الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
المسلمون والعالم
الألبان والغرب تصفيات حديثة
لحسابات قديمة
(1 - 2)
عبد العزيز كامل
عجيب أمر تلك القارة الأوروبية العجوز؛ فقد عاشت أحقاباً من عمرها
بوجهين متناقضين: وجه مسفر مضيء، ووجه كالح مظلم. أما وجهها المشع
بالضياء فذاك حظها من الحضارة المادية والثقافة الدنيوية، وأما وجهها المكفهر
ظلمة وسواداً فهو موقفها من الديانات التوحيدية؛ حيث يصدق في أهل تلك القارة
قبل غيرهم قوله - تعالى -: [يَعْلَمُونَ ظَاهِرًا مِّنَ الحَيَاةِ الدُّنْيَا وَهُمْ عَنِ الآخِرَةِ هُمْ
غَافِلُونَ] (الروم: 7) .
لقد عاشت أوروبا طوال عصورها قلعة للوثنية، ومهداً للإلحاد، وملاذاً
لأنواع الفلسفات المناقضة للفطرة المعادية للحق المنزل في رسالات السماء، وظلت
عواصم حضاراتها السابقة واللاحقة مهبطاً لوحي الشياطين [شَيَاطِينَ الإِنسِ وَالْجِنِّ
يُوحِي بَعْضُهُمْ إِلَى بَعْضٍ زُخْرُفَ القَوْلِ غُرُوراً] (الأنعام: 112) .
عبدت أوروبا وألَّهت كل ظواهر الطبيعة، وقدست واحتفت بكل مظاهر
المادة، أما الإله الحق، ودينه الحق، ورسله المبعوثون بالحق، فقد وقف
طواغيت الفلاسفة الأوروبيون منهم - غالباً أو دائماً - موقف الجفاء والعداء.
لم تحفل أوروبا بديانة إبراهيم، ولم تقبل رسالة موسى، ولم تدخل في ملة المسيح
- على الأنبياء جميعاً صلوات الله وسلامه - إلا بعد أن حولتها إلى ديانة وثنية
تقدس الصليب، وتثلث الآلهة.
ثم جاء الدين الخاتم، فرماه الروم عن قوس واحدة، وأوصدوا أبوابهم دونه،
بل حاولوا اقتحام أبوابه علَّهم يقتلونه! ! لم تقف شعوب بعناد أمام دعوة الإسلام
مثلما وقفت شعوب أوروبا الضالة، وظلت (ذات القرون)[1] تناطح الحق على
أرضها وأرضه، ولم ييأس المسلمون من محاولات ترويض تلك الوحشية المتلفعة
بهندام المدنية، فحاولوا مرات الدخول إليها بالدين من بوابتها الشرقية عبر
القسطنطينية، وجربوا تارات من غربها عن طريق الأندلس لفتح رومية، وحتى
تلك البقعة التي أضاءت في غرب أوروبا المعتم، لم تصبر قارة الظلام عليها،
وتواطأ النصارى جميعاً لإخراج الإسلام من الأندلس لتتحول إلى (إسبانيا) ، وليتم
تنصير من تبقى منهم قسراً في ملحمة عار تاريخي على جبين الرجل الأبيض ذي
المعتقد الأسود.
وما أن انطفأ السراج في غرب أوروبا، حتى شع نور في شرقها، فمكَّن الله
رجلاً من فتح حصن من حصون تلك القلعة العنيدة، واستحق بذلك اسم (الفاتح) ،
وأضاءت (القسطنطينية) لأول مرة في تاريخها بنور الدين الصحيح، وتحولت
العاصمة الحامية للكفر إلى عاصمة حاملة للواء الإسلام ليصبح اسمها: (إسلام بول)
[*] ولكن.. هل قَرَّ لتلك القارة الظالم أهلها قرار بالدين الجديد؟ وهل تقبلت بقية
شعوب أوروبا كتاب الله أو دخلت في دين الله؟ إن الواقع الدامي لتاريخ الدولة
العثمانية المجاهدة مع جحود وكنود أوروبا ليخبرنا بأن تلك القارة لم تقبل هذا الحق،
ولم تكن أهلاً لذاك الشرف؛ فلقد تمنعت أكثر شعوب أوروبا وتأبت في وجه دعوة
الإسلام لله رب العالمين، وظلت في المشاقة والشقاء حتى لا تدع وثنيتها المعهودة
وجاهليتها العتيدة.
