الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
باب قسم الصدقات
القَسْم - بفتح القاف-: مصدر بمعنى: القسمة، وبكسر القاف: النصيب: والصدقات: جمع "صدقة"، وهي تطلق على الواجب وعلى التطوع، والمراد بها [في الباب]: زكوات الأموال، كما ستعرفه. وجمع "الصدقة" لاختلاف أنواعها: فإنها تارة تكون من الماشية، [وتارة من الحَبِّ، وتارة من التمر]، وتارة من جوهر النقد، واسم "الصدقة" يقع عليها، وكذا اسم "الزكاة"، وإن غلب على أفواه العوام - كما قال الشافعي رحمه الله في القديم - أن الواجب من الماشية: صدقة، ومن الحب والتمر: عشر، ومن الذهب والورق: زكاة، قال الله تعالى:{خُذْ مِنْ أَمْوَالِهِمْ صَدَقَةً} [التوبة: 103] وهي عامة في جميع المأخوذ من الأموال كما تقدم، وقال عليه السلام:"ليس فيما دون خمس أواق من الورق صدقة"، "وفي الكرم يخرص كما تخرص النخل، أو تؤدَّى زكاته زبيباً كما تؤدَّى زكاة النخل تمراً".
قال: ومن وجبت عليه الزكاة وقدر على إخراجها لم يجز له تأخيرها؛ لأنه حق وجب عليه، وقدر على أدائه مع قيام القرينة الدالة على طلبه، [وهي] تنجز حاجات الأصناف؛ فتعين عليه أداؤه على الفور؛ كما لو كان عليه دين حالٌّ وعنده عين، طلب ذلك ربه أو وكيله، ولا عذر في تأخيره. أو نقول: الزكاة فرض يتكرر وجوبه في كل عام مرة؛ فوجب أن يكون عند التمكن من أدائه على الفور كالصيام.
وهذا في زكاة الأموال، أما زكاة الفطر فقد تقدم أن وجوبها موسع بليلة الفطر ويومه على الصحيح، وبيومه فقط على مقابله.
ثم قول الشيخ: "وقدر على إخراجها" إنما يحتاج إليه إذا قلنا إن التمكن شرط [في] الضمان كما هو الصحيح، وعليه فرع الشيخ رحمه الله أما إذا قلنا: إنه
شرط في الوجوب، فلا يحتاج إلى ذكره. وقد تقدم في باب صدقة المواشي تسير القدرة فليطلب منه.
ومؤنة إيصال الزكاة إلى الساعي أو أهل الأصناف على المؤدي، حتى لو كان المخرج بعيراً جموحاً كان عليه العقال، وعلى هذه الحالة حمل أصحابنا قول أبي بكر – رضي الله عنه – في حق مانعي الزكاة:"لو منعوني عقالاً مما أعطوا رسول الله صل الله عليه وسلم لقاتلتهم عليه"، كذا حكاه القاضي الحسين في باب عفو المجني عليه، لكنه قال في أول كتاب الزكاة: إن البعير إذا كان شارداً لا يمكن تسليمه إلا بالعقال؛ فعليه تسليمه بالعقال ثم يسترد العقال. وقد حكيته من قبل.
والمذكور في "التتمة" قبل الفصل الرابع فيما يحصل به التمكين: الأول، وقد قيل: إنه – عليه السلام – أراد بالعقال: صدقة عام؛ فإن العقال – بفتح العين -: صدقة العام.
قال: فإن آخَّرها أثم؛ لترك ما تعيَّن عليه فعله على الفور مع القدرة.
قال: وضمن – أي الزكاة إن أتلف المال أو بعضه، وهذا مما لا خلاف فيه بين الأصحاب كما تقدمن لأنه بالامتناع خرج عن أن تكون الزكاة أمانة في يده فضمنها كالغاصب إذا تلفت العين في يده، كذا قاله أبو الطيب. لكن الغاصب إذا تلفت العين
في يده وكانت من ذوات القيم ضمنها بالقيمة، وهنا يضمنها بالمثل الصوري، وإن قلنا: إن الزكاة تتعلق بالعين تلعق شركة؛ لأنه لو فعل ذلك مع بقاء المال لأجزأه فتعيَن عند عدمه، وقد قدمت حكاية ذلك عن الأصحاب في أواخر باب زكاة النبات. نعم، لو تلف النصاب بعد التمكن وعسر الوصول إلى الشاة، ومسَّت حاجة المساكين – قال الإمام قبل باب ما يسقط الزكاة عن الماشية: فالظاهر عندي أنه يخرج القيمة للضرورة. ولعل هذا يناظر ما لو أتلف الرجل مثليًّا وألزم المثل، ثم أعوزه، وتوجهت المطالبة – فالرجوع إلى القيمة، فلو وجد المثل بعد أخذ القيمة فهل يجب المثل وتسترد القيمة؟ [فيه خلاف، وقد يتجه مثله في الزكاة، والأشبه فيها أخذ القيمة] وانقطاع الطلابة بالكلية، وهذا فيما إذا كانت الشاة من جنس الأصل، فلو كانت عن الإبل فقد تقدم حكمها.
قال: وإن منعها جاحداً لوجوبها – أي: وهو قديم العهد بالإسلام، ناشئٌ بين المسلمين – كفر، وأخذت منه، [وقتل بكفره]:
أما الحكم بكفره وقتله به فوجهه: أن الزكاة مما جاء به النبي صلى الله عليه وسلم وأمر بها؛ فمن جحدها فقد كذبه فيما جاء به، ومن كذبه كفر، ويجب قتاله وقتله.
قال القاضي أبو الطيب: فإن قيل: هذا مخالف لمذهب الشافعي – رحمه الله – لأن عنده أن مانعي الزكاة على عهد أبي بكر – رضي الله عنه – لم يكونوا كفاراً؛ لأنهم قالوا: ما كفرنا بعد إيماننا، لكنا شححنا على أموالنا، وقالوا: إن النبي صلى الله عليه وسلم كان يأخذ زكاتنا، وأما أبو بكر فلا حق له فيها؛ فهلا أوجب الشافعي – رحمه الله – قتال جاحديها، ولم يحكم بكفرهم كهؤلاء.
قلنا: إنما لم يحكم بكفرهم؛ لأن الإجماع لم يكن استقر على وجوب الزكاة بعد رسول الله صلى الله عليه وسلم، وكانوا يظنون أن وجوبها متعلق بدفعها إليه – صلوات الله عليه – خاصة، فلما استقر إجماع الصحابة ومن بعدهم على وجوبها كفر جاحدوها؛ ألا ترى أن عمرو بن معد يكرب وقدامة بن مظعون كانا يعتقدان إباحة الخمر [بعد تحريمها، ويتأولان قوله تعالى: {لَيْسَ عَلَى الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ جُنَاحٌ فِيمَا طَعِمُوا إِذَا مَا
اتَّقَوْا} الآية [المائدة: 93] ويقولون: نحن قد اتقينا وعملنا الصالحات، ولا يقال: إنهما كفرا بذلك؛ لأن الإجماع على تحريم الخمر] لم يكن قد استقر، [والآن قد] استقر، ونقل عنهما أنهما رجعا عن ذلك لما قيل لهما: إن الآية نزلت فيما طعموا قبل الإسلام وقبل نزول التحريم لا في المستقبل؛ فمن أباحها الآن فقد كفر.
قلت: وما ذكره القاضي يفهم إفهاماً ظاهراً أن مانعيها في زمن أبي بكر – رضي الله عنه – خالفوا في بقاء الوجوب، [وفي ذلك تعريض] بمخالفة غيرهم من الصحابة فيه أيضاً، وعبارة الماوردي دالة عليه؛ [فإنه قال بعد حكاية مناظرة عمر أبا بكر –رضي الله عنهما – في مقاتلة مانعي الزكاة ورده عليه]: فأجمعت الصحابة معه على وجوبها بعد مخالفتهم له، وأطاعوه على قتال مانعيها بعد إنكارهم عليه؛ فثبت وجوبها بالكتاب والسنة والإجماع.
أما إذا كان قريب عهد بالإسلام، أو نشأ في بادية [بعيدة] عن بلاد الإسلام – فيعذر إلى أن يعرف وجوب ذلك.
وأما أخذها منه؛ فلأنها حق مالي تعلق بذمته أو بماله فلم يسقط بكفره كديون الآدميين.
قال: فإن منعها بخلاً بها، أي: وهو في قبضة الإمام – أخذت منه، أي: سواء كان ماله ظاهرا ً أو باطناً، لما تقدم.
وقال القاضي الحسين في قسم الصدقات، وتبعه المتولي: لأي معنى أخذت منه؟ فيه معنيان:
أحدهما: أن زكاة الأموال الباطنة والظاهرة كانت تحمل إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم وإلى خلفائه إلا أن عثمان – رضي الله عنه – فوض [صرف زكاة] المال الباطن إلى ربه باجتهاده، فإذا ظهر منه التقصير كان للإمام المطالبة، وعلى هذا لو وجب على شخص نذر أو كفارة لا يطالبه الإمام بإخراجها.
والثاني: أن الزكاة من حقوق الله – تعالى – والإمام نائب عنه، فإذا علم من قوم التقصير فيه استوفاه؛ كما إذا علم من قوم ترك الصلاة أمرهم بها، وعلى هذا يطالب بالنذور والكفارات، وسيأتي في ذلك كلام من بعد. وهل ينوي الإمام عنه
في هذه الحالة؟ سنذكره.
قال: وعزر [على ذلك]، أي: إن علم التحريم؛ لأنه أتى معصية لا حد فيها ولا كفارة.
وحكى القاضي أبو الطيب في أول كتاب الزكاة عن القديم: أنه يؤخذ مع الزكاة شطر ماله عقوبة له؛ لقوله-عليه السلام: "في كلِّ أربعين من الإبل السَّائمة بنت لبون، من أعطاها مؤتجراً بها فله أجرها، ومن منعها بخلاً بها فإنا آخذوها وشطر ماله، عزمةً من عزمات ربنا، ليس لآل محمَّدٍ منها شيء".
وحينئذ يكون في المسألة قولان، القديم: هذا، والجديد: الأول، وهو وجوب التعزير دون شطر المال، وبعضهم [قطع] به، وحجته قوله – عليه السلام:"ليس في المال حقٌّ سوى الزَّكاة"؛ ولأنه لو دفعها ثم أخذها ومنعها لم يجب عليه شطر ماله، مع أن ملك أهل السُّهمان لها بعد القبض مستقر؛ فعدم وجوبه بالمنع قبل الاستقرار أولى، والحديث قد ضعَّفه الشافعي – رحمه الله – قال الأصحاب: وإن صح فجوابه: أنه كان في صدر الإسلام حين كانت العقوبات في
الأموال: فكان الزاني يؤخذ جميع ماله، والسارق يغرم مثلي ما سرق، وعليه جَلَداتٌ نكالاً، ومانع الزكاة يؤخذ شطر ماله، ثم نسخ ذلك، قال في "الروضة": وهذا ضعيف؛ لأن النسخ يحتاج إلى دليل، [وهو غير ظاهر هنا].
أما إذا كان خارجاً عن طاعة الإمام، وهو في منعةٍ لا يقدر عليه – كان للإمام قتاله، وعلى الرعية معاونته حتى يؤديها، قاله في "البحر"[هنا، وقد تعرض له الشيخ] في باب قتال أهل البغي.
قال: فإن غلَّها أخذت منه وعزر، أي: إن علم تحريم ذلك، وكان الإمام عادلاً كما نص عليه، ووجهه: ما تقدم.
ويجيء فيه القول القديم السابق، وهو مذهب أحمد، واستدل له برواية بهز بن حكيم عن أبيه عن جده أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال:"من غلَّ صدقته فإنَّا آخذوها وشطر ماله، عزمةً من عزمات ربِّنا، ليس لآل محمد فيها نصيب"، وحجتنا عليه: ما تقدم.
وقد أفهم كلام القاضي أبي الطيب وغيره أن القول القديم لا يجزئ فيه؛ لأنهم قالوا: والخبر [قد] قال الشافعي – رحمه الله:إن صح [إسناده] قلت به. قال الماوردي: واختلف أصحابنا فيه:
فقال بعضهم: [عني: إن صح إسناده وثبت نقله [قلت به وعملت]؛ لأن رواية بهز بن حكيم ضعيفة.
وقال أبو العباس: بل معناه: إن صح ثبوت حكمه، وأنه [غير منسوخ]، ولم يكن أصلٌ يدفعه ولا إجماع يخالفه –قلت به. وأصول الشرع تدفعه، وإجماع الصحابة على ترك العمل به يخالفه بالتحريم؛ فلم يكن [فيه مع صحة إسناده حجة].
أما إذا كان [غير عالم] بالتحريم؛ لقرب عهده بالإسلام ونحوه، أو كان الإمام جائراً – قال البندنيجي:[يعني] كالخارجي والمتغلب – فلا يعزر؛ لأنه ربما غلها ليفرقها بنفسه خوفاً من ألا يضعها الإمام موضعها؛ فهو عذر في حقه، كذا قاله الماوردي وابن الصباغ وغيرهما، قوال الفوراني: إن ادعى شبهة لنفسه مثل أن قال: أخفيتها عنك؛ لأنك جائر، فأحببت أن أتولى الدف بنفسي – لم يعزَّر وإن لم يدع شبهة عزر.
وغلها: إخفاؤها [بإخفاء ماله] أو بعضه؛ حتى لا يراه الساعي، وقال القاضي الحسين: الغلول: أن يخفي بعض ماله لينقص [ما ظهر] من زكاته، قال الأزهري: وأصله من غلول الغنيمة وهي الخيانة فيها، قال: والإغلال: الخيانة في شيء يؤتمن عليه، وقال أبو عبيد: الغلول من المغنم خاصة، ولا نراه من الخيانة ولا من الحقد، [ومما يبين ذلك أنه يقال من الخيانة]: أغلَّ يغلُّ، ومن الحقد: غلَّ يغلُّ – بكسر العين- ومن الغلول: غلَّ يَغُلُّ، بالضم.
قال: وإن قال: بعته، ثم اشتريته، ولم يحل عليه الحول [بعد] وما أشبه ذلك مما يخالف الظاهر، [أي]: كما إذا قال: أديت زكاتها لساع آخر قريباً، أو: ليست لي وإنما هي وديعة [ثم اشتريتها،] وليس عندي حساب حولان [حولها] أو تفصيل أمرها، أو: هي وديعة لذميّ، أو كانت عندي ودية ثم اشتريتها، ولم يمض الحول من حين الشراء – حلف عليه، أي: إيجاباً؛ لأن دعواه تخالف الظاهر فحلف، وإن كان أميناً كالمودع إذا ادعى تلف الوديعة، وقيل: يحلف استحباباً؛ لأنها لو وجبت إذا كانت دعواه تخالف الظاهر لوجبت إذا وافقت الظاهر كالمودع، وهي لا تجب؛ لما سنذكره، فكذا هنا، وهذا ما صححه النواوي – رحمه الله –واقتضى إيراد القاضي أبي الطيب ترجيحه، واختيار الإمام كما ستعرفه. والوجهان متوافقان على تحليفه، ومحلهما: إذا اتهمه فيما قاله، أما إذا لم يتهمه فلا يحلفه، قاله
الماوردي، وسنذكر عن الإمام ما يوافقه.
وقد حكى القاضي الحسين – وتبعه الإمام – وجهاً: أنه لا يحلف أصلاً، وستعرفه من كلامهما الآتي من بعد وادعى الإمام أن هذه [الصورة تفرع] لا محالة على أنه يتعين دفع الأموال الظاهرة إلى السلطان.
قال: وإن قال: لم يحل عليه الحول بعد، وما أشبه ذلك مما لا يخالف [الظاهر]، أي: مثل أن قال: هذه السَّخال نتجت بعد الحول، ولا ظاهر يكذبه، أو قال: ما كانت الأمهات نصاباً، وإنما كمل النصاب بالسخال؛ فالحول من حين كمل النصاب ولم يمض بعد، أو قال: هذه السخال من غير الأمهات؛ فلا تعد معها – كما قاله البندنيجي وغيره – حلف استحبابا؛ لأن دعواه لا تخالف الظاهر، والزكاة مبنية على الرِّفق والمواساة؛ فلو أوجبنا اليمين خرجت عن حد الرفق والمواساة.
وهذا الذي ذكره الشيخ في المسألتين، هو الذي أورده العراقيون، وحكى الماوردي وجهين في قوله: بعته ثم اشتريته، ولم يحل عليه الحول – هل هو [من المخالف] للظاهر حتى يكون في وجوب اليمين الخلاف السابق، أو من الموافق للظاهر حتى تكون مستحبة قولاً واحداً؟ والصحيح الأول.
وقد جمع القاضي الحسين والفوراني بين صور الدعوى المخالفة للظاهر والموافقة له، وقالا: على الساعي أن يصدقه؛ لأنه أمين، فإن اتهمه أحلفه، وهذا نصه في "المختصر" فيما إذا ادعى الدفع لساع آخر. قالا: وهذا الاستحلاف على معنى الاستحباب [أو على معنى الإيجاب]؟ فيه وجهان، المنسوب منهما في "تعليق" القاضي الحسين إلى ابن سريج: الثاني، وسلك الإمام طريقاً آخر ملخصه في جميع الصور: أن الساعي إذا لم يتهم رب المال فيما ادعاه، ودعواه لا تخالف الظاهر فلا يحلف، [وإن اتهمه] ودعواه تخالف الظاهر حلف. وإن خالفت دعواه الظاهر، لكنه عدل غير متهم، وإن كان الظاهر لا يكذبه واتهمه الساعي: فهل
يحلف؟ فيه وجهان.
ثم إذا قلنا: يحلف، فهل هو مستحب أو مستحق؟ فيه اختلاف للأئمة:
فإن قلنا: إنها مستحبة، قال الإمام: فالذي أراه أنه يعرف ذلك، ولا يحرم عليه القول بالحلف؛ فإن أمر الإمام إرهاق، فإن امتنع أن يحلف لم يؤخذ منه شيء.
وإن قلنا: إنها واجبة، فالذي حكاه العراقيون هاهنا: أنها تؤخذ منه؛ حيث قالوا: [إن الحلف واجب. وهو ما إذا كانت دعواه تخالف الظاهر وإنهم قالوا]: وليس ذلك قضاء بالنكول عن اليمين لكن بالوجوب الذي اقتضاه الظاهر الذي [لم يسقطه بيمينه]؛ كما أن الزوجة إذا لم تلاعن يجب عليها حدُّ القذف الذي وجب بلعان الزوج، ولم يسقط بيمينها.
وقال ابن القاص: إن أخذ الزكاة منه في هذه الحالة حكم بالنكول. قال القاضي أبو الطيب هنا: وهو وهم منه، وليس على مذهب الشافعي حكم بالنكول بحال.
وقال القاضي أبو الطيب في موضع آخر ما يقتضي مساعدة ابن القاص، وقد حكيته في باب اليمين في الدعاوى فليطلب منه.
وقال أبو العباس بن سريج: لا يجوز أن يأخذ الزكاة منه [بنكوله، لكن يحبس حتى يحلف أو يؤدي؛ لأن في أخذ الزكاة منه] حكماً عليه بالنكول، ولا يجوز ذلك على مذهب الشافعي. قال الماوردي: وهذا الذي قاله غلط على الشافعي وعلى نفسه:
فأما غلطه على الشافعي فمن وجهين:
أحدهما: أنه خالف نص مذهبه.
والثاني: أنه جهل تعليل قوله؛ لأن العلة في أخذ الزكاة منه: الظاهر المتقدم، لا النكول الطارئ.
وأما غلطه على نفسه فهو أنه أوجب حبس رب المال بنكوله، والنكول لا يوجب الحبس كما لا يوجب الحكم بالحق؛ فكان مثل ما ارتكبه مساوياً لمثل ما أنكره.
وقال المراوزة: حيث قلنا: اليمين مستحقة كما تقدم، فامتنع منها: فهل نقضي
عليه بالنكول؟ ينظر:
فإن كان في موضع أهل السُّهمان فيه محصورون، وقلنا: لا يجوز نقل الصدقة عنهم – فلا نقضي عليه به، بل المستحقون يحلفون إن أرادوا فإن لم يحلفوا ترك قال القاضي الحسين: وإنما قلنا ذلك؛ لأن الشافعي – رحمه الله – قال: ولو وجبت عليه الزكاة وهناك ساكنون محصورون، فلم يدفع الزكاة إليهم حتى ماتوا - قال: تعطى الزكاة [إلى] ورثتهم، وكذا لو صاروا أغنياء تعطى إليهم. فجعلهم بمنزلة أرباب الديون، وهذا ما حكاه الإمام عن كثير من أئمتنا، وأنه الذي ذكره الصيدلاني، ثم: قال إن من أئمتنا من قال: لا تردُّ اليمين عليهم وإن تعينوا بسبب الانحصار ومنع النقل، وإنه الذي ذكره العراقيون، وهو في بعض تصانيف المراوزة؛ لأنهم وإن تعيَّنوا فسببه انحصارهم، وإلا فالزكاة تتعلق في قاعدة الشرع [الصفات لا بالأعيان].
ثم من يرى الرد عليهم فإنما ذاك فيه إذا ادعوا، قال: والقول في أن دعواهم هل تسمع وهل لها وقع، يخرج عندي على أن اليمين هل ترد عليهم لو نكل رب المال أم لا؟ وسنذكر- إن شاء الله تعالى – في الباب ما أبداه من البحث في تتمة ذلك في موضعه.
وإن كان أهل السُّهمان غير محصورين أو محصورين لكنا لم نمنع النقل، أو منعناه، وقلنا: لا يحلفون عند نكول رب المال – فهل نقضي عليه بالنكول؟ فيه ثلاثة أوجه:
أحدها: لا؛ عملاً بقاعدة الشافعي – رحمه الله – المستقرة، وعلى هذا قال الإمام: فهل نخلي سبيله أو يحبس حتى يحلف أو يعترف؟ اختلف فيه أصحابنا وظاهر المذهب: الأول، وقائل الثاني يعلله بأنا إذا كنا نخليه فلا فائدة للحكم بوجوب اليمين عليه والقضاء بأن استحلافه مستحق؛ فتعين حبسه حتى يحلف أو يعترف، قال الإمام: والحبس ليحلف، خروجٌ عن قاعدة الشافعي – رحمه الله – وانسلال عن الضبط بالكلية، ولكن يجب القطع بإنه إذا كنا لا نقضي عليه بالنكول ولا يحبس؛ فلا يجب استحلافه، ولا يتفرع هذا قطعاً على رأي من يوجب الاستحلاف، ويجب رد الكلام إلى أنا إذا لم نقض بنكوله فلا يجب استحلافه، ومن تخيل خلاف ذلك فقد عاند، ويخرج من مضمون ذلك أن من الوجه نفي إيجاب الاستحلاف.
قلت: وقد يظن ظان أن القول بحبسه قد ذكره الشيخ حيث قال في باب اليمين في الدعاوي: فإن نكل عن اليمين فإن كان الحق لغير معين [كالمسلمين والفقراء حبس] المدعى عليه حتى يحلف أو يدفع الحق. وليس الأمر كذلك؛ لأن الشيخ ذكر هذا حيث تكون اليمين واجبة وهاهنا إنما تكون [اليمين] واجبة عند العراقيين فيما إذا كانت دعواه تخالف الظاهر واتهم، وهو إذا امتنع عنها في هذه الحالة أخذت منه الزكاة؛ لما ذكرناه؛ فلا حبس.
والوجه الثاني: أنه يقضي عليه بالنكول للضرورة، وإنما لا يقضي به في حق الآدميين؛ لإمكان حلفهم. وعلى هذا إذا: قضى به، قال مجلي: فهل يأخذها من ماله أو يحبسه حتى يؤديها؟ فيه وجهان. وقال القاضي الحسين هل تؤخذ من ماله أو يحبس [إلى أن] يقر أو يؤدي؟ فيه وجهان لابن سريج، وكذا حكاهما في "الإبانة".
والوجه الثالث- وهو الذي صححه الفوراني، وقال الإمام: إنه أعدل الوجوه – أن رب المال إن تصور بصورة مدعى عليه فلا يقضي عليه به طرداً للقياس، وإن تصور في صورة مدعٍ قضي عليه به؛ فإنه لو حلف لكان على صورة مدعٍ مثبت، فإذا احتمل ذلك في تحليفه فليجر في نكوله على قياس نكول المدعي، ولو نكل المدعي عن اليمين المردودة عليه [لقضي عليه بنكوله].
قال الإمام: ومع هذا فيه شيء؛ فإن المودع إذا [ما] دعى رد الوديعة فاليمين فيها معروضة عليه، وهو على صورة المدعين، ولو نكل لم يقض عليه بنكوله، ولكن سبب منع القضاء عليه إمكان الرد على الخصم الذي هو مالك الوديعة، والرد غير ممكن في الزكاة وانضم إليه تصور من عليه الزكاة بصورة المدَّعين فقيل إنه [يقضي عليه مثل تصوُّره بصورة] المدعي عليه بما إذا قال: لم يحل [عليه] الحول، أو: ليس المال لي وإنما هو وديعة عندي، وتصوره بصورة المدعى بما إذا قال: قد
أديت الزكاة إلى ساع آخر، أو: بعت المال ثم اشريته. وجعل الفوراني قوله: لم يحل عليه الحول، من القسم الثاني.
والذي ذكره القاضي [الحسين] في حكاية الوجه [الثالث]، وعزاه إلى ابن سريج: أنه إن تصور بصورة المدعي عليه ونكل عن اليمين فلا يقضي عليه بالزكاة، وإن تصور بصورة المدعين، فإذا نكل قضي عليه لا بنكوله، لكن بالسبب السابق الذي أوجب الزكاة، ولم يأت بحجة يسقطها عنه، ومثل الصورتين بما ذكره الإمام، وحقيقة هذا الوجه ترجع إلى ما قاله العراقيون لولا أنه قاض بأنه إذا قال: ليس المال لي، بعدم الأخذ منه، فتأمله. والله أعلم.
قال: وإن بذل الزكاة قبلت منه؛ لتبرأ ذمته، وتصل إلى مستحقيها.
قال: والمستحب أن يدعي له؛ لقوله تعالى: {خُذْ مِنْ أَمْوَالِهِمْ صَدَقَةً تُطَهِّرُهُمْ وَتُزَكِّيهِمْ بِهَا وَصَلِّ عَلَيْهِمْ} [التوبة: 103] أي: ادع لهم كما قاله الأكثرون، وبه أخذ الشافعي، وإن [كان] ابن عباس قال:"إن المراد بالصلاة الاستغفار"،ولأن في العداء له ترغيباً في الخير وتطييباً لقلبه.
فإن قيل: ظاهر الأمر الوجوب، فلم عدلتم عنه، وهذا ظاهر قوله في "المختصر": "فحق على الوالي إذا أخذ صدقة امرئ أن يدعو له]، يقتضي الوجوب، فلم عدلتم عنه؟
قلنا: قد قال بظاهر هذا النص بعضهم؛ فأوجب على الإمام إذا أخذها الدعاء [له]، حكاه الحناطي، [وكذا الماوردي] وقال: إنه إذا أخذها الفقراء لم يجب عند هذا القائل. وقيل عكسه: إن الدعاء يلزم الفقير دون الإمام؛ لأنا دفعها إلى الإمام متعين، [وإلى الفقير غير متعين]، وقيل: إن سأل رب المال الدعاء وجب؛ لما روى عبدالله بن أبي أوفى عن أبيه قال: أتيت رسول الله صلى الله عليه وسلم بصدقات قومي، فقلت: يا رسول الله، صل علي، فقال:"اللهم صل على آل أبي أوفى"، وليقع
الفرق بين الجزية المأخوذة صغاراً وبين الزكاة المأخوذة تطهيراً، وهذا ما ادعى في "البحر" أن الماوردي صححه.
والذي رأيته في "الحاوي" في كتاب الزكاة: تصحيح مقابله، وهو عدم الوجوب، وهو الذي صححه غيره، ولم يورد الشيخ في "المهذب" وأبو الطيب والقاضي الحسين غيره؛ لأنه – عليه السالم – لم يأمر معاذاً حين بعثه وأمره أن يأخذ الزكاة [به و] لأنه لم ينقل أنه – عليه السلام – دعا لغير أبي أوفى مع أن الصدقات كانت تحمل إليه، وذلك دليل على عدم الوجوب، كذا قاله القاضي الحسين، ورواية البخاري ومسلم وغيرهما ترد عليه؛ فإنهم رووا عن عبد الله بن أبي أوفى قال: كان أبي من أصحاب الشجرة، وكان النبي صلى الله عليه وسلم إذا أتاه قوم بصدقتهم قال:"اللهم صل على آل فلان"، قال: فأتاه أب بصدقته، فقال:"اللهم صل على آل أبي أوفى"، وأصحاب الشجرة هم الذين بايعوه بالحديبية تحت الشجرة سنة ست من الهجرة، وآل أبي أوفى قيل: المراد به أبو أوفى، و"الآل" تقع على ذات الشيء، وكذلك قوله – عليه السلام:"من مزامير آل داود"، وقيل: أراد به داود.
وقد ادعى الماوردي في كتاب الزكاة أنه لم يختلف أصحابنا في أنه إذا لم يسأل رب المال الدعاء، فليس على الوالي أن يدعو له؛ لأن رب المال بدفع الزكاة مؤد لعبادة واجبة، وذلك لا يوجب على غيره الدعاء كسائر العبادات، وقال في قسم الصدقات ما حكيناه أولاً من قبل، [وقيل:] وعليه جرى في "البحر".
الأمر، وهو اللائق بالحال.
والمحكي في "المختصر" في كتاب الزكاة، وهوا لذي أورده ابن الصباغ والغزالي وغيرهما في ترتيب هذا الدعاء - أنه يقول: آجرك الله فيما أعطيت، وجعله لك طهورا، وبارك لك فيما أبقيت. قال النواوي: وهذا أحسن وأشبه مما قاله المصنف.
وفي "آجرك الله" لغتان مشهورتان:
أجره الله - بالقصر - يأجره - بضم الجيم، وكسرها - أجراً.
وآجره - بالمد - إيجاراً، كأكرمه إكراماً.
والأجر: الثواب.
وقد ادعى في "المذهب"[أن المستحب] أن يقول: اللهم صل على آل فلان؛ للخبر. وقال القاضي الحسين في "تعليقه": إنه لا يجوز لأحد أن يصلي على أحد غير الأنبياء ابتداء، مثل أن يقول: أبو بكر أو عمر [أو عثمان] أو علي، [صلى الله عليه]، وإنما يجوز على سبيل التبعية كما يقال: اللهم صلِّ على محمد وعلى آله وأزواجه. وما فعله النبي صلى الله عليه وسلم مخصوص به؛ لأن الصلاة منصبه فكان له أن يخص بها من شاء؛ كما أن صاحب الدار والمجلس يرفع من أراد إلى مجلسه وصدره، وليس لغيره في داره ومجلسه أن يرفع أحداً دون إذنه. وهذا ما حكاه الإمام عن الأئمة، لكنه أبدل لفظة "لا يجوز ذلك" بأنه:"لا ينبغي ذلك"، وأن الذي كان عليه الناس في الأعصار السالفة قبل ظهور الأهواء ترك ذلك؛ فلم يكن أحد من الأولين يقول: أبو بكر، رضي الله تعالى عنه. وهو كما أن قول القائل: الله عز وجل فإنه لا يسوغ استعماله في حق غير الله، وإن كان "الجليل" من "الجلال" و"العزيز" من "العزة". وقال:[إن] الشيخ أبا محمد كان يقول: السلام بمنزلة الصلاة فيما ذكرناه. [قال الرافعي] لأن الله - تعالى - جمع بينهما فقال: {صَلُّوا عَلَيْهِ وَسَلِّمُوا تَسْلِيماً} [الأحزاب: 56] فلا يقول: أبو بكر وعلي عليهما السلام، وكذا غيرهما لا يفرد به في حال الغيبة.
قال الرافعي: ولا بأس به في معرض المخاطبة، فيقال للأحياء وللأموات من المؤمنين: سلام عليكم.
قال في "الروضة": وقول الرافعي: "لا بأس [به] "، ليس بجيد؛ فنه مسنون للأحياء والأموات بلا شك، وهذه الصيغة لا تستعمل في المسنون؛ فكأنه أراد: لا منع منه في المخاطبة بخلاف الغيبة، وأما استحبابه في المخاطبة فمعروف.
ثم قال الإمام: [وظاهر] ما ذكره الصيدلاني: أن الصلاة على غير الرسل في حكم ترك الأولى والأدب، وهذا لا يبلغ مبلغ ما يوصف بالكراهة. وفي هذا أدنى نظر؛ فإن المكروه يتميز عندنا عن ترك الأولى؛ فإنما يفرض فيه نهي مقصود كالنهي عن الاستنجاء باليمين، وقد ثبت نهي مقصود في التشبه بأهل البدع وإظهار شعارهم؛ وذكر الصلاة والسلام مما اشتهر بالفئة الملقبة بالرفض، وينضم إليه تقوي السلف عن إطلاق ذلك مقصوداً في غير الأنبياء، عليهم السلام.
وحاصل ما ذكره الإمام: أن فعل ذلك ترك للأولى أو مكروه؟ فيه خلاف، الراجح عنده: الثاني، وهو الذي حكاه الرافعي عن القاضي الحسين، وعن صاحب "العدة" التصريح بنفي الكراهة؛ فإنه قال: إنما "الصلاة" بمعنى "الدعاء"؛ فتجوز على كل أحد أما بمعنى التعظيم والتكريم فيختص بها الأنبياء، عليهم السلام.
وأنت إذا أجريت ما حكيته من لفظ القاضي الحسين على ظاهره جاءك في المسألة أوجه:
أحدها: أن ذلك لا يجوز.
والثاني: أنه مكروه.
والثالث: أن فاله تارك للأولى غير مرتكب لمكروه.
والرابع: أنه مباح إذا كان بمعنى الدعاء، ممتنع إذا كان بمعنى التعظيم.
والخامس: [أنه] مستحب في حق مؤدِّي الزكاة كما قال في "المهذب"، ولم أقف عليه لغيره، بل المذكور فيها ما حكيناه عن النص، وأنه بأي دعاء دعا إذا كان
يليق بأخذ الصدقة – كان حسناً، وحكوه عن نصه في "الأم".
وإذ قد عرفت ما ذكره الشيخ من أول الباب [إلى هنا] عرفت أن الناس في أمر الزكاة على ثلاثة أقسام- كما صرح بها غيره في [أول] كتاب الزكاة، وهو في "المهذب": قسم جحدها، وقسم اعترف بها ومنعها، وقسم بذلها؛ فاستحب الدعاء له، وأهل هذا القسم هم الذين مدحهم الله تعالى في قوله:{قَدْ أَفْلَحَ الْمُؤْمِنُونَ} إلى قوله: {وَالَّذِينَ هُمْ لِلزَّكَاةِ فَاعِلُونَ} [المؤمنون:4] وفي قوله: {خُذْ مِنْ أَمْوَالِهِمْ صَدَقَةً} [التوبة: 103]، وقد حمل بعض الشارحين قول الشيخ:"فإن بذل الزكاة قبلت منه"، على ما إذا بذلها بعد دعواه ما يسقطها، ووجهه بأنه أقر بحق عليه، وغفل عن أن مراده الاقتداء بالأصحاب في استيعاب الأقسام. والله أعلم.
قال: وإن مات بعد وجوب الزكاة قضى ذلك، [أي أُدِّي]، من تركته؛ لأنه حق تدخله النيابةوتصح الوصية به، لزم وجوبه في حال الحياة؛ فلم يسقط بالموت كديون الآدميين، ويخالف الصلاة والصوم حيث لا تقضي عنه على المذهب؛ لأن ذلك لا تدخله النيابة وإن وصى به من هو عليه، لكنه هل يثاب على ذلك؟ قال القاضي أبو الطيب: إن كان قد امتنع من أدائها لما وجبت عليه، ولم يكن له في ذلك عذر حتى مات فلا ثواب له، ويكون [ذلك] بمثابة أن يطالبه الإمام بها، فيمتنع من أدائها؛ فيحبسه حتى يؤديها؛ فإنه لا يكون له ثواب في ذلك. وإن كان له عذر في التأخير أثيب، ولو أدى ذلك عنه الوارث من ماله جاز، وإن أخرجه عنه أجنبي، قال البندنيجي قبيل كتاب الصيام: فظاهر المذهب أنه يجوز، كما قال في الحج إذا حج عنه بعد وفاته أجنبي: جاز ذلك. ولو كان موته قبل إمكان الأداء، وقلنا: إنه شرط في الوجوب – فقد مات قبل وجوبها عليه، فما الذي يصنع الوارث: هل يبني أو يستأنف؟ فيه ما تقدم، قاله البندنيجي، والله أعلم.
قال: [وإن كان هناك دين لآدمي، أي وقد سبق وجوب الزكاة الدين، وقلنا]:
إن الدين لا يمنع الزكاة، وضاقت التركة عنهما- ففيه ثلاثة أقاول:
أحدها: يقدم الدين؛ لأنه حق آدمي، وهو مبني على المضايقة والمشاححة؛ فقدِّم على حق الله المبني على المساهلة والمسامحة؛ كما يقدم القصاص على القتل في الردة، والقطع في السرقة.
والثاني: يقدم الزكاة؛ لقوله عليه السلام في الخبر الذي سنذكره [في الحج]: "فدين الله أحق بالقضاء"، ولأن مصرفها الآدميون؛ فكأنها حقوق لهم، وهي معتضدة بحق الله سبحانه وتعالى فرجحت على محض حق الآدمي، وتخالف القصاص والقتل في الردة والقطع في السرقة؛ فإنها عقوبة محضة لا تعلق لها بالآدمي، وهي مما يسقط بالشبهات، بخلاف حق الآدمي، وهذا أظهر في "الرافعي" وأصح عند النواوي.
والثالث: يقسم بينهما، أي: على النسبة؛ كما يفعل في الدينين إذا ضاقت التركة عنهما لتساويهما في الوجوب، وهذا أقيس في "تعليق" القاضي الحسين.
ثم محل الأقوال بالاتفاق عند عدم المال [الذي] وجبت فيه الزكاة، والدين مرسل في الذمة [لا يتعلق] بشيء من التركة في الحياة، وبذلك صور البندنيجي في باب زكاة الفطر محلها حيث قال: اختلف قول الشافعي في حق الله تعالى وحق الآدمي إذا اجتمعا وتعلقا بمحل واحد، مثل أن تعلقا معا بالذمة، أو تعلقا بالعين [ففيها] ثلاثة أقوال.
أما إذا كان موجوداً وهو نفس التركة؛ ففيه طريقان:
أحداهما: القطع بتقديم الزكاة، وهي التي ذكرها في "التهذيب" في كتاب الجنائز، [وهو] الذي تقتضيه طريقة العراقيين أيضاً؛ لأن الزكاة تعلقت بالعين في حال الحياة عندهم قولاً واحداً إما تعلق شركة أو تعلق رهن، وكل منهما يقدم على الدين الذي لا تعلق له بالعين في حال الحياة أصلاً. نعم لو كان ما وجبت فيه الزكاة مرتهناً بدين
وهو كل التركة، جاءت الأقوال على خلاف سبق ذكره في أول كتاب الزكاة.
وهذه الطريقة حكاها الإمام في باب الدين مع الصدقة، وأن شيخه قال بها، وه التي صححها في باب زكاة الفطر، ولم يورد القاضي الحسين فيه غيرها، [ووجهها الإمام] بأن الزكاة متعلقة بعين المال في الحياة في الجملة، وأراد بذلك أنها جارية وإن [قلنا: إن] الزكاة تجب في الذمة ولا تعلق لها بالعين أصلاً؛ لأنا على هذا القول نجوز لرب المال بيعه قبل أداء الزكاة، ويمضيه إذا أدى الزكاة من غيره، وإن لم يؤدها سلطنا الساعي على أخذها من المال وإن كان في يد المشتري.
والثانية: إجراء الأقوال في هذه الحالة أيضاً واختلفت [أيضاً] عبارة الإمام في حكايتها: فأطلق في باب الدين مع الصدقة القول بها مصدراً بها كلامه، ثم ذكر الطريقة الأخرى وقال إن من قال بالإجزاء بنى ما قاله على أن الغالب في الزكاة التعلق بالذمة، وقال في باب زكاة الفطر: إن بعض أئمتنا قال: إذا قلنا: الزكاة تتعلق بالذمة، جرت الأقوال الثلاثة في التقديم والتأخير، وهذا ضعيف مزيف. وهذه الطريقة هي المذكورة في "الإبانة" لا غير؛ بناء على هذا القول، والمراد إذا قلنا: إنه لا تعلق لها بالعين أصلاً، كما هو محكي في طريقتهم، وعلى ذلك جرى الماوردي فقال: إن قلنا: [إن] الزكاة تجب في العين أو في الذمة، فتتعلق بالعين تعلق رهن قدمت قولاً واحداً، وإن قلنا: تجب في الذمة، ولا تعلق لها بالعين - جرت الأقوال، والله أعلم.
وهذا كله في زكاة الأموال أما زكاة الفطر إذا اجتمعت مع الدين، وضاقت التركة عنهما - فقد جزم الفوراني والبغوي بإجراء الأقوال، ومنهم من قال: إن كانت التركة عبداً والفطرة عنه، قدمت الفطرة قولاً واحداً؛ لأنها متعلقة بالعبد واجبة بسببه فصارت كأرش الجناية. وهذه الطريقة هي التي نص عليها في "المختصر" حيث قال: ولو مات بعد أن أهل شوال وله رقيق فزكاة الفطر عنه وعنهم في ماله مبدأة على الديون.
وقال البندنيجي: إنها ليس بشيء، والشافعي ذكر أحد الأقوال.
وفي "الرافعي" أن الروياني حكى طريقة قاطعة بتقديم زكاة [فطر] نفسه لقلتها في الغالب، والذي رأيته في "البحر" و"الحاوي" أن أبا الطيب بن سلمة قال: إن زكاة الفطر تقدم على الدين قولاً واحداً لقلتها في الغالب، وتعلقها بالرقبة. زاد الماوردي: فاستحقت كأرش الجناية. وهذا هو عين الطريق السابق، وكذلك الماوردي لم يحك مع الطريقة الطاردة للأقوال فيها غيره، لكن الروياني حكى الطريقة الأولى، ثم حكى عن أبي الطيب بن سلمة ما ذكرناه؛ فظن أنه غيرها.
وتجري الأقوال الثلاثة فيما إذا مات وعليه كفارات وديون آدميين بلا خلاف، وإن كان العبد والمسكن يباعان [في ديون الآدمي وفاقاً، ولا يبعان] في الكفارات، وهو يدل على قوة الديون عليها، وهل تجري فيما إذا اجتمعت ديون وكفارات على محجور عليه؟ حكى الإمام في باب زكاة الفطر تردداً فيه، موجهاً لعدم الجريان وتقدم الديون بأن الكفارات على التراخي، وأداء الدين على التضييق؛ فقدم.
وموجِّها للجريان: بأن المدعي حق من عليه الكفارة؛ فإنه قد يحاول تبرئة ذمته منها والتخلص من عذر الفوات.
قال: وهذا التردد عندي قريب من اختلاف القول [في أن] الديون المؤجلة هل تحل بالحجر حلولها بالموت أم لا؟
قال: .... تجب الزكاة لما بالحول، والنصاب جاز تقديمها على الحول؛ لرواية مسلم أن النبي صلى الله عليها وسلم استسلف من رجل بكراً، فجاءته إبل [من إبل] الصدقة، فأمر أبا رافع أن يقضيه إياه، فقال: ما أجد فيها إلا رباعياً خياراً فقال: "اقضه منها؛ فإن خير الناس أحسنهم قضاء".
وجه الدلالة منه، كما قال الشافعي – رحمه الله: أن العلم محيط بأنه لا يقضي من إبل الصدقة – والصدقة لا تحل له – إلا وقد تسلف لأهلها ما يقضيه من مالهم. انتهى. وإذا جاز أن يستقرض لهم [على إبل الصدقة ممن ليس عليه صدقة، فبأن يستقرض لهم] من الصدقة أولى، وقد ادعى بعض أصحابنا أن معنى استسلف: استعجل؛ فكان النبي صلى الله عليه وسلم استعجل الزكاة من واحد، فلما حال الحول كان قد هلك مال ذلك الرجل المعجل، فقضاه النبي صلى الله ليه وسلم من إبل الصدقة. قال القاضي الحسين: وهذا غير صحيح؛ بل الصحيح الأول، وكونه – عليه السلام – رد من مال
المستقرض لهم أكثر مما أخذ يحتمل وجوهاً:
أحدها: أنه رآه من أهل الصدقة.
