهل بيتك، وصم يوماً، واستغفر الله"، وهذا في حق الرجل.

أما [في حق] المرأة، إن قلنا بوجوب الكفارة عليها؛ فيظهر أن تكون كالرجل، وإن قلنا: لا يلاقيها الوجوب، او يلاقيها ويتحمله الزوج- فقد قال الإمام: لم يختلف الأصحاب في لزوم القضاء لها؛ لأن الكفارة إذا كانت صوماً، لم تتحمل، فما الظن بالقضاء؟! قال: وهذا مما لا شك [فيه].

قال: وفي الكفارة ثلاثة أقوال:

أحدها: يجب على كل واحد منها كفارة:

أما الرجل؛ فلما روى مسلم عن أبي هريرة قال: جاء رجل إلى النبي صلى الله عليه وسلم قال: هلكت يا رسول الله، قال:"وما أهلكك؟ " قال: وقعت على امرأتي في رمضان [وأنا صائم]، قال:"هل تجد ما تعتق رقبة؟ " قال: لا، قال:"فهل تستطيع أن تصوم شهرين متتابعين؟ قال: لا، قال: فهل تجد ما تطعم ستين مسكيناً؟ قال: لا، قال: اجلس، فأتي النبي صلى الله عليه وسلم بعرق فيه تمر، فقال: "تصدق بهذا" قال: على أفقر منا؟ فما بين لابتيها أهل بيت أحوج إليه منا؛ فضحك رسول الله صلى الله عليه وسلم حتى بدت أنيابه، ثم قال:

ص: 334

"اذهب فأطعمه أهلك".

ولأن الصوم عبادة يتعلق المال بجبرانها في حق الشيخ الهم والمرضع والحامل، ومن أخر القضاء إلى رمضان [آخر]؛ فتعلقت الكفارة بفسادها، أصله: الحج.

وأما المرأة؛ فبالقياس على الرجل؛ لأن الكفارة عقوبة، وقد تساويا في سبب الحكم بوجوبها؛ فوجب أن يستويا في الحكم؛ كما إذا زنى بها؛ فإن الحد يجب عليهما [جميعا]؛ لتساويهما في سببه، وقد روي أنه – عليه السلام – قال:"من أفطر في رمضان، فعليه ما على المظاهر" والمرأة قد أفطرت في رمضان، فوجب أني جب عليها الكفارة؛ وهذا ما نص عليه في "الإملاء".

قال الماوردي: والإيجاب على المرأة ليس بصحيح، ونسبه الغزالي إلى نصه في القديم، قال الرافعي: وليس ذلك؛ لأن "الإملاء" من الكتب القديمة؛ فإن "الإملاء" محسوب من الكتب الجديدة؛ ولكن رأيت لبعض الأئمة رواية عن القديم و"الإملاء" معاً.

ويشبه أن يكون له في القديم قولان؛ لما ستعرفه.

والثاني: يجب عليه دونها لأن النبي صلى الله عليه ولم [لم] يأمر زوجة الأعرابي بالكفارة مع مشاركتها له في السبب؛ فإنه جاء في بعض طرق قصة الأرابي فيما روته عائشة – رضي الله عنها: هلكت، وأهلكت"، كما ذكره الشيخ زكي الدين في

ص: 335

"حواشي المختصر"، ولو كانت تجب عليها لبين ذلك كما بينه في حق الرجل؛ ألا ترى أنه في قصة العسيف الذي زنى قال:"واعد يا أنيس على امرأة هذا، فإن اعترفت فارجمها".

فإن قيل: قد سكت النبي صلى الله عليه وسلم عن إيجاب القضاء فيه، وأوجبتموه.

قلنا: قد جاء في بعض طرق الحديث التعرض له، وعلى الرواية المشهورة، فإنما لم يتعرض له لأنه منصوص عليه في القرآن؛ فلذلك لم يذكره.

ولأنه حق مالي يتعلق بالوطء من بني جنسه؛ فكان على الرجل كالمهر، ويخالف الأصل؛ فإن صوم المرأة ناقص؛ فإنه معترض لأن يبطل بطروء الحيض، وإذا كان كذلك، لم تكن كاملة الحرمة؛ فلم تتعلق بها الكفارة؛ كذا قاله الكرابيسي؛ وهذا القول هو الذي نص عليه في "اختلاف مالك وأبي حنيفة"، وصححه في "الوجيز" و"التهذيب"، وبه قال الحناطي وآخرون، ومنهم القاضي أبو الطيب؛ تفريعاً على ما نص عليه في عامة كتبه؛ كما سنذكره.

والثالث: يجب عليه كفارة عنه وعنها؛ لأن الأعرابي لما ذكر القصة ومشاركتها له في السبب، أمره النبي صلى الله عليه وسلم بالكفارة؛ فدل على أنها وجبت بسبب المجموع.

وقاس البغوي والمتولي الكفارة على ماء الاغتسال، وكأنهما قدراه متفقاً عليه بأنه عليه، لكن الحناطي حكى طريقاً آخر قاطعاً بأن ثمن ماء الاغتسال عليها لا عليه، وأشار إلى ترجيحه، وسنذكره في كتاب الحج عن غيره.

وهذا القول نص عليه في "المختصر" حيث قال: فعليه القضاء، والكفارة واحدة

ص: 336

عنه وعنها. وقال القاضي أبو الطيب: إنه الذي نص عليه في كتبه القديمة والجديدة. وادعى الإمام أنه ظاهر المذهب، واختاره في المرشد.

قال الرافعي: لكن الذين قالوا بالذي قبله حملوا قوله في "المختصر" على أنها تجب على الفعلين جميعاً، وردوا ماسبق من العلة؛ فإنه – عليه السلام – أمره بصوم الشهرين، ولو كانت الكفارة عنهما جميعاً، لبعث إليها من يأمرها بالصيام؛ لأن الصوم لايتحمل.

وسيظهر لك حقيقة القول الثالث في التفريع، إن شاء الله تعالى.

والقوال الثلاثة متفقة على أن الزوج مخاطب بإخراج كفارة واحدة، وأن الخلاف في [أن] المرأة مخاطبة بها أم لا؟ وسلك الجمهور في إيراده طريقاً آخر، فقالوا: نص في "الإملاء" على أن [على] المرأة الكفارة، ونص في عامة كتبه على أنها لا تجب عليها الكفارة، وهي عبارة أبي الطيب والماوردي، لكن لأن الوجوب لا يلاقيها أصلاً، أو لأنه لاقاها، وتحمله الزوج عنها؟ قيه قولان:

المذكور في "اختلاف أبي حنيفة ومالك": الأول.

وفي كتبه القديمة والجديدة: الثاني.

وذلك عند الاختصار يرجع إلى ثلاثة أقوال كما ذكر الشيخ، وقد صحح القاضي أبو الطيب ما نص عليه في "الإملاء"، وهو الذي صدر به الشيخ كلامه، وقال الإمام:

ص: 337

إنه الأقيس عند أئمة المذهب؛ فإنه لا حجة في قصة الأعرابي على عدم إيجاب القضاء عليها؛ فإنه – عليه السلام – يجوز أن يكون قد علم أنها مكرهة، أو [كانت] نائمة؛ فلذلك لم يأمرها بالكفارة، ولفظة "أهلكت" قد قال الخطابي: إنها غير موجودة في شيء من رواية هذا الحديث، وأصحاب سفيان راوي الحديث لم يرووها عنه وإن كان بعض أصحابنا حدثني: أن معلى بن منصور روى هذا الحديث عن سفيان، وذكر هذا الحرف فيه، وهو غير محفوظ، والمعلى ليس بذاك في الحفظ.

وقال البيهقي: وقوله: "أهلكت" ليس بمحفوظ. ونقل عن شيخه الحافظ أبي عبد الله تضعيف هذه اللفظة.

قلت: ولو صحت كان احتمال كونها مكرهة أظهر؛ لأنه نسب إهلاكها إليه، ولا يكون منسوباً إليه إلا إذا كانت مكرهة؛ فإنها لو كانت مطاوعة لكانت هي المهلكة لنفسها، لا هو، ولايجوز أن يحمل على أنه السبب في إهلاكها نفسها؛ إذ كل منهما متسبب في إهلاك الآخر. نعم، يكون في هذا الخبر دليل على أن المكره على الوطء يفطر كما هو أحد القولين لنا، ولا يجب عليه الكفارة وإن كان فطره بالجماع.

والذي اقتضاه إيراده في "الوسيط" ترجيح القول المنسوب لنصه في عامة كتبه؛ موجهاً له بأنها أفطرت قبل الجماع بوصول أول جزء من الحشفة إلى باطنها ولقصة الأعرابي. وأراد بذلك الاستدلال على القولين المذكورين فيمن المراد بهذا القول، هل أنه لا يلاقيها الوجوب أصلاً أو يلاقيها ويتحملها الزوج عنها؟ فقوله:"لأنها أفطرت" ساقه لتوجيه القول بأن الوجوب لا يلاقيها أصلاً، وهذه العلة هي التي حكاها الإمام في كتاب أجل العنين عن أبي طاهر الزيادي، وأن القاضي وافقه في القطع بفطرها قبل غيبوبة الحشفة، وقال: إنه لا ينقدح عندنا غير ذلك؛ لأنه لو فرض إيصال أصبع إلى وراء ملتقى الشفرين على قدر نصف الحشفة، لكان مفطراً.

قال: وكان شيخي يقطع بأن [فطر] المرأة يحصل بتغييب الحشفة، ولا يقيم لما

ص: 338

يغيب من الحشفة حكماً، وسفه الزيادي فيما علل به عدم إيجاب الكفارة، وقول الزيادي مشكل؛ إذ لم يختلف أئمة المذهب في أن أقيس القولين: وجوب الكفارة عليها، عبارة الرافعي: أن الأكثرين زيفوه بأن قالوا: يتصور فساد صومها بالجماع، بأن يولج وهي نائمة، أو ناسية، أو مكرهة، ثم تستيقظ أو تتذكر، ثم تطاوع بعد الإيلاج وتستديمه والحكم لا يختلف على القولين.

قال بعض الفضلاء: وهذا لا يتوجه به فساد قول الزيادي، وأنا أقول: فساد قول الزيادي ظاهر بما حكاه القاضي الحسين عنه؛ فإنه قال في التعليق: وكان الزيادي يقول: لا يتصور الخلاف في هذه المسألة؛ لما ذكرناه من العلة. [قال القاضي]: إلا أنهم يصورونه فيما لو جومعت مكرهة فطاوعت في أثنائه، أو ناسية فتذكرت في خلاله، فأصرت على ذلك؛ ففطرها حصل بالجماع لا محالة.

قلت: لكن كلام الأصحاب يقتضي عدم الاقتصار في إجراء الخلاف على هاتين الحالتين؛ فإنهم جزموا بإجراء الخلاف فيما لو نزلت عليه وهو نائم، فقالوا: إن

ص: 339

قلنا بقوله في "الإملاء"، فيجب عليها وكذا لو قلنا: إنها تجب على الزوج [بطريق التحمل عنها، وإن قلنا: جانبها خلو عنها، فلا شيء عليها ولا على الزوج] وهذا يعضد الشيخ أبا محمد في قوله، وقد قال الإمام في تقريره: وأيضاً: إن الممكن في الفرق بين الإصبع وبعض الحشفة: أن بعض الحشفة وإن كان يغيب ويصل إلى الباطن؛ فحكم الجماع أغلب [فلا اكتراث] بالتغييب الذي يتعلق به وصول واصل من الظاهر إلى الباطن، وكان الحكم للوقاع.

وقول الغزالي: "ولقصة الأعرابي" أراد به توجيه القول بأن الوجوب يلاقيها، ثم يتحمله الزوج؛ لأنه لما قال:"هلكت وأهلكت" وجب عليه الكفارة؛ فدل على أنها عنهما. ويجوز أن يكون ذكر ذلك تنزيلاً، وكأنه قال: ولو قلنا: إن المرأة لا تفطر بما دون الحشفة؛ فلا تجب الكفارة لقصة الأعرابي؛ وحينئذ يكون هذا استدلالاً على أنها لا تبج عليها أصلاً، كما ذكرنا: أنه الذي صححه في "الوجيز"، والله أعلم.

أما إذا كان الوطء في الموضع المكروه، فالحكم في القضاء كما تقدم، وكذا الكفارة في حق الرجل، [وأما المرأة، فلا يجب عليها وفاقاً؛ كما قال [القاضي] أبو الطيب والبندنيجي، وكذا حكم إتيان الرجل] في الدبر.

ص: 340

وفي كلام الغزالي إشارة إلى عدم وجوب الكفارة بالإتيان في غير المأتي؛ لأنه قال: والظاهر من المذهب تعلقها بوطء البهيمة والإتيان في غير المأتي. وعبارة الفوراني أبلغ في حكايته؛ لأنه قال: لو تلوط [أو] أتى بهيمة، فالصحيح

ص: 341

أن عليه الكفارة.

ومن أصحابنا من قال: فيه قولان كالقولين في وجوب الحد. [وعلى ذلك ينطبق قول الإمام.

