الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
المطلب الرابع: حكم الاضطباع والرمل
.
اتفق العلماء – رحمهم الله – على أنّه (اضطبع ورمل في طوافه، إلا أنهم اختلفوا في بقاء مشروعيتهما بعد زوال سببهما، بتمكن الإسلام وظهوره، وذهاب الشرك وأهله من مكة.
واختلف القائلون بمشروعيتهما في حكمهما، هل هما من شروط الطواف وواجباته، أم من سننه ومندوباته؟ وسأعرض لذلك في الفروع التالية:
* الفرع الأول: مشروعية الاضطباع.
اختلف العلماء رحمهم الله في بقاء مشروعية الاضطباع في الطواف، على قولين:
القول الأول: إن الاضطباع مشروع، وهو سنة باقية.
وإلى هذا القول ذهب: جمهور العلماء، ومنهم: أصحاب المذاهب الثلاثة: الحنفية، والشافعية، والحنابلة (1) .
القول الثاني: لا يُشرع الاضطباع، وأنه ليس بسنة بعد ذهاب سببه، بظهور الإسلام.
وإلى هذا القول ذهب: المالكية (2) . وحكى ابن المنذر عن مالك أنه قال:
(1) انظر: المبسوط 4/10، بدائع الصنائع 2/147، الهداية 1/140، حاشية ابن عابدين 2/495، الأم 2/174، حلية العلماء 3/284، الحاوي الكبير 4/140، الوسيط 2/648، المهذب والمجموع 8/19، إعانة الطالبين 2/300، المغني 5/216، فتح الباري 3/472، نيل الأوطار 5/111، عون المعبود 5/236، قال ابن قدامة في المغني:(ويُستحب الاضطباع في طواف القدوم..، وبهذا قال الشافعي، وكثير من أهل العلم) . وقال ابن حجر في فتح الباري: (وهو مستحب عند الجمهور، سوى مالك. قاله ابن المنذر) .
(2)
انظر: البيان والتحصيل3/449، 450، المغني 5/216، الحاوي 4/140، المجموع 8/21، فتح الباري 3/472، نيل الأوطار 5/111، عون المعبود 5/236.
ونقل سند عن مالك أنه قال في الموازية: (ولا يحسر عن منكبيه، ولا يحركهما) . انظر: هداية السالك 2/808، وفي العتبية:(سئل مالك عن حَسْر المحرم عن منكبيه، إذا هو طاف بالبيت الطواف الواجب في الرمل. قال: لا يفعل) . قال ابن رشد- الجد -: (زاد في كتاب ابن المواز، ولا يحركهما. وهذا كما قال. إذ ليس من السنة أن يحسر عن منكبيه، ولا يحركهما بقصد منه إلى ذلك. فإذا انحسر منكباه، أو تحركا لشدة الرمل، فلا بأس به. فقد قيل: إن الرمل هو الخبب الشديد، دون الهرولة. الذي يحرك منكباه لشدته) انظر: العتبية مع البيان.
لا يَعرف الاضطباع، ولا رأيت أحداً يفعله (1) .
الأدلة:
استدل أصحاب القول الأول، وهم الجمهور، بما يلي:
1-
بما سبق ذِكْرُه من الأدلة الثابتة عن النبي (وأصحابه (، وأنهم طافوا مضطبعين. فدل ذلك على مشروعية الاضطباع.
ولم يأت ما يدل على نسخه (2) .
2-
وعن أسلم مولى عمر بن الخطاب قال: سمعت عمر (يقول: ((فيمَ الرَّمَلان الآن، والكشف عن المناكب، وقد أطّأ الله الإسلام، ونفى الكفر وأهله؟ ومع ذلك لا ندع شيئاً كنا نفعله على عهد رسول الله ()) (3) . فدلّ ذلك على بقاء حكم الاضطباع، وفِعْلِه من لدن الصحابة (بعد وفاة النبي (.
(1) انظر: حلية العلماء 3/284.
(2)
قال ابن قدامة: (وقد ثبت بما روينا أن النبي (وأصحابه فعلوه، وقد أمر الله تعالى باتباعه، وقال:{لقد كان لكم في رسول الله أسوة حسنة} [سورة الأحزاب، آية: 21] .المغني 5/216.
(3)
تقدم تخريجه.
واستدل أصحاب القول الثاني، القائلون بعدم استحبابه، بما يلي:
1-
إن رسول الله (إنما فعله وأمر به في عمرة القضية، حين قالت قريش: أما ترون إلى أصحاب محمد قد وعكتهم حمى يثرب. فقال لأصحابه: ((ارملوا)) . كفعل أهل النشاط والْجَلَد، ليغيظ قريشاً. قال مالك: وهذا السبب قد زال، فيجب أن يزول حكمه (1) .
2-
وبما يُشبه الإجماع على عدم مشروعيته. فقال مالك: ((لم أسمع أحداً من أهل العلم ببلدنا يذكر أن الاضطباع سنة)) (2) .
* الرأي المختار:
لا ريب أن ما ذهب إليه جمهور العلماء في هذه المسألة، وهو أن الاضطباع سنة باقية، ومن مستحبات الطواف، وهو الرأي المختار، لما يلي:
1.
إن الأدلة على أن النبي (كان يضطبع في عُمَرِه، بل وفي حجته أيضاً (3)، نصوص صريحة صحيحة. وقد قال الله تعالى:{لَقَدْ كَانَ لَكُمْ فِي رَسُولِ اللَّهِ أُسْوَةٌ حَسَنَةٌ} (4)، وقال (في حجته:((لتأخذوا عني مناسككم)) (5) .