والثاني: أنه رأى المصلحة في ذلك ترغيباً للناس في الاستقراض، وللإمام فعل مثل ذلك.
والثالث: أن المدفوع أكبر سناً وأقل في الجودة، فجعل زائد السن في مقابلة الفائت من الجودة.
ثم الاستدلال بما ذكرناه من جهة القياس لا من جهة النص، وقد عضده الشافعي- رحمه الله – بالقياس على المتعة، فإنا أجمعنا على أنها تجب بالطلاق، وأنه لو أعطاها قبل الطلاق ثم طلق وقعت الموقع؛ فكذا الزكاة، وبأنها حق مالي يتعلق وجوبه بسببين يختصان بهن وهما: النصاب، والحول؛ فجاز تقيمه على أحدهما كالتكفير قبل الحنث وبعد العقد؛ فإن المخالف – وهو مالك – وافق فيها، وقال المزني: الأولى أن يجعل في هذا الموضع – أي من الدليل – ما هو أولى به من أن رسول الله صلى الله عليه وسلم تسلف صدقة العباس قبل حولها. [وازد] ما رواه أبو داود وأخرجه البخاري ومسلم عن أبي هريرة قال: بعث النبي صلى الله عليه وسلم عمر بن الخطاب على الصدقة، فمنع ابن جميل وخالد بن الوليد والعباس، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم:"ما ينقم ابن جميل إلا أن كان فقيراً فأغناه الله، وأما خالد بن الوليد فإنكم تظلمون خالداً؛ فقد احتبس أدراعه [وأَعْتُدَهُ] في سبيل الله عز وجل، وأما العباس عم رسول الله صلى الله ليه وسلم فهي عليَّ ومثلها"، و [في] رواية الدارقطني:"هي علي ومثلها معها له".
ووجه الدلالة منه: أنه – عليه السلام – كان قد استسلف منه صدقة عامين قبل أن يأتيه عمر لأخذ الصدقة، فلما جاءه عمر منعه، ولم يعلمه أنه أداها، فلما شكاه قال – عليه السلام:"هي علي ومثلها [معها] "، يعني صدقة هذا العام وعام آخر، ولا
يقال: إن النبي صلى الله عليه وسلم ضمنها عنه؛ لرواية الدارقطني، ولأنه لا يصح ضمان ما لم يجب وهي زكاة السنة الثانية، ولا ضمان الزكاة بغير إذن من هي عليهن والعباس لم يكن حاضراً القصة حتى يأذن. وإنما لم يحتج بما رواه أبو داود وأخرجه الترمذي والنسائي عن حُجَيَّة – وهو ابن عدي – عن علي:"أن العباس سأل النبي صلى الله عليه وسلم في تعجيل صدقته قبل أن تحل، فرخص في ذلك"، وقال مرة:"فأذن له"؛ لأن حجية شيخ لا
يحتج بحديثه، [كما قال أبو حاتم] الرازي وغيره.
وقد ذهب أبو عبيد بن حربويه من أصحابنا إلى أنه لا يجوز التعجيل قبل الوجوب بحال، حكاه البندنيجي والماوردي وغيرهما، وليس بشيء؛ لما ذكرناه.
وقد أفهم كلام الشيخ أمرين:
أحدهما: عدم جواز تقديمها على ملك النصاب، كما إذا ملك دون الأربعين من الغنم، فعجل شاةً رجاء أن تنتج أخرى ويكمل الحول عليهما فيجزئه المخرج، وبه صرح الأصحاب؛ لأنه يؤدي إلى التقديم على السببين، وهو لايجوز؛ كما لا يجوز تقديم الكفارة على اليمين والحنث، [وهكذا] لو ملك أربعين معلوفة، فعجل على تقدير أن يسيمها ثم ينقضي حولها: لا يجوز؛ لأن المعلوفة ليست مالاً زكاتياً فهي كالمال الناقص عن النصاب، وهكذا الحكم في الزكوات العينية كلها.
وأما زكاة التجارة فيجوز التعجيل فيها على النصاب، مثل: أن يشتري عرضاً قيمته مائة، ويخرج زكاة مائتي درهم معجلة، وتبلغ القيمة في آخر الحول مائتين فإنه يجزئه على ظاهر المذهب في أن النصاب إنما يعتبر في آخر الحول، أما إذا قلنا بمذهب ابن سريج في اعتباره في جميع الحول فلا يجوز التعجيل كسائر الزكوات، صرح به في "البحر"[وغيره].
الثاني: أنه لا يجوز تقديمها [بحولين]، وهو كذلك على المشهور فيما إذا لم يملك سوى نصاب؛ لأنه يؤدي إلى تعجيل زكاة العام الثاني والمال دون النصاب، وفيه وجه: أنه يجوز كما لو عجل زكاة عام عن نصاب، والذي أورده ابن الصباغ الأول. نعم، لو كان يملك أكثر من النصاب بحيث لا ينقصه المخرج عن النصاب، مثل: أن ملك من الغنم اثنتين وأربعين، فأراد إخراج شاتين عن سنتين- فهل يجوز؟ فيه وجهان جاريان في جواز تعجيل أكثر من ذلك بالشرط المذكور:
أحدهما- وهو اختيار أبي إسحاق -: الجواز؛ لحديث العباس.
والثاني: المنع؛ لأن ذلك يؤدي إلى التقديم على السببين معاً، وهذا ما ادعى
الرافعي أن الأكثرين على ترجيحه، ومنهم معظم العراقيين والبغوي، والقائلون به اختلفوا في المراد بالحديث:
فقيل: معناه: أن العباس كان له مالان أحدهما متقدم على الآخر بأيام يسيرة، فسلف صدقتهما في وقت واحد.
وقيل: معناه. أنه سلف صدقة عامين [من عامين].
لكن الصحيح في "الوسيط" و"الشامل": الأول، قال أبو الطيب: وهو قياس مذهبنا. وقال البندنيجي: إنه المذهب، والتأويلان السنة تطبلهما:
[أما الأول]؛ فلأنه جاء في لفظ آخر: سلفني عمي عن زكاة ماله لعامين لعامه والعام المقبل.
وأما الثاني؛ فلأنه جاء في لفظ آخر سلفني عن زكاة ماله في عام. وعلى هذا هل يجوز أن ينوي تقديم زكاة السنة الثانية على الأولى؟ فيه وجهان كالوجهين في تقديم الصلاة الثانية على الأولى في الجمع، والوجهان جاريان عند القاضي الحسين والعراقيين فيما لو ملك نصاباً؛ فعجل صدقة نصابين حيث يرجو بلوغ النصاب الثاني بالنتاج في آخر الحول، مثل أن كان معه مائة وعشرون من الغنم، فعجل شاتين زكاة مائة وإحدى وعشرين، لكن الذي صححه العراقيون منهما والبغوي وصاحب "البحر": المنع، وصحح في "الوجيز" و"التتمة" مقابله، وإله يرشد كلام الفوراني والإمام حيث قالا: إنا إن قلنا بجواز تعجيل زكاة سنتين فهاهنا أولى، وألا فوجهان، والفرق: أن هاهنا انعقد الحول على نصابين لأنها إذا [حدثت] انبنى حولها على حول الأمهات، وثَمَّ لم ينعقد الحولان جميعاً، أما إذا كان لا يرجو حصول النصاب الثاني بأن يكون سخالاً، أو كان في ملكه ما تجب الزكاة في عينه كمائتين، فأخرج زكاة أربعمائة على توقع اكتساب مائتين، واكتسبها – فقد حكى البندنيجي فيه الوجهين المذكورين في الماشية، وقال غيره: لا يجزئه ما أخرجه عن المائتين الحادثتين بلا خلاف.
نعم، لو كان ذلك في مال التجارة مثل: أن اشترى بمائتي درهم عرضاً قيمته مائتا
درهم، فأخرج زكاة أربعمائة، وبلغتها قيمة العرض: فهل يجزئ؟ فيه طريقان، المشهور: الإجزاء، وعن ابن عبدان حكاية الوجهين فيه.
واحترز بقوله: بالحول والنصاب، عن زكاة المعدن والركاز؛ فإن ابن عبدان قال: لا يجوز تقديمها على الحول، وهو ما حكاه في "المهذب".
وعما تجب الزكاة فيه ببدو الصلاح والانعقاد - وهي المعشرات - فإنه لا يجوز تعجيل الزكاة عنها قبل بروز الطلع - ونبات الزرع بلا خلاف، وكذا بعد بروز الطلع ونبات الزرع إلى أن يدرك عند أبي إسحاق، كما قال الروياني وغيره، وبه قال الشيخ أبو حامد، كما قال الفوراني والمسعودي، وقال البندنيجي: إنه المذهب، وقال الرافعي: إنه الأظهر [عند أكثر العراقيين، وتبعهم البغوي. فإذا أدرك فقد وجبت؛ فلا تعجيل، وخالف سائر] الزكوات حيث يجوز تعجيلها قبل الوجوب؛ لأنه لم يظهر ما يمكن معرفة مقداره تحقيقاً، ولا خرصاً تخميناً ولا كذلك غيره من أموال الزكاة، ولأن سائر الأموال وجوبها تعلق بسببين فجاز تقديمها على أحدهما، وهاهنا تعلق بسبب واحد وهو الإدراك؛ فلم يجز تقديمها عليه كما لا يجوز تقديم غيرها على السببين.
قال الشيخ أبو حامد: ولا يجوز التقديم على السبب الواحد إلا في مسألة واحدة، وهي: إذا اضطر المحرم إلى صيد فقدم الجزاء؛ فإن الشافعي رحمه الله جوّزه، قيل: فكأنه جعل الإحرام أحد سببيه فلذلك جوزه. وفيه نظر؛ لأنه لو كان كذلك لجوزه قبل الحرج إذا لم يضطر إليه، وهو لا يجوز، قال في "الحاوي" في كتاب الأيمان: وقد وهم أبو حامد الإسفراييني فخرجه على وجهين، وهما شبيهان بوجهين حكاهما الحناطي في جواز تقديم كفارة الوقاع في رمضان عليه، والأصح: المنع، وهو الذي أورده الجمهور.
وقد حكى الإمام وجهاً آخر: أنه لا يجوز الإخراج بعد الإدراك وقبل الجفاف في الثمار والتصفية في الحبوب؛ لأن وجوب الإخراج بعد ذلك يكون كالتعجيل قبله،
وإن كان بعد الوجوب الذي منع المالك من التصرف في المال كالتعجيل قبله. وعلى هذا يجري إطلاق القول بأنه لا يجوز إخراج زكاة المعشرات قبل وجوب إخراجها، سواء في ذلك الثمار والحبوب.
والصحيح في "النهاية" وهو الذي أورده الجمهور: جوازه بعد الإدراك كما قاله أبو حامد وغيره؛ لأنه إذا جاز قبل الوجوب فيما يجب بالحول والنصاب فبعد الوجوب أولى.
وذهب في "الوسيط" إلى أن الصحيح في الثمار عدم الإجزاء قبل الجفاف؛ لأن الواجب هوا لزبيب والتمر، والرطب لا يصلح للإخراج، وقال: إن الصحيح في الزروع الجواز بعد الإدراك وقبل الدياس والتصفية؛ لأن الذي وجب موجود.
وقد وجه مقابله بأن النصاب لا يمكن الاطلاع عليه ما لم تحصل التصفية، بخلاف سائر الأموال؛ فإنه يمكن إدراكه، وقال الإمام: إنه ضعيف جداً، فإن لم يكن بد من هذا الوجه فالعلة فيه إذا كنا لا نقطع بأس في السنبل نصاباً من الحب، فأما إذا تحقق فلا وجه لمنع التعجيل.
وقد قيل: إنه يجوز الإخراج بعد بروز الطلع وإن لم يتشقق، ونبات الزرع وإن لم ينعقد، وهو ما ينسب إلى ابن أبي هريرة، ونسبه الحناطي إلى ابن سريج، قوال ابن كج: إن أبا إسحاق أجاب به في دفعة أخرى، وهو الذي صدر به الفوراني كلامه. ثم حكى ما نقلناه عنه عن الشيخ أبي حامد واقتصر عليهما، وقال ابن الصباغ: إنه الأصح؛ لأن تعلق الوجوب بالإدراك لا يمنع تقدم الزكاة عليه؛ ألا ترى أن زكاة الفطر يجوز تقديمها على هلال شوال، وإن كان وجوبها يتعلق به؟! لأن من ويلد قبل ذلك بلحظة تجب عليه، كما أن من ملك الزرع قبل إدراكه وجب عليه العشر.
وقال الرافعي في دفع العلة الأولى من علتي عدم الإجزاء إن الكلام فيما إذا عرف حصول قدر النصاب، وإن لم تعرف جملة الحاصل بعد ذلك إن خرج [زائداً على ما ظنه فيزكي الزيادة، وإن خرج] ناقصاً عن بعض المخرج فهو تطوع فلم يمنع الإجزاء. وفي دفع العلة الثانية: إنا لا نسلم أن لهذه الزكاة سبباً واحداً، بل لها سببان أيضاً: ظهور الثمرة، وإدراكها؛ فالإدراك بمثابة حولان الحول. وهذا فيه نظر ظاهر.
ومنهم من قال: يجوز التعجيل في هذه الحالة في الثمرة دون الزرع؛ لأن النخل تقبل معاملة على الثمار قبل بدوها وهي المساقاة، والزرع لا يحتمل ذلك.
قال الإمام: وهذا غير سديد؛ إذ لا خلاف أنه لا يجوز التعجيل قبل نبات الزرع، فإن لم يكن من الفرق بد فالأولى ما أشرت إليه وهو أن عين العشر مفقود والزرع يقل، وعين الثمار موجودة وإن كانت غير مؤبرة، فإذا بدا الحب ولم يشتد فلا يتضح إذ ذاك فرق.
قال: وإن تسلف الإمام، أي: أو الساعي، الزكاة من غير مسألة: أي: وقد رأى المصلحة في ذلك؛ [لأجل حاجة] بعض الأصناف وهم أهل رشد، [فهلكت في يده، أي: في أثناء الحول ضمنها، أي: سواء إن تلفت بتفريط أو بغير تفريط؛ لأن أهل الرشد] لا يولي عليهم، فإذا قبض حقهم قبل محله بغير إذن من يعتد بقبضه بعد محله ضمنه؛ كالوكيل إذا قبض مال موكله قبل محله، كذا قاله في "المهذب"، وقاسه ابن الصباغ وغيره على ما إذا قبض الأب دين ابنه الكبير بغير إذنه، [ثم قال]: فإن قيل في الأصل: لا يجوز له القبض، وهاهنا يجوز للإمام القبض لحاجتهم – قلنا: جواز القبض لا يمنع حصول الضمان؛ كما [لا] يجوز أن يدفع الوديعة إلى من ادعى وكالة صاحبها وصدقه ويكون ضامناً، قال: وهذا فيه ضعف.
وعبَّر في "البحر" عما قاله ابن الصباغ بأن القبض يكون مشروطاً بسلامة العاقبة.
وحكى المراوزة وجهاً آخر: أن الحاجة تنزل منزل السؤال؛ لأن الزكاة مصروفة إلى جهة الحاجة لا إلى قوم معينين، والإمام [ناظر لها]، فإذا رأى المصلحة في الأخذ كان له ذلك.
والصحيح الأول، وهو ما نص عليه في "المختصر"، وأشار إلى العلة بقوله: لأن فيهم أهل رشد لا يولَّي عليهم. ولم يحك العراقيون والماوردي غيره، لكن لم يضمنها، قال الماوردي: إن كان رب المال بصفة من تجب عليه الزكاة آخر الحول
ضمنها لأهل السهمان، وألا ضمنها له. وهذا يدل على أن رب المال إذا كان بصفة الوجوب آخر الحلو وقعت الموقع، وهو ما حكاه الفوراني حيث قال: إذا عجل الزكاة فتلفت في يده قبل الحول، ووجدت شرائط الزكاة في الدافع – فإنه يجزئ عنه، ويجعل كأنه أخرجها عند الحول.
وقال القاضي الحسين في "تعليقه": [إن بهذا] أجاب القفال في المرة الثانية؛ لأن الشافعي – رحمه الله – قال: إذا مات المدفوع إليه قبل الحول يؤخذ المدفوع من ماله لأهل السهمان، ولولا أن الزكاة ساقطة عنه، وألا لما قبل أخذه لأهل السهمان، بل يأمره بتسليمه [إلى رب] المال؛ حتى تؤدي ثانياً كما لو عجل بنفسه. والذي قاله في المرة الأولى: أن الضمان واجب على الإمام من خالص ماله لرب المال، وعليه أن يعطي الزكاة، أما إذا كان المستسلف لهم أطفالاً، نظر: فإن كان الولي عليهم من يقدم نظره عليهم على نظر الإمام فهم كأهل الرشد، وإن كان هو وليهم فالحكم كما لو كانوا أهل رشد وتسلف بمسألتهم، صرح به الغزالي وغيره، قال الرافعي: وهو مفرع على جواز صرف الزكاة إلى الصغير، وفيه وجهان، سواء كان له من تلزمه نفقته أو لا؛ لأنه إن كان في نفقة غيره فالخلاف فيه مشهور يأتي في قسم الصدقات، وإن لم يكن فقد حكى ابن كج – وهو في "الحاوي" و"البحر" عن أبي إسحاق – أنه لا يجوز صرف الزكاة إليه؛ لاستغنائه عن الزكاة بالسهم المصروف إلى اليتامى من الغنيمة، وعن ابن أبي هريرة: أنه يجوز صرف الزكاة إلى قيِّمه، قال ابن كج: وهو المذهب. أما إذا قلنا: لا يجوز أن تصرف إليه، فلا تجيء هذه المسألة في سهم الفقراء والمساكين، ويجوز أن تجيء في سهم الغارمين ونحوه، لأن الخلاف في المكتفي بنفقة أبيه لا يتجه في سهم الغارمين؛ إذ ليس على القريب قضاء دين القريب.
قل: ودعوى الرافعي أن الحكم [المذكور] مفرع على جواز صرف الزكاة إلى الصغير؛ لأن لنا وجهاً: أنه لا يجوز الصرف إليه مطلقاً بمقتضى [التقرير المذكور- فيها] نظر؛ لأن الصغير قد لا يكون في نفقة غيره، وهو من لا يصرف إليه من
نصيب اليتامى في الغنيمة شيء؛ بأن يكون له أب فقير؛ لأن فقر الأب مانع من وجوب نفقة ولده عليه، ووجوده مانع من صرف شيء إليه من نصيب اليتامى إذ اليتيم من لا أب له، والله أعلم.
قال: وإن تسلف بمسألة الفقراء فهو من ضمانهم؛ لأنه وكيلهم وقبض بإذنهم، وهكذا الحكم فيما إذا تسلف بغير مسألة، أو بسؤال أرباب الأموال وسلمه إليهم، فتلف في أيديهم. ومعنى كونه من ضمانهم: أن رب المال لو خرج عن أن يكون من أهل الوجوب قبل تمام الحول، وخرجوا عن أن يكونوا من أهل الاستحقاق حالة الوجوب، أو وجد أحد الأمرين – كان عليهم الضمان، ولا يكون الإمام طريقاً فيما إذا تسلف بمسألة أرباب الأموال، وهل يكون طرياً إذا تسلف بمسألة الفقراء؟ قال الرافعي: فيه وهان، [أظهرهما – كما اقتضاه كلامه، والذي أورده] الماوردي وغيره فيما إذا خرج المالك عن أهلية الوجوب -: أن له مطالبة الإمام، وهو يرجع على القابض. وجزم القول بأنه إذا خرج القابض وحده عن [أهلية] الاستحقاق: أن الإمام يطالبه بها، ويصرفها في غيره ممن يستحقها، وكذا قاله البندنيجي وليس لرب المال استرجاعها؛ لأن إخراجها واجب عليه.
وفي "التهذيب" حكاية وجه آخر: أنها لا تجزئ عن رب المال، قال: وعلى رب [المال] إخراجها؛ لأن ما دفع لم يقع عن الصدقة؛ فأشبه ما لو عجل الزكاة إلى الفقراء وخرجوا عن الاستحقاق.
وعلى الأول قال الماوردي: فالواجب المثل الصُّوريُّ أو الحقيقي دون القيمة؛ لأنه يسترجعها في حق أهل السُّهمان؛ [فوجب أن يسترجع ما] يصرف مصرف الزكاة وهو العين دون القيمة، بخلاف ما إذا خرج رب المال عن صفة الوجوب؛ [فإنه يرجع في النقد بمثله، وفي الحيوان بالقيمة: [بقيمته] على وجه، وعلى آخر بالمثل
الصوري كما في القرض، وسنذكر من بعد ما ينازع فيه.
ولو بقي رب المال على صفة الوجوب] وهم على صفة الاستحقاق إلى أن تم الحول، وقع المخرج عن زكاته، وقال الرافعي: فيه وجهان.
أظهرهما: هذا. وهو المذكور في "الشامل" وتعليق" البندنيجي و"البحر" [و"الحاوي"] في أثناء [الكلام عن] تسلف الإمام الزكاة لرجلين، ووجهه: أن الإمام نائب الفقراء؛ فصار كما لو أخذوه وتلف في أيديهم.
والثاني: لا؛ لأنه لم يصل إلى المستحين؛ فعلى هذا يؤخذ من الفقراء، وفي كون الإمام طريقاً وجهان. وهذا الوجه وفرعه يظهر مجيئهما من طريق الأولى فيما إذا خرج الفقراء عن صفة الاستحقاق وبقي رب المال بصفة الوجوب عليه وللإمام إذا اجتمعت عنده الزكاة: أن يصرف ذلك القدر إلى قوم آخرين عن جهة الذي تسلف منه، قاله الرافعي.
واعلم أن الشيخ محيي الدين النووي – رحمه الله – قال: إن المراد بالفقراء هنا جميع أصناف الزكاة، وعادة الأصحاب إطلاق هذه اللفظة في مثل هذا السياق لإرادة الأصناف، وهو من باب التعبير بالبعض عن الكل، وخصوا به الفقراء؛ لأنهم أهم الأصناف.
قلت: ويجوز أن يحمل كلام الشيخ وغيره من المصنفين في هذا المقام على حقيقته، وهو إرادة نفس الفقراء، لا غيرهم؛ لما ستعرفه أن للإمام أن يصرف زكاة الشخص الواحد لواحد من الأصناف الثمانية، ويؤيد ذلك أن الشافعي – رحمه الله – قال في "المختصر": لو استسلف الوالي لرجلين بعيراً، فأتلفاه وماتا قبل الحول فله أن يأخذ من أموالهما لأهل السهمان، ولو ماتا بعد الحول كانا قد استوفيا الصدقة.
وقال الأصحاب: إن الحك كذلك فيما لو استسلف لأكثر منهما أو لأقل. وإذا كان كذلك فلا حاجة بنا إلى صرف اللفظ عن حقيقته، والله أعلم.
قال: وإن تسلف بمسألة أرباب الأموال فهو من ضمانهم، كمن بعث ما عليه على في شخص إلى مستحقه، فتلف في الطريق. نعم، إن فرط الإمام فيه رجع به عليه، وله في هذه الحالة عند بقاء المال في يد الإمام أن يسترجعه؛ لأنه كوكيله، أما إذا فرقه لأهل السهمان وهو باق في أيديهم وهم بصفة الاستحقاق، [وهو بصفة من تجب عليه – لم يكن له استرجاعه. نعم، لوخرج عن أن يكون من أهل الوجوب عليه والمدفوع إليهم عن أن يكونوا بصفة الاستحقاق] أو لم يخرجوا – فله الاسترجاع. ولو لم يخرج رب المال عن صفة من تجب عليه لكن خرج المدفوع إليهم عن صفة الاستحقاق – فله أن يسترجعها، وعليه صرفها في أهلها ومستحقيها فإن كانت باقية بحالها استرجعها بعينها، وهل يتعين عليه دفعها في الزكاة؟ فيه وحهان في "الحاوي".
قال: وإن تسلف بمسألة الجميع فقد قيل: هو من ضمان الفقراء؛ لأن الحظ في تعجيلها لهم وفي القبض لمنفعتهم فكان الضمان عليهم كالمستعير، وهذا أصح في "الشامل" وغيرهن قال الرافعي: وإليه يميل كلام الأكثرين.
وقيل: من ضمان أرباب الأموال؛ لانهم يملكون الدفع والمنع فقويت جنبتهم، وهذا أصح في "التتمة" و"العدة".
وما ذكره الشيخ من إطلاق الخلاف، هو ما أورده الأصحاب، وهو ظاهر فيما إذا وقعت المسألتان معاً، واعتمد الإمام في الأخذ مجموعهما، وعليه ينطبق كلام الشيخ، أما إذا وقعت أحداهما بد الأخرى فقد يقال: ينبغي أن ينبني ذلك على خلاف حكاه افمام في باب الرهن والحميل فيما إذا كان عليه دين لشخصين وقد وكلا وكيلاً في قبضه منه، فقال من عليه الدين للوكيل: خذ هذا أو ادفعه إلى فلان – أحد الموكلين – فهل يكون هذا القول من الدافع عز لا للوكيل بالقبض عن حكم ذلك الموكل، وإن لم يصرح الوكيل بالقبول لما قال له ذلك، ويصير وكيلاً
للمؤدي، أو لا يكون عزلاً عن التوكيل بالقبض وإن أقبل الوكيل بالدفع على اللفظ الذي حكيناه؛ لأن يد الوكيل ليست منتهى القبض، ومعنى قبضه: أن يوصله إلى موكله، فإذا قال من عليه الدين ادفع هذا إلى موكلك، لم يكن ما قاله مضاداً للقبض؟ فإن قلنا: إنه يكون عزلاً – وهو الأفقه عند الإمام- فيكون الضمان فيما نحن فيه على السائل الأخير؛ لأنه إن كان رب المال فقد نظر من عليه الدين، وإن كان الفقراء فنحن إنما جعلنا إذن الدافع عزلاً للمضادة، وهي ثابتة هنا أيضاً؛ فتكون مسألتهم [عزلاً للإمام] عن وكالة رب المال.
وإن قلنا: لا يكون عزلاً فإن اعتمد الإمام في الأخذ على إحدى المسألتين؛ لكونه رأى الحظ فيها أظهر – كان الاعتبار بها، وكذا فيما لو وقعت المسألتان معاً. وإن اعتمد على المسألتين جاء الوجهان المذكوران في الكتاب، والله أعلم.
وكثير ما يقال: إذا تسلف بمسألة الجميع لم لا يكون الضمان عليهما إحالة على المسألتين، كما أبداه بعض المتأخرين احتمالاً؟
وجوابه: أنا عند انفراده المسألة جعلناها من ضمان السائل؛ [لأن الإمام وكيله فتجعل يده [يده فكأنه تلف في يده، ويستحيل] عند اجتماع المسألتين أن تكون يده نائبة عن كل منهما في حال التلف على كل العين؛ فكذلك امتنعت إضافة الضمان إليهما والله أعلم.
أما إذا تلف بعد تمام الحول والدافع ممن تجب عليه تلك الزكاة فقد سقطت الزكاة في الصور كلها، ويجيء في المسألة وجه [آخر] مماسنذكره في آخر الباب، وهل يضمنه الإمام؟ ينظر: إن فرط في الدفع إليهم ضمنه لهم من مال نفسه، وإلا فلا ضمان على أحد وليس من التفريط أن ينتظر انضمام غيره إليه؛ لقلته ولانشغاله بتعرف أحوالهم وقدر حاجتهم. نعم، منه [ما] إذا عرف ذلك مع كثرة المال ولم يفرقه، سواء طالبوه بذلك أو لا، وليس كالوكيل إذا لم يطالبه موكله بما في يده؛ فإنه لا يضمنه؛ لأن الموكل متعين، والمساكين غير متعينين؛ فله أن يحرم البعض دون
البعض فلا معنى لطلبهم، فإذا لم يفعل علمنا أنه مفرط.
ولو تسلف الإمام لأهل السهمان مالاً على ذممهم قرضاً ممن تجب عليه الزكاة، أو [ممن] لا زكاة عليه – فالأحوال أربعة أيضاً:
إن كانوا أهل رشد، ولا مسألة ولا حاجة ضمنهن سواء دفعه إليهم وتلف في أيديهم، أو تلف في يده بتفريط [أو غير] تفريط. نعم، هل يرجع الإمام بالغرم على الأخذ منه؟ ينظر: إن دفعه إليهم متبرعاً فلا، وإن أقرضهم إياه فنعم؛ لأنه أقرضهم مال نفسه.
وإن كان بهم حاجة فوجهان:
أحدهما: أن الحكم كما لو تسلف بإذنهم، وخصه القاضي الحسين [وكذا] الفوراني بما إذا كانوا بحيث [لو] لم يستقرض لهم لهلكوا.
وأصحهما: لا؛ فعلى هذا يكون الضمان عليه، فإن أقبضه لهم وتلف في يدهم كان عليهم وعليه، وهو طريق فيه.
فإذا أخذ الزكوات، والمدفوع إليه بصفة الاستحقاق فله أن يقضيه منها، وله أن يحتسب ذلك من صدقة الدافع إن كان عليه صدقة.
وإن لم يكن المدفوع إليه بصفة الاستحقاق بموت أو ردة أو يسار قضي ذلك من ماله ويرجع على المدفوع إليه إذا أمكن، ولا يجوز أن يقضي ذلك من أموال الزكاة. نعم، لو مات فقيراً ففي "تعليق" القاضي الحسين أن أصحابنا قالوا: لو حال الحول على واحد من المسلمين، ولم يحل [على سائر] المسلمين، فمات المقترض له بعد حول الحول على هذا الرجل، وقبل حول الحول على سائر المسلمين – يجوز للإمام أن يقضي دين ذلك الفقير من مال من حال عليه الحول في حياته. ثم قال: وهذا
…
إنما يتصور إذا كانوا محصورين معدودين وقد حكى الإمام مثل هذا القول عن الشيخ أبي بكر – رضي الله عنه – يعني ابن الحداد – فيما إذا حلت صدقة زيد، والمستقرض من المساكين الذين يحل لهم أخذ الصدقة لدينه، ثم
استغنى بجهة أخرى، أو ارتد، فحلت صدقة عمرو – [أنه تصرف إلى دينه صدقة زيد، ولا تصرف إليه صدقة عمرو]. قال: وهذا ليس بشيء؛ فإنه مديون عليه دين لا يتعلق بزكاة زيد ولا عمرو؛ فينبغي أن يكون النظر إلى صفة حاله حالة الأخذ، سواء كان من صدقة زيد أو عمرو وإنما يتجه ما قاله إذا منعنا نقل الصدقة وانحصر المستحقون، ثم فرض التغاير بعد الاستحقاق.
ولو كان الإمام قد تسلف بمسألتهم فهو وكيلهم في الإقراض والضمان؛ فالضمان عليهم [على أظهر الوجهين]، سواء تلف في يده أو في يدهم، لكن هل يكون طريقا ًللضمان؟ ينظر:
إن علم المأخوذ منه ذلك فلا على أظهر لوجهين، وبه جزم وبه جزم القاضي الحسين، وهو المحكي في "الإبانة" عن القفال؛ بل يرجع عليهم فقط.
ومقابله: أنه يكون طريقاً كالوكيل بالشراء؛ فإنه طريق في المطالبة بالثمن على ظاهر المذهب، كما ستعرفه في باب الوكالة.
وإن ظن المأخوذ منه أنه يستقرض ذلك لنفسه، أو للمساكين ابتداء من غير مسألتهم، ولا حاجة بهم، فتلف في يده – كان الضمان عليه، صرح به الفوراني، ولا مطالبة [له] على المساكين.
وإن تسلف بمسألة أرباب الأموال فلا ضمان على أحد، وإن تسلف بمسألة الجميع ففيه الوجهان.
قال: وإن عجل شاة، أي: جارية في الحول، عن مائة وعشرين، ثم نتجت شاة، أي: منها، سَخْلَةً قبل الحول – ضم المخرج إلى ماله، ولزمه شاة أخرى؛ لأن المخرج كالباقي على ملكه؛ ولهذا لا ينقطع الحول بإخراجه من نصاب فقط، كما إذا ملك أربعين من الغنم، فأخرج منها شاة؛ فإن الحول لا ينقطع، ولولا أنها كالباقية على ملكه لانقطع، وإذا كان كالباقي على ملكه وجبت شاة أخرى كما لو لم يخرجها.
فإن قيل: لا نسلم أنه إذا اخرج شاة من أربعين لا ينقطع الحول، وهو مذهب أبي حنيفة.
قلنا: ذاك مذهبنا، وحجته: أنه – عليه السلام – حين رخص للعباس لم يستفصل عن ماله: هل هو نصاب أو أكثر منه، ولأنا إنما جوزنا التعجيل إرفاقاً بأهل السهمان؛ فلا يجوز أن يصير سبباً لإسقاط حقوقهم.
فإن قلت: إذا قدرت أن المخرج كالباقي على ملك المخرج فهل ملكه أهل السهمان؟ فإن قلت: ما ملكوهن فكيف ينفذ تصرفهم فيه؟ وإن قلت: ملكوه، فكيف تجعله باقياً على ملك المخرج؟
قلنا: إذا تم الحول على السلامة حكمنا بملك أهل السهمان من حين القبض، وجعله على ملكا لمخرج تقديراً؛ حتى يكون مجزئاً عن زكاته [و] يكمل به النصاب رفقاً بأهل السهمان، [والثاني: الحكم بكون الملك للمخرج حقيقة مع انتقاله لأهل السهمان]، وهذا ملخص ما حكي عن صاحب "التقريب"، وبه يندفع السؤال، على أن لقائل أن يقول ببقاء ملك رب المال حقيقة، وإن نفذنا تصرف أهل السهمان فيه، كما ذهب إلى مثله الشيخ أبو محمد [في] أن القيمة المأخوذة لأجل الحيلولة لا يملكها المغصوب منه وإن نفذنا تصرفه فيها، أما إذا تغير الحال فكلام الشيخ في "المهذب" وغيره الذي سنذكره عند هلاك الفقير قبلا لحول: أن الحكم فيه كذلك، وكلام الغزالي وطائفة يقتضي خلافه، وسنذكره إن شاء الله.
والحكم فيما إذا عجل شاتين من مائتين، ثم نتجت شاة سخلة قبل الحول- كما تقدم؛ فيلزمه شاة أخرى.
أما لو كانت المعجلة غير جارية في الحول؛ لكونه ابتاعها فأخرجها، أو كنات معلوفة- فلا يلزمه شيء آخر، صرح به الرافعي والقاضي الحسين.
تنبيه: قوله: "ثم نتجت شاة سخلة"، [هو بضم النون وكسر التاء، و"شاة" مرفوع، و"سخلة" منصوب، ومعناه: ولدت شاة [سخلة]، والسخلة: بفتح السين المهملة، وإسكان الخاء المعجمة، وجمعها: سخالٌ – بكسر السين – وسخل، وهو من ولد الضأن والمعز: يطلق على الذكر والأنثى من حين يولد إلى أن يستكمل أربعة
أشهر، فإذا بلغتها وفصلت عن أمها فأولاد المعز جفار الواحدة: جفرة، والذكر: جفر، فإذا رعى وقوي فهو عتود، وجمعه: عدان، وهو في ذلك جدي، والأنثى: عناق – بفتح العين – ما لم يأت الحولن وجمعها عنوق، فإذا أتى عليه حول فالذكر: تيس، والأنثى: عنز.
قال – رحمه الله: وإن نقص النصاب قبل الحول، [أي] مثل أن كان أربعين من الغنم، وقد عجل منها شاة، وتلفت أخرى أو باعها، وكان لدين أنها زكاة معجلة – جاز له أن يسترجع؛ لأنه دفع ذلك على أنه عجل ما يجب عليه؛ فظهر أنه غير واجب فكان له استرداده؛ كما لو عجل أجرة دار فانهدمت قبل انقضاء المدة، وللمراوزة وجه آخر حكاه الشيخ أبو محمد: أنه لا يكفي التصريح بأنها معجلة في الاسترجاع بل لابد من التصريح بالرجوع عند طرآن ما يمنع الوجوب أو الإجزاء، كما إذا قال: هذه الدراهم عن زكاة مالي الغائب، وكان تالفاً؛ [فإنه] لا يسترجع إلا إذا شرطه بتقدير تلف الغائب. والذي أورده المعظم وهو الأصح: ما ذكره الشيخ، لما ذكرناه.
قال الصيدلاني: وفي قوله: إنها معجلة، تعرض لشرط الرجوع إن عرض مانع؛ فهو كمسألة الغائب. وهذا غير واضح كما ينبغي.
وقرب الإمام الوجهين في المسألة من القولين فيما إذا نوى الظهر قبل الزوال هل تنعقد صلاته نفلاً أم لا؟
ثم حيث قلنا: له الاسترجاع، نظر: فإن كان ما دفعه باقياً بحاله أخذه، وفيه احتمال يأتي [مأخذه]، والذي أورده الجمهور: الأول، قال الإمام: ولا حاجة عندي إلى نقض الملك والرجوع فيه، بل ينتقض الملك أو يبين [أن] الملك في أصله لم يحصل أو حصل ثم انتقض، وليس كالرجوع في الهبة؛ فإن الراجع بالخيار إن شاء
أدام الملك المتهب، وإن شاء رجع وليس لملك القابض وجه إلا وقوع المقبوض عن جهة الزكاة، فإذا امتنع وقوعها زال الملك، ولو قدرنا وقوعها نقلاً إذا لم تقع فرضاً فموجب هذا: امتناع الرجوع والاسترداد، وتفريعنا على ثبوت الرجوع، وكذا يرجع فيما دفعه إن كان زائداً زيادة متصلة، وإن كانت الزيادة منفصلة وقد حصلت قبل السبب الموجب للرجوع رجع فيه دون الزيادة، على الأصح، ولم يورد العراقيون والماوردي غيره، وهو المحكي في "تعليق" القاضي الحسين عن النص.
وحكى المراوزة وجهاً آخر: أنه يسترد الزيادة مع الأصل، وهو ما اقتضى إيراد "الوجيز" ترجيحه، وقال في "الوسيط": إن مأخذ الخلاف تردد الأداء بين وجود التمليك [وعدمه، أو هو] تمليك لا محالة، لكنه متردد بين الزكاة والقرض وهنا احتمالان ظاهران:
فإن قلنا: إنه متردد بين التمليك وعدمه، فقد بان أنه لا تمليك؛ فيرد بزوائده.
وإن رددناه بني القرض والزكاة التفت على أن القرض يملك بالقبض أو بالتصرف؟ وشرح هذا الكلام: أن الأداء هل هو يملك ملكاً موقوفاً [مراعّى]، فإن تم الحول مع سلامة الحال تبينا أن ملك [المعطي لم يزل، أو نقول: الأداء يملك] حين القبض، وإن تغير الحال فظهر أن الزكاة لم تقع موقعها تبينا أن ملك المعطي لم يزل، أو نقول: الأداء يملك لا محالة في الحال، لكن على أي وجهي ملك؟ الأمر فيه مرقوف مراعى: فإن تم الحول على السلامة تبينا أنه [ملك حين القبض، وإن تغير الحال فظهر أن الزكاة لم تقع موقعها تبينا أن] ملكه زكاة، وإن تغير الحال تبينا أنه ملكه فرداً، وهذان الاحتمالان حوم عليهما صاحب "التقريب"، ولم يصرح بهما الأصحاب.
فإن قلنا بالاحتمال الأول أخذت الزيادة مع الأصل؛ لأنا تبينا حصولها على ملك رب المال، ولو كان الآخذ قد باع ما أخذه فقياسه أن يبين أن التصرف مردود
منتقض، وبه صرح في "الوسيط".
وإن قلنا بالثاني – وهو الذي صرح به القاضي الحسين والفوراني فقد بان أن الأداء مملك على جهة القرض، والقرض متى يحصل الملك فيه:[هل] بالقبض أو بالتصرف المزيل للملك؟ قال الإمام: فيه قولان:
أصحهما: بالقبض؛ فعلى هذا يأخذ الأصل دون الزيادة إن رضي الآخذ بذلك، وإن لم يرض وبذل [بدل] العين [كان له كما في مثله في القرض، كذا قاله الإمام ومن تبعه، وهو جار فيما إذا لم تزد العين] ولم تنقص، وفيما إذا زادت زيادة متصلة من طريق الأولى. وقد حكى بضهم في القرض أن المقرض يأخذه إذا كان باقياً وإن قلنا: إن المستقرض قد ملكه بالقبض كما ستعرفه في موضعه – وصححه الجمهور، ولعل جوابهم ها هنا مفرع عليه، والله أعلم.
والثاني: بالتصرف المزيل للملك؛ فعلى هذا يأخذ الأصل والزيادة إذ لا ملك، ولك أن تقول: سيأتي في باب القرض أن التصرف المملك للقرض ما هو فيه ثلاثة أوجه: أحدها [هذا]، والثاني: كل تصرف يتعلق بالرقبة، والثالث: كل تصرف [يستدعي الملك]، فعلى هذا والذي قبله ينبغي أن يلاحظ: هل صدر ذلك التصرف من القابض أو لا؟ فإن لم يحصل [ترد الزيادة]، وإلا فلا، وعلى ذلك خلص الغزالي بقوله: التفت، إلى أن القرض يملك بالقبض أم بالتصرف؛ وإن كان ناقصاً [نقصان] وصف كما قال الإمام أخذه، وهل يأخذ معه أرش النقص ممن لو تلف في يده ضمنه؟ فيه وجهان في الطريقين، أقيسهما في "الوسيط": أخذه، واختيار القفال: لا، وهو ما يقتضي كلام أبي الطيب ترجيحه، وصرح غيره بتصحيحه، وحكى عن ظاهر نصه في "الأم"، وبه جزم الماوردي؛ لأنه نقص حدث في ملكه فلا يضمنه، وإن كان يضمن كل العين لو تلفت، كالبائع إذا استرد المبيع، وقد نقص
عند الإفلاس: ليس له الأرش، وكالمشتري إذا رد المبيع بعيب والثمن باق، لكنه حدث فيه عيب: ليس له إلا المعيب كما قال القفال، قال الإمام: وهذا مشكل؛ فإلزامه الرضا بالشيء، المعيب بعيد، وإنما الذي قاله الأصحاب: أنه لو وجد بالمبيع عيباً وتمكن من الرد، فرضي لا أرش له، وقد ذكرت شيئاً يتعلق بذلك في باب التحالف فليطلب منه.
وبنى الفوراني والقاضي الحسين الوجهين على الخلاف السابق في أن القرض متى يملك؟ فإن قلنا: بالقبض، فلا يغرم، وقد قال الإمام في باب اختلاف المتبايعين: إن الشافعي – رحمه الله – قال: يخرج الإمام [من المال العام] أرش النقص ويضمه إلى الشاة، ولا يكلف المسكين غرم العيب. وإن بعض الأصحاب ذهب إلى القول بظاهره، وإنه خيال لا أصل له، والوجه: حمل النص على الاستحباب عند اتساع المال.
ثم هذا يجزئ في القيمة لو تلفت الشاة، أما إذا نقص المخرج جزءاً متميزاً كإحدى الشاتين، أخذ بدله بلا خلاف؛ وما هو؟ سيأتي الكلام فيه.
ولو كان المخرج تالفاً بجملته استرجع بدله إما من الإمام أو من الفقراء، على ما تقدم، وللإمام أن يدفعه من أموال الزكاة إن بقي الآخذ بصفة [استحقاق الزكاة] عند آخر الحول، لكن ما هو البدل؟ ينظر: إن كان المخرج مثلياً فالمثل، وإن كان متقوماً كالشاة والبعير ونحوهما فهل هو المثل الصوري أو القيمة؟ فيه وجهان في "الحاوي" كما في القرض.
