المَكتَبَةُ الشَّامِلَةُ السُّنِّيَّةُ

الرئيسية

أقسام المكتبة

المؤلفين

القرآن

البحث 📚

‌المطلب الخامس: وقت الاضطباع والرمل - أحكام الاضطباع والرمل في الطواف

[عبد الله بن إبراهيم الزاحم]

الفصل: ‌المطلب الخامس: وقت الاضطباع والرمل

‌المطلب الخامس: وقت الاضطباع والرمل

.

الاضطباع والرمل من أعمال الطواف، فيكون فعلهما، وَقْت ابتداء الشروع في الطواف، ولا بأس من الاستعداد بالاضطباع قبل الشروع فيه بوقت يسير1. قال ابن تيمية: “ وأول ما يضطبع، إذا أراد أن يستلم الحجر، قبل أن يستلم، فيما ذكره كثير من أصحابنا..، وهو ظاهر حديث ابن عباس. وقال أحمد في رواية المروذي: يضطبع بعد أن يستلم الحجر”2. وقال الشافعي: “ وإن تهيأ بالاضطباع قبل دخوله الطواف، فلا بأس” 3.

أما ما يفعله كثير من العوام، من ملازمة الاضطباع من حين الإحرام، فهو من الأخطاء. وقد نبّه على ذلك بعض العلماء. قال في إرشاد الساري: “وليس كما يتوهمه العوام من أن الاضطباع سنة جميع أحوال الإحرام. بل الاضطباع سنة مع دخوله في الطواف”4.

واتفقوا على أن وقت الرمل في الأشواط الثلاثة الأول من الطواف5،

1 وهو معنى ما عبّر عنه الجاسر في مفيد الأنام ص 238 بقوله: “والاضطباع محله، إذا أراد الشروع في الطواف”. وقال ابن جماعة في هداية السالك 2/807: “ويُستحب الاضطباع مع دخوله في الطواف، لحديث ابن عباس، فإن اضطبع قبله بقليل فلا بأس”. وانظر: شرح الإيضاح ص230، فتح القدير 2/452، حاشية ابن عابدين 2/495، منسك ملا القاري ص 88.

2 شرح العمدة 3/422. وانظر: هداية السالك 2/808.

3 الأم 2/174.

4 ص 88. وانظر: مفيد الأنام ص 238. ونقل ابن عابدين في حاشيته 2/481 عن بعض المحشين قوله: “إن أكثر كتب المذهب ناطقة بأن الاضطباع يُسن في الطواف لا قبله في الإحرام، وعليه تدل الأحاديث، وبه قال الشافعي”.

5 انظر: تحفة الفقهاء 1/401، وبدائع الصنائع 2/147، الفتاوى الهندية 1/226، فتاوى قاضيخان 1/292، إرشاد الساري ص 88، تنوير المقالة مع الرسالة 3/435، قوانين الأحكام الشرعية ص 139، منسك خليل ص 68، الشرح الكبير 2/41، 43، المجموع 8/41، المغني 5/220، هداية السالك 2/802، المحرر في الفقه 1/245، المحلى 7/95. وسيأتي قريباً حكاية الخلاف في ذلك عن ابن الزبير رضي الله عنهم.

تنبيه: نبّه ابن القيم في زاد المعاد 2/305 على ما وقع فيه ابن حزم في هذا الباب. فقال: “ومنها وَهْمٌ فاحش لأبي محمد بن حزم، أنه رمل في السعي ثلاثة أشواط، ومشى أربعة. وأعجب من هذا الوهم، وهمه في حكاية الاتفاق على هذا القول، الذي لم يقله أحد سواه”.

ص: 255

لثبوت ذلك من فعله صلى الله عليه وسلم، كما سبقت الإشارة إلى ذلك في دليل المشروعية. قال السرخسي: “على هذا اتفق رواة نسك رسول الله” 1. وقال النووي: “ويفترق الرمل عن الاضطباع بشيء واحد، وهو أن الاضطباع مسنون في جمع الطوفات السبع. وأما الرمل فإنما يُسن في الثلاث الأول، ويمشي في الأربع الأواخر”2.

واتفقوا على أن مَن ترك الرمل في شوط من الثلاثة الأول، أتى به في الاثنين الباقيين. وأن من تركه في اثنين، أتى به في الثالث 3. وأن من تركه في الثلاثة، لم يقضه في الأربعة الباقية، لأنها هيئة فات موضعها، فسقطت، كالجهر في الركعتين الأوليين، ولأن المشي هيئة في الأربعة، كما أن الرمل هيئة في الثلاثة، فإذا رمل في الأربعة الأخيرة، كان تاركاً للهيئة في جميع طوافه 4.

1 المبسوط 4/11. وانظر: الهداية 2/454.

2 المجموع 8/21.