وذهب بعض أصحابنا إلى اتباع الكفارة الحد فكل وطء يتعلق الحد بجنسه تتعلق الكفارة به، وكل وطء اختلف القول في تعلق الحد به: كإتيان البهيمة، ففي وجوب الكفارة به ذلك الخلاف. وهذا رديء مزيف، والذي أورده العراقيون: الأول. نعم، قالوا فيما لو أتى بهيمة: إن قلنا: إن الواجب عليه القتل أو الحد، فالأمر كذلك، وإن قلنا: إن واجبه التعزير، ففي وجوب الكفارة وجهان.

وقد احترز الشيخ بقوله: "إذا جامع" عما إذا باشر فيما دون الفرج بشهوة، أو استمنى؛ فأنزل [ونحو ذلك]؛ فإنه لا يجب عليه الكفارة العظمى عندنا، وهل يجب غيرها؟ فيه ما تقدم.

وحكى الرافعي عن الحناطي [أن] ابن [عبد] الحكم حكى عن الشافعي إيجاب الكفارة فيما إذا جامع فيما دون الفرج، وأنزل، وأن أبا خلف الطبري – وهو من تلامذة القفال- اختار وجوب الكفارة لكل ما يأثم بالإفطار به.

و [احترز] بقوله: "امرأته"، عما إذا زنى بامرأة في قبل أو دبر في نهار رمضان، أو وطئها بشبهة؛ فإن القول الثالث لا يجري، بل لا يكون في المسألة في حقها إن كانت مطاوعة إلا قولان: الوجوب، أو عدمه، وأما في حقه، فالكفارة عليه لا محالة.

وقال الماوردي: إن القاضي أبا حامد كان يزعم أنه يجب على كل واحد منهما كفارة، لا يختلف. يعني: وإن قلنا: لا يجب على الزوجة؛ لأن الخبر لم يأت فيما زنى، ولأن الزاني في معناه.

ولو كانت مكرهة، فسنذكر حكمها.

وأمته في حكم زوجته المعسرة، لكن يمتنع التحمل؛ لأن واجبها الصوم، وهو لا

ص: 342

يقبل التحمل إلا على وجه سنذكره.

ثم كلام الشيخ يقتضي أنه لا فرق في الخلاف الذي ذكره- فيما إذا كانت زوجة - بين أن يكون قد وطئها وهي ناشز، أو لا.

وفي "البحر" فيما إذا وطئها وهي ناشز: أن والده كان يقول: إن قلنا بقول التحمل لو لم تكن ناشزاً، فهل يتحمل عنها والحالة هذه؟ فيه وجهان:

أحدهما: لا كزكاة الفطر والنفقة.

والثاني: نعم، والفرق: أن ذلك يلزمه [في مقابلة التمكين، وبالنشوز زال التمكين، والكفارة تلزمه] بالجماع، لا بالتمكين.

قال الروياني: وهذا أشبه بكلام أصحابنا والأول أقيس.

قلت: وعندي في تصوير المسألة نظر؛ لأنه إذا وطئها مكرهة أو نائمة، فقد استوفى حقه في تلك الحالة؛ فزال النشوز بالنسبة إليها، وإنما لم تستحق النفقة؛ لأنها في مقابلة التمكين في اليوم، ولم يوجد في جملته، والفطرة تتبعها.

واحترز بقوله: "في نهار رمضان" عما إذا جامع وهو صائم عن قضاء أو نذر أو كفارة أو تطوع؛ فإنها لاتجب عندنا الكفارة العظمى؛ لفقد حرمة الوقت التي وجبت لأجله، وهل يجب غيرها؟ المذهب: لا.

وحكى البندنيجي عن ابن أبي هريرة أنه قال: يكفر عن كل يوم بالكفارة الصغرى.

ص: 343

واحترز بقوله: "من غير عذر" عما إذا كان له عذر يسوغ له الإقدام على الوطء، وهو على مراتب:

الأولى: الجهل؛ كما إذا جامع معتقداً أنه ليل، ثم بان أنه نهار، يلزمه القضاء دون الكفارة؛ وكذا إن أكل ناسياً؛ فظن أنه أفطر؛ فجامع عامداً – لا تجب عليه الكفارة وإن أوجبنا القضاء؛ كما نص عليه في "الأم"، وفيما إذا جامع ظاناً أن الفجر لم يطلع، وكان قد طلع – وجه: أنها تجب؛ بناء على وجوبها بجماع الناسي، كما سنذكره حكاه الإمام عن طوائف من أصحابنا.

وقال الرافعي: إن ما أطلقه صاحب "التهذيب" من أنه لا كفارة على من ظن أن الشمس قد غربت؛ فجامع، ثم تبين خلافه – ينبغي أن يكون مفرعاً على تجويز الإفطار والحالة هذه، وإلا فتجب الكفارة؛ وفاء بالضابط المذكور؛ لما يوجب الكفارة.

وفيما إذا أكل ناسياً؛ فظن أنه أفطر؛ فجامع عامداً – احتمال للقاضي أبي الطيب في وجوب الكفارة؛ لأن فطره بالنسيان لا يبيح له الأكل عامداً؛ حكاه [عنه] في "المهذب" و"البيان".

الثانية: النسيان، فإذا جامع ناسياً، قد قلنا: إنه لا يفطر على المشهور، وفيه قول مخرج: أنه يفطر به؛ فيلزمه القضاء، وإذا قلنا به، فهل يلزمه الكفارة؟ فيه وجهان تقدم ذكرهما أيضاً.

والذي يظهر: عدم الوجوب كما رجحه الرافعي وغيره؛ لأنه لم يقصد [هتك] حرمة الصوم، ويشهد لذلك ما حكيناه عن النص في الصورة قبلها.

والإكراه إذا قلنا: إنه لا يمنع الفطر، فهو من الأعذار المسقطة للمأثم؛ كالنسيان؛

ص: 344

فينبغي أن يجري فيمن جامع مكرهاً الخلاف المذكور في الناسي إذا قلنا: إنه يفطر، وهو يؤخذ من مجموع ما وقفت عليه في كتب الأصحاب؛ فإن القاضي أبا الطيب قال في تعليقه الذي وقفت عليه: إذا قلنا: إن المكره على الجماع يفطر به، وجبت عليه الكفارة.

والذي أورده البندنيجي وابن الصباغ والقاضي الحسين والرافعي: عدم الوجوب، وهو الذي يتجه القطع به؛ لأنه لم يقصد هتك حرمة الصوم، ويخالف الناسي؛ لأنه ينسب إلى تقصير ما، ولا تقصير من جهة المكره.

الثالثة: السفر؛ فإنه لا يجوز الإقدام عليه مع نية الصوم مع الليل، فإذا فعله حيث يجوز له وقد نوى الصوم، فإن قصد به الترخص لم يجب عليه الكفارة بلا خلاف إن كانت زوجته كحاله. وإن لم يقصد الترخص بل قصد هتك حرمة الصوم، وهو ذاكر له – فهل يلزمهم الكفارة؟ فيه وجهان في "تعليق" القاضي الحسين [وغيره]:

أحدهما: نعم؛ لأن [الرخصة لا تحصل] بدون قصدها؛ ألا ترى أن المسافر لو أخر الظهر إلى العصر بنية الجمع، كان له الجمع [ولو أخرها عامداً، غير قاصد للترخص، ولم ينو الجمع؛ فلا يجوز له الجمع، وإذا فعل يكون عاصيا]؟!

والثاني: لا؛ لأن له الفطر، وهو لا يفتقر إلى قصد من المفطر ألا ترى أنه يصير مفطراً [بغروب الشمس] وليس كذلك الصلاة؟!

والمريض قد قلنا: إنه ينبغي أن يلحق بالمسافر في ذلك كما ألحقنا المسافر به فيما إذا أفطر بغير الجماع.

ولو كان المسار قد قدم من سفره نهاراً مفطراً، فأخبرته زوجته أنها مفطرة؛ لانقطاع حيضها، فجامعها، وكانت صائمة – فإن الكفارة تجب عليها بلا خلاف،

ص: 345

ولا يتحمل عنها؛ لأنها غرته. نعم، لو أخبرته أنها صائمة؛ فإن طاوعته، وقلنا: الواجب كفارة واحدة عنه وعنها، وجبت عليها بلا خلاف عند العراقيين، وهو الذي أورده الفوراني.

وحكى القاضي الحسين وجهاً: أنها تجب على الزوج، ثم قال: والأصح: أنها لا تلزمه هنا؛ لأن الزوج [هنا] لا يلزمه شيء متبوعاً حتى يتحمل عنها على طريق التبعية.

قلت: وسيأتي مثل هذا الخلاف في طرق العراق فيما إذا مكنت زوجة المجنون – وهي صائمة – زوجها من نفسها؛ فوطئها.

ولو أكرهها، فإن قلنا: لا يفسد صومها؛ فلا شيء على واحد منهما.

وإن قلنا: يفسد فكذلك عند البندنيجي وغيره.

وفيما وقفت عليه من "تعليق" القاضي أبي الطيب: أن الكفارة تجب [عليها ويتحملها عنها، قوال هذا بخلاف ما إذا وقع المجنون على امرأته في نهار رمضان] وهي صائمة، أي: ومكنته – كما قال القاضي الحسين – فإن يجب عليها الكفارة على القول الثالث، وهل يتحملها [عنها]؟ فيه وجهان، نسب القاضي أبو الطيب المنع منهما إلى قول أبي إسحاق، لأنه لا قصد له. ومقابله إلى ابن سريج، وهو الذي أورده ابن الصباغ، وحكاه الغزالي وجهاً، وإن لم يحكه إمامه؛ لأن جماعه بمنزلة الجناية، ولو جنى، للزمه الضمان في ماله، وهو معنى قوله في

ص: 346

"الوسيط": لأن ماله يصلح للتحمل.

وقد عكس المصنف والماوردي والقاضي الحسين النسبة التي ذكرناها، فعزوا الأول إلى قول ابن سريج، ومقابله إلى أبي إسحاق.

وحكى الفوراني الخلاف عنهما على وجه آخر، فقال: لو أصبح صائماً مقيماً [فجنَّ] فجامع، فقد قال ابن سريج: لا كفارة عليه، وقال أبو إسحاق: عليه الكفارة. وهما مبنيان على أن الرجل إذا أحرم بالحج، ثم جن، فجامع، هل عليه [الكفارة؟] وفيه قولان.

ثم على قول ابن سريج: إن قلنا: إن الكفارة تجب على الرجل ابتداء – كما هو القول الثاني في الكتاب – فلا كفارة على امرأة المجنون. وإن قلنا، تجب على المرأة، ثم يتحملها الزوج – كما هوا لقول الثالث في الكتاب – فعلى امرأة المجنون الكفارة؛ لأن الزوج المجنون لا كفارة عليه حتى تدخل كفارتها في كفارته.

وقد ألحق الرافعي بالمجنون في هذا الصبي المراهق إذا قلنا: لا كفارة عليه في نفسه؛ كما سنذكره، وكذا ألحق به الناسي والنائم إذا استدخلت ذكره.

ص: 347

وعبارة الغزالي في ضبط ما يوجب الكفارة العظمى: "أنها تجب على كل من أفسد صوم يوم من رمضان بجماع [تام] آثم به لأجل الصوم"، واحترز بقوله:"أفسد" عن جماع الناسي، وقد ذكرناه، وبقوله:"من رمضان" عن التطوع [والقضاء] والنذر، وقد ذكرناه.

وبقوله: "بجماع" عمن أفسده بالأكل والاستمناء ونحو ذلك؛ فإنه لا كفارة فيه. وعن المراوزة إذا جومعت – وفي نسخة: إذا جامعت – فإنه لا كفارة عليها، وقد تقدم الكلام في ذلك.

وبلفظ "التام" عما إذا أتى بهيمة؛ أو وطئ في الموضع المكروه؛ فإن فيه ما تقدم.

ويجوز أن يقال – وهو المتبادر إلى الفهم -: إنه أرادبه الاحتراز عن المرأة إذا جومعت أو جامعت؛ فإنها أطرت قبل تغييب الحشفة على زعمه؛ لأنه بذلك علل عدم إيجاب الكفارة.

وبقوله: "آثم به" عمن أصبح مجامعاً أهله ظانًّا أن الفجر لم يطلع، وكان قد طلع؛ فلا كفارة عليه إلا على وجه إيجابها على الناسي.

وكلامه يتضمن –أيضاً – الاحتراز عن المكره على الجماع إذا قلنا: [إنه مفطر به؛ فإنه غير آثم، ولا كفارة عليه؛ كما تقدم.

ص: 348

واحترز بقوله: "لأجل الصوم" عن الزاني ناسيًّا: إذا قلنا]: يفطر [به] وعمن أكل ناسياً، وظن أنه قد أفطر؛ فجامع عامداً، يلزمه القضاء، ولا كفارة.

وإنما قلنا: إن لفظة "آثم" أخرجت هذه الصورة؛ لأن النسيان لو كان مفطراً، لما أباح الإقدام على الوطء. نعم، لو جهل أيضاً- أنه لا يحرم عليه تعاطي المفطرات في نهار رمضان بعد الفطر فيه، يخرج بلفظة "آثم".