قلت: وهذا منه نظر إلى أن الأداء يملك على جهة القرض كما تقدم، وعليه أشار إليهما الإمام في موضع من كتابه، ومقتضى الاحتمال الآخر – وهو أن الملك موقوف على ما يظهر آخراً – [أن يضمنه] بالقيمة جزماً، وهو ما أورده البندنيجي وغيره من غير بناء.
ثم إذا أوجبنا القيمة فبأي وقت يعتبر؟ فيه أوجه:
أحدها: قيمته وقت القبض، وهو ما حكاه القاضي أبو علي البندنيجي عن المذهب، وصححه الماوردي، وذلك مفرع على قولنا: إنه تملك ذلك قرضاً بالقبض.
[والثاني:] قيمته يوم التلف كالعارية، وحكى البندنيجي عوضه قيمته يوم الاسترجاع، فإن صح [ذلك] كان ثالثاً. والرابع – حكاه القاضي الحسين -: أقصى القيم من يوم القبض إلى يوم التلف كالغاصب، وهذا ما حكاه مع الوجه الثاني؛ بناء على أنه لا يملك إلا بالإتلاف.
وأبدى الإمام ضمان أقصى القيم وجهاً محتملاً لنفسه؛ بناء على أن ملك القابض موقوف، فإن تم الحول على السلامة تبينا أنه ملك حين قبض، وألا تبينا أنه لم يملكه، قال: فقد ذكرنا مثله في المستعير والمستام، لكنه بعيد في هذا المقام مع ثبوت ظاهر الملك [للقابض].
فروع:
إذا أتلف المالك النصاب أو بعضه بعد التعجيل، فهل يكون الحكم ما لو تلف بنفسه حتى يسترجع؟ فيه وجهان [في الطريقين]، أصحهما: نعم، والثاني: لا؛ لأنه يريد نقض الأداء بقصد. قيل: وقضية هذا التعليل: ألا يجري هذا الوهج فيما
إذا أتلفه إنفاقاً أو لحاجة؟
إذا عجل شاة من أربعين، ثم ماتت واحدة ونتجت واحدة: فإن كانت النتاج بد الموت فالحكم كما لو لم تنتج، وإن كان [النتاج] قبل الموت [أو] معه وقعت الزكاة موقعها، حكاه البندنيجي عن ابن سريج، وحكى القاضي أبو الطب عن الماسرجسي فيما إذا مات جميع الباقي بعد المعجلة، وقد أنتجت قدرها من السخال – وجهين:
أحدهما: أن المخرج وقع موقعه.
والثاني: لا. ويظهر أن يكون مأخذه مذهب الأنماطي، وإذا كان كذلك جرى في الصورة الأولى قطعاً إذا مات المعجل قبل الوجوب فهل يقع المعجل زكاة أم لا؟
إن قلنا: إن الوارث يبني على حول الموروث، فنعم، ويجزئ عن الوارث، فإن تعدد [الوارث] ثبت حكم الخلة بينهم إن كان المال ماشية أو غير ماشية، وقلنا بثبوت الخلطة فيه، وإن قلنا: لا تثبت، ونقص نصيب كل واحد عن النصاب – انقطع الحول،
ولا تجب الزكاة على المشهور، وعن صاحب "التقريب" وجه آخر: أنهم يجعلون كالشخص الواحد وكأنهم عين المتوفى؛ فيستدام حكمه في حقهم.
وإن قلنا: لا يبني الوارث على حول الموروث، فإذا حال الحول من حين ورث فهل يجزئ عن الوارث؟ حكى البندنيجي فيه وجهين:
أحدهما: نعم؛ عملاً بظاهر نصه في "الأم"؛ فإنه نص على الإجزاء.
والثاني: لا، وقال قائله: نصه في "الأم" جوابٌ على أن الوارث يبني.
وعن الشيخ أبي حامد أنه قال: ما أشبه هذا بما قلناه في تقديم الصدقة عامين فأكثر، فمن قال بالمنصوص فيها –وهو قول أبي إسحاق – أنه يجوز عامين، قال هنا:[فالمنصوص] أنها تقع موقعها، ومن قال: لا يجوز تقديم صدقة عامين، قال هنا: لا تقع موقعها.
وقد نسب الإمام الوجهين إلى تخريج صاحب "التقريب" من الأصل المذكور، وقال: إنه محتمل، ويجوز أن يقال: لا يقع المخرج عن الوارث، [وهو الظاهر]؛ فإن مالك جديد لا ينبني حوله على الحول الماضي، وليس كسنتين في حق مالك واحد.
قال: وإن هلك الفقير، أو استغنى [من غير الزكاة] قبل الحول – لم يجزئه عن الفرض؛ لأنه تبين أنه لم يصرفه إلى المستحقين، وظاهر كلام الشيخ أنه لا فرق [في ذلك] بين أن يفتقر بعد ذلك، ويدوم فقره إلى آخر الحول، أو يدوم غناه إلى آخر الحول، وهو وجه للأصحاب مقيس على ما إذا كان غنياً عند الدفع إليه [فقيراً آخر الحول؛ فإنه لا يجزئ بلا خلاف، لكن الأصح فيما إذا تخلل غناه، وكان عند آخر الحول] فقيراً: أنه يجزئه عن الفرض.
وقد نظر القاضي الحسين الخلاف في المسألة بالخلاف في صورتين:
أحداهما: إذا تخلل بين الرهن والإقباض جنون، هل يكون مبطلاً للعقد أم لا؟ وفيه وجهان.
الثانية: إذا فاتته صلاة في السفر، فهل يجوز إذا قضاها في سفر آخر تخلل بينه وبين الأول حضر أن يقصر؟ وفيه وجهان:
ولو كان غناه بالزكاة التي أخذها أجزأته عن الفرض وفاقاً؛ لأنه المقصود بالدفع إليه، وكذا لو هلك أو استغنى بعد الحول أجزأته وفاقاً، اللهم إلا أن يعجل بنت مخاض عن خمس وعشيرن من الإبل، فبلغت بالتوالد ستا ًوثلاثين قبل الحول؛ فلا يجزئه بنت المخاض المعجلة، وإن صارت بنت لبون في يد القابض، بل يستردها ويخرجها ثانياً، أو بنت لبون أخرى.
وقال في "التهذيب"[من عند نفسه]: لو كان المخرج هالكاً، والنتاج لم يزد على أحد عشر كان مع المخرج ستاً وثلاثين – وجب ألا تجب بنت لبون؛ لأنا إنما نجعل المخرج كالقائم إذا كنا نحتسبه من الزكاة، وهاهنا لا يحتسب من الزكاة؛ فيصير كهلاك بعض المال قبل الحول.
ولو وقع الشك [في موت] الفقير قبل الحول أو بعده؛ ففي الإجزاء وجهان في "الحاوي".
قال: .............. ؛ لما تقدم، وفيه الوجه السابق في اشتراط التصريح بالرجوع أو الاسترجاع.
ثم ظاهر كلام الشيخ: أن المعجل هو المسترجع، وكذا كلام القاضي أبي الطيب؛ فإنه قال كما قال الشيخ، وكلام القاضي الحسين الذي حكيناه من قبل مصرح به إذا كان الدفع من رب المال إلى الفقير، وهي صورة الكتاب، كما ستعرفه من بعد. ويوافق ذلك ما حكيناه فيما إذا تسلف الإمام الزكاة بمسألة أرباب الأموال وسلمها للفقراء، ثم خرجوا عن صفة الاستحقاق، وأن لرب المال استرجاعها، وإذا كان كذلك في صورة عجلها وكيله – وهو الإمام – فكذلك إذا عجلها هو من طريق الأولى، ويعود الكلام السابق في الفصل قبله، [في أنه] يسترجعها إن كانت باقية بحالها أو زائدة أو ناقصة، أو بدلها إن كانت تالفة، وما هو البدل - على نحو ما
سبق، ويظهر أن يجيء الخلاف السابق في أنه هل يتعين عليه صرفها بعينها إذا استرجعها سالمة من العيب أم لا؟ وطرآن الردة قبل الحول كطرآن اليسار والموت قبله.
أما إذا لم يبين أنها زكاة معجلة: فإن علم القابض أنها معجلة فالحكم كما لو بين، وإن لم يعلمه فلا استرجاع في هذه الأحوال، ولا في حالة نقص النصاب قبل الحول إذا كان رب المال هو الدافع بنفسه، كذا قاله العراقيون، وحكى عن نصه في "المختصر"، وأنه نص فيه [فيما] إذا كان الإمام هو الدافع: أنه يسترجع وإن لم يبين أنها زكاة معجلة، وبه قال العراقيون، واختلف المراوزة في النصين على طرق:
إحداها: تقرير النصين كما صار إليه العراقيون، وهي أصحها، والفرق بين رب المال والإمام من وجهين:
أحدهما: أن الإمام جعل حال الفقراء إلى اجتهاده؛ فربما احتاجوا فأعطاهم الزكاة الواجبة والزكاة المعجلة، فإذا استرجعها منهم لم يكن متهماً فيها، وليس كذلك رب المال، والظاهر: أن ما أعطاهم واجب أو تطوع؛ فتلحقه التهمة في استرجاعه.
والثاني: أن الإمام إذا استرجع الزكاة فلا يسترجعها لنفسه [وإنما لغيره، وليس كذلك رب المال؛ فإنه يسترجع الزكاة لنفسه] فكان متهماً فيه.
وفرق الرافعي بأن المالك يعطي من ماله الفرض والتطوع، فإذا لم يقع عن الفرض وقع عن التطوع، والإمام يقسم مال الغير فلا يعطي إلا الفرض؛ فكان مطلق دفعه كالمقيد بالفرض.
والثانية: تخريج قول من كل صورة إلى الأخرى، وجعلهما على قولين.
والثالثة: إلحاق الإمام برب المال في عدم الاسترجاع عند عدم الاشتراط؛ لأن الإمام يتصدق بمال نفسه كما يفرق مال الغير، وبتقدير ألا يقسم إلا الفرض، لكنه قد يكون معجلاً، وقد يكون في وقته، وهؤلاء حملوا نصه فيه على ما إذا وقع بغرض التعجيل.
قال الرافعي: وهذا الطريق هو الذي أورده الجامعون لطريقة القفال واختياراته، وصححها في "الإبانة"، وذكر في "الشامل" أن الشيخ أبا حامد حكاها أيضاً، والأظهر: أنه لا يثبت الرجوع سواء أثبتنا الخلاف أو لا، وهو فيما إذا دفع بنفسه أولى وأظهر.
والطرق المذكورة باتفاق ناقليها جارية فيما إذا دفع وهو ساكت، أما إذا قال حالة الدفع: هذه زكاتي أو صدقتي، كان بمثابة ما لو ذكر التعجيل، ومنهم من قال: الحكم كما لو دفع وسكت، وعليها جرى القاضي أبو الطيب وغيره من العراقيين.
وقد سلك القاضي الحسين في حكاية الطرق مسلكاً آخر فقال: إذا دفع الزكاة ولم يقل: هذه عن زكاتي المعجلة، فلا خلاف أنه لا يرجع، فأما إذا قال: هذه عن زكاتي المعجلة، فقد نص الشافعي رحمه الله في رب المال في "المختصر": أنه لا يرجع. وقال في الإمام في ["المختصر": إن له أن يسترجع]. واختلف أصحابنا في ذلك على ثلاث طرق:
منهم من جعل المسألة على قولين.
ومنهم من قال: المسألة على اختلاف الحالين: حيث قال له الرجوع، إذا شرط الرجوع، وحيث قال: ليس له الرجوع، إذا لم [يشرط الرجوع].
ومنهم من أجراهما على ظاهرهما، وفرق بما ذكرناه.
ثم حيث قلنا بأن له الاسترجاع وإن لم يبين أنها [زكاة] معجلة، ولا علمه القابض – فمهام قال الدافع: قصدت التعجيل، ونازعه القابض، فالقول قول الدافع مع اليمين، فإنه أعرف بنيته، ولا سبيل إلى معرفتها إلا من جهته.
وإن قلنا: لابد من التصريح [بأنها معجلة ويكفي، أو لا بد مع ذلك من التصريح] باشتراط الرجوع عند تغير الحال، واختلف الدافع والقابض في ذكر ذلك – فمن القول قوله؟ فيه وجهان في "الحاوي" وغيره:
أحدهما: أن القول قول المؤدي؛ كما لو دفع ثوباً إلى غيره فقال: هو عارية، وقال الآخر:[هو] هبة – فإن القول قول الدافع، وهذا ما حكاه القاضي الحسين.
والثاني – وهو الأظهر، ولم يورد البندنيجي وصاحب "العدة" غيره -: أن القول قول القابض؛ لأن الأصل عدم الاشتراط وذكر التعجيل، والغالب أن الأداء في الوقت، ولأنهما اتفقا على انتقال الملك والأصل استمراره.
والخلاف جار فيما لو تنازع الإمام والقابض، وقلنا: إن الإمام كالمالك، كما أشار إليه في "التهذيب".
ثم على القول بأن القول قول القابض، فهل للدافع تحليفه فيما إذا كان الدافع قد قال حال الدفع: هذه زكاتي؟ فيه وجهان جاريان فيما لو وقع النزاع بين الدافع وورثة القابض كما قال الماوردي، وقال أبو الطيب: إنهما مبنيان على ما إذا أقر عند الحاكم بأني اشتريت من هذا شيئاً وأقبضته به رهناً ثم رجع فقال: أحلفه إنه قبض الرهن- فهل له تحليفه؟ فيه وجهان.
تنبيه: قول الشيخ –رحمه الله – "لم يجزئه عن الفرض"، مقتض لإيجاب إخراج
الفرض ثانياً، سواء استرجع أو لم يسترجع، وعبارته في "المهذب" أصرح في هذا المعنى؛ فإنه قال: إذا مات الفقير أو ارتد قبل الحول لم يجزئه المدفوع عن الزكاة، وعليه أن يخرج الزكاة ثانياً، وهل يسترجع؟ وساق الكلام، ولا شك في أن الحكم كذلك إذا بقي المال بعدما عجل منه نصاباً، أما إذا لم يبق فينظر: فإن كان في صورة [لا] يثبت له فيها الاسترجاع [فقد قال الأصحاب: إنه لا يجب عليه شيء، وإن كان في صورة يثبت له فيها الاسترجاع] واسترجع – نظر: فإن كان المسترجع عين المدفوع وهو ذهب أو فضة، وإذا ضمه إلى ما عنده بلغ النصاب – وجبت فيه الزكاة؛ لأنه قبل أن يموت الفقير كان كالباقي على حكم ملكه، ولما مات صار كالدين في ذمته، والذهب والفضة إذا صارا ديناً لم ينقطع الحول فيه؛ فضمه إلى ما عنده وزكاه [كذا] قاله في "المهذب". وإن كان الذي عجله شاة؛ ففيه وجهان:
أحدهما: يضمه إلى ما عنده كما لو كان ذهباً أو فضة، وهذا ما ادعى البندنيجي [أنه المذهب]، موجهاً له بأن الشاة وإن ملكها الفقير فهي في حكم ملك رب المال.
والثاني: لا؛ لأنه لما مات صار كالدين، والحيوان إذا صار ديناً لم تجب فيه الزكاة، بخلاف الذهب والفضة.
ويأتي فيما إذا كان ذهباً أو فضة وجه: أنه لا يضم؛ بناء على أن الدين لا زكاة فيه؛ ولأجل ذلك حكى الإمام عن العراقيين في مجموع المسألتين ثلاثة أوجه أشار إليهما البندنيجي، ثالثها: الفرق بين الماشية وغيرها؛ لما ذكرناه؛ قال: وهذا خبط لا صدور له عن معرفة القواعد، [ولعلم صوَّروه] فيما إذا كان القابض أتلف
الشاة، فإن كان كذلك فلا معنى لترديد القول في ذلك فن المواشي إذا كانت ديوناً لا تجب الزكاة فيها قطعاً. وبنى صاحب "التقريب" ذلك في الماشية على الاحتمالين السابقين، فقال: إن قلنا بالثاني وهو أن الفقير قد ملك حين القبض لا محالة، والزوائد له – فلا تجب هاهنا زكاة ما مضى، بل يستأنف الحول من حين العود؛ فإنا تقدر زوال الملك عنها ثم العود عند الاسترداد. وإن قلنا [بالاحتمال] الأول- وهو أن الملك موقوف على ما تبين – فقد بان أن الملك لم يزل؛ فإذا رجعت الشاة بعينها وجبت الزكاة، قال الإمام: وهذا هو الوجه مع الالتفات في تلك الشاة التي يتسلط القابض على التصرف فيها، [على] المال المغصوب والمحجور، وهو الذي أورده العراقيون.
قلت: وينبغي أن يلتفت على القولين في المغصوب – أيضاً – إذا لم يثبت له الاسترجاع، حيث دفع ولم يبين أنها زكاة مجلة ولا صدقة القابض في نية التعجيل، وكان الحيوان المعجل باقياً؛ لأنه بزعمه ملكه [ومن] هو في يده غاصب غير آثم. فإن قلنا: إن الزكاة لا تجب في المغصوب فالأمر كما قاله الأصحاب، [وإن قلنا: تجب فيه لكن لا يجب الإخراج إلا بعد العود، فيخرج هاهنا الزكاة عما في يده بالحصة، إذا قلنا: إنه لو استرجع أخرج زكاة الجميع، كما قاله الأصحاب] فيما إذا غصب بعض النصاب، وتم الحول قبل الاسترجاع، والله أعلم.
وإن كان المسترجع بدل المدفوع؛ لكونه تالفاً:
فإن كان دراهم أو دنانير عن دراهم أو دنانير، قال الماوردي: فالحكم كما لو استرجع عين المدفوع وهو دراهم أو دنانير.
وإن كان دراهم أو دنانير قيمة عن شاة مثلاً إذا قلنا: إن الواجب عند تلفها رد القيمة، استأنف الحول، وهو ما حكاه البندنيجي، [و] عن القاضي ابن كج، عن أبي إسحاق: إقامة القيمة مقام العين هاهنا؛ مراعاة لجانب المساكين.
وإن كان البدل شاة عن شاة؛ تفريعاً على قولنا: إن الواجب المثل الصوري - قال الماوردي: فيستأنف الحول أيضاً. وجريان وجه أبي إسحاق فيه من طريق الأولى.
وهذا إذا كان رب المال هو الدافع للفقراء بنفسه، فلو وقع التعجيل للإمام بمسألة الفقراء فقد تقدم أن المسترجع عند تغير حال القابض وبقاء رب المال [بصفة الوجوب: هو الإمام دون رب المال]، وأنه يصرف المسترجع لمستحقه، ولا يأخذ عند تلف المدفوع في يد القابض إلا مثله، سواء كان من ذوات الأمثال أو من ذوات القيم.
وفي "الرافعي" أنه إذا استرجع عين المعجل هل يصرفه إلى المستحقين دون إذن جديد من رب المال؟ فيه وجهان في "التتمة"، أظهرهما - وهو المذكور في "التهذيب" - له ذلك. وإذا أخذ القيمة عند تلفه فهل يجوز صرفها إلى المستحقين؟ فيه وجهان؛ لأن دفع القيمة لا يجزئ، فإن جوزناه - وهو الأظهر- فهل يحتاج إلى إذن جديد؟ فيه وجهان، وهذا تصريح بضمان المأخوذ بالقيمة إذا كان من ذوات القيم في هذه الحالة أيضاً. والله أعلم بالصواب.
قال الشيخ رحمه الله ومن وجبت عليه الزكاة في الأموال الباطنة، وهي [من] الناض وعروض التجارة والركاز - جاز له أن يفرق ذلك بنفسه؛ لقوله تعالى:{إِنْ تُبْدُوا الصَّدَقَاتِ فَنِعِمَّا هِيَ وَإِنْ تُخْفُوهَا وَتُؤْتُوهَا الْفُقَرَاءَ فَهُوَ خَيْرٌ لَكُمْ} [البقرة: 271] فجعل كلا الأمرين مخيراً فيه؛ ولأنه مال مخرج على وجه الطهرة؛ فجاز أن ينفرد أربابه بإخراجه كالكفارات، وقد ادعى المحاملي الإجماع في ذلك، وعبارة الماوردي أن ذلك قول الجمهور.
قال: وبوكيله؛ لأنه حق مالي؛ فجاز أن يوكل في أدائه كديون الآدميين، وقد رأيت في "تعليق" القاضي أبي الطيب في [باب] دخول مكة عند الكلام في إحرام الولي عن الصبي: أن زكاة الفطر لا تدخلها النيابة في إخراجها مع القدرة على تعاطي الإخراج بنفسه.
ولا فرق في الوكيل بين أن يكون مسلماً بالغاً، أو كافراً صبياً، كما صرح به القاضي الحين في باب النية في الزكاة، وقال أيضاً: إنه يجوز أن يوكل فيها من لا يعرف أن ما يصرفه [زكاة. وفي "البحر"] عن رواية والده وجه: أنه لا يجوز أن يوكل الصبي؛ لأنه غير مكلف فكان كالمجنون.
قال: ويجوز أن يدفع إلى الإمام؛ لأنه نائب عن المستحقين فجاز الدفع إليه كولي اليتيم. نعم، هل للإمام المطالبة بها بأن يقول له: إما أن تدفع بنفسك أو تدفع إليّ حتى أوصل؟ قال الرافعي: فيه وجهان في بعض الشروح، ويجريان في المطالبة بالنذور والكفارات. وفيه نظر؛ لأن أداء الزكاة على الفور، والنذور والكفارات لا يجب الوفاء بها على الفور، [كما حكاه ابن التلمساني هنا؛ فكيف يسوي بينهما؟! نعم، إن فرض الكلام في الكفارات التي تجب على الفور] على أحد الوجهين، وهي التي سببها محظور – كما قال في "الوسيط" في كتاب الحج والنذور الذي صرح فيها بالفورية – اتجه الإلحاق، ثم هذا الكلام من الرافعي يقتضي فرض الخلاف في الزكاة في حالة امتناع رب المال من الدفع، والمتولي ذكر الوجهين في حق من علم الإمام أنه يخرج الزكاة.
فأحدهما: أنه ليس له مطالبته؛ كما إذا علم أنه يصلي لا يتعرض له.
والثاني: يطالبه إذا أدى اجتهاده إلى ذلك لا بطريق الولاية، ولكن نيابة عن الفقراء، وحثاً على الخروج عن حقوقهم، وله في حالة الامتناع المطالبة قولاً واحداً، وقد تقدم في أول الباب.
قال: وفي الأفضل ثلاثة أوجه:
أحدها: أنه يفرق بنفسه؛ لأنه على ثقة من أدائه، وليس على ثقة من أداء غيره، وهذا ظاهر نصه في "المختصر" حيث قال: وأحب أن يتولى الرجل قسمتها بنفسه؛ ليكون على يقين من أدائها. ولم يحك الماوردي في قسم الصدقات غيره.
والثاني: أن يدفع إلى الإمام، أي وإن كان جائراً؛ لما روى أبو داود عن جرير بن عبد الله قال: جاء ناس – يعني من الأعراب – إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم فقالوا: إن ناساً من المصدِّقين يأتوننا فيظلموننا، [فقال:"أرضوا مصدِّقيكم"، قالوا: يا رسول الله، وإن ظلمونا؟! قال:"أرضوا مصدِّقيكم"]، وزاد عثمان – وهو ابن أبي شيبة -:"وإن ظلمتم"، وأخرجه مسلم [ولم يذكر فيه]:"وإن ظلمتم".
و [أثر] ابن عمر وأبي هريرة وسعد بن أبي وقاص والمغيرة بن شعبة موافق له، [وهذا قول أبي علي] بن أبي هريرة، وتمسك فيه من جهة المعنى: بأن الإمام أعرف بمصارفها منه، ودفعها إليه تنزيه ظاهراً وباطناً، ودفعها إلى من ظاهره الفقر يحتمل أن يكون من الباطن غنيًّا؛ فلا تقع موقعها، ولأن آحاد الناس إذا تولوا تفرقة زكواتهم لم تبسط الزكوات على المستحقين، وإذا جمع الإمام الزكوات تَأَتِّي منه
بسطها، والزكاة وظيفة كلية أعدت للحاجات العامة حتى كأنها في السنة تحل محل النفقات الدَّارَّة يوماً يوماً من آحاد الناس على الذين يعولونهم؛ فكان الدفع إلى الإمام أفضل [لهذا المعنى].
والقائلون بهذا حملوا قول الشافعي – رحمه الله – على أنه أراد: أولى من الوكيل، وهو مما لا خلاف فيه.
والساعي في هذا المقام كالإمام، ولو اجتمع الإمام والساعي كان الدفع إلى الإمام أولى، قاله الماوردي.
والثالث: إن كان الإمام عادلاً فالأفضل أن يدفع إليه؛ لتحصيل المصلحة المذكورة، مع أنه على ثقة من أدائه، وإن كان جائراً فالأفضل أن يفرق بنفسه؛ لأنه ليس على يقين من أدائه؛ فلا تحصل المصلحة المذكورة، وهذا ما صححه النواوي، وادعى البندنيجي أنه المذهب، ولم يحك في "التتمة"[في الجائر] غيره.
وهذا الكلام من الشيخ وغيره من العراقيين دالٌّ على أن الإمام لا ينعزل بالجور، وهو ما ادعى القاضي الحسين في قسم الصدقات أنه المذهب الصحيح، وهو مخالف لما ذكره الشيخ وغيره في باب [أدب] السلطان؛ حيث قال: وإن زال شيء من ذلك بعد التولية بطلت ولايته. وهو الذي ذكره البندنيجي قبل باب صدقة الخلطاء، وعليه جرى الماوردي فقال: إذا كان الإمام جائراً لا يجوز الدفع إليه، فإن دفع لم يبرأ. كذا قاله في قسم الصدقات، وحكاه الحناطي [وجها].
قال: وفي الأموال الظاهرة وهي المواشي، والزروع، والثمار، والمعادن –قولان:
أصحهما: أن له أن يفرق بنفسه؛ [لأنها زكاة واجبة على من يجوز له التصرف في ماله؛ فجاز له أن يفرقها بنفسه] كزكاة الأموال الباطنة، وإنما عدلت إلى القياس ولم أستدل بالآية؛ لأنها تقتضي [أن] الإخفاء خير، وذلك إنما يكون [أفضل] في الأموال الباطنة، أما في الأموال الظاهرة فقد قال الأصحاب – كما قال
الماوردي -: إن إظهارها أفضل، والأفضل إذا كان المخرج هو الإمام الإظهار في الظاهرة والباطنة، وهذا ما مال إليه كلام الشافعي في الجديد.
ومقابله – قاله في القديم-: أنه يجب الدفع إلى الإمام أو نائبه فيها؛ لقوله تعالى: {خُذْ مِنْ أَمْوَالِهِمْ صَدَقَةً تُطَهِّرُهُمْ} [التوبة: 13]، فإن ظاهره الوجوب، وإذا دلت على [أن] الإمام يجب عليه الأخذ دلت على أن على أرباب الأموال الدفع، وقال – عليه السلام – لمعاذ:"أعلمهم أنَّ عليهم صدقةً تؤخذ من أغنيائهم فتردُّ على فقرائهم"، وقد ثبت أن النبي صلى الله عليه وسلم وأبا بكر عمر كانوا يبعثون السُّعاة ليأخذوا أموال الزكاة، ولأنه مالٌ للإمام ولاية المطالبة به؛ فوجب صرفه إليه كالخراج والجزية.
وقد وجه الإمام هذا القول بالمعنى الذي ذكرناه آخراً في توجيه الوجه بأن الدفع إلى الإمام أفضل، وفرق بنيه وبين المال الباطن – وإن كانت العلة تقتضي التسوية – بأن للناس أغراضاً في إخفاء الأموال لا تنكر فلا يفوت عليهم هذا الغرض، وما يظهر من الأموال لا يمكن إخفاؤه.
وأجاب القائلون الأول عن الآية بأن معناها: خذ إذا دفعوا، أو هو على الاستحباب.
وعن خبر معاذ: بأن ذلك كان في ابتداء الإسلام؛ حيث لم يكونوا يعرفون مصارف الصدقات، ولما عرفوا وجوه مصارفها جاز لهم أن يتوَّلوها بأنفسهم، أو يحمل على الاستحباب.
وبعث النبي صلى الله ليه وسلم ومن بعده السعاة ليعرفوا أرباب الأموال ما يجب عليهم، ويقبلوه منهم إذا دفعوه إليهم؛ إذ هو الأفضل كما ستعرفه.
وأما قولهم: إن للإمام ولاية المطالبة به، فلا نسلمه؛ لأن بعض أصحابنا قال: ليس له المطالبة بالزكوات، قال القاضي أبو الطيب: أنا أقول: إن له المطالبة بها وهو المذهب الصحيح، لكن الفرق بين الزكاة، والخراج والجزية: أن لاجتهاد الإمام مدخلاً فيهما؛ فلذلك تعين لقبضهما، ولا كذلك الزكاة؛ فإنه لا مدخل له في مصارفها، وعلى هذا فإذا طلبها الإمام وجب الدفع إليه؛ لأنه إنما يطالب بما يؤدي
إليه اجتهاده، وليس لأحد اجتهاد مع اجتهاد الإمام، قاله القاضي أبو الطيب.
وقال الإمام: إن من لطيف [الكلام في] المذهب: أن الشافعي – رحمه الله منع [من] نقل الصدقة في قول إليه ميله في الجديد، وأجاز نقلها في قول [فكان منع النقل مفضياً إلى قريب من قصد التعميم؛ فإن أهل كل بلدة إذا فرق الأغنياء] منهم صدقاتهم على المحاويج، قرب الغرض في الانبساط [على أهل الحاجات]،ويكون ذلك خلفاً عما [يفوت] من النظر العام الصادر عن الإمام، غير أن أحداً من الأصحاب لم يربط أحد الحكمين بالثاني، ولم يقل: إذا لمي جب الدفع إلى الإمام منعنا النقل، بل أجروا القولين، وإن حكمنا بأنه لا يجب دفع الصدقات إلى الأئمة.
وقال في باب زكاة الغنم: إنما إذا قلنا بمنع نقل الصدقة، ورأينا رد اليمين على أهل السُّهمان عند نكول رب المال عن الحلف وقد توجه عليه فقد نزلناهم منزلة مستحقين متعيّنين، وقياس هذا: أن يقطع طلبة السلطان عنه، ويكون الأمر موقوفاً على دعواهم ورفعهم ربَّ المال إلى السلطان:[فإن سكتوا وهم] أهل رشد لا يولي عليهم، فلا يبقى للسلطان في هذا تصرف وسلطنة على سبيل الابتداء؛ فإن سلطانه يثبت حين يكون رأيه متعيناً في الصرف إلى من رأى. [ثم] قال: وينقدح فيه شيء، وهو أن المستحقين وإن كانوا محصورين فلرب المال ألا يسوي بين الفقراء وهم مثلاً ثلاثة، بل يفضل بعضهم على بعض؛ فيجوز أن يقال على قولنا بوجوب تسليم الزكاة إلى السلطان: يتعلق برأي الوالي أن يزيد وينقص وإن كان لا يحرم، وقد سمعت شيخي يقول: إذا منعنا النقل، وانحصر الفقراء، وزادوا [على]
ثلاثة – فيجوز صرف الحصة إليهم، ويجب التسوية بينهم، وإنما يجوز الاقتصار على الثلاثة، [وتجوز المفاضلة عند خروجهم عن الضبط الممكن؛ فإن سبب الاقتصار على الثلاثة،] أنهم أقل الجمع، ولا عدد أولى من عدد بعد ذلك، وسبب المفاضلة: أن كل من أعطي أقل، فلو حرم لأمكن حرمانه بإقامة [غيره مقامه]، فأما إذا انحصروا وامتنع النقل وتيسر الاستغراق، فالوجه وجوب الصرف إليهم [مع] رعاية التسوية. قال: والذي قاله حسن منقاس.
ولا فرق في جريان القولين عند الجمهور بين أن يكون الإمام عادلاً أو جائراً كما قالوا في الأموال الباطنة، ونقل عن اختيار القفال، وحكى الفوراني والقاضي الحسين في كتاب الزكاة وجهاً أنه لايجوز الدفع إلى الإمام الجائر، ويكون حكمه حكم المال الباطن، وقد تقدم مثله في الأموال [الباطنة].
وقال الماوردي في كتاب الزكاة: إن كان الإمام عادلاً في الزكاة [وغيرها]، أو فيها فقط [جائراً في غيرها – جاء القولان، وإن كان جائراً في الزكاة وغيرها أو فيها فقط]، فلا يجوز دفعها إليه [قولاً واحداً، وله أن يفرقها بنفسه؛ للضرورة، فلو دفعها إليه] أو أخذها منه جبراً لم يجزئه، قال في قسم الصدقات: إلا أن يعلم وصولها لأهل السُّهمان.
التفريع:
إن قلنا بالجديد ففي الأفضل الأوجه، قاله البندنيجي وغيره.
وكلام القاضي الحسين قبل باب صدقة البقر يقتضي الجزم بأن الدفع إلى الإمام العادل أفضل.
وقال في "الوسيط": إنه لا شك فيه، وقد صرح به القاضي أبو الطيب في قسم الصدقات، وقال القاضي الحسين فيه: إن كان عادلاً ففي الأفضل وجهان، وإن كان
جائراً ففي جواز الدفع على هذا القول – وإن قلنا: إنه لا ينعزل - وجهان.
وأشعر كلام الإمام قبيل باب صدقة البقر بأن الخلاف [فيما] إذا لم يوصلها إلى المستحقين، بل أهلكها وادعى أن الظاهر أنه يجب على المالك في هذه الحالة تثنية الزكاة، وإن قلنا: لا ينعزل الإمام بالفسق لتقصيره.
وقال الماوردي: إن كان [الإمام] عادلاً في الزكاة وغيرها فالأفضل الدفع إليه وجهاً واحداً، وإن كان جائراً في غير الزكاة عادلاً فيها ففي الأفضل وجهان ينبنيان على [اختلاف الوجهين] في تأويل قوله – عليه السلام:"ومن سئل فوقها فلا يعطه"،وقد تقدم ذكره في صدقة المواشي.
وإن قلنا بالثاني: فإن كان الإمام أو نائبه في القبض [حاضراً يتيسَّر] الدفع إليه فعل، وألا فعليه [أن يؤخر] ما دام يرجو مجيء الساعي، فإن دفع قبل ذلك لم يجزئه، وإن أيس من مجيئه وجب عليه أن يفرقها [بنفسه]، نص عليه.
قال في "البحر": وهو المذهب؛ لأنه حق أهل السُّهمان والإمام نائبهم، فإذا ترك النائب قبض الحق لا يجوز له ترك أدائه، ومن أصحابنا من قال: يتوقف حتى يطالبه الإمام؛ لأنه مال حق القبض فيه إلى الإمام، فإذا لم يطالب به لم يفرقه هو كالخراج.
وعلى القولين ينبغي للإمام أن يبعث السُّعاة لأجل الصدقات؛ اقتداء بالنبي صلى الله عليه وسلم ومن بعده؛ لأن كثيراً من الناس لا يعرفون الواجب، [والواجب فيه]، ومن يصرف إليه. وهل ذلك على وجه الوجوب أو الاستحباب؟ اختلف النقل عن الأئمة:
فالذي قاله أبو الطيب: أنه على وجه الاستحباب، وعليه يدل قوله في "المختصر": وأحب أن يبعث الوالي المصدق فيوافي أهل الصدقة مع حلول الحول، فيأخذ صدقاتهم.
والذي قاله القاضي الحسين، [والشيخ في "المهذب"]: أنه على وجه
الوجوب؛ فلا يجوز له تأخير ذلك، وتكلم في النص السابق فقال: قال أصحابنا: إنما قال الشافعي – رحمه الله: "واجب على الوالي أن يبعث المصدق"؛ [إذ جمع] الصدقة وتفريقها على مستحقيها فقط واجب على الأئمة، [ويمكن حمل] قوله:"وأحب"، على البعث في الوقت لا إلى [أصل] البعث.
وأشار الإمام إلى أن ذلك تفريعٌ على القول بوجوب الدفع إلى الإمام حيث قال: إذا كان السلطان يرى جباية الصدقات، فينبغي أن يبعث السُّعاة، وينبغي أن يعين [الإمام أو الساعي][وقتاً لأخذ الصدقة، وهل هو على الوجوب أو على الاستحباب؟ فيه خلاف، والأشهر] وهو الذي صرح به الغزالي في كتاب الزكاة. أنه مستحب، واستحب الشافعي – رحمه الله – أن يكون ذلك بشهر المحرّم، صيفاً كان أو شتاء؛ فإنه أول السنة الشرعية، فليستفتح بالصدقة. وليخرج قبل أول المحرم ليوافيهم أول المحرم، وإذا جاءهم: فمن تمَّ حوله أخذ منه، ومن لم يتم حوله سأله التعجيل، فإن أبي لم يجبره، ووكل من يقبضها منه، أو يتركها في ذمته إلى أن يعود العام القابل. ويبعث الساعي لأخذ زكاة الزرع والثمرة وقت إدراكه، وذلك لا يختلف في الناحية الواحدة كثير اختلاف.
وما ذكره الشيخ من تفسير الأموال الظاهرة والباطنة هو الذي أورده الجمهور ومنهم الرافعي، وحكى الإمام في قسم الصدقات وجهاً في الركاز أنه كالمعدن، وحكى تردداً في أن زكاة الفطر كالأموال الباطنة أو الظاهرة، وقد حكاه في "البيان".
ونقل الماوردي الثاني عن الأصحاب، واختار الأول.
قال في "الروضة": وهو ظاهر نص الشافعي – رحمه الله – والمذهب، ولم يحك القاضي الحسين وأبو الطب والمتولي وكذا الماوردي في آخر قسم الصدقات غيره.
قال: ويكره أن ينقل الزكاة عن بلد المال، أي: كراهية تحريم؛ لقوله – عليه السلام – لمعاذ حين بعثه إلى اليمن: "فإن هم أجابوك فأعلمهم أنَّ عليهم صدقةً تؤخذ من
أغنيائهم فترد على فقرائهم"، فقابل الفقراء بالأغنياء؛ فثبت أن صدقة اليمن يختص صرفه بأهل اليمن، ولا يجوز نقلها إلى غيرهم.
وقد روى أبو داود أن زياداً أو بعض الأمراء بعث عمران بن الحصين على الصدقة فلما رجع قال لعمران: أين المال؟ قال: وللمال أرسلتني؟! أخذتها من حيث كنّا نأخذها على عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم ووضعتها حيث كنا نضعها على عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم. وأخرجه ابن ماجه.
قال: فإن نقلها ففيه قولان:
أحدهما: [أنه] يجزئه؛ لقوله تعالى: {خُذْ مِنْ أَمْوَالِهِمْ صَدَقَةً تُطَهِّرُهُمْ} الآية [التوبة: 60] ولم يفصّل، ولأنها صدقة وضعت في أهلها؛ فوجب أن تجزئ كما لو وضعت في أهلها من أهل البلد.
والثاني: لا يجزئه؛ لأنه حق وجب لأصناف بلد فلم يجز نقله إلى غيرهم، وإذا نقل لا يجزئ كالوصية لأصناف بلد، وقد روي عن معاذ أنه قال:"أيما رجل انتقل عن [مخلاف عشيرته] [إلى غير مخلاف عشيرته، فعشره وصدقته في مخلاف عشيرته] "، فجعل النُّقلة عن المكان بعد وجوب الزكاة [فيه] تمنع من نقلها عنه، وذلك صادر عنه بالأمر الذي تقدم به رسول الله صلى الله عليه وسلم؛ فصار كالمنقول عنه نصّاً، والعمل بالنص مقدم على العمل بالظاهر، وهذا القول أصح في "تعليق"[القاضي] الحسين والماوردي وعند النووي وغيره. وهذه الطريقة ذكرها الشيخ
أبو حامد وقال: هي المذهب، وقال القاضي الحسين: إن عليها عامة الأصحاب. ولم يورد في "الحاوي"[غيرها].
ومنهم من قال: القولان في جواز النقل، فإن قلنا: لا يجوز؛ فنقل – أجزأه قولاً واحداً، حكاه أبو حامد أيضاً والقاضي الحسين.
ومنهم من قال: في جواز نقل الصدقة وإجزائها قولان
أحدهما: [لا] يجوز، ولا يجزئ إذا نقلها. والثاني: يجوز، ويجزئ لهم.
قال ابن الصباغ: وهذه لم يذكرها الشيخ أبو حامد، وقد تحصلنا على ثلاث طرق ذكرها العراقيون.
وحكى في "البحر" عن بعض المراوزة أنه قال: يجوز نقل الصدقة قولاً واحداً، وقول الشافعي – رحمه الله – في قسم الصدقات:"ولا تخرج عن بلده وفيها أهله" إنما قاله استحباباً، وهذه طريقة رابعة.
وحكى الإمام طريقة أخرى مخالفة لجميع ما ذكرناه وإن وافقته من بعض الوجوه، فقال: هل يجوز النقل أم لا؟ [فيه قولان، فإن قلنا: لا يجوز، فنقل: فهل يجزئ؟]؟ فيه قولان نقلهما صاحب "التقريب"، والعراقيون:
أحدهما: أن الصدقة لا تقع موقعها، وهوا لذي قطع به [شيخي] ومعظم الأئمة، وهو القياس اللائق بهذا القول.
والثاني: الوقوع؛ لمصادفتها [الأصناف الموصوفة في كتاب الله تعالى.
ثم قال صاحب "التقريب": الصائر إلى هذا يعصي الناقل، ويبرئ ذمته] عن الصدقة. وهذه طريقة خامسة.
وقد أبدى الإمام من عند نفسه احتمالاً، فقال عقيب ذكره القول بالإجزاء مع الإثم: ولا يمتنع عندنا إن صح هذا القول أن يجرع الأمر إلى كراهية النقل؛ فإن التعصية تناقض الحكم بالتبرئة.
قلت: وهو يقرب من الطريقة التي حكاها في "البحر" عن بعض المراوزة، بل هي إن أطلقنا "المكروه" على "ترك الأَوْلَى"، والله أعلم.
وإذا نظرت إلى جميع الطرق واختصرت، قلت: في المسألة ثلاثة أقوال كما ذكرها في "الوجيز"، ثالثها: لا يجوز النقل، ولكن تبرأ ذمته، ثم ما محل الطرق؟ اختلفت فيه عبارات النَّقلة:
فعن صاحب الشافعي أنه قال: فيه الخلاف فيما إذا كان أهل السُّهمان غير محصورين، فأما إن كانوا محصورين من أول السنة إلى آخرها ملكوها ووجب صرفها إليهم، ولو مات واحد منهم انتقل حقه إلى وارثه وإن لم يكن الوارث مستحقاً للزكاة، ولو دخل البلد من أهل السهمان أحد قبل القسمة لم يستحق شيئاً. وإلى ما قاله يرشد كلام ابن الصباغ، [والقاضي أبي الطيب والماوردي] والقاضي الحسين؛ [حيث] قالوا في آخر [باب] قسم الصدقات: نص الشافعي – رحمه الله – في كتاب الزكاة على أنه: إذا مات واحد من المساكين بعد وجوب الزكاة صرف نصيبه إلى ورثته؛ لأنه ثبت له ذلك الحق بعينه فانتقل بموته إلى ورثته. وكذلك نص عليه في قسم الفيء كما حكاه القاضي الحسين، وقال في "البحر": إن نصه في "الأم" إذا دفع الزكاة إلى قوم [ثم] بان أنهم غير مستحقين نزعها منهم، وفرقها على مستحقيها، وإن كانوا قد ماتوا أعطي ورثتهم، وإن كانوا أحياء أعطاهم فقراء كانوا أو أغنياء؛ [لأنهم] استحقوها حين الوجوب. وقال: إنه قال في آخر قسم الصدقات من "المختصر": "وإنما يستحق أهل السهمان سوى العاملين حقهم يوم يكون القسم".
ثم قالوا: وليست المسألة على قولين؛ بل على اختلاف حالين:
فالموضع الذي قال: الاستحقاق حين الوجوب، إذا كان المستحق معيناً، مثل أن يكون رب المال في قرية فتجب الزكاة عليه، وأهل السهمان بها من كل صنف ثلاثة، [وقال الماوردي وأبو الطيب]: فما دون، فإذا وجبت كانت لهم، وقد ملكوها عليه في ذمته كالدين، فإن مات واحد منهم كان نصيبه لوارثه، وإن غاب لم يسقط حقه، وإن دخل غريب فلا حق له فيها.
