المَكتَبَةُ الشَّامِلَةُ السُّنِّيَّةُ

الرئيسية

أقسام المكتبة

المؤلفين

القرآن

البحث 📚

‌أصول التربية والتعليمكما رسمها القرآن..(2 - مجلة البيان - جـ ١٣٠

[مجموعة من المؤلفين]

الفصل: ‌أصول التربية والتعليمكما رسمها القرآن..(2

دراسات في الشريعة والعقيدة

‌أصول التربية والتعليم

كما رسمها القرآن..

(2

/2)

د. أحمد بن شرشال

دعا الكاتب في الحلقة الأولى إلى ربط التعليم ومناهجه بفعل النبي -صلى الله

عليه وسلم- ومنهجه وطريقته، ووضح المنهج النبوي في التعليم على ضوء ما

ورد في القرآن الكريم من آيات مستخرجاً منها أصولاً مهمة، وذكر منها (تلاوة

القرآن) وبين كيفيتها المأثورة وأَخْذَ الصحابة بها، داعياً للاقتداء بها. ثم يواصل

بيان بقية الأصول فيما يلي:

...

...

...

...

...

...

... - البيان -

الأصل الثاني من أصول التربية والتعليم الذي تضمنه هذا المنهج: تعليم

الكتاب، وهو المنصوص عليه في قوله تعالى:[وَيُعَلِّمُهُمُ الكِتَابَ][الجمعة: 2]، عطفاً على قوله:[يَتْلُو عَلَيْهِمْ آيَاتِهِ][الجمعة: 2] ، عطف جملة على جملة.

ومما لا شك فيه ولا خلاف عند المسلمين أن القرآن الكريم تضمن علوماً

ومعارف يعجز البشر عن الإتيان بها، وتضمن حِكَماً وأحكاماً وأسراراً بها يحقق

الإنسان سعادته في الدنيا والآخرة، ولا سبيل إلى معرفة هذه العلوم وهذا التشريع،

وهذه الهدايات والوقوف عليها والعمل بها إلا بفهم القرآن وتفسيره وتدبره؛ لأن

مَلَكَةَ الفهم دخلها الفساد فصار الناس لا يفهمون القرآن ولا يفقهون ما فيه، وبدون

فهم للقرآن وتفسيره لا يمكن الوصول إلى كنوزه مهما ردّدنا تلاوته وأقمنا حروفه.

قال الحافظ السيوطي: (ونحن محتاجون إليه وزيادة على ذلك مما لم يحتاجوا

إليه من أحكام الظواهر؛ لقصورنا عن مدارك أحكام اللغة بغير تعلم؛ فنحن أشد

الناس احتياجاً إلى التفسير) [1] .

فقد كان الصحابة رضي الله عنهم يحتاجون إلى تفسير النبي -صلى الله عليه

وسلم- كما أثر عنه أنه فسّر لهم قوله عز وجل: [الَّذِينَ آمَنُوا وَلَمْ يَلْبِسُوا إيمَانَهُم

بِظُلْمٍ أُوْلَئِكَ لَهُمُ الأَمْنُ وَهُم مُّهْتَدُونَ] [الأنعام: 82] .

روى البخاري ومسلم عن عبد الله بن مسعود قال: لما نزلت هذه الآية قال

الصحابة: (وأينا لم يظلم نفسه؟ وشق ذلك عليهم فقال: (إنه ليس الذي تعنون، ألم

تسمعوا ما قال العبد الصالح: (إن الشرك لظلم عظيم) إنما هو الشرك) [2] .

من صفات هذا المعلم أنه يتلو عليهم القرآن، ويعلمهم معاني الكتاب وما خفي

وأشكل عليهم، فكان الصحابة رضي الله عنهم يرجعون إليه عند الحاجة.

وتعليم الكتاب يكون ببيان ما خفي من معانيه وحقائقه، وما اشتمل عليه من

أحكام وحِكَم ومواعظ وآداب وأخلاق. وبالجملة: هو بيان المقاصد التي من أجلها

نزل القرآن. وتعليم الكتاب غير تلاوته؛ لأن تلاوته تكون بقصد حفظ الألفاظ،

وتعليم الكتاب يكون بقصد حفظ المعاني والأحكام والحكم التي اشتمل عليها وفهمها،

وهو تفسير القرآن. ومن مهمة الرسول صلى الله عليه وسلم ووظيفته البلاغ

والبيان؛ وكل منهما يتضمن الآخر، قال تعالى: [بِالْبَيِّنَاتِ وَالزُّبُرِ وَأََنزَلْنَا إلَيْكَ

الذِّكْرَ لِتُبَيِّنَ لِلنَّاسِ مَا نُزِّلَ إلَيْهِمْ] [النحل: 44] . وقال: [وَمَا عَلَى الرَّسُولِ إلَاّ

البَلاغُ المُبِينُ] [النور: 54] ، وهذا يتضمن بلاغ المعنى، وأنه في أعلى درجات

البيان.

قال ابن تيمية: (إن الصحابة رضي الله عنهم نقلوا عن النبي -صلى الله

عليه وسلم- أنهم كانوا يتعلمون منه التفسير مع التلاوة) ، وقال: (وأخذوا عن

الرسول لفظ القرآن ومعناه) [3] .

فالرسول المعلم صلى الله عليه وسلم بيّن لأصحابه القرآن لفظه ومعناه،

فبلّغهم معانيه كما بلّغهم ألفاظه، ولا يحصل البيان والبلاغ المقصود إلا ببيان لفظه

ومعناه؛ فنقل معاني القرآن عنه صلى الله عليه وسلم كنقل ألفاظه سواء.

وعلى هذه الطريقة سار الصحابة رضي الله عنهم. قال ابن القيم: (ولم يكن

للصحابة كتاب يدرسونه وكلام محفوظ يتفقهون فيه إلا القرآن وما سمعوه من نبيهم، ولم يكونوا إذا جلسوا يتذاكرون إلا في ذلك) [4] .

وهكذا تلقى السلف الصالح هذا القرآن لفظاً ومعنى؛ إحكاماً للفظ وإتقاناً

للمعنى، وكانوا ينكرون على من انصرف عن فهم القرآن. روى ابن جرير

الطبري عن سعيد بن جبير قال: (من قرأ القرآن ثم لم يفسره كان كالأعمى) وفي

بعض الروايات: (كالأعرابي يهذ الشعر هذّاً)[5] .

