المَكتَبَةُ الشَّامِلَةُ السُّنِّيَّةُ

الرئيسية

أقسام المكتبة

المؤلفين

القرآن

البحث 📚

‌ثانيا: وجوب إعادة النظر في طريقة التمثيل في كتب الأصوليين - التروك النبوية - تأصيلا وتطبيقا - تقديم

[محمد صلاح الإتربي]

الفصل: ‌ثانيا: وجوب إعادة النظر في طريقة التمثيل في كتب الأصوليين

السنة من كل وجه، وما أوقعهم في ذلك إلا الغفلة عن التأصيل العلمي لمسألة الترك.

5 -

أن هناك مسائل معاصرة تتعلق بمسألة الترك، وتأصيل هذه المسألة تأصيلًا واضحًا يُنهى الخلاف في هذه المسائل، ويضع المرء منها على بيِّنة وبصيرة، ويقضي على الجدل الواسع، والخلاف العريض، والنقاش الطويل، مع ما يصحب ذلك أحيانًا من الخروج على آداب الخلاف، كالطعن في النيات، والاتهام بالجمود والتخلف والرجعيَّة؛ والخلاف إذا رَجَعَ إلى أصل يحتكم إليه سَهُل التغلب عليه، وأدى إلى توسيع المدارك، وإلى أن يعذر الناس بعضهم بعضًا فيما يذهبون إليه.

وقد هيأ الله تعالى فارسًا هُمامًا أُوتي الجلد في البحث والنظر والتتبع والاستقراء، وكشف عن أهميَّة هذا الموضوع بحسن تقسيمه، وسلاسة أسلوبه، وجميل تأصيله، وأحسب أن كل ما ذكرت من أهداف قد حققه الباحث في هذه الرسالة، فبارك الله في جهوده.

‌ثانيًا: وجوب إعادة النظر في طريقة التمثيل في كتب الأصوليين

.

اعتادت الكتابة الأصولية - وبالأخص المتأخرة منها - عادة غير حميدة؛ وهي: أن كثيرًا ممن يكتب في الأصول جرى في الكتابة والتأليف على عادة المتكلمين؛ حيث الصعوبة في العبارة إلى درجة الإغلاق، وتجريد القواعد الأصولية من الأمثلة العمليَّة، أو ذكر المثال لمجرد التمثيل على القاعدة حتى وإن كان المثال في ذاته صحيحًا، والخلل في كتب بعض الأصوليين من هذه الجهة من وجهين: الأول: وجود قواعد لا فروع لها. والثاني: عكس الأمر

ص: 19

الأول، وهو وجود قواعد لها فروع، لكن يعتور ذلك أمران: أحدهما: أن تكون الفروع غير صحيحة في ذاتها؛ بل أتَوا بها لمجرد توضيح القاعدة، والآخر: أن تكون الفروع صحيحة، لكنهم يقتصرون على فروع معيَّنة تدور عليها كتب الأصوليين، وكأنه لا يوجد غيرهما في الكتاب والسنة وأقوال السلف، إلى غير ذلك من أساليبهم في التأليف.

وقد درج هذا الأسلوب عند الأصوليين من القديم إلى الحديث، حتى سمعت بعض الباحثين في الأصول يقول: "إذا لم تكن الكتابة في الأصول ذات عبارات صعبة ومعقدة ومغلقة تحتاج لبسط وشرح، فليست كتابة أصولية

" هكذا قال؛ فسبحان الله، وهل أول كاتب لعلم الأصول الإمام الشافعي كانت كتابته كذلك؟! وهل علم الأصول إلا علم خادم للفهم والاستنباط؟ فإذا كانت هذه صفته، فكيف يؤدي غرضه؟ أليس أعظم كتاب وأنفعه للبشرية حتى كان دستورها العظيم، وقرآنا يُتلى آناء الليل وأطراف النهار، ذو أسلوب سهل سلس يفهمه القاصي والداني؟

ولقد عاب عليَّ أمثال هذا المتحدِّث حينما التزمت في رسالتي للدكتوراه، وفي بعض أبحاثي، أن تكون كتابتي في الأصول سلسة مدعَّمة بالأمثلة الواقعيَّة التي تظهر القاعدة وتوضحها - وأرجو أن أكون وفقت في ذلك - فقال لي غير واحد: لقد خرجت عن الأصول إلى الفقه، بل إلى الفقه المقارن، لماذا لا تذكر المثال وتمضي، فالمهم هي القاعدة الأصولية؟ قلت: عجبًا من مثل هذا الكلام! وهل غرض القاعدة الأصولية سوى التمثيل والتطبيق؟ ألم يقل الإمام الشاطبي: "كل مسألة موسومة في أصول الفقه لا يبنى عليها فروع فقهية،