3 قال ابن قدامة في المغني 5/221: “كذلك قال الشافعي، وأبو ثور، وأصحاب الرأي، لأن تركه للهيئة في بعض محلها لا يُسقطها في بقية محلها، كتارك الجهر في إحدى الركعتين الأولتين، لا يُسقطه في الثانية”.

4 انظر: مراجع الاتفاق السابقة، ومنسك خليل ص 68، منسك ملا القاري ص 108.

ص: 256

لكنهم اختلفوا من ذلك في مسائل، منها:

وقت الاضطباع في الطواف. هل هو في جميع أشواطه، أو في بعضها؟ وفي استدامته بعد الطواف حال الصلاة، وأثناء السعي 1.

1 تنبيه: سأتناول في هذا البحث الاضطباع في الصلاة لارتباطها بالطواف. أما الاضطباع في السعي فإنه يرتبط بأحكام السعي. وخلاصة مسألة الاضطباع في السعي: أن العلماء اختلفوا في ذلك على قولين:

1-

ذهب جمهور العلماء، من الحنفية، والحنابلة، وهو وجه للشافعية إلى: أن الاضطباع لا يُستحب، ولا يُشرع في السعي، وإنما يُقتصر فيه على الطواف. وحجتهم في ذلك: أنه لم يثبت أن النبي صلى الله عليه وسلم اضطبع في السعي. فدلّ ذلك على عدم مشروعيته فيه. إذ السنة في الاقتداء به صلى الله عليه وسلم. قال أحمد: “ما سمعت فيه شيئاً”. وأن الاضطباع تَعَبُّد محض، لا يُعقل معناه، فلا يصح فيه القياس.

2-

وذهب الشافعية في الأصح إلى: أنه يُستحب الاضطباع في السعي، كما يُستحب ذلك في الطواف. وحجتهم في ذلك: حديث يعلى بن أمية رضي الله عنهم قال:» رأيت النبي صلى الله عليه وسلم مضطبعاً بين الصفا والمروة بِبُرد نجراني «أخرجه أحمد 4/223. وقالوا: يُضطبع في السعي لأنه أحد الطوافين، فأشبه الطواف بالبيت.

والمسألة متوقفة على صحة حديث يعلى. وبالنظر في تخريجه تبيّن ضعف هذه الرواية، وعدم صحتها. إذ أخرجها أحمد من طريق عمر بن هارون، عن الثوري. وقد روى هذا الحديث عن الثوري آخرون، لم يذكروا:» بين الصفا والمروة «. منهم قبيصة، ومحمد ابن كثير، ووكيع وغيرهم. كلهم كما قال الترمذي من طريق الثوري عن ابن جريج عن عبد الحميد بن جبير، عن ابن يعلى، عن أبيه. “وقد تقدّم تخريج حديث يعلى، في أدلة المشروعية”. وبهذا يتبين مخالفة عمر بن هارون لغيره. ومثل هذه المخالفة لا تُقبل من الثقة. فكيف تُقبل منه. وقد وصفه ابن حجر في التقريب ص 728: بأنه متروك. فما ذهب إليه أصحاب القول الأول، من عدم مشروعية الاضطباع في السعي، هو الراجح. والله أعلم.

“تتمة” على هذا القول اختلف الشافعية، هل يكون الاضطباع في جميع مسافة السعي بين الصفا والمروة، ومن أول السعي إلى آخره، أو إنما يضطبع في موضع سعيه، دون موضع مشيه؟ وجهان. وصف النووي الثاني منهما: بالشذوذ.

انظر: حاشية ابن عابدين 2/495، المغني 5/217، الشرح الكبير 9/81، شرح العمدة 3/423، كشاف القناع 2/556، روضة الطالبين 3/88، إعانة الطالبين 2/300، فتح الوهاب 1/246، القرى ص 304. ووصف النووي في المجموع 8/20 القول الموافق للجمهور بالشذوذ. فقال: “وفيه وجه شاذ، إنه لا يُسن فيه. ممن حكاه: الرافعي”. وقال عن القول الآخر: “هذا هو المذهب، وبه قطع الجمهور”.

ص: 257

ومن وقت الرمل، اختلفوا في حكمه في جميع الأشواط السبعة. وفي موضعه. هل الرمل في جميع الشوط، فيرمل من الحجر إلى أن يعود إليه، أو من الحجر إلى الركن اليماني؟

وسأتناول ذلك في الفروع التالية:

الفرع الأول: وقت الاضطباع.

اتفق العلماء رحمهم الله على أن الاضطباع يكون في الطواف الذي يُرمل فيه. قال النووي: “وكل طواف سُنَّ فيه الرمل، سُنِّ فيه الاضطباع، وما لا، فلا”1. وقال ابن جماعة: “وإنما يُضطبع في الطواف الذي يُرمل فيه”2.