والموضع الذي قال: يستحق أهل السهمان حقهم يوم يكون القسم، أراد: إذا لم تكن الأصناف معينة، وهو أن يكون في البلد من كل صنف أكثر من ثلاثة، قال أبو الطيب:[والزكاة] لا تتسع للكل؛ فلرب المال أن يخص بها [ثلاثة] من كل صنف، فهاهنا حين وجوب الزكاة ما استحقوها، وإنما يستحقونها بالقسمة، وإن مات واحد من أهل السهمان لم يكن لورثته شيء، وإن غاب فلا حق له، وإن دخل غريب قبل القسمة كان كأحدهم.
وكلام الإمام يقتضي إجراء الخلاف في النقل سواء كانوا محصورين أو غير محصورين؛ [حيث] قال في كتاب الزكاة عند الكلام في نكول رب المال عن اليمين عند اتهام الساعي له: ومن تمام البيان في ذلك: أنا إذا منعنا نقل الزكاة، وكان مستحقوها محصورين في البقعة – فقد قال كثير من أئمتنا: ترد اليمين على المستحقين، ووجهه بين على قول منع النقل ووجوب صرف الزكاة إليهم. ولا يجوز حرمانهم؛ فتعينوا للاستحقاق، وتنزَّلوا منزلة من يستحق دينا. وكذا قوله بعده: وقد سمعت شيخي يقول: إذا منعنا النقل، وانحصر الفقراء، وزادوا على ثلاثة [فيجب صرف الحصة] إليهم، تجب التسوية.
وكلام الرافعي في آخر قسم الفيء يدل على ذلك؛ فإنه قال: إذا مات الفقير بعد تمام الحول ووجوب الزكاة لا شيء لورثته؛ لأن ذلك الفقير [غير] معين للزكاة، حتى لو لم يكن في القرية إلا ثلاثة من الفقراء، ومنعنا نقل الصدقة – فعن نصه في "الأم": أن الحق ينتقل إلى الورثة.
ويوافق ذلك قول القاضي الحسين في الموضع الذي حكينا فيه كلام الإمام الشافعي – رحمه الله – قال: لو وبت عليه الزكاة، وهناك ساكنون [محصورون]، فلم يدفع الزكاة إليهم حتى ماتوا – قال: يعطي الزكاة إلى ورثتهم، وكذا لو صاروا أغنياء يعطي إليهم، هذا إذا قلنا: إن نقل الصدقة من بلد إلى
بلد لا يجوز.
وقول الفوراني في قسم الصدقات: ولو كانوا مساكين قرية محصورين، ووجبت زكاة مال، فمات واحد من المساكين قبل وصول الصدقة إليه – [فإن قلنا: لا تنتقل الصدقة، دفع نصيبه إلى وارثه وإن كان لا تحل له الصدقة، وإن قلنا بجواز نقل الصدقة] لم يدفع إلى وارثه نصيبه.
قلت: وفي هذا تصريح وتلويح بأن من أجرى الخلاف في النقل [مطلقاً قائلٌ بأن ما ذكره الأصحاب من حمل النصين على حالين، مفرَّعٌ على القول بمنع النقل] كما هوا لصحيح؛ فلا اختلاف، وقد فرع الإمام على قولنا بمنع النقل، وقد انحصر المستحقون، وقلنا: يقضي على جميع الحاضرين أن الزكاة ماشية، فاعتاضوا عنها دراهم، فقال: الذي يقتضيه القياس على هذه الأصول جواز ذلك، ولكن يظهر على قاعدة المذهب رعاية التعبّد؛ ولأجله منعنا أصل الإبدال، وإن سلمنا أن سد الحاجة غرض ظاهر في الزكاة، [ولو أبرأ هؤلاء من عليه الزكاة] فاستحقاقهم واختصاصهم يقتضي تنفيذ إبرائه، ولكن أصل التعبد ينافي ذلك؛ فإن الزكاة عبادة واجبة لله – تعالى – فيبعد سقوطها من غير أداء، قال: ولا نقل عن الأئمة في أعيان هذه المسائل. وأبداه احتمالاً في جواز الصرف إلى من دخل البلد بعد الوجوب، مع ملاحظة ما تقدم ووجهه بأن أصل الزكاة منوط بالأوصاف لا بالأعيان، فإن فرض تعيين فالحكم بموجبه؛ لأجل الضرورة لا لأصل ممهد في الشرع.
قلت: ومادته في هذا الاحتمال مأخوذة [مما حكاه] عن الفوراني: في أنهم لا يحلفون عند نكول رب المال، وإن انحصروا تعين الصرف لهم، كما تقدم، والله أعلم.
[واعلم] أن ما ذكرناه في نقل [كل] الصدقة إلى أهل السُّهمان الذين [لم
يكونوا] ببلد المال، فلو كان النقل في البعض مثل أن يكون له أربعون من الغنم عشرون ببلدة، وعشرون ببلدة أخرى، ووجبت الزكاة – فقد قال الماوردي: إن عليه إخراج نصف شاة في كل بلد، فإن قدر على إخراج [شاة] باقيها للفقراء والمساكين من أهل الصدقات، أجزأه، فإن لم يقدر على ذلك، فأخرج نصف شاة باقيها له أو لرجل آخر من غير أهل الصدقات، أو فعل ذلك مع القدرة على ما سواه – فالصحيح أنه يجزئه، ولا اعتبار بوصف ما لم يجب عليه إخراجه، ومن أصحابنا من قال: لا يجزئه حتى يكون باقي الشاة ملكاً لأهل الصدقات فيكمل لهم نفعها؛ لأن في تبعيض [الشاة] إيقاع ضرر بهم وإدخال نقص في حقهم، قال: وهذا تعسف يؤدي إلى تكليف ما يتعذر، واعتبار وصف ما لا يلزم. فإن عدل عن جميع ذلك، وأخرج شاة كاملة في أحد البلدين عن جميع المالين – فقد قال الشافعي: كرهت ذلك، وأجزأه. وتردد الأصحاب فيه:
فذهب أبو حفص بن الوكيل، وكثير من الأصحاب – كما قال الماوردي – إلى أن هذا منه تفريعٌ على جواز نقل الصدقة: فإن منعنا النقل لزمه إخراج نصف شاة في كل من البلدين؛ فإن تبعيض الشاة إنما يمنع منه عند عدم الضرورة والحاجة [إليه]، وهنا بنا ضرورة إليه؛ فإن موجب القول بمنع النقل: أن أهل كل ناحية بها المال استحقوا زكاته وتعينوا لاستحقاقها؛ فلا يجوز إبطال استحقاقهم بسبب التبعيض.
قال الإمام: ولم يختلف أصحابنا في [أن] إخراج نصفي شاتين من غير ضرورة ولا حاجة لا يجزئ، وإن اختلفوا في إعتاق نصفي عبدين عن الكفارة.
وعلى هذا: لو عسر وجدان نصف شاة، فقد قال صاحب "التقريب": يخرج نصف قيمة شاة حيث عسرن ونحن قد نجوز إخراج القيمة عند التعذر والعسر. قال الإمام: وقد يخطر لذي نظر: أن الشاة التي تساوي عشرين قد لا يشتري نصفها بعشرة، وإنما
يشتري بتمامه، ولكنا عند الرجوع إلى القيمة بمكان قيام ضرورة نعتبر قيمة [النصف] بقيمة التمام، ولا ننظر إلى ما أشرنا إليه.
ثم إذا قدر بعد ذلك على نصف شاة فهل يخرجه ويسترد؟ يظهر أن يجيء فيها [ما ذكرته] في أوائل الباب.
وذهب عامة أصحابنا- كما قال القاضي أبو الطيب – إلى إجراء النص على ظاهره والإجزاء، وإن قلنا بمنع النقل وعدم الإجزاء في غير هذه الصورة؛ فإنَّ ذكره البلدين وانقسام المال عليهما دالٌّ على أنه مفرع على منع النقل، وألا فلا فائدة على قولنا: يجوز النقل؛ لتخصيص هذه الصورة بالذكر، وهذه الطريقة صححها الإمام والقاضي الحسين، وذا قلنا بها فما العلة في التجويز؟ فيه وجهان:
أحدهما: التبعيض الذي هو مجتنبٌ في المواشي؛ ولذلك كانت الأوقاص فيها عفواً، [وهذه] لم يورد القاضي أبو الطيب غيرها، وكذا ابن الصباغ – رحمه الله – وقال: إن القائل بالأول قال: لو أجازه الشافعي – رحمه لله – لموضع الحاجة لم نكرهه.
والثاني: كون المالك واحداً والمال منقسم، فله بكل بلدة علقة في الجنس الواحد الزكاتي، مع أنهما كالبلدة الواحدة في ضم أحد المالين إلى الآخر.
وعلى الوجهين يتخرج – كما قال المراوزة -: [ما] إذا كان له أربعمائة من الغنم [في كل بلد مائتان، فعلى الأول لا يجوز أن يخرج الكل] في بلدة واحدة، بل الواجب أن يخرج في كل بلدة شاتين، وعلى الثاني يجوز أن يخرج الأربعة في أي البلدين شاء.
قال الإمام: وتجويز النقل لأجل العلة الثانية لا أصل له عندي، وإنما يظهر التعليل في
الصورة المتقدمة لضرورة التبعيض لا غير، فإن لم يكن [بد] من تخريج المسألة الأخيرة على الخلاف فلعل الأقرب في التعليل: أن الزكاة وإن لم تتبعض في الصورة التي ذكرناها، فالغنم نامية وهي سريعة المصير إلى مبالغ يقتضي الحساب تشقيص واجبها على التفريق، وذلك يعسر ضبطه؛ فيجوز النقل لحسم هذا الإمكان.
قال: ولو كان له عروض تجارة ببلدة ومال تجارة [في] أخرى، ورأس المال دراهم – فيجب القطع بأنه يخرج زكاة كل مال حيث هون ولا يجوز النقل على منع النقل؛ فإن التبعيض لا وقع له في الدراهم بوجه؛ ولذلك لم يثبت عند الشافعي – رحمه الله – [للدراهم] وقص بعد الوجوب، وهو ظاهر لا ريب فيه، و [به] يظهر بطلان التعليل بأن له بكل بلدة علقة في الجنس الواحد الزكاتي.
ولو كان النقل إلى طائفة من أصناف الزكاة الذين فارقوا بلد المال، قال الإمام قبل باب كيف تفريق قسم الصدقات بورقة: وينبني ويتجه أن الذي ذهب إليه الأصحاب جواز ذلك: تعويلاً على الآخذين. وهذا إذا انتقل جملة المستحقين، فأما إذا كان في المقيمين في وطن المال مقنع، والمنتقل طائفة منهم – قال: فالقياس جواز النقل إلى الذين خرجوا، وحبس بعض أصحابنا في هذه الصورة على الخصوص؛ فلم يجوز النقل، وهو فاسد لا أصل له.
نعم، اضطرب الأصحاب فيما لو خرج طائفة مسافرين، وغابوا في جميع السنة، ولم يشهدوا بلد المال –فهل يجوز إخراج حصصهم إليهم؟ منهم من جوز ذلك؛ لأنهم وإن غابوا فنهم من أهل البقعة، ومنهم من منع وشرط أن يحضروا وطن المال في سنة الزكاة. ولو شهدوا في بعض السنة وغابوا قبل انقضائها فهذا مرتب على الصورة قبلها، وأولى بجواز الإخراج إليهم.
ولم يختلف علماؤنا أنهم لو غابوا معظم السنة، وشهدوا منقرض الحول ووقت وجوب الصدقة - جاز الصرف إليهم، ولا حكم للغيبة السابقة وإن منعنا النقل. ولو خرجوا على قصد الانتقال قبل وجوب الصدقة وانقضاء السنة، لم يجز النقل إليهم إذا فرّعنا على منع النقل.
وقال ابن الصباغ في باب كيف تفريق قسم الصدقات: إذا كان في البلد صدقات، وفي سواه من هو من أهلها على مسافة لا تقصر فيها الصلاة- كان كالحاضر في البلد. وهذا قول أبي الطيب في "تعليقه". نعم، إذا كان في بلد بينها وبين الأول مسافة لا تقصر فيها الصلاة، فلا تنقل الصدقة من أحداهما [إلى الأخرى؛ فإن أحداهما] لا تضاف إلى الأخرى فلا تنسب إليها، وهذا في "تعليق" أبي الطيب منسوب إلى أبي إسحاق المروزي، والله أعلم.
[قال الشيخ – رحمه الله]-: فإن نقل، أي: على قولنا بمنع النقل، إلى ما لا تقصر فيه الصلاة – فقد قيل: يجوز؛ لأنه في حكم الحضر بالنسبة إلى القصر ونحوه؛ ولهذا قال الشافعي – رحمه الله: حاضرو المسجد الحرام: من كان داره أقرب إلى مكة من مسافة القصر، وإذا كان كذلك صار كما فرق وهو في محلة من البلد على [أهل] محلة أخرى. والثاني: لا يجوز؛ لأنه نقل إلى بلد آخر فأشبه ما لو نقل إلى مسافة القصر، [ولأن المعنى الذي لأجله منع من النقل إلى مسافة القصر] – وهو تضرر أهل السُّهمان من أهل البلد وانكسارهم – موجودٌ فيما إذا كان النقل إلى دونها؛ فكان كهي، ويخالف الرخص؛ فإنها تتعلق بالسفر للمشقة، وهذا ما صححه العراقيون، وقال الإمام تبعاً للقاضي: إنه المذهب، والأول بعيد لا اتجاه له، وهو يؤدي إلى دفع القول بمنع النقل الذي عليه نفرِّع؛ لأنا إذا جوزنا النقل إلى قرية على فراسخ فتلك القرية محل تفريق الصدقة، إذن فيجب تجويز النقل منها أيضاً إلى قرية على [مثل] تلك المسافة؛ فإن القرية الأولى التحقت بالبلدة وكونها
محل تفرقة الصدقة، وهكذا. وما قاله فيه نظر ظاهر.
ثم على الثاني: يكون الواجب الصرف لأهل السهمان الذين أحاط بهم بنيان بلد المال، لا من خرج عنه، كذا قاله الماوردي.
ثم إن كان البلد واسعاً كالبصرة وبغداد، كان جيران المال من أهل البلد أخص به من غيرهم، وهل يكون ذلك [من طريق الأولى أو] من طريق الاستحقاق؟
قال في "الحاوي": فيه وجهان، ووجه الثاني قوله تعالى:{وَالْجَارِ ذِي الْقُرْبَى وَالْجَارِ الْجُنُبِ} [النساء: 36] والجار ذو القربى: الجار القريب، والجار الجنب: البعيد في نسبه، فاعتبر في القريب والبعيد الجوار. وقال في باب كيف تفريق الصدقات: إن الأول هو الظاهر من قول البغداديين، وهو الأصح، وإن الثاني قول البصريين، وإذا قلنا به كان جيرانه:[من] أضيف إلى مكانه من البلد، وقيل: إنهم إلى أربعين داراً من داره. وهو المذكور في غيره، فلو صرف إلى من بعد أثم، وإن كان في البلد ناقلاً للزكاة. ولو كان البلد صغيراً فجميع أهله جيرانه.
وهذا إذا كان رب المال هو المفرّق، فإن كان الإمام أو نائبه فكل أهل البلد الكبير والصغير في ذلك سواء؛ لما في اعتبار ذلك في حق الإمام من المشقة مع كثرة الأموال في يده.
وهذا حكم أهل البلاد والقرى، وأما أهل الخيام: فإن كانوا في موضع من البادية مستقرين، وكانوا لا يبرحون منه إلا براح الحضري من الحضر ثم يعود إلى مقره فإن منعنا النقل فلهؤلاء الصرف إلى من هو منهم إلى مسافة تقصر عن مسافة القصر؛ فإنه ليس في البادية من اسم بلدة وخطة قرية؛ فكان أقرب معتبر ما ذكرناه.
قال الإمام: وذكر العراقيون هذا، وذكروا وجهاً آخر: وهو أن الحلّة إذا حلت قطراً لم يجز أن ينقلوا الصدقة من تضاعيفهم فيتميز [مخيمهم] عن مخيم الحلة الأخرى كتميز القرية يخطئها عن الخطة الأخرى. قال: وهذا لا بأس به، والأشهر الأول.
وإن كانوا لا يقطنون بموضع بل ينتجعون الماء والكلأ، فإن كانوا متفرقين كان
موضع الصدقة من عند المال إلى قبل المكان الذي تقصر إليه الصلاة، ولا يجوز الصرف لمن في مسافة القصر، وإن كانوا في حلل مجتمعة. فمنهم من قال: الحكم كما [لو] كانوا متفرقين، والثاني: أن كل حلة كبلدة. وهذا إذا كان أهل السهمان ينتجعون معهم.
وللإمام احتمال في المسألة وقال: [إن][في] كلام العراقيين إشارة إليه من قبل أن منع النقل في حكم التعبد الذي لا يستقيم فيه معنى على السير، وإنما وردت الأخبار والآثار في المقيمين، وهؤلاء مسافرون.
[قال: وإن حال الحول والمال ببادية، أي: وليس فيها فقراء، والتفريع على منع النقل أيضاً – فرَّقها على فقراء أقرب البلاد إليه؛ لأنه غاية الممكن. والتعبير هاهنا بالفقراء عن أهل السّهمان بلا خلاف؛ إذ لا يمكن حمله على حقيقته، وإن أمكن حمله فيما تقدم عليها، أما إذا كان بها فقراء – ولو مجتازين مع المال – تعين الصرف لهم].
قال: وإن وجبت عليه زكاة الفطر، أي: عن نفسه في بلد، وماله في غيره – ففيه قولان:
أحدهما: أنها تجب لفقراء بلد المال كزكاة المال.
والثاني: تجب لفقراء موضعه، وهو الأصح؛ لأن زكاة الفطر تتعلق بعينه فأشبه المال في زكاة المال. أما إذا وجبت عليه زكاة الفطر عن غيره، قال في "الروضة":[فالظاهر أن الاعتبار] ببلد المؤدي عنه. وقال [في]"البيان": الذي يقتضيه المذهب: أن ينبني ذلك على الوجهين في أنها تجب على المؤدّى ابتداءً أم على المؤدي عنه؛ فتصرف ببلد من تجب عليه ابتداء، والله أعلم.
تنبيهات:
أحدها: حيث يجوز النقل أو يجب فالمؤنة على رب المال، قال الرافعي: ويمكن
أن يخرج فيه الخلاف المذكور في أجرة الكيال. وللإمام في ذلك كلام سنذكره في آخر الباب، إن شاء الله تعالى.
الثاني: هل الخلاف في جواز النقل ومنعه مخصوص بما إذا كان رب المال هو المفرق، أو يجري وإن كان المفرق الإمام؟ حكى الإمام فيه احتمالين لنفسه، وقال الرافعي: ربما اقتضى كلام الأصحاب الطرد، وهو الذي فهمته من كلام الماوردي السابق وكلام غيره. قال: وربما دلَّ على أنه يجوز له النقل والتفرقة كيف شاء، وهذا أشبه.
الثالث: الخلاف في جواز نقل الزكاة هل يجري في نقل الوصية إذا أطلقت للفقراء أو للأصناف وفي الكفارات؟ فيه طريقان:
أحدهما: لا؛ لأن ذلك غير راتب فيطمع الفقراء فيه.
والثاني: نعم. وهي التي أوردها الفوراني، والنذور ملحقة بالكفارات، وربما بنيت على أن النذر يسلك به مسلك جائز الشرع أو واجبه؟ والظاهر فيما عدا الزكاة جواز النقل؛ [لما ذكرناه].
وزكاة الفطر ملحقة بها إذا قلنا: يجوز صرفها إلى ثلاثة من الفقراء، قاله الإمام، والله أعلم.
قال: ولا تصح الزكاة، أي: عن المكلف، حتى ينوي – للخبر المشهور – أنها زكاة ماله، أو زكاة واجبة؛ لأنها عبادة ودعامة من دعائم الإسلام تتنوع [فرضاً ونفلاً]؛ فكان التعيين فيها شرطاً كالصلاة والصوم.
قال: وقيل: إن دفع إلى الإمام- أي المال، [وقال فرِّقه على الفقراء، كما قال أبو الطيب] – أجزأه من غير نية، [أي]: تصدر منه [أو من] الإمام، كما قال الماوردي القاضي الحسين، لأن الإمام لا يأخذ إلا الواجب فاكتفى بهذه القرينة عنها، وهذا ما صححه الماوردي وابن الصباغ، وقال البندنيجي: إنه المذهب، ولم يذكر كثير من العراقيين – كما قال الرافعي – سواه، وهو المنصوص؛ لأنه قال في
"المختصر": ولو أخذ الوالي من رجل زكاته بلا نية أجزأت عنه.
قال الشيخ- رحمه الله: وليس بشيء؛ لأن الإمام نائب عن الفقراء؛ فكما لا يصح الدفع إليهم بغير نية رب المال فكذلك لنائبهم، وهو كما يأخذ الواجب يأخذ التطوع؛ لأنه أعرف بمواضع الحظ في الصرف. والشيخ في ترجيح الأول، وكذا البغوي – رحمه الله – هاهنا:"يجزئه وإن لم ينو"، أراد به: إذا امتنع رب المال من أداء الزكاة، فأخذها الإمام قهراً من ماله؛ فإنه لا يحتاج فيه إلى نية، فهذا معناه.
وقال ابن الصباغ: ليس كذلك؛ لأنه قال في "الأم": إذا دفعها إلى الإمام يجزئه وإن لم ينو، طائعاً كان أو كارهاً؛ لأن أخذ الإمام كالقسم بين الشركاء فلا يحتاج [إلى نية].
[قلت: وقول القاضي: فإنه لا يحتاج فيه إلى نية]، يعني من رب المال، وإلا فقد قال قبل ذلك: إن الإمام ينوي عنه؛ للضرورة.
وقال البندنيجي: إنه لا يحتاج إلى نية، وتناول الإمام منه ذلك قهراً قائم مقام نية رب المال؛ لأنه إنما يقهره على ذلك بعد وجوبها؛ فلا يقع التناول إلا عن واجب.
والمراوزة قالوا: هل يجب على الإمام أن ينوي عنه؟ يبني على أن المأخوذ [منه] هل يجزئه أم لا؟ ولا خلاف أنه جزئه ظاهراً، بمعنى أنه لا يطالب بها ثانياً، وهل يجزئه باطناً حتى تسقط عنه في نفس الأمر؟ فيه وجهان حكاهما البندنيجي أيضاً، فإن قلنا:[لا] تسقط، لا ينوي عنه، وإن قلنا: تسقط، فهل ينوي عنه؟ فيه وجهان، ظاهر المذهب منهما: الوجوب؛ لأن الإمام فيما يليه من أمر الزكاة كولي الطفل، والممتنع مقهور كالطفل. قال الرافعي: وهذا لفظ القفال في "شرح التلخيص".
وعكس في "البحر" ذلك فقال: إذا أخذت الزكاة كرهاً لا تجزئ في الباطن، وهل تجزئ في الظاهر؟ فيه وجهان، قاله بعض الخراسانيين، وهو كذلك في "الإبانة"، لكن
فيما إذا لم ينو الإمام، وقال فيما إذا نوى الإمام ما ذكرناه أولاً عن المراوزة: وأطلق الماوردي القول بأن الإمام إذا نوى ولم ينو رب المال أنه يجزئه، ووجهه بأن الإمام لا يأخذ من [رب] المال إلا ما وجب.
وحكى الرافعي والبندنيجي الوجهين فيه أيضاً، وقال: إن المذهب الإجزاء.
تنبيه: قول الشيخ – رحمه الله: "حتى ينوي أنها زكاة ماله أو زكاة واجبة"، ظاهر في التصوير بالصورتين المذكورتين، ويجوز أن يكون مسبوقاً بذكر خلاف في المسألة صرح به القاضي الحسين، وهو أنه هل يكفي أن ينوي أنها زكاة ماله؛ [لأن الزكاة لا تكون إلا فريضة]، أو لا بدَّ من اقتران الفرض به؛ لقوله – عليه السلام:"زكاة الحلي إعارتها"، وقد يفعل الشيخ مثل ذلك في حكاية الخلاف، كما ستعرفه في قوله في كتاب اللعان:"ففي المسجد عند المنبر أو على المنبر"، وهكذا عادة غيره؟
فالذي حكاه الأكثرون – كما قال الرافعي -: أن نية الزكاة كافية، والقاضي الحسين أبداه على صورة الاحتمال.
والذي حكاه الفوراني: مقابله.
وقال الإمام: إن الوجهين هاهنا كالوجهين فيما إذا نوى صلاة الظهر ولم يتعرض للفرضية، ثم قال: وهذا فيه نظر؛ فإن الظهر قد يصح نافلةً من الصبي، وممن صلى الظهر منفرداً ثم في جماعة، فإن حمل ذكر الفرضية على هذا كان متجهاً، فأما الزكاة فلا تنقسم.
وكل [هذا] تفريع على أن النية في أداء الزكاة لابد منها، وهي طريقة حكاها الشيخ أبو علي، ووراءها طريقة أخرى حاكية لوجهين أو قولين في المسألة:
أحدهما: هذا؛ أخذاً من قوله في "المختصر": إذا ولي الرجل زكاة ماله لم يجزئه إلا بنية أنه فرض، والنية هي القصد؛ فإن قضية ذلك اعتبار قصد القلب.
والثاني: أنه يكفيه أن يقول بلسانه وإن لم ينو بقلبه؛ أخذاً من قوله في موضع آخر: فإن قال بلسانه: هذا عطاء فرض، أجزأه، وقال في "الأم": سواء نوى في نفسه أو تكلم
فإن ما أعطى فرض. فأقام الكلام مقام النية، وقال فيه:"وإنما منعني أن أجعل النية في الزكاة كنية الصلاة؛ لافتراق الصلاة والزكاة في بعض حاليهما: فتجوز لزكاة قبل وقتها، ويجوز أن يأخذها الوالي من غير طيب نفسه، وهذا لا يجوز في الصلاة". ولأجل ذلك قال القاضي الحسين: إنه ذهب إلى هذا جماعة، واختاره [الشيخ- يعني] القفال – واحتج له أيضاً بوجهين:
أحدهما: أن إخراج الزكاة في حال الردة جائز، ومعلوم أن المرتد ليس من أهل النية التي يه قربة؛ فدل على أن لفظه كاف.
والثاني: أنه تجزئ في الزكاة النيابة وإن لم يكن النائب من أهلها، فإذا جاز أن ينوب فيها شخص عن شخص جاز أن ينوب اللسان عن القلب، ولا يلزم الحج إذا قلنا: إنه إذا تلفظ بلسانه فيه ولم ينو بقلبه، إنه لا يجزئه؛ فإن النائب فيه لابد وأن يكون من أهل الحج، أما إذا قلنا بأنه يكفي في الحج أيضاً النطق باللسان فقط – كما حكاه القاضي –استوت المسألتان.
والصحيح- وإن ثبت الخلاف – الأول، وقد قيل: إنه [من] تخريج ابن القاص، واختاره صاحب "التقريب" وقال: قول الشافعي – رحمه الله: "فإن قال بلسانه: هذا عطاء فرض، أجزأه"، أراد [أنه] يقول ذلك مع النية بالقلب.
وأما الوجه الأول – وهو جواز إخراج الزكاة في حال الردة – فقد [حكينا عن] صاحب "التقريب" احتمالاً في أنه لا يخرجها ما دام مرتداً؛ لأجل النية، وإن سلمنا أنه يخرجها – كما هو الصحيح، وقطع [به] الأصحاب – فلا نسلم أن القصد غير معتبر في حق المرتد. نعم، [لا يتصور منه قصد [هو] قربة، وكما لا يتصور منه ذلك] لا يتصور منه أيضاً لفظ هو قربة، وقد قال القفال: إنه لا يسقط الفرض حتى يقول المرتد: هذا عطاء فرض، فإذا جاز اعتبار اللفظ وإن لم يكن قربة [يجوز اعتبار القصد وإن لم يكن قربة]، على أنا نقول:[إن] الزكاة وإن كانت عبادة مفتقرة
[إلى النية]، لكن للآدمي بها تعلُّقٌ؛ فأشبه الذمية تحت الزوج المسلم تغتسل من الحيض؛ فيحل للزوج وطؤها، وإن كان الغسل بدون النية لا يصح، والوجه الثاني: باطل بالوضوء؛ فإنه يجوز [فيه إنابة] الأهل وغير الأهل، ومع ذلك يقوم القول فيه مقام نية القلب، ويقوم مقام نيته: هذه زكاة مالي الواجبة، بنية: هذه صدقة مالي الواجبة، أو: الصدقة المفروضة.
ولا يكفي التعرض لفرض المال بان ينوي أنه فرض، أجمع عليه أصحابنا كما قال في "البحر"، وإن كان ظاهر ما نص عليه الشافعي –رحمه الله – أنه يجوز، وقالوا: معنى النص إذا قال: صدقة مالي فريضة، وإلا فنية الفرض خاصة لا تتمحض للزكاة؛ فإن ذلك قد يكون كفارة ونذراً.
وكذا لا يكفي التعرض للصدقة في أصح الوجهين، وبه جزم المعظم؛ لأنها قد تكون نافلة، وإلى هذا يرشد قول الشيخ:"حتى ينوي أنها زكاة ماله أو زكاة واجبة".
ولا يشترط بالاتفاق تعيين المال المزكى عنه؛ فإن غرض تنقيص المال ودفع حاجة المساكين، لا يختلف، بل يزكي عن مواشيه ونقوده حتى يخرج تمام الواجب، فلو ملك أربعمائة درهم مثلاً: مائتان حاضرتان ومائتان غائبتان، فأخرج خمسة من غير تعيين – جاز، وكذلك أربعين من الغنم وخمساً من الإبل، فأخرج شاتين أو شاة – جاز.
وإذا بان له تلف أحد المالين قبل الإخراج أو تلف بعد الإخراج، فله أن يحسب المخرج عن زكاة الآخر. نعم [لو عين المخرج عن احد المالين، فبان بقاؤه أجزأه، وإن ظهر تلفه لم يكن له أن يصرف المخرج إلى الآخر؛ كما] لو أعتق عبداً عما عليه من الكفارات يجزئه عن واحدة مبهمة. ولو عين عن كفارة، فبان عليه غيرها عتق، ولم يجزئه عما عليه. اللهم إلا أن ينوي أن هذا عن زكاة ماله الغائب إن كان باقياً، وإن كان تالفاً فعن الحاضر؛ فإنه إن بان باقياً وقع عنه لأن نيته اعتضدت بأصل وهو البقاء، وبهذا خالف ما لو نوى: إن كان مورثه قد مات وورث ماله فهذا زكاته، فبان ميتاً – لا يجزئه؛ لأن الأصل بقاء حياة المورث وعدم الإرث، وشبه ذلك
بما لو نوى ليلة الثلاثين من رمضان: أنه صائم غداً [من رمضان] إن كان منه، فبان منه – يجزئه؛ [لأن الأصل بقاؤه]، بخلاف ما لو نوى ليلة الثلاثين من شعبان صوم غد من رمضان إن كان منه، [فبان منه] – لا يجزئه؛ لأن الأصل بقاء شعبان.
ولو بان أن المال الغائب هالك وقع المخرج عنه عند المعظم؛ كما لو نوى أن ذلك عن ماله الغائب [إن كان باقياً، وإن كان تالفاً كان صدقة؛ فإنه إذا بان تالفاً كان صدقة. وعن صاحب "التقريب" احتمال في عدم وقوع المخرج عن الحاضر عند تلف الغائب]؛ لأن النية بالإضافة إليه مترددة غير معتضدة بأصل، بل الأصل يعكر عليها؛ فإنه إنما جعلها عن الحاضر بشرط تلف الغائب، [والأصل في الغائب: البقاء، والفرق بين ذلك وبين ما إذا نوى التطوع عند تلف الغائب]: أن النفل يتساهل فيه.
وقد ألحق [بعض] الأصحاب بهذه الصورة: ما إذا نوى أن هذا عن زكاة الغائب إن كان باقياً، فقال: نه إذا بان تالفاً كان له صرف المخرج إلى الحاضر، والأصح في "العدة" وبه جزم البندنيجي وغيره-:[لا]، وليس له أن يرجع فيه إلا إذا صرح فقال: هذا عن زكاة مالي الغائب، فإن كان تالفاً استرددته. وقال الإمام في باب تعجيل الصدقة: إن سبيل ذلك عند تلف المال كسبيل تعجيل الزكاة إذا انخرم شرط من شرائط الإجزاء، والتفصيل المذكور ثمَّ إذا لم تقع الزكاة مجزئة [يجيء في الاسترداد؛ إذ هو بعينه هنا] من غير فصل.
ولا خلاف أنه لو نوى: أن هذا عن الغائب إن كان باقياً [أو صدقة، فبان باقياً – لا يجزئه؛ للتردد في أصل النية. نعمن لو نوى أنه عن الغائب إن كان باقياً] أو عن الحاضر، فإنه يجزئه زكاة، سواء كان الغائب سالماً أو تالفاً، حكاه الماوردي والبندنيجي، وأبداه القاضي أبو الطيب احتمالاً لنفسه موجهاً له بأنه لو أطلق اقتضى الإطلاق أن يكون عن أحد المالين، وتعيين المال في الزكاة لا يجب؛ فتقع
هذه الزكاة عن أحدهما، وله أن يعينه من بعد.
وقال القاضي الحسين: إنه لو كان له مال بسرخس ومال ببلخ، فأخرج خمسة دراهم، وقال: هذا عن مالي ببلخ أو بسرخس –لا يقع عن واحد منهما؛ لأنه لم يجزم النية.
وهذا عين المسألة التي ذكرناها، ومن العجب أن القاضي الحسين حكى – وتبعه الإمام – فيما إذا قال: هذه عن زكاة أحد ماليّ، ولم يعين عن أيهما كان – أنه يجوز، وله التعيين، ولو تلف أحدهما انصرف إلى الباقي. وهذا يقرب من المسألة قبلها.
ثم ما ذكرناه من الإجزاء عن المال الغائب عند بقائه صوَّره الماوردي بما إذا كان ماله [الغائب] غير مستقر ببلد وإنما هو سائر في بر أو بحر لا يعرف مكانه، ولا يعلم سلامته، فتبرع وأخرج الزكاة عنه.
وقال البندنيجي: إن الشافعي – رحمه الله – فرَّع المسألة على القول بجواز نقل الصدقة، وعلى القولين معاً إذا كانت المسافة قريبة أو بعيدة، ولم يكن أهل السُّهمان في بلد المال [وكان المالك في أقرب البلدان إلى بلد المال] وفيه أهل السهمان.
والقاضي أبو الطيب ومن تبعه قالوا: إن ذلك تفريع على جواز النقل، وعلى منعه يحمل ما إذا كان غائباً عن يد صاحبه وهو معه في البلد، أو غائباً في بلد ليس فيه من أهل السهمان أحد.
قال: ويجوز أن ينوي قبل حال الدفع، [أي: وبعد] العزل؛ لأنها عبادة يجوز تقديمها على وجوبها من غير عذر؛ فجاز تقديم نيتها عليها، ولأن الفعل غير [مقصود] فيها؛ ولذلك جازت الوكالة فيه. وهذا ما صححه الماوردي وابن الصباغ وصاحب "البحر"، و [ادعى] البندنيجي أنه المذهب، ولم يورد القاضي الحسين في كتاب الصيام غيره، وقال القاضي أبو الطيب، وغيره: إنه خرج من نص الشافعي – رحمه الله – في الكفارات حيث قال: "لا تجزئ حتى ينوي مع التعجيل أو قبله"،
والزكاة كالكفارة بلا فرق.
وقيل: لا يجوز؛ لأنها عبادة يدخل فيها بفعله، فاشترط أن تكون النية مقرونة بها كالصلاة.
واحترزنا بقولنا: بفعله، عن الصوم، وهذا ما ادعى القاضي الطبري- كما قال في "البحر" – أنه أشبه بمذهب الشافعي – رحمه الله – في "الأم"، وهو جار في الكفارة أيضاً، صرح به البندنيجي وغيره، [ومقابله] حمل النص على ما إذا استصحب النية إلى حال التكفير.
أما إذا نوى قبل العزل فقد قال الماوردي في كتاب الأيمان: إنه لا يجزئ وجهاً واحداً؛ لأنها تجردت عن الفعل فكانت قصداً، ولم تكن نية. لكن يخدش هذا ما حكاه الرافعي عن "فتاوي" القفال: أنه لو كانت له حنطة عند غيره وديعة، فقال للمودع: كل منها كذا لنفسك، ونوى أن يكون ذلك عن زكاته – ففيه وجهان:
أحدهما: لا يجزئه؛ لأن المالك لم يكله عليه، وكيله لنفسه لا يعتبر.
ومقابله: أنه يجزئه، وإن لم تكن نية المالك قد اقترنت بالعزل.
وقد ظهر لك مما ذكرناه أن العبادات أربعة أقسام:
قسم لا يجوز تقديم النية عليها، ويشترط أن تكون مقارنة لأولها، وهي الصلاة والطهارة والحج.
وقسم يجوز تقديمها عليها، وهل تجب؟ فيه خلاف، وهو صوم الفرض.
وقسم يجوز تأخيرها عن أولها وهو صوم التطوع.
وقسم مختلف في جواز التقدم فيه، وهو الزكاة والكفارات، والتضحية ملحقة [بهما، صرح] به الإمام في كتاب الأضحية.
قال: وإن دفع إلى وكيله، ونوى وكيله، أي عند الدفع لأهل السُّهمان، ولم ينو رب المال، أي عند الدفع إلى الوكيل – لم يجزئه؛ لأن المتعبد بالزكاة رب المال ولم ينو، ومن طريق الأولى ألا يجزئه إذا لم ينو الوكيل أيضاً، قال ابن الصباغ: وذلك يتصور [بألا ينوي بها الزكاة] ويقصد الصدقة، وهذا بخلاف ما إذا دفع إلى الإمام ولم ينو رب المال ونوى الإمام أو لم ينو على أحد الوجهين كما تقدم. نعم، قال الإمام – وتبعه الغزالي -: لو دفع إلى الوكيل وفوض إليه النية جاز.
قال: وإن نوى رب المال، أي: عند الدفع إلى الوكيل لا غير، ولم ينو الوكيل، أي عند الدفع لأهل السهمان أو نائبهم – فقد قيل: يجوز؛ لأن العبادة في إخراج المال وهو للموكل فاكتفى بنيته، وقيل: لا يجوز كما في الحج، وهذا بخلاف ما لو دفع إلى الإمام ونوى ولم ينو الإمام؛ فإنه يجزئه قولاً واحداً؛ لأن الإمام نائب أهل السهمان فأشبه ما لو اقترنت نيته بالدفع لهم. والقائل بالأول فرق بأن العبادة في الحج تؤدي بأفعال النائب؛ فلذلك اشترط الإتيان بنيته، والنائب هنا يؤدي العبادة بمال المستنيب؛ فلذلك كانت نيته هي المعتبرة، والوجهان عند صاحب "التقريب" وغيره مخرجان على الخلاف السابق في تقديم نية رب المال على الصرف: فإن قلنا: يجوز، أجزأت هاهنا، وإلا فلا.
قال الإمام: وهذا هو القياس، ومن الأصحاب من قطع هاهنا بالإجزاء، وجعل اقتران النية بالتسليم [إلى الوكيل بمثابة اقترانها بالتسليم] لأهل السهمان، والفرق بينهما قد تقدم.
وقد أشار في "الوسيط" إلى هذه الطريقة بقوله: لو قدم النية على التسليم إلى المساكين أو نائبهم فثلاثة أوجه، ثالثها: أنه إن قدم على التنقيص ولكن اقترن بفعله
عند التسليم إلى الوكيل جاز. وأراد بالتنقيص: الصرف إلى أهل السهمان؛ [فإن به] يحصل أداء المال [في يد الوكيل قبل الصرف على ملك رب المال]، حتى لو تلف [كان كما لو تلف] في يده قبل الدفع إلهي.
وقد سكت الشيخ عن الحالة التي لا خلاف فيها في الإجزاء، وهي ما إذا نوى الموكل [عند الدفع إلى الوكيل، والوكيل حال الدفع إلى أهل السهمان]، وكذا فيما إذا نوى [الموكل] حال دفع الوكيل [المال] لأهل السهمان، صرح به الإمام.
أما الصبي والمجنون فينوي عنهما الولي وجوباً؛ لأن المؤدَّى عنه ليس أهلاً للنية، كما [أنه] ليس أهلاً للقسم والتفريق، فينوب عنه في النية كما في القسمة، فلو دفع من غير نية لم تقع الموقع، وعليه الضمان، قاله ابن كج، ومساق التعليل يقتضي منع إلحاق السفيه بهما؛ لأنه من أهل النية، وفي الاعتداد بنيته نظر، والله أعلم.
قال: وإن حصل عند الإمام ماشية، أي زكاة أو غيرها – فالمستحب: أن يسم الإبل والبقر في أصول أفخاذها، والغنم في آذانها؛ لما روى الشافعي – رضي الله عنه – بإسناده "أن النبي صلى الله عليه وسلم كان يسم الإبل في أفخاذها"، وروى "أن أنساً دخل
على رسول الله صلى الله عليه وسلم وهو يسم الغنم في آذانها"؛ فثبت ذلك في الإبل والغنم بالنص، وألحقنا البقر بالإبل؛ لأنها أقرب إليها في القوة والجلادة وخفة الشعر في الأفخاذ، قال الإمام: وكذا الخيل يسمها في الأفخاذ.
قال الأصحاب: فالمعنى من الوسم: أن الإمام تكون عنده إبل الجزية وإبل الصدقة والفيء، ولكل صنف جهة ينصرف إليها؛ فلابد من علامة يقع التمييز بها، ولأنه قد يند منها بعير أو تضيع منها بقرة أو شاة، فإذا كانت موسومة حفظها كل من وجدها، ولا يحبسها لقطةً، ولأنه يكره للرجل أن يشتري صدقته، فإذا لم يكن عليها وسم ربما اشتراها و [لا] يعلم أنها صدقته، فإذا كانت موسومة احترز وتجنبها؛ كي لا يقع في المكروه.
والمعنى في كونه في الإبل والبقر في الأفخاذ، والغنم في الآذان: أن ذلك موضع يقل فيه الشعر وهو صلب؛ فيخف فيه الألم.
ولا يستحب في الوجه، بل يكره؛ لنهي ورد فيه، وهو ما رواه مسلم:"لعن الله فاعله" قال الإمام: والخبر عندنا يقتضي التحريم. وهو الموافق لما في "التهذيب" حيث قال: إنه [لا يجوز]. [قال] في "الروضة": وهو الأقوى.
ويستحب [أن تكون سمة الغنم ألطف] من سمة الإبل [والبقر، نص عليه، قال الفوراني: وتكون سمة البقر ألطف من سمة الإبل]؛ لأنها أضعف.
قال: فإن كانت من الزكاة كتب: [لله، زكاة أو صدقة]، وإن كانت من الجزية كتب: جزية أو صغاراً؛ لأن بذلك يحصل التمييز المقصود.
[وعن بعض شارحي "المختصر": أن الوسم تعذيب للحيوان، والغرض منه
التمييز]، وأنه يحصل بحرف واحد؛ فوجب أن يقنع به. وقد يوجد في بعض نسخ "التنبيه":"وإن كانت من الزكاة كتب: لله، أو: صدقة، [أو زكاة] "، وهو ما نص عليه في "المختصر".
وقال في "الحاوي": إن كتابة "لله" أحبها الشافعي – رحمه الله تعالى- تبرُّكاً بذكر الله تعالى واقتداء بالسلف، قال أبو الطيب: ولأنها أسهل وأقل حروفاً، قال الرافعي: وقد استبعد ذلك في "شرح الوجيز"؛ لأن الدواب تتمعك في النجاسات وتضرب أفخاذها بأذنابها وهي نجسة، فلينزَّه اسم الله – تعالى- عنه. وقد رأيت هذا الاستبعاد لبعض المتقدمين ممن شرح "المختصر" وهو القائل بالاكتفاء بحرف واحد.