وذكر الحافظ ابن كثير وابن القيم أن عدم فهم القرآن والتفقه فيه وتدبره نوع

من أنواع هجر القرآن [6] ؛ فالقرآن الكريم لم ينزل لمجرد التلاوة اللفظية، بل

نزل من أجل هذا، ومن أجل ما هو أعم وأكمل، وهو فهم معانيه والتذكر بما فيه،

والعمل به.

إن تلاوة القرآن تعني شيئاً آخر غير المرور بكلماته بصوت أو بغير صوت،

إنها تعني تلاوته بفهم وتدبر ينتهي إلى إدراك وتأثر، وإلى عمل بعد ذاك وسلوك.

وأقول: إن انفصال المواد الدراسية على إطلاقه ليس من طبيعة هذا الدين،

ولا من شأن عمل السلف الصالح؛ فإنهم كانوا يأخذون بالقرآن كلاً لا يتجزأ، ولا

بد من ربط كل هذه العلوم، وهذه المواد الدراسية بالقرآن الكريم. والذي يحقق هذه

الغاية هو تفسير القرآن والتفقه فيه دون سواه؛ فهو وحده الكفيل بتحقيق شمولية

التربية والتعليم من جميع النواحي، فيجب علينا أن نستغني بمعاني القرآن وأحكامه

وحكمه عن غيره من كلام الناس.

وهذا الفضيل بن عياض يصحح للطلاب توجههم في طلب العلم، فقد ذكر

الإمام القرطبي أن الفضيل بن عياض قال لقوم قصدوه ليأخذوا عنه العلم: (لو

طلبتم كتاب الله لوجدتم فيه شفاء لما تريدون) فقالوا: قد تعلمنا القرآن، فقال: (إن

في تعلمكم القرآن شغلاً لأعماركم وأعمار أولادكم) فقالوا: كيف يا أبا علي؟ قال:

(لن تعلموا القرآن حتى تعرفوا إعرابه، ومحكمه، ومتشابهه، وناسخه من منسوخه، فإذا عرفتم ذلك استغنيتم عن كلام فضيل وابن عيينة)[7] .

والمراد بالإعراب في كلام الفضيل البيان والتفسير.

إذن: كيف نستغني عن كتب الناس وعن مادة الفقه والحديث والعقيدة، كما

نص غير واحد من العلماء. الأمر في غاية السهولة.

أقول: إن جميع علوم الشرع قد استقل ببيانها القرآن، وقد أدرك هذا المعنى

الإمام القرطبي رحمه الله فقال في مقدمته: (فلما كان كتاب الله هو الكفيل بجميع

علوم الشرع

رأيت أن أشتغل به مدى عمري، واستفرغ فيه قوتي) [8] .

ومن أهم العلوم التي يتعلمها الطالب في تفسير القرآن هو علم التوحيد، وقد

أخذ حيزاً كبيراً من كتاب الله تعالى قال ابن القيم: (وغالب سور القرآن متضمنة

لأنواع التوحيد، بل كل سورة في القرآن؛ فإن القرآن إما خبر عن الله وأسمائه

وصفاته وهو التوحيد العلمي الخبري، وإما دعوة إلى عبادة الله وحده، فهو التوحيد

الإرادي الطلبي، وإما أمر ونهي وإلزام بطاعته؛ فذلك من حقوق التوحيد

ومكملاته) .

وقال حافظ الحكمي: (والقرآن كله من أوله إلى آخره في تقرير هذين

التوحيدين) [9] .

وقال ابن ابي العز شارح متن الطحاوي: (فالقرآن كله في التوحيد وحقوقه

وجزائه، وفي شأن الشرك وأهله وجزائهم) [10] .

وإذا كان القرآن كله في تقرير التوحيد بأصنافه وأنواعه، وإكرام الله لأهله،

وبيان خطر الشرك وذم أهله، فإن تفسير القرآن والتفقه فيه هو الذي يغطي هذا

المجال الواسع؛ وبغير التفسير يبقى المجال ناقصاً؛ فالذي يأخذ أحكام العقيدة من

القرآن بانتقاء وفصل كل ما يتعلق بالتوحيد لا يستطيع ذلك، وإذا اقتصر على

بعض منها فهذا فيه قصور ونقص؛ لأنه لم يستوعب كل الآيات، بل إن كان هناك

بعض الآيات متعلقة ببعض الآحكام وفي ضمنها ما يتعلق بالعقيدة، فثبت أن فهم

القرآن والتفقه فيه أكمل وأجمع لجميع العلوم.

ومن العلوم التي يتعلمها الطالب في تفسير القرآن الحديث النبوي الشريف،

فإنه المبيّن لمراد الله من الآية، ويشهد بما شهد به القرآن. قال الواحدي: (لا

يمكن معرفة تفسير الآية دون الوقوف على قصتها وبيان نزولها) .

وقال ابن دقيق العيد: (بيان سبب النزول طريق قوي في فهم معاني

القرآن) [11] .

قال ابن حزم في كتاب الأحكام وهو يتحدث عن السلف الصالح كيف كانوا

يتعلمون الدين: (كان أهل هذه القرون الفاضلة المحمودة يطلبون حديث النبي -

صلى الله عليه وسلم والفقه والقرآن الكريم) [12] .

ومن ثم كانت الحاجة ماسة إلى الأحاديث النبوية التي تبين معنى الآية،

فالأحاديث الصحيحة المروية في أسباب نزول القرآن وبيان المراد منه، تشهد

باتفاق القرآن والحديث؛ فهذه الأحاديث تقرر نصوص القرآن وتكشف معانيها كشفاً

مفصلاً، وتقرب المراد وتدفع عن الآيات الاحتمالات، وتفسر المجمل منه وتبينه

وتوضحه، وخير من يمثل هذا الاتجاه في ذكر الأحاديث بعد الآيات من المفسرين

الحافظ ابن كثير في تفسيره، بل التفسير الصحيح المقدم على غيره هو ما صح عن

النبي صلى الله عليه وسلم، وحينئذ فإن الحديث يندرج في علم التفسير لحاجته

إلى البيان.