(1) انظر: الحاوي 4/140.
(2)
انظر: المغني 5/216، البيان والتحصيل 3/449.
(3)
قال ابن كثير في البداية والنهاية 5/157: (فأما الاضطباع في حجة الوداع، فقد قال قبيصة، والفريابي عن خثيم، عن أبي الطفيل، عن عبد الحميد بن جبير بن شيبة، عن ابن يعلى بن أمية، عن أبيه قال:» رأيت رسول الله (يطوف بالبيت مضطبعاً «رواه الترمذي من حديث الثوري. وقال: حسن صحيح..) .
(4)
سورة الأحزاب، آية:21.
(5)
بهذا اللفظ أورده الفقهاء. وهو جزء من حديث أخرجه مسلم في الحج، باب استحباب رمي جمرة العقبة 9/44. ولفظه:» .. رأيت النبي (يرمي على راحلته يوم النحر، ويقول:" لتأخذوا عني مناسككم، فإني لا أدري لعلي لا أحج بعد حجتي هذه".. «الحديث.
1.
ثبت أن الصحابة (اضطبعوا بعد وفاة النبي (، كما دلّ على ذلك أثر عمر (.
2.
إن قول ابن عباس (أكثر ما فيه أن سبب الاضطباع والرمل ما ذكره، ولكنهما صارا سنة بذلك السبب، فيبقى بعد زواله، كرمي الجمار سببه رمي الخليل عليه السلام الشيطان، ثم بقي بعد زوال ذلك السبب (1) .
3.
ينتقض قول الإمام مالك بعدم مشروعية الاضطباع لزوال سببه، بالرمل، فإنه يقول ببقاء مشروعيته مع زوال سببه (2) .
4.
إن بقاء السبب ليس بشرط لبقاء الحكم، كالبيع والنكاح وغيرهما (3) .
5.
إن القول بزوال السبب ممنوع، لأن الحكم يجوز أن يثبت بعلل متعددة. فذهاب بعضها لا يستلزم زوال الحكم، وكون النبي (اضطبع في حجة الوداع بعد ذهاب غلبة المشركين، دليل على بقاء علة أخرى للحكم، كتذكر نعمة الأمن بعد الخوف، ليُشكر الله عليها (4) .
(1) المبسوط 4/10. وعبّر الكاساني عن ذلك بقوله: (إن النبي (لما رمل بعد زوال ذلك السبب، صار الرمل سنة مبتدأة، فنتبع النبي (في ذلك، وإن كان لا نعقل معناه. وإلى هذا أشار عمر (حين رمل في الطواف) . بدائع الصنائع 2/147. وقال الماوردي في الحاوي 4/140: (قال الشافعي: رمل مضطبعاً، فقد أخبر بسنته، ثم فعل مثل فعله مع زوال سببه. وأكثر مناسك الحج، كانت لأسباب زالت، وهي باقية) .
(2)
انظر: المجموع 8/21.
(3)
انظر: بدائع الصنائع 2/147.
(4)
انظر: منسك ملا القاري ص 108. وقد عبّر عن ذلك ابن نجيم في البحر الرائق 2/354 بقوله: (واعلم أن الأصل زوال الحكم، ثم زوال العلة، لأن الحكم ملزوم لوجود العلة، ووجود الملزوم بدون اللازم محال. وقول من قال: إن علة الرمل في الطواف زالت، وبقي الحكم. ممنوع، فإن النبي (رمل في حجة الوداع تذكيراً لنعمة الأمن بعد الخوف، ليشكر عليها، فقد أمر الله بذكر نعمه في مواضع من كتابه، وما أمرنا بذكرها إلا لنشكرها.
ويجوز أن يثبت الحكم بعلل متبادلة، فحين غلبة المشركين كانت علة الرمل، إيهام المشركين قوة المؤمنين. وعند زوال ذلك تكون علته تذكير نعمة الأمن. كما أن علة الرِّق في الأصل استنكاف الكافر عن عبادة ربّه، ثم صار علته حكم الشرع برقه، وإن أسلم. وكالخراج فإنه يثبت في الابتداء، ولهذا لا يُبدأ به على المسلم، ثم صار علته حكم الشرع بذلك حتى لو اشترى المسلم أرض خراج، لزمه عليه الخراج) .
1.
إن مَن عَلِم حجة على من لم يعلم، وليس العكس. فخفاء هذه السنة على الإمام مالك لا يكون سبباً في إبطالها، وعدم العمل بها. ولذا نقول نحو ما قال ابن عبد البر، فيمن أنكر سنة الرمل: قد ثبت أن النبي (اضطبع بعد عمرة القضية، فصارت سنة معمولاً بها، لا يضرها من جهلها وأنكرها (1) . وقال صديق خان: ((ولا يُشرع عند المالكية: الاضطباع في الطواف، ولا في غيره. والحديث يرد عليهم، وكأنه لم يبلغهم)) (2) . والله أعلم.
* الفرع الثاني: مشروعية الرمل.
اختلف العلماء رحمهم الله كذلك في بقاء مشروعية الرمل في الطواف بعد زوال سببه، وذهاب وقت الحاجة إليه، بظهور الإسلام وتمكنه، واضمحلال الشرك وأهله من مكة. على قولين:
القول الأول: إن الرمل سنة باقية، وشعيرة ثابتة، وإنْ زال سببها، وذهب وقت الحاجة إليها، شأنها شأن كثير من السنن والشعائر في مناسك الحج والعمرة الباقية وإن ذهب سببها، كالسعي، ورمي الجمار ونحو ذلك.
وإلى هذا القول ذهب: جمهور العلماء، ومنهم أصحاب المذاهب الأربعة (3) .
