المَكتَبَةُ الشَّامِلَةُ السُّنِّيَّةُ

الرئيسية

أقسام المكتبة

المؤلفين

القرآن

البحث 📚

‌[النظم الإسلامية فيها صلاح الأحوال كلها] - كمال الدين الإسلامي وحقيقته ومزاياه - جـ ٢

[عبد الله آل جار الله]

الفصل: ‌[النظم الإسلامية فيها صلاح الأحوال كلها]

[النظم الإسلامية فيها صلاح الأحوال كلها]

النظم الإسلامية فيها صلاح الأحوال كلها (1) من أكبر الأغلاط وأعظم الأخطاء استمداد الحكومات الإسلامية والجماعات والأفراد نظمهم وقوانينهم المتنوعة من النظم الأجنبية وهي في غاية الخلل والنقص وتركهم الاستمداد من دينهم، وفيه الكمال والتكميل ودفع الشر والفساد.

ما بقي من الإسلام إلا اسمه ورسمه، نتسمى بأننا مسلمون ونترك مقومات ديننا وأسسه وأعماله ونذهب نستمدها من الأجانب، وسبب ذلك الجهل الكبير بالدين وإحسان الظن بالأجانب، ومشاهدة ما عليه المسلمون الآن من الاختلال والضعف في جميع مواد الحياة الروحية والمادية نشأ عن ذلك كله توجيه الوجوه إلى الاستمداد من الأجانب، فلم نزد بذلك إلا ضعفا وخللا، وفسادا وضررا،

(1) المصدر السابق ص141.

ص: 98

وإلا فلو علمنا حق العلم أن في ديننا ما تشتهيه الأنفس وتمتد إليه الأعناق من المبادئ الراقية والأخلاق العالية والنظم العادلة والأسس الكاملة، لعلمنا أن البشر كلهم مفتقرون غاية الافتقار أن يأووا إلى ظله الظليل الواقي من الشر الطويل، فما من مبدأ وأصل وعمل نافع للبشر إلا ودين الإسلام قد تكفل به كفالة المليء القادر على تيسير الحياة التامة على قواعده وأسسه، وفيه حل المشكلات الحربية والاقتصادية وجميع مشاكل الحياة التي لا تعيش الأمم عيشة سعيدة بدون حلها.

أليست عقائده أصح العقائد وأصلحها للقلوب، ولا تصلح القلوب إلا بها، فهل أصح وأنفع وأعظم براهين من الاعتقاد اليقيني الصحيح أن نعلم علما يقينا أن لنا ربا عظيما تتضاءل عظمة المخلوقات كلها في عظمته وكبريائه، له الأسماء الحسنى والصفات العليا، قدير على كل شيء، عليم بكل شيء لا يعجزه شيء، ولا تخفى عليه خافية في الأرض ولا في السماء، رحيم وسعت رحمته كل شيء،

ص: 99

وملأ جوده أقطار العالم العلوي والسفلي، حكيم في كل ما خلقه وفي كل ما شرعه، قد أحسن ما خلق، وأحكم ما شرعه، يجيب الداعين، ويفرج كرب المكروبين، ويكشف هم المهمومين، من توكل عليه كفاه، ومن أناب إليه وتقرب إليه قربه وأدناه، ومن آوى إليه آواه، لا يأتي بالخير والحسنات إلا هو، ولا يكشف السوء والضر إلا هو، يتودد إلى عباده بكل طريق، ويهديهم إليه بكل سبيل، لا يخرج عن خيره وكرامته وجوده إلا المتمردون، فهل تصح القلوب والأرواح إلا بالله والتعبد لمن هذا شأنه، ممن يشارك الله في شيء من هذه الشئون التي يختص بها؟

وكذلك الأخلاق لا يهدي هذا الدين إلا لأحسنها، فهل ترى من خصلة كمال إلا أمر بها؟ ولا خصلة نفع وانتفاع إلا حث عليها، ولا خير إلا دل عليه، ولا شر إلا حذر منه.