لقد أسهبتُ شيئاً ما في هذه التقدمة لسبب مهم وهو: أن نضع الأحداث
الراهنة في البلقان، والممتدة منذ سنوات في سياقها من التاريخ؛ فأحداث البلقان
هي فورة جديدة من فورات البركان الأوروبي الثائر دوماً على كل ما كان حقاً من
الأديان، وقد مثَّلت مآسي الأمة الألبانية التي أنجاها الله من الكفر الغالب على
أوروبا، مثالاً حياً على ذلك الموقف العنادي التقليدي لأوروبا من دعوات الرسل
وأتباع الرسل.
جذور الجذور:
الألبان هم أقدم الأعراق التي استوطنت البلقان؛ فقد استوطنوها قبل الميلاد
بمئات السنين، في حين أن السلاف الذين انحدر من نسلهم الصرب والبلغار
والكروات لم يكن لهم وجود في المنطقة قبل القرن الرابع الميلادي الذي أغاروا فيه
على بلاد البلقان.
ولكن السلاف الوافدين، وبخاصة الصرب؛ خاضوا حروباً عنيفة من أجل
تأسيس إمبراطورية صربية تشمل حكماً مطلقاً يحكمون بموجبه الألبان والبلغار
واليونان، واستمر صراعهم من أجل ذلك قروناً عديدة.
وفي القرن الثالث عشر للميلاد، جد السعي لدى الصرب لتحقيق هذا الهدف،
وبالفعل فقد تحقق قيام الإمبراطورية الصربية عام 1348م، ولكن الصرب لم
يهنؤوا ببقاء طويل لتلك الإمبراطورية المفروضة المرفوضة، إذ لم يكد يمر ربع
قرن من الزمان على قيامها حتى دق العثمانيون أبواب البلقان، وعبثاً حاول
الصربيون صدهم فلم يستطيعوا، ودخل العثمانيون أراضي الإمبراطورية الصربية
تحت لواء السلطان مراد الأول، وحققوا نصراً مظفراً حاسماً في معركة (كوسوفا)
الشهيرة عام 1389م.
ساق وأوراق:
ترعرعت نبتة الديانة الجديدة في قلوب الألبان، ودخل سوادهم في دين الله،
فلم يمر قرن على دخول الإسلام أرضهم حتى أصبح جُلُّ الألبانيين مسلمين،
وتحولت (ألبانيا) إلى ولاية إسلامية عثمانية، وأصبحوا رعايا في دولة الخلافة
مع أنهم تأبوا قبل ذلك على الذوبان في أية قومية أو ديانة أخرى، ولم يدخل في
الإسلام طوعاً إلى جانب الألبان إلا البوسنيون، بينما تمنعت غالبية شعوب البلغار
والصرب وغيرهم عن الدخول فيه. وحمل الصرب أحقادهم على عواتقهم وشهروا
سلاح الغل ورماح الحقد على الدين القادم إلى أوروبا من شرقها، الذي شرِقت به
قبل ذلك في غربها!
كان للألبان بلاء حسن ودور مميز في الولاء للإسلام ورفع لوائه، وقاموا
بجهود صادقة للتمكين له تحت مظلة دولة آل عثمان. وقابل العثمانيون صنيعهم
الطيب بمثله، حتى إن ما لا يقل عن ثلاثين رجلاً من الألبان تولوا في عصور
متوالية منصب (الصدر الأعظم) ، وهو أعلى المناصب في دولة الخلافة بعد
منصب الخليفة، وهو يعادل منصب رئيس الوزراء في عصرنا، وكان القادة
العسكريون الألبان من أكثر القادة العثمانيين بروزاً وتميزاً، حتى لكأن العثمانيين
صدَّروهم لمهمة حل آصار أوروبا وأغلالها التي ألقت بها في قعر الوثنية قروناً
عدداً، ولكن أوروبا المعاندة أجمعت أمرها على الاحتفاظ بأغلالها، وتواطأ
أشقياؤها على الوقوف في وجه الإسلام في الشرق بعد أن أخرجوه من الغرب،
واجتمعت القارة بنصاراها المختلفين من كاثوليك وبروتستانت وأرثوذكس على
اقتحام حصن الإسلام من الخارج بعد تخريبه على يد أوليائهم من اليهود والزنادقة
المرتدين من الداخل؛ فقد تفاعلت الجراثيم اليهودية العتيدة مع الفطريات العلمانية
الوليدة في تركيا لإنهاك جسد الخلافة من داخله، حتى انهارت مناعته، وأصبح
طريح فراش الفتنة، وأطلق على تركيا وقتها وصف (الرجل المريض) . وأثناء
مرضه الطويل قسمت تركته، ثم قُسم هو ذاته في قصة تختلط فيها الإثارة
بالغموض؛ حيث تم تقطيع المريض وما ترك إلى أشلاء ممزعة قبل أن تطلق على
الرأس (رصاصة الرحمة) لا بل رصاصة الحقد! وبعد الوفاة.. ظل الانتقام
مستمراً في التمثيل بالأشلاء، وكان من بين تلك الأشلاء شعب الألبان.