ومما يتعلمه الطالب في علم التفسير علم الفقه، وإني أرى عرض مادة الفقه

بالطريقة المستقلة عن القرآن؛ لأنها تؤدي الغرض المطلوب؛ حيث يؤدي أستاذ

المادة عرضه بذكر المسألة والتعريف بها، ثم بأقوال العلماء فيها، ثم بإيراد الدليل

من القرآن أو السنة أو هما معاً، فيقول: دليل هذه المسألة كذا، ودليل هذا القول

كذا، ودليل تلك كذا، ويسرد الدليل؛ هذا إذا كان يذكر الدليل وهو أحسن أحواله.

فالطالب هنا لا يعرف القرآن إلا دليلاً، ولا يفهم معنى هذا الدليل. وقد كنا

نعاني الشيء الكثير من ذلك عندما كنا طلاباً حتى إننا لم نستطع إيجاد علاقة بين

الدليل والمدلول عليه لجهلنا بمعنى الدليل وهو الآية القرآنية.

فالطالب يحتاج إلى استخراج هذه العقيدة وهذا الفقه من هذه الآية، وهذا

الدليل ببيانها وشرحها، وأسباب نزولها، وأفهام العلماء فيها واستنباط الفقه منها،

وحينئذ يؤول الفقه والعقيدة بهذه الطريقة إلى تفسير وفهم للقرآن وربط للطالب به.

هذه هي الطريقة المثلى التي أراها تحقق الغاية المرجوة إن شاء الله.

وقد أثر عن بعض المفسرين القول بأن قوله تعالى: [وَيُعَلِّمُهُمُ الكِتَابَ]

يعني الكتابة، مصدر كتب كتاباً وكتابة، فذكر القرطبي عن ابن عباس:[الْكِتَابَ] الخط بالقلم؛ لأن الخط فشا في العرب بالشرع لما أمروا بتقييده بالخط [13] .

والتفسير الأول أعني يعلمهم معاني القرآن هو المشهور في تفسير هذه الآية

وعليه الجمهور، بل إن جل المفسرين لم يذكروا إلا القول الأول، ولا يعني ذلك

التهوين من شأن الكتابة والخط، فلقد نوّه الله بشأن الخط والكتابة فقال: [اقْرَاً

وَرَبُّكَ الأَكْرَمُ * الَذِي عَلَّمَ بِالْقَلَمِ * عَلَّمَ الإنسَانَ مَا لَمْ يَعْلَمْ] [العلق: 1-5] .

التعليم بالقلم كالتعليم الذهني نعمة عظيمة على عباده؛ إذ به تخلد العلوم،

ويصل الخلف بالسلف، وتضبط الأحكام والعلوم والمعارف [14] .

وكان له صلى الله عليه وسلم كُتّاب يكتبون بين يديه الوحي، وقد أخبر

تعالى عن فضله ورحمته أن علّم الإنسان البيانين: البيان النطقي، والبيان الخطي.

قال القرطبي: (القلم نعمة من الله، عظيمة، لولا ذلك لم يقم دين ولم يصلح

عيش، فدلّ على كمال كرمه سبحانه وتعالى بأن علّم عباده ما لم يعلموا، ونقلهم من

ظلمة الجهل إلى نور العلم، ونبّه على فضائل علم الكتابة لما فيه من المنافع

العظيمة التي لا يحيط بها إلا هو.

وما دُوّنت العلوم، ولا قُيّدت الحكم، ولا ضُبطت أخبار الأولين ومقالاتهم،

ولا كتب الله المنزلة إلا بالكتابة، ولولا هي ما استقامت أمور الدين والدنيا) [15] .

الأصل الثالث من هذا المنهج: تعليم الحكمة. أي أن من صفات هذا المعلّم

أنه يعلمهم الكتاب ويعلمهم الحكمة، وقد بين القرآن أن الله أنزلها وأنها تتلى فقال:

[وَأَنزَلَ اللَّهُ عَلَيْكَ الكِتَابَ وَالْحِكْمَةَ وَعَلَّمَكَ مَا لَمْ تَكُن تَعْلَمُ][النساء: 113] ،

وقال: [وَاذْكُرُوا نِعْمَتَ اللَّهِ عَلَيْكُمْ وَمَا أَنزَلَ عَلَيْكُم مِِّنَ الكِتَابِ وَالْحِكْمَةِ يََعِظُكُم بِهِ]

[البقرة: 231] وقال: [وَاذْكُرْنَ مَا يُتْلَى فِي بُيُوتِكُنَّ مِنْ آيَاتِ اللَّهِ وَالْحِكْمَةِ]

[الأحزاب: 34] .

ففي هذه الآيات بيان لهذا المعلم وأنه يعلمهم الكتاب ويعلمهم الحكمة، وأن الله

أنزل عليه الحكمة كما أنزل عليه القرآن وهي السنة كما قال غير واحد من السلف،

فنوّع المتلو إلى نوعين: آيات وهي القرآن، وحكمة وهي السنة؛ وبها تتبين

مقاصد الكتاب وأسراره وحكمه وأحكامه.

وقد تطلق الحكمة على امتثال الأوامر واجتناب النواهي وهي العمل بما جاء

في القرآن أمراً ونهياً كما جاء ذلك في قوله تعالى: [ذَلِكَ مِمَّا أَوْحَى إلَيْكَ رَبُّكَ مِنَ

الحِكْمَةِ] [الإسراء: 39] ، واسم الإشارة يعود إلى ما تقدم ذكره من التكاليف

الشرعية التي لا يتطرق إليها النسخ، والتي تبلغ خمسة وعشرين تكليفاً بدءاً من

قوله تعالى: [لا تَجْعَلْ مَعَ اللَّهِ إلَهاً آخَرَ فَتَقْعُدَ مَذْمُوماً مَّخْذُولاً][الإسراء: 22] .

وختمها بقوله: [وَلا تَجْعَلْ مَعَ اللَّهِ إلَهاً آخَرَ فَتُلْقَى فِي جَهَنَّمَ مَلُوماً مَّدْحُوراً]

[الإسراء: 39] .

وفسرها الحافظ ابن كثير بالسنة وعزا ذلك إلى غير واحد من السلف، وهو

ما أخذ عن الرسول صلى الله عليه وسلم سوى القرآن: (ألا إني أوتيت القرآن

ومثله معه) ومصداق ذلك في كتابه الكريم: [وَمَا يَنطِقُ عَنِ الهَوَى * إنْ هُوَ إلَاّ

وَحْيٌ يُوحَى * عَلَّمَهُ شَدِيدُ القُوَى] [النجم: 35] .