لكنهم اختلفوا في وقت الاضطباع في الطواف. هل يكون في جميع أشواطه، أو يُقتصر فيه على الأشواط التي يُرمل فيها، وهي الأشواط الثلاثة الأول؟ اختلفوا في ذلك على قولين:

القول الأول: إن الاضطباع سنة في جميع الطواف.

1 روضة الطالبين 3/88، وقال في المجموع 8/21: “.. وهذا لا خلاف فيه”.

2 هداية السالك 2/807.

ص: 258

وإلى هذا ذهب: جمهور العلماء، ومنهم أصحاب المذاهب الأربعة1.

القول الثاني: إن الاضطباع إنما يُشرع في الأشواط الثلاثة الأول، التي يُرمل فيها، فإذا فرغ من الرمل، سوَّى رداءه.

وإلى هذا القول ذهب: أحمد في رواية، وقاله الأثرم من الحنابلة 2.

الأدلة:

استدل أصحاب القول الأول، بما يلي:

بحديث يَعلَى بن أمية رضي الله عنه: “أن النبي صلى الله عليه وسلم طاف مضطبعاً” 3. قالوا: فدلّ ذلك على اضطباعه صلى الله عليه وسلم أثناء طوافه، فينصرف إلى جميع الطواف 4.

واحتج أصحاب القول الثاني، فقالوا:

إن الاضطباع إنما هو معونة على الرمل، وإنما فُعِل تبعاً له، فإذا لم يرمل، لم يضطبع 5.

الرأي المختار:

ما ذهب إليه الجمهور، من أن الاضطباع يكون في جميع الطواف، هو الرأي المختار، لما يلي:

1 انظر: حاشية ابن عابدين 2/495، إرشاد الساري ص 88، شرح الإيضاح ص 257، روضة الطالبين 3/88، المجموع 8/20، هداية السالك 2/807، المغني 5/217، الشرح الكبير 9/81، شرح العمدة 3/423، الإنصاف 9/80، المنتهى 2/141. وقال المرداوي: “الصحيح من المذهب، أن الاضطباع يكون في جميع الأسبوع”.

2 انظر: المغني 5/217، الشرح الكبير 9/81، الفروع 2/495، وأطلقهما الزركشي في شرحه 2/190، الإنصاف 9/80.

3 تقدم تخريجه في المطلب الثاني.

4 انظر: المغني 5/217.

5 انظر: شرح العمدة 3/423.

ص: 259

إن حديث يعلى رضي الله عنه ظاهر فيما ذهب إليه أصحاب هذا القول، إذ يشمل جميع أشواط الطواف.

لو ثبت أن النبي صلى الله عليه وسلم اقتصر في اضطباعه على بعض الطواف، لنُقِل كما نُقل اقتصاره في الرمل على الأشواط الثلاثة الأول. والله أعلم.

الفرع الثاني: الاضطباع في الصلاة.

اختلف العلماء رحمهم الله القائلون بمشروعية الاضطباع في جميع الطواف، في استدامته بعد الطواف، والصلاة على تلك الهيئة. اختلفوا في ذلك على قولين:

القول الأول: إن الاضطباع خاص بالطواف. فلا يُستحب استدامته في ركعتي الطواف. بل إن الصلاة على هذه الهيئة مكروهة. فإذا فرغ من طوافه ستر عاتقيه.

وإلى هذا ذهب: جمهور العلماء، منهم: الحنفية1، والأصح عند الشافعية2، والحنابلة.

1 انظر: حاشية ابن عابدين 2/495، منسك ملا القاري ص 88.

2 انظر: الوسيط 2/649، الحاوي 4/140، شرح الإيضاح ص 257، روضة الطالبين 3/88، إعانة الطالبين 2/300، مغني المحتاج 1/490، فتح الوهاب 1/246، هداية السالك 2/808. قال النووي في المجموع 8/20: “وهل يُسن الاضطباع في ركعتي الطواف؟ فيه وجهان: الأصح، لا يسن، لأن صورة الاضطباع مكروهة في الصلاة. فإن قلنا لا يُسن في الصلاة، طاف مضطبعاً. فإذا فرغ من الطواف، أزال الاضطباع وصلى ثم اضطبع فسعى. وإن قلنا: إنه يضطبع في الصلاة. اضطبع في أول الطواف، ثم أدامه في الطواف ثم في الصلاة، ثم السعي، ولا يزيله حتى يفرغ من السعي.