فإن قلت: إذا لم يهل تحريم تعاطي المفطرات بعد الفطر في نهار رمضان؛ فهو آثم؛ لأجل الصوم؛ فهو مندرج تحت قوله، ويؤيده ما ذكرناه عن القاضي أبي الطيب من إيجاب الكفارة عليه.

قلت: إثمه ليس لأجل الصوم بل لأجل وقت الصوم ولهذا إن من أفطر بالأكل عامداً، ثم جامع لا كفارة عليه وإن كان آثماً لأجل الوقت بوطئه، والله أعلم.

وقد اقتضى كلام الشيخ أمرين:

أحدهما: أن ما ذكره من الأحكام عند الفطر بالجماع جار في كل يوم؛ حتى لو تكرر ذلك منه في أيام وجب عليه قضاؤها، ويعددها كفارات، وهو ما نص عليه في "مختصر" البويطي، حيث قال:"لو جامع في كل يوم من رمضان، وجب عليه ثلاثون كفارة".

قال الأصحاب: وسواء في ذلك [ما إذا لم يكن قد كفر عن اليوم الأول] قبل أن يجامع فيما بعده أو لا؛ لأن كل يوم من رمضان عبادة مستقلة بنفسه؛ فوجب بإفساده بالجماع الكفارة كاليوم الأول وبهذا فارق ما إذا تكرر منه الجماع [في الحج؛ لأن الحج عبادة واحدة. نعم، لو تكرر منه الجماع] في اليوم الواحد في زوجة واحدة، لا يلزمه إلا كفارة واحدة؛ لأن الصوم [قد] زال بالفعل الأول؛ ويدل على هذا من كلام الشيخ جعله وجوب القضاء والكفارة مسبباً عن الوطء، والوطء الثاني في اليوم الواحد، لا يوجب قضاء آخر؛ فكذلك لا يوجب كفارة أخرى، ويخالف ما

ص: 349

إذا جامع في الحج الواحد مرتين فأكثر؛ حيث يلزمه لأجل الثاني كفارة أخرى؛ لأن الحج ثمَّ منعقد بعد الوطء، يجب المضي فيه، والإمساك في رمضان بعد الفطر؛ لحرمة الوقت لا لكونه عبادة.

ولو تكرر منه [في] أربع زوجات، قال في "الحاوي": كان عليه أربع كفارات في أحد القولين؛ إذا قيل: إن الكفارة وجبت عليها، أي: وهو يتحملها.

الثاني: أنه لا فرق في وجوب الكفارة عليه وقد فسد صوم اليوم بالجماع بين أن يطرأ عليه ما يبيح الفطر فيه كالمرض في أثنائه، أو سقط صومه عنه: كالحيض، والجنون، والموت؛ وهو الراجح عند العراقيين، ولم يورد الفوراني غيره؛ لأن ذلك طرأ بعد فساد الصوم بالجماع؛ فأشبه ما لو أفسد الحج، ثم أحصر بعده؛ فإنه يتحلل، ولا تسقط الكفارة؛ وهذا ما نص عليه في "الإملاء" كما قال القاضي أبو الطيب، وحكى معه قولاً آخر نسبه إلى نصه في "اختلاف العراقيين": أنها تسقط؛ إذ بان بالآخرة أن الصوم لم يكن واجباً.

[و] قال البندنيجي: إن القولين منصوصان في "اختلاف العراقيين".

وجزم طائفة- ومنهم القاضي الحسين والبغوي - بأن طرآن المرض لا يسقطها كطرآن السفر، وحكاية القولين أي طرآن الجنون والحيض، وصحح المتولي منهما قول السقوط.

ص: 350

ويجيء عند الاختصار في ذلك ثلاث أقوال، وقد حكاها في "الوسيط"، ثالثها: أنها تسقط بطرآن الحيض والجنون؛ فإنهما ينافيان الصحة، قال: وفي معناهما الموت، بخلاف المرض؛ فإنه لا ينافي الصحة. قالك وقد حكى طرد هذه الأقوال في طرآن السفر، وهو بعيد.

قلت: وفي قوله: "هذه الأقوال" نظر؛ فإنه لا يتصور أن يأتي في طرآن السفر إلا قولان نعم، تجيء الأقوال إذا جمعت السفر مع الجنون والحيض، وإذا أضفت إلى ذلك المرض كان في ذلك أربعة أقوال.

وقد نسب الرافعي طريقة طرد الأقوال في السفر إلى رواية صاحب "التقريب" والحناطي.

ولقائل أن يقول: مقتضى كلام الشيخ في طرآن الجنون عدم إيجاب الكفارة؛ لأنه جعلها واجبة في الموضع الذي جزم [فيه] بالقضاء، والمجنون لا قضاء عليه في هذه الصورة؛ فكذلك لا كفارة".

فرع: المراهق إذا شرع في صوم رمضان، ثم جامع، فسد صومه، قال في "التتمة": والصحيح من المذهب أنه لا كفارة عليه؛ لأن حرمة الصوم في حقه ناقصة؛ لأنه لا يخاطب بالصوم ولا ببدله وقد خرج فيه وجه آخر – من قولنا: إن عمد الصبي عمد -: أن عليه الكفارة.

ونظير هذه المسألة ما إذا أحرم بالحج، ثم جامع.

وفي "البحر": أن الصبي إذا جامع، لاتلزمه الكفارة بحال، وهل يبطل صومه؟

قال والدي: فيه وجهان ينبنيان على القولين في أن عمده عمد أو خطأ.

وإنما قلت هذا؛ لأن صاحب "الإفصاح" ذكر في جماع الصبي عمداً في الحج:

ص: 351

هل يفسد الحج؟ وجهين.

قلت: وكأنه لم يقف على قول الإمام ثم: إن عمده فيما يتعلق بإفساد العبادات غير الحج كعمد البالغ؛ ولهذا يفسد صومه إذا تعمد الأكل [وتفسد الصلاة إذا تعمد الكلام].

فإن قيل: يجوز أن يفرق بين الفطر بالجماع والأكل بأن شهوة الصبي في الأكل كشهوة البالغ بل أبلغ، ولا كذلك الجماع؛ فإنه إنما أفطر البالغ؛ لأنه مظنة الإنزال، وهو مقصود الجماع، وذلك لا يوجد في حق الصغير؛ فشابه المباشرة فيما دون الفرج إذا لم يتصل بها الإنزال.

قيل: يلزمه على ذلك ألا يجب عليه غسل، ولا يسلك به مسلك الجماع في شيء من الأمور، وليس كذلك، والله أعلم.

قال: والكفارة عتق رقبة، فإن لم يجد فصيام شهرين متتابعين، فإن لم يستطع فإطعام ستين مسكيناً؛ لظاهر قصة الأعرابي؛ ولقوله – عليه السلام:"من أفطر في رمضان فعليه ما على المظاهر"، وهكذا تجب الكفارة على المظاهر بالإجماع.

ولأنها كفارة فيها صوم متتابع فكانت على الترتيب؛ ككفارة القتل.

قال الماوردي: ولأن الكفارات في الشرع ضربان:

ضرب بدأ يه بالأغلظ؛ فكان الترتيب فيها واجباً، مثل: كفارة الظهار، والقتل، بدأ فيهما بالعتق.

وضرب بدأ فيها بالأخف، فكان التخيير فيها مستحقاً، مثل: كفارة اليمين بدأ فيها بالإطعام، ثم وجدنا كفارة الجماع بدأ فيها بالأغلظ وهو العتق فوجب أن يكون الترتيب فيها مستحقاً.

فإن قيل: روى أبو داود عن أبي هريرة أن رجلاً أفطر في رمضان، فأمره رسول الله صلى الله عله وسلم أن يعتق رقبة، أو يصوم شهرين متتابعين، أو يطعم ستين مسكيناً، قال: لا أجد، فقال له رسول الله صلى الله عليه وسلم:"اجلس"، فأتى رسول الله صلى الله عليه وسلم بعرق تمر – وفي

ص: 352

رواية أنه [يقدر] بقدر خمسة عشر صاعاً – فقال: "خذ هذا، فتصدق به، فقال: يا رسول الله، ما أحد أحوج مني، فضحك رسول الله صلى الله عليه وسلم حتى بدت أنيابه، فقال له: ["كله"، في رواية]: "كله أنت [وأهل بيتك]، وصم يوماً، واستغفر الله"؛ وهذا يدل على التخيير كما قال به مالك.

قيل: [الواو] كما لا تقتضي الترتيب، لا تمنعه؛ فيكون هذا الحديث بيانه ما ذكرناه من الحديث الآخر، والتقدير: أنه أمره بالصوم إن عجز عن الرقبة، وبالإطعام إن عجز عن الصوم، وقد قدر مثل هذا في قوله تعالى:{إِنَّمَا جَزَاءُ الَّذِينَ يُحَارِبُونَ اللَّهَ وَرَسُولَهُ} [المائدة: 33] مع أنا لو لم نقدر ذلك كان ما ذكرناه أولى؛ لأن رواته فوق العشرين، ورواة ذلك اثنان، وما تمسكنا به حكاية لفظ [الرسول صلى الله عليه وسلمن وما تمسكوا به حكاية لفظ] الراوي، وقد قيل: إنه ليس بحجة.

والعرق – بفتح الراء -: المكتل.

وهل الاعتبار فيما ذكرناه بحالة الوجوب أو حالة الإخراج وإذا صام ثم قدر في أثنائه على العتق – الكلام في ذلك كما يأتي في الظهار، قال البندنيجي: حرفاً بحرف، وكذا في غيره، نعم: حكى القاضي الحسين فيما لو شرع في التفكير بالإطعام، ثم قدر على الصوم، فهل يجب عليه الانتقال إليه؟ فيه وجهان:

أصحهما: لا؛ كما لو قدر على العتق بعد أن شرع في الصوم؛ فإنه لا يجب عليه الرجوع إليه وإن كنا مستحباً؛ للخروج من خلاف المزني وغيره.

والثاني: يجب، والفرق: أن الإطعام غير منتظم انتظام الصوم، ولا مرتبط، والصوم يتعلق أوله بآخره، والشروع فيه كالفراغ منه.

قال ابن الصباغ ما معناه: فإن قيل: المتيمم إذا وجد الماء في أثناء الصلاة، هل له

ص: 353

أن يخرج منها؟ فيه وجهان، فما الفرق؟ قيل: الصوم الواجب قد خير المسافر في الخروج منه، والصلاة الواجبة إذا دخل فيها لم يحل الخروج منها.

وفرق القاضي أبو الطيب بفرق آخر: وهو أن الخروج من الصلاة يبطل ما عله منها والخروج من الصوم لا يبطل ما مضى منه.

وإذا عرفت أن هذه الكفارة على الترتيب آن أن أذكر لك ثمرة التفريع على الأقوال السالفة:

فإن قلنا بالقول الأول، قام كل منهما بما يقتضيه حاله من العتق والصوم والإطعام.

وإن قلنا بالثاني على النحو الذي أورده الشيخ، اعتبر حال الزوج بنفسه.

وإن قلنا بالقول الثالث، لا يخلو أن يستوي حالهما، أو يختلف: فإن استوى نظر: فإن كانا من أهل الإعتاق أو الإطعام فقط أعتق رقبة أو أطعم ستين مسكيناً، ونوى ذلك عن نفسه وعن زوجته؛ كما قال القاضي أبو الطيب.

قال البندنيجي: وتقع كلها عن كل [واحد منهما].

قال ابن يونس: قال بعض المتأخرين: والذي يقتضيه المذهب: أن يكون الولاء بينهما؛ لأن العتق أجزأ عنهما.

ون كانا من أهل الصيام، صام كل منهما شهرين متتابعين، وهل ذلك؛ لأن الواجب على كل منهما كفارة، وكفارة المرأة تدخل في كفارة الرجل في الإعتاق والإطعام لاتحاد جنسهما وقبولهما التحمل، ولا تدخل في الصوم، لأنه لا يقبل التحمل أو لأن الواجب على كل منهما نصف كفارة، والزوج يحمل النصف الواجب على المرأة إذا أمكن، وإذا لم يمكن، وجب على كل منهما إتمامها؛ لان الكفارة لا تتبعض، ولا يمكن أن ينبني صيام أحدهما على صيام الآخر؟ فيه خلاف بين الأصحاب:

والذي صرح به البندنيجي والمتولي: الأول، وهو ما حكى عن الشيخ أبي حامد.

ص: 354

والذي حكاه ابن الصباغ: الثاني، وهو الذي يدل [عليه] كلام القاضي الحسين الآتي، [وقد] حكى القاضي الحسين أن من أصحابنا من قال يما إذا كان حالهما [الصوم:] إنه يصوم شهرين [متتابعين] ولا شيء عليها لأن أصل الكفارة مما يجزئ فيه التحمل؛ فكذلك في بدله، ومنزلة هذا منزلة قولنا: لا يجوز النيابة في الصلاة، ثم لو استأجر رجلاً، ليحج عنه؛ فإنه يتحمل عنه ركعتي الطواف؛ فكذلك هاهنا.