ونزع ابن عباس في تفسيره للحكمة إلى المعرفة بالقرآن وفقه ما فيه من

العلوم، وهو من أوسع التفسيرات فيما أعلم.

أخرج ابن أبي حاتم عن ابن عباس في قوله تعالى: [يُؤْتِي الحِكْمَةَ مَن يَشَاءُ

وَمَن يُؤْتَ الحِكْمَةَ فَقَدْ أُوتِيَ خَيْراً كَثِيراً] [البقرة: 269] . قال: (المعرفة بالقرآن

ناسخه ومنسوخه، محكمه ومتشابهه، ومقدمه ومؤخره، وحلاله وحرامه، وأمثاله)

وفي رواية عنه: (التفسير والتفقه في القرآن)[16] .

وتعني من بين ما تعنيه الفقه والفهم في القرآن ويدل له قوله: [وَلَقَدْ آتَيْنَا

لُقْمَانَ الحِكْمَةَ] [لقمان: 12]، وقوله: [وَشَدَدْنَا مُلْكَهُ وَآتَيْنَاهُ الحِكْمَةَ وَفَصْلَ

الخِطَابِ] [ص: 20] .

قال مجاهد في هذه الآية: (يعني الفهم والعقل والفطنة)[17] .

وقد خص الله سليمان بالفهم فقال: [فَفَهَّمْنَاهَا سُلَيْمَانَ وَكُلاًّ آتَيْنَا حُكْماً وَعِلْماً][الأنبياء: 79] .

وكل ذلك لا ينافي من فسر الحكمة بالسنة؛ لأن بها يحصل العلم، فهي

المفسرة والمبينة للقرآن الكريم؛ فالأحاديث الصحيحة تقرر نصوص القرآن،

وتكشف معانيها كشفاً مفصلاً، وتقرب المراد، وتدفع عن الآيات الاحتمالات،

وتفسر المجمل منه وتبينه وتوضحه، وبكل هذا يحصل الفهم والفقه.

قال القرطبي: (فكتاب الله حكمة، وسنة نبيه حكمة؛ وأصل الحكمة ما يمتنع

به من السفه) [18]، ومن ثم اشتركت الحكمة في نسق تعليم الكتاب: -[وَيُعَلِّمُهُمُ

الكِتَابَ وَالْحِكْمَةَ] [الجمعة: 2] فتلاوة للآيات، وتعليم للكتاب، وتعليم للسنة.

الأصل الرابع: مما تضمنه هذا المنهج: التزكية، ومن صفات هذا المعلم -

صلى الله عليه وسلم أنه: [يَتْلُو عَلَيْهِمْ آيَاتِهِ وَيُزَكِّيهِمْ][الجمعة: 2] ، تلاوة

للآيات وتعليم للكتاب والحكمة، وتزكية بمعنى التطهير والتنقية من السوء والقبائح

والمنكرات، وهي ثمرة لتطبيق المنهج السابق، وهي ثمرة لتلاوة القرآن، وثمرة

لفقه القرآن والتفقه فيه، وثمرة لفهم السنة، وهي العمل بما علم من التلاوة والكتاب

والسنة.

التزكية: تطهير الإنسان ظاهراً وباطناً من دنس الذنوب والمعاصي والآثام،

ومن أعظمها التطهير من أرجاس الشرك، وهي العمل بالعلم، وامتثال الأوامر

واجتناب النواهي.

قال تعالى: [قَدْ أَفْلَحَ مَن تَزَكَّى (14) وَذَكَرَ اسْمَ رَبِّهِ فَصَلَّى]

[الأعلى:14، 15] .

وقال جل وعلا: [قَدْ أَفْلَحَ مَن زَكَّاهَا (9) وَقَدْ خَابَ مَن دَسَّاهَا]

[الشمس: 9، 10] .

فقد فاز بكل مرغوب وظفر بكل محبوب من زكى نفسه وهذّبها ونمّاها بالعلم،

وزكاها بالتلاوة وفقه القرآن والسنة والعمل بذلك. ومادة التفعّل للتكلف وبذل الجهد، أي بذل جهده في تطهير نفسه بالأعمال الصالحة [19] .

وهكذا كان صلى الله عليه وسلم يزكي أصحابه، فيتلقون منه خمس آيات

أو عشر آيات ويتعلمون منه صفة أدائها وقراءتها، ويتعلمون ما فيها من العلم

والعمل به.

قال أبو عبد الرحمن السلمي أحد أكابر التابعين الذين أخذوا القرآن ومعانيه

عن مثل عبد الله بن مسعود وعثمان بن عفان وتلك الطبقة: (حدثنا الذين كانوا

يقرئوننا القرآن من أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم عشر آيات لم يجاوزوها

حتى يتعلموا ما فيها من العلم والعمل؛ فتعلمنا القرآن والعمل) [20] .

فكانوا لا يجاوزوهن حتى يعلموا ما فيها من العلم والعمل، فقد روى الطبري

عن عبد الله بن مسعود قال: (كان الرجل منا إذا تعلم عشر آيات لم يجاوزهن حتى

يعرف معانيهن والعمل بهن) [21] .

فالعمل بالقرآن هو الذي يحقق التزكية قال تعالى: [وَهَذَا كِتَابٌ أَنزَلْنَاهُ

مُبَارَكٌ فَاتَّبِعُوهُ] [الأنعام: 155] .

روى ابن أبي حاتم عن الحسن البصري قال: (واللهِ ما تدبره من حفظ حروفه

وأضاع حدوده؛ حتى إن أحدهم ليقول: قرأت القرآن كله، ولا يُرى للقرآن عليه

في خلق ولا عمل) [22] .

وقد أُثر عن بعض السلف في معنى: [يَتْلُونَهُ حَقَّ تِلاوَتِهِ][البقرة: 121]

يتبعون القرآن ويعملون به، قال عبد الله بن مسعود: (والذي نفسي بيده إن حق

تلاوته أن يحل حلاله ويحرم حرامه، ويقرأه كما أنزله الله، ولا يحرف الكلم عن

مواضعه، ولا يتأول منه شيئاً على غير تأويله) [23] .