واعلم أن هذين الوجهين في استحباب الاضطباع في ركعتي الطواف مشهوران في كتب الخراسانيين، وقطع جمهور العراقيين بعدم الاستحباب، واتفق الخراسانيون على أنه الأصح. قال القاضي حسين، وإمام الحرمين وغيرهما: سبب الخلاف: أن الشافعي قال: “ويديم الاضطباع حتى يكمل سعيه”. فقال بعضهم: سعيه بياء مثناة بعد العين. وقال بعضهم: سبعة. بباء موحدة قبل العين، إلى الطوفات السبع. ثم المذهب الصحيح المشهور الذي قطع به الجمهور، أنه يضطبع في السعي بين الصفا والمروة، ومن أول السعي إلى آخره. وحكى الدارمي وجهاً عن ابن القطان أنه إنما يضطبع في موضع سعيه دون موضع مشيه. وهذا شذوذ مردود. والله أعلم”.

ص: 260

ولذلك نبّه العلماء على ستر المنكب عند صلاة ركعتي الطواف، لكثرة ما يقع من الإخلال بذلك. قال الموفق ابن قدامة: “ وإذا فرغ من الطواف سوَّى رِداءه، لأن الاضطباع غير مستحب في الصلاة”1. بل حكى غير واحد كراهة الصلاة في تلك الحال. قال ابن تيمية: “ فإذا قضى طوافه سوّى ثيابه، ولم يضطبع في ركعتي الطواف، لأن الاضطباع في الصلاة مكروه. هكذا قال القاضي، وابن عقيل وغيرهما” 2.

القول الثاني: يستحب استدامة الاضطباع بعد الفراغ من الطواف، فيصلي الركعتين على تلك الهيئة.

وإلى هذا القول ذهب: الشافعية في وجه 3.

الأدلة:

استدل أصحاب القول الأول، بما يلي:

بقول يعلى بن أمية رضي الله عنه: “إن النبي صلى الله عليه وسلم طاف مضطبعا” 4. وظاهره أن

1 المغني 5/217. وانظر: الشرح الكبير 9/81.

2 شرح العمدة 3/423. وانظر: منسك ملا القار ص 88، روضة الطالبين 3/88.

3 انظر: المصادر السابقة للشافعية. وقال النووي في روضة الطالبين: “ولا يسن في ركعتي الطواف على الأصح، لكراهة الاضطباع في الصلاة، فعلى هذا إذا فرغ من الطواف أزال الاضطباع ثم صلى الركعتين”.

4 تقدم تخريجه في المطلب الثاني.

ص: 261

ذلك مختص بالطواف، دون الصلاة.

لا يُشرع الاضطباع قبل الطواف، فكذلك لا يُشرع بعد الفراغ منه 1.

إن الصلاة على هذه الهيئة، وهي كونه مضطبعاً، لبسة اشتمال الصماء2، التي جاء النهي عنها في عدة أحاديث 3.

أما أصحاب القول الثاني، فلم أقف لهم على دليل أو تعليل. ويمكن أن يُستدل لهم بما يلي:

بحديث ابن عباس رضي الله عنه مرفوعاً: “الطواف بالبيت صلاة، إلا أن الله أباح فيه المنطق، فمن نطق فلا ينطق إلا بخير” 4. فدل ذلك على أنه يُشرع في الصلاة ما يُشرع في الطواف.

إن الصلاة تابعة للطواف وملحقة به، فأخذت حكمه في اللباس والهيئة.

إن الاضطباع يُشرع في الطواف وكذا في السعي5، والصلاة بينهما، فيستمر مضطبعاً من حين ابتداء المشروعية إلى انتهائها.

1 شرح العمدة 4/352.

2 انظر أقوال العلماء في بيان لبسة اشتمال الصماء: شرح العمدة 4/352- 357، البحر الرائق 2/26، بدائع الصنائع 1/219.

3 منها: حديث أبي سعيد رضي الله عنهم قال:» نهى النبي صلى الله عليه وسلم عن لبستين، واللبستان: اشتمال الصماء. والصماء أن يجعل ثوبه على أحد عاتقيه، فيبدو أحد شقيه ليس عليه ثوب. واللبسة الأخرى احتباؤه بثوبه، وهو جالس، ليس على فرجه منه شيء «رواه البخاري. وقد تقدم تخريجه في المطلب الأول.

4 أخرجه أحمد، والنسائي، والدارمي، والحاكم، وابن خزيمة، وابن حبان وغيرهم. وقال الألباني في الإرواء 1/158: “وجملة القول: إن الحديث مرفوع صحيح. ووروده أحياناً موقوفاً، لا يُعِلِّه”.

5 أي: على المذهب عند الشافعية، القائلين بهذا القول.

ص: 262

الرأي المختار:

إن ما ذهب إليه جمهور العلماء، من أن على من فرغ من طوافه أن يستر منكبيه، وأن لا يصلي مضطبعاً، هو الرأي المختار، وذلك لما يلي:

لم يثبت أن النبي صلى الله عليه وسلم صلى مضطبعاً في عُمَرِه، أو حجته، ولو فعل ذلك لتوفرت الدواعي لنقله، وخاصة في حجته، كما نُقِل غير ذلك من أفعاله صلى الله عليه وسلم في مناسكه.