والأصح الأول.

وإن اختلف حالهما، قال القاضي أبو الطيب: نظر:

فإن كان حال الزوج ارفع من حالها، مثل أن يكون من أهل العتق، وهي من أهل الصيام – فإنه يعتق عن نفسه رقبة، ويجب عليها الصيام، فإن أراد أن يخفف عنها، وكانت حرة؛ فإنه ينوي بعتق الرقابة عنه وعنها، ويسقط عنها الصيام؛ لأنه يجوز الانتقال من الصيام إلى العتق؛ إذ كان العتق أعلى والصيام أدنى؛ وهذا يدل [على] أنه لا يجب عليه أن يعتق عنها.

وعبارة [ابن الصباغ] والشيخ: أنه يجزئه رقبة عنهما جميعاً.

وفي "التتمة" حكاية وجهين:

أحدهما: أن عليها الصوم.

والثاني: أن يسقط عنها بعتقه؛ لأن من كانت كفارته الصوم لو كفر بالعتق يجوز.

وهذا إذا كانت حرة، فلو كانت أمة، قال القاضي أبو الطيب والماوردي وغيرهما: فليست من أهل العتق؛ فلا يجوز أن ينوي العتق عنها، ويجب عليها الصيام؛ لأنه لا يجد سبيلاً إلى التخفيف عنها.

وقال في "المهذب": إن هذا إذا قلنا: إن الأمة لا تملك، أما إذا قلنا: إنها تملك المال، أجزأ عنها العتق؛ كالحرة المعسرة.

ص: 355

وإن كان من أهل الصيام، وهي من أهل الإطعام قال [القاضي] أبو الطيب وغيره: فيجب عليه الصوم، ويجب عليها الإطعام، إلا أنه يتحمل [ذلك] عنها؛ لأن الإطعام مما يتحملن وتدخله النيابة، وليس له أن ينتقل من الإطعام هاهنا إلى الصيام الذي هو أعلى منه؛ لأن الإطعام وجب عليه بسبب غيره، وإنما يجوز ذلك لو كان بسببه، ولو تكلف العتق سقط عنه الصوم والإطعام؛ قاله البندنيجي.

وفي تعليق القاضي الحسين: [أن الزوج] يصوم عن نفسه، ولا يتحمل عنها الإطعام؛ لأنه لا يصح أن يتحمل عنها ما وجب عليها من الإطعام بالصيام.

وقال الرافعي: إن قضية قول من قال بإجزاء العتق عن الصيام في الصورة السابقة إجزاء الصوم [عن الإطعام] لأن من فرضه الإطعام لو تحمل المشقة وصام، أجزأه والصوم كما [لا يتحمل به] لا يتحمل.

ولو كان الزوج من أهل العتق، وهي من أهل] الصوم.

[وحكى الفوراني] في إجزاء العتق عنهما وجهين؛ لما بينهما من اختلاف النوع مع اتحاد المالية.

فإن قلنا: لا يجزئ، قال الراعي: فهل يجب على الزوج الإطعام عنها، أو لا؟ فيه وجهان:

أظهرهما: نعم؛ فإن عجز عنه، ثبت في ذمته إلى أن يقدر لأن الكفارة على هذا القول معدودة [من مؤنات] الزوجية اللازمة على الزوج.

والثاني- ذكره في "التهذيب" -: أن عليها ذلك؛ لأن التحمل كالتداخل فلا

ص: 356

يجزئ عند اختلاف الجنس.

ولو كان حال المرأة أرفع من حال الزوج؛ بأن كانت من أهل العتق وهو من أهل الصوم، قال أبو الطيب: فإنه يجب عليها عتق رقبة، ويجب عليه الصوم. فظاهر هذا: أنه لا يثبت العتق عنها في ذمته.

وقال الماوردي والبندنيجي وابن الصباغ: إنه يكون في ذمته يعتق عنها متى قدر. وهو الذي حكاه القاضي الحسين عن العراقيين بعد أن حكى وجهين غيره:

أصحهما: أن عليها عتق رقبة كاملة؛ لأنه [لا] يجوز التبعيض.

والثاني: يجوز لها الصوم؛ لأن الأصل في هذا الباب الرجل، فإذا عدم المال، انتقل جميع الكفارة إلى الصوم، غر أنه لا يتبعض.

وعلى رأي العراقيين: لو أعتق رقبة قبل الصوم، وهو ممن يجوز [له] التكفير بالعتق عنها وعنه، سقط عنه الصيام، قاله أبو الطيب وغيره، وكذا القاضي الحسين؛ تفريعاً على أنه لا يتحمل عنها.

ولو كانت من أهل الصوم، وهو من أهل الإطعام، [فإنه يجب عليها الصوم، ويجب عليه الإطعام، ولا يجوز أن ينوي الإطعام عنها.

وحكى البغوي وجهاً: أنه يسقط ما عليها بتأدية الزوج ما عليه، والله أعلم.

تنبيه: [الكفارة]: أصلها من "الكفر" - بفتح الكاف - وهو الستر؛ لأنها تستر الذنب، وتذهبه؛ هذا أصلها، ثم استعملت فيها وجدت فيه صورة مخالفة، أو انتهاك وإن لم يكن فيه إثم كالقتل خطأ وغيره.

ص: 357

وقوله: عتق رقبة قال الأزهري: إنما قيل لمن [أعتق نسمة:] أعتق رقبة، وفك رقبة فخصت الرقبة دون جميع الأعضاء؛ لأن حكم السيد وملكه حبل في رقبة العبد، وكالغل المانع له من الخروج، فإذا أعتق فكأنه أطلق من ذلك.

قال: فإن لم يجد، أي: الطعام، ثبت في ذمته في أحد القولين إلى أن يجد لأن النبي صلى الله عليه وسلم أمر الأعرابي أن يكفر بما دفعه إليه من التمر مع [إخباره بعجزه]؛ فدل على ثبوتها في الذمة مع العجز.

وأيضاً: فبالقياس على جزاء الصيد؛ وهذا ما صححه المصنف تبعاً للماوردي.

ويسقط في الثاني؛ لأن النبي صلى الله عليه وسلم لم يذكر ذلك للأعرابي مع جهله بالحكم فيها. وبالقياس على زكاة الفطر إذا عدمها وقت الوجوب.

وهذان القولان أخذا من قول الشافعي في "الكبير" – وهو "الأم" -: "يحتمل أن يكون رسول الله صلى الله عليه وسلم أسقط عنه الكفارة؛ لإعساره وعجزه عن الصوم"، ثم قال:"ويحتمل أن يكون أخرها، وجعلها في ذمته حتى يكفر إذا أيسر".

قال العراقيون: وضابط هذا الباب: أن الحق المالي [الذي] يجب لله تعالى من غير سبب إذا دخل وقت وجوبه، ولم يصادف قدرته عليه، فلا يجب حالاًّ [و] مآلاً، وهذا كزكاة الفطر، وما يجب بسبب البدلية كجزء الصيد، فلا يمنع استقراره في الذمة العجز عنه حالة وجود السبب، وما يجب بسبب جناية عله أو قوله سوى ما ذكرنا –وهي كفارة الجماع والظهار والقتل واليمين – فهل يؤثر فيها الجز المقارن؟ فيه قولان.

قال القاضي الحسين: وعندي أنهما ينبنيان على أن الكفارة اعتبارها بحال الوجوب، أم بحالة الأداء؟ وفيها قولان؛ فكذا في أصل الوجوب يخرج على القولين.

وعن صاحب "التلخيص" إلحاق كفارة الظهار بجزاء الصيد ولا يستحل المظاهر

ص: 358

الإقدام على الوطء ما لم يكفر.

وقال الشيخ أبو علي: إنها على الخلاف، ولا معنى لاستثنائها.

وحكى الإمام: أن صاحب "التقريب" أهمل استثناء جزاء الصيد عن محل القولين، ولا ينبغي أن يعتقد في جزاء الصيد خلاف، وترك استثنائه من صاحب "التقريب" غفلة منه.

وقد اقتضى كلام الشيخ أن الثابت في ذمته على القول به: الإطعام، والذي أورده القاضي الحسين والرافعي: أن ما قدر عليه من الخصال بعد ذلك، وجب عليه.

وكلام القاضي أبي الطيب يقتضي أنه عند العجز يكون مخيراً في الخصال الثلاث؛ لأنه قال في الجمع بين ما حكيناه دالاً على الترتيب و [ما] تمسك به الخصم على التخيير: إنا نحمل حديثهم على أن رسول الله صلى الله عليه وسلم خير الأعرابي لما كان عادماً الأنواع الثلاثة، وعندنا: أنه إذا أن عادماً لها، خيرناه في تحصيل أيها شاء.

وهذا في تأخير الكفارة عن وقت الوجوب، وأما تعجيلها قبله، هل يجوز؟

المشهور: لا؛ لأن سببها الوقاع ليس إلا، وقد حكى مجلي في كتاب الأيمان أن بعض الأصحاب [أجرى خلافا] فيه، [وقد حكاه الرافعي في كتاب الزكاةكما تقدمت حكايته عنه].

قال مجلي: وقائله طرده في الحج ومحظوراته، ثم قال: والظاهر المنع. وسنذكر ذلك مرة أخرى في كتاب الحج، إن شاء الله تعالى.

قال: ومن حركت القبلة شهوته، أي: بحيث خاف [إنزال الماء]- كره له أن يقبل؛ خوفاً من أن يعقبه الإنزال؛ فيفطر، وهل هذه الكراهة كراهة تحريم أو تنزيه؟ فيه وجهان في "التتمة"، المذكور منهما في "المهذب" و"التهذيب" و"تعليق" القاضي أبي الطيب: الأول؛ لقول الشافعي في "الأم" - كما قال القاضي -:"ومن حركت القبلة شهوته، فالقبلة حرام عليه، ومن لم تحرك القبلة شهوته كرهتها له؛ فإن فعل لم ينتقص صومه، وتركها أفضل".

ص: 359

وعبارة ابن الصباغ في حكاية نصه في "الأم": "أن من حركت القبلة شهوته كرهتها له فإن فعل لم ينتقص صومه، ومن لم تحرك شهوته فلا بأس له، والقبلة وملك النفس في الحالين عنها أفضل"، وهذه العبارة توافق ما اقتضاه كلام البندنيجي: أنها كراهة تنزيه؛ حيث قال: "والأفضل ترك القبلة، سواء كان ممن تحرك القبلة شهوته أو لا تحركها"، وهو الذي يفهمه كلام الماوردي والفوراني؛ حيث أطلقا الكراهة من غير تعرض للتحريم، وهو مصرح به في الحاوي في كتاب الاعتكاف.

ويجوز أن يكون المستند في ذلك مع ما حكيناه عن إمام ما نقله المزني في "المختصر"، وهو: أن من حركت القبلة شهوته، كرهنا له، فإن فعل، لم ينتقص صومهن وتركه أفضل.

وقد قال ابن الصباغ معترضاً على المزني: إنه حكى بعض ما قاله في "الأم"، وأسقط بعضه، وهو مغير لمعناه؛ لأن من تحرك القبلة شهوته لا يقال: تركها له أفضل؛ لأن فعلها مكروه.

قلت: وهذا الاعتراض متوجه على لفظ الأم؛ لأنه قال: "وملك النفس في الحالين أفضل"، وإحدى الحالين ما إذا كانت القبلة تحرك شهوته، [وقد صرح بالكراهة فيها، وقد علمت مما ذكرناه أن من لم تحرك القبلة شهوته] لا يكره له وإن كان الترك أفضل، ويشهد له رواية أبي داود عن أبي هريرة أن رجلاً سأل النبي صلى الله عليه وسلم عن [المباشرة للصائم]، فرخص له، وأتاه آخر فنهاه، فإذا الذي رخص له شيخ، والذي نهاه شاب.

وقال الإمام: إنه روي أن سائلاً سأل رسول الله صلى الله عليه وسلم عن القبلة في الصوم، فأباحها له، وسأله آخر فنهاه عنها، فروجع في جوابه، فقال:"إن الأول شيخ والثاني شاب"، ويعضد ذلك رواية مسلم عن عائشة، قالت: "كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يقبل في

ص: 360

[شهر الصوم] ".

وقد أطلق القاضي أبو الطيب في ذلك لفظ الكراهة؛ عملاً بما حكاه عن النص في الأم، ولا يرد عليه خبر عائشة؛ لأن البخاري ومسلماً رويا عنه أنها قالت:"كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يقبل وهو صائم، [ويباشر وهو صائم]، ولكنه كان أملك لإربه"، فعللت فعله – عليه السلام – بأنه أملك لإربه، وقد روي "لأربه"، والأرب: الحاجة، وقيل: الشهوة، والإرب: العضو؛ فيكون معنى قولها: إنه كان يقدر على نفسه ألا تغلبه الشهوة، إذ كان معصوماً، وهذا مفقود فيكم.

[ولا فرق] يمن لم تحرك القبلة شهوته بين أن يلتذ بها أو لا.