قال: ويجوز أن يجاب عن الأول بأن إثبات اسم الله – تعالى – هاهنا لغرض التمييز والإعلام، لا على قصد الذكر والتبرك، ويختلف التعظيم والاحترام بحسب اختلاف المقصود؛ ألا ترى أن الجنب يحرم عليه قراءة القرآن، ولو أتى ببعض ألفاظه على غير قصد القراءة لا يحرم؟! وعن الثاني: بأن الغرض ظهور الوسم وسهولة الوقوف عليه، وذلك لا يحصل بالحرف الواحد.
وحيث جاز الوسم لما ذكرناه – وإن كان فيه تعذيب الحيوان بالنار – فهل يجوز خصيه لأجل طلب سمنه ودفع علته؟ ينظر: إن كان غير مأكول فلا، وإن كان مأكولاً، قال القاضي الحسين: فيحتمل وجهين:
أحدهما: يجوز كالوسم؛ فإن فيه تطييب اللحم وقد روي أنه – عليه السلام – ضحَّى بكبشين موجوءين.
والثاني: لا يجوز؛ لأن فيه تعذيب الحيوان لغير مأكلةٍ.
قال: وعلى هذا تجفيف الملح في الشمس حتى يموت الدود الذي فيه، يخرج على الوجهين.
وقال في "التهذيب" – وهو الذي أورده الرافعي -: يجوز خصي ما يؤكل لحمه في
حال الصغر، ولا يجوز في الكبر. وبه يحصل في المسألة ثلاثة أوجه.
قال: [ويجب صرف] زكاة المال إلى ثمانية أصناف، أي: إن وجدت؛ للكتاب والسنة والقياس:
أما الكتاب فقوله تعالى: {إِنَّمَا الصَّدَقَاتُ لِلْفُقَرَاءِ وَالْمَسَاكِينِ
…
} الآية [التوبة: 60]، والدلالة فيها من ثلاثة أوجه قالها أبو الطيب:
أحدها: [أنه] أضاف "الصدقات" إليهم بلام التمليك، وعطف بعضهم على بعض بالواو الموضوعة للتشريك، وكل ما يصح أن يملك إذا أضيف إلى من يصح أن يملك، معيَّناً كان أو موصوفاً – اقتضت الإضافة ثبوت الملك له، أصله في المعين ما إذا قال: هذه الدار لزيد وعمرو وبكر، وفي الموصوف ما إذا قال: أوصيت بها للفقراء والمساكين [والغارمين ونحوهم.
الثاني: أنه ذكر الفقراء والمساكين،] فجمع بينهما في الذكر، وهو لو اقتصر على ذكر الفقراء لجاز الصرف [إلى الفقراء] والمساكين، وجاز الاقتصار على [الصرف] لأحدهما، [وكذا لو] اقتصر على ذكر المساكين لجاز الصرف لهم وللفقراء، وجاز الصرف لأحدهما، وإنما جمع بين الصنفين في الذكر؛ ليبين أنه لا يجوز الاقتصار على أحدهما؛ فدل على أن صرف الصدقة إلى جميع هذه الأصناف واجب؛ إذ لا قائل بالفرق.
الثالث: أنه قال: {فَرِيضَةً مِنْ اللَّهِ} والفرض في اللغة: التقدير، وفي الشرع: الإلزام، واللفظ إذا كان له موجبان: لغوي وشرعي، كان حمله على الشرعي أولى.
فإن قيل: [يجوز أن يكون أراد إضافة كل] الصدقات إلى كل الأصناف، لا أنه جعل كل صدقة لكل الأصناف؛ فيدفع صدقة زيد للفقراء، وصدقة عمرو للمساكين، وصدقة بكر للغارمين وهكذا.
قلنا: إن أراد هذا القائل بذلك إذا كان الإمام هو المفرق لها، قلنا له: الحكم عندنا كذلك؛ فإنه لا يجب عليه أن يدفع كل زكاة إلى الأصناف، بل له أن يدفع زكاة الشخص الواحد لصنف [واحد، بل لشخص واحد] إذا عمم جميع الأصناف بالصرف، لكن ليس للآية – كما ستعرفه – بل لأنه نائب أهل السهمان في القبض، فإذا حصلت الزكوات في يده صارت كزكاة الشخص الواحد فيتصرف فيها كما ذكرناه.
فإن قلت: هذه العلة تقتضي أن يساوي الساعي الإمام في ذلك، وقد قال في "الحاوي": إن الساعي إذا كان هو الصارف ليس له أن يخص بكل صدقة صنفاً كالإمام؛ لأن نظره خاص لا يستقر إلا على ما جباه، وربما صرف فلمي قبض باقي الأصناف، بخلاف الإمام. نعم، له أن يصرف صدقة كل شخص في جميع الأصناف، وله أن يجمع جميع الصدقات ويفرقها في الأصناف.
قلت: [و] قد سوى في "البحر" في موضع منه [بينه وبين الإمام، وعلى تقدير التسليم – وهو ما ذكره في موضع آخر منه] – فقد حصل الفرق بينهما بما ذكرناه، وقد يستدل لذلك بقوله – عليه السلام – لسلمة بن صخر الأنصاري- رضي الله عنه – وقد ظاهر من امرأته وعجز عن الكفارة:"انطلق إلى صدقة بنى زريق فلتدفع إليك، فأطعم منها وسقاً ستين مسكيناً، وكل أنت وعيالك بقيَّتها".
وإن أراد بذلك: إذا كان أرباب الأموال [هم] المفرقين فهو خلاف الإجماع؛ لأن أحداً لم يصر إلى إيجاب ذلك.
وقد يجوز أن يتفق جميع أهل الصدقات على صرفها كلها في أحد الأصناف، فلا يؤخذ ما ذكر على أن حقيقة هذه الإضافة تقتضي أن تكون كل صدقة لكل من سمي؛ ألا ترى أن رجلاً لو قال: هذه [الدور الثلاثة] لزيد وعمرو وبكر، كانت كل دار بينهم أثلاثاً؟!
وأما السنة فما روى أبو داود عن زياد بن الحارث الصُّدائي قال: "كنت عند النبي صلى الله عليه وسلم، فأتاه رجل فقال: أعطني من الصدقة، فقال له النبي: "إن الله لم يرض بحكم نبيّ ولا غيره في الصَّدقات حتى حكم فيها هو، فجزَّاها ثمانية أجزاء [فإن كنت من تلك الأجزاء أعطيتك حقّك"، فأخبر أنها مقسومة ثمانية أجزاء] وهذا نص لا يحتمل خلافه.
وأما القياس: فلأنه مال أضيف شرعاً إلى أصناف [فلم يجز أن يختص به بعض تلك الأصناف كالخمس، أو لأنه مال أضيف إعطاؤه إلى أصناف موصوفين]؛ فلم يجز تخصيص بعضهم به مع وجود بعض كالوصية، وهذا ما عليه جمهور أصحابنا.
وقد حكي عن المزني وأبي حفص ابن الوكيل البابشامي أنه يصرف خمسها إلى من يصرف إليه خمس الفيء والغنيمة، وليس بشيء؛ لما ذكرناه.
قال أصحابنا: والأصناف الثمانية يستحقون الصدقات للحاجة؛ إلا أن أسباب حاجاتهم مختلفة: فالغزاة وبعض الغارمين والعاملين عليها نعطيهم لحاجاتنا إليهم، وغيرهم نعطيهم لحاجاتهم إلينا، وهم الفقراء والمساكين والمؤلفة قلوبهم، قال القاضي الحسين، على أحد القولين: والرقاب وأحد صنفي الغارمين الذين أدينوا في [مصالح أنفسهم]، وبنو السبيل.
فمن دفعت إليه [لحاجته لم يستحقها إلا من الفقر، ومن دفعت إليه] لحاجتنا جاز أن تدفع إليه مع الغني والفقر. وسيأتي على ذلك كلام الشيخ، رحمه الله.
ثم ينقسم جميعهم ثلاثة أقسام:
[فمنهم] من يأخذها ويستحقها بسبب متقدم وهم الفقراء والمساكين والعاملون عليها؛ لان السبب الذي استحقوا به: الفقر والمسكنة والعمل، وذلك
متقدم على الأخذ، فإذا أخذوا شيئاً استقر ملكهم عليه.
ومنهم من يستحقها بسبب متأخر، وهم بنو السبيل والغزاة، فيأخذ ابن السبيل [ليبدأ بالسفر]، ويأخذ الغازي [ليبدأ جهاده، فإذا اخذوا لم يستقر ملكهم إلا بسفر ابن السبيل وجهاد الغازي]، فإن لم يوجد ذلك استرجع منهما؛ لفقد السبب الذي تعين به الأخذ والاستحقاق، وسيكون لنا عودة إلى شيء من ذلك.
ومنهم من يأخذ بسبب متقدم واستحقاق مستحدث، وهم المؤلفة قلوبهم والمكاتبون والغارمون، وهؤلاء يستقر ملكهم بتغير نيات المؤلفة، وعتق المكاتبين بأداء ما أخذوه، وقضاء ديون الغارمين بالمقبوض، وهكذا الحكم فيما إذا حصل بالمقبوض توفية بعض النجم والدين، ثم حصل العتق بعده، ولا يستقر بدون ذلك، لكنه لا يسترجع منهم ما دام تغيّر النية ورقُّ المكاتب ودين الغارم. [نعم، لو حصل العتق بغير المال المدفوع، وكذا سقوط دين الغارم] فهل يسترجع منه ما أخذه؟ فيه وجهان في آخر "النهاية"، وادعى في "التتمة" أن الظاهر عدم الاسترجاع [والمذكور في "الحاوي" و"المهذب" وتعليق القاضي الحسين وغيرهم: الاسترجاع] وحكى الإمام [هنا] عن صاحب "التقريب" رواية الطريقين [في المكاتب، وكذا القاضي الحسين حكاهما]:
أحداهما: إن كان ما أخذه باقياً استرده قولاً واحداً، وإن كان تالفاً ففي [تغريمه البدل] وجهان.
والثانية: إن كان تالفاً فلا يغرم بدله قولاً واحداً، وإن كان باقياً ففي استرداده [وجهان] والجزم بعدم التغريم عند تلفه قبل العتق، هو المذكور في "الوسيط" و"التهذيب"، ونسب الرافعي القول بأنه يغرم في هذه الحالة إلى رواية أبي الفرج
السرخسي، والله أعلم.
قال: أحدها: العامل، أي: إذا استعمله الإمام ليأخذ من الصدقات؛ لقوله تعالى: {وَالْعَامِلِينَ عَلَيْهَا} [التوبة: 60] ولقوله عليه السلام: "لا تحلُّ الصَّدقة لغنيّ إلا لخمسة: لغاز في سبيل الله، أو لعامل عليها، أو لغارم، أو لرجل اشتراها بماله، أو لرجل كان له جار مسكين فتصدق على المسكين فأهداها المسكين للغنيّ" أخرجه ابن ماجه مسنداً.
أما إذا استأجره بأجرة من بيت المال، أو جعل له جعلاً من بيت المال - فلا حق له في الصدقات، قال البندنيجي والمتولي، وقال الإمام: إن الظاهر جواز ذلك، ولا يعدم الطالب من فحوى كلام الأصحاب ما يدل على أن حرمان العاملين من الصدقات بالكلية [لا يجوز].
وإنما قدم الشيخ العامل على غيره؛ لأنه المقدم في القسمة على الأصح، وعليه نص الشافعي رحمه الله في "المختصر"؛ لأن ما يأخذه عوضٌ؛ فكان أقوى
ممن يأخذ مواساة، وقاله في "المهذب"، ولأن ما يفضل عن أجرة عمله من الثمن يردُّ إلى بقية الأصناف، وكذا ما ينقص عنه يؤخذ من سهامهم على قول، وفي تقديم الصرف إليه معرفة ما يتبقى لهم؛ فتسهل قسمته، ويؤمن معه الاسترجاع والزيادة.
والآية وإن بدأ فيها بالفقراء؛ لأنهم أشد الأصناف [حاجة] فلا ترتيب فيها؛ لأن الواو لا تقتضيه، بخلاف كلام الشيخ؛ [فإن مقتضٍ للترتيب؛ فإن الأول يتعقَّبه ثان وثالث، وقد أفهم كلام الشيخ][أن هذا السهم] إنما يستحق بالعمل؛ لأنه جعل للعامل، وإنما يصدق هذا الاسم عند وجود العمل، والمراد به: قبض الصدقات من أرباب الأموال وما يتوصل به [إليه]، كما دل عليه كلام الأصحاب؛ حيث قالوا: إن رب المال إذا فرق الزكاة بنفسه سقط نصيب العامل، وقسم الزكاة على سبعة أصناف، وليس له أن يقول: اصرفوا إليَّ ما يصرف للعامل؛ لأنه يفعل ما وجب عليه.
نعم، قال الإمام: لو كان يحتاج إلى مؤنة في النقل عند مسيس الحاجة إليه فتكليفه المؤنة إثبات غرم عليه زائدٍ على وظيفة الزكاة، وليس في حكم معتدّ حتى يغلظ عليه بإلزامه المؤنة؛ فلا ينقدح إلا أمران:
أحدهما: أن يتوقف إلى أن يطرقه المستحقُّ، أو يحسب من الزكاة ما يجوز للساعي أن يحتسبه منها.
قال: وهذا يعارضه أن الساعي قابض للمساكين وغيرهم من المستحقين، [والإمام] ناظر لهم نظر الولي للمولَّى عليه، أو نظر القاضي في أموال الغيّب، أو نظر الوكيل للموكل، ولو تلف ما أخذه الساعي كان محسوباً على أهل السّهمان، والزكاة مادامت في يد ملتزمها فهي في ضمانه، هذا وجه التردد، وحيث قالوا: لو دفع رب المال الزكاة إلى الإمام الأعظم أو نائبه على القطر نيابة شاملة لقبض الزكوات وغيرها، [ففرَّقها] – سقط نصيب العامل أيضاً؛ لأن الإمام ونائبه في
القطر يأخذ كفايته من بيت المال على الإمامة والنيابة؛ فلا يجوز أن يأخذ عوضاً عن بعض ما تشتمل عليه الإمامة والنيابة.
قال في "البحر": قال القاضي أبو الطيب: سمعت الماسجرجسي يقول: وكذا القضاة إذا أخذوا أجورهم لم يكن لهم أن يدخلوا أيديهم مع كل متولٍّ [في كل وقف].
والذي يتوصل به إلى القبض.
العريف: وهوا لذي يعرف العامل أهل الصدقات.
والحاشر: وهو الذي يحشرهم إليه، أي: يستدعيهم.
والجابي: الذي يجبي الصدقات.
والكاتب: الذي يكتبها – يعطون من سهم العامل.
لكن قد قال الأصحاب: إنه يعطي من هذا السهم لمن يعرّفه حاجات الأصناف إذا دخل البلد إن كان غريباً، وقضية ذلك: ألا يسقط عند الدفع إلى الإمام والناظر في الإقليم إلا إذا كان عارفاً بحاجات الأصناف.
و [أجرة] النقال والجمال إلى أهل الصدقات من الصدقات بلا خلاف، وأجرتهما عند الأخذ من أرباب الأموال من أين تكون؟ فيه وجهان جاريان في أجرة راعيها وحافظها بعد الأخذ:
أحدهما: من الصدقات.
والثاني: من سهم العامل. حكاهما الماوردي.
وفي أجرة الكيَّال والوزّان والعدَّاد عند الأخذ من رب المال وجهان:
أحدهما: أنها على رب المال؛ كما يجب ذلك على البائع [في البيع]؛ إذ هو من تمام التسليم، وهذا قول ابن أبي هريرة، والأصح في "الشامل" وغيره، ولم يحك القاضي أبو الطيب غيره.
والثاني: أنها على أهل السهمان؛ فتكون من الوسط كأجرة النقال، وهذا قول أبي إسحاق، حكاه البندنيجي، قال في "البحر": وهو الأصح عندي.
وقال الماوردي: عوضه أنها تكون من سهم العامل، وعزاه إلى أبي إسحاق أيضاً.
قال: ومن شرطه أن يكون حرّا فقيهاً أميناً، أما وجه اعتبار الحرية والأمانة؛ فلأن ذلك ولاية على مال الغير، والعبد والفاسق ليسا من أهلها، ووجه اعتبار الفقه فيه: أنها ولاية من جهة الشرع [فيما] يفتقر [فيه] إلى الفقه؛ فاعتبر أن يكون المولى عارفاً [به] كالقضاء، والمراد: أن يكون فقيهاً في الزكاة، فيعرف ما تجب فيه من الأموال وقدر نصبها وقدر الواجب، وأوصاف مستحقيها، ومبل استحقاقهم منها، لا أن يكون فقيهاً في غير ذلك. وفي اعتبار الفقه تنبيه على اشتراط الإسلام فيه؛ [لأن] الفقه في الصدقات متوقف عليه؛ إذ أدلته: الكتاب والسنة، وبه صرح الأصحاب موجهين له بقوله تعالى:{يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَتَّخِذُوا بِطَانَةً مِنْ دُونِكُمْ} [آل عمران: 118] يعني من دون المسلمين، وروي أن أبا موسى الأشعري رفع إلى عمر حساباً؛ فاستحسنه فقال: من كتب هذا؟ فقال كاتبي، قال: وأين هو؟ قال: هو على باب المسجد، قال: أجنبٌ هو؟ قال: لا، ولكن هو نصراني فقال: لا تأمنوهم وقد خوّنهم الله – تعالى- ولا تقرّبوهم وقد أبعدهم الله!
قال: ولا يكون من حرمت عليه الصدقة من ذوي القربى، أي: إذا عمل ليأخذ من الزكاة؛ لقوله – عليه السلام – للفضل بن العباس، وقد طلب منه أن يجعله عاملاً على الصدقة:"أليس في خمس الخمس ما يكفيكم ويغنيكم عن أوساخ النَّاس؟! ". وهذا ما [نص عليه كما] حكاه البندنيجي، و [قال] أبو الطيب غيره: إنه ظاهر المذهب. [وقال القاضي الحسين والشيخ في "المهذب": إنه المهذب].
وقيل: يجوز أن يكون منهم؛ لأن ما يأخذه أجرة فلا تمنع منه القرابة كأجرة النقال والحافظ؛ فإنه يجوز صرفها لهم وفاقاً، كما يجوز صرفها لسيد العبد إذا عمل والكافر وإن لم يكونا من أهل الزكاة، كذا حكاه العراقيون، وقال في "البحر": إنه اختيار القفال، وهوا لذي صححه الإمام في ضمن فرع من الباب، وكذا أبو الحسن العبادي، كما قال الرافعي.
وقد يرج حاصل الخلاف إلى [أن] ما يأخذه العامل أجرة أو زكاة؟ وفيه خلاف حكاه الفوراني وغيره، فإن قلنا: أجرة، جاز، وألا فلا.
فإن قيل: هذا فاسد؛ لأن الصحيح أنه أجرة كما قال ابن يونس، والمذهب: أنه لا [يجوز أن] يكون من ذوي القربى كما قال هو وغيره؛ فبطل ما ذكرتم.
قلت: الصحيح أن ما يأخذه العامل زكاة وإن كان مقدراً بأجرة عمله، وتصرف إليه وإن كان غنيًّا، وهو الذي جزم به الماوردي، وحكاه عن الشافعي – رحمه الله – متمسكاً فيه بقوله تعالى:{إِنَّمَا الصَّدَقَاتُ لِلْفُقَرَاءِ} الآية [التوبة: 60] فشرك في تمليكها بين الفقراء والمساكين والعاملين؛ فلم يجز أن يزال عن الصدقة حكمها باختلاف المتملكين.
وقد جعل الإمام شاهد الوجه الأول في أن المأخوذ أجرة: جواز صرف أجرة العامل من سهم المصالح، وشاهد كونه زكاة: منع ذوي القربى منه.
ولا خلاف في أنه يجوز أن يكون عاملاً إذا تبرع بالعمل، ويقال: إن الرشيد ولّي الشافعي – رحمه الله – صدقات اليمن.
قال ابن الصباغ: وكذا [إذا] عمل على أن يعطي من بيت المال.
قال الرافعي: ويجري الوجهان فيما إذا جعل بعض المرتزقة عاملاً.
ثم إذا قلنا بالمذهب فعليه فرعان يمكن أخذهما من كلام الشيخ الآتي من بعد:
أحدهما: إذا عدم خمس الخمس، أو وجد، لكن منعوا حقهم منه فهل يجوز أن يكون [منهم]؟ فيه وجهان.
الثاني: موالي ذوي القربى هل يجوز أن يكونوا عمالاً؟ فيه وجهان، المذهب في "تعليق" القاضي الحسين: الجواز؛ لأن منع ذوي القربى منه لشرفهم وفضلهم، وهو مفقود في مواليهم. ووجه مقابله: ما روى أبو داود عن أبي رافع – وهو مولى رسول الله صلى الله عليه وسلم أن النبي صلى الله عليه وسلم بعث رجلاً على الصدقة من بني مخزوم، فقال لأبي رافع: اصحبني فإنك تصيب منها، قال: حتى آتى النبي صلى الله عليه وسلم فأسأله، فأتاه فسأله، فقال:"مولى القوم من أنفسهم، وإنّا لا تحلُّ لنا الصّدقة"، قال الترمذي: وهو حديث حسن صحيح.
والرجل الذي بعثه رسول الله صلى الله عليه وسلم هو الرقم بن [أبي] الأرقم، وهوا لذي استخفى رسول الله صلى الله عليه وسلم في داره بمكة في أسفل الصفا حتى كملوا أربعين رجلاً آخرهم عمر بن الخطاب – رضي الله عنهم – وهي التي تعرف بالخيزران.
وقد اشترط الأصحاب في العامل أن يكون مكلفاً، وسكوت الشيخ – رحمه الله – عن ذلك؛ للعلم بوضوحه؛ فإن الصبي والمجنون مولّى عليهما، فكيف يليان على غيرهما؟!
وأفهم كلامه أنه لا يشترط فيه الذكورة حيث لم يتعرض لها، وهو ما صرح به الماوردي حيث قال: فإذا تكاملت الخصال المذكورة جاز أن يكون عاملاً عليها، سواء كان رجلاً أو امرأة، وإن كرهنا تقليد النساء لذلك؛ لما عليهن من لزوم الحرم؛ لأن المرأة لما جاز [أن تلي أموال الأيتام جاز] أن تلي أموال
الصدقات، وسنذكر عن الروياني وغيره خلافه.
وكل هذه الشروط إذا كان التفويض عاماً، فإن عين له الإمام شيئاً يأخذه فلا يعتبر أن يكون فقيهاً.
قال الماوردي: وكذا لا يعتبر الإسلام والحرية. قال في "الروضة": [و] في عدم اشتراط الإسلام نظر.
قال: ويجعل له الثمن؛ لأن الزكاة إذا قسمت على ثمانية هذا أحدها خصه الثمن، واستغنى الشيخ – رحمه الله – بما ذكره هنا عن أن يذكر فيما بعد عند ذكر كل صنف أنه يجعل له الثمن. ثم ما ذكره في العامل مخصوص بما إذا كان أهل باقي السهام موجودين، فلو فقد بعضهم وقلنا: يقسم سهمه على باقي [أهل] الأصناف [أدخل العامل] في القسمة، وجعل له ما يقتضيه التوزيع من السبع أو السدس أو الخمس، صرح به ابن الصباغ والبندنيجي، وأفهمه كلام الشيخ وغيره.
قال: فإن كان الثمن، أي: عند وجود [جميع] الأصناف، أكثر من أجرة عمله – [ردَّ الفاضل؛ لأنه يأخذه في مقابلة عمله فلا يعطي زائداً على ما يقابله وهو أجرة المثل. ثم أجرة العمل] تارة تكون مقدرة في إجارة أو جعالة يقررها الإمام له من مال الزكاة، وتارة يقول له: اعمل بأجرة تأخذها من الزكاة، والكل جائز.
قال: على بقية الأصناف؛ كما لو توفر نصيب العامل بجملته. ولو جعل له أكثر من أجرة المثل فتفسد التسمية من أصلها، أو يكون قدر أجرة المثل من الزكاة، وما زاد في خالص مال الإمام؟ فيه وجهان.
قال: وإن كان أقل، أي: الثمن أو ما خصَّ العامل من التوزيع تمّم من خمس الخمس في أحد القولين؛ كي لا ينقص كل صنف عما أعطاه الله، ويأخذ العاملون أكثر مما أعطاهم الله من الزكاة.
قال: ومن الزكاة [في الثاني، أي]: من حق الأصناف الباقية؛ لأنه يعمل لهم
فأشبه الأجير الذي ينقل المال، ولأنه لما رد عليهم الفاضل رجع عليهم بالناقص، وهذا ما صححه الفوراني والنواوي، واختاره القفال، وهذه طريقة المزني التي حكاها الماوردي لا غير، صححها في "المهذب".
وأبدل القاضي أبو الطيب القولين بوجهين، والخلاف مأخوذ من قول الشافعي [في موضع من كتابه] [في "المختصر"]:"كمل من سهم المصالح سهم رسول الله صلى الله عليه وسلم، ولو كمَّله من مال أهل السهمان لم أر ذلك ضيّقاً":
فمن الأصحاب من أجرى اللفظ على ظاهره، وقال الإمام: مخير: إن شاء أخرجه من سهم المصالح، وإن شاء أخرجه من بقية السهام، والخيرة تتبع الاجتهاد لا على وجه التشهّي، وهذا معزيٌّ في "الشامل" إلى أبي إسحاق، واختاره ابن أبي هريرة كما قال في "البحر"، وقال القاضي أبو الطيب: إنه ظاهر مذهب الشافعي.
ومنهم من قال: جواب الشافع محمول على حالين، هؤلاء اختلفوا في الحالين ما هما؟
فمنهم من قال: الموضع الذي قال: يتمم من خمس الخمس، إذا قسم نصيب أهل السّهمان أولا؛ فإنه يعسر الاسترداد منهم، والموضع الذي قال: يتمم من مال أهل السهمان، [إذا كانت البداية بقسمة نصيب العاملين.
ومنهم من قال: الموضع الذي قال: يكمل [من مال] أهل السهمان] إذا فضل من استحقاقهم [فضلٌ] فيكمل من الفضل، والموضع الذي قال: من سهم المصالح، إذا لم يفضل من استحقاق أهل السهمان فضل. وهذا مجموع ما ذكره العراقيون.
ومنهم من قال: إن كان في بيت المال من سهم المصالح شيء صرف إليه، وإلا فيعطيهم من سهم الصدقات، وهذا ما أورده القاضي الحسين.
وقد أغرب صاحب "التقريب" فذكر قولاً آخر في [أصل] المسألة، وهو أنه إذا لم يف سهم العامل بأجرة مثله فليس له إلا ذلك السهم، ولا يكمل من موضع آخر.
قال الإمام: ولو صح هذا للزم على طرده أن يقول: [سهم العامل لو زاد] على أجرة المثل [فله أخذه بالغاً ما بلغ؛ ليعادل اقتصاره على ما يجد وإن نقص عن أجرة المثل]. وهذا بعيد لا يسمح به صاحب "التقريب"، ولم يصر إليه أحد من الأصحاب.
قال: والثاني: الفقراء؛ للآية.
[قال:] وهم الذين لا يقدرون على ما يقع موقعاً من كفايتهم، هكذا قاله الأصمعي، [واختاره الشافعي] في الجديد، وسنذكر لفظه.
ونقل المزني عن الشافعي أنه قال في القديم: الفقير: الزّمن الضعيف الذي لا يسأل الناس. فمن الأصحاب من جعل في اشتراط الزّمانة [وعدم التكسب في إطلاق اسم الفقير قولين، ومنهم من قال: هل يشترط التعفف عن السؤال؟ قولان، فإن قلنا: يشترط، فهل تشترط الزمانة؟][فيه قولان حكاهما في "البحر"، قال الإمام: وإذا قلنا باشتراط الزّمانة] ففي اشتراط العمى وجهان.
والمعتبرون قطعوا بالجديد، وأوّلوا ما نقل عن القديم، وعلى هذا جرى المصنف حيث قال: "فإن رآه قوياً وادعى أنه لا كسب له أعطاه من غير يمين وقيل: يعطي بيمين]، فجزم بإعطائه مع الصحة.
و"الفقير" مشتق من انكسار "الفقار" – وهو الظهر- الذي لا تبقى معه قدرة، وقيل: من "الفاقرة"، وهي الداهية العظمى، أو الهلاك المستأصل، أو الشر المجلّي.
ثم عدم القرة على ما يقع موقعاً من الكفاية يصدق على من لا يملك شيئاً أصلاً وعلى من يملك قدراً يسيراً لا يقع منه موقعاً، قال البندنيجي: مثل أن يكون كفايته عشرة ودخله الدرهم والدرهمان. قال الرافعي: والثلاثة. وعلى ذلك ينطبق قول الشافعي في الجديد. الفقير: هو الذي لا شيء له، [أو له شيء] لا يقع منه موقعاً. وقال الإمام: إنه الذي لا يملك سبداً ولا لبداً، ولا تالداً ولا طارفاً. ولأجله. قال في
"الوجيز": إنه [الذي] لا يملك شيئاً أصلاً.
قال الرافعي: وهو غير معمول بظاهره؛ بل المعنيّ به ما ذكرناه.
قلت: ولا جرم أنه قال: لو كان الشخص مالكاً لدار يسكنها وثوباً يلبسه متجملاً به لم يقدح ذلك [في استحقاقه من سهم] الفقراء. وعزاه إلى رواية صاحب "التهذيب" وغيره، وقال: إنهم لم يتعرضوا لعبده الذي يحتاج إلى خدمته، وهو في سائر الصور ملحق بالمسكن. وقال في "الروضة": إن ابن كج تعرض له في كتابه "التجريد" وصرح بأنه كالمسكن، وهو متعين، لكن الإمام قال: إنَّ [ملك] المسكن والخادم لا يمنع من استحقاقه من سهم المسكنة، كما سنصفه. وأما الفقير فلا يحتمل حاله شيئاً من ذلك لا ملك المسكن ولا ملك العبد، وهذا مقوٍّ لإجراء اللفظ على ظاهره على بعد.
وكما يصدق عدم القدرة على من ذكرناه يصدق – أيضاً – على من ماله غائب عنه في مسافة القصر، وليس معه ما يقوم بكفايته؛ ولذلك قال البغوي: إنه يجوز له أن يأخذ من الزكاة من سهم الفقراء إلى أن يصل إلى ماله أو يصل ماله إليه. وهو في "تعليق" القاضي الحسين مخرجٌ من نص الشافعي – رحمه الله – على أن من له مال ببلد يدفع إليه من سهم أبناء السبيل [إلى أن يصل إليه، وفي "البحر" أن أبا اسحاق المروزي قال: هذا يعطي من سهم [ابن السبيل]، ولا يعطي من سهم] الفقراء، [وهو ما] يفهم من كلام البندنيجي الذي سنذكره في [صنف] ابن السبيل. وكذا يصدق على من لا شيء له إلا دين مؤجل على إنسان؛
ولأجله صرح الأصحاب بجواز أخذ ما يكفيه من سهم الفقراء إلى حلول الأجل.
قال الرافعي: وقد يتردد الناظر في [اشتراط اعتبار] حلوله بقدر مسافة القصر.
قلت: [و] لكن ما حكيناه عن نصه في الجديد يخرج من ماله غائبٌ عن اسم الفقر، وكذا من لا شيء له إلا دين مؤجل إذا قلنا: إن الدين مملوك، وإذا كان كذلك فلا ينبغي ان يصرف إليهما من سهم الفقراء، ولم أره لأحد من الأصحاب إلا ما حكيته عن "البحر"، وكذا مقتضى النص [أن] القادر على تحصيلك كفايته، [وكفاية من تلزمه كفايته] بالاكتساب اللائق بحاله، مع وجود من يستكسبه – داخل في اسم الفقر؛ فيجوز الصرف له من سهم الفقراء، ولا قائل به؛ بل جعلوه كالقادر على ذلك بمال معه أو بريع عقار موقوف عليه، وكذلك جعل كالغني من سقوط نفقته عن والديه ومولوديه، ووجوبها عليه لوالديه ومولوديه، وقد قال – عليه السلام:"ولاحظَّ فيها لغنيّ ولا لذي مرّةٍ سويّ" وهي [القوة]،ويروي:"ولا لذي قوَّة مكتسب"، فسوّى بين الغني والمكتسب، وحينئذ فعبارة الشيخ –رحمه الله – أجمع للمقصود من غيرها.
نعم، لو كان قادراً على الاكتساب لكنه لو اكتسب لذهبت مروءته كأولاد الدهاقنة
والرؤساء وذوي المروءات، أو كان مشتغلاً بالعلوم الشرعية فلو اكتسب لتعطل عليه الاشتغال – فلا يقدح ذلك في استحقاقه، صرح به في الحالة الأولى القاضي الحسين في "تعليقه" والغزالي في "فتاويه"، وفي الحالة الثانية: الجمهور، موجّهين له بأن تحصيلها من فروض الكفايات، وفي "الروضة" أن الدارمي ذكر فيه ثلاثة أوجه، ثالثها: إن كان نجيباً يرجى تفقُّهه، ونفع الناس به استحق، وإلا فلا.
وبالاتفاق لا يعطي للمعطل المعتكف في المدرسة، ولا يتأتى منه التحصيل؛ إذا كان قادراً على كسب كفايته، وكذا من أقبل على نوافل العبادات، وكان الكسب يمنعه عنها أو عن استغراق الوقت بها؛ لأن الكسب وقطع الطمع عما في أيدي الناس أولى من الإقبال على النوافل مع الطمع.
ولو لم يجد من يقدر على الاكتساب اللائق بحاله من يستكسبه حلت له الزكاة.
ثم ظاهر النص [يقتضي] أن المستغني بنفقة غيره بسبب قرابة أو زوجية، داخلٌ في اسم الفقر؛ [لأنه] لا يملك ما يأخذه إلا شيئاً فشيئاً، وقضيته أن يصرف إليه من سهم الفقراء [وقد ادعى الإمام أنه لا يصرف إليه من سهم الفقراء]. وهل يصرف إليه من سهم المساكين [أم لا]؟ فيه خلاف [سنذكره عن غيره في استحقاقه من سهم الفقراء، وقد صرح الرافعي بأنه هل يصرف [إليه] من سهم الفقراء أم لا؟ فيه خلاف] مرتب على ما إذا أوصى أو وقف على أقارب فلانٍ الفقراء، وفيهم من هو في نفقة غيره: هل يصرف إليه من الوقف أو الوصية [أم لا]؟ وفيه أربعة أوجه عن حكاية الشيخ أبي علي في "الشرح":
أحدها- وبه قال ابن الحداد -: نعم.
[والثاني]: ويحكي عن [أبي زيد والخضري]-: لا.
والثالث: - عن الأودني-: [أن من] في نفقة قريبه يستحق، دون الزوجة.
والرابع: عكسه.
فإن قلنا: لا استحقاق له في الوقف والوصية، فمن الزكاة أولى، وهذا أصح [على] ما ذكره الشيخ أبو علي وغيره. وإن قلنا: له حق هناك، فهاهنا وجهان:
أصحهما: أن الجواب كذلك.
والثاني: المنع، وبه قال ابن الحداد.
والفرق: أن الاستحقاق في الوقف باسم الفقر، ولا يزول اسم الفقر بقيام غيره بأمره، والاستحقاق في الزكاة بالحاجة، ولا حاجة مع توجه النفقة على الغير؛ فأشبه المكتسب الذي يكتسب كل يوم قدر كفايته؛ فإنه لا تصرف له الزكاة وإن كان معدوداً في الفقراء.
قال الرافعي: ومن قال بالأول منع هذا وقال: الاستحقاقان منوطان بالفقر؛ فوجبت التسوية.
والذي أورده القاضي أبو الطيب في أثناء مسألة من الباب منع الصرف للمستغني بنفقة القريب كالمستغني بريع وقفٍ وُقِفَ عليه، وذلك في الزوجة من طريق الأولى؛ لما سنذكره، وهذا ما ينطبق عليه قول الشيخ؛ لأن هذا يقدر على كفايته أو على ما يقع موقعاً منها، وحكى في "التتمة" في القريب الوجه الآخر: أنه يصرف إليه، وفرق بين استغنائه بما يجب له على قريبه، وبما يستحقه من ريع الوقف؛ فإن استغناءه بقريبه يزول بأخذه الزكاة، ولا كذلك استغناؤه بريع الوقف؛ فإنه لا يزول بأخذها.
قلت: اللهم إلا أن يكون موقوفاً عليه بشرط أن يكون فقيراً فحينئذ لا فرق بينهما، [و] لما ذكره من الفرق كان المشهور من المذهب- كما قال-: أن الزوجة لا
يصرف لها من سهم الفقراء شيء؛ لأن استغناءها بالنفقة لا يزول بأخذها الزكاة. نعم، قال القفال: إن كانت لا تستغني بما تأخذه من النفقة؛ بأن كان لها من تلزمها نفقته، أي من رقيق، أو كانت مريضة، وقلنا: لا تستحق المداواة على الزوج، أو كانت كثيرة الأكل لا تكتفي بالقدر المستحق لها-[فلها] أخذها.
قلت: و] ينبغي أن يكون أخذها [حينئذ] من سهم [المساكين كما] قال الإمام. وعلى الأول لو نشزت لم يجز الصرف إليها، وإن كانت [لا] نفقة لها على الزوج؛ لأنها قادرة على إيجابها عليه بالعود إلى الطاعة، قاله القاضي الحسين وغيره، ونسبه الإمام إلى قول العراقيين، وقال الرافعي: إن به أجاب الشيخ أبو محمد. وقال في "التهذيب": إنه يجوز أن تعطي؛ لأنه لا نفقة لها.
قال: فيدفع إليهم ما تزول به حاجتهم؛ لأنه المقصود بدفع الزكاة إليهم، والدفع يكون من الثُّمن كما تقدم، فإن كفى بعضه فذاك، وألا استوعب.
قال: من أداةٍ يكتسب بها، أي من هو ذو صنعة منهم، وكذا يعطي ما يكفيه إلى أن تحصل له الأداة. قاله الإمام.
والأداة – بفتح الهمزة -: الآلة.
قال: أو مالٍ يتجر به، أي: من هو متعود بالجارة – و"يتجر": يقال بإسكان التاء وتشديدها – ولا مردَّ لما يدفع إليه من المال بسبب التجارة [إلا العادة، فإذا كان] البقلي يكتفي بخمسة دراهم، والباقلاني [يكتفي] بعشرة دراهم، والفاكهاني بعشرين، والخباز بخمسين، والبقال بمائة، والعطار بألف، والبزاز بألفي درهم، [والصيرفي بخمسة آلاف درهم]، والجوهري بعشرة
آلاف درهم- أعطي ذلك أو ما يتممه، كذا قاله الماوردي، ومفهومه: إذا كان واحداً ممن ذكرناهم يكتفي بأقل من ذلك أو لا يكتفي إلا بأكثر منه، كان قدر كفايته هو المعتبر، وعليه ينطبق قول غيره: إن المرجع في ذلك إلى عادته، حتى لو كان لا يحسن التجارة إلا بألف، أعطي ذلك.
وجعل في "البحر" كفاية من ذكرناهم مقدرة بالمبالغ المذكورة من غير نظر إلى العادة، وذلك يقتضي ألا يزاد عليها ولا ينقص وإن كان العرف على خلافها. ولا جرم قال بعضهم: إن ذلك ليس بشيء، بل المحكم فيها العرف.
ومن ليس من [أهل] الصناعة والتجارة، بل من المشتغلين بالعلم، ومن يستغلُّ الضّياع والعقار – يعطي ما يشتري به من العقار والضياع ما يكفيه غلته لنفسه وعائلته على الدوام.
[و] قال أبو العباس بن القاص في "المفتاح" – كما قال في "البحر"-: يعطي الفقير والمسكين ما يتمم له قوت [سنة له] ولعياله، ولا يزاد على ذلك؛ لأن الزكاة تتكرر بتكرر الأعوام، ولأنه – عليه السلام –كان يدخر لأهله قوت عام، وبهذا قال الغزالي والبغوي، وجزم به الرافعي في "المحرر" كذا قال في "الروضة".
وقد رجع حاصل الخلاف إلى [أن]: المعتبر كفايته عاماً، أو كفايته مدة حياته؟ لأنا إذا دفعنا له الآلة ورأس مال التجارة وثمن الضيعة كفيناه مؤنة عمره؛ لأن ما يحصل من ذلك وإن كان شيئاً فشيئاً يكفيه عند حاجته إليه؛ ولذلك قلنا: من يقدر على اكتساب ما يكفيه لنفسه ولعياله يوماً فيوماً، لا يصرف إليه من سهم الفقر والمسكنة شيء، والمنصوص: اعتبار كفاية العمر [الغالب] كما قال في "البحر" و"الروضة"، وكلام الجمهور عليه.
[و] في "التتمة" إشارة إلى رفع الخلاف وتنزيل الكلامين على حالين: إن
أمكنه إعطاء ما تحصل منه كفايته أعطاه، وألا أعطاه كفاية سنة. ورد عليه الرافعي بما لا يكاد يتجه.
وقد أبدى الإمام تردداً فيما إذا أراد أن يصرف الشخص الواحد [للفقير ما] يخرجه عن حد المسكنة دفعة واحدة: هل يجوز أم لا؟ فقال: [يحتمل أن يقال]: له ذلك، ويجوز أن يقال: لا يدفع إلى الفقير من سهم الفقراء إلا أقل القليل، والمرعيّ أن يخرج عن حد الفقر، فإذا صار إلى حد المسكنة، صرف إليه تتمة [الكفاية من سهم المسكنة، قال: وهذا الالتفات على أكل الميتة؛ فإنا قد نقول: يرعى غاية الضرورة في] الإقدام على الأكل ثم تردد الرأس] في أنه هل يزيد على سد الرمق، والأشبه عندي بالقواعد: جواز الصرف له كفايته. نعم، لو صرف له ما أخرجه عن حد الفقر، ثم رام غيره أن يصرف له تتمة كفايته – [فلا يعطيه إلا من سهم المسكنة، ولو رام هو بعينه أن يصرف إليه تتمة كفايته][من سهم الفقراء – والتفريع على أن له أن يعطيه][كفايته] دفعة واحدة منه – فهل يجوز؟ قال: هذا فيه تردد فإنه؛ يجوز أن يمتنع في دفعتين لتعدد الفعل وتميز الآخر عن الأول، ويجوز أن ينظر إلى اتحاد الدافع. قال: ولا شك أن ذلك في زكاة السنة الواحدة، فإذا تعددت السنة وفي يد الفقير بعينه مما كان أخذ ما يخرجه عن حد الفقر، فلا يعطي ذلك الشخص بعينه إلا من سهم المسكنة. والله أعلم.
قال: فإن عرف رجل بالغنى، ثم ادعى الفقر لم يدفع إليه إلا ببينة؛ لأن الأصل بقاء غناه، وما ادعاه يمكن إقامة البينة عليه فكلف إقامتها، ثم البينة إن شهدت بتلف ماله الذي عرف غناه به كفى فيها –كما قال الماوردي – شاهدان، أو شاهد [واحد] وامرأتان، ولا يشترط أن يكونا من أهل الخبرة الباطنة، وإن شهدت البينة بفقره فلابد أن تكون من أهل الخبرة الباطنة بحاله، وفي عددها وجهان في "الحاوي":
أحدهما: اثنان ذكران.
والثاني: ثلاثة، وهو المذكور في "الإبانة" و"التتمة" كما ستعرفه في باب التفليس، وثمّ حكينا عن الإمام تزييفه، ووجهاً آخر عن رواية الشيخ أبي علي فليطلب منه.
أما إذا لم تعرف حاله، وادعى الفقر – قبل قولهن قال البندنيجي: بغير يمين؛ لأن دعواه موافقة للأصل، وقال في "التتمة": إن في قبول قوله من غير يمين، الوجهين الآتيين فيما إذا رآه قوياً وادعى أنه لا كسب له.
والفقر: بفتح الفاء، وضمها.