(1) انظر: الاستذكار 12/137.
(2)
رحلة الصديق ص 91.
(3)
انظر: أحكام القرآن للجصاص 1/97، المبسوط 4/10، بدائع الصنائع 2/147، الاستذكار 12/127، الرسالة مع شرحها تنوير المقالة 3/435، قوانين الأحكام الشرعية ص 139، المجموع 8/41، المغني 5/217. وقد ترجم لذلك البخاري في صحيحه بقوله:(باب الرمل في الحج والعمرة) . قال ابن حجر في فتح الباري 3/471: (والقصد إثبات بقاء مشروعيته، وهو الذي عليه الجمهور) . وقال الكاساني في بدائع الصنائع 2/147: (وهو قول عامة الصحابة () . وقال ابن عبد البر في التمهيد 2/70: (روي ذلك عن عمر بن الخطاب، وعبد الله بن مسعود، وعبد الله بن عمر. واختلف فيه على ابن عباس. وهو قول مالك وأصحابه، والشافعي وأصحابه، وأبي حنيفة وأصحابه، والثوري، وأحمد ابن حنبل، وإسحاق بن راهويه، وجماعة فقهاء الأمصار) .
تنبيه: نسب ابن رشد هذا القول إلى ابن عباس (، ولم يذكر قوله المشهور. انظر: بداية المجتهد 1/340. وهو سبق قلم، أو وهم.
القول الثاني: إن الرمل ليس بمشروع، ولا يُستحب في الطواف. وإنما فعله النبي (لسبب وقد زال بظهور الإسلام. فإن شاء رمل، وإن شاء لم يرمل.
وهذا القول مروي عن جماعة من التابعين، منهم: عطاء، ومجاهد، وطاوس، والحسن، وسالم، والقاسم، وسعيد بن جُبير، وعلي بن الحسين (1) .
وهو الأشهر عن ابن عباس ((2) ، وبه قال
(1) انظر: المصنف لابن أبي شيبة 3/277، التمهيد 2/70/ الاستذكار 12/127، 128.
(2)
انظر: المراجع السابقة، وشرح الزرقاني على الموطأ 2/403، شرح معاني الاثار 2/180، المبسوط 4/10، بدائع الصنائع 2/147، فتح القدير 2/454، حاشية ابن عابدين 2/498.
تنبيه: لم تعزُ مصادر الحنفية السابقة هذا القول إلا لابن عباس وحده، مما يدل على أن المروي عن هؤلاء التابعين خلافه. بل صرّح بذلك ابن الهمام في فتح القدير 2/454 فقال:(ذهب الحسن البصري، وسعيد بن جبير، وعطاء إلى أنه لا رمل بين الركنين. وذهب ابن عباس (فيما نقل عنه إلى أنه لا رمل أصلا. ونقله الكرماني عن بعض مشايخنا) . وظاهر هذا: أن هؤلاء التابعين مخالفون لابن عباس، وأنهم يقولون بمشروعية الرمل، إلا أنهم قد يختلفون مع الجمهور في قدره. وسيأتي التنبيه على أن الصحيح موافقتهم له.
بل لم يعزُ ابن قدامة هذا القول لأحد، حتى لابن عباس، ولعله رأى أنه رجع عن ذلك حيث روى عن النبي (الرمل بعد عمرة القضية، وفتح مكة وظهور الإسلام بها، أو أن ثبوت الروايات الصحيحة، وما عليه عامة الصحابة لا تحتمل نقل الخلاف في ذلك. فقال 5/217 بعد أن بين حكم الرمل وأنه سنة: (ولا نعلم فيه بين أهل العلم خلافاً. وقد ثبت:» أن النبي (رمل ثلاثاً، ومشى أربعاً «. رواه جابر، وابن عباس، وابن عمر، وأحاديثهم متفق عليها. فإن قيل: إنما رمل النبي (وأصحابه لإظهار الجلد للمشركين.. قلنا: قد رمل النبي (وأصحابه، واضطبع في حجة الوداع بعد الفتح. فثبت أنها سنة ثابتة. وقال ابن عباس:» رمل النبي (في عُمَره كلها، وفي حجه، وأبو بكر، وعمر، وعثمان، والخلفاء من بعده «رواه أحمد في المسند 1/225) .
بعض الحنفية (1) .
الأدلة:
استدل أصحاب القول الأول، بالأحاديث الدالة على أن النبي (رمل في طوافه. ومن ذلك:
1-
عن ابن عمر (: ((أن رسول الله (كان إذا طاف بالبيت الطواف الأول، خبَّ ثلاثاً، ومشى أربعاً)) .
2-
وعن جابر (في وصف حجة النبي (وفيه: ((.. حتى إذا أتينا البيت معه استلم الرُّكن فرمل ثلاثاً، ومشى أربعاً، ثم نفذ إلى مقام إبراهيم)) .
3-
وعن أسلم مولى عمر بن الخطاب (قال: سمعت عمر (يقول: ((فيمَ الرَّمَلان الآن، والكشف عن المناكب، وقد أطَّأ الله الإسلام، ونفى الكفر وأهله؟ ومع ذلك لا ندع شيئاً كن نفعله على عهد رسول الله ()) (2) .
وعن ابن عباس (: ((أن رسول الله (وأصحابه اعتمروا من الجعرانة،
(1) انظر: فتح القدير 2/454، حاشية ابن عابدين 2/498.
(2)
تقدم تخريج هذه الأحاديث الثلاثة في المطلب الثاني.
فرملوا بالبيت ثلاثاً، ومشوا أربعاً)) (1) .