ومن الأصحاب من قال: التلذذ [بها] حرام، وإنما نبيح القبلة والمس لمن لا يتلذذ.

قال الإمام في كتاب الظهار: وهو خطأ صريح عندي، والتعويل فيها يحرم [ويحل] على الأمن من الإنزال، والخوف [منه].

والأول هو الذي حكاه القاضي الحسين هنا.

وقال: جملة الأشياء التي تمنع الجماع على أربعة أضرب:

ضرب يحرم الجماع ودواعيه: كالحج، والعمرة.

وضرب يحرم الجماع، ولا يحرم دواعيه: كالحيض، لا يمنع من القبلة واللمس ونحوه.

وضرب يحرم الجماع وفي دواعيه من القبلة والمباشرة قولان، وهو الاعتكاف.

ص: 361

وضرب يحرم الجماع، ولا يحرم دواعيه إذا لم ينزل، وهو الصوم: لا يكره إذا لم يخف الإنزال، ولا يسد إن لم ينزل.

قال: ويكره للصائم العلك، أي:[مضغ] العلك، وهو – كما قال البندنيجي – الموميا الذي كلما مضغه صلب وقوي واجتمع.

وعلة الكراهة: أنه يعطش، وعبارة الشافعي:"لأنه يحلب الفم"، ومعناه: يحلب الريق من الفم، ويجففه؛ فيورث العطش.

قال القاضي الحسين: [و] لأن مضغ العلك يطيب النكهة ويزيل خلوف فم الصائم وما يزيل خلوف الفم يكره للصائم للخبر.

قلت: لكن كراهة [هذا] العلك تشمل جميع النهار؛ وهذه العلة تقتضي الكراهة بعد الزوال؛ كما في السواك.

وعلله القاضي أبو الطيب بأنه يجمع الريق ويبتلعه، وفي فطره في هذه الحالة وجهان؛ فكره للخروج من الخلاف، فإن فعله، واجتمع بسببه الريق، فابتلعه، كان في فطره الوجهان، [وألا] فلا يفطر وإن وجد الطعام، [لما تقدم أن وجدان الطعم] في الحلق من غير وصول عين إليه، لا يؤثر في الفطر.

وكذلك يكره [له] مضغ الخبز وغيره، اللهم إلا أن يكون له ولد صغير، ليس له من يمضغ له غيره، فلا يكره له للحاجة.

قال في "المهذب" و"الشامل": واللبان في معنى العلك؛ فيكره له مضغه؛ قاله البندنيجي، وخص القاضي الحين محل كراهة العلك بما إذا كان قد أصلح، وقال فيما إذا لم يصلح: إنه لا محالة يصل منه شيء إلى جوفه؛ فلا يجوز له مضغه.

وفصل في الكندر – هو اللبان الأبيض بين ما إذا أصابه الماء يبس واشتد؛

ص: 362

فإنه كالعلك، وما إذا أصابه [الماء] تفتت [ونزل] إلى الحلق؛ فلا يجوز مضغه، [فإن مضغه] أفطر.

قال: ويكره له الاحتجام؛ لرواية أبي داود عن شداد بن اوس: أن رسول الله صلى الله عليه وسلم أتى على رجل بالبقيع – وهو يحتجم، وهو آخذ بيدي لثمان عشرة خلت من رمضان، فقال:"أفطر الحاجم والمحجوم"، وقد رواه بضعة عشر صحابياً.

وروايته – أيضاً – عن عكرمة عن ابن عباس: أن رسول الله صلى الله عليه وسلم احتجم وهو صائم. وأخرجه البخاري؛ فدل فعله –عليه السلام –أن المراد بقوله الكراهة.

وقد روى أبو داود [عن ثابت] قال: قال أنس: "كنا [لا] ندع الحجامة للصائم إلا كراهة الجهد"، وأخرجه البخاري.

وقد قيل: إن فعله ناسخ لقوله؛ فإنه كان في عام الفتح، وفعله في عام حجة الوداع سنة عشر.

والمعنى في كراهة ذلك [له]: أنه يضعفه، ومقصود الشرع أن يكون قوياً في عبادته؛ حتى لا يحصل له التضجر والسخط.

قال: ويكره له السواك بعد الزوال.

ص: 363

أعاد الشيخ هذه المسألة هنا وإن [كان] ذكرها في باب السواك؛ لأنها مذكورة في "المختصر" هنا، ومحل الكلام فيها باب السواك.

قال: ويكره له الوصال، أي: مثل أن يصوم، ويمتنع من الطعام والشراب في الليل كله، ثم يصبح صائماً؛ فيصير واصلاً بين اليومين بالإمساك لا بالصوم؛ لأنه أفطر بدخول الليل وإن لم يأكل، والأصل [في ذلك] ما روى البخاري ومسلم عن ابن عمر: أن رسول الله صلى الله عليه وسلم نهى عن الوصال، قالوا: فإنك توال [يا] رسول الله، قال:"إني لست كهيئتكم؛ إني أطعم وأسقي" وأخرجا – أيضاً – عن أبي سعيد الخدري أنه سمع رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: "لا تواصلوا، فأيكم أراد أن يواصل، فليواصل حتى السحر"، قالوا: فإنك تواصل؟ قال: "إني لست كهيئتكم إن لي مطعماً يطعمني وساقياً يسقيني".

وقد جاء أنه – عليه السلام – نهى عن الوصال، فواصلوا، فذكر النبي صلى الله عليه وسلم ما ذكره؛ وهذا ليس على ظاهره؛ لأنه قد يظن أن الصحابة خالفت نهيه – عليه السلام – وإنما كان النبي صلى الله عليه وسلم قد واصل فواصلوا، ثم نهاهم [فتركوا]، ثم واصل فواصلوا؛ ظناً أن ذلك الحكم قد ارتفع، فقال النبي صلى الله عليه وسلم ما قال؛ كذا [رأيته للماوردي].

وهذه الكراهية كراهية تحريم على ظاهر النص؛ كما قال ابن الصباغ، وهو الذي أوردها الإمام لا غير، وكذا البغوي؛ حيث أطلق القول بعصيانه، وهو الأصح عند غيرهم؛ لظاهر النهي، ومن لم يحرمه من أصحابنا تمسك برواية أبي داود عن

ص: 364

عبد الرحمن [بن أبي] ليلى قال: حدثني رجل من أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم أن رسول الله صلى الله عليه وسلم نهى عن الحجامة والمواصلةن ولم يحرمهما؛ إبقاءً على أًحابه، فقيل [له]:[يا] رسول، إنك تواصل إلى السحر؟ فقال:"إني أواصل إلى السحر، وربي يطعمني ويسقيني"، وقد دل هذا وخبر أبي سعيد على إباحة الوصال إلى السحر، وكذلك قال به أصحابنا، واختلفوا في معنى قوله:"أطعم وأسقي" على أوجه:

أحدها: أنه كنى به عن القوة التي جعلا الله تعالى له وإن لم يطعم ويسقى؛ حتى يكون كمن [فعل به ذلك].

والثاني: يخلق الله – تعالى- فيه من الشِّبع والري ما يغنيه عن الطعام والشراب.

والثالث – حكاه في "الشامل" والقاضي الحسين -: أنه يطعم ويسقى من طعام الجنة وشرابها، وإنما يقع الفطر بطعام الدنيا وشرابها.

قال القاضي: وقد روي هذا مفسراً؛ لأنه قال: "أبيت، فيحمل إلى الطعام والشراب [من الجنة"، ولا ينكر أن يؤتي النبي بالطعام والشراب] من حيث لا يراه؛

ص: 365

لقصة زكريا".

والرابع: أن محبة الله تعال تشغله عن ذلك.

قال: ويكره له ولغيره صمت يوم إلى الليل؛ إذ لم يؤثر [ذلك] عن النبي صلى الله عليه وسلم ولا عن الصحابة- رضوان الله عليهم أجمعين – بل قد جاء المنع منه؛ روى البخاري عن ابن عباس قال: بينا النبي صلى الله عليه وسلم يخطب إذ هو برجل قائم، فسأل عنه، فقالوا: أبو إسرائيل، نذر أن يصوم ولا يقعد ولا يستظل ولا يتكلم، فقال النبي صلى الله عليه وسلم:"مروه فليتكلم، وليستظل، ثم ليتم صومه".

نعم، قد ورد في شرع من قبلنا، فإن قلنا:[إنه] شرع لنا، لم [يكره] ولكن لا يستحب؛ قاله ابن يونس، وفيه نظر؛ لأن الماوردي قال: روى عبد الله ابن عمر قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم:"صمت الصائم تسبيح"، وهذا يدل على مشروعية الصمت إن صح، وإن لم يصح فخبر ابن عباس قد دل على النهي عنه، وأقل الدرجات الكراهة، وحيث قلنا: إن شرع من قبلنا شرع لنا، فذاك إذا لم يرد في شرعنا خلافه.

قال: وينبغي للصائم أن ينزه صومه عن الشتم والغيبة، أي: أكثر مما ينبغي لغيره؛ لرواية أبي داود عن أبي هريرة قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "من لم يدع قول الزور والعمل به، فليس لله حاجة أن يدع طعامه وشرابه"، وأخرجه البخاري.

ص: 366

ومعنى: "قول الزور والعمل به": هو أن يخالف ظاهره باطنه؛ لأن هذا هو العمل بالزور؛ قاله القاضي الحسين.

وقد روي أنه قال: "خمس يفطرن الصائم وينقضن الوضوء: الغيبة، والنميمة، والكذب، والقبلة، واليمين الفاجرة"، وأراد أن ذلك يحبط أجر الصائم، فأما أنه يبطل صومه فلا، وهو قول الكافة إلا الأوزاعي فإنه قال: يفطر.

قال: فإن شوتم، فليقل:[إني صائم]؛ لرواية البخاري ومسلم عن أبي هريرة: أن النبي صلى الله عليه وسلم قال:"إذا كان أحدكم صائماً، فلا يرفث، ولا يجهل، فإن امرؤ قاتله أو شاتمه، فليقل: [إني صائم]، إني صائم".

قال في "الشامل" – وتبعه الرافعي -: قال أصحابنا: وليس معناه: أن يقول ذلك بلسانه لخصمه، فإن ذلك يشبه المراءاة في العبادة، ولكن معناه: أن يقول لنفسه: إني صائم؛ فيكف لسانه عنه.

ثم قال ابن الصباغ: [ويحتمل إجراء] اللفظ على ظاهره، ويقوله لا لقصد الرياء، بل لإطفاء الشر بينهما؛ وهذا ما حكاه البندنيجي لا غير، وصدر به القاضي.

ص: 367

أبو الطيب كلامه في التعليق لا على وجه الاحتمال، وقال: إن قول من قال: إنه يقول في نفسه، ليس بشيء؛ لأن النبي صلى الله عليه وسلم، قال:"فليقل: إني صائم" ولم قل: فليتذكر.

وحكى القاضي الحسين احتمال ابن الصباغ قولاً عن صاحب "التقريب"، وخلافه عن صاحب "الإفصاح"، وارتضاه، وهو الذي أورده الإمام من غير إعزاء وقال: لا معنى لذكر الصوم لمن شاتمه.

قال: ويستحب أن يتسحر؛ لما روى أبو داود عن عمرو بن العاص، قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "إن فصل ما بين صيامنا وصيام أهل الكتاب أكلة السحور"، قيل: أخرجه مسلم.

[وقال – عليه السلام: "تسحروا؛ فإن في السحور بركة" أخرجه مسلم.

قال: وأن يؤخر السحور؛ لأنه أرفق به وأقوى على العبادة؛ ولذلك استحببنا إفطار يوم عرفة لمن هو بها] و [قد] قال – عليه السلام:"ثلاث من سنن المرسلين: تجيل الإفطار، وتأخير السحور، ووضع اليمين على الشمال في الصلاة".

وروى زيد بن ثابت قال: "تسحرنا مع رسول الله صلى الله عليه وسلم، ثم قمنا إلى الصلاة، قال

ص: 368

أنس: قلت لزيد: كم كان بينهما؟ قال: مقدار خمسين آية". أخرجه مسلم.

قال: ما لم يخش طلوع الفجر؛ لأنه إذا خشي ذلك فأكل، ربما أدى إلى إفطاره.

وقال القاضي أبو الطيب: إنه يستحب له ما لم يتيقن طلوع الفجر، فإن شك في الطلوع، استحب له الإمساك.

قال: وأن يعجل الفطر، أي: يتناول المأكول والمشروب، وإلا فهو [قد] أفطر بغروب الشمس.

قال: إذا تحقق غروب الشمس، [لما] روى أبو داود عن أبي هريرة عن النبي صلى الله عليه وسلم قال:"لا يزال الدين ظاهراً ما عجل الناس الفطر؛ لأن اليهود والنصارى يؤخرون"، وأخرجه البخاري ومسلم من حديث سهل بن سعد عن رسولا لله صلى الله عليه ولم.