قال: والثالث: المساكين؛ [للآية]، وهم الذين يقدرون على ما يقع موقعاً من كفايتهم ولا يكفيهم، أي: مثل أن يحتاج الواحد منهم إلى عشرة وهو يقدر على سبعة أو ثمانية، [إما بتجارة] أو بصناعة أو من أجرة ضيعة، ونحو ذلك، هكذا فسره الأصمعي واختاره الشافعي – رحمه الله – ولا فرق عنده بين أن يكون ما يملكه من المال نصاباً من الأثمان أو أكثر منه، حال عليه الحول أو لا، فتؤخذ منه الزكاة ويصرف له من الزكاة، ولا فرق بين أن يكون ممن يسأل أو لا، وقد نقل المزني أنه قال في القديم:"المسكين: هو الذي يسأل"، فأفهم [أن] في المسألة قولين.
قلت: ويدل على ما قاله في القديم، قوله – عليه السلام في الحديث الذي أخرجه البخاري ومسلم من رواية أبي هريرة – رضي الله عنه:"ليس المسكين الذي تردّه التمرة والتَّمرتان والأكلة والأكلتان؛ ولكنّ المسكين الذي لا يسأل النَّاس شيئاً، ولا يفطنون [به] [فيعطونه] "؛ لأنه لو لم يكن المسكين عندهم هو
السائل لم ينفه – عليه السلام – [ونفي رسول الله صلى الله عليه وسلم] اسم المسكنة عنه؛ لأنه بمسألته تأتيه الكفاية، وقد تأتيه زيادة عليها؛ فسقط اسم المسكنة.
والأكلة في الحديث: بالضم، وهي اللقمة، وهي بالفتح: المرة الواحدة مع الاستيفاء.
والذي عليه أكثر الأصحاب: أن المسألة ليست على قولين، بل على قول واحد وهو الأول، وقول الشافعي – رحمه الله:"إن المسكين هو السائل"، أراد به أن الغالب ممن يسأل أنه يجد شيئاً.
وإذ [قد] عرفت حد [الفقير والمسكين] عرفت أن الفقير عند الشافعي – رحمه الله –أشد حالاً من المسكين، وعكسه أبو إسحاق المروزي فقال: المسكين أشد حالاً من الفقير، وبه قال الفراء والقتبي؛ لقوله تعالى:{أَوْ مِسْكِيناً ذَا مَتْرَبَةٍ} [البلد: 16] أي: ألصق جلده بالتراب للعجز وغير ذلك، وحجة الشافعي – رحمه الله – قوله تعالى:{أَمَّا السَّفِينَةُ فَكَانَتْ لِمَسَاكِينَ يَعْمَلُونَ فِي الْبَحْرِ} [الكهف: 79] فأثبت لهم ملكاً، وبدأ الله تعالى – في الآية بالفقراء، وعادة العرب البدأة بالأهم فالأهم؛ ولأن "الفقر" مشتق مما ذكرناه، و"المسكنة" مشتقة من التمسكن" وهو الخضوع، أو من "السكون"؛ لأن له شيئاً يسكن إليه، [وأيَّاً ما] كان فهو أخف حالاً من الأول.
قال الأصحاب: والخلاف المذكور لا تظهر له فائدة في الزكاة؛ فإنه لابد من إعطاء الصنفين، وإنما يظهر فيما إذا أوصى للفقراء [بمائة وللمساكين بخمسين، أو بالعكس، أو أوصى للفقراء] دون المساكين، أو بالعكس، أو نذر التصدق على الفقراء دون المساكين، أو بالعكس، [أو وقف على نحو ذلك]، وألا فهو لو أوصى أو وقف أو نذر التصدق على الفقراء أو المساكين [جاز أن يصرف إلى الصنفين، وجاز أن يصرف للفقراء فقط وإن ذكر المساكين،] وللمساكين فقط وإن ذكر الفقراء، كما
قدمنا حكايته عن رواية القاضي أبي الطيب.
وفي "تعليق" البندنيجي هنا: أنه إذا أوصى للفقراء أو المساكين جاز أن يصرف إليهما، والذي وقع النص عليه لا يخرج عن العطية، وقد يؤخذ ذلك من قول الشافعي – رحمه الله – الذي حكاه القاضي الحسين: هما اسمان يفترقان إذا اجتمعا، [ويجتمعان إذا افترقا]؛كما في اسم البائع والمشتري، وكما في اسم الفيء والغنيمة.
وقال القاضي الحسين بعد حكايته جواز الصرف للصنفين عند الإضافة إلى أحدهما: وفي قلبي من هذا غصة، ولم أره للشافعي – رحمه الله – وعندي أنه إذا أوصى للفقراء لا يصرف إلى المساكين، ولو أوصى للمساكين جاز أن يعطي لهما جميعاً. وهذا قد حكاه غيره عن أبي إسحاق كما ستعرفه [في موضعه].
قال: فيدفع إليهم ما يتم به الكفاية، أي: من الثُّمن، فإن لم يحصل إلا بجميعه دفع إليهم.
فعلى هذا قال البندنيجي وغيره: يعطي من يحتاج في كل [يوم] إلى عشرة [ومتحصَّله ثمانية ما يتمم له العشرة]، فإن كان صانعاً [أعطي ما يتم له ذلك إلى نهاية عمره، وإن كان تاجراً] أعطي من المال ما يحصل له من ربحه تمام العشرة وإن كان يملك ألف دينار، وإن كان ممن يستغلّ العقار أعطي ما يشتري به عقاراً يتمم بريعه العشرة. وإن كان الواحد منهم لا يستقل بنفسه ما لم يخدم، وكان له خادم-فقد قال الشيخ أبو محمد: إنه غير محسوب عليه إذا لم يكن نفيساً، وكذلك لا يحسب [عليه] مسكنه الذي يأويه ويأوي عائلته كما قلنا: إنه لا يباع ذلك في الكفارة المرتبة، وقال الإمام: إن ذلك ظاهر في المسكن، وكذا
الخادم الذي يحتاجه لضعف بدنه أو ضعف بصره، أما إذا كان يحتاجه لكونه مخدوماً [لمروءته] ومرتبته في النسا، بحيث لو تكلف خدمة نفسه لانخرمت مروءته- ففيه بعض النظر، ولا يمتنع [أن يفرق] الفارق بين ما نحن فيه والكفارة؛ لأن الكفارات يتطرق إليها توسعات من أدناها! أنها لا تثبت على الفور، وليس في الانتقال من أصل إلى بدل إسقاط الكفارة رأساً، والزكاة مثبتة؛ لشدة [الحاجة] في الفقير والمسكين.
ولو كان له كتب فقه [هو محتاج] إليها فقد قال في "الإحياء": إنها لا تخرجه عن المسكنة ولا تلزمه زكاة الفطر، وحكم كتابه حكم أثاث البيت؛ لأنه محتاج إليه، لكن ينبغي أن يحتاط في الحاجة إلى الكتاب؛ فالكتاب يحتاج إليه لثلاثة أغراض: التعليم، والتفرج بالمطالعة، والاستفادة:
فالتفرج لا يعد حاجة: كاقتناء كتب الشعر والتواريخ ونحوها مما لا ينفع في الآخرة ولا في الدنيا، فهذا يباع في الكفارة وزكاة الفطر ويمنع اسم المسكنة.
وأما حاجة التعليم: فإن كان للتكسُّب كالمؤدّب والمدرّس بأجرة فهذه آلته؛ فلا تباع في الفطرة كآلة الخياط، وإن كان يدرس للقيام بفرض الكفاية لم تبع ولا تسلبه اسم المسكنة؛ لأنها حاجة مهمة.
وأما حاجة الاستفادة والتعلم من الكتاب كادّخاره كتاب طب ليعالج به نفسه أو كتاب وعظ ليطالعه ويتعظ به، فإن كان في البلد طبيب وواعظ فهو مستغنٍ عن الكتاب، وإلا فهو محتاج، ثم ربما لا يحتاج إلى مطالعته إلا بعد مدة؛ فينبغي أن
يضبط فيقال: ما لا يحتاج إليه في السنة فهو مستغن عنه، [وحاجته] بأثاث البيت وثياب البدن مقدرة بالسنة، ولا تباع ثياب الشتاء في الصيف، ولا ثياب الصيف في الشتاء، والكتب بالثياب أشبه، وقد يكون له من كتاب نسختان فيكتفي بالأصح منهما. نعم، لو كان له من علم واحد كتابان: أحدهما مبسوط، والآخر وجيز: فإن كان مقصوده الاستفادة فليكتف بالبسيط، وإن كان قصده التدريس احتاج إليهما.
قال في "الروضة": وما قاله حسن إلا في كتاب الوعظ أنه يكتفي بالواعظ، فليس بمختار؛ لأنه ليس كل أحد ينتفع بالواعظ كانتفاعه في خلوته [و] على حسب إرادته.
وقد شرع الإمام بعد ذلك في بيان ما تندفع به حاجة المسكين، فقال كلاماً يختص بعضه بالفقير فاعرفه لتلحقه بموضعه، وصورته: المسكين: يأخذ بعضه إلى الاكتفاء والانتهاء إلى مبلغ يفي [فيه] دخله بخرجه، ثم لا ينظر في هذا إلى ما يكفيه مدة [عمره] أو سنةً؛ فإن الذي يملك عشرين ديناراً لو كان يتَّجر ودخله من الربح لا يفي [خرجه، فهو من المساكين في الحال، وإن كان ما في يده يكفيه لسنة فالمرعيّ أن يتموَّل مقداراً ينتظم له منه دخلٌ يفي] بخرجه على ممر الزمان، وإن كان لا يحسن تصرفاً فالأقرب في ذلك: أن يملَّك ما يكفيه في العمر الغالب. كذا أشار إليه شيخي، وفيه يما ينبو عنه القلب؛ فإنه إذا كان [له] خمس عشرة سنة وقد يحتاج في السنة إلى عشرة، فما ذكرناه يؤدي إلى أن يجمع له مالاً جمًّا لا يليق بقواعد الكفايات في مطرد العادات؛ فالقريب من الفقه أن نقول: إن كان يحسن التجارة ملَّكناه مقداراً يرد عليه التصرف فيه ما يكفيه، ثم لا يحطه من الكفاية شيئاً، ولكن يكتفي بما يراه أدنى درجات الكفاية.
وإن كان ممن لا يتصرف ولا يتجر فقد يتمكن من نصب عامل يحسن التجارة؛ فيرجع الترتيب إلى ما تقدم، وإن عسر هذا وأمكن تصوير العسر فيه فالظاهر عندي: ألا يزاد على نفقة سنة؛ فإن للسنة اختصاصاً بالزكاة فإنها تبج في السنة مرة، وهي في كفاية المحتاجين تنزل منزلة النفقة الحاجية في كفاية من [ينفق] الإنسان عليه، وقد صح عن رسول الله صلى الله عليه وسلم أنه كان يدَّخر لأهله قوت سنة.
وسنذكر في الأطعمة أو حيث يتفق: أن المجاعة إذا عظمت فلا يدخر الإنسان لنفسه وعياله إلا قوت سنة؛ فيجب التعويل على هذا، وما ذكره من اعتبار السنة قد قدمنا حكايته عن غيره، وما ادعاه من أنها في كفاية المتحاجين تنزل منزلة النفقة الحاجية أخذه من كلام القاضي الحسين؛ فإنه قال ذلك، وقال في أوائل كتاب الزكاة: إنه قيل: لو أخرج الأغنياء جميع ما يجب عليهم من حقوق الله تعالى، ولا يزيد الفقراء في السؤال على قدر الحاجة- ما بقي في الدنيا خلَّة إلا وقد انسدّت.
قال: فإن رآه قويّاً، وادعى أنه لا كسب له، أي: واتهمه - أعطاه من غير يمين، أي بعد وعظه وتخويفه، لما روي: أن رجلين أتيا رسول الله صلى الله عليه وسلم في حجة الوداع وهو يقسم الصدقة، فسألاه منها، فرفع فيهما النظر وخفضه، فرآهما جلدين، فقال:"إن شئتما أعطيتكما، ولاحظ فيها لغنيّ ولا لذي قوّةٍ مكتسب"، أخرجه أبو داود، ورواه الطحاوي في "بيان المشكل". ووجه الدلالة منه: أنه لم يعلق إعطاءه بحلفهما، وهذا أصح في "التهذيب".
وقيل: يعطي بيمين؛ لأن الظاهر أنه مكتسب وأنه لا يستحق، وهذا ما أورده العراقيون، وقال الرافعي: إن من الأصحاب من يقول: تحليفه عند التهمة واجب أو مستحب؟ فيه وجهان، قال: ويشبه أن يكون المراد منهما شيئاً واحداً، لكن الغزالي في "الوسيط" جمع بينهما، فقال – تبعاً للإمام – في تحليفه وجهين: إن حلفناه فهو
واجب أو مستحب؟ [فيه] وجهان، ثم إن أوجبنا اليمين فنكل لم يعط، وإن قلنا: إنها مستحبة، فيجوز أن يعطين وإن رآه ضعيفاً لكبر سنه أو نحافة بدنه أعطاه من غير يمين، قولاً واحداً.
قال: وإن ادعى عيالاً، أي: ولا يفي ماله بكفايته وكفايتهم – لم يقبل إلا ببينة؛ لأن الأصل عدم العيال، ويمكنه إقامة البينة على ذلكن وهذا ما أورده البغوي، وقال الرافعي: إنه الأظهر، وحكى القاضي أبو الطب وغيره وجهاً آخر: أنه يقبل قوله من غير بينة؛ كما يقبل قوله في أنه فقير، قال الماوردي: وعلى هذا فلابد من يمينه وجهاً واحداً؛ لأنه يستزيدها على حق نفسه، والله أعلم.
قال: والرابع: المؤلفة، أي: إن احتيج إليهم كما [قال] في "المختصر"؛ لقوله تعالى: {وَالْمُؤَلَّفَةِ قُلُوبُهُمْ} [التوبة: 60][والمؤلف: تؤلِّف واستميل] بالعطاء؛ نظراً لإصلاح المسلمين، ولهذا سموا: مؤلفة.
قال: وهم ضربان، أي المؤلفة من حيث هي مؤلفة على عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم؛ لأن المؤلفة التي هي أحد الأصناف الثمانية ضربان؛ لأن أحد الضربين – كما قال – مؤلفَّة الكفار، وليسوا ممن يأخذون الزكاة كما ستعرفه. والضَّرب: الصنف من الشيء.
قال: مؤلفة الكفار، ومؤلفة المسلمين، فأما مؤلفة الكفار فضربان: من يرجى إسلامهن أي لحسن نيته في الإسلام، ومن يخاف شره، أي في الإقامة أو السفر، ولا يقدر الإمام على دفعه.
قال: فيعطون؛ لأن النبي صلى الله عليه وسلم أعطى صفوان بن أمية وعامر بن الطُّفيل، وهما من الضرب الأول، والمعنى فيه تقوية نيتهما في الإسلام حتى يسلما، وأعطى عامر ابن الطفيل وقد كان ذا غلظة على المسلمين، ولذلك [قتل] أهل بئر معونة، وكان – عليه السلام – يتألفه، فأتى المدينة وقال: يا رسول الله، شاركني في أمرك وكن أنت على المدر وأنا على الوبر فقال:"لم يجعل الله ذلك لي"، قال: والله، لأملأنّها عليك خيلاً
ورجالاً، فقال النبي صلى الله عليه وسلم:"يأبي الله [ذلك، وأبناء قيلة" يعني الأنصار، فخرج من عنده بأخبث نية؛ فأخذته [غدَّةٌ مات بها].
وهذان من] الضرب الثاني، والمعنى في إعطائهم: الانكفاف عن الشر.
وإذا ثبت أنه – عليه السلام – دفع إليهم لهذا المعنى وهو موجود اتبعناه؛ لأن لنا فيه أسوةً حسنة.
قال: من خمس الخمس؛ لأنه لا سبيل إلى إعطائهما من الزكاة لكفرهم – كما ستعرفه – ولا من أربعة أخماس الفيء والغنيمة؛ لأنه للمقاتلة، وليسا منهم، فتعيّن الصرف من خمس الخمس؛ لأنه مرصدٌ للمصالح، وهذا منها.
وللشافعي – رحمه الله – قول آخر، حكاه في "المهذب" وغيره، وصححه الرافعي: أنهم لا يعطون منه أيضاً؛ لأن الله قد أعز الإسلام وأهله بما أعطاهم من قوة وزادهم من قدرة، [عن أن يتألفوا] بأموالهم شركاء، وقد روي عن عمر – رضي الله عنه – [أنه] قال حين سأله رجل من المشركين شيئاً من المال، فلم يعطه. "إنا لا نعطي على الإسلام شيئاً، فمن شاء فليؤمن ومن شاء فليكفر"، وفيه إشارة أن
النبي صلى الله عليه وسلم إنما دفع؛ لأن الإسلام كان ضعيفاً والشرك قويًّا.
قال الأصحاب: ولأنه يحتمل أن يكون إنما أعطى من خمس الخمس؛ لأنه كان [له أن] يصرفه [حيث] شاء.
قال الرافعي: وقد أشار بعضهم إلى رفع الخلاف، فقال: لا يعطون إلا أن ينزل [بالمسلمين] نازلة وتمس الحاجة إليهم.
قال: ومؤلفة المسلمين ضربان، أي: وكل ضرب منهما يشتمل على ضربين:
فالأول - كما قال – [ضرب] لهم شرفٌ يرجى بعطيتهم إسلام نظرائهم، أي: أمثالهم؛ لأن النظير: المثل، وكذا النظر، بكسر النون وإسكان الظاء.
وقوم يرجى [حسن] إسلامهم، أي: ولهم أيضاً شرف، وإن لم يعطوا ربما أفضى بهم ضعف نياتهم إلى الردة.
قال: وكان النبي صلى الله عليه وسلم يعطيهم، أي: يعطي ضربي هذا الضرب؛ لأنه أعطى الزبرقان بن بدر وعدي بن حاتم، وهما من الضرب الأول منه، وأعطى صفوان بن أمية والأقرع بن حابس وعينة بن حصن، كلاّ منهم مائة من الإبل، وهم من الضرب الثاني منه.
قال: وأما بعده ففيه، [أي: في هذا الضرب]، ثلاثة أقوال:
أحدها: لا يعطون؛ لما ذكرناه في مؤلفة الكفار، وقد روي أن [عمر و] عثمان وعليا – رضي الله عنهم – لم يعطوه شيئاً.
وهذا ما ادعى الرافعي أن الشيخ أبا حامد في شرذمة صححوه.
والثاني: يعطون من سهم المؤلفة؛ للآية؛ واقتداء بأبي بكر – رضي الله عنه – فإنه دفع لعدي بن حاتم الطائي حين أتاه بثلاثمائة بعير من صدقات قومه، ثلاثين بعيراً ليتألف بها قومه، قال الأئمة: والظاهر: أنه أعطاه [من الزكاة، وهذا ما صححه النواوي.
والثالث: يعطون] من خمس الخمس؛ لأنه مرصدٌ للمصالح، وهذه مصلحة.
قال الماوردي: وعلى القولين يعطون [مع الغني والفقر].
وحكى الإمام عن صاحب "التقريب" أنه أجرى في إعطاء من يرجى حسن إسلامهم – إذا قلنا به – الأقوال الآتية في الضرب الآخر، ويجري القولان المذكوران في الكتاب في أنهم يعطون من سهم المؤلفة، أو من خمس الخمس – كما قال الفوراني – فيمن هو شريف في قومه غير صادق النية في القتال والجهاد.
قال: وفيه قول ثالث: أنه يجوز أن يعطي من الصدقات من سهم سبيل الله لا من سهم المؤلفة.
قال: وضربٌ في طرف بلاد الإسلام، أي وهم ضربان – كما تقدم -:
قوم إن أعطوا دفعوا – أي بالقتال – الكفار أو البغاة أو المرتدين الذين بجوارهم، عن المسلمين، أي: الذين بجوارهم وضعفوا عن دفعهم. وإن لم يعطوا لم يدفعوا: إما لفقرهم، وإما لضعف نيتهم في الإسلام – كما قاله الماوردي – [واحتاج الإمام إلى مونة ثقيلة لتجهيز جيش لهم حتى يندفعوا عنهم.
وقوم إن أعطوا جَبَوْا الصدقات ممن يليهم، أي: بالقتال كما قال الماوردي] أو بغير قتال، بل لشدتهم وخوفهم منهم كما قاله غيره، وإن لم يعطوا لم يجبوها، واحتاج الإمام إلى مؤنة ثقيلة لتجهيز من يجيبها منهم، وهذا الضرب يعطي بلا خلاف، لكن من أي شيء؟
قال الشيخ: ففيهم أربعة أقوال:
أحدها: يعطون من سهم المؤلفة؛ لأنهم يتألَّفون على ذلك؛ فدخلوا في الآية.
والثاني: من خمس الخمس؛ لأنه مرصدٌ للمصالح، وهذا منها.
والثالث: من سهم سبيل الله؛ لأنهم غزاة ٌ أو يجرون مجرى الغزاة.
والرابع: من سهم المؤلفة وسهم سبيل الله؛ لأنهم جمعوا معنى الفريقين، وهذا هو المنصوص، كما قال في "المهذب" والقاضي الحسين.
وقال الماوردي: إنه معلولٌ؛ لما فيه من الجمع في دفع الصدقة بين سهمين بسببين.
واختلف أصحابنا لأجل ذلك في هذا القول على ثلاثة أوجه، حكاها البندنيجي وابن الصباغ وغيرهما:
أحدها: أنه جواب على القول الذي جوز الشافعي – رحمه الله – فيه إعطاء الشخص الواحد من الزكاة الواحد بسببين من سهمين إذا كانا فيه موجودين، فأما على القول الذي يمنع فيه من ذلك فلا يعطون إلا من أحد السهمين.
قلت: وهذا منهم يقتضي أن للشافعي – رحمه الله – قولين منصوصين في جواز الصرف للشخص الواحد بالسببين إذا اجتمعا فيه.
والقاضي أبو الطيب حكى عن النص المنع، وجعل الجواز قولاً مخرجاً من نصه هنا، وكذلك الإمام ادعى أن ظاهر المذهب المنع، وأن الجواز وجه حكاه صاحب "التقريب"، وعلى هذه الطريقة إذا قلنا: إنه لا يجوز أن يصرف للشخص الواحد بسببين، لا يكون في مسألة الكتاب إلا الأقوال الثلاثة الأول.
والوجه الثاني: أن هذا القول جارٍ سواء قلنا بجواز الصرف بسببين إلى شخص واحد أو لا؛ لأن السببين هاهنا لحاجتنا فكانا كالسبب الواحد، والقولان في جواز الصرف للشخص الواحد بالسببين، إذا كانا لحاجته، ولو كان أحدهما لحاجته والآخر لحاجتنا: كالمسكين غرم لإصلاح ذات البين، أعطى له بهما [كما] حكاه الإمام عن رواية صاحب "التقريب"، وعلى هذه الطريقة فهل يتعين ذلك أم الأمر [مفوَّضٌ] إلى [رأي] صاحب الأمر؟ فيه خلاف، ولعل الأصح الثاني، قاله الإمام.
والوجه الثالث: أنه منزل على حالين:
فمن قاتل منهم المشركين أعطي من سهم الغزاة.
ومن قاتل منهم مانعي الزكاة أعطي من سهم المؤلفة.
قال الماوردي: والأصح عندي في هذا القول الرابع – غير هذه الأوجه الثلاثة -: أنه يجمع لهذه الأصناف كلها بين سهم المؤلفة وبين سهم سبيل الله في الجملة، إلا أن الشخص الواحد لا يجوز أن يعطي من السهمين، لكن يعطي بعضهم من سهم المؤلفة ولا يعطي من سهم سبيل الله [ويعطي بعضهم من سهم سبيل الله ولا يعطي من سهم المؤلفة]؛ فيكون الجمع بين السهمين للجنس العام، والمنع من الجمع بينهما للشخص الواحد، وهذا أصح ما يحمل عليه هذا القول.
قلت: وكلام أبي الطيب منطبق عليه؛ حيث قال: وقال بعض أصحابنا: إنما أراد الشافعي – رحمه الله –أن بعضهم يعطي من سهم سبيل الله وبعضهم [يعطي] من
سهم المؤلفة، ولم يرد أنه يجمع بينهما لشخص واحد، وعلى هذا فالخيرة [إلى الإمام].
وقد حكى الرافعي أن من الأصحاب من قال: يتخير الإمام إن شاء أعطاهم من هذا السهم، وإن شاء أعطاهم من الآخر، وربما قيل:[و] إن شاء جمع لهم بني السهمين. وهو ما أورده في "الوجيز"، وقد حكيناه من قبل، وحكى وجه آخر في أصل المسألة: أن المتألف لقتال امنعي الزكاة وجمعها يعطي من سهم العاملين، والذي جزم به الفوراني وصححه النواوي: إعطاؤهم من سهم المؤلفة.
وقال الرافعي: إن قياس من صار إلى ترجيح منع الصرف إلى الضَّرب قبله – وهو الشيخ أبو حامد وشرذمة كما قدمناه -: [أن يرجح][عدم إعطاء] هذا الضرب من الزكاة؛ لأن الأول أحق باسم المؤلفة وسهمهم من هذا الضرب؛ لأن فيه معنى الغزاة والعاملين.
وكذلك اختلفت الأقوال في أنهم من أين يعطون؟ وحينئذ يسقط سهم المؤلفة بالكلية، وقد أطلق القول به من متأخري الأصحاب: القاضي الروياني وجماعة، [إلا أن] الموافق لظاهر الآية ثم ليساق كلام الشافعي والأصحاب إثبات [سهم المؤلفة، وأنه [يستحقه] الصنفان الأولان اللذان جمعهما أحد ضربي مؤلفة المسلمين، وأنه يجوز] صرفه إلى الآخرين أيضاً، وبه أجاب الماوردي في "الأحكام السلطانية".
وسلك بعضهم طريقاً آخر، فقال: مما ينتبه له [أنه لا يعتقد] أن للشافعي قولاً بحرمان جميع ضربي مؤلفة المسلمين من الزكاة، وإن ذكر في كل منهما قولين؛ لأن في ذلك إبطالاً لنص الآية، ولكن متى ذهب إلى منع ضربٍ صار إلى إعطاء الضرب الآخر.
فرع: من ادعى أنه من المؤلفة فلا [يجوز أن] يعطي إلا بإقامة البينة على أنه
منهم، وأن في تأليفه مصلحة للمسلمين، كذا قاله [القاضي] أبو الطيب وغيره، وقال القاضي الحسين: إنه لايحتاج إلى بينة ولا يمين إذا ادَّعى ضعف الإسلام في قلبه، ويعطي؛ لأنه لا يقول ذلك إلا وهو ضعيف الإسلام.
وقد حكى أبو الفرج هذا عن صاحب "التلخيص"، وذكر أن من الأصحاب من أطلق الجواب بأنه يطالبه بالبينة، كما ذكرناه.
قال: والخامس: الرقاب؛ لقوله تعالى: {وَفِي الرِّقَابِ} [التوبة: 60].
قال: وهم المكاتبون؛ لأن قوله: {وَفِي الرِّقَابِ} يقتضي أن تصرف الصدقة إلى الرقاب، [كما أن قوله تعالى:{وَفِي سَبِيلِ اللَّهِ} [التوبة: 60]، يقتضي الصرف إلى المجاهدين ويملكونها، وإنما يصح الصرف إلى الرقاب] أنفسها إذا حملت على المكاتبين أو غيرهم من الأرقاء الذين لا يملكون.
فإن قيل: "الرقاب" جمع "رقبة"، و"الرقبة" حيث أطلقت في كتاب الله أريد بها غير المكاتب من الرقيق؛ فكان الظاهر من الآية أن يشتري بالثمن من يبتدأ عتقه.
فجوابه: أن اسم "الرقاب" يقع على العبيد والمكاتبين، وحملنا مطلق "الرقبة" في الكفارة على غير المكاتب؛ لأنه قد اقترن بها ما يدل على ذلك وهو قوله:{فَتَحْرِيرُ رَقَبَةٍ} [المجادلة: 3]، وهنا دلت القرينة على أن المراد ما ذكرناه؛ لأن كل من أخرج صدقة لم يجز أن تعود إليه منفعتها، يدل عليه أنه لا يجوز أن يصرف صدقته لقريبه الفقير الذي تجب عليه نفقته، وإذا كان كذلك فلو قلنا هنا: إنه يشتري بالثمن رقاباً ويبتدئ عتقهم، لكانت منفعته عائدة إليه؛ لأنه يثبت له عليه الولاء ولا يرد على ذلك جواز صرفها [لمعسر] له عليه دين، وإن كان يقضيه دينه [منه] ومنفعته تعود إليه؛ لأن دينه لم يتجدد، فإذا قبض منه رجع إليه المال من وجه آخر، وليس كذلك هاهنا؛ لأن الولاء إنما يثبت بالعتق؛ فالمنفعة تعود إليه بذلك المعنى، والله أعلم.
قال: فيدفع إليهم ما يؤدون في الكتابة عن لم يكن معهم ما يؤدون؛ لأن حاجتهم
المقتضية للدفع إليهم [إذ ذاك] تتحقق، وقد [أفهم كلام الشيخ أنه لا] يشترط أن يكون غير قادر على اكتساب ما يؤديه فيها بصناعته وهو وجه حكاه الرافعي، وادعى أنه الأشبه، وهو جار في الغارم في حق نفسه إذا قدر على اكتساب ما عليه.
قال: والفرق بينه وبين الفقير والمسكين، حيث لا يعطي إذا كان قادراً على تحصيل كفايته بالاكتساب: أن حاجتهما تتحقق يوماً بيوم، والكسوب يحصِّل في كل يوم ما يكفيه وإنما يقدر على اكتساب ما يقض به الدين بالتدريج.
ومقابله هو الذي أورده الماوردي فقال: لو كان قادراً على ذلك باكتسابه لم يعط كما لو كان قادراً بمال معه.
وحيث يحوز الدفع إليه فلا يتوقف على إذن السيد، ويتوقف الدفع إلى السيد على إذن المكاتب، فلو دفع إله قبل إذن المكاتب لم يعتد به عند الجمهور، وقال [في] "الحاوي": إن كان النجم قد حل جاز الدفع إلى السيد بأمر المكاتب وبغير إذنه.
قلت: وهو ظاهر النص؛ حيث قال: وإن دفع إلى سيده كان أحب إليَّ.
وقد استحب بعضهم الدفع إلى السيد لأجل هذا النص، [ولم يورد نصر المقدسي غيره]، لكن بإذن المكاتب.
وقال البندنيجي: إن في النص تفصيلاً: فإن كان الذي يعطيه كل ما [كان] عليه، فالمستحب أن يدفعه إلى سيده بإذن المكاتب؛ لأنه أعجل لعتقه، وإن كان دون ما عليه دفعه إلى المكاتب [ليتجر] فيه، ولو أراد المكاتب أن ينفقه منع منه، قاله أبو الطيب وابن الصباغ.
وفي "النهاية": أن الخيرة إلى المكاتب في توفية النجم: إن شاء وفاه مما اكتسبه، واستنفق ما قبض من الصدقة، وإن شاء سلم ما قبضه من الصدقة.
ثم ظاهر كلام الشيخ أنه لا فرق في الدفع إليه ليؤدي ما عليه وبين أن يكون [ما] عليه النجم الأخير أو الأول، وهو المذكور في "الحاوي"، و"تعليق" البندنيجي.
وكذا لا فرق بين أن يكون النجم قد حل أو لا، وهو الظاهر من الوجهين في غيره؛ لأنه إذا قبض قبل محل النجم أمكنه إجبار السيد على قبضه، وأمكنه الاتجار فيه، كما قاله البندنيجي، وهو ظاهر فيما إذا دفع إليه دون ما عليه، و [عليه] ينطبق قول الرافعي: للمكاتب أن يتجر فيما يأخذه طلباً للزيادة وإيفاء لتمام النجوم، كذا حكاه صاحب "الإفصاح" وآخرون.
قال: والغارم كالمكاتب، وقيل: لا يدفع إليه من النجم شيء قبل حلوله؛ لأنه غير محتاج إليه.
قال: ولا يزادون على ما يؤدون؛ لعدم الحاجة [إليه]، فإن كان يحتاج إلى ألف ومعه ثمانمائة، لم يعط أكثر من مائتين، ولو لم يكن معه من الألف شيء لم يعط غير الألف نعم، لو دفعنا إليه ذلك، فأعتقه السيد، أو أبرأه عن النجوم قبل قبضه ما دفع للمكاتب، [أو أدى] أجنبي عن المكاتب النجوم متبرعاً – فهل يسترد من المكاتب ما قبضه إن كان باقياً، وبدله إن كان تالفاً؟ فيه خلاف تقدم، ولو تلف في يده مع استمراره على الكتابة وقع الموقع، قاله في "الروضة".
ولو عاد إلى الرق بتعجيز السيد له فلا خلاف في أنه يسترد [منه] ما قبضه إن كان باقياً في يده، وكذا بدله إن كان تالفاً، على أصح الوجهين في "الرافعي"، وادعى الإمام أنه متفق عليه، وقال الماوردي: إن كان تلفه قبل إمكان دفعه إلى سيده فلا ضمان عليه ولا على سيده؛ لأنه كالمؤتمن على أدائه، وإن كان قد أتلفه ضمنه وإن
كان قد تلف بنفسه بعد إمكان دفعه إلى السيد: فإن كان بعد أن حل النجم ضمنه أيضاً ضمان المغصوب؛ لعدوانه بتأخير الأداء، وإن كان النجم لم يحل بعد فهل يضمنه؟ فيه وجهان من اختلاف الوجهين في جواز الدفع إليه قبل الحلول: فإن [قلنا يجوز، ضمنه؛ لأن جعل كالحال في جواز الدفع إليه، فإن] قلنا: لا يجوز، لم يضمنه.
وهذا كله إذا كان التلف قبل التعجيز فلو كان بعده وبعد إمكان الرد [على من دفعه إليه من رب المال أو الساعي ضمنه أيضاً، وإن كان قبل إمكان الرد] لم يضمنه المكاتب؛ لأنه ما قبضه لنفسه ما كان متعدياً في حبسه، وهل يكون مضموناً على سيده؟ فيه وجهان:
حيث ضمناه قال الرافعي: فالضمان يتعلق بذمته لا برقبته، [لأن المال حصل عنده برضا صاحبه، وهذا ما صححه في "الروضة"، وقال الإمام: إنه يتعلق برقبته]، وليس كما لو اشترى العبد شيئاً فتلف في يده؛ فإن بائعه رضي بذمته فكان مؤاخذاً بحكم رضاه، والذي سلم إلى المكاتب لم يكن عوضاً، وإنما كان الأمر فيه موقوفاً على ما يتبين، وقد بان أنه لم يقع.
وقال في "الحاوي": إن تلف ضمنه ضمان المغصوب، ويقدم على ديون المعاملات، فإن ضاق ما في يده عن غرمه ضمنه في رقبته، وإن تلف بآفة سماوية؛ حيث يضمنه [ضمان] المغصوب.
لكنه إذا كان أتلفه بعد التعجيز [كان الضمان في رقبته دون ما بيده؛ لتقدم استحقاق ما بيده في معاملاته، ولو حصل التعجيز] بعد ما قبض السيد من
المكاتب ما دفع إليه من الزكاة، فهل يسترد منه إن كان باقياً، أو بدله إن كان تالفاً؟ فيه طرق:
[إحداها – وهي المذكورة] في كتب العراقيين -: حكاية وجهين فيه.
والثانية – حكاها الصيدلاني -: القطع بعدم الاسترداد، [قال الإمام: وهذه الطريقة في حالة التلف أولى.
والثالثة- قالها الشيخ أبو محمد -: القطع بالاسترداد]، قال الإمام: وذلك منقاس حسن؛ لأنه إذا انقلب رقيقاً فقد خرج ما سلمناه إليه عن كونه إعانة للمكاتب في تحصيل العتاق؛ فبان أنه لم يدفع نجماً ولا جزءاً من نجم.
والرابعة – قالها الماوردي لا غير -: أنه ينظر: فإن كان قد قبض ذلك في النجم الأخير استرجع منه ما قبضه؛ لأن المقصود من العتق لم يقع، وإن كان [قد] قبضه فيما قبل النجم الأخير من النجوم المتقدمة، ففي [جواز استرجاعه] وجهان:
أحدهما: نعم؛ كالمقبوض في النجم الأخير.
والثاني: [لا]؛ لأن لكل نجم حكماً.
وهذا إذا كان باقياً في يده، فإن كان تالفاً فحيث قلنا: يسترجع لو كان باقياً، ضمنه بالبدل، سواء تلف باستهلاكه أو بغيره؛ لأنه أخذه على وجه البدل عن العتق، فإذا فات العتق ضمنه بالرد إن بقي، وبالغرم إن تلف كالمبيع. والحكم فيما لو وجد التعجيز وقد باع السيد ما قبضه الحكم فيما لو وجد بعد التلف، قاله الرافعي.
قال: ولا يقبل قوله: إنه مكاتب، إلا ببينة، أي: يشهد بها، وبالباقي عليه من النجوم – كما قال الماوردي – لإمكان ذلك مع أن الأصل عدم الكتابة، ولو ثبت عند الإمام بالتسامع أنه عبده وقد كاتبه، وقال القاضي الحسين في "تعليقه": فلا بأس
أن يعطي من غير بينة.
قال: فإن صدقه المولى [من غير بينة]، أي على ذلك – فقد قيل: يدفع إليه؛ لأنه قد صار بالتصادق مكاتباً في الظاهر؛ فإن إقراره بأنه عبد مكاتب مقبول على نفسه. وقيل: لا يدفع إليه؛ لأنهما قد يتواطآن على ذلك اجتلاباً للنفع.
قال ابن الصباغ وغيره: والأول أصح؛ لأن الدفع يقع مراعىً في حق السيد: فإن عتق العبد، وإلا طولب بالرد.
قلت: إن كان الخلاف [السابق] في الاسترجاع من السيد بعد التعجيز مصوراً بما إذا ثبت الكتابة بالبينة دونما إذا ثبتت بالإقرار، فإنه يسترجع منه قولاً واحداً – استقام هذا الرد، وألا فلا، على أنه لو بني الخلاف في [هذه المسألة على الخلاف في] الاسترجاع، لم يبعد، فإن قلنا: يثبت الاسترجاع عند العجز قيل هاهنا، وإلا فلا؛ لأن التهمة حينئذ تتحقق.
وجميع ما ذكرناه في الكتابة الصحيحة، أما المكاتب كتابة فاسدة فلا يعطي من الصدقات بحال.
قال: والسادس: الغارمون؛ لقوله تعالى: {الْغَارِمِينَ} [التوبة: 60]، ولقوله – عليه السلام: "لا تحلُّ الصَّدقة لغنيٍّ إلا لخمسة
…
"، وعدَّ منها الغارم، وقد تقدم.
قال: وهم ضربان: ضرب غرم لإصلاح ذات البين، والبين هاهنا، قال أهل اللغة: هو الوصل، قالوا: وتقديره: إصلاح حال الوصل، ومراد الفقهاء بـ"ذات البين": أن تكون فتنة بين طائفتين من المسلمين بسبب قتيل أو بهيمة مقتولة وجد ذلك بين قبيلتين، فادَّعى ولي القتيل أو صاحب البهيمة أنهم قتلوا ذلك؛ فأنكروا.
وإصلاح ذلك يكون بتحمل دية القتيل لوليه وقيمة البهيمة لمالكها، فإذا
فعل شخص ذلك، واستدان لأجله أو تحمل ولم يستدن، ولم يؤد ذلك من ماله بعد – فهو من الضرب الذي بدأ الشيخ به.
قال: فيدفع إليه مع الغنى، أي: بالعقار والناض وغيرهما في ظاهر المذهب – ما يقضي به الدين، أي: الذي تحمله أو الذي استدانه وأداه فيما تحمله، كما صرح به غيره، ووجهه الآية والخبر السابق، وإنما لم يشترط في المتحمل الفقر؛ لأن المقصود تسكين النائرة بالتحمل، وهي لا تسكن بتحمل الفقير.
[و]"الغني" بالمال: مقصور، ويكتب بالياء، يقال: غني يغني، فهو غني، واستغنى: بمعناه. والغناء: ممدود، من الصوت.
ومقابل ظاهر المذهب: يجوز أن يكون ما حكاه الإمام قولاً وغيره وجهاً في مسألة تحمل الدم: أن غناه إن كان بعقار وأثاث وما لا يعسر عليه وفاء الدين منه، فالحكم كما تقدم، وإن كان بأحد النقدين فلا يدفع إليه ما يقضي به الدين؛ لأن صرف النقد في هذه الأشياء مما لا ينفك عن المتصدين للرياسة، بخلاف الوفاء من العقار والمنقولات التي تعد للتحمل؛ فإن بيعه يعد قريباً من الخروج عن منصب المروءة، وهذا وإن كان لا يرتضيه النظر في الأقيسة فهو لائق بالمعاني الكلية وهي المطلوبة.
وإذا جرى هذا القول أو الوجه في تحمل بدل الدم ففي [تحمل] بدل المال مع أنه دون الدم أولى، وعن أملي أبي الفرج السرخسي: أن هذا الوجه جار فيمن غناه بالعروض وقد تحمل بدل الدم، وهو غريب.
ويجوز أن يكون مقابل ظاهر المذهب: ما حكاه في "المهذب" والماوردي وأبو الطيب وغيرهم وجها: أن متحمل بدل الدم يقضي عنه ما تحمله مع غناه
بالنقدين، ومتحمل بدل المال يقضي عنه أيضاً [إلا] إذا كان غناه بأحد النقدين، ويجوز أن [يكون] مقابله: ما حكاه البندنيجي [وجها]: أن متحمل [بدل] الدم يقضي عنه دينه كيف كان [غناه، ومتحمل بدل المال لا يقضي عنه دينه التحمل مع غناه، كيف كان].
وقد حكى الرافعي الوجهين في متحمل بدل المال هكذا، وصحح القضاء عنه؛ لما فيه [من] المصلحة الكلية، وقال: إن المتولي بناهما على أن من قصد مال إنسان هل يباح له الدفع بالقتل؟ إن قلنا: نعم، جعلنا المال كالدم.
وإذا تأملت ما حكيناه وراء ظاهر المذهب في [متحمل بدل] المال خشية الفتنة، جاءك منه طريقة صرح بحكايتها الإمام، هي: أن غناه إن كان بالنقد منع الأداء من الصدقة، وإن كان بغير النقد فقولان.
وفي معنى تحمل دية القتيل تحمل دية ما دون النفس من الأطراف، صرح به الماوردي.
أما إذا كان المتحمل قد أدى ما تحمله من ماله الذي لم يقترضه لأجل الوفاء، لم يعط من الصدقات شيئاً؛ لأنه الآن غير غارم، قال البندنيجي: وكذا لو مات المتحمل قبل الأداء، يقضي ذلك من تركته، ولا يوفى من الصدقة؛ [لأن الذي حلت له الصدقة هو] دون وارثه.
فإن قلت: هل يلتفت ذلك على ما سبق من أن موته هل كان بعد وجوب الزكاة أم لا؟ وهل أهل السَّهمان في البلد محصورون، وقد منعنا النقل، أم لا كما قلنا في الفقير؟
قلت: لا؛ لأن الميت لو كان قد قبض لم يتم ملكه على ما قبضه، ويسترجع منه في حال – كما تقدم- بخلاف الفقير فإن ملكه بعد القبض مستقر؛ فجاز أن يثبت قبل القبض، والله أعلم.
قال: وضرب غرم لنفسه، أي: لمصلحة نفسه في [غير معصية]، مثل: أن استقرض مالاً ليحج به أو ليتصدق أو لينفقه على نفسه وعياله من غير إسراف- فيدفع إليه مع الحاجة ما يقضي به الدين؛ للآية، وما المراد بالحاجة هنا؟
قال الرافعي: الذي تقتضيه عبارة أكثرهم: كونه فقيراً لا يملك شيئاً، وربما صرحوا به.
قلت: والتصريح به منسوب في "النهاية" إلى المراوزة وأنهم قطعوا به؛ حيث قال: إنهم قالوا: يشترط في وفاء ما يستلزمه الإنسان بسبب خاصة نفسه الفقر عن كل ما يتصور صرفه إلى الدين.
قال الرافعي: وفي بعض شروح "المفتاح" أنه لا يعتبر المسكن والملبس والفراش والآنية، وكذلك الخادم والمركب إذا اقتضاهما حاله، بل يقضي دينه وإن ملك ذلك.