ولذلك لما سئلت عائشة رضي الله عنها عن خلق رسول الله -صلى الله عليه

وسلم-، قالت: كان خلقه القرآن.

قال الحافظ ابن كثير مبيناً هذا الخلق: (ومعنى هذا أنه عليه الصلاة والسلام

صار امتثال القرآن أمراً ونهياً سجية له وخلقاً تطبّعه وترك طبعه الجِبِلّي؛ فمهما

أمره القرآن فعله، ومهما نهاه عنه تركه) [24] .

ولما بين الله هذا المنهج ورسمه في كتابه، وبين أن من صفات هذا المعلم

الذي بعث في الأميين أن يزكيهم ويطهرهم من أدران الشرك والذنوب والآثام عقّب

على ذلك بمثال من يحفظ هذا المنهج ولا يعمل به لا يحصل له التطهير والتزكية

فقال: [مَثَلُ الَذِينَ حُمِّلُوا التَّوْرَاةَ ثُمَّ لَمْ يَحْمِلُوهَا كَمَثَلِ الحِمَارِ يَحْمِلُ أَسْفَاراً بِئْسَ

مَثَلُ القَوْمِ الَذِينَ كَذَّبُوا بِآيَاتِ اللَّهِ وَاللَّهُ لا يَهْدِي القَوْمَ الظَّالِمِينَ] [الجمعة: 5] .

وكل من علم ولم يعمل بعلمه، فهذا مثله، وهذه صفته، وهذه حاله، وبئس

المثل.

وكل من رغب عن هذا المنهج بطريقته التي بيّناها يُعد سفيهاً، ولذلك عقّب

على ذكره بقوله: [وَمَن يَرْغَبُ عَن مِّلَّةِ إبْرَاهِيمَ إلَاّ مَن سَفِهَ نَفْسَهُ][البقرة:130]

ومن معاني الملة اللغوية: الطريقة.

هذا هو المنهج التعليمي كما رسمه القرآن الكريم وبينته السنة لبناء الإنسان

المستقيم ذي الشخصية المتزنة المعتدلة.

وكل منهج مخالف لما سطّره القرآن يعد شذوذاً عن الجادة يؤدي إلى انحراف

في السلوك.

وأخيراً أقول: فليزن طلاب علم هذا الزمن تعليمهم بهذا المنهج الذي رسمه

القرآن الكريم، ولينظروا أين مكانهم من فهم القرآن، وما هو حظهم من هدايته؟

(1) الإتقان 2/385.

(2)

تفسير ابن كثير 2/170، التفسير والمفسرون 1/50.

(3)

التفسير الكبير 2/104، 253.

(4)

الصواعق المرسلة 441.

(5)

تفسير الطبري 1/35، الإتقان 2/.

(6)

تفسير ابن كثير 3/349، بدائع التفسير 3/292.

(7)

الجامع للقرطبي 1/30، فتح القدير 1/14.

(8)

الجامع للقرطبي 1/14.

(9)

معارج القبول 1/57.

(10)

شرح الطحاوية 41.

(11)

الإتقان 1/62، مناهل العرفان 1/110.

(12)

آثار عبد الحميد 4/75.

(13)

الجامع 9/83.

(14)

بدائع التفسير 5/283.

(15)

الجامع للقرطبي 10/107.

(16)

الإتقان 2/385، فتح القدير 1/291.

(17)

تفسير ابن كثير 4/33.

(18)

الجامع للقرطبي 1/124.

(19)

التحرير والتنوير 30/288.

(20)

المصنف 10/416، الصواعق 443.

(21)

جامع البيان 1/35.

(22)

تفسير ابن كثير 4/36.

(23)

تفسير ابن كثير 1/175، الطبري 1/567.

(24)

تفسير ابن كثير 4/425، القرطبي 9/210.

ص: 16

دراسات تربوية

المبادرات الذاتية

وتنميتها

محمد بن سعد الخالدي

تحتاج الأمة فيما تحتاج إلى أشخاص يحملون زمام المبادرة بأنفسهم غير

منتظرين أن يسلك الطريق سواهم.. وذلك في كل مجال من شأنه رفعة الأمة

وعزتها وإخراجها من هذا النفق المظلم الذي تسير فيه.. وهؤلاء المبادرون قلة

قليلة وعملة نادرة في مجموع الأمة.. لذا رأيت أن من واجبي أن أبادر بالحديث

عن الموضوع علّه أن يحرك أنفساً ساكنة.. وهمماً متقاعسة..

وفي بداية الحديث عن المبادرة يحسن إيضاح المعنى اللغوي لها؛ إذ هي

مأخوذة من: بدر إلى الشيء، إذا أسرع وبادر إليه أيضاً، وتبادر القوم تسارعوا،

وابتدروا السلاح تسارعوا إلى أخذه. وسمي البدر بدراً لمبادرته الشمس بالطلوع في

ليلته كأنه يعجلها المغيب، وقيل: سمي به لتمامه.

وفي القاموس: (بادَرَهُ: مُبادَرَةً وبِداراً، وابْتَدَرَهُ، وبَدَرَ غيرَهُ إليه، عاجَلَهُ.

وبَدَرَهُ الاًمْرُ، وإليه: عَجِلَ إليه) [1] .

كون المبادرة تجديداً:

لا شك أن المبادرات فردية كانت أو جماعية تحمل في ذاتها نوعاً من التجديد؛ إذ هي إحياء لأمر اندرس أو لم يكن قد قام أصلاً. ولذا فإن الحديث عن التجديد

وأهميته قد ينساق في بعض صوره هاهنا.

ما هي المبادرة المنشودة؟

إننا في حديثنا عن المبادرة هنا إنما نعني: أن يسابق المرء إلى الأمور التي

تبدو له فائدتها دون انتظار تقدم الآخرين وإقدامهم، فيأخذ الزمام ويُقْدِم على الأمر

بعد دراسة وتخطيط، فإن نجح المبادر في مسيره.. فهو مأجور من طريقين:

طريق الاجتهاد، وطريق الإصابة؛ إذ هو مجتهد مصيب، وإن أخطأ ولم يصب

فهو مأجور كذلك له أجر الاجتهاد ولو لم ينل أجر الإصابة.