أما حث على الصدق والعدل في الأقوال والأفعال، أما أمر بالإخلاص لله في كل الأحوال، أما حث على

ص: 100

الإحسان المتنوع لأصناف المخلوقات. أما أمر بنصر المظلومين وإغاثة الملهوفين وإزالة الضر عن المضطرين؟ أما رغب في حسن الخلق في كل طريق، مع القريب والبعيد، والعدو والصديق فقال:{ادْفَعْ بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ فَإِذَا الَّذِي بَيْنَكَ وَبَيْنَهُ عَدَاوَةٌ كَأَنَّهُ وَلِيٌّ حَمِيمٌ} [فصلت: 34][سورة فصلت: من الآية 34] ، أما نهى عن الكذب والفحش والخيانات، وحث على رعاية الشهادات والأمانات، أما حذر عن ظلم الناس في الدماء والأموال والأعراض، فما من خلق فاضل إلا أمر به ولا خلق رذيل ساقط إلا نهى عنه، ولذلك كانت القاعدة الكبرى لهذا الدين رعاية المصالح كلها ودفع المفاسد.

ثم إذا نظرنا مسايرته للحياة ومجاراة الأمم، فإذا فيه جميع النظم النافعة والنظم الواقية، أليس فيه الأمر بطلب الأرزاق من جميع طرقها النافعة المباحة من تجارات وصناعات وزراعات وأعمال متنوعة، فلم يمنع سببا من الأسباب النافعة بوجه من الوجوه، وإنما منع المعاملات الضارة، وهي التي تحتوي على ظلم أو ضرر أو قمار، ومن محاسنه تحريمه

ص: 101

هذه الأنواع التي لا تخفى مفاسدها وأضرارها، أليس فيه الأمر بأخذ الحذر من الأعداء وتوقي شرورهم بكل وسيلة، أليس فيه الأمر بإعداد العدة للأعداء بحسب الزمان والمكان والاستطاعة، أليس يحث على الاجتماع والائتلاف الذي هو الركن الأصيل للتعاون والتكافل على المصالح ومنافع الدين والدنيا والنهي عما يضاده من الافتراق؟ أليس فيه تعيين القيام بما بانت مصلحته وظهرت منفعته، والأمر بالمشاورة فيما تشابهت فيه المسالك، أليس فيه الإرشاد إلى جميع طرق العدل والرحمة المتنوعة، والحث على تنفيذها في حق جميع الخلق؟ أليس فيه الحث على الوفاء بالعقود والعهود والمعاملات الكبيرة والصغيرة التي بها قوام العباد. أليس فيه الأخذ على أيدي السفهاء والمجرمين بحسب ما يناسب جرائمهم وردعهم بالعقوبات والحدود المانعة والمخففة للجرائم، فأي مصلحهَ تخرج عن إرشادات هذا الدين، وأي أصل وأساس فيه الخير والصلاح إلا وقد أرشد إليه الدين لا فرق بين دينيها ودنيويها.

ص: 102

وجملة ذلك أن هذا الدين بين الله فيه للعباد أنه خلقهم لعبادته الجامعة لمعرفته والتقرب إليه بكل قول أو عمل أو مال أو منفعة، وخلق لهم ما في الكون ممهدا مسخرا لجميع مصالحهم، وأمرهم أن يستحصلوا هذه النعم بكل طريق ووسيلة تمكنهم منها، وأن يستعينوا بها على طاعة المنعم. فهل أوضع وأظلم وأجهل ممن أعرض عن هذا الدين الذي هو الغاية والنهاية في الكمال وهو المطلب الأعلى لأولي العقول والألباب، ثم ذهب يستمد الهدى والنفع من غيره وهو يدّعي أنه مسلم، لقد زاده هذا الاستمداد غيا وضلالا. ومن احتج بما يرى من حالة المسلمين وتأخرهم عن مجاراة الأمم في مرافق الحياة فقد ظلم باحتجاجه، فإن المسلمين لم يقوموا بما دعا إليه الدين ولم يحكموه في أمورهم الدينية، والدنيوية ونبذوا مقومات دينهم وروحه واكتفوا بالاسم عن المسمى وباللفظ عن المعنى، وبالرسوم عن الحقائق. والواجب أن ينظر إلى تعاليم الدين وتوجيهاته وأصوله ومقاصده ودعوته لجميع البشر إلى ما فيه خيرهم المتنوع،

ص: 103

ولهذا كان المنصفون من الأجانب على ما هم عليه يعترفون بكماله، وأنه لا سبيل لزوال الشرور عن العالم إلا بالأخذ بتعاليمه وأخلاقه وإرشاده.