2-
وعنه (أنه قال: ((رمل رسول الله (في حجته، وفي عُمَرِه كلها، وأبو بكر، وعمر، وعثمان، والخلفاء)) (2) .
فدلّت هذه الأحاديث والآثار على: أن الرمل سنة باقية، لأن النبي (رمل في حجته، ولم يبق بمكة يومئذ أحد من المشركين. كما رمل الصحابة (بعده اتباعاً لسنته.
واستدل أصحاب القول الثاني، بما يلي:
عن أبي الطفيل قال: قلت لابن عباس (: زعم قومك أن رسول الله (قد رمل بالبيت، وأن ذلك سنة؟ قال: صدقوا، وكذبوا. قلت: ما صدقوا، وما كذبوا؟ قال: صدقوا، رمل رسول الله (بالبيت، وكذبوا، ليست بسنة (3) . إن قريشاً قالت زمن الحديبية: دعوا محمداً وأصحابه حتى يموتوا موت النَّغَف (4) . فلما صالحوه على أن يجيء في العام المقبل فيُقيم ثلاثة أيام
(1) أخرجه أبو داود في المناسك، باب في الرمل 2/179 (1890) ، والطحاوي في شرح معاني الآثار 2/180، والبيهقي 5/79. من طريق ابن خثيم عن أبي الطفيل عن ابن عباس به. وأخرجه أحمد 1/371، وأبو داود (1884) ، والبيهقي 5/79، من طريق ابن خثيم، عن سعيد بن جبير، عن ابن عباس بنحوه، وتقدم في المطلب الثاني.
(2)
أخرجه أحمد 1/225، وأخرجه البيهقي مرسلا عن عطاء 5/83. وذكره في التلخيص 2/250 وسكت عنه. وانظر نيل الأوطار 5/111.
(3)
مراد ابن عباس (بقوله:» ليست بسنة «أي: أنه أمر لم يُسن فعله لكل المسلمين، على معنى القربة، كالسنن التي هي عبادات، ولكنه شيء فعله النبي (لسبب خاص. انظر: معالم السنن 1/193، القِرى ص 297.
(4)
النَّغَف: جمع نَغَفَة، وهي دود تكون في أنوف الأنعام. ويُقال للرجل إذا استُحقر واستُضعِف: ما هو إلا نغفة. انظر: معالم السنن 1/193، النهاية 5/87، القاموس المحيط ص 1108، القرى ص 297.
1-
بمكة، فقدم رسول الله (وأصحابه، والمشركون على جبل قُعَيْقِعَان، فقال رسول الله (لأصحابه: ((ارملوا بالبيت ثلاثاً)) وليست بسنة (1) .
2-
وعنه (قال: ((قدم رسول الله (وأصحابه مكة، وقد وهنتهم حمى يثرب. قال المشركون إنه يقدم عليكم غداً قوم قد وهنتهم الحمّى، ولَقُوا منها شدة. فجلسوا مما يلي الحِجْر، وأمرهم النبي (أن يرملوا ثلاثة أشواط، ويمشوا ما بين الركنين، ليرى المشركون جَلَدَهم. فقال المشركون: هؤلاء الذين زعمتم أن الحمّى قد وهنتهم، هؤلاء أجلد من كذا وكذا. قال ابن عباس (: ولم يمنعه أن يأمرهم أن يرملوا الأشواط الأربعة إلا الإبقاء عليهم)) (2) .
3-
وعنه (قال: ((إنما سعى رسول الله (ورمل بالبيت ليُريَ المشركين قُوَّته)) (3) . قالوا: إن أمر النبي (لأصحابه (أن يمشوا بين الركنين حيث لا يراهم المشركون، دليل على أن الرمل إنما كان ليرى المشركون أن بهم قوة، وأنهم ليسوا بضعفاء، لا لأن ذلك سنة (4) . ومما يدل على ذلك، أنه لم يفعل ذلك لما حج (5) . كما دلّ عليه الحديثان التاليان:
(1) أخرجه بهذا اللفظ أبو داود (1885) ، والطحاوي في شرح معاني الآثار 2/179 من طريق أبي عاصم الغنوي عن أبي الطفيل به. وأخرجه مسلم في الحج، باب استحباب الرمل 9/10- 12، وأحمد 1/229، والبيهقي 5/82، وغيرهم من طرق عن أبي الطفيل بنحوه ومختصراً.
(2)
أخرجه مسلم في الحج، باب استحباب الرمل في الطواف 9/12، 13.
(3)
متفق عليه. أخرجه البخاري في الحج، باب ما جاء في السعي (80) 2/171، ومسلم 9/139، واللفظ له.
(4)
انظر: شرح معاني الآثار 2/179.
(5)
المرجع السابق 2/180.
1-
روى الحجاج بن أرطاة عن أبي جعفر وعكرمة عن ابن عباس (قال: لما اعتمر رسول الله (بلغ أهل مكة أن بأصحابه هزلاً، فلما قدم مكة قال لأصحابه: ((شُدوا ميازركم، وارملوا حتى يرى قومكم أن بكم قوة)) ثم حج رسول الله (فلم يرمل (1) .
2-
وروى العلاء بن المسيب عن الحكم عن مجاهد عن ابن عمر (: ((أن النبي (رمل في العمرة، ومشى في الحج)) (2) .
* الرأي المختار:
إن ما ذهب إليه الجمهور من القول: بمشروعية الرمل، وبقاء استحبابه، هو الرأي المختار، لما يلي:
1.