وروى البخاري ومسلم عن عبد الله بن أبي أوفى قال: سرنا مع رسول الله صلى الله عليه وسلم وهو صائم، فلما غربت الشمس، قال: "يا بلال، انزل فاجدح لنا، قال:[يا] رسول الله، [لو أمسيت]! قال: انزل فاجدح لنا، قال:[يا] رسول اله، إن عليك

ص: 369

نهاراً! قال: انزل فاجدح لنا: فنزل فجدج، فشرب رسول الله صلى الله عليه وسلم ثم قال: إذا رأيتم الليل قد أقبل من هاهنا فقد أفطر الصائم. وأشار بإصبعه قبل المشرق".

ولأن ذلك أرفق بالصائم وأقوى [له] على الصيام. نعم، إذا لم يتحقق غروب الشمس، فهل له أن يفطر [بالاجتهاد]؟ أطلق القاضي أبوالطيب القول بأنه لا يجوز له الفطر؛ لأن الأصل بقاء النهار، وفيه ما تقدم.

قال: والمستحب أن يفطر على تمر، فإن لم يجد، فعلى الماء؛ لما روى أبو داود عن سليمان بن عامر قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "إذا كان أحدكم صائماً، فليفطر على التمر، فإن لم يجد [التمر] فعلى الماء؛ فإن الماء طهور"، قال الترمذي: وهو حسن صحيح.

والحكمة في ذلك: ما [روي] في التمر من البركة، والماء أفضل المشروبات.

وقد قيل: إن الصوم ينقص ضوء العين، والفطر على التمر يرد ذلك النقص؛ قاله ابن وهب، ويؤيده ان الروياني قال: إنه يفطر على التمر، فإن لم يجد فعلى حلاوة أخرى، فإن لم يجد فعلى الماء.

وعن القاضي الحسين أنه قال: والغالب أنه في "الفتاوى": الأولى في زماننا أن يفطر على ما يأخذه بكفه من النهر؛ ليكون أبعد عن الشبهة؛ [فإن الشبهات]

ص: 370

قد كثرت فيما في أيدي الناس، والله أعلم.

قال: ويستحب [له] أن يدعو [عند الإفطار]؛ [لما يرجى] من إجابة دعائه.

[قال]: بدعاء رسول الله صلى الله عليه وسلم: "اللهم لك صمت، وعلى رزقك أفطرت" هكذا أخرجه أبو داود عن معاذ بن زهرة أنه بلغه أن النبي صلى الله عليه وسلم [كان] إذا أفطر قال ذلك، وهو مرسل.

وروي عنه أنه كان يقول: "يا واسع الفضل اغفر لي".

واعلم أن من جملة المستحبات في الصوم: إكثار الصدقات، وتلاوة القرآن، والاعتكاف، ولا سيما في الشعر الأواخر من رمضان؛ لطلب ليلة القدر، وكف النفس عن الشهوات، فإنه سر الصوم، والمقصود الأعظم به، وتقديم غسل الجنابة على الفجر.

ص: 371

وقوله- عليه السلام:"من أصبح جنباً، فلا صوم له" – كما رواه أبو هريرة – قد رجع عنه أبو هريرة – كما قال أبو الطيب- ومتى رجع الراوي عن خبره، لم يصح التعلق به.

وأيضاً: فيجوز أن يكون هذا في ابتداء الإسلام حين كان الجماع يحرم على الصائم إذا صلى العشاء أو نام قبل ذلك، ثم نسخ كما نسخ هذا الحكم ويجوز أن يكون محمولاً على ما إذا أصبح مجامعاً واستدام، وهو ما حكاه الرافعي عن الأئمة، وأن يفطر الصائم معه؛ لقوله – عليه السلام:"من فطر صائماً كان له مثل أجره من غير أن ينقص من أجر الصائم شيء".

فإن عجز عن عشائهم أعطاهم ما يفطرون به من شربة أو تمرة أو غيرها.

قال: ويطلب ليلة القدر، أي: ليقومها بقوله تعالى: {لَيْلَةُ الْقَدْرِ خَيْرٌ مِنْ أَلْفِ شَهْرٍ} [القدر: 3]، ومعناه – كما قال الشافعي -: العمل فيها خير من العمل في ألف شهر ليس فيها ليلة القدر، ولقوله – عليه السلام:"من قام ليلة القدر إيماناً واحتساباً غفر له ما تقدم من ذنبه"، أخرجه البخاري ومسلم وغيرهما.

وكذا يستحب أن يكون اجتهاده في العبادة في يومها كاجتهاده في ليلتها؛ حكاه البندنيجي عن الشافعي في القديم.

قال: في جميع شهر رمضان؛ لما روى أبو داود عن عبد الله بن عمرن قال: سئل

ص: 372

رسول الله صلى الله عليه وسلم – وأنا أسمع – عن ليلة القدر، قال:"هي في كل رمضان"؛ ولأجل هذا قال الإمام مالك: إنها في جميع الشهر، ولا يتعين لها وقت.

ويخحكي عن أبي حنيفة أيضاً، وقد حكى عنه [أيضاً] أنه قال: إنها في جميع السنة، لأنه قال:[لو قال] لزوجته: أنت طالق [ليلة القدر] لا تطلق ما لم تمض سنة، وحمله أصحابه على ما إذا كان قد مضى بعض شهر رمضان؛ لأنه احتمل أن تكون في مقدار ما مضى من الشهر.

وما ذكره الشيخ اتبع فيه المحاملي؛ فإن النووي في "الروضة" قال: إنه قال ذلك. وألا فسيأتي أن مذهب الشافعي أنها في العشر الأخير منه؛ وحينئذ فيكون الشيخ ومن تبعه قال ذلك؛ للاحتياط في تحصيلها؛ فإن الخلاف في كونها في جميعه له وجه، وقد كان – عليه السلام – يلتمسها فيه؛ وبهذا ظهر الفرق بين ذلك وبين جميع السنة، وإن كان قد قال بعضهم: إنها فيها.

قال: وفي الشعر الأخير أكثر.

قال القاضي الحسين: لأنه ما من ليلة [من لياليه] إلا وقد روي أنها هي.

وغيره استدل بما روى [مسلم] عن أبي سعيد الخدري قال: إن رسول الله صلى الله عليه وسلم اعتكف العشر الأول من رمضان، ثم اعتكف العشر الأوسط في قبة تركية على ستها حصير، قال: فأخذ الحصير بيده، فنحاها في ناحية القبة، ثم اطلع رأسه، فكلم [الناس] فدنوا منه، فقال: "إني اعتكفت العشر الأول؛ التمست هذه

ص: 373

الليلة، ثم اعتكفت العشر الأوسط، ثم أتيت فقيل لي: إنها في العشر الأواخر؛ فمن أحب منكم أن يعتكف فليعتكف

"، فاعتكف الناس معه، وسنذكر بقية الحيث.

وأخرج مسلم عن ابن عمر قال: قال رسول الله: "التمسوها في العشر الأواخر" -يعني: ليلة القدر - فإن ضعف أحدكم أو عجز، فلا يغلبن على السبع البواقي".

قال: وفي ليالي الوتر، أي: من العشر الأخير أكثر؛ لرواية عن أبي سعيد الخدري في الحديث الطويل: "والتمسوها في كل وتر".

ولفظ الشافعي: "وطلبها في الوتر منه - أي: من العشر - أحب إليّ"، ومن هذا الخبر أخذ القاضي الحسين تأكد طلبها في العشر الأخير أيضاً؛ لأن الوتر لا يدري أنه أراد به الماضي أو الوتر المستقبل؛ فيدخل فيه الكل، ويؤيد ذلك رواية مسلم عن أبي سعيد الخدري أنه - عليه السالم - قال:"التمسوها في العشر الأواخر من رمضان، التمسوها في التاسعة والسابعة والخامسة"، وأن أبا سعيد فسر التاسعة بالثانية والعشرين، والسابعة بالرابعة والعشرين، والخامسة بالسادسة والعشرين؛ وهذا ما قاله بناء على تمام الشهر، وتاوَّل غيره التاسعة بليلة الحادي والعشرين، والسابعة بليلة الثالث والعشرين؛ بناء على نقصان الشهر.

فقال: وأرجاها ليلة الحادي والعشرين؛ لرواية مسلم عن أبي سعيد الخدري في تتمة الحديث السالف قال: "وإني أريتها ليلة وتر، وأني أسجد صبيحتها في طين

ص: 374

وماء"، فأصبح من ليلة إحدى وعشرين، وقد قام إلى الصبح، فمطرت السماء، وفكف المسجد، فأبصرت الطين والماء، فخرج حين فرغ من الصلاة وجبينه وروثة أنفه فيها الطين والماء، فإذا هي ليلة إحدى وعشرين من العشر الأواخر".

قال: والثالث والعشرين؛ لما روى مسلم عن عبد الله بن أنيس أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال:"أريت ليلة القدر، ثم أنسيتها، وأراني صبحها أسجد في ماء وطين"، قال: فنظرنا ليلة ثلاث وعشرين، فصلى بنا رسول الله صلى الله عليه وسلم، فانصرف [و] إن أثر [الطين والماء] على جبهته وأنفه.

قال: وكان عبد الله بن أنيس يقول: ثلاثاً وعشرين.

قال الأصحاب: وعلامة ليلة القدر: أنها غير حارة، ولا باردة [و] تصبح الشمس من صبيحتها [لا شعاع لها لأنه عليه السلام قال في وصفها: إنها ليلة طلقة، لا حارة، ولا باردة، وتصبح الشمس من صبيحتها] بيضاء كالطست [لا شعاع لها] حتى ترتفع".

ص: 375

وقد حكى الإمام أن [للشافعي] فيها مذهبين:

أحدهما: انحصارها في العشر الأواخر، أي: من غير تعيين؛ لما ذكرناه من خبر أبي سعيد الخدري، وقد روى عن أبي ذر الغفاري قال: قلت [يا] رسول الله، رفعت ليلة القدر مع الأنبياء، أو هي باقية إلى يوم القيامة؟ قال:"بل هي باقية [إلى يوم القيامة] " قلت: هل هي في رمضان أو في غيره؟ قال: "في رمضان"، قلت: هل هي في العشر الأول، أو الأوسط، أو الأخير؟ قال:"في الأواخر".

والمذهب الآخر تعيين ليلة الحادي والعشرين، والثالث والعشرين.

قلت: وهذا كأنه أخذ من قول المزني: إن الشافعي قال لما نقل خبر أبي سعيد الخدري: "يشبه أن تكون ليلة إحدى أو ثلاث وعشرين". وأشار البندنيجي إلى أن هذا مذهبه في القديم؛ لأنه قال: وهي في العشر الأواخر من [شهر] رمضان، وينبغي أن تطلب في جميع العشر، ويستحب ذلك في كل وتر، ونحن في ليلة الحادي والعشرين أشد استحباباً، وقال في القديم: ليلة حادي وعشرين أو ثالث وعشرين. والمذهب ما حكيناه، وهو أن الظاهر من مذهبه: أنها ليلة الحادي والعشرين.

قلت: ولولا هذه الزيادة لأمكن أن يكون ما ذكره البندنيجي [من] الخلاف في تأكيد الاستحباب، وبهذا ينتظم فيها عندنا ثلاثة أقوال.

وحكى الإمام عن صاحب "التقريب": أنه ذكر في كتابه تردداً في أنه يجوز أن تكون في النصف الأخير من رمضان وهذا متروك عليه، ولا يعرف له متعلقاً.

ص: 376

قلت: يجوز أن يكون متعلقه ما رواه أبو داود عن ابن مسعود قال: قال لنا رسول الله صلى الله عليه وسلم: "اطلبوها [في] ليلة سبع عشرة من رمضان، وليلة إحدى وعشرين، وليلة ثلاث وعشرين. ثم سكت"، لكن في إسناده حكيم بن سيف، وفيه مقال، وما لا مقال فيه: رواية أبي داود عن معاوية بن أبي سفيان عن النبي صلى الله عليه وسلم في ليلة القدر، قال:"ليلة سبع وعشرين"؛ ولهذا ذهب إليه أكثر الصحابة كما قال القاضي الحسين، واستدل على ذلك أبو ذر وكان يقسم بالله: أنها هي بأن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: "إن الشمس تطلع صبيحتها لا شعاع لها"،وقد راعيت ذلك فرأيته في صبيحة سبع وعشرين.

واستدل ابن عباس بأنه اعتبر كلمات السورة، فوجدها ثلاثين كلمة بعدد ليالي الشهر، ثم وجد الإشارة [بقوله]:{سَلامٌ [هِيَ]} على رأسها السابعة والعشرين؛ فعلم أن ليلة القدر في مثلها من الشهر.

واستدل ابن مسعود بقوله تعالى: {إِنَّا أَنزَلْنَاهُ فِي لَيْلَةِ الْقَدْرِ} [القدر:1]، ثم قال في آية أخرى:{وَمَا أَنزَلْنَا عَلَى عَبْدِنَا يَوْمَ الْفُرْقَانِ يَوْمَ الْتَقَى الْجَمْعَانِ} [الأنفال: 41]، ويوم الفرقان كان يوم السابع والعشرين؛ فتكون ليلة يوم الفرقان هي ليلة القدر.