وكما أن الدين هو الصلة الحقيقية بين العباد وبين ربهم به إليه يتقربون ويتحببون، وبه يغدق عليهم خير الدنيا والآخرة، فإنه الصلة بين العباد بعضهم ببعض تقوم به حياتهم، وتنحل به مشكلاتهم السياسية والاقتصادية والمالية، فكل حل بغيره فإن ضرره أكثر من نفعه، وشره أعظم من خيره، فإن فرض إصلاح بعض المشكلات ببعض النظم إصلاحا حقيقيا فتأمل ذلك الحل فلا بد أن تجده مستندا إلى الدين، لأن الدين يهدي للتي هي أقوم، كلمة عامة جامعة لا تبقي شيئا، والواقع يشهد بذلك.

وبالدين يتم النشاط الحيوي، ويستمد كل واحد من الآخر مادة الدين ومادة الحياة، لا كما يزعمه المنكرون والمغرورون والمأجورون أنه مخدر مؤخر لمواد الحياة، لقد والله كذبوا أشنع الكذب وأوقحه، فأي مادة من مواد الحياة أخرها

ص: 104

أو أوقفها أو لم يبلغ فيها نهاية ما يدركه البشر؟ فليأتوا بمثال واحد من الدين لا بالتمثيل بأحوال من ينتسب للدين وهو منه خلي إن كانوا صادقين.

فإن قيل أليست الأديان الصحيحة كلها من رب العالمين؟ فما بال دين المسيح روحه وحقيقته هو الصلة فقط بين العبد وبين ربه، وليس فيه التعرض إلى أمور مواد الحياة الحاضرة ونظمها، مع أن الله واسع الرحمة؟ فالجواب عن هذا سهل لمن عرف كيف نشأ الدين المسيحي في ظروف طغت فيها المادية اليهودية وبنو إسرائيل طائفة قليلة وجزء يسير بالنسبة إلى دولة الرومان ذات النظم الأرضية، فالأمة الإسرائيلية قليلة والمدة يسيرة، لأن دين المسيح مؤقت إلى مجيء الدين الكامل الشامل لعموم الخلق وعموم المصالح، فكما أن محمدا صلى الله عليه وسلم بُعث إلى الخلق كلهم، إنسهم وجنهم، فكذلك قد تكفل دينه بإصلاح الخلق إصلاحاَ روحيا وماديا، واستعان بكل واحد على الآخر، وبه تم الكمال وحصل، فكما تولى تهذيب القلوب والأرواح فقد

ص: 105

تولى تهذيب الحياة وضمن لمن قام به الحياة الطيبة من كل وجه لا من وجه واحد أو وجوه محصورة، وهذا من كمال حكمة الله، ومن شمول رحمة الله وهو الحكيم الرحيم.

ومن الأدلة على هذا أن الله قد يجمع في موضع واحد من كتابه بين العبادات المحضة وبين أمور المعاش والنظم الاجتماعية كما قال تعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذَا لَقِيتُمْ فِئَةً فَاثْبُتُوا وَاذْكُرُوا اللَّهَ كَثِيرًا لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ} [الأنفال: 45][سورة الأنفال: آية 45]، {وَلَا تَنَازَعُوا فَتَفْشَلُوا وَتَذْهَبَ رِيحُكُمْ وَاصْبِرُوا إِنَّ اللَّهَ مَعَ الصَّابِرِينَ} [الأنفال: 46] [سورة الأنفال: من الآية 46]، ثم قال بعد آيات:{وَأَعِدُّوا لَهُمْ مَا اسْتَطَعْتُمْ مِنْ قُوَّةٍ وَمِنْ رِبَاطِ الْخَيْلِ تُرْهِبُونَ بِهِ عَدُوَّ اللَّهِ وَعَدُوَّكُمْ} [الأنفال: 60][سورة الأنفال: من الآية 60]، وقال تعالى:{يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذَا نُودِيَ لِلصَّلَاةِ مِنْ يَوْمِ الْجُمُعَةِ فَاسْعَوْا إِلَى ذِكْرِ اللَّهِ وَذَرُوا الْبَيْعَ ذَلِكُمْ خَيْرٌ لَكُمْ إِنْ كُنْتُمْ تَعْلَمُونَ - فَإِذَا قُضِيَتِ الصَّلَاةُ فَانْتَشِرُوا فِي الْأَرْضِ وَابْتَغُوا مِنْ فَضْلِ اللَّهِ وَاذْكُرُوا اللَّهَ كَثِيرًا لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ} [الجمعة: 9 - 10][سورة الجمعة: الآيتان 9، 10] .