إن ما رواه ابن عباس (من رمل النبي (وأصحابه (في الأشواط الثلاثة الأول من الْحَجَر إلى الركن، ومشيهم ما بين الركنين، حكاية عما كان في عمرة القضية، وأن سبب مشروعية الرمل إنما كان ليرى المشركون أن بهم قوة، وأنهم ليسوا بضعفاء..، أكثر ما فيه أن سببه ما ذكره ابن عباس (، ولكنه صار سنة بذلك السبب، فبقي بعد زواله، كرمي الجمار، سببه رمي إبراهيم الخليل عليه السلام، الشيطان، ثم بقي بعد زوال ذلك السبب سنة ثابتة (3) .
(1) أورده ابن عبد البر في التمهيد 2/72. ولم أجده عند غيره.
(2)
أخرجه الطحاوي في شرح معاني الآثار 2/180، وأورده ابن عبد البر في التمهيد 2/75.
(3)
انظر: المبسوط 4/10، وقد ترجم لذلك ابن خزيمة في صحيحه 4/211:(باب ذكر الدليل على أن السنة قد كان يسنها النبي (لعلة حادثة، فتزول العلة، وتبقى السنة قائمة إلى الأبد. إذ النبي (إنما رمل في الابتداء واضطبع، ليري المشركين قوته، وقوة أصحابه، فبقي الاضطباع والرمل سنتان إلى آخر الأبد) . ثم أورد حديث أسلم عن عمر بن الخطاب المتقدم في الأدلة. وانظر: شرح الزركشي 2/191.
1.
إن ما روي عن ابن عباس (من إنكار سنية الرمل، لأنه إنما كان لإظهار القوة للمشركين، لعله رجع عن ذلك، إذ أنه ممن روى الرمل عن النبي (بعد عمرة القضية، وذهاب المشركين، وذلك في عمرة الجعرانة، وفي حجة الوداع، وروى ذلك عن الخلفاء بعده (. قال البيهقي: ((قد مضى في الحديث الثابت عن جابر بن عبد الله في صفة حج النبي (، حجة الوداع أنه حين أتى البيت، استلم الركن، فرمل ثلاثاً، ومشى أربعاً، وفيما روينا عن ابن عباس في عمرة الجعرانة، وذلك بعد عمرة القضية، أنهم رملوا ثلاثاً واضطبعوا)) (1) .
2.
إن رواية الحجاج بن أرطاة عن ابن عباس (لا يُعارض بها ما رواه الثقات. فقد قال عنه الحافظ ابن حجر: ((صدوق، كثير الخطأ والتدليس)) (2) . وقال ابن عبد البر: ((فهذا يدلّك على ضعف رواية الحجاج، وأن ما قال أهل الحديث فيه: أنه ضعيف، مدلس، لا يُحتج بحديثه، لضعفه، وسوء نقله عندهم، حقٌ. وقد ثبت عن النبي (أنه رمل في حجته، فبطل ما خالفه. ولو كان ما حكاه الحجاج في روايته عن ابن عباس (صحيحاً لم يكن فيه حجة، لأنه ناف، والذي حكى أن رسول الله (رمل، وأخبر أنه عاينه يصنع ذلك مثبت، والمثبت أولى من النافي في وجه الشهادات والأخبار)) (3) .
(1) السنن الكبرى 5/82. وقال ابن كثير في البداية والنهاية 5/157 بعد أن أورد الأحاديث الدالة على رمل النبي (في حجة الوداع: (.. فكان ابن عباس يُنكر وقوع الرمل في حجة الوداع. وقد صح بالنقل الثابت، كما تقدم، بل فيه زيادة تكميل الرمل من الحجر إلى الحجر، ولم يمش ما بين الركنين اليمانيين، لزوال تلك العلة المشار إليها، وهي الضعف، وقد ورد في الحديث الصحيح عن ابن عباس:» أنهم رملوا من الجعرانة واضطبعوا «وهو ردّ عليه، فإن عمرة الجعرانة لم يبق في أيامها خوف، لأنها بعد الفتح) .
(2)
التقريب ص222.
(3)
التمهيد لابن عبد البر 2/57. وانظر: الاستذكار 12/134.
إن ما رواه العلاء بن المسيب عن ابن عمر (أنه (رمل في عمرته، ومشى في حجه. قيل: بأنه حديث لا يثبت، لأنه رواه الحفاظ موقوفا على ابن عمر (1) ، ولو كان مرفوعا، كان قد عارضه ما هو أثبت منه (2)، كحديث عبيد الله عن نافع عن ابن عمر (:((أن رسول الله (كان إذا طاف بالبيت الطواف الأول، خبَّ ثلاثاً، ومشى أربعاً..، وكان ابن عمر يفعل ذلك)) (3) . وحديث عقبة عن نافع عن ابن عمر (: ((أن رسول الله (كان إذا طاف في الحج والعمرة أوّل ما يقدم فإنه يسعى ثلاثة أطواف بالبيت (4) ، ثم يمشي أربعة، ثم يصلي سجدتين، ثم يطوف بين الصفا والمروة)) ، وعن عبيد الله بن عمر عن نافع:((أن ابن عمر (رمل من الحجر إلى الحجر. وذكر أن رسول الله (فعله)) (5) . فهذه الآثار كلها عن ابن عمر (تدفع حديث العلاء بن المسيب (6) . وقد ذكر حماد بن سلمة عن أيوب عن نافع عن ابن عمر (: ((أنه كان إذا قدم مكة طاف بالبيت ورمل، ثم طاف بين الصفا والمروة. وإذا لبّى بها من مكة، لم يرمل بالبيت، وأخّر الطواف بين الصفا والمروة إلى يوم النحر)) (7) . وروى مالك عن نافع عن ابن
(1) انظر: التمهيد لابن عبد البر 2/57.