وبالجملة: فالحكمة في كون الله تعالى لم يبينها لعباده وأخفاها عليهم: ألا

ص: 377

يتكلموا عليها، ويجتهدوا في العبادة في جميع الليالي؛ وهذا كما أخفى اسمه الأعظم من بين أسمائه الحسنى؛ لكي يذكروا الكل، ويكثر ثوابهم، وأخفى غضبه من بين المعاصي كي يجتنبوا جميع المعاصي، وأخفي وليَّه [من] بين الناس؛ كي يحبوا أبداً جميع المؤمنين، وأخفى الساعة التي يستجاب فيها الدعاء يوم الجمعة؛ كي يشتغلوا جميع النهار بذكر الله تعالى، وأخفى الساعة والصلاة الوسطى وعمر ابن آدم [و] هكذا.

وقد فرَّع الأصحاب على المذهب المشهور - وهو انحصارها في العشر الأخير - أنه لو قال لزوجته: أنت طالق في ليلة القدر، أو لعبده: أنت حر فيها -[نظر]: فإن كان هذا القول بعد طلوع الفجر [من] ليلة إحدى وعشرين [من رمضان؛ فإنه لا يحكم بطلاقها إلا عند غروب الشمس من ليلة إحدى وعشرين من رمضان] من العام المقبل؛ لجواز أن تكون ليلة القدر هي التي عقد الطلاق والعتق في صبيحتها؛ صرح بذلك القاضي ابو الطيب والروياني في "البحر" وغيرهما، وإن كان في عبارة بعضهم تجوز.

وقال ابن الصباغ: يقع الطلاق في السنة الثانية إذا مضى جميع العشر؛ لجواز اختلافها. ولم يحك غيره، وهو ما أبداه الماوردي احتمالاً لا غير، واختاره في "المرشد".

قلت: ويظهر بناء هذا الخلاف على أنها هل تنتقل أم لا؟ [و] فيه وجهان حكاهما القاضي الحسين والإمام وغيرهما:

أحدهما: أنها متنقلة، وهو قول المزني وابن خزيمة من أصحابنا؛ لأن الاختلاف قد ظهر في الأخبار، ولا طريق للجمع إلا أن يقال: هي متنقلة.

ولأن العلامات التي ذكرها رسول الله صلى الله عليه وسلم ترى على الاختلاف، وعلى هذا لا يتجه غير ما قاله ابن الصباغ.

ص: 378

والثاني: أنها لا تنتقل، وهو قول الجمهور وأكثر العلماء؛ كما قال في "البحر"، وقال في "الروضة": إنه مذهب الشافعي. وعلى هذا [فلا وجه إلا ما قاله القاضي].

ولو قال ذلك قبل غروب الشمس من ليلة إحدى عشرين قال القاضي أبو الطيب: فلا يحكم بطلاقها حتى تغرب الشمس من ليلة الثلاثين؛ لأنه يتيقن ليلة القدر في تلك الحال، وهذه العبارة أحسن من عبارته في "المهذب" وغيره التي تبعها الرافعي: أنها تطلق بانقضاء ليالي العشر؛ لأنها تطلق في أول الليلة الأخيرة [من العشر] نبه عليه في "الروضة".

وقد أطلق الإمام القول بأن الشافعي قال: "لو قال لامرأته: أنت طالق ليلة القدر لم تطلق حتى ينقضي العشر فإذا انقضى طلقت"، وهو ما ادعى أن به يبين مذهبه فيها، ولعل هذا محمول على ما إذا قال ذلك قبل العشر.

ثم قال الإمام: فإن قيل: الانحصار مقطوع، - أي: حتى أوقعتم الطلاق بمضيه - قلنا: لا، ولكنه مذهب ثابت، والطلاق أنماط بالمذاهب المظنونة، وقد وجد في نسخ: الوسيط": أن الشافعي قال: لو قال في نصف رمضان: إن امرأتي طالق ليلة القدر، لم تطلق ما لم تنقض سنة؛ لأن كونها في جميع الشهر محتمل، والطلاق لا يقع بالشك، وليس على انحصارها في العشر الأواخر [دليل ظاهر. ولأجل هذا قال في "الوجيز" بعد قوله: وهي - أي: ليلة القدر - في أوتار العشر الأخير]. وقيل: إنها في جميع الشهر؛ ولذلك لو قال لزوجته في منتصف شهر رمضان: أنت طالق ليلة القدر [لم تطلق] إلا إذا مضت سنة؛ لأن الطلاق لا يقع بالشك، ويحتمل ان تكون في النصف الأول.

واعترض عليه الرافعي فقال: قوله: وقيل يشعر بأن ذلك [وجه للأصحاب] ولا

ص: 379

يكاد يحكي رواية احتمالها [في] جميع الشهر عن الأصحاب في شيء من كتب المذهب، وما أجاب به في مسألة الطلاق يخالف ما نقله الأئمة كما تقدم.

قلت: وما حكيناه عن المحاملي وقاله الشيخ يعضد الغزالي وإن لم نسلمه، فالظاهر أن ذلك جاء من طغيان القلم عن وضع "الوسيط" بذكر الشافعي وإقامة الواو مقام، فإنه "فإنه" لو حذف لفظ "الشافعي" من الكلام وجعل لفظة "فنه" مكان الواو من قوله: و"قال"، لصار لفظه: "وقال أبو حنيفة: هي في جميع السنة، وقيل- أي: عنه-: إنها في جميع الشهر؛ فإنه [قال]: لو قال: منتصف رمضان

إلى آخره - لا ستقام ذلك لأن هذا هو المحكي عن أبي حنيفة في "الإبانة" على هذا النحو، وكلامه في "الوجيز" قاله متبعاً لما وقف [عليه في "الوسيط" عند اختصاره فلذلك توجه] عليه الاعتراض.

قال: والمستحب أن يكون دعاؤه فيها: اللهم إنك عفو تحب العفو فاعف عني؛ لما روى [عن عائشة] أنها قالت: قلت: يا رسول الله، إن وافقت ليلة القدر، فما أسأل الله فيها؟ قال:"قولي: اللهم إنك عفو تحب العفو فاعف عني".

فائدة: لماذا سميت ليلة القدر.

قيل: لأنها ذات القدر العظيم.

وقيل: من التضييق، من قوله:{وَمَنْ قُدِرَ عَلَيْهِ رِزْقُهُ} [الطلاق:] وهي ليلة تضيق فيها الأرض عن الملائكة.

وقيل: ما يقدر فيها من الأرزاق والآجال، وغير ذلك في تلك السنة؛ قاله ابن عباس، ومعناه: إظهار ما قدره الله تعالى في الأزل من ذلك، وعلى هذا قول الشافعي: القدر هو الحكم، كقوله تعالى: {إِنَّا أَنزَلْنَاهُ فِي لَيْلَةٍ مُبَارَكَةٍ إِنَّا كُنَّا مُنذِرِينَ * فِيهَا يُفْرَقُ

ص: 380

كُلُّ أَمْرٍ حَكِيمٍ} [الدخان].

وقيل: لأن [من] لم يكن له قدر، صار برؤيتها ذا قدر.

وقيل لأنه أنزل يها كتاب ذو قدر وينزل فيها رحمة ذات قدر وملائكة ذوو قدر.

واختلف في سببها:

فقيل: إن قوماً شكوا إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم قلة أعمالهم لقصر أعمارهم فأعطاهم [الله] ليلة القدر التي هي خير من ألف شهر، حتى إن كان العمر قصيراً يكون فضل عملهم كثيراً.

وقيل: إنه قيل: [يا] رسول الله، إن في بني إسرائيل رجلاً لبس لأمته ألف شهر لم ينزعها حتى لقي العدو، فقال الله تعالى:{لَيْلَةُ الْقَدْرِ خَيْرٌ مِنْ أَلْفِ شَهْرٍ} [القدر: 3]، أي: من تلك الألف شهر التي كان لا ينزع يها اللأمة.

كذا حكى القاضي الحسين القولين، وهما متظافران على أنها لم تكن في الأمم الماضية وبه جزم المتولي والرافعي.

وقال الإمام: إن المختار عندنا أنها مختصة بهذه الأمة. بعد أن حكى اختلاف العلماء في ذلك. وأبعد منه اختلافهم في أنها هل رفعت بعد رسول الله صلى الله عليه وسلم أو لا؟ مع تصريحه في حديث أبي ذر بأنها لا ترفع.

وقد قيل: إن القول بأنها رفعت غلط وهو منسوب في "تعليق" القاضي الحسين و"التتمة" إلى الروافض.

قال: ومن لزمه قضاء شيء من [شهر] رمضان فالمستحب أن يقضيه متتابعاً؛ لأنه إذا تابع كان مبادراً إلى فعل العبادة وبراءة الذمة، والمبادرة إلى ذلك أولى من التأخير.

وأيضاً فليخرج عن الخلاف؛ فإن بعض العلماء أوجبه؛ لما روي عن أبي هريرة

ص: 381

عن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: "من كان عليه قضاء رمضان فليسرده ولا يقطعه" وروي عن علي وابن عمر وعائشة أنهم قالوا يقضي متتابعاً وليكون القضاء شبيهاً بالأداء.

ونحن نقول: إن صح الحديث حملناه على الاستحباب وكذلك قول الصحابة لرواية موسى بن عقبة عن نافع عن [ابن] عمر قال: سئل رسول الله صلى الله عليه وسلم عن تقطيع قضاء رمضان، قال:"أرأيت لو كان عليك دين، فقضيته درهماً ودرهمين، أما كان يجزئ عنك؟ قال: بلى، قال: فالله أحق أن يعفو ويغفر".

وروي أنه سئل عن قضاء رمضان فقال: "إن شاء فرقه وإن شاء تابعه"؛ فإن في ذلك جمعاً بين الأحاديث.

قال: ولا يجوز أن يؤخر القضاء إلى رمضان آخر بغير عذر لما روى البخاري ومسلم عن ابي سلمة قال سمعت عائشة تقول كان يكون عليَّ الصوم من رمضان فما أستطيع أن أقضيه إلا في شعبان بالشغل من رسول الله صلى الله عليه وسلم أو برسول الله صلى الله عليه وسلم.

وجه الدلالة منه: أنه لو كان يجوز التأخير بعد شعبان، لم يكن لذكرها شعبان من

ص: 382

بين سائر الشهور معنى.

وفارق قضاء رمضان – حيث تأقت – قضاء سائر العبادات؛ حيث لا تتأقّت؛ لأنه دخل عليه وقت لا يقبل إيقاع غير ما وجب يه بخلاف سائر العبادات.

قال: فإن أخر، لزمه مع القضاء [الفدية]: عن كل يوم مدٌّ من طعام؛ لما روى مجاهد عن أبي هريرة عن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: "من وجب عليه قضاء رمضان فلم يقضه حتى خل رمضان آخر، قضى، وأطعم عن كل يوم مدًّا".

ولأنه إجماع الصحابة؛ فإنه روي ذلك عن ابن عمر وابن عباس وأبي هريرة ولا، مخالف لهم من الصحابة.

ويقال: إن يحيى بن أكثم روى هذا القول عن ستة من الصحابة، ولم يذكر أسماءهم.

وقد قال ابن الصباغ: إن طريق خبر أبي هريرة فيه ضعف، فالمعتمد على الأثر.

وقد اختار المزني عدم وجوب المد كمذهب أبي حنيفة؛ تمسكاً بقوله تعالى: {فَمَنْ كَانَ مِنْكُمْ مَرِيضاً أَوْ عَلَى سَفَرٍ فَعِدَّةٌ مِنْ أَيَّامٍ أُخَرَ} [البقرة: 184] ولم يوجب مع ذلك شيئاً؛ فالزيادة عليه زيادة في الكتاب.

والمذهب: الأول والجواب عما ذكروه: أن المد ما وجب بالفطر، وإنما وجب بالتأخير، وعلى هذا فرعان:

أحدهما: لو أراد تعجيل فدية التأخير قبل مجيء رمضان السنة القابلة؛ ليؤخر

ص: 383

القضاء مع الإمكان -قال الرافعي: ففي جوازه وجهان كالوجهين في جواز تعجيل الكفارة عن الحنث المحظور.

الثاني: لو أخر القضاء رمضانين فأكثر، فهل يتعدد المد بتكرار السنين؟ فيه وجهان:

أصحهما في "الحاوي" والمذهب في "تعليق" البندنيجي: أنه لا يجب سوى مد واحد، وقال في "البحر": إنه قول ابن سريج.

والصحيح في "النهاية": مقابله قال في "البحر": وبه قال عامة أصحابنا.

وعلى هذا: لو كان عليه قضاء أيام، ولم يبق بينه وبين رمضان السنة الثانية ما يتأتى فيه قضاء جميعها، فهل يلزمه في الحال الفدية عما لا يسعه الوقت أم لا يلزمه [إلا] بعد مجيء رمضان؟ فيه وجهان مشبِّهان بما إذا حلف ليشربن ماء هذا الكوز غداً فانصب قبل الغد.

وفائدة الخلاف تظهر فيما لو مات الحالة هذه قبل إدراك رمضان الثاني قاله في "التتمة".