بين الأكراد والألبان:
بين الألبان والأكراد وجوه شبه كثيرة؛ فالألبان شعب جَلْدٌ مقاتل، تواق
للحرية، ميال للكفاح دون مبادئه، ولقد هذب الإسلام تلك الخلال فيه، لولا ما ران
على الألبان من أدران المسخ المتعمد بعد سحبه من منظومة الانتماء الإسلامي، وقد
وجد الغربيون ألَاّ حل لإضعاف شوكته، إلا بحل رابطته وتفريق كيانه.
وفي مطلع القرن العشرين، وبينما كانت ألبانيا خارجة لتوها من تحت أنقاض
الحكم العثماني، أرادت أوروبا أن تضمن خروج الألبان النهائي من دائرة الجامعة
الإسلامية الآيلة للسقوط، حتى لا تعود مصدراً لخطر جديد، فمارست عليها
الضغوط لتحويلها إلى واقع مغاير، فجرى تقسيمها أولاً، ثم اقتطعت أجزاء منها،
واشترط الأوروبيون للاعتراف بها دولة مستقلة أن تعلن حيادها وعلمانيتها،
وخضوعها للمراقبة الدولية، وزيادة على ذلك أن تقبل بأن يكون على عرشها ملك
من الألمان، لا من الألبان!
واستفرد الأوروبيون بألبانيا (المستقلة) بعد أن مزقوها إلى كيانات واجتزؤوا
منها (مقدونيا، وصربيا، والجبل الأسود، وكوسوفا) لتصبح مساحة أراضي
ألبانيا 28 ألف كيلو متر مربع، بعد أن كانت 80 ألف كيلو متر مربع.
ومنذ ذلك اليوم أخذت معاول الثأر الأوروبي تضرب رؤوس الشعوب الألبانية
في انتقام متتابع يتنقل من شعب إلى شعب في أراضي البلقان المضطربة. ونظراً
إلى أن توابع الزلازل البركانية البلقانية في أي جزء من شرق أوروبا تهز تلك
المنطقة كلها، فسوف أتناول في عرض موجز أهم ما جرى من تحولات في تلك
الأجزاء من أراضي الإسلام في البلقان، بدءاً من ألبانيا ومروراً بكوسوفا والجبل
الأسود وانتهاء بما يجري في مقدونيا التي لا يمكن فصل ما يحدث فيها الآن عن
بقية الأحداث التي سبق جريانها في بقاع بلقانية أخرى خلال العقد المنصرم.
ألبانيا وفقدان الهوية:
كانت الحرب العالمية الأولى قد انطلقت شرارتها الأولى من البلقان، وبعد أن
انتهت الحرب بهزيمة تركيا وحليفاتها، عقد في باريس ما عُرف بـ (مؤتمر
الصلح) عام 1919م، وقامت الدول المنتصرة فيه بتفتيت البلقان، وبعد ذلك
اعترفت (عصبة الأمم) بألبانيا دولة مستقلة، ولكن تلك العصابة اشترطت على
الألبان الانسلاخ من هويتهم الإسلامية كما سبق البيان، ولم تكن هذه مجرد دعوة
نظرية، بل أُجبرت ألبانيا عليها بصورة عملية إذ أُخضعت لاحتلال مباشر من
إيطاليا، ثم تركت ألبانيا لتلقى مصيراً أشنع من السيطرة النازية وهو الهيمنة
الشيوعية، ووقعت تحت تسلط أكثر ديكتاتورات العالم المعاصر تخلفاً وانغلاقاً وهو
(أنور خوجه) زعيم الحزب الشيوعي الألباني الذي قام في ألبانيا بأسوأ مما قام به
مصطفى كمال أتاتورك في تركيا، مع فارق واحد، وهو أن خوجه كان يعمل
لحساب الشيوعية، وأتاتورك يعمل لحساب اليهودية الماسونية.