أدلة مشروعية المبادرة والحث عليها:

أتت النصوص الشرعية كتاباً وسنة بالحث على المسابقة على أعمال الخير

والتنافس فيها والمسابقة إليها، وهذا النوع من المبادرة هو ما لا ينتظر المرء غيره

في الإقدام على الطاعة، بل يتقدم هو لذلك جاعلاً نفسه قدوة للناس وإماماً، والله

تعالى يقول على لسان نبيه إبراهيم الخليل: -[وَاجْعَلْنَا لِلْمُتَّقِينَ إمَاماً]

[الفرقان: 74] أي: قدوة يحتذى بفعاله. والمسلم يسأل الله تعالى أن يكون مفتاحاً للخير، مغلاقاً للشر.. وطبيعة المفتاح أنه أول الداخلين، مما يعني كون الداعي مبادراً للعمل سابقاً إليه.

وقد حكى لنا القرآن الكريم قصة الرجلين المبادرين اللذين قال الله فيهما: [وَجَاءَ رَجُلٌ مِّنْ أَقْصَا المَدِينَةِ يَسْعَى][القصص: 20] قال الوزير ابن هبيرة:

(تأملت ذكر أقصى المدينة؛ فإذا الرجلان جاءا من بُعدٍ في الأمر بالمعروف ولم

يتقاعدا لبعد الطريق) .

وأما مبادرات الرسول صلى الله عليه وسلم فالحديث عنها طويل جداً،

غير أنني أشير إلى القصة الشهيرة التي تروي لنا أنه (فزع أهل المدينة ذات ليلة،

فانطلق الناس قِبَلَ الصوت فاستقبلهم النبي صلى الله عليه وسلم قد سبق الناس

وهو يقول: (لم تراعوا، لم تراعوا) وهو على فرس لأبي طلحة عري ما عليه

سرج، في عنقه سيف) [2] . فدل الحديث على أن الرسول -صلى الله عليه

وسلم- سبق إلى استطلاع الأمر.

وقد أثنى النبي صلى الله عليه وسلم على ذلك الصحابي الذي بادر بالصدقة

كما في حديث المنذر بن جرير عن أبيه قال: كنا عند رسول الله -صلى الله عليه

وسلم- في صدر النهار فجاءه قوم حفاة عراة مجتابي النمار أو العباء، متقلدي

السيوف، عامتهم من مضر، بل كلهم من مضر فتمعّر وجه رسول الله -صلى الله

عليه وسلم- لما رأى بهم من الفاقة فدخل ثم خرج فأمر بلالاً، فأذن وأقام، فصلى،

ثم خطب فقال: [يَا أَيُّهَا النَّاسُ اتَّقُوا رَبَّكُمُ الَذِي خَلَقَكُم مِّن نَّفْسٍ وَاحِدَةٍ]

[النساء: 1] إلى آخر الآية [إنَّ اللَّهَ كَانَ عَلَيْكُمْ رَقِيباً] والآية في الحشر:

[اتَّقُوا اللَّهَ وَلْتَنظُرْ نَفْسٌ مَّا قَدَّمَتْ لِغَدٍ وَاتَّقُوا اللَّهَ][الحشر: 18] تصدق رجل من ديناره، من درهمه، من ثوبه من صاع بره، من صاع تمره، حتى قال: ولو بشق تمرة. قال: فجاء رجل من الأنصار بصرة كادت كفه تعجز عنها، بل قد عجزت، قال: ثم تتابع الناس حتى رأيت كومين من طعام وثياب، حتى رأيت وجه رسول الله صلى الله عليه وسلم يتهلل كأنه مذهبة، فقال رسول الله:(من سن في الإسلام سنة حسنة فله أجرها وأجر من عمل بها بعده من غير أن ينقص من أجورهم شيء، ومن سن في الإسلام سنة سيئة كان عليه وزرها ووزر من عمل بها بعده من غير أن ينقص من أوزارهم شيء) .

وفي الحديث تصريح بأجر المبادر للخير، وكونه ينال أجره وأجر كل من

سلك طريقه واقتفى أثره الذي بادر إليه، وهذا من أعظم الدواعي للمبادرة للخير؛

إذ يستشعر المبادر أن أجور السائرين من بعده على هذا الطريق ستكون في موازين

أعماله.

وفي الحث على المبادرة تساق قصة ذي الجوشن الضبابي حينما دعاه الرسول صلى الله عليه وسلم بعد معركة بدر للدخول في الإسلام قائلاً له: (هل لك إلى

أن تكون من أوائل هذا الأمر؟ قال: لا، قال: فما يمنعك منه؟ قال: رأيت قومك

كذبوك وأخرجوك وقاتلوك، فأنظر: فإن ظهرت عليهم آمنت بك واتبعتك، وإن

ظهروا عليك لم أتبعك) فكان ذو الجوشن يتوجع على تركه الإسلام حين دعاه رسول

الله؛ إذ قد ترك المبادرة إلى الإسلام وإلا لكان من أوائل الداخلين إليه فكان على

ذلك نادماً.

والحث على المبادرة بالعمل واردة في حديث أبي هريرة أن رسول الله -

صلى الله عليه وسلم قال: (بادروا بالأعمال فتناً كقطع الليل المظلم يصبح الرجل

مؤمناً ويمسي كافراً، أو يمسي مؤمناً ويصبح كافراً، يبيع دينه بعرض من

الدنيا) [3] وكذا حديثه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: (بادروا بالأعمال ستاً: طلوع الشمس من مغربها، أو الدخان، أو الدجال، أو الدابة، أو خاصة أحدكم، أو أمر العامة) .

ومن أعظم ما يوقظ الهمة إلى المبادرة للخير وما يحث عليها ما ذكره الله في

كتابه من أحوال الكافرين في مبادراتهم الدنيئة في الأمر بالمنكر والنهي عن

المعروف، والكيد الكبير، والمكر الكُبّار.. كما في قوله تعالى: [وَانطَلَقَ المَلأُ

مِنْهُمْ أَنِ امْشُوا وَاصْبِرُوا عَلَى آلِهَتِكُمْ إنَّ هَذَا لَشَيْءٌ يُرَادُ] [ص: 6]، وقوله تعالى:[وَتَرَى كَثِيراً مِّنْهُمْ يُسَارِعُونَ فِي الإثْمِ][المائدة: 62] فالمؤمنون أوْلى

بالمسارعة في الخير والبر.