ص: 106

ألا ترى كيف جمع الأمر بذكر الله وبالصبر والثبات، وبالقوة المعنوية بالاجتماع وعدم التنازع، وبالقوة المادية بقوله:{وَأَعِدُّوا لَهُمْ مَا اسْتَطَعْتُمْ مِنْ قُوَّةٍ} [الأنفال: 60][سورة الأنفال: من الآية 60] ، فإنه يشمل الأمرين كما أمر في آية الجمعة بالإقبال على الصلاة والذكر في وجوب السعي إلى الجمعة، ثم بعدها بالانتشار لطلب الرزق. وقال صلى الله عليه وسلم فيما رواه مسلم:«إن الله أمر المؤمنين بما أمر به المرسلين فقال: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا كُلُوا مِنْ طَيِّبَاتِ مَا رَزَقْنَاكُمْ وَاشْكُرُوا لِلَّهِ إِنْ كُنْتُمْ إِيَّاهُ تَعْبُدُونَ} [البقرة: 172] [سورة البقرة: آية 172] ، وقال تعالى: {يَا أَيُّهَا الرُّسُلُ كُلُوا مِنَ الطَّيِّبَاتِ وَاعْمَلُوا صَالِحًا} [المؤمنون: 51] » [سورة المؤمنون: من الآية 51] ، والآيات في هذا المعنى كثيرة وشرائع الدين ومعاملاته التفصيلية شاهدة بذلك، وهي أحسن الشرائع وأحسن الأحكام والمعاملات التي بها تستقيم الأحوال وتزكو الخصال.

واعلم أن العبادات ليست مجرد الصلاة والصيام والصدقة بل جميع الأعمال التي يتوسل بها إلى القيام

ص: 107

بواجبات النفس والعوائل والمجتمع الإنساني، كل عمل يقوم بشيء من ذلك ويعين عليه فهو عبادة، فالكسب للعيال عبادة عظيمة، وكذلك الاكتساب الذي يراد به القيام بالزكوات والكفارات والنفقات العامة والخاصة كله عبادة، وكذلك الصناعات التي تعين على قيام الدين وردع المعتدين من أفضل العبادات، وكذلك التعلم للسياسات الداخلية والخارجية، والتعقل والتفكر في كل أمر فيه نفع للعباد، كل ذلك من العبادات، ولم يُرغّب الله في أمر الشورى في الأمور كلها إلا لتحقيق أمثال هذه المقاصد العالية النافعة، وشواهد هذه الجمل من الكتاب والسنة كثيرة جدا.

واعلم أن التطورات التي لا تزال تتجدد في الحياة والمجتمع قد وضع لها هذا الدين الكامل قواعد وأصولا يتمكن العارف بالدين وبالواقع من تطبيقها مهما كثرت وعظمت وتغيرت بها الأحوال، وهذا من كمال هذا الدين ومن البراهين على إحاطة علم الباري تعالى بالجزئيات والكليات وشمول رحمته وحكمته.

ص: 108

أما غيره من النظم والأسس وإن عظمت واستحسنت فإنها لا تبقى زمنا طويلا على كثرة التغيرات، واختلاف التطورات، لأنها من صنع المخلوقين الناقصين في علمهم وحكمتهم، وجميع صفاتهم، لا من صنع رب العالمين.

أرأيت هذه المدنيات الضخمة الزاخرة بعلوم المادة وأعمالها لو جمعوا بينها وبين روح الدين، وحكّموا تعاليمه الراقية الواقية الحافظة- أرأيت لو فعلوا ذلك أما تكون هذه المدنية الزاهرة التي يصبو إليها أولو الألباب وتتم بها الحياة الهنيئة الطيبة السعيدة؟ وتحصل فيها الوقاية من النكبات المزعجة، والقلاقل المفظعة. فحين فقدت الدين، واعتمدت على ماديتها الجوفاء الخرقاء جعلوا يتخبطون ويطلبون حياة سعيدة، ولم يصلوا إلا إلى حياة الأشقياء، الحياة المهددة في كل وقت بالحروب، وأصناف الكروب، ولا حول ولا قوة إلا بالله العلي العظيم.

وصلى الله وسلم على نبينا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين.

ص: 109