(2)
انظر: المرجع السابق.
(3)
تقدم تخريجه.
(4)
قال النووي في شرحه لصحيح مسلم 9/8: (قوله:» يسعى ثلاثة أطواف «فمراده يرمل. وسمّاه سعياً مجازاً، لكونه يُشارك السعي في أصل الإسراع، وإن اختلفت صفتهما) .
(5)
أخرجها كلها مسلم في الحج، باب استحباب الرمل في الطواف 9/6- 9.
(6)
قال ابن عبد البر بعد أن أورد ما رواه الشافعي بسنده عن ابن عمر (عن رسول الله (أنه رمل ثلاثة أشواط، ومشى أربعة. يعني في حجته. قال: (هذا خير من حديث العلاء ابن المسيب..، وأصح وأثبت إن شاء الله) . الاستذكار 12/138.
(7)
أخرجه الطحاوي في شرح معاني الآثار 2/182. وأورده ابن عبد البر في التمهيد 2/76.
1.
عمر نحوه (1) . وفي هذا الأثر عن ابن عمر أنه كان يرمل في الحجة إذا كان إحرامه بها من غير مكة، وكان لا يرمل في حجته إذا أحرم بها من مكة. قال ابن عبد البر:((وهذا إجماع. من أحرم بالحج من مكة لا رمل عليه، إن طاف بالبيت قبل خروجه إلى منى. وعلى هذا يصح حديث مجاهد إن كان موقوفاً، وكانت حجة ابن عمر فيه مكية. وأما مرفوعاً، فلا يصح، لدفع الآثار الصحاح له في أن رسول الله (رمل في حجته، ولم تكن له حجة غيرها ()) (2) . وقال الطحاوي: ((فلا يخلو ما رواه مجاهد من أحد وجهين: إما أن يكون منسوخاً، فما نسخه فهو أولى منه. أو يكون غير صحيح عنه، فهو أحرى أن لا يُعمل به، وأن يجب العمل بخلافه)) (3) .
2.
ثبت أنه (رمل في حجته، وكان ذلك بعد ظهور الإٍسلام بمكة، وخلّوها من الشرك وأهله، وعدم الحاجة لإظهار القوة للمشركين، من حديث ابن عمر، وجابر ((4) . قال الطحاوي: ((فلما ثبت عن رسول الله (أنه رمل في حجة الوداع ولا عدوّ، ثبت أنه لم يفعله إذ كان العدوّ، من أجل العدو. ولو كان فعله إذ كانوا من أجلهم، لما فعله في وقت عدمهم. فثبت بذلك أن الرمل في الطواف من سنن الحج المفعولة فيه، التي لا ينبغي تركها. وقد فعل ذلك أيضاً أصحاب رسول الله (من بعده)) (5) .
(1) بلفظ:» أن عبد الله بن عمر كان إذا أحرم من مكة، لم يطف بالبيت ولا بين الصفا والمروة حتى يرجع من منى، وكان لا يرمل إذا طاف حول البيت إذا أحرم من مكة «. الموطأ كتاب الحج، باب الرمل في الطواف 1/365 (111) .
(2)
التمهيد لابن عبد البر 2/76.
(3)
شرح معاني الآثار 2/182.
(4)
تقدم ذكر ذلك في المطلب الثاني.
(5)
شرح معاني الآثار 2/182. قال الكاساني في بدائع الصنائع 2/147: (لكنا نقول: الرواية عن ابن عباس (لا تكاد تصح، لأنه قد صح أن رسول الله (رمل بعد فتح مكة..، وكذا أصحابه (بعده رملوا، وكذا المسلمون إلى يومنا هذا، فصار الرمل سنة متواترة. فإما أن يُقال: إن أول الرمل كان لذلك السبب، وهو إظهار الجلادة، وإبداء القوة للكفرة، ثم زال ذلك السبب، وبقيت سنة الرمل على الأصل المعهود، أن بقاء السبب ليس بشرط لبقاء الحكم، كالبيع والنكاح وغيرهما. وإما أن يُقال: لما رمل النبي (بعد زوال ذلك السبب، صار الرمل سنة مبتدأة، فنتبع النبي (في ذلك، وإن كان لا نعقل معناه. وإلى هذا أشار عمر (حين رمل في الطواف، وقال: مالي أهز كتفي، وليس ههنا أحد رأيته. لكن اتبع رسول الله (، أو قال: لكن أفعل ما فعل رسول الله ()
1.
ثبت أن عمر، وابن مسعود، وابن عمر (رملوا في طوافهم (1) . فإما أن يُقال: بعدم التعارض بينهما، وأن سبب المشروعية لا يمنع بقاء الحكم بعد ذهاب سببه، لثبوت النصوص الدالة على ذلك. وإما أن يُقال: بالنسخ عند التعارض، للعلم بالمتأخر. والله أعلم.
* الفرع الثالث: حكم الاضطباع والرمل.
اتفق العلماء رحمهم الله القائلون بمشروعية الاضطباع على أنه مستحب، وسنة من سنن الطواف (2) . فمن تركه، صح طوافه، ولا شيء عليه. وإنما فاته
(1) تقدمت الإشارة إلى بعض تلك الآثار. وانظر: مسند الشافعي 1/339 (876)، التمهيد 2/74. قال ابن عبد البر في الاستذكار 12/137:(وقد ثبت عن عمر، وابن مسعود، وابن عمر أنهم كانوا يرملون في الطواف ثلاثاً. طواف القدوم، فصار سنة معمولاً بها، لا يضرها من جهلها وأنكرها) .