إن الواصفين لطوافه صلى الله عليه وسلم ذكروا الاضطباع والرمل فيه. وخصوا الرمل بأنه في الأشواط الثلاثة الأول. فدلّ ذلك على أن الاضطباع كان في جميع الأشواط.

إن الاضطباع في الصلاة هيئة جاء النهي عنها، فتكره مطلقاً، سواء أكانت بعد طواف، أم في غيره. ولم يرد دليل بالتخصيص. والله أعلم.

الفرع الثالث: موضع الرمل من البيت.

اختلف العلماء رحمهم الله في موضع الرمل من البيت. هل هو من الْحَجَر الأسود إلى أن يعود إليه، أو من الحجر إلى الركن اليماني؟ اختلفوا في ذلك على قولين:

القول الأول: إن الرمل في الأشواط الثلاثة الأول كلها. فيرمل من الحجر الأسود إلى أن يعود إليه، لا يمشي في شيء من ذلك.

وإلى هذا القول ذهب: الجمهور، ومنهم: أصحاب المذاهب الأربعة1.

1 انظر: المبسوط 4/11، تحفة الفقهاء 1/401، البحر الرائق 2، 353، بداية المبتدي 2/454 حاشية ابن عابدين 2/495، الفتاوى الهندية 1/226، الأم 2/174، الحاوي 4/141، المجموع 8/41، مختصر الخرقي ص 47، المغني 5/218، مجموع الفتاوى 26/121. قال الموفق ابن قدامة: “رُوي ذلك عن: عمر، وابن عمر، وابن مسعود، وابن الزبير (، وبه قال: عروة، والنخعي، ومالك، والثوري، والشافعي، وأصحاب الرأي”. وقال النووي: “فيه طريقان. الصحيح المشهور، وبه قطع الجمهور، يستوعبه..، والثاني: حكاه إمام الحرمين وغيره، فيه قولان. وذكرهما الغزالي وجهين. أصحهما هذا”.

ص: 263

قال الكاساني: “ وهذا قول عامة العلماء” 1. وروى محمد بن الحسن عن أبي حنيفة أنه قال: “ الرمل في الطواف، ثلاثة أشواط، من الحجر الأسود، إلى الحجر الأسود، ويمشي أربعة أشواط. وكذلك قال أهل المدينة. وقالوا: وذلك الذي لم يزل عليه أهل العلم ببلدنا” 2.

القول الثاني: إن الرمل إنما هو من الحجر الأسود، إلى الركن اليماني. فيمشي ما بين الركنين.

وهذا القول مروي عن: طاوس، ومجاهد، وسعيد بن جبير، وعطاء، والحسن، والقاسم بن محمد، وسالم بن عبد الله 3.

1 بدائع الصنائع 2/147.

2 كتاب الحجة 2/278. وانظر: الموطأ، كتاب الحج، باب الرمل في الطواف 1/364.

3 انظر: المغني 5/218، المبسوط 4/11، بدائع الصنائع 2/147، فتح القدير 2/454.

تنبيه: سبق في الفرع الثاني، من المطلب الرابع: “مشروعية الرمل” بيان أن المروي عن هؤلاء التابعين: عدم مشروعية الرمل. وقد صرّح بذلك ابن عبد البر، فقال: “قول مالك، والشافعي، وأبي حنيفة وأصحابهم، والثوري، وأحمد بن حنبل، وإسحاق بن راهويه: أن الرمل سنة..، وقال آخرون: ليس الرمل بسنة، ومن شاء فعله، ومن شاء لم يفعله. وروي ذلك عن جماعة من التابعين منهم: عطاء، وطاوس، ومجاهد، والحسن، وسالم، والقاسم، وسعيد بن جبير. وهو الأشهر عن ابن عباس” الاستذكار 12/127.

ونسبَتْ هذه المصادر لهم القول بالرمل من الحجر إلى الركن. وظاهر هذا أنهم يقولون بمشروعية الرمل، إلا أنهم يخالفون الجمهور في موضعه. وقد صرّح بذلك ابن الهمام في فتح القدير 2/454 فقال: “ذهب الحسن البصري، وسعيد بن جبير، وعطاء إلى أنه لا رمل بين الركنين. وذهب ابن عباس رضي الله عنهم فيما نُقل عنه إلى أنه: لا رمل أصلاً.