ويقرب منه قول بعض المتأخرين: إنا لا نعتبر الفقر والمسكنة هاهنا، بل لو ملك قدر كفايته ولو قضى دينه لنقص ماله عما يكفيه، فيقضي من دينه قدر ما ينقص عن الكفاية، والمقصود: أنه يترك معه ما يكفيه ولا يدخل في الإعسار.
وقد أبدى الإمام على ما حكاه عن المراوزة مباحثة في المسألة، فقال: في صرف دين من لا مال له نظر للقيه؛ فإن الغارم إذا كان لا يملك شيئاً، فلا يكون مطالباً من جهة غريمه، والصدقة إنما تصرف [لشدة حاجة أو كفاية أدنى، ومستحق الدين يستغني بتحصيل دين له على معسر] جبراً لخلته، فما معنى اشتراط الإعسار في قضاء الدين؟ وهذا مقام يعسر إدراكه على غير الفقيه، فنقول: لا يمتنع أن
يكون للإنسان مال يتضرر بصرفه إلى دين، ومعنى تصور تضرره بصرفه إلى الدين: أن ينتهي بصرفه إلى الدين إلى حد الضرر [الذي] يستدرك بالصدقة، فإذا فهم هذا، انقدح وراءه وجوه:
أحدها: أن من كان ينتهي بأداء دينه مما معه إلى حد المسكنة، فهو الذي يؤدَّى دينه من الصدقة.
والثاني: أنه يجوز أن يقال: لا يجبر على أداء دينه وهو ذو كفاف، ولا يجوز أن يؤدي من الصدقة إلا دين مسكين.
والثالث: أنه يجوز أن يقال: إذا كان لا يملك شيئاً أصلاً يؤدي دينه أيضاً؛ فإنه لا يتهيأ بعيشه وهو يكتسب في اليوم الكفاف، وقد ينازع في قدر الكفاف، ويجر إلى المحاكمة، وأيضاً فإن دينه إذا أدِّى من الصدقة استرسل الناس في إقراض الفقراء وألا انسد عليهم باب الاستقراض ولحقهم الضرار.
وقد أفهم كلام الشيخ أنه لا يصرف إليه ما غرمه لمصلحة نفسه مع الغنى، وهو أحد القولين في المسألة:
المعزيُّ إلى نصه في "الأم" وأكثر كتبه، كما قال الماوردي، والصحيح عنده الجمهور وبه قطع المراوزة: كما تقدمن ووجهه: انه يأخذ لحاجته فلم يعط مع الغنى لغير الغارم.
ومقابله – محكي في القديم والصدقات من "الأم" -: أنه يعطي؛ لأنه غارم [في غير معصية فأشبه الغارم] لإصلاح ذات البين، وقد أثبته الإمام [وجها] عن رواية صاحب "التقريب" والعراقيين.
وقال الماوردي: إن محل القولين إذا كان غناه بغير النقدين، فلو كان [غناه]
بأحدهما فلا يعطى قولاً واحداً.
ثم حيث يجوز الدفع إليه يجوز الدفع إلى الغريم بإذنه، ولا يجوز بغير إذنه، وقد وافق على ذلك الماوردي، وفرق بينه وبين المكاتب حيث قال: يجوز الدفع إلى سيده بغير إذنه؛ لأن المكاتب محجور عليه في حق سيده، بخلاف الغارم. نعم، لو كان الغارم محجوراً عليه بالفلس فدفع إلى غرمائه بالحصص – قال: جاز من غير إذنه؛ لأنه يصير بالحجر في معنى المكاتب.
قال في "البحر": وهذا غريب، والأصح عندي المنع بدون الإذن، وهل المستحب: الدفع إلى الغريم بإذن المدين أو إلى المدين؟ الحكم فيه كما تقدم عن البندنيجي في المكاتب، صرح به في "البحر"[والبندنيجي أيضاً].
وقد أفهم كلام الشيخ – رحمه الله – أنه لا يزاد على ما يقضي به الدين، وهو مما لا خلاف فيه، فإذا [صرف إليه] وجب عليه أن يصرفه في دينه، ولا يجوز أن يصرفه في غيره.
قال الماوردي: إلا أن يعدم قوت يومه؛ [فيجوز أن يأخذ منه قوت يومه] وحده؛ لأنه غير مستحق في دينه.
وفي "الرافعي": أنه يجب أن يكون الغارم كالمكاتب، وقد قدمنا أنه يجوز له أن يتجر وأن يستنفق ما أخذه، ويؤدي النجوم كسبه، وعلى الأول يجوز له أن يصرفه إلى من شاء من غرمائه إلا أن يكون غارماً في حمالة قد أعطي فيها من مال الصدقات مع غناه؛ فإن عليه أن يصرف ما أخذه في دين الحمالة دون ما عليه من دين آخر وهذا بخلاف ما لو أخذ من الصدقات شيئاً ليصرفه فيما عليه من دين المعاملة مع فقره؛ فإن له أن يصرفه إلى ما يحمله من بدل الدم ونحوه؛ لأن الشرط في دين المعاملة أغلظ؛ لأنه لا يستحق إلا مع الفقر، ودين الحمالة أخف؛ لأنه مستحق مع الغنى والفقر؛ فجاز أن يصرف [ما غلظ [شرط استحقاقه فيما خف شرطه، ولم يجز
أن يصرف] ما خف شرط استحقاقه فيما غلظ] شرطه، فإن لم يصرف ما قبضه لوفاء الدين حتى سقط عنه بإبراء أو وفاء أجنبي متبرع، ففي استرجاعه منه ما تقدم في الاسترجاع من المكاتب وقد عتق قبل أداء ما قبضه من الزكاة فإذا قلنا: يسترجع، فلو لم يسترجع حتى حدث عليه دين يقضي من الزكاة، ففي استرجاعه وجهان في "البحر" وغيره، والخلاف في أنه هل يدفع إليه وفاء ما عليه من دين مؤجل كالخلاف في الدفع إلى المكاتب النجم الذي لم يحل، صرح به الماوردي.
وحكى الإمام في آخر "النهاية" وجهاً آخر: أنه يجوز الدفع إلى [الغارم دون المكاتب]؛ فإن المكاتب مهما شاء عجز نفسه، وقال: إنه بالعكس [أولى]؛ فإن ما ذكره يتحقق في النجم الحال أيضاً؛ فالوجه أن يقول: المؤجل في حق المكاتب كالحال.
وقال الرافعي: إنه يجوز أنا يرتب ما نحن فيه على المكاتب، وهاهنا أولى بالدفع؛ لأن ما على الغارم مستقرُّ.
في المسألة وجه آخر حكاه الإمام هاهنا عن العراقيين: أن الأجل إن كان ينقضي في وسط السنة المستقبلة فيقضي، وإن كان يحل بعد سنة فصاعداً فيوقف قضاء هذا الدين إلى السنة القابلة.
قال في "الروضة": والأصح أنه [لا] يعطي، وبه قطع في "البيان".
قال: ولا [يقبل قوله: إنه] غارم، أي: لمصلحة نفسه إلا بالبينة؛ لما سبق. أما الغارم لإصلاح ذات البين فلا يحتاج إلى إقامة البينة؛ لأن اشتهار ذلك يغني عنها، والبينة – كما تقدم -: ما يثبت الحق بها.
وقد قال بعض الأصحاب: إنه لو أخبر عن الحال واحد يقع الاعتماد على قوله لكفى، وقال الإمام: رأيت للأصحاب رمزاً إلى التردد في أنه إذا حصل الوثوق بقول من يدعي الغرم، وغلب على الظن صدقه- هل يجوز الاعتماد عليه.
وكل هذا يؤذن بأنه لا يراعي في ذلك شرائط الشهادة، وكذلك حكى بعض المتأخرين أنه لا يعتبر في البينة في هذه الصورة سماع القاضي وتقدم الدعوة والإنكار والاستشهاد، بل المراد إخبار عدلين على صفة الشهود.
قال: فإن صدقه غريمه، فعلى الوجهين، أي: في المكاتب، وقد سبق تعليلهما، وهذا ما ذكره العراقيون وصاحب "التقريب" والشيخ أبو علي، واختار النواوي وغيره منهما جواز الدفع كما في المكاتب، وقال الإمام: إن التصادق بين العبد والمكاتب في الكتابة أقوى عندنا وأولى بأن يرجع إليه؛ فإن إقرار كل منهما يصير ثابتاً لازماً في حقه، قال: ومن عول على الإقرار في الدين تردد جوابه فيه إذا أقر بالدين لغائب ولم يوجد منه قبول الإقرار. نعمن إذا قبلنا: القول في ذلك من غير بينة ففي تحليفه ما سبق فيمن ادعى الفقر.
قال: وإن غرم في معصية وتاب دفع إليه، أي: مع الحاجة؛ لأن المعصية زالت [فدفع إليه]؛ كمن أنفق ماله في المعاصي حتى صار فقيراً، ومن هرب من بلد ظلماً ثم أراد الرجوع؛ فإن الأول يعطي من سهم الفقراء، والثاني من سهم أبناء السبيل وإن كان السبب معصيته؛ فكذا هنا، وهذا قول أبي إسحاق وهو الصحيح في تعليق القاضي أبي الطيب، وعند البغوي والروياني وأبي خلف السلمي، وهو الجواب في "الإفصاح".
قال الرافعي: ولم يتعرضوا هاهنا للاستبراء ومضي مدة يظهر فيها صلاح الحال، إلا أن الروياني لما ذكر أن هذا أصح الوجهين قال: هذا إذا غلب على الظن صدقه في توبته.
وقيل: لايدفع؛ خشية أن يستكثر من المعاصي، ولأن توبته لا يطلع على حقيقتها، ولا يمتنع فرض إظهارها مع إضمار نقيضها حتى يسلم إليه من سهم الغارمين، وهذا قول ابن أبي هريرة، والأصح عند ابن الصباغ والبغوي وبه جزم في "المحرر".
قال القاضي الحسين: والوجهان مبنيان على أن من انكسرت رجله في معصية فصلى قاعداً، فإذا برأ: هل تلزمه الإعادة أم لا؟ فيه خلاف: فإن قلنا: لا يقضي، دفع إليه وإلا فلا يعطي.
ومحل الخلاف إذا استدان استدانة صحيحة بنية الصرف إلى المعصية وصرف ما أخذه فيها، لا الاستدانة الفاسدة التي تملك الغرض، ولو كان قد استدان لغرض صحيح، ثم بدا له أن يصرف ما استدان إلى جهة الفساد - قال الإمام: فإن تحقق ذلك منه، فحق هذا الدين أن يقضي من سهم الغارمين، ولكنا إذا رأيناه قد استدان وصرف ذلك إلى المعصية لا نصدقه في انه ما كان نوى الفساد. ولو انعكس الحال، فاستدان بنية الفساد، ثم عصمه الله فصرفه إلى جهة مباحة - فهذا الدين مقضي وإن النية إنما تؤثر إذا حققت بالعمل.
وقد ألحق الشيخ أبو بكر الصيدلاني والقاضي الحسين الاستدانة للصرف في جهة إسراف- وهي الخارجة عن العادة المعتادة مما لا يكسب حمداً في العاجل، ولا أجراً في الآجل - بالاستدانة لأجل المعصية؛ لأن قضاء ديون المسرفين يجر حيلا واستجراء لأهل السفه، وفيه حرمان المقتصدين. وللإمام احتمال في ذلك، وقال: إن الأول هو الفقه.
ولو غرم [لا] لإصلاح ذات البين ولا لمصلحة نفسه، فذاك على قسمين:
أحدهما: أن يكون لمصلحة عامة، كاستدانته لبناء مسجد أو جامع أو حصن أو قنطرة أو فكاك أسير، وما جرى مجرى ذلك - قال الماوردي: فهذا يجوز أن يعطي مع الفقر والغنى بالعقار، ولايجوز أن يعطى مع الغنى بالناض؛ لأنه أي النفع متردد بين مصلحة نفسه ومصلحة ذات البين؛ فاقتضى أن يكون فيه متوسطاً بين الحكمين. وهذا ما ادعى الروياني في "الحلية" أنه الاختيار.
وعن أبي الفرج السرخسي: أنه ألحق ذلك وكذا قراء الضيف بما استدانه للنفقة
وسائر مصالح نفسه.
والثاني: أن يكون لمصلحة خاصة، كمن ضمن عن شخص ديناً في معاملة، ولا هيج ولا فتنة:
فإن كان المضمون عنه موسراً، وكان الرجوع عليه ممكناً – فلا يقضي مثل هذا الدين، وقيل: يقضي مع إعسار الضامن، حكاه القاضي الحسين. والمذهب: الأول.
وإن كان الرجوع عليه غير ممكن لضمانه بغير إذنه أو بإذنه، لكنه معسر: فإن كان المتحمل معسراً فله أن يأخذ مقدار الدين، وإن كان موسراً بالنقد وغيره فمنهم من قال: هو كمتحمل الدية في فتنة الدم، ومنهم من قال: هو كمتحمل المال خشية من الفتنة، ومنهم من قال: هو كالاستقراض لحاجة نفسه، قال الإمام: ولو قيل: إنه دون استقراض الإنسان لحاجة نفسه، لكان له وجه؛ فإن الضمان ندامة وغرامة.
وفي بعض التصانيف ما يدل على أن هذا الدين لا يقضي من الصدقة قط، وهو بعيد، وإنما ذكرته ليتنبه الفقيه للمعنى الذي أشرت إليه، وإلا فضمان الإنسان [عن أخيه] لا ينحط عن رتبة استقراضه في أمر غير محظور، ولا ينتهي إلى السفر، ولا يبلغ مبلغ الحاجة المرهقة.
ولو ضمن دية مقتول عن قاتل معين فالقياس أن يرتب على ضمان مال [المعاملة وهاهنا] أولى بأن يقضي مع الغنى، وقد قال في "الروضة": إنه لا يعطي مع الغنى، كذا حكاه في "البيان" عن الصيمري.
قال: والسابع: في سبيل الله؛ لقوله تعالى: {وَفِي سَبِيلِ اللَّهِ} [التوبة: 60].
قال: وهم الغزاة؛ لأن سبيل الله متى أطلق كان محمولاً على الغزاة، قال الله تعالى:{وَجَاهَدُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ بِأَمْوَالِهِمْ وَأَنفُسِهِمْ} [التوبة: 20]، وقال عزَّ من قال:{وَجَاهَدُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ بِأَمْوَالِهِمْ وَأَنفُسِهِمْ} [الصف: 4]، وقال – عليه السلام: "لا تحلُّ الصدقة لغنيِّ إلَاّ لخمسةٍ: لغازٍ في سبيل الله
…
".
فإن قيل: قد روى أن رجلاً جعل ناقته في سبيل الله، فأرادت امرأته أن تحج، فقال
لها النبي صلى الله عليه وسلم: "اركبيها؛ فإنَّ الحجَّ من سبيل الله"، وإذا كان كذلك، فلم لا يصرف إلى الحج؟
قلنا: حجتنا: ما تقدم، والحديث محمول على أنه جعل الناقة في سبيل الله [الذي هو الحج، ويحتمل أن يكون جعلها في جميع ما هو في سبيل الله]؛ فلهذا قال لها – عليه السلام: "اركبيها؛ فإن الحج من سبيل الله".
قال: الذين لا حق لهم في الديوان؛ أي: ديوان أهل الفيء، وهم المسمون بالمرابطين، وهم الذين سماهم الشافعي – رحمه الله – الأعراب؛ لأن الأمر جرى في عصره – عليه السلام – كذلك؛ فكان بياناً للمراد بالآية. ووجهه من جهة المعنى: أن من لهم حق في ديوان الفيء يعطون الكفاية من الفيء على قيامهم بالقتال؛ فلا يجوز أن يعطوا من الصدقات؛ كما قلنا في الإمام إذا تولى قبض الصدقات بنفسه: لا يأخذ من سهم العاملين في الزكاة؛ لأنه أعطي من سهم المصالح كفايته على القيام بمصالح العباد، وذلك منها. نعم، لو عدم الفيء من بيت المال فهل يعطون؟ فيه وجهان في "النهاية"، وقولان في "الرافعي"[و"الإبانة"، فإن قلنا: لا يعطون – وهو الأصح – قال الرافعي]: وجب على أغنياء المسلمين إعانتهم.
وعن الصيدلاني وجه ثالث: أنه يجوز أن يصرف إليهم من [سهم] سبيل الله إذا احتاجوا إلى قتال مانعي الزكاة، فيعطون مما يأخذون من الممتنعين.
قال الإمام: وهذا كلام عري عن التحصيل؛ فإن تلك الزكاة المأخوذة منهم، والزكوات المأخوذة من غيرهم- بمثابة واحدة لا تختلف مصارفها وهم مرتصدون
لارتسام رسم الإمام في كل قتال يندبهم إليه، فأي أثر لتخصيص مقاتلة مانعي الزكاة؟!
وقال الإمام إذا لم يكن في يده من مال الفيء شيء، والمرتزقة مستظهرون بأموالهم، ولم يكونوا على الصفات [التي] يشترطها في [استحقاق] سهم سبيل الله من الصدقات –فلا يجوز صرف ذلك السهم إليهم، وإن كانوا غير مستظهرين، ولو لم يكفهم لضاعوا، ورأى الإمام والحالة هذه أن يصرف سهم سبيل الله من الصدقات إليهم، ورأى انتهاضهم – وهم المعدون المستعدون – أقرب من انتهاض المطوعة، فلا معترض على الإمام في ذلك.
قال: فيدفع [إليهم] ما يستعينون به في غزوهم مع الغنى؛ للخبر وعموم الآية، ولأنهم يأخذون لحاجتنا إليهم؛ فلم يعتبر في الدفع إليهم فقرهم؛ كالعامل.
والذي يستعان به في الغزو: السلاح، وكذا الفرس إن كان الشخص ممن يقاتل فارساً، وألا فلا يعطاه. نعم، يعطى حمولة [تحمله] إن كان على مسافة القصر، دون ما إذا كان دونها؛ فإنه لا يعطاها.
قال أبو إسحاق المروزي: إلا أن يكون ضعيف البدن، أو شيخاً كبيراً، والنفقة في الطريق في حالة الذهاب والإياب؛ فإن استشهاده ليس بضربة لازب.
لكن هل المعطى جميع ذلك، أو الزائد على نفقة المقام؟ فيه وجهان ينبنيان – كما قال القاضي الحسين والفوراني- على أن عامل القراض إذا قلنا: يعطى النفقة، فهل يعطى جميع نفقة السفر أو الزائد على نفقة الحضر؟
والرافعي قرب الخلاف هنا من الخلاف [ثم] من غير بناء، وصحح الأول.
وهل يعطى نفقة المقام على القتال والمحاصرة؟ أطلق الإمام وغيره القول بإعطائه ذلك، وقال القاضي الحسين: إن ذلك على قولنا: إنه يعطى جميع النفقة، أما إذا قلنا: لا يعطى إلا ما زاد [على نفقة المقام] فلا يتصور للمقام هناك نفقة.
قلت: وفي هذا نظر؛ لأن النفقة تختلف قيمتها باختلاف [الأماكن وبالقرب والبعد، كما تختلف باختلاف] الزمان حراً وبرداً؛ فما ذكره متجه إذا تساوت قيمة ذلك موضع مقامه على القتال [وموضع مقامه في غيره، أما إذا كانت قيمة ذلك موضع مقامه على القتال] أكثر- وهو الغالب – فينبغي أن يعطى القدر الزائد على هذا القول أيضاً.
ثم على الوجهين: القياس يقتضي أن [لا] يعطي نفقة [أهله حيث يعطى] نفقة نفسه، [وقد سكت] عنه المعظم، وعن بعض شروح "المفتاح": أنه يأخذ نفقته ونفقة عياله ذهاباً ومقاماً ورجوعاً. قال الرافعي: وذلك غير بعيد؛ لأننا ننظر في استطاعة الحاج إلى قدرته على ذلكن ولا اتجاه له على قولنا: لا يعطى إلا ما زاد على نفقة المقام.
وحكم الكسوة فيما ذكرناه حكم النفقة.
ثم المراد بما يعطاه من السلاح وغيره: قيمة ذلك لا عينه، كما قاله البندنيجي وغيره من العراقيين؛ حيث قالوا: لا يعطيهم الإمام بهيمة من خيل ولا بغل ولا حمار ولا سلاح؛ لأن ذلك لا يؤدَّى من الزكاة، ولا يجوز أن يشتري لهم ذلك من مال الصدقات، وإنما يعطي لهم مالا يشتري به الغازي ذلك لنفسه، وهذا [ما] حكاه الرافعي وجهاً عن رواية الحناطي، وقال القاضي أبو الطيب: عندي: [أنه] إذا استأذنه الإمام في شراء الفرس والسلاح، [و] اشتراه له من غير أن يدفع إليه حقه –جاز؛ لأن الإمام وكيل لمستحقي الصدقات، فإذا قبض فكأنهم قد قبضوا؛ فإذا أذنوا له في شراء ذلك مما قبض جاز.
وأطلق المراوزة القول بأن للإمام أن يشتري ذلك ويدفعه إليه عارية، أو يملكه إياه إذا رأى ذلك، وله أن يستأجر ذلك ويدفعه إليه [أو يستعيره]، وله أن يشتري ذلك
من سهم الغزاة وينفقه لهذه المصلحة، صرَّح به الفوراني وغيره.
فروع:
إذا جاء شخص، وادعى أنه يريد الغزو – دفع إليه. وهل يحلف؟ فيه وجهان في "البحر":
أحدهما: نعم، وبه قال أبو إسحاق [المروزي].
والثاني: لا؛ لأنه [إن] لم يغز استرجع منه، وأيضاً: فالإمام هو الذي يعينه ويعطيه بعد التعيين عند الخروج، فإن غزا فقد استحق ما قبضه، وإن لم يغز، أطلق ابن الصباغ والبندنيجي وغيرهما القول بأنه يسترد منه [ما أخذ، وقال الماوردي: [إنه] إن لم يتصل بدار الحرب استرجع منه] وإن رجع بعد ما وصل إليها: فإن قاتل غيره [ولم يقاتل هو فكذلك الحكم، وإن لم يقاتل غيره]؛ لبعد العدو منهم؛ فرجعوا، استحق.
[و] قال الرافعي فيما إذا مات في الطريق، أو امتنع من الغزو: استرد منه [ما بقي. وهذا يدل على أنه لا يسترد منه] جميع ما أخذ، وهو مخالف لما تقدم، وظاهرٌ في حالة موته.
وهذا كله فيما إذا خرج لأجل الغزو، فلو لم يخرج بعد ما أخذ، وكذلك ابن السبيل لو لم يخرج بعد ما اخذ – استرد منه؛ لأن جهة الاستحقاق لم تحصل، وإلى متى يحتمل تأخير الخروج؟ قال الرافعي: أهمل المعظم التعرض له. وفي "أمالي" السرخسي: أنه يجوز تأخير الخروج يومين وثلاثة، فإن انقضت الثلاثة ولم يخرج، حينئذ يسترد، قال: ويشبه أن يكون هذا على التقريب وأن يعتبر ترصده للخروج، وكون التأخير لانتظار الرفقة أو إعداد الأهبة ونحوهما.
ولو غزا ثم [فضل مما] أخذه فضلة أطلق ابن الصباغ والبندنيجي وغيرهما القول بأنه لا يؤخذ منه؛ فإنا إذا دفعنا إليه الكفاية فالفاضل من تضييقه على نفسه.
[وقال الرافعي: الحكم كذلك فيما إذا كان الفاضل يسيراً أو كثيراً وقد قتر على نفسه]، أما إذا لم يقتر على نفسه [فيسترد منه]؛ لأنه تبين أن المعطى فوق الحاجة، وأنه أخطأ في الاجتهاد.
قال: والثامن: ابن السبيل، وهو المسافر، أي المار بنا في سفره من غير نية الإقامة عندنا؛ سمي بذلك لملازمته السبيل – وهو الطريق – كملازمة الطفل أمه، قال البندنيجي: وهو اسم جنس.
قال: أو المريد للسفر، أي من وطنه أومن بلد هو مقيم فيه – ملحق بابن السبيل، وهو الأولى؛ لشمول المعنى الذي لأجله صرف لابن السبيل؛ فإن ابن السبيل يعطي لما ينشئه من السفر [لا] لما مضى منه؛ فاستوى فيه المجتاز والمنشئ؛ لأن لكل واحد منهما مبتدأ، ولأن المسافر لو دخل بلداً ونوى إقامته خمسة عشر يوماً، صار في حكم المقيمين من أهله، ولو أراد الخروج منه لجاز الصرف له بوفاق الخصم؛ فكذلك كل مقيم منشئ.
فإن قيل: كيف يسمى من لم يسافر مسافراً؟
قيل: كما يسمى من لم يحج حاجًّا، ومثل ذلك قوله تعالى:{وَاسْتَشْهِدُوا شَهِيدَيْنِ} [البقرة:282]، وهما لم يشهدا بعد.
قال: في غير معصية، هذا التقييد ليس راجعاً إلى بيان ابن السبيل المطلق، وإنما المراد بيان لابن السبيل المراد بالآية؛ لأن القصد بما يدفع إليه من الزكاة: إعانته على سفره وبلوغه مقصده، وإذا كان سفره معصية لا يليق بحاله الدفع إليه؛ كي لا يعان على المعاصي؛ فتعين أن يكون المراد به ما عداه، وهو ينقسم إلى:
سفر واجب: كالسفر للحج، والعمرة وإذا قلنا بوجوبها، والجهاد – كما قال
البندنيجي- والهجرة.
وإلى سفر هو طاعة كالتطوع بالحج والعمرة، وزيارة قبر النبي صلى الله عليه وسلم والوالدين، وطلب العلم، ونحو ذلك.
وإلى سفر هو مباح: كالسفر للتجارة، والنزهة والتفرج، كما قال البندنيجي وصاحب "البحر".
وقضية ما ذكرناه: الإعطاء للجميع، وذهب بعض الأصحاب إلى اختصاص الاسم فيما نحن فيه بمن سافر سفراً واجباً أو طاعة، دون من سافر [سفراً] مباحاً؛ لأن عنه غنية. والأصح الأول.
وذكر الرافعي الخلاف في السفر المباح ما سوى سفر النزهة، وقال: إذا قلنا: إنه كسفر الطاعة، ففي سفر النزهة خلاف؛ لأنه ضرب من الفضول، قال: والظاهر أنه ملحق بغيره من المباح، وحينئذ يكون في السفر المباح ثلاثة أوجه: ثالثها: إن كان سفر نزهة لم يلحق بسفر الطاعة، وإلا ألحق به.
وسلك الماوردي في السفر المباح طريقاً آخر، فقال: إن كان لغير حاجة – كالسفر للنزهة والتفرج – فلا يجوز أن يعطى وإن أبيحت له الرخص؛ لأن مال الصدقات مصروف إلى ذوي الحاجات. نعم، لو سافر للنزهة بماله، ثم انقطعت به النفقة لعوده- جاز أن يعطى لحاجته وضرورته. وإن كان سفره لحاجة ماسة: كالسفر في طلب غريم هرب، أو عبد أبق، أو جمل شرد فهذا يعطى؛ لشدة حاجته. وإن كان سفره لحاجة لكنها غير ماسة، كالسفر في تجارة – ففي جواز إعطائه وجهان حكاهما الإمام أيضاً عن رواية صاحب "التقريب" والشيخ أبي علي. ثم قال: ولا شك أن هذا مفروض فيما إذا كان ماله غائباً وهو يبغيه ليتجر، وقد حكى عن أبي إسحاق أنه قال: يجوز أن يعطى للعاصي بسفره ما يسد الرمق في الحال، ولا يعطى ما يسافر به، إلا أن يبقى منقطعاً به؛ فيعطى إذا أراد الرجوع إلى وطنه وإن كان أصل سفره معصية.
قلت: ويجيء وجه آخر: أنه لا يعطى حتى يتوب، كما قاله الشيخ أبو محمد في
المضطر: لا تباح له الميتة، ويقال له: تب وكل.
نعم، إذا تاب التحق في بقية سفره بالمسافر سفراً مباحاً، والمنقول في "الحاوي": أنه يصرف إليه.
قال: فيدفع إليه ما يكفيه، أي: من نفقة وكسوة، على حسب ما يقتضيه الحال من شتاء وصيف، في [خروجه و] رجوعه، أي: إذا كان على قصد العود، وليس في المقصد ولا دونه مال يغنيه عن الزكاة؛ لقوله تعالى:{وَابْنِ السَّبِيلِ} [البقرة: 177].
وقيل: لا يعطى للرجوع [شيء في ابتداء سفره؛ لأنه سفر آخر، وإنما يعطى عند ابتداء الرجوع.
وقيل: إن عزم على أن يصل الرجوع بالذهاب أعطي للرجوع]، وإن عزم على أن يقيم هناك مدة لم يعط، ولو عزم على الإقامة مطلقاً لم يعط للرجوع بالاتفاق، وقد سكت الشيخ – رحمه الله – عن كفايته في مدة مقامه وغيره.
قال: إن لم تزد مدة مقامه على مدة مقام المسافرين، وهي ما دون أربعة أيام- دفعت له، وألا فلا، وعن صاحب "التقريب": أنه [إن] أقام لحاجة يتوقع زوالها أعطي، وإن زادت إقامته على إقامة المسافرين.
قلت: وكأنه ذكر هذا تفريعاً على أن من أقام في بلد لقضاء حاجة، ولم ينو الإقامة-أنه يقصر [أبداً]، وإذا كان هذا المأخذ وجب أنا يعطى [كفايته – والصورة هذه – إلى ثمانية عشر يوماً، كما قلنا في القصر على قولٍ آخر.
ويعطى] مع الكسوة والنفقة المركوب إن كانت المسافة مسافة القصر؛ لأن ذلك من جملة الكفاية، إلا فلا يعطى إلا أن يكون [غير] قادر على المشي لكبر أو ضعف، هكذا أطلقوه، وسكتوا عن التعرض لاعتبار مسافة القصر ذهاباً أو ذهاباً وإياباً؛ اكتفاء بما ذكروه في غير هذا الموضع، ومحله باب صلاة المسافر،
وسنذكره [ثم] إن شاء الله.
وقد ذكر أبو الفرج السرخسي في "أماليه" في كيفية تهيئة المركوب: أنه إن ضاق المال فيعطى كراء المركوب، وإن اتسع فيشترى له المركوب.
فإن قلت: هل يجري ما قاله العراقيون في الغازي من منع شراء المركوب له دون إذنه هاهنا إذا كان [في] المال متسع؟
قلت: ينبغي أن ينبني ذلك على أنه إذا اشتُرِي له المركوب – كما قاله السرخسي –عند اتساع المال، وزال السفر: هل يسترد منه؟ وفيه وجهان:
فإن قلنا: لا يسترد، [لم يبعد أن يلحق ابن السبيل بالغازي في ذلك.
وإن قلنا: يسترد] – كما أجاب به عامة الأصحاب – امتنع إلحاق ابن السبيل بالغازي، وجاز الشراء دون إذنه؛ لأنه مستعار معه، بخلاف الغازي؛ فإنه مالك فيبعد [تمليكه] غير المال الزكاتي عن الزكاة بدون إذنه، والله أعلم.
وقد اقتضى كلام الشيخ – رحمه الله – أن المعطى لابن السبيل الكفاية بجملتها، وهو أصح الوجهين في "الرافعي"،ومقابله: أن المعطى [ما] زاد بسبب السفر – كما تقدم مثله في الغازي –وهو بعيد لا وجه له.
ثم ما ذكره الشيخ من إعطاء المسافر والمريد للسفر هو الطريقة المشهورة [،وهي] التي لم يورد العراقيون غيرها، وذهب بعض المراوزة إلى أن المريد للسفر يعطى، وأما المسافر المتجاز ففي جواز الصرف إليه قولان؛ بناء على القولين في جواز نقل الصدقة: فإن جوزناه جاز الصرف إليه، وألا فلا، وهو ما ذكر الإمام أنه ظاهر النص، وأشار بذلك إلى ما حكاه القفال عن الشافعي – رحمه الله – أنه قال:"ابن السبيل: من شخص [من] بلده، فأما من مر به فلا"، ولأجل هذا جزم
المسعودي بالمنع، والقائلون بالجواز قالوا: معنى قول الشافعي أن حقيقة اسم ابن السبيل ما ذكر، فأما في الحكم فهو والمجتاز سواء.
قال: ولا يدفع إليه حتى تثبت حاجته. هذا الكلام [لم] أره هكذا - فيما وقفت عليه - لأحد من الأصحاب، بل المنقول في "تعليق" البندنيجي و"الحاوي" وغيرهما: أن المسافر-[و] هو المجتاز - إن ذكر أنه لا مال له في هذا البلد، ولم يعلم له أصل مال فيه - فالقول قوله، وهل يحلف؟ فيه وجهان في "البحر" تقدم ذكرهما، ولا [يضره كونه] له مال في بلده أو في أثناء طريقه في منع صرف ما يكفيه إلى وصوله [إلى] ماله.
وإن عرف له مال فيه، أو قال: إنه كنا له فيه مال، وتلف - لا يقبل قوله في ذلك، ولا يصرف إليه شيء إلا بالبينة كما تقدم نظيره، فلعل هذا مراد الشيخ، أو إذا قلنا: إنه يحلف في الحال الأولى وجوباً.
وأما المريد للسفر فقد قالوا: هو والفقير سواء؛ لأنه لا يعطى إلا مع الفقر مطلقاً في الموضع الذي أراد السفر منه، وفي بلده، كما أفهمه كلام البندنيجي لمن وقف عليه، وعلى هذا قال الماوردي: إن أراد من اتصف بما ذكرناه أن يأخذ من سهم الفقراء أو المساكين أو أبناء السبيل، دفع إليه.
وقد تحرر مما ذكره الشيخ أن من يأخذ من الزكاة مع الفقر [دون الغنى] خمسة: الفقير، والمسكين، والمكاتب، والغارم لمصلحة نفسه، وابن السبيل المنشئ للسفر من عندنا - كما قاله البندنيجي - والذي يأخذ مع الغنى والفقر خمسة: العامل، والمؤلفة، والغارم لإصلاح ذات البين، والغازي، وابن السبيل المجتاز بنا.
فإن قلت: الأصناف ثمانية، وقد خرجوا في هذا التفصيل [عشرة].
قيل: لأن الغارم على ضربين، وابن السبيل على ضربين؛ فلهذا زاد التفصيل صنفين، والله أعلم.
قال: فإن فضل منه شيء، أي: لتقتيره على نفسه، أو لغير ذلك – استرجع منه؛ لأنه إنما أخذ لحاجته وقد زالت بتمام السفر، بخلاف الغازي؛ فإنه يأخذ لحاجتنا إليه؛ ولذلك دفعنا إليه مع الغنى، وقد حصلها.
ومنهم من ألحق ابن السبيل بالغازي في عدم الاسترجاع، وهو ما أبداه الحناطي احتمالاً، ونسبه الشيخ أبو الفرج إلى النص، وعكس هذا: لو أُعْطِي ما يكفيه إلى غاية قدرها [ثمانية فراسخ]، فسافر شطر المسافة، ثم ترك السفر وقد أنفق جميع ما قبضه في تلك المسافة – نظر: فإن كان قد فعل ذلك [لغلاء سعر أو] زيادة مؤنة، لا يسترجع منه شيء، وإن كان لسرف في شهوة، أو استكثار، استرجع منه نفقة الباقي من سفره.
قال: وإن فقد صنف من هذه الأصناف، أي: من الوجود – وفَّر نصيبه على الباقين؛ لأنه لا يجوز أن يرد إلى رب المال يتصرف فيه؛ لأن الصدقة وجبت عليه طهرة له؛ فلا يجوز تركها عليه؛ لأن ما يصرف إلى الشخص لا يكون مطهراً له؛ ولهذا لو لم توجد جميع الأصناف لا تسقط عنه الزكاة.
قال في "التتمة": وخالف ما نحن فيه ما لو أوصى لرجلين، فرد أحدهما –يكون المردود للورثة [دون الثاني؛ لأن المال للورثة] لولا الوصية، والوصية تبرع رخص فيه، فإذا لم يتم أخذ الورثة المال، ولا يجوز أن يرد إلى سائر الناس؛ لأنه لم يوجد فيهم معنى الاستحقاق؛ فتعين الصرف لباقي الأصناف؛ لأنهم [مشاركون للذين] عدموا في الصدقات فكانوا أولى.
فإن قيل: أليس قلتم: إنه إذا خلف الميت ذا فرض لا يستغرق لا عصبة له يرد الباقي إلى بيت المال؛ ولا يرد على ذوي الفروض؛ فهلا قلتم هنا كذلك؟!
قلنا: بيت المال عصبة الميت؛ لأنه لجميع المسلمين، وهم عصباته؛ فحلوا محل عصبته، وهاهنا ليس فيهم معنى الاستحقاق؛ فافترقا.
ولا فرق في الصنف المفقود بين أن يكون العامل أو المؤلفة أو المكاتبين أو غيرهم، حتى إذا كان غير [العامل فض] المأخوذ على سبعة، وقوبل السبع بأجرة العامل كما تقدم. وإن كان المفقود العامل؛ لتفرقة رب المال الزكاة بنفسه – قسم المأخوذ على سبعة على المشهور، ووراءه، وجان:
أحدهما – حكاه الحناطي عن النص -: أنه يسقط في هذه الصورة سهم المؤلفة أيضاً، وتكون القسمة على ستة أسهم، وهو هكذا في "فتاوى" القفال، ولعله أشار بذلك إلى نصه في "الأم"؛ فإن الماوردي حكى في صدقة الفطر أن الشافعي قال في "الأم": إذا تولى رب المال إخراج صدقة الفطر [فرقها في] ستة أصناف، وسقط عنه سهم العاملين والمؤلفة وادعى الإمام في أول باب كيف تفريق قسم الصدقات: أنه [الرأي] الظاهر.
والثاني – حكاه الحناطي أيضاً عن أبي سعيد الإصطخري -: أنه يجوز الصرف في هذه الحالة إلى ثلاثة من الفقراء، والمشهور نسبة هذا القول إليه في زكاة الفطر.
ولو فقد الصنف في بلد المال، ووجد في غيره: فإن كان المفقود العامل؛ فالحكم كما تقدم، وإن كان غيره: فإن كان نصيب الموجودين [قدر كفايتهم، نقل نصيب المفقودين في البلد إلى الذي وجدوا منه في غيره، قاله البندنيجي، وإن كان نصيب الموجودين] دون كفايتهم؛ ففيه ثلاث طرق:
[إحداها] – حكاها الماوردي -: أنه ينظر: فإن كان المفقود الغزاة نقل سهمهم إلى الغزاة الذين يوجدون في الثغور وغيرها؛ [لأنهم يكثرون في الثغور] ويقلون في غيرها، فلم يكتفوا بسهمهم من صدقات بلادهم. وإن كان المفقود غيرهم فهل يصرف إلى الموجودين من باقي الأصناف، أو ينقل إلى ذلك الصنف حيث كان؟ فيه وجهان.
والثانية: إجراء الوجهين في جميع الأصناف؛ بناء على القولين في جواز النقل: فإن قلنا: يجوز، جاز هاهنا، وألا فلايجوز. وهذه طريقة أبي علي بن أبي هريرة، وقد صحح الأول منهما الغزالي والرافعي والقاضي أبو الطيب في أثناء كلامهن وصحح الثاني القاضي الحسين غيره.
والثالثة – حجاها ابن الصباغ والقاضي الحسين وغيرهما-: أنه يجوز النقل في هذه الحالة قولاً واحداً، وهذا القائل يعتبر المستحقين؛ لأن استحقاقهم ثبت بنص الكتاب، ومنع النقل ثبت بالاجتهاد؛ فإذا تعارضا كان تغليب ما ثبت بالنص أولى من تغليب ما ثبت بالاجتهاد، والقائل قبله اعتبر المكان، وتعلق بأن الاعتبار بالمكان الذي هو فيه؛ ألا ترى أن المسافر إذا عدم الماء في موضعه تيمم وإن كان موجوداً في غيره؟!
وقد فرَّع الرافعي على الوجهين في هذه الصورة فقال: إن قلنا: ينقل، فينقل إلى أقرب البلاد إليه، فإن نقله إلى غيره أو لم ينقله وردَّه على الباقين، ضمن.
قلت: وفي ضمانه إذا نقل إلى غير الأقرب نظر؛ لأنا إذا قلنا: إن النقل مفرع على القول بجواز النقل – كما هي طريقة ابن أبي هريرة – فكيف يمكن تضمينه مع أنه
فعل ما هو جائز له؟! وإذا قلنا: إنه ينقل، فكذا [هذا] هنا، وإن منعنا النقل فينبغي أن يكون في ضمانه الخلاف السابق فيما إذا قلنا: لا يجوز النقل، فنقل.
قال: وإن قلنا: لا ينقل، فلو نقل، ضمن.
وابن الصباغ قال في هذه الصورة- تبعاً للقاضي أبي الطيب – في ضمانه القولين فيما إذا قلنا: لا يجوز نقل الزكاة فنقلها، وذلك يؤيد ما ذكرناه، وقد أشار الإمام إلى عدم الضمان إذا قلنا: إن النقل هاهنا مفرع على القول بجواز النقل مطلقاً، وقال: إذا قلنا: إنه جائز هاهنا فقط، فيتعين النقل إلى أقرب موضع وجد فيه الصنف إذا كان على دون مسافة القصر، [وكذلك إن كان على مسافة القصر عند الجمهور، حتى لا يجوز أن ينقل إلى أبعد منهم.
وذهب بعض الأصحاب [إلى] أنه إذا احتاج إلى النقل إلى مسافة القصر] [زال الحرج]، وينقل [إلى] حيث شاء، والأصح الأول.
قال: والمستحب أن يصرف صدقته إلى أقاربه الذين لا تلزمه نفقتهم؛ لما روى الترمذي عن سلمان بن عامر عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: " [الصَّدقة] على المسكين صدقةٌ، وعلى ذي الرَّحم ثنتان: صدقةٌ، وصلةٌ"،وروي أنه – عليه السلام – قال: "أفضل
الصَّدقة أن تتصدَّق على ذي الرَّحم الكاشح"، [والكاشح:] الذي يعاديك ويغتابك ويقع فيك إذا غبت، كذا حكاه القاضي الحسين في صدقة الفطر.
قال الشافعي: "ولأنه أعلم بحال قريبه منه بحال غير قريبه؛ فكان صرف الصدقة إليه أفضل"؛ ولهذه العلة استحببنا عند فقد الأقارب صرفها إلى جيرانه، وقد تقدم حكاية وجه في تعين الصرف لهم عند اتساع البلد، ومنع النقل إن كان رب المال هو المفرق.
[و] قال القاضي الحسين في صدقة الفطر: ويستحب أن يقدم ذا الرحم المحرم ثم ذا الرحم غير المحرم، [ثم المحرم] بالرضاع، ثم بالمصاهرة، ثم الجيرة بعد ذلك.
أما أقاربه الذين تلزمه نفقتهم فلا يجوز أن يعطيه من سهم الفقراء والمساكين، وكذا من سهم المؤلفة؛ لأن نفقتهم إنما تلزمه عند فقرهم، وحينئذ فدفعه يسقط النفقة عن نفسه كما يسقطها الصرف إليه من سهم الفقراء. ولا يجوز أن يعطيهم من سهم أبناء السبيل ما يحتاج إليه سفراً وحضراً؛ فإن هذا القدر هو المستحق عليه بسبب القرابة، ويجوز أن يعطيهم منه الزائد على نفقة الحضر؛ لأن ذلك لا يلزمه بالقرابة، وكذا يجوز أن يعطيهم من سهم الغارمين والمكاتبين والغزاة، قال الرافعي: والعاملين إذا كانوا بهذه الصفات. وقال البندنيجي بعد حكايته عن الأصحاب أنه يجوز أن يعطيهم من سهم العاملين: إن هذا غير صحيح؛ لأنه لا يتصور أن يدفع رب المال نصيب العاملين من زكاته؛ ولأجل ذلك قال ابن الصباغ: يجوز أن يعطي من سهم العاملين وإنما يكون بدفع الإمام دون دفعه.