(2)
انظر: الإفصاح 1/269، المبسوط للشيباني 2/400، شرح معاني الآثار 2/182، المبسوط 4/10، 46، حاشية ابن عابدين 2/495، حلية العلماء 3/285، 384، الوسيط 2/648، المهذب والمجموع 8/19، 41 هداية السالك 2/807، المغني 5/216، 217، مجموع الفتاوى 26/122، فتح الباري 3/472.
أجر فضيلة المتابعة. قال الشافعي: ((وإن لم يضطبع بحالٍ، كرهته له، كما أكره له ترك الرمل في الأطواف الثلاثة، ولا فدية عليه، ولا إعادة)) (1) .
واختلف العلماء رحمهم الله القائلون ببقاء مشروعية الرمل، هل هو من شروط الطواف وواجباته، أم من سننه ومستحباته؟ اختلفوا في ذلك على قولين:
القول الأول: إنه مستحب في الطواف. فمن تركه، صح طوافه، ولا شيء عليه. وإنما فاته أجر فضيلة المتابعة. قال الترمذي:((قال الشافعي: إذا ترك الرمل عمداً، فقد أساء، ولا شيء عليه)) (2) .
وإلى هذا القول ذهب: جمهور العلماء، ومنهم: أصحاب المذاهب الأربعة (3) .
(1) الأم 2/174.
(2)
السنن 3/212.
(3)
انظر: الإفصاح 1/269، شرح معاني الآثار 2/182، المبسوط 4/10، حاشية ابن عابدين 2/495، الفتاوى الهندية 1/219، الاستذكار 12/127، تنوير المقالة مع الرسالة 3/435، قوانين الأحكام الشرعية ص 139، التاج والإكليل 3/ 115،109، الشرح الصغير 2/355،352، الأم2/174، حلية العلماء 3/285، 384، الوسيط 2/648، المهذب والمجموع 8/45، هداية السالك 2/807، المغني 5/222، مجموع الفتاوى 26/122، فتح الباري 3/472. وقال ابن عبد البر في التمهيد 2/77:(وهو قول عطاء، وابن جريج، والشافعي فيمن اتبعه، وقول الأوزاعي، وأبي حنيفة وأصحابه، وأحمد، وإسحاق، وأبي ثور) . وقال 2/130: (الذي عليه أكثر الفقهاء: أن ذلك خفيف لا شيء فيه) . وقال الخطابي في معالم السنن1/194: (وقال عامة أهل العلم ليس على تاركه شيء) .
تنبيه: يرى المالكية مشروعية الرمل لكل مُحْرم، سواء أكان آفاقياً، أم كان محرماً من دون المواقيت، كالتنعيم. إلا أن مشروعية الرمل لهما مختلفة، فمن أحرم من المواقيت، فيُسن له الرمل. وأمّا من أحرم من دونها، فيُندب له الرمل. قال الدردير في الشرح الصغير:(ومحل استنان الرمل فيها إن أحرم بحج أو عمرة أو بهما من المواقيت، بأن كان آفاقياً، أو من أهله..، وندب للطواف: رمل في الثلاثة الأول، لمحرم بحج أو عمرة، من دون المواقيت، كالتنعيم والجعرانة) . ومعنى ذلك أن مشروعية الرمل لمن أحرم من دون المواقيت دون من أحرم من المواقيت. قال المواق: (يُستحب لمن اعتمر من الجعرانة، أو التنعيم، أن يرمل، وليس وجوبه ـ يُريد مشروعيته ـ عليه، كوجوبه على من حج، أو اعتمر من المواقيت) . ومع وَصْف المالكية الرمل بأنه سنة، إلا أنهم لا يقولون بوجوب الدم بتركه.
القول الثاني: إنه واجب في الطواف. فمن تركه، فعليه دم. فإن كان محمولاً، رمل به حامله.
وإلى هذا القول ذهب: إبراهيم النخعي (1) ، والحسن البصري، والثوري، وعبد الملك بن الماجشون (2) ،
وابن حزم (3) ، واختلفت الرواية فيه عن مالك (4) .
(1) انظر: المحلى 7/96. وقال ابن حزم: (وروينا عن إبراهيم عليه الفدية) .
(2)
انظر: التمهيد 2/77، الاستذكار 12/138، 139، حلية العلماء 3/285، المغني 5/222، شرح مسلم للنووي 9/10. ونسبه للثوري، الخطابي في معالم السنن 1/194.
(3)
المحلى 7/96. وقال: (أمر النبي (أصحابه أن يرملوا، وأن يمشوا ما بين الركنين، فهذا أمر واجب) . وقال: (إذ أمر رسول الله (بالخبب في الأشواط المذكورة، فقد علمهم من أين يبتدئون؟ وكيف يمشون؟ فصار ذلك أمراً. وأمره عليه السلام فرض) .
(4)
انظر: التمهيد 2/77، الاستذكار 12/138، 139، تنوير المقالة 3/436، شرح مسلم للنووي 9/7. قال ابن عبد البر في التمهيد:(واختلف قول مالك وأصحابه فيمن ترك الرمل في الطواف، والهرولة في السعي، ثم ذكر وهو قريب. فمرة قال: يُعِيد. ومرة قال: لا يعيد. وبه قال ابن القاسم. واختلف قول مالك أيضاً فيما حكاه ابن القاسم عنه، هل عليه دم مع حاله هذه إذا لم يُعد أم لا شيء عليه؟ فمرة قال: لا شيء عليه. ومرة قال: عليه دم. وقال ابن القاسم: هو خفيف، ولا نرى فيه شيئاً. وكذلك روى ابن وهب في موطأه عن مالك، أنه استخفه، ولم ير فيه شيئاً. وروى معن بن عيسى عن مالك: أن عليه دماً. قال ابن القاسم: رجع عن ذلك. وقال عبد الملك بن الماجشون: عليه دم. وهو قول الحسن البصري، وسفيان الثوري. وذكر ابن حبيب بن مطرف، وابن القاسم: أن عليه في قليل ذلك وكثيره دماً) . وقال النووي في شرح مسلم 9/10: (وكان مالك يقول به ـ أي: وجوب الدم ـ ثم رجع عنه) . ونحوه في تنوير المقالة.