والتحقيق في هذا: أن المروي عن هؤلاء التابعين موافق لما ذهب إليه ابن عباس رضي الله عنهم، فإن الأدلة التي استدل بها هؤلاء على الرمل من الحجر إلى الركن، هي نفس أدلة ابن عباس رضي الله عنهم على عدم مشروعية الرمل، فكلهم استدل بأحاديث طوافه صلى الله عليه وسلم في عمرة القضية، إذ اقتصر في رمله من الحجر إلى الركن. فالصواب ما حكاه ابن عبد البر. والله أعلم.

ص: 264

وبه قال الشافعية في قول أو وجه1، وجعله ابن حزم لمن شاء 2.

الأدلة:

استدل أصحاب القول الأول، وهم الجمهور، بما يلي:

بحديث ابن عمر رضي الله عنه قال: “ رمل رسول الله صلى الله عليه وسلم من الحجر، إلى الحجر ثلاثاً، ومشى أربعاً” 3.

وعنه رضي الله عنه أنه كان يرمل من الحجر، إلى الحج. ثم يقول: “هكذا فعل رسول الله صلى الله عليه وسلم “4.

وعن جابر رضي الله عنه قال: “ رأيت رسول الله صلى الله عليه وسلم رمل من الحجر الأسود حتى انتهى إليه، ثلاثة أطواف”.

وعنه رضي الله عنه: “أن رسول الله صلى الله عليه وسلم رمل الثلاثة أطواف من الحجر إلى الحج” رواهن جميعاً مسلم 5. قال “ حديث جابر حديث حسن صحيح،

1 انظر: الوسيط 2/650، المجموع 8/41.

2 قال ابن حزم في المحلى 7/95: “ثم يطوف بالبيت من الحجر الأسود إلى أن يرجع إليه سبع مرات، منها ثلاث خبباً..، ومن شاء أن يخبّ في الثلاث الطوفات، وهي الأشواط من الركن الأسود ماراً على الحجر إلى الركن اليماني، ثم يمشي رفقاً من اليماني إلى الأسود في كل شوط من الثلاثة، فذلك له”.

3 انظر: المبسوط 4/11.

4 أخرجه الشافعي، كما في ترتيب مسنده 1/342 “884”.

5 في الحج، باب استحباب الرمل في الطواف 9/8، 9. مع شرح النووي.

ص: 265

والعمل على هذا” 1.

وعن عطاء: “أن رسول الله صلى الله عليه وسلم رمل من سبعة أشواط ثلاثة أطواف خبباً، ليس بينهن مشي” 2.

واستدل أصحاب القول الثاني، بما يلي:

بحديث ابن عبا س رضي الله عنه قال: “قدم رسول الله صلى الله عليه وسلم وأصحابه مكة، وقد وهنتهم حمّى يثرب. قال المشركون: إنه يقدم عليكم غداً قوم وهنتهم الحمى، فلقوا منها شدّة. فجلسوا مما يلي الْحِجْر. وأمرهم النبي صلى الله عليه وسلم أن يرملوا ثلاثة أشواط، ويمشوا ما بين الركنين، ليرى المشركون جَلَدهم. فقال المشركون: هؤلاء الذين زعمتم أن الحمى قد وهنتهم؟ هؤلاء أجلد من كذا وكذا. قال ابن عباس: ولم يمنعه من أن يأمرهم أن يرملوا الأشواط كلها إلا الإبقاء عليهم” 3.

إن الرمل في الأصل كان لإظهار الجلادة للمشركين، والمشركون إنما كانوا يطلعون على المسلمين من ذلك الجانب، فإذا صاروا إلى الركن اليماني، لم يطلعوا عليهم، لصيرورة البيت حائلاً بينهم وبين المسلمين 4.

الرأي المختار:

ما ذهب إليه الجمهور، من استيعاب الرمل من الحجر الأسود، إلى أن

1 السنن 3/212.

2 أخرجه الشافعي، كما في ترتيب مسنده 1/343 “885”.

3 متفق عليه. أخرجه البخاري في الحج، باب كيف كان بدء الرمل “55” 2/161، وفي المغازي، باب عمرة القضاء “43” 5/86، ومسلم في الحج، باب استحباب الرمل في الطواف 9/12. وقد استدل بمعناه في المبسوط 4/11.

4 انظر: بدائع الصنائع 2/147.

ص: 266

يعود إليه، في الأشواط الثلاثة الأول، هو الرأي المختار، لما يلي:

إن الروايتين باستيعاب الرمل بالبيت، وعدم استيعابه صحيحتان، فيتعين الجمع بينهما، وطريق الجمع: أن يُحمل حديث ابن عباس بأنه كان في عمرة القضية، سَنة سبع من الهجرة، قبل فتح مكة، وكان أهلها مشركين حينئذ. وأمّا حديث ابن عمر، وجابر فقد كان في حجة الوداع، سَنة عشر، فيكون متأخراً، فيتعيّن الأخذ به 1.