ومن المبادرات الجريئة ما صنعه البراء بن مالك في قصة الحائط الشهيرة،

يوم أن قعد على ترس وقال: (ارفعوني برماحكم فألقوني إليهم) فألقوه ثم أدركوه بعدُ

وقد قتل منهم عشرة، وجُرح يومئذ بضعاً وثمانين جراحة [4] .

أهمية المبادرات:

تعد المبادرة الفردية سفينة النجاة في حالة انحطاط الأمة، وتربيتُها لدى الناس

جزء من المنهجية الصحيحة في بناء الإيجابية، وتعني المبادرة رفع أفراد من الأمة

إلى مستواها وسقف حيويتها واندفاعهم نحو ما يتمنى الناس حصوله، لكنهم يفقدون

العزم والإرادة للبدء به، وقد علمتنا التجربة أن معظم الناس يحبون الخير ويقدرون

فاعليه، وهم على استعداد للمشاركة في مشاريعه؛ لكن المشكلة الكبرى هي أن

المستعدين فيهم لخطو الخطوة الأولى ووضع أول لبنة قلة قليلة، وهذه القلة هي

ملح المجتمع وبركته، إنهم أناس يحبون الخير ويثقون في أنفسهم ويحبون خدمة

الآخرين، وهم إلى ذلك مستعدون لتحمل نتائج مبادراتهم وما قد تجره إليهم من

مشكلات ومتاعب.

(كثير من الناس يملك الاستعداد للقيام ببعض الأدوار التي تملى عليه وفق

خطوات محددة، لكنه يقف عند هذا الحد، ويطرح التساؤل في كل مناسبة وكل

حين: ماذا يعمل؟ وما واجبه؟ ويعتذر عن القيام بأي دور بأنه لم يتلق توجيهاً

وتكليفاً.. ولذا فإن من ثمار التربية الجادة: (المبادرة الذاتية) . إن من نتائج التربية

السلبية السائدة في مجتمعاتنا: الاتكالية وانعدام المبادرة، وحتى العاملون للإسلام

أصاب بعضَهم ما أصابه، فأصبح ينتظر الأمر، ولا يعمل إلا من خلال توجيه

محدد، فتعطلت طاقات فعّالة في الأمة، وصارت الصحوة تفكر من خلال عقول

محددة، وكم هي الأفكار والأعمال والجهود التي لم تتجاوز نطاق تفكير صاحبها،

والسبب أنه لم يعتد على المبادرة ولم يربّ عليها.

وإن التربية الجادة تنتج فيما تنتج تنمية المبادرة الذاتية، فيعمل صاحبها ابتداءً

دون انتظار التكليف أو التوجيه، ويرى أن جدية الهدف وصدق العمل يتطلب منه

ألا تكون الاستشارة والاستفادة من آراء الآخرين حاجزاً وهمياً وعائقاً دون أي عمل، فينطلق ويعمل ويبادر ويفكر محيطاً ذلك كله بأسوار الاستشارة جاعلاً إياه في

دائرة الانضباط والالتزام) [5] .

إن علينا أن نعترف أن حرصنا على أن يكون كل شيء وفق نظام محدد،

واحتياطاتنا الشديدة لكل شيء، والتعليم التلقيني، والحرص على أن يكون لكل

شيء نموذج سالف إن ذلك كله أدى إلى خشية المسلم من أن يكون في الطليعة

وصار الواحد منا يقول في داخله: (ليبدأ غيري) و (علينا أن ننتظر النتائج) ، وهذا

أدى إلى المؤاخذة الشديدة لكل من يبادر إلى خير ثم يُخفق فيه، أو تكون عواقبه

على غير ما يريد، مع أن هذا المبادر لو لم يكن له سوى فضل الانتصاب بين

الأموات لكفى!

إن الصمود والاستمرار وعدم الخوف من الإخفاق عمد أساسية في خلق

الإيجابية، وعبادات الإسلام وتكاليفه تصب جميعهاً في تنمية إرادة الصمود؛ حيث

يظل المسلم يلاحق هدفاً واحداً طول حياته بفعل الخيرات وترك المنكرات، هذا

الهدف هو نيل رضوان الله تعالى والفوز بالجنة.

إن ما نراه من نجاحات في عالم الواقع ليس وليد المحاولة الأولى؛ بل إن

هناك مئات بل ألوف التجارب المخفقة التي سبقت النجاح الكبير؛ ومما يُذكر أن

(أديسون) واجه في بحثه الدؤوب عن (سلك الملف) المناسب لصناعة المصباح

الكهربائي ثلاثة آلاف حالة إخفاق، وهي بالطبع ثلاثة آلاف عقبة مؤقتة، قبل أن

يتوصل للمادة المناسبة بعد ثلاثة آلاف محاولة. ويمكن لأي رجل عادي أن يعترف

بالهزيمة إن كان لا يتمتع بخاصية الصبر والإصرار على الظفر غير المحدود!

إن علينا أن نشجع من غير ملل كل أولئك الذين يصرون على عملية المحاولة

والخطأ، أولئك الذين يملكون الإرادة الحديدية للاستمرار في طريق البناء

والإصلاح والخير إلى آخره.. مهما كانت التكاليف [6] .

نماذج واقعية لمبادرات ذاتية في الزمن المعاصر:

أشرت في البداية إلى أن المبادرين في هذه الأمة صاروا أقل من القليل..

ولذا فإن نماذج المبادرة التي يمكن أن توصف بالنجاح المميز.. ليست بالكثيرة،

وهذا بلا شك ثمرة لقلة المبادرات أصلاً.. ولعل من النماذج المتميزة في هذا الزمان: المبادرة بإنشاء مجلة إسلامية نسائية تسد فراغاً مهماً في حياة المسلمة، وتقف أمام

هذا الزخم الضخم من الإعلام المضل الموجه للمرأة المسلمة.. ومنذ بدايات

الصحوة الإسلامية وهذه الثغرة لم تسد.. وأهل الإصلاح يتمنون من زمن بعيد أن

توجد تلك المجلة الناضجة.. غير ان ذلك لم يجاوز الأمنيات إلى حيز الواقع إلا

قبل سنيات محدودة.. فكانت هذه المبادرة فتحاً.. فتتابعت المجلات ذات التوجه

الإسلامي والموجهة للمرأة في الصدور.. والسبب الذي أخرها إلى هذه الفترة هو

ضعف روح المبادرة.