وهل له ان يصوم بدل المد في هذه الصورة وغيرها يوماً أو لا؟ قال القاضي الحسين فيه جوابان:

أحدهما: يجوز فيقضي لكل يوم يومين: يوم قضاء، ويوم بدل عن فدية التأخير؛

ص: 384

لأن صوم يوم خير من مد؛ ألا ترى أن الشيخ الهرم لا يجزئه المد إلا بعد العجز عن الصوم، والله تعالى يقول:{وَأَنْ تَصُومُوا خَيْرٌ لَكُمْ} [البقرة: 184].

والثاني: لا يجوز؛ لأن هذا الإطعام أصل في نسه، فأشبه الإطعام في كفارة اليمين لا يجوز أن يصوم بدله من غير عجز عنه.

وقد أفهم كلام الشيخ أمرين:

أحدهما: أنه إذا كان تأخير القضاء لعذر لا يكون الحكم كما إذا أخره لغير عذر وهو كذلك؛ إذ قطع الأصحاب بأنه لا فدية عليه بل القضاء، صرح به أبو الطيب وغيره.

والعذر المشار إليه: دوام السفر والمرض المجوزين للفطر.

قال في "البحر": ولو أخَّره [بعذر إلى] رمضان آخر، ثم قدر على القضاء عقيب انقضاء رمضان، ثم أخَّره، فمات قبل دخول رمضان ثالث لا يلزمه الفدية للتأخير.

الثاني: جواز تأخير القضاء ما لم يدركه رمضان آخر بغير عذر سواء كان ترك الصوم في وقته لعذر أو لغير عذر وهو ما صرح به البندنيجي والمحاملي في التجريد كما قال الرافعي والماوردي وصاحب "البحر"، والذي حكاه الفوراني والمتولي فيما إذا كان ترك الأصل لعذر وقالا فيما إذا كان بغير عذر: إن المد واجب إذا أخَّر القضاء إلى رمضان [آخر] والقضاء واجب على الفور. وهو الذي صدَّر به الرافعي كلامه.

وقال في "التهذيب" – والحالة هذه -: ليس له التأخير بعذر السفر فلو أخره وفعله قبل أن يأتي رمضان آخر – إما للسفر أو لغيره – قال في "التتمة" فلا شيء عليه.

ص: 385

وقال الغزالي في كتاب الحج: إن الخلاف المذكور في وجوب قضاء الحج الذي أفسده بالجماع جار في قضاء صوم تعدى بتركه.

وقال القاضي الحسين فيما إذا كان فطره بغير عذر: إنه ينظر: فإن كان مما يوجب عليه في الحال كفارة مثل الجماع، فأخر القضاء حتى دخل رمضان آخر – هل يلزمه للتأخير فدية أم لا؟ فيه جوابان:

والظاهر: أنها لا تلزمه؛ لأنه قد لزمه في هذا اليوم كفارة؛ فلا تجتمع اثنتان.

والثاني: تلزمه؛ لأنه قد لزمه في هذا اليوم كفارة؛ فلا تجتمع اثنتان.

والثاني: تلزمه؛ لأن الفدية للتأخير، والكفارة للهتك.

وإن كان فطره بالأكل ونحوه، فقد ذكرنا في وجوب الفدية عليه وجهين:

فإن قلنا: لا تجب، وجب المد بالتأخير، وهو الظاهر.

وإن قلنا: بالوجوب ثم، فهل يجب المد للتأخير؟ فيه وجهان:

المذكور منهما في "النهاية": الوجوب.

وقال الرافعي إنه رأى فيما علق عن إبراهيم المروزي ترتيبه على ما لو أخر القضاء حتى مضى رمضانان فأكثر: إن عدَّدنا الفدية – ثمَّ – فهاهنا أولى، وإلا فوجهان؛ لاختلاف جنس الواجب.

وإن كان فطره بعذر: فإن كان يجب معه فدية: كفطر الحامل والمرضع، فهل يجب بالتأخير مدُّ آخر؟ فيه الوجهان. وإن كان لا يجب معه الفدية، وجب المد هنا بالتأخير والله أعلم.

قال: ومن مات وعليه صوم [أي: من رمضان] أو كفارة أو نذر كما قال الماوردي، [و] تمكن من فعله، أطعم عنه كل يوم مدٌّ من طعام؛ لما روي عن ابن عمر مرفوعاً إلى النبي صلى الله عليه وسلم وموقوفاً عليه فيمن مات وعليه صيام رمضان فلم يصم حتى مات:"أطعم عنه كل يوم مد من طعام لمسكين"، وقد ققال بذلك ابن

ص: 386

عباس [وعائشة] رضي الله عنهما – وعلى هذا فرعان:

أحدهما: لا يجوز أن يطعم المد لأكثر من مسكين واحد؛ للخبر.

قال القاضي الحسين: والمذهب فيما إذا وجب عليه أكثر من مد بسبب ذلك أنه يجوز دفعه إلى مسكين واحد.

الثاني: لو مات بعد ما أدركه رمضان آخر، وقد تمكن من القضاء قبله – فهل يقضي عنه مدان أو مد واحد؟ فيه وجهان.

المحكي منهما في "تعليق" القاضي الحسين عن النص: الأول، ولم يذكر في الإبانة [غيره].

وإذا قلنا بالثاني، فالمد في مقابله ماذا؟

الذي حكاه ابن الصباغ: أنه بدل الصوم فإذا أخرجه زال التفريط بالتأخير فلم يجب لأجله شيء.

والذي حكاه القاضي أبو الطيب والبندنيجي: [أنه] في مقابلة التأخير، ويسقط حكم القضاء؛ لأن التأخير إذا انجبر فكأن العذر اتصل إلى الموت، وإذا اتصل العذر كان القضاء غير واجب وهذا قد نسبه القاضي الحسين إلى الإصطخري.

وحكى الماوردي عن ابن سريج أنه قال: يجب عليه مد واحد لأن الفوات يضمن بالمد الواحد كالشيخ الهمِّ.

ص: 387

قال: وفيه قول آخر: أنه يصام عنه؛ لما روى البخاري ومسلم عن عائشة أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: "من مات وعليه صيام، صام عنه وليه"، وهذا هو القديم كما قال في "الوسيط" و"التتمة" وغيرهما.

وقال البندنيجي: إنه نص عليه في "أماليه"،حيث قال: "إن صح الحديث قلت به. وقد صحَّ الخبر؛ لأجل ذلك ذهب جماعة من محققي أصحابنا إلى [تصحيح] القديم.

قال في "الروضة": وهو الصواب بل ينبغي أن يجزم به فإن الأحاديث الصحيحة ثبتت فيه، وليس للجديد حجة من السنة. والحديث الوارد بالإطعام ضعيف؛ فتعين القول القديم.

وعلى هذا من هو الولي؟

قال الغزالي يحتمل أن يراد به هنا: الوارث. وهو ماحكاه في "البحر" عن بعض الأصحاب لا غير، وقال إنه لا فرق فيه بين المستغرق وبين وارث شيء ما.

ويحتمل أن يراد به [العصبات].

ويحتمل أن يراد به القريب: وارثاً كان، أو غير وارث.

قال في "الذخائر": وهو أظهر الاحتمالات. وفي الروضة: أنه المختار.

ولا يجب على الوي الصوم اتفاقاً – كما قال الشيخ أبو محمد والبغوي – بل هو مستحب في حقه.

ص: 388

ولو أطعم عنه على هذا جاز؛ قاله النواوي وغيره.

ويقوم مقامه في الصيام عنه الأجنبي إذا فعله بإذنه بأجرة وغير أجرة؛ كالحج عنه، قاله في "المهذب" و"الشامل" وغيرهما: وهل يصح منه بغير إذن الولي؟ فيه وجهان في "التتمة":

والأظهر منهما في "الرافعي": المنع وهو المذكور في "الشامل" لا غير.

ومقابله هو المذكور في "تعليق" القاضي أبي الطيب، وقاسه على الحج عنه.

وحكى القاضي الحسين وجهين في جواز استئجار الولي من يصوم عنه؛ بناء على أن الأجنبي إذا أراد الحج من ماله عن المعضوب هل يلزمه أن يأذن له؟ وفيه وجهان:

والجديد الذي نص عليه في "الأم" وكذا القديم – كما قال الماوردي – هو الأول؛ لما ذكرناه ولأنه عبادة لا تدخلها النيابة [في حال الحياة] فلا تدخلها بعد الوفاة كالصلاة والحديث محمول على أن الولي يفعل عنه فعلا ًيقوم مقام الصوم، وقد جاء مثل ذلك في قوله – عليه السلام:"الصعيد الطيب وضوء المسلم" فسمى التراب – وهو بدل-= باسم مبدله وهو الوضوء. وقد روي عن عائشة – وهي راوية الحديث- بالإطعام دون الصوم وذلك يقوى ما ذكرناه.

ص: 389

وقال الإمام: ليست أرى أن الشافعي ترك القول بالخبر في الجديد إلا أنه استبان ضعفه أو ثبت [عنده] نسخه وللقائلين بالقديم أن يقولوا: تظافر الروايات في الصحيح يمنع الضعف؛ فإن مسلماً روى عن بريدة قال: "بينا أنا جالس عند رسول الله صلى الله عليه وسلم إذ أتته امرأة فقالت: [إني] تصدقت على أمي بجارية، وإنها ماتت؟ قال: فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "وجب أجرك وردها عليك الميراث قالت: يا رسول الله إنه كان عليها صوم [شهر] أفأصوم عنها؟ قال صومي عنها، قالت: إنها لم تحج قط أفأحج عنها؟ قال: حجي عنها".

وقد قال البيهقي: لو وقف الشافعي على جميع طرقه ونظائره لم يخالفه.

فرع: هل يقوم المرض الميئوس منه مقام الموت في جواز الصوم عنه إذا قلنا به كما في الحج، أو لا كما في الصلاة؟ فيه خلاف حكاه الرافعي في كتاب الوصية [و] من منعه قال: المال للحج فيه مدخل من وجهين:

أحدهما: في أصل إيجابه.

والثاني: في جبرانه.

فجازت النيابة في الحالين والصوم لا [مدخل للمال] فيه إلا في موضع [واحد] وهو جبران فلم تجز النيابة فيه إلا من وجه واحد.

أما من لم يتمكن من الصوم؛ لاستمرار السفر ودوام المرض حتى مات – فلا شيء عليه حتى يفعل عنه، وقد أشرنا إلى ذلك فيما تقدم، وقد حكاه القاضي الحسين عن نص الشافعي، وحكي عن أبي يحيى البلخي وغيره وجهاً: أنه يجب عليه الكفارة لأنه شهد الشهر وهو مكلف؛ فهو كالشيخ الهرم، قال: وهو غلط؛ لأن الله تعالى قال: {فَعِدَّةٌ مِنْ أَيَّامٍ أُخَرَ} [البقرة: 184] فأمر بالقضاء بعد زوال العذر.

ولأنه لو كان مأموراً قبله لكان [مأموراً] في وقته واليخ لم يخاطب قط إلا

ص: 390

بالفدية وفي مسألتنا خوطب بالصوم وأبيح له الفطر، وأمر بالقضاء إلا أنه لم يدرك إمكان القضاء.

وابن الصباغ والمتولي فرقا بينهما بأن الشيخ الهم يجوز ابتداء الوجوب عليه [والميت لا يجوز ابتداء الوجوب عليه].

ولو كان عليه قضاء يومين فتمكن من قضاء أحد اليومين وبقي الإمكان إلى نصف اليوم الثاني ثم مات بعده – وجب الإطعام عنه لليوم الأول، وفي اليوم الثاني وجهان:

أحدهما: يلزمه الإطعام عنه.

والثاني: لا.

وأصلهما: إذا قدر صوم نصف يوم هل يلزمه صوم يوم أو لا يلزمه [شيء]؟ فيه وجهان. وأصلهما –أيضاً -: أن وجوب بعض اليوم هل يستدعي وجوب الباقي؟ فيه وجهان وهو في الكافر يسلم في أثناء اليوم كذا قاله في "البحر".

ص: 391

وقد أفهم كلام الشيخ وجوب المدِّ أو الصوم عنه عند تمكنه من الصوم قبل الموت سواء مات بعد خروج وقت القضاء بدخول رمضان آخر أو قبله، وهو الصحيح في "تعليق" القاضي الحسين، وبه قال سائر الأصحاب، كما قال.

وحكى عن ابن أبي هريرة فيما إذا مات قبل خروج وقت القضاء: [لا يجب عليه شيء لا الإطعام ولا الصوم عنه؛ لأن القضاء] مؤقت محصور وقته فيما بين رمضانين، فإذا مات قبل أن يدخل رمضان آخر فقد مات قبل أن يخرج وقت القضاء؛ فلم يكن مفرطاً كمن مات ولم يقدر على القضاء أصلاً، ونزل هذا منزلة الصلاة إذا مات في أثناء وقتها، فإنه لا يعطي؛ لأنه غير مفرط؛ فإن الوقت محصور.

قلت: وهذا ظاهر الدلالة؛ ولذلك لم يبطل قوله بشيء، والله أعلم.

ص: 392