تنبيه: عزا ابن رشد في بداية المجتهد 1/340 القول بوجوب الدم بتركه إلى الجمهور فقال: (واختلفوا في حكم الرمل في الثلاثة الأشواط الأول للقادم، هل هو سنة أو فضيلة؟ فقال ابن عباس: هو سنة، وبه قال الشافعي، وأبو حنيفة، وإسحاق، وأحمد، وأبو ثور. واختلف قول مالك في ذلك وأصحابه. والفرق بين القولين: أن من جعله سنة، أوجب في تركه الدم. ومن لم يجعله سنة، لم يوجب في تركه شيئاً) وهو وَهْمٌ بيِّن. وقول ابن رشد: إنه سنة مع إيجاب الدم بتركه. موافق لمصطلح المالكية في إطلاقهم السنة، وإرادة الواجب الذي يجب بتركه دم في المناسك. انظر: بحث: أنواع الطواف وحكمه. ص 290.مجلة البحوث الإسلامية، العدد (50) .
الأدلة:
استدل أصحاب القول الأول، بما يلي:
1-
عن ابن عباس أنه قال فيمن ترك الرمل: ((لا شيء عليه)) (1) .
2-
وبالبراءة الأصلية. إذ أن الرمل شيء مختلف فيه، هل هو سنة ومشروع، أم لا؟ فإيجاب الدم على من تركه، وإخراج مالٍ من يد صاحبه، إنما يكون في شيء واجب بيقين، لا شك فيه. والأصل براءة الذمم (2) .
3-
إن ترك الرمل ليس إسقاطاً لنفس العمل، وإنما هو سقوط لهيئة العمل، والهيئات لا تُجبر (3) .
(1) أورده ابن عبد البر معلقاً في التمهيد 2/77، والاستذكار 12/139، وكذا ابن حزم في المحلى 7/96. وقال:(وروينا عن ابن عباس، وعطاء: ليس على من ترك الرمل شيء) .
(2)
انظر: التمهيد 2/77، الاستذكار 12/139.
(3)
انظر: التمهيد 2/77، الحاوي 4/142، شرح الرزكشي 2/194، شرح مسلم للنووي 9/7. وعبّر عن هذا المعنى ابن قدامة في المغني 5/222، فقال: (إن الرمل هيئة في الطواف، فلا يجب بتركه إعادة ولاشيء، كهيئات الصلاة) .
1-
إن تارك طواف القدوم لا يلزمه جبران أصلاً، فتارك هيأته، أولى بعدم الوجوب (1) .
2-
إن ترك الاضطباع في الطواف لا يجب به شيء، فكذلك ترك الرمل فيه (2) .
استدل أصحاب القول الثاني، بما يلي:
1-
بحديث ابن عباس (وفيه: ((.. وأمر النبي (أصحابه (أن يرملوا ثلاثة أشواط، ويمشوا ما بين الركنين)) (3) . قالوا: فهذا أمر من النبي (بالرمل، فدلّ ذلك على وجوبه (4) .
2-
إن الرمل نُسك. فمن تركه، فعليه دم، لقول ابن عباس (:((مَن نسي مِن نسكه شيئاً، أو تركه، فليُهْرِق دماً)) (5) . قال ابن عبد البر: ((ومن جعله نسكاً، حكم فيه بذلك)) (6) .
* الرأي المختار:
الذي يظهر ـ والله أعلم ـ هو رجحان القول الأول، القائل: إنه ليس على
(1) انظر: الحاوي 4/142، المغني 5/222، وهذا محل نظر، لأن المالكية يرون وجوب طواف القدوم.
(2)
انظر: المغني 5/222.
(3)
تقدم تخريجه.
(4)
انظر: المحلى 7/96.
(5)
أخرجه مالك في الموطأ في الحج، باب ما يفعل من نسي من نسكه شيئاً 1/419 من طريق أيوب السختياني عن سعيد بن جبير به، والدارقطني من طُرق عن أيوب السختياني عن سعيد ابن جبير به 2/244، والبيهقي 5/30، 152، قال النووي في المجموع 8/101 (حديث:» من ترك نسكاً فعليه دم «رواه مالك، والبيهقي وغيرهما بأسانيد صحيحة عن ابن عباس موقوفاً عليه، لا مرفوعاً) . ووافقه الألباني في الإرواء (1100) .
(6)
التمهيد 2/77.
تارك الرمل شيء، لوجاهة ما ذكروه من حجج من حيث الجملة، ولما يلي:
1.
إن غاية ما استدل به أصحاب القول الثاني، أثر ابن عباس (، وهذا بالاتفاق لا يلزم في كل فِعْل من أفعال النسك. إذ من النسك ما هو من باب السنن والمندوبات، بل منها ما يكون من باب المباحات. فالمراد بالنسك الذي يجب بتركه دم، ما كان من باب الواجبات (1) .
2.
روي عن ابن عباس (فيمن ترك الرمل: ((أنه لا شيء عليه)) فدلّ ذلك على أن ترك الرمل ليس من النسك الموجب للدم.
(1) انظر: مجموع الفتاوى 20/95.