ص: 20

أو آداب شرعية، أو لا تكون عونًا في ذلك؛ فوضعها في أصول الفقه عاريةٌ" (1)، أليس تنمية ملكة البحث والاستنباط والاجتهاد تكون بضرب الأمثلة بل والتطويل فيها، مع التوضيح والتفصيل والاستدراك والرد على التوجيهات والاستدلالات مرة بالإلزام بقاعدة أخرى، ومرة بتوضيح عدم اطراد القاعدة، ومرة بالاستثناء منها، أو إدخال ما ليس منها فيها، لدليل أو قرينة وما أشبه ذلك.

ولا يخفى أن أثر التأصيل لا يظهر إذا كان بمنأى عن التطبيق، فعلم الأصول أُضيف إلى الفقه:"أصول الفقه" ولم يُضف للفقه إلا لكونه مفيدًا له، ومحققًا للاجتهاد فيه، فإذا لم يكن مفيدًا فليس هو من أصول الفقه.

وقد حمدت للباحث الكريم سلاسة أسلوبه، وحسن تمثيله، وقربه من روح الكتاب والسنة؛ ليدلل على أن علم أصول الفقه ليس علمًا جامدًا كما يقولون، أو علم استوى واحترق كما يزعمون، بل هو علم مرن ممتع سلس لمن فهمه وأدرك غايته، وأحسن استخدامه، بل هذا العلم على حقيقته وصورته البهيَّة التي وضعها أسلافنا، يقدِّم حلولًا منطقيَّة علميَّة لكثير من إشكالات مسائل الخلاف، ولا أظنني أُغرب إذا قلت: إن حل معضلات مسائل الخلاف محصورة في معرفة علمين لا ثالث لهما: علم أصول الفقه، وعلم أصول الحديث، فالأول يضبط الاستدلال، والآخر يضبط الدليل، وإذا استقام الأمران، استقام الفهم، وقَرُبَ من فهم السلف، وبقدر إدراك

(1) انظر: الشاطبي: "الموافقات"(ج 1 / ص 37، 39).

ص: 21

العلمين، بقدر ما تنحصر مسائل الخلاف، وبقدر ما تتوحد الأمة على منهج سواء لا تقع معه في معضلات الخلافات والتناحرات والصراعات والاتهامات.

ولعل منهج التمثيل هذا، يحقق طريقة الأصوليين والفقهاء في التوظيف العملي لتفسير ألفاظ الشارع، وإيقاف طالب العلم على نماذج من ذلك، مما يُكسبه الدربة والمراس، واتساع الآفاق وطول النفس في المسائل، وطلب الدليل لها بكافة الإمكانات، مع عدم العجلة والإسراع في الجزم بالحكم، الذي يتبعه كيفية التعامل مع الخلاف والمخالف، بشكل أرحب وصدر أوسع.

لذلك كله أعجبني جدًّا مسلك باحثنا الكريم في التمثيل، وهو التمثيل الموسَّع أو البحث الفقهي الموسع (1) في بعض المسائل، رغم أنه قد تكون هذه الطريقة في التمثيل معيبة على مذهب البعض في بحث المسائل الأصولية، غير أني أراها عين الصواب، وفصل الخطاب من طرق التمثيل الأصولي؛ حيث إن ثمرة علم أصول الفقه لا تظهر إلا بالمثال، والمثال إذا لم يُبحث من جميع جوانبه، قد لا يسلم تمثيلًا صحيحًا على القضية الأصولية المراد لها الاستدلال لمعارضة البعض فيها، يُفسِّر هذا أن الأصوليين اختلفوا في التمثيل لمسائل معينة، وعارض بعضهم بعضًا في ذلك، فإذا ضربنا المثال لتوضيح القاعدة فقط، قد يُناقشنا البعض نقاشًا آخر حتى يُثبت لنا أن عكس المثال هو الذي يصلح للقاعدة؛ فإذا بحثنا المثال بحثًا فقهيًّا موسعًا، وبيَّنَّا كيف استدل به

(1) ولا أقول: الدراسة الفقهية المقارنة، كما قال: باحثنا الكريم (ص 227) لأن الذي فعله الباحث هو دون الفقه المقارن، لذلك أقول: البحث الفقهي الموسع.

ص: 22