الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
الجدل في بعض بلدان المسلمين، وهو صنيع يُحمد عليه، وله فائدة من وجهين: الأول: بيان أن التطبيق مرتبط دائمًا بالتأصيل في كل وقت وحين، وليس الأمر على عواهنه ليحلو لمن شاء أن يفعل ما يريد بحجة استحسانه. والثاني: إيجاد الحلول العلميَّة للمسائل المشكلة المعاصرة، وليس يُسكت المسيء غير العلم.
وإن كنت أود أنه زاد في التمثيل المعاصر بعض المسائل الأخرى التي ثار ويثور حولها الجدل في بعض البلاد أيضًا؛ مثل: الأذان الموحد الذي يُبث على الإذاعة من إحدى المساجد الكبيرة، وتتلقاه المساجد جميعًا عبر ذلك البث، وقد انتشر ذلك في بلادنا بلاد الشام، وكذلك ما يفعله البعض من صلاة ركعتين في جماعة شكرًا لله تعالى عند وجود ما يُفرحهم، وكذلك مسألة قراءة القرآن في مكبرات الصوت في المساجد قُبيل الأذان، وغيرها من المسائل المعاصرة.
رابعًا: اقتران علم الأصول بعلم الحديث
.
هناك انفصال مزعوم وسمج بين العلمين؛ علم الحديث وعلم أصول الفقه، وقد تطور هذا الانفصال حتى أصبح يُعاب على المشتغلين بعلم الحديث من قبل الفقهاء، وقل العكس أيضًا، وكما قلنا سابقًا: إن العلمين لا غنى لأحدهما عن الآخر؛ فعلم الحديث يضبط الدليل، وعلم أصول الفقه يضبط الاستدلال، فأنى للأصولي أن يضع القواعد الأصولية التي تستنبط منها الأحكام دون درايةٍ بعلم الحديث، وتسليمٍ لأهل الاختصاص فيه، وقل العكس أيضًا، ولذلك كان الإمام الشافعي يقول للإمام أحمد:"يا أحمد أنت أعلم بالحديث مني، إذا صح عندك الحديث فأعلمني كي آخذ به"،
وصورة من الحاضر مشابهة لتلك الصورة أن الإمام عبد العزيز بن باز، كان يُهاتف العلامة المحدِّث الألباني مرات عدَّة ليسأله عن صحة حديث ما ليفتي به أو ليستنبط منه حكمًا شرعيًّا.
ولأجل ذلك قال الخطابي في مقدمة كتابه معالم السنن: "ورأيت أهل العلم في زماننا قد حصلوا حزبين وانقسموا إلى فرقتين: أصحاب حديث وأثر، وأهل فقه ونظر، وكل واحدة منهما لا تتميز عن أختها في الحاجة، ولا تستغني عنها في درك ما تنحوه من البغية والإرادة؛ لأن الحديث بمنزلة الأساس الذي هو الأصل، والفقه بمنزلة البناء الذي هو له كالفرع، وكل بناء لم يوضع على قاعدة وأساس فهو منهار، وكل أساس خلا عن بناء وعمارة فهو قفر وخراب.
ووجدت هذين الفريقين على ما بينهم من التداني في المحلين والتقارب في المنزلتين، وعموم الحاجة من بعضهم إلى بعض، وشمول الفاقة اللازمة لكل منهم إلى صاحبه، إخوانًا متهاجرين، وعلى سبيل الحق بلزوم التناصر والتعاون غير متظاهرين" (1).
فَمدَّعو الانفصال بين العلمين قد ضلوا سواء السبيل، وفصلوا بين متلازمين لا يمكن لأحدهما أن ينفك عن الآخر بحال، ولقد اشتهر بعض العلماء بالبراعة في العلمين معًا، كأمثال أبي المظفر السمعاني، والخطيب البغدادي، بل إن واضع علم الأصول كان يلقَّب بناصر الحديث.
(1) الخطابي، "معالم السنن" (ج 1 ص 3). وانظر: الدهلوي، "الإنصاف"(ج 1 ص 64).
أقول هذا الكلام لأنه ظهرت فئة من الأصوليين قديمًا وحديثًا، لا دراية لهم البتة بعلم الحديث، فظهر منهم العجب العُجاب فيما يؤصلون ويستنبطون من قواعد، حتى إن أحدهم ليبني قاعدة على حديث موضوع أو ضعيف جدًّا لا يُمكن أن تقوم به حجة، حتى طفحت كثير من كتب الأصوليين بمثل هذه الأحاديث، وأُدرج عدد ليس بالقليل منها تحت القواعد الأصوليَّة، مع وجود أحاديث صحيحة يصح الاستدلال بها على ما يُريدون، ولا أُريد في هذه العجالة أن أتحدث عن مناقضة القواعد العقليَّة للسنة النبوية، مما حدى بهؤلاء أن يردوا السنة لمخالفتها ما أسموه بمسلمات العقول، هذا جزء مما جره الانفصال السمج بين علم الحديث وبين علم الأصول، الأمر الذي ينبغي معه أن تشتد الدعوة إلى إعادة الترابط بين العلمين، وإظهار ذلك بالحجة والبرهان، وما أُوتينا من قوة.
وقد وجدت في هذه الرسالة إضافة إلى جمال التأليف الأصولي: الدراية بعلم الحديث والإطلاع على علومه من مصادره المختلفة، مما أكسب الرسالة قوة، وسلاسة لا يجد القارئ معها مللًا؛ فوفِّق الباحث للموازنة بين الجانب النظري، وبين الجانب العملي، مستشهدًا بما صحَّ عن النبي صلى الله عليه وسلم من السنة المطهَّرة، ومستقرئًا للكتب الستة لمعرفة تروكه صلى الله عليه وسلم، جامعًا لطرق الحديث الواحد، ليقدم لنا علمًا كثيرًا، وهذا مسلكًا بات غريبًا نوعًا ما على الدراسات الأصولية، رغم أنه الأصل فيها، فلم يتعود الباحثون الرجوع إلى مصادر السنة النبوية المطهرة لاستخراج القواعد الأصولية، والتدليل على صحتها،