والأمر نفسه يقال في مجلة الأطفال.. حيث لم تكن في الساحة مجلات تتبنى

المنهج الإسلامي إلا قبل فترة يسيرة.. وكم من الأحلام والأفكار والمقترحات ما

يدور في خلد الكثيرين.. غير أن القليل من يقول: أنا لها..

وما تزال قطاعات أخرى من الأمة في حاجة إلى حديث خاص بها.. وطرح

موجه نحوها بشتى الوسائل الممكنة.. غير أن الإقدام على ذلك.. لم يحصل

بانتظار من يخرق السكون.

ويمكن أن يقال الأمر نفسه في نماذج أخرى من المبادرات الناجحة كالمبادرة

بإنشاء متاجر الفيديو الإسلامي.. والمبادرة بإنشاء مكاتب دعوة الجاليات المسلمة

وغير المسلمة، والمبادرة بإنشاء المبرات الخيرية والجمعيات الإغاثية التطوعية،

والمبادرة بإنشاء مواقع للدعوة للإسلام على شبكة الإنترنت.. إلى غير ذلك من

المبادرات الفردية والمؤسسية.. على نطاق الأمة ككل أو على النطاقات المحلية

والإقليمية والأسرية.

مقترحات لتنمية روح المبادرة:

1-

تحلي المربين والأساتذة ورجال الأمة ودعاتها بروح المبادرة وكونهم

قدوات عملية صالحة ونماذج تحتذى في هذا المجال.

2-

حث المربي لمن دونه على المسابقة لأوجه الخير والمبادرة إليها دون

انتظار الآخرين.

3-

إشعار المتربين بأن إنقاذ الأمة من واقعها واجب الجميع، وهو مسؤولية

مشتركة، وأن على كل فرد من أفرادها أن يسعى بحسب ما أوتي نحو الإصلاح..

4-

تشجيع المبادرين، والثناء عليهم، وإظهار صنيعهم، وجعل مبادراتهم

سبباً في حث الآخرين على الاقتداء بهم.

5-

تقبّل الأخطاء الواقعة من المبادرين واحتوائها، ومحاولة التخفيف من

آثارها، وعدم تعنيف فاعليها، وبيان صحة الدافع لذلك العمل بغض النظر عن

تحقيق النتيجة من عدمه.

6-

أهمية عدم تضخيم العوائق أمام المبادرة ومحاولة التغلب عليها، وعدم

الوقوف عندها طويلاً.

7-

عقد الجلسات والندوات لبحث سبل إحياء روح المبادرة ومجالاتها.

نصائح لمريد المبادرة:

1-

الثقة بالله والتوكل عليه، وإخلاص النية قبل البدء في أي أمر من الأمور.

2-

دراسة المشروع المقدم عليه قبل البدء فيه، ودراسة جوانبه حتى لا

تذهب الجهود سدى.

3-

الثقة بالنفس والتخلص من الهزيمة النفسية وترك الخوف من الإخفاق

الذي طالما قصم مشاريع وقوض من عزائم.

4-

سمو الأهداف وعلو الهمة مما يجعل المبادرة تحقق أفضل النتائج، وأن

لا يكون المبادر قصير النظر ممن لا يجاوز نظره قدميه بل يحاول إنجاح المبادرة،

وتوسيع فاعليتها، وبثها بين الآخرين.

5-

التربية الجادة التي من ثمارها كما سبق أن يشعر المرء بالمسؤولية الملقاة

على عاتقه مما يجعل المرء مبادراً بطبيعته.

6-

الجرأة المنضبطة، والإقدام المدروس؛ حيث إن الخوف سبب رئيس

للإخفاق، غير أن التهور سبب آخر كذلك، ونحن بحاجة إلى جرأة وشجاعة

مضبوطة بزمام العقل والدراسة والتأمل العميق، مع العلم والمعرفة لحدود الإمكانات

والمواهب والعمل بموجبها.

7-

التضحية بالمصالح الذاتية لمصلحة الأمة؛ فالمبادرة قد تجر على صاحبها

مادياً أو معنوياً؛ ما تجر، ومع ذلك فاستشعاره للأجر والمثوبة يدفعه للتضحية.

8-

أن تعلم أيها الأخ الكريم أن المشكلة ليست في أن تخطئ؛ وإنما المشكلة

أن لا تعمل، وأما من يعمل ويبادر فإنه سوف يخطئ بلا شك ولكنه خطأ في سلسلة

من الإصابات والنجاحات، والمحاولةُ والتكرارُ سبيل للنجاح والتميز.

واجب المصلحين:

ولا بد للمصلحين من تشجيع المبادرة الفردية لدى المسلم، ومكافأة الذين

يطلقون أكبر عدد ممكن من المبادرات الجديدة [7] ، وأن يحرصوا على أن يكون

اللوم على من بادر وعمل ثم وقع في الخطأ أقل من اللوم على من لم يبادر أصلاً.

وفي الختام:

أرجو أن أكون قد وُفّقْت في إثارة شيء من الاهتمام وإلقاء الضوء على هذا

الموضوع المهم، آملاً أن تكون المبادرة بإثارة الموضوع على صفحات هذه المجلة

دافعاً للمربين والدعاة إلى إثراء الموضوع بمقالات أكثر عمقاً وموضوعية، وعذري

هاهنا أنني مبادر.. ومن شأن المبادر أن يكون على عمله آثار الجدة والحداثة مما

يجعل المطاعن عليه أكثر.. وحسبي أنني لفتّ النظر إلى الموضوع، سائلاً الله

تعالى أن يجعلنا مفاتيح للخير مغاليق للشر، والله من وراء القصد، وصلى الله

وسلم على نبينا محمد، وعلى آله وصحبه وسلم.

(1) القاموس المحيط، للفيروز أبادي، (باء الراء، فصل الباء) .

(2)

رواه البخاري.

(3)

صحيح مسلم كتاب الإيمان.

(4)

أسد الغابة، 1/206.

(5)

التربية الجادة ضرورة، للشيخ محمد الدويش.

(6)

مقدمات للنهوض بالعمل الدعوي، د عبد الكريم بكار.

(7)

مقدمات للنهوض بالعمل الدعوي، د عبد الكريم بكار.

ص: 26