لو قيل: بالتعارض بينهما، فإن رواية ابن عباس فيها نفي الرمل بين الركنين، ورواية ابن عمر، وجابر تُثبت الرمل بينهما، والْمُثبت مقدّم على النافي 2.

لو اقتضى الأمر الترجيح بين الروايين، فإن ابن عباس كان في تلك الحال صغيراً، لا يضبط مثل جابر، وابن عمر، فإنهما كانا رجلين يتتبعان أفعال النبي صلى الله عليه وسلم ويحرصان على حفظها، فهما أعلم، وروايتهما تُقدّم 3.

إن جُلّ الصحابة رضي الله عنهم كانوا يرملون من الحجر إلى الحجر، فلو علموا من النبي صلى الله عليه وسلم ما قال ابن عباس، ما عدلوا عنه إلى غيره 4.

يُحتمل أن يكون ما رواه ابن عباس قضية عين اختصّ بها الذين كانوا في عمرة القضية، لضعفهم، والإبقاء عليهم. وما رواه ابن عمر، وجابر سُنّة لجميع الناس 5.

الجواب عن قولهم: إن الرمل كان لإظهار القوة والجلادة..: إن الرمل في

1 انظر: المغني 5/219، المجموع 8/42، القرى ص 302.

2 انظر: المغني 5/219، فتح القدير 2/455.

3 انظر: المغني 5/219.

4 انظر: المغني 5/219.

5 انظر: المغني 5/219.

ص: 267

عمرة القضية كان لذلك السبب، وقد زال، وبقي حكمه، أو صار الرمل بعد ذلك سنة مبتدأة، لا لِمَا شُرِع له أولاً. بل لمعنىً آخر لا نعقله1. والله أعلم.

الفرع الرابع: قَدْر الرمل من الطواف.

اختلف العلماء رحمهم الله القائلون بمشروعية الرمل، في قدره. هل يُقتصر فيه على الأشواط الثلاثة الأول منه، أو يُشرع في جميع الطوفات السبع؟ اختلفوا في ذلك على قولين:

القول الأول: إن الرمل إنما يُشرع ويُسن في الأشواط الثلاثة الأول من الطواف. وأن السُّنَّة في الأربعة الأُخر إنما هو المشي المعتاد. بل من ترك الرمل في الثلاثة الأول، لم يُشرع له قضاؤها في الأربعة الأخر.

وإلى هذا ذهب: جمهور العلماء 2.

القول الثاني: إن الرمل يُسن في جميع الطوفات السبع.

وإلى هذا ذهب: عبد الله بن الزبير رضي الله عنه 3. وذهب ابن حزم 4، وبعض الحنفية إلى جوازه 5.

1 انظر: بدائع الصنائع 2/147. ولا يعارض هذا ما جاءت الإشارة إليه من احتمال حِكَمٍ أخرى ذكرها العلماء، كتذكر نعمة الله بظهور الإسلام.

2 انظر حكاية الاتفاق على ذلك في أوّل هذا المطلب.

3 انظر: المحلى 7/96، القرى ص 303، شرح النووي على صحيح مسلم 9/10.

4 انظر: المحلى 7/96. وقال بعد أن ذكر أثر ابن عمر وأنه كان يرمل الثلاث، ويمشي الأربع “فهذا بيان الرمل إنما هو في الثلاثة الأشواط الأول، وأن الرمل في جميع تلك الأشواط جائز”.

5 انظر: المبسوط للشيباني 2/405، 406، المبسوط 4/49، بدائع الصنائع 2/135، البحر الرائق 2/355. قال السرخسي: “وإن رمل في طوافه كله، لم يكن عليه شيء، لأن المشي على هينته في الأشواط الأربعة من الآداب، وبترك الآداب، لا يلزمه شيء”.

ص: 268

الرأي المختار:

لم أقف على حجة لما ذهب إليه ابن الزبير رضي الله عنه ومن معه. غاية ما ذكره العلماء عن ابن الزبير: أنه فعل ذلك. فعن مجاهد قال: خرج ابن الزبير، وابن عمر رضي الله عنهم فاعتمروا من الجعرانة، وفيه: “.. فلما دخل ابن الزبير، ناداه ابن عمر: أرمل الثلاث الأول. فرمل ابن الزبير السبع كله” 1. وعنه أنه كان يُسرع المشي في الطواف، وربما كان يرمل السبع كله 2. وقال النووي: “ قال عبد الله بن الزبير: يُسن ـ أي: الرمل ـ في الطوفات السبع” 3.

ولا ريب أن مثل ذلك لا تُعارض به السُّنَّة الثابتة عن النبي صلى الله عليه وسلم في اقتصار الرمل على الأشواط الثلاثة الأول4. والأقرب في تأويل فعل ابن الزبير ما جاء من أنه كان يُسرع المشي في الطواف، فكان الناظر إليه يحسبه يرمل الأشواط كلها. فعن عمرو بن دينار قال: رأيت ابن الزبير يطوف بالبيت، فيُسرع المشي، ما رأيت أسرع مشياً منه 5.