وهذا كله إذا كان القريب حيًّا، فلو مات بعد وجوب الزكاة عليه فهل للإمام
صرفها إلى أقاربه الذين [كانت] تلزمه نفقتهم بسبب فقرهم، أو لا يجوز؟ الذي ذكره القاضي الحسين: المنع، وقال في "البحر" قبل [كتاب] زكاة الفطر: ويحتمل أن يقال: يجوز؛ لأن شبهة استحقاق النفقة غير موجودة.
ومن تلزمه نفقته بسبب الزوجية صرفه إليه كصرف الأجنبي له، صرح به الإمام، وقد تقدم حكاية وجهين في جواز صرف الأجنبي شيئاً لزوجة غيره من سهم المسكنة، ومقتضى قول الإمام جريانهما هاهنا، ونص الشافعي [على المنع، وبه جزم الماوردي] وغيره. نعم، يجوز أن يصرف إليها من سهم المكاتبين والغارمين بلا خلاف، ولا يجوز من سهم الغزاة؛ لأنها لا تصلح لها، وهل يجوز من سهم المؤلفة؟ قال في "التتمة": يجوز. وهو ما أبداه الإمام احتمالاً حيث قال: لو قيل: تُعطى، لكان مذهباً؛ لأن ما يقصد من حسن إسلام الرجل وترغيب قومه في الإسلام موجود في المرأة. وقال الشيخ أبو حامد في "التعليق": لا يجوز؛ لأنها لا تكون من المؤلفة. قال الرافعي: والأول هو المنقول.
وطرد الشيخ أبو حامد [المنع في][صرف] سهم العامل إليها، وكذا الماوردي، وإن كان كلامه السابق بخلافه.
والصرف من سهم سبيل الله إليها يتوقف على معرفة كيفية سفرها:
فإن كان وحدها بإذنه في حاجتها، فإن أوجبنا نفقتها على الزوج، أعطيت مؤنة السفر الزائدة على نفقة الحضر، وإن لم نوجب نفقتها على الزوج، قال الرافعي وغيره: أعطيت جميع كفايتها.
قلت: وهو تفريع على الصحيح في أن ابن السبيل يعطى جميع كفايته، كما تقدم. وللإمام احتمال في جواز الصرف إليها إذا كانت قادرة على الرجوع في زمان مكثها مع قدرتها على العود، قال: والأظهر ما ذكره الأصحاب؛ فإنه إذا جاز لها
المكث، فإذا مكثت فليس العود إلى الزوج ممكناً في ذلك اليوم، وكذلك كل يوم يأتي.
قال: ويتطرق إلى أصل المسافرة احتمال آخر؛ فإنها وإن خرجت بالإذن فهي المتسببة إلى إسقاط النفقة.
وإن [كان] السفر بغير إذنه فلا تعطى من سهم أبناء السبيل؛ لأنها عاصية بسفرها، وتعطى من سهم الفقراء والمساكين، بخلاف الناشزة [وإن [كانت] عاصية بالنشوز مسقطة لنفقتها في الموضعين؛ لأن الناشز] تقدر على العود إلى الطاعة، والمسافرة لا تقدر على ذلك. نعم، لو تركت سفرها وعزمت على أن تعود إليه أعطيت من سهم أبناء السبيل. ويؤخذ من كلام الإمام احتمال في جواز الصرف إليها من جهة انتسابها إلى النشوز في أول الأمر، وهو يداني ما مر: أنا من لزمه الدين بسبب الاستنفاق في معصية، هل يقضي دينه من سهم الغارمين [أم لا؟
ولو كان سفرها وحدها لحاجته بإذنه، قال الماوردي: فهو كما لو سافرت معه] بإذنه، والحكم في هذه الحالة: أنها لا تعطى من سهم أبناء السبيل؛ لأنها مكفية المؤنة بالزوج، كذا قاله الرافعي وغيره.
وفي "تعليق" القاضي أبي الطيب: أن الحكم كذلك إذا كان سفرها معه بإذنه لحاجته، فلو كان في حاجتها جاز أن يعطيها القدر الذي يزيد على نفقتها في الحضر، وكذا مركوبها.
وإن كان سفرها معه بغير إذنه فالنفقة عليه؛ لأنها معه، قاله ابن الصباغ والرافعي، [وقال] القاضي الحسين: أنها لا تعطى مؤنة السفر؛ لأنها عاصية بالخروج.
ويجوز للزوجة أن تصرف صدقتها إلى زوجها، بل يستحب كما حكاه الماوردي في باب صدقة الفطر؛ لقوله – عليه السلام – لامرأة ابن مسعود حين سألته [عن
دفع] زكاتها إلى زوجها: "لك أجران: أجر الصَّدقة، وأجر الصَّلة". ولأنه في معنى أهلها وأقاربها الذين لاتلزمها نفقتهم.
فإن قيل: هي إذا صرفت زكاتها إليه عاد إليها النفع؛ لأنها تطالبه بنفقة الموسرين، وينبغي أن تمنع لذلك.
قلنا: قد أشار إلى المنع القاضي الحسين، حيث قال في "التعليق": يجوز أن تدفع إليه من صدقتها باسم الفقر، على الصحيح من المذهب، والمشهور الأول، كما يجوز أن يصرف زكاته لفقير أو مسكين له عليه دين، وإن كان إذا قبضها طالبه بدينه لميسرته بما قبض، كذا قاله البندنيجي وغيره.
والكل متفقون على أنه لا يجوز أن يصرف [من] سهم الرقاب إلى مكاتبه؛ لأنه قِنًّ ما بقي عليه درهم.
قال: وأن يعم كل صنف إن أمكن، أي: ويستحب أن يعم كل صنف إن أمكن التعميم في الدفع بحيث يحصل مجموع الكفاية له؛ كي لا ينكسر قلب من لم يعطه.
وقال الإمام فيما إذا كان التعميم يقربهم من الكفاف: فقد نقول: إذا صرف زكاته إلى ثلاثة من كل صنف تبرأ ذمته، ويعصي إذا لم يكن في القطر من يرعى المحاويج غيره. والمشهور: ما ذكره الشيخ، رحمه الله.
أما إذا كان تعميم الجميع ممكناً بحيث تندفع حاجة كل منهم بما يعطيه له، بأن كانت صدقته كبيرة، والمستحقون فيهم قلة – وجب التعميم، ولا يجوز أن يخل بواحد منهم، صرح به الماوردي والبندنيجي والمتولي، وهو قضية ما حكيناه [من
إطلاق العراقيين عند الكلام في نقل الصدقة، وفي "التهذيب": أن ذلك يجب إن لم تجوز نقل الصدقة، وإن جوزناه لم يجب، لكن يستحب، وهو قضية ما حكيناه] ثم عن المراوزة، وقد حكاه الإمام في كتاب الزكاة قبل باب صدقة الخلطاء حيث قال: سمعت شيخي يقول: إذا منعنا النقل، وانحصر الفقراء، وزادوا على ثلاثة – فيجب صرف الحصة إليهم، وتجب التسوية بينهم، وإنما يجوز الاقتصار على الثلاثة وتجوز المفاضلة عند خروجهم عن الضبط الممكن؛ فإن سبب الاقتصار على الثلاثة أنهم أقل [الجمع]، ولا عدد أولى من عدد بعد ذلك، وسبب المفاضلة: أن كل من أعطي أقل فلو حرم لأمكن حرمانه بإقامة غيره مقامه فأما إذا انحصروا وامتنع النقل وثبت الاستغراق- فالوجه وجوب الصرف إليهم مع رعاية التسوية.
قال: والذي قاله حسن منقاس إذا قلنا برد اليمين عليهم، وقد ادعى في "الوسيط" في هذه الصورة أن الأولى: التعميم، ثم قال: ويحتمل أن يقال: يجب الاستيعاب عند الإمكان، والله أعلم.
قال: وأقل ما يجزئ-أي: في الحالة التي يستحب فيها التعميم – أن يدفع إلى ثلاثة من كل صنف منهم، أي: عند وجودهم، لأن الله تعالى ذكر كل صنف بلفظ الجمع، وأقل الجمع ثلاثة.
قال إلا العامل؛ فإنه يجوز أن يكون واحداً؛ أي: إذا حصلت [له] الكفاية؛ لفهم المقصود به.
فإن قيل: ابن السبيل لم يذكر في الآية بلفظ الجمع؛ فكان ينبغي أن [يجوز الاقتصار] على الصرف لواحد منهم.
قلنا: قد قال [به] بعض الأصحاب، والصحيح الأول؛ لان المراد به الجنس كما تقدم؛ لأن الإضافة تجري مجرى لام التعريف، والألف واللام يستغرقان الجنس، كذلك الإضافة.
وعن بعض شارحي "المختصر": أنه لو طرد الخلاف في الغزاة لم يبعد، أما إذا لم
يوجد من الصنف إلا واحد:
فإن كان ثلث حصة الصنف يدفع حاجته فلا يزاد على ذلك، وباقي الحصة هل يرد على بقية أهل الأصناف، أو ينقل إلى ذلك الصنف في بلد آخر؟ فيه قولان في "تعليق" أبي الطيب كالقولين فيما إذا فقد الصنف في بلد [ذلك] المال ووجد في غيره، وهما في "الشامل" وجهان، وادعى الماوردي أن المذهب منهما الأول.
وإن كانت حاجة الموجود من الصنف لا تندفع إلا بجميع حصة الصنف، فقد قال المتولي: إن قلنا: لا يجوز نقل الصدقة، صرفنا جملة النصيب إلى الموجود، وإن قلنا: يجوز نقلها، فلا يجوز الإخلال بالعدد. وسكت عما يصرف للموجود وما ينقل.
وقال الإمام: إن العراقيين بنوا ذلك على ما إذا عدم الصنف كله في بلد ووجد في غيره، فإن قلنا ثم: لا ينقل ويفض على الموجودين، فهاهنا يفض في مسألتنا ولا ينقل أولى. وإن قلنا ثم: يجب النقل، ففي هذه الصورة قولان.
والذي قاله [القاضي] أبو الطيب وغيره: أن ذلك ينبني على القولين فيما إذا فقد الصنف في بلد المال ووجد في غيره، فإن قلنا: يصرف لباقي الأصناف، صرف جميع السهم هنا للموجود، وهو ما نص عليه في "المختصر" في ابن السبيل، وإن قلنا: ينقل ذلك الصنف حيث كان، فلا يجوز أن يدفع [الكل، ويجوز أن يدفع] إله الأكثر من السهم، وينقل إلى البلد الآخر ما يجوز أن يدفعه إلى الواحد [عند وجود ثلاثة منهم فأكثر؛ لأنه لا يجوز له التفضيل في الإعطاء في الصنف الواحد].
وقال الماوردي والبندنيجي على هذا: إنه لا يجوز أن يعطى الموجود إلا ثلث السهم [من غير زيادة]؛ لأن الله تعالى جعله لجمع أقله ثلاثة، وينقل باقي السهم – وهو ثلثاه – إلى ذلك الصنف بأقرب البلاد.
والخلاف هكذا هو الذي حكاه القاضي الحسين في موضع من الكتاب حيث قال: إذا لم يوجد من صنف إلا واحد دفع إليه النصيب كله إذا كان قدر حاجته، ومن
أصحابنا من قال: يدفع إليه ثلث نصيب الصنف؛ للآية، والله أعلم.
قال: والأفضل أن يفرق عليهم على قدر حاجتهم، أي إن تفاوتت، وأن يسوي بينهم، أي: ويستحب أن يسوي بينهم إن استوت حاجتهم؛ لأن الزكاة شرعت لدفع الحاجة. ولو لم يفعل ذلك، وسوى بينهم مع تفاوت الحاجة، أو فاضل مع تساوي الحاجة - جاز؛ لما تقدمت حكايته [عن رواية] الإمام عن والده، ويأتي فيه وجه الشيخ أبي محمد السابق، وبه صرح في "الوسيط"، والمشهور: الأول، وقد قال الأصحاب تفريعاً عليه: إنه يخالف هذا ما لو أراد أن يفاضل بين الأصناف في القسمة؛ فإنه لا يجوز، [ولو] مع تفاوت الحاجة وشدتها؛ لأن الأصناف محصورة فيمكن التسوية بينها، والعدد من كل صنف غير محصور؛ فسقط اعتبار السوية.
قال في "التهذيب": وليس كما لو أوصى لفقراء بلد بعينه وهم محصورون؛ حيث يجب تعميمهم و [لا] تجب التسوية؛ لأن الحق في الوصية لهم على التعيين، [حتى لو لم يكن هناك [فقير] بطلت الوصية، وهاهنا لم يثبت الحق لهم على التعيين]؛ وإنما تعينوا لفقد غيرهم؛ ولهذا لو لم يكن في البلد مستحقون لا تسقط الزكاة؛ بل تنقل إلى بلد آخر، فمن حيث إنهم محصورون يجب التعميم، ومن حيث إنهم لم يثبت [لهم] على التعيين لاتجب التسوية.
وقد يقال: إن معنى قول الشيخ رحمه الله: "والأفضل أن يفرق عليهم على قدر حاجتهم"، أي: إن أمكن، مثل: أن تكون حاجة ثلاثة من الصنف ستمائة درهم، يحتاج أحدهم إلى مائة، والآخر إلى مائتين، والثالث إلى ثلاثمائة، وحصة الصنف من زكاته ستمائة، فيستحب أن يصرفها لهم، ولو صرفها لهم ولغيرهم جاز؛ لما تقدم، لكنه خلاف الأفضل.
وقوله: "وأن يسوي بينهم"، أي: إن لم يمكنه دفع حاجة [ثلاثة من] الصنف؛
لأنه ربما وجب عليه النصف، مثل: أن تكون حصة الصنف ثلاثمائة – والصورة كما ذكرنا – فيستحب أن يدفع إلى الأول خمسين، وإلى الثاني مائة، إلى الثالث مثلهما؛ لأنه بذلك تحصل التسوية؛ ولهذا قال الأصحاب: إنه يجب على الإمام إذا قسم، ولم يمكنه تعميم الصنف [من جميع] الزكوات – أن يقسم على هذا النحو؛ إذ تعميم الصنف واجب عليه؛ ولو لم يفعل رب المال ذلك، بل سوى في الدفع إليهم من غير نظر إلى قدر الحاجة – جاز، لكنه خلاف الأفضل والله أعلم.
قال: فإن دفع جميع السهم إلى اثنين، أي: وحصة الصنف من الزكاة لا تفي بحاجات أهل الصنف ولو قسم عليهم – غرم للثالث الثلث في أحد القولين؛ لأنا جعلنا إليه الاجتهاد في [ذلك] القدر بشرط ألا يخل بالعدد، فإذا ظهر منه الإخلال بالعدد بان أنه ليس من أهل الاجتهاد؛ فألزمناه القسمة، قال: على ما اقتضاه ظاهر الآية؛ فإنه يقتضي التسوية، وهذا ما نص عليه في قسم الصدقات.
قال: وأقل جزء في القول الآخر؛ لأنه لو اقتصر عليه ابتداء أجزأه، وهذا ما ادعى ابن الصباغ [وغيره] أنه القياس؛ وصححه الإمام في كتاب الأضحية والنووي.
وقد قرب المتولي هذا الخلاف من الخلاف فيما إذا باع الوكيل [بدون] ما يتغابن بمثله وهلك المال: فهل يضمن ما نقص عن القدر الذي يتغابن به، أو يضمن جميع النقص؟ وفيه قولان، وقال المحاملي: إن الخلاف في مسألتنا وفي مسألة الأضحية مخرج من مسألة الوكيل، وقد ذكرت ذلك عنه في الأضحية.
ولو صرف جميع السهم إلى واحد فعلى الأول يضمن الثلثين، وعلى الثاني: أقل ما يجوز صرفه لاثنين. أما إذا صرف جميع السهم إلى اثنين، وحصة الصنف بقدر حاجات أهل الصنف؛ لكونهم ثلاثة – فالمغروم للثالث قدر حاجته، صرح به الماوردي.
وهذا كله فيما إذا فرق رب المال زكاته بنفسه، أما إذا فرقها الإمام فعليه استيعاب
آحاد كل صنف، ولا يجوز له الاقتصار على بعضه؛ فإن الاستيعاب لا يتعذر عليه، بخلاف رب المال، هكذا قاله ابن الصباغ والمتولي والبدنيجي والماوردي، وقال القاضي الحسين: إن عليه أن يول الصدقة إلى [كل] من يقدر عليه.
قال الرافعي: وليس المراد أنه يستوعب في زكاة كل شخص الآحاد؛ ولكن يستوعبهم بالزكوات الحاصلة في يده.
وإلى ذلك يرشد ما ذكره الماوردي من الفرق بين رب المال والإمام فيما نحن فيه، وهو أن الإمام يقسم جميع الصدقات؛ [فلزمه أن يعم بها جميع أهل السهمان، ورب المال يقسم بعض الصدقات] فجاز أن يقتصر على بعض أهل السهمان، قال الأصحاب: وللإمام وضع صدقة رجل واحد كلها في فقير واحد وفي صنف واحد، لكن لا يجوز أن يحرم من جملة الصدقات صنفاً أو يفضله على صنف آخر، صرح به الفوراني والبندنيجي. وله – كما قال المتولي، وتبعه الرافعي – أن يخص الصنف بنوع من المال، [وآخرني بنوع] آخر، لكن بالقيمة؛ لأن في تكليفه قسمة كل نوع مشقة، يوجب عليه التسوية في العطاء لأهل الصنف الواحد؛ فلا يفضل بعضهم على بعض، حكاه المتولي أيضاً.
ومعنى التسوية: أن يعطي كل واحد من الصنف قدر حاجته إن اتسع سهمهم لذلك، صرح به ابن الصباغ وغيره، [وإن لم يتسع وزعه على قدر الحاجة كما توزع التركة على الديوان عند ضيق التركة عن الوفاء، صرح به البندنيجي وغيره].
وإذا عرفت ذلك فاعلم أن قول الشيخ – رحمه الله:"وأقل ما يجزئ أن يدفع إلى ثلاثة من كل صنف إلا العامل؛ فإنه يجوز أن يكون واحداً" – غير منتظم؛ لأنه إن أراد بذلك إذا كان المفرق هو رب المال-كما ذكرناه، وصرح به غيره من الأصحاب-[لم يحتج] إلى استثناء العامل؛ لأن العامل يسقط إذا كان المفرق رب المال، وإن أراد به إذا كان [المفرق هو الإمام]: فإن كان في صورة دفع
أرباب [الأموال] الزكوات فيها إلى الإمام بأنفسهم، فقد ذكرنا عن الأصحاب أن نصيب العامل يسقط أيضاً؛ فهو كما لو فرقها رب المال- وفيه ما تقدم – وإن كان في صورة لا يسقط فيها سهم العامل، وهي إذا حصل السعاة الزكوات من أرباب الأموال، وأحضروها إلى الإمام؛ لكونه لم يفوض إليهم إلا القبض دون الصرف – وهو جائز – فالإمام يجب عليه [تعميم] آحاد الصنف إذا فرق كما تقدم، وحينئذ لا يكون قوله:"وأقل ما يجزئ أن يدفع إلى ثلاثة من كل صنف" موافقاً لما قاله الأصحاب، وقد يجاب عن ذلك بوجهين ضعيفين:
أحدهما: أن مراده الحالة الأخيرة، وقولكم: إن الإمام إذا فرق يجب عليه الاستيعاب، ممنوع؛ لان الغزالي – رحمه الله – في "الوجيز" أطلق القول بأنه لا يجب استيعاب آحاد الأصناف، بل يجوز الاقتصار على ثلاثة؛ فإنه أقل الجمع، ولم يفصل بين أن يكون المفرق رب المال أو الإمام، وبه صرح الفوراني حيث قال: الإمام في قسمة جميع الصدقات كرب المال في [قسمة] صدقة نفسه خصوصاً، والمستحب: أن يوصل سهم كل صنف إلى جميع أهل ذلك الصنف وإن كانوا ألفاً، وإن أوصل من كل صنف إلى ثلاثة فصاعداً أجزأ ذلك، وعلى هذا: إذا فرق الإمام إلى اثنين يكون كرب المال.
الثاني: سلمنا أن الإمام إذا فرق وجب عليه الاستيعاب، لكن نفرض الكلام فيما إذا كان المفرق هوا لساعي حيث جعل له الإمام الصرف ونقول له الاقتصار على ثلاثة من كل صنف؛ لأن المعنى الذي لأجله فرقنا بين الإمام ورب المال في ذلك- وهو ما ذكرناه عن الماوردي – مفقود فيه؛ لأنه لا يقبض كل الصدقات، بل صدقات أقوام مخصوصين؛ ولهذا [المعنى] حكينا عن الماوردي عند قول الشيخ:"ويجب صرف [زكاة] المال إلى ثمانية أصناف"، أن الساعي إذا كان هو الصارف ليس له أن يخص بكل صدقة صنفاً كالإمام؛ لأن نظره خاص لا يستقر إلا على ما جباه،
[وربما صرف] فلم يقض باقي الأصناف، بخلاف الإمام.
فإن قلت: ضعف الأول ظاهر؛ لأن الشيخ – رحمه الله – عراقي، ومذهب العراقيين ما ذكرناه، فما وجه ضعف الثاني؟
قلت: لأن [الظاهر من كلام] الماوردي وغيره في الفرق بين رب المال والإمام: أن للإمام قبض كل الصدقات؛ فوجب عليه الاستيعاب بخلاف رب المال.
وإنما أرادوا بقبض [كل الصدقات: [كل] صدقات] بلد المال، لا [كل] صدقات البلاد؛ لأن كون له قبض صدقات [جميع البلاد] لا يظهر له أثر في وجوب استيعاب أهل أصناف بلد المال بالصرف إليهم، على القول بمنع النقل كما هو الصحيح، نعم، أثر قبضه لكل صدقات بلد المال يظهر [في وجوب استيعاب أهل الأصناف فيها؛ لأنهم المستحقون للجميع، وإن كان كذلك فالساعي مشارك للإمام في تسلطه على قبض كل صدقات بلد المال]؛ فوجب مشاركته له في وجوب استيعاب الصرف لجميع أهل السهمان في البلد؛ ولذلك أطلق البندنيجي القول بأن الكلام في الساعي نفسه، والإمام واحد، وهو ما حكيناه عن موضع من "البحر" فيما تقدم.
وهذا قلته؛ بناء على أن الإمام في منع النقل كرب المال، كما هو مقتضى كلام الماوردي وغيره كما سبق، أما إذا قلنا: إن له النقل وإن منعنا رب المال منه – كما اقتضاه كلام بعضهم – فيظهر أن يكون لتسلط الإمام على قبض صدقات غير بلد المال أثر في استيعاب أهل السهمان في كل بلد، وحينئذ لا يلتحق به الساعي؛ فيصح الجواب، والله أعلم.
واعلم أنه إذا كان المفرق ماشية: فإن كان في المال متسع بحيث يخص كل شخص من صنف حيوان كامل، سلم إليه وإن كان لا يقدر أن يعطي [كل]
واحد رأساً، جمع جماعة من المستحقين، وملكهم رأساً من ذلك، وبين حصة كل واحد منهم.
ولا يبيع رب المال النعم ويفرق ثمنها، وكذا الإمام، إلا أن يتعذر عليه الصرف كذلك؛ لتعذر اجتماع المستحقين، أو بسبب آخر: كتعذر السوق – كما قاله الماوردي وغيره – فحينئذ يبيع ويفرق الثمن [على الفقراء، وعن "التهذيب": أن الإمام إن رأى فعل ذلك فعله، ون رأى أن يبيع باع، وفرق الثمن] عليهم.
قال: وإن فضل عن بعض الأصناف شيء، وكنا نصيب الباقين وفق كفايتهم، أي: قدرها من غير زيادة – وهو بفتح الواو – نقل ما فضل إلى ذلك الصنف بأقرب البلاد إليه؛ لأن المنع من النقل إنما كان [لدفع حاجة] أهل البلد، فإذا عدمت الحاجة زال المانع فحل النقل، بل وجب كما لو لم يوجد شيء من الأصناف في بلد المال؛ فإنه يجب نقله إلى أقرب البلاد إليه، ويجيء فيه الوجه السابق المفرق بين أن يحتاج إلى مسافة القصر أو لا، ووجه آخر: أن الفاضل يقسم على جميع أهل السهمان في البلد المنقول إليه، ويجعل [كالصدقة] المبتدأة لهم، حكاه الماوردي وقال: إنه مفرع على أن المغلب حكم الأصناف، أما إذا قلنا: المغلب حكم البلد، فالأمر كما ذكر الشيخ، ثم ما ذكرناه من التعليل يقتضي جواز النقل مطلقاً، وكذا قولهم: إن أطماع أهل السهمان في البلد تتعلق بالمال فيه، لا يقتضي إيجاب النقل لأقرب البلاد؛ لأن أهل السهمان فيه لا تتعلق أطماعهم بمال في غيره، خصوصاً إذا كان حول بلد المال الذي فقد فيه الصنف أو كل الأصناف بلاد متساوية.
ثم على ما قاله الأصحاب من وجوب النقل إلى [ذلك الصنف] بأقرب البلاد، لو نقل إلى أبعد منه مع تمكنه من النقل إليه، خرج على القولين في النقل.
قال: وإن فضل عن بعضهم ونقص عن كفاية البعض، أي: بقدر ما فضل، مثل: أن فضل عن بعضهم مائة، وعجز عن كفاية بعض مائة – نقل الفاضل، أي: جعل الفاضل إلى الذين نقص سهمهم عن الكفاية [في أحد القولين، وينقل إلى الصنف
الذي فضل عنهم بأقرب البلاد إليه في القول الآخر.
هذا الخلاف حكاه القاضي أبو الطيب قولين كالشيخ، والماوردي والبندنيجي وابن الصباغ والقاضي الحسين حكوه وجهين، وهما مبنيان على أن المغلب حكم البلد، أو حكم الأصناف – كما تقدم -:
فإن غلبنا حكم البلد، جعل للبعض الذين نقص سهمهم عن الكفاية]، قال الرافعي: ويُرَدُّ عليهم بالسوية، فإن اكتفى بعضهم ببعض المردود، قسم الباقي بين الآخرين بالسوية، [وهذا ما صححه الفوراني].
وإن غلبنا حكم الأصناف، نقل إلى [ذلك] الصنف الذي فضل عنهم بأقرب البلاد إليه، ويجيء [تفريعاً عليه] الوجه الآخر: أنه يقسم الفاضل على جميع أهل السهمان بالبلد المنقول إليه كالصدقة المبتدأة، كما تقدم نظيره في المسألة قبلها.
واعلم أن ظاهر قول الشيخ في هذه المسألة والتي قبلها: "نقل إلى أقرب البلاد إليه"، يفهم أن مؤنة النقل عليه، وقد قال الإمام: إنه إذا كان يحتاج في النقل إلى مؤنة فهذا مما تردد فيه الأئمة: ففي كلام بعضهم ما يدل على أنه يجب تكليف النقل وإن عظمت المؤنة؛ فإن تأدية الزكاة محتومة. قال: وهذا بعيد، والأصح: أن ذلك لا يجب، فيوقف إلى أن يجد المستحقين.
قال: وأما زكاة الفطر فالمذهب أنها – كزكاة المال – تصرف إلى الأصناف، أي: الثمانية إن قسمها الإمام ووجدت، أو السبعة إن قسمها رب المال؛ لأن الأدلة الواردة في زكاة المال شاملة لها، وهذا ما نص عليه في "المختصر" في كتاب زكاة الفطر.
وقيل: يجزئ أن تصرف إلى ثلاثة من الفقراء، أي:[أو] المساكين؛ لقول ابن عباس:"إن رسول الله صلى الله عليه وسلم فرض زكاة الفطر طهرة للصائم من اللغو والرفث، وطعمة
للمساكين"، [فخص [المساكين] بالذكر؛ فدل على أنه إذا صرف إليهم سقط الفرض، وقد تقرر أن المساكين متى خصوا بالذكر جاز الصرف إليهم وللفقراء ولأحد الصنفين، وكذلك إذا خص الفقراء بالذكر جاز الصرف لهم وللمساكين ولأحد الصنفين].
ولأن زكاة الفطر قليلة في الغالب؛ فإذا وزعت على الأصناف لم تقع من كل واحد موقعاً من كفايته.
وهذا ما نقله العراقيون والمراوزة فيما وقفت عليه عن الإصطخري، وعن أبي عبد الله الحناطي أنه قول غيره، والذي قاله الإصطخري: جواز صرف زكاة المال كما تقدم، وقال في "البحر": إنه كان يفتي به كثير من أصحابنا، والجمهور غلطوه وقالوا: المشقة لا ترخص في ذلك؛ ألا ترى أن [من] وجب عليه جزء من بعير يلزمه التصدق به على الأصناف، وإن كان [فيه] مشقة؟ وأيضاً فمحل خلافه –كما قال الماوردي وغيره – إذا كان المفرق رب المال دون الإمام، وإذا كان كذلك فهو يمكنه الدفع إلى الإمام؛ حتى يجمعها مع صدقة غيره، ويصرفها إلى الأصناف، وإلى ذلك أشار أبو إسحاق في ["الشرح"] حيث قال: لو عمل فيها ما عمله أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم من الجمع في موضع واحد، ثم تفرق لم يضق.
وقد أفهم كلام الشيخ أن القائل بخلاف ظاهر المذهب لا يجوز الصرف إلى غير الفقراء والمساكين فقط، وفي "التتمة": أنه لو صرف إلى العاملين أو إلى أبناء السبيل؛ لا يجوز إن قلنا: إن سقوط الفرض بالصرف إلى المساكين؛ لأن الرسول صلى الله عليه وسلم خصهم بالذكر.
قلت: وكلامه يفهم أنا إذا جعلنا علة الإجزاء في الصرف للمساكين فقط: المشقة، جواز الصرف للعاملين أو أبناء السبيل فقط، وفيه نظر؛ لأن سهم العاملين يسقط إذا فرق رب المال وهو محل الخلاف، ولا يقال: إنه يجوز أن يصرف من
زكاته لمن جبي مال غيره، وابن الصباغ قال في حكاية هذا الوجه: إنه يجوز الصرف إلى ثلاثة أنفس. وقريب منه قول الفوراني: إنه يجوز الصرف إلى صنف واحد. وذلك يحتمل أن يكون المراد صنفاً معيناً، وهو ما تقدم، ويحتمل أن يكون المراد أي صنف كان غير العامل، وبالثاني صرح الماوردي – حكاية عن الإصطخري – حيث قال: إنه يجوز الدفع إلى ثلاثة من أي صنف شاء، ولا يجوز أن يصرفها إلى أقل من ذلك. وصاحب "البحر" حكى هذه الطريقة وطريقة المتولي، وقد رأيت في شرح "التنبيه" لابن يونس: أن الخراسانيين نقلوا عن الإصطخري أنه جوز الصرف إلى واحد، وهو المحكي في "البحر" عن أبي حنيفة، ثم قال: وأنا أفتي به.
قال: ولا تدفع الزكاة إلى كافر؛ لقوله – عليه السلام –لمعاذ: "فأعلمهم أنَّ عليهم صدقةً تؤخذ من أغنياهم، [فتردُّ على] فقرائهم"، فجعل من تدفع إليه الصدقة فقيراً، ومن تؤخذ منه الصدقة غنياً؛ فلما لم يجز أخذ الصدقة إلا من [غني] مسلم وجب ألا تدفع الصدقة إلا إلى فقير مسلم. ولا فرق في ذلك بين زكاة المال والفطر عندنا؛ لعموم الخبر، وأيضاً: فقد وافق الخصم – وهو أبو حنيفة – على زكاة المال، فنقول له: حق وجب إخراجه للطهرة؛ فلم يجز دفعه إلى أهل الذمة؛ كزكاة المال.
ولا يستثنى من ذلك إلا ما تقدم عند الكلام في العامل.
قال: ولا إلى بني هاشم؛ لقوله – عليه السلام:"إنَّ هذه الصَّدقة أوساخ النَّاس، إنها لا تحلُّ لمحمدٍ ولا لآل محمدٍ"، وروى أبو هريرة أن الحسن بن علي أخذ تمرة من [تمر] الصدقة، فجعلها في فيه، فنزعها رسول الله صلى الله عليه وسلم من فيه [بلعابه] وقال:"كخ كخ" وقال: "إنا – آل محمد – لا تحل لنا الصدقات".
قال: وبني المطلب؛ لأنه – عليه السلام – قال: "نحن وبني المطَّلب شيء واحدٌ. وشبَّك بين أصًابعه، ولا يستثني من ذلك إلا ما ذكرناه عند الكلام في العامل وفاقاً وخلافاً.
وقيل: إن منعوا حقهم من خمس الخمس دفع إليهم؛ لأنه – عليه السلام – علل حرمانهم الزكاة بأن في خمس الخمس ما يكفيهم، فإذا منعوه زال المانع، وهذا قول الإصطخري – كما قال البندنيجي – وهو جارٍ فيما ذا عدم خمس الخمس من طريق الأولى، وبه صرح الأصحاب.
[قال: وليس] بشيء؛ لأن العلة كونها أوساخ الناس، فلا يليق بشرفهم تناولها، وذلك لا يزول بمنع الخمس عنهم أو فقده.
وهل يجوز أن تدفع إليهم صدقة التطوع والمنذورة؟ فيه شيء سنذكره في الباب بعده، إن شاء الله تعالى.
قال: ويجوز الدفع إلى موالي بني هاشم، وبني المطلب، وقيل: لا يجوز؛ لما قدمته من التوجيه عند الكلام في العامل.
ولا يجوز الدفع للرقيق على أنه يملكه نفسه بحالٍ كما تقدم.
وإذا عرفت من يجو الصرف لهم ومن لا يجوز، تفرع عليه ما إذا صرف إلى من ظنه من أهل الصدقة، فظهر خلافه: هل يجزئه أم لا؟ وقد قال الأصحاب: إن ذلك يختلف بحسب اختلاف المدفوع إليه:
فإن كان ممن يحتاج إلى إقامة البينة على حاجته كالمكاتب والغارم: فإن كان الدفع إليه بمجرد قوله، وغلب على الظن صدقه – ضمن الدافع، سواء فيه الإمام
ورب المال ثم إن أمكنه الاسترجاع من المدفوع إليه استرجع العين أو البدل عند تلفها لنفسه لا لأهل السهمان، وإن كان ببينة ظهرت مزورة أو مخطئة كانت البينة [ضامنة. ثم] إن كان الدافع هو الإمام ضمنت لأهل السهمان، وإن كانت لرب المال ضنت له، وكانت الزكاة عليه، كذا قاله الماوردي وغيره، وفي "النهاية": أن [في] سقوط الفرض عنه قولين، كما إذا دفع إلى فقير فظهر غنيا.
قلت: ولو كان الدفع إليهما بالإقرار وتصديق السيد والغريم، فينبغي أن يكون في تضمين المصدق قولاً الغرور؛ إذ تصديقه هوا لمقتضي للدفع.
وإن كان المدفوع إليه ممن [يستحق] بسبب متأخر: كالغازي، وابن السبيل، ولم يغز الغازي ولم يسافر ابن السبيل- فلا ضمان على الدافع إماماً كان أو غيره، لكن عليه مطالبته. ثم إن كان عام الزكاة باقياً، خيره في المطالبة بين رد ما أخذه وبين أن ستأنف غزوا أو سفراً، وإن كان عام الزكاة قد انقضى، طالبه بالرد من غير تخيير؛ لأن زكاة كل عام مستحقة لأهلها في ذلك العام لا في غيره، كذا قاله الماوردي، ثم قال: فإن لم يسترجع منه حتى سافر وغزا في العام الثاني نظر: فإن كان قد أخذ في العام الثاني من زكاة ثانية استرجع منه ما أخذ في [العام الأول، وإن كان لم يأخذ في العام الثاني من زكاة ثانية، لم يسترجع منه ما أخذه في العام الأول].
ولو مات المدفوع إليه قبل [إمكان الاسترجاع كان تالفاً على أهل السهمان، وإن كان المدفوع إليه] متصفاً بصفة الفقر أو المسكنة، فظهر غنياً، أو رقيقاً، أو كافراً، أو من ذوي القربى – فإن [كان] الدفع إليه بغير اجتهاد، ضمن الدافع إماماً كان أو غيره، وإن كان باجتهاد، ففي حالة ظهور غناه لا يضمن الإمام، وله الاسترجاع، سواء شرط عند الدفع أنها زكاة أو لم يشترط. ويجيء فيه ما تقدم عند دفعه الزكاة المعجلة، ثم استغنى المدفوع إليه: فإن كان الدافع رب المال، ففي ضمانه قولان:
أحدهما: [أنه] لا يضمن كالإمام.
والثاني: أنه يضمن، وهو الذي صححه الرافعي.
والفرق من ثلاثة أوجه قالها الماوردي:
أحدها: أن للإمام عليها ولاية ليست لرب المال؛ فلم يضمنها إلا بالعدوان.
والثاني: أن الإمام برئ من ضمانها قبل الدفع؛ فلم يضمنها إلا بتفريط ظاهر، ورب المال مرتهن الذمة بضمانها قبل الدفع فلم يبرأ منها إلا باستحقاق ظاهر.
والثالث: أن الإمام لا يقدر على دفعها إلى مستحقيها] بيقين بخلاف الإمام؛ فضمن إذا دفعها باجتهاد وظهر خلافه.
ثم إذا قلنا بهذا فإن كان قد شرط عند الدفع أنها زكاة، كان له استرجاعها، وإن لم يشترط وصدقه القابض على أنها زكاة، [استرجع أيضاً، وإلا فلا. وهل له إحلافه على عدم العلم بأن ما أخذه زكاة]؟ فيه وجهان في "الحاوي"، وفي حالة ظهور عبداً، أو كافراً، أو من ذوي القربى: هل يضمن الدافع؟ فيه طريقان:
أحداهما – وهي طريقة كثير من المتقدمين، وهي التي نص عليها في "الأم"، كما قال ابن الصباغ وغيره-: أن الحكم كما لو ظهر غنياً.
والثانية: إن كان الدافع رب المال ضن قولا واحداً، وإن كان الإمام ففي ضمانه قولان، أصحهما في "الرافعي": لا. وهذه طريقة ابن أبي هريرة وطائفة من المتأخرين، ولم يورد الماوردي في كتاب الأيمان غيرها.
وعن الحناطي حكاية طريقة أخرى قاطعة بضمان الإمام أيضاً.
والفرق بين هذه الصورة والتي قبلها: أن يقين الفقر لا يعلم قطعاً؛ فجاز أن يعمل فهي على الظاهر، والحرية والإسلام وعدم القرابة تعلم يقيناً؛ فلم يجز أن يعمل فيه على الظاهر؛ ألا ترى أنه ذا صلى خلف شخص ثم ظهر كافراً يعيد، بخلاف ما لو صلى خلف محدث؛ لما ذكرناه؟! ولأن الكافر العبد وذا القرابة لا يُعطَى بحال من
الزكاة، والغني يعطى في حالة منها: وهي حالة الغزو ونحوها.
وقد نجز شرح مسائل الباب لنختمه بشيء يتعلق به:
الإمام إذا تمكن من قسم الصدقات، وجب عليه المبادرة؛ فإن لم يفعل عند عدم العذر ضمن، والعذر قد سبق بيانه عند الكلام في التعجيل، ووجه الأصحاب ذلك بأن المستحق غير متعين حتى يتمكن من المطالبة بحقه؛ ولأجل هذه [العلة] قالوا:[إن] الحكم كذلك فيما لو أوصى بتفريق ثلثه على الفقراء ومات الموصي، وتمكن من التفرقة فلم يفعل حتى تلف، وهذا بخلاف ما لو سلم [مالا إلى وكيله] ليفرقه أو يسلمه لشخص، فلم يسلمه حتى تلف – لا يضمنه كما قال الرافعي، وهو أحد الوجهين في "البحر" قبل باب صدقة البقر، واختيار كثير من الأصحاب، والفرق: أنه لا يلزمه امتثال أمره، بخلاف أمر الشرع.
قال الروياني: والصحيح عندي: الضمان؛ لأنه التزمه باختياره؛ فلزمه الوفاء به.
ثم حيث قلنا بضمان الإمام، [أو لم] نضمنه وقد قبض الحق بعد وجوبه؛ فذمة رب المال بريئة منه؛ لأن الشرع نصبه نائباً عن المستحقين، فإذا قبضها فقد وقعت الموقع.
قال الإمام قبيل باب زكاة البقر: وهذا يتضح إذا قلنا: لابد من دفع الزكاة في الأموال الظاهرة إلى الساعي، فأما إذا قلنا: لرب المال أن يفرقها بنفسه، فلو دفعها إلى الساعي مختاراً من غير قهر، فتلفت في يد الساعي –ففيه اختلاف بين أئمتنا: منهم من قال: إن الأمر كما تقدم.
ومنهم من قال: يد الساعي كيد الوكيل للمالك، ولو تلفت في يد وكيله لكانت ذمته مشغولة؛ فكذا هنا.
وهذا الخلاف قد حكاه القاضي الحسين أيضاً في الموضع المذكور.
ثم إذا أراد الإمام القسمة فبمن يبدأ؟
قال الأصحاب: يبدأ بالساعي؛ لما تقدم.
وفي "الحاوي": أن بعض الأصناف إن تعجل حضوره وتأخر الباقون بدأ به، وإن حضروا جميعاً، فقد قيل: يبدأ بأشدهم حاجة وأمسهم ضرورة.
وقيل: يبدأ بمن إذا فض عليهم سهمهم بقيت منه بقية لتفض على الباقين قبل القسمة، ولا يحتاج فضها إلى استئناف قسمتها.
وقيل: يبدأ بمن بدأ الله – تعالى – به في آية الصدقات على ترتيبهم [فيها].
إذا تمكن رب المال من أداء نصيب الفقراء دون سائر الأصناف، [فلم يؤد حتى تلف المال – فعليه ضمان حصة الفقراء، قال في "البحر": ويحتمل تخصيص الفقراء بها دون سائر الأصناف]؛ لأن وجودهم الذي قرر الوجوب فيها إذا دفع الزكاة إلى مسكين وهو غير عارف بالمدفوع، بأن كان مشدوداً في خرقة، أو كان عدلاً يعرف جنسه وقدره، وتلف في يد المسكين – ففي سقوط الزكاة احتمالان في "البحر"؛ لأن معرفة القابض لا تشترط؛ فكذلك معرفة الدافع إذا تصدق بجميع ما وجبت فيه الزكاة [ولم ينو الزكاة]، فظاهر المذهب: أنها لا تسقط، وقال ابن سريج: الأمر كذلك إذا كان له مال سواه، وإن لم يكن [له] غيره فوجهان:
[أحدهما] ما تقدم.
والثاني: يقع قدر الواجب عن الفرض والباقي تطوع.
قال الروياني: ويشبه أن يكونا لوجهان بناء على القولين في بيع مال الزكاة بعد الوجوب: فإن قلنا: ينفذ في الكل، فقدر الصدقة في ذمته، وإن قلنا: يصح فيما عدا قدر الواجب، كانت الزكاة منها واقعة موقعها، وقد تقدم أنه يجوز صرف زكاته إلى من له عليه دين خلا مكاتبه، فلو كان حال الدفع قال: على أن تردها عليَّ من
ديني؛ فإنه لا يجزئه عن زكاته، ولو قضاها إياه من دينه لم يصح القضاء، ذكره القفال في "فتاويه"، والبغوي في باب الشرط في المهر، والقاضي الحسين في قسم الصدقات، ومن طريق الأولى ألا يجزئه عن الزكاة إذا أبرأ المدين مما له عليه من الدين بنسبة الزكاة. وبه صرح الإمام حي قال في باب الدين مع الصدقة: إنه لاشك في أنه لا يقع عن الزكاة؛ فإن تأدية الزكاة من ضرورتها: أن تتضمن تمليكاً محققاً، وكذا قاله القاضي الحسين قبيل باب قسم الصدقة، وزاد فيه، والإبراء محض إسقاط.
ولو قال المديون: ادفع إلي ديناراً من الزكاة حتى أقضي به دينك، ففعل – جاز عن الزكاة، وهو بالخيار في أداء الدين منه.
ولو دفع الزكاة إلى شخص وواعده أن يردها إليه بالبيع أو الهبة، أو ليصرفها المزكي في كسوة المسكين ومصالحه – ففي كونه قبضاً صحيحاً احتمالان ذكرهما في "البحر"، والله أعلم.