1 أخرجه ابن حزم في المحلى من طريق عبد الرزاق 7/96. وأورده في القرى ص 303.

2 أورده في القرى ص 303.

3 شرح صحيح مسلم 9/10.

4 مضى تقرير ذلك في دليل مشروعية الرمل، وفي أول هذا المطلب.

5 القِرى ص 304. وقال: وأخرج حديث ابن الزبير سعيد بن منصور، والبيهقي. ولفظه: "إن ابن الزبير كان يُسرع في المشي في الطواف" وأخرجه عبد الرزاق 5/56 “8982”، والفاكهي في أخبار مكة 1/214 “369”.

وقد سئل مالك عن الطائف بالبيت يمشي مشيه الذي كان يمشي أم يُسرع؟ قال: إن أحب أن يُسرع في مشيه، فذلك له. وإن أحب أن يتئد في مشيه، فلا بأس بذلك. وربما أسرع الإنسان لحاجة عرضت له. قال ابن رشد – الجد -: قوله: " أن له أن يُسرع " معناه ما لم يبلغ إسراعه أن يكون خبباً، لئلا يكون قد رمل الأشواط السبعة. وذلك مخالف للسنة. انظر: البيان والتحصيل 4/24، 25.

ص: 269

ويؤيد ذلك ويعضده، أنه رُوي عنه خلاف ذلك. فقد روى مالك عن هشام بن عروة عن أبيه، أنه رأى عبد الله بن الزبير أحرم بعمرة من التنعيم. قال: ثم رأيته يسعى حول البيت الأشواط الثلاثة. وروى أيضاً عن هشام بن عروة أن أباه كان إذا طاف بالبيت يسعى الأشواط الثلاثة، يقول:

اللهم لا إله إلا أنتا

وأنت تُحي بعد ما أمتَّا

يخفض صوته بذلك” 1.

ولذا ذهب بعض العلماء إلى حكاية الإجماع على قول الجمهور. فقال النووي: “ وأما قوله ثلاثة، وأربعة. فمُجْمَع عليه. وهو أن الرمل لا يكون إلا في الثلاثة الأول من السبع” 2.

وحكى بعضهم عدم العلم بخلافه. فقال ابن قدامة: “ وهو ـ أي: الرمل ـ سُنَّة في الأشواط الثلاثة الأول من طواف القدوم. ولا نعلم فيه بين أهل العلم خلافاً” 3.

وحذّر بعضهم من خلافه. فقال خليل في منسكه: “وليحذر مما يفعله

1 الموطأ في الحج، باب الرمل في الطواف 1/365 “109، 110”

2 شرح صحيح مسلم للنووي 9/8.

3 انظر: المغني 5/217. ولعل حكايته لذلك، لعدم الخلاف في هذه المسألة بعد عصر التابعين، إذ لم يرو عن أحد من فقهاء الأمصار، أو غيرهم من المتأخرين الخلاف في ذلك. والله أعلم. قال النووي في شرحه لصحيح مسلم 9/10: “كون الرمل ليس سنة مقصودة هو مذهبه – أي: ابن عباس – وخالفه جميع العلماء من الصحابة والتابعين، وأتباعهم ومن بعدهم، فقالوا: هو سنة”.

ص: 270

بعضهم..، من الجري في جميع السبعة الأشواط” 1.

وبهذا يتبيّن أن ما ذهب إليه جمهور العلماء، من القول: إن الرمل إنما يُسن ويُشرع في الأشواط الثلاثة الأول، وأن السنة في الأربعة الأخر إنما هو المشي. هو الرأي المختار. والله أعلم.

1 منسك خليل ص 69. وعبارة خليل هذه يُحتمل أنها تتناول التحذير من الجري أيضاً في الطواف، إذ السنة في ذلك الرمل، وهو دون الجري. كما سبق التنبيه على ذلك في التعريف.

تنبيه: جاء عن بعض الحنفية أن مَن رمل في طوافه كله، لم يكن عليه شيء، لأن المشي على هينته في الأشواط الأربعة من الآداب. وبترك الآداب لا يلزمه شيء. لكنه لم يسلم من التعقب. قال ابن نجيم في البحر الرائق 2/355: “وفي الولوالجية: ولو رمل في الكل، لم يلزمه شيء. اهـ. وينبغي أن يكره تنزيها لمخالفة السنة” وقال الكاساني في بدائع الصنائع 2/135: “ولو رمل في الكل..، لا شيء عليه، لكنه يكون مسيئاً، لتركه السنة”.

ص: 271