مكن أنور خوجه للشيوعية في ألبانيا من خلال نظام ستاليني فولاذي قضى
على حرية الشعب وتدينه، واستهدف شرفه وآدميته، وأقام خوجه ستاراً حديدياً
على ألبانيا جعلها معزولة عن العالم، حتى يتمكن من استكمال عملية تغيير في
الأعماق لشعب كان يوماً من حماة الإسلام في العالم، لقد حوَّل ذلك المارد المارق
(خوجه) ألبانيا من الدولة الإسلامية الوحيدة في أوروبا، إلى الدولة الوحيدة الكاملة
الإلحاد في أوروبا بل في العالم أجمع، بشكل فاق ما أحدثته الشيوعية في روسيا
وما كان يتبعها، حارب الأديان كلها، وحول المساجد إلى متاحف ومتاجر ومخازن،
وحل كل المؤسسات الدينية وصفَّى أملاكها وأوقافها، وحظر مجرد ممارسة
الشعائر، وسن القوانين لمعاقبة من يخالف النظم الإلحادية!
لقد ظلت أوروبا (المستنيرة) تنظر بتشفٍ لعقود طويلة إلى هذا المصير
المروع لجزء منها، حتى هلك خوجه، وجاء شيوعي آخر وهو (رامز عليا) عام
1985م، في وقت كانت أوروبا الشرقية تترنح تحت رياح التغيير المعادية
للشيوعية، وبعد أربعة أعوام سقطت الشيوعية نهائياً في أوروبا الشرقية، وظن
الألبان أنهم سيتنفسون نسيم الحرية بعد الخروج من مستنقع الشيوعية الآسن، ولكن
اشتراكية الفقر ظلت تلاحقهم حتى بعد سقوط الشيوعية، فقد أجريت انتخابات في
عام 1991م فاز فيها الاشتراكيون [2] ، ثم بعد ذلك تبعهم في الحكم الديمقراطيون
[3]
الذين لم يأخذوا من الديمقراطية إلا أسوأ ما فيها؛ حيث تكرست سيطرة
الرأسماليين على الحكم في عهدهم، وحدثت أزمة انهيار شركات توظيف الأموال
في عام 1997م التي أحدثت اضطرابات عنيفة في ألبانيا استدعت تدخل الأمم
المتحدة، وضاعت في تلك الأزمة مدخرات الشعب الفقير الخارج من أسر
الشيوعية، وأغرى ذلك الإخفاق الديمقراطي الاشتراكيين بالعودة إلى
الحكم.
ألبانيا وصراع المصالح:
مثلما أعيت المشاكل الداخلية الشعب الألباني الذي يُعد أفقر شعوب أوروبا،
فقد تكاثرت على ذلك الشعب مطامع الأطراف الخارجية؛ فإيطاليا (عاصمة
الصليب) التي احتلت ألبانيا مرتين (عام 1914م، عام 1939م) تحاول جاهدة
إذابة الألبان في ثقافتها وشخصيتها، ولقد نجحت للأسف الشديد في ذلك إلى حد
بعيد، حتى إن الشعب الألباني أصيب بعقدة الهزيمة وأصبح الإيطاليون مثار
إعجاب الكثيرين من جماهير ذلك الشعب المغيَّب، وأصبحت إيطاليا تعامل ألبانيا
على أنها محمية أو منطقة نفوذ، وكان من آخر المظاهر الدالة على ذلك دخول
الإيطاليين بقواتهم لإنهاء أزمة شركات توظيف الأموال لحفظ النظام هناك. وينافس
الإيطاليين على النفوذ في ألبانيا اليونانيون، وإذا كانت إيطاليا هي عاصمة
الكاثوليكية العالمية فإن اليونان هي عاصمة الأرثوذكسية العالمية، وبين الدولتين
خصومات تاريخية مزمنة، وقد أصبحت ألبانيا مجالاً للتنافس المشترك بينهما [4] ؛
غير أن اليونانيين يركزون على الجنوب الشرقي، بينما يركز الطليان على الجنوب
الغربي. والذي يظهر أن سيطرة اليونان على ألبانيا أكثر من سيطرة الإيطاليين
وبخاصة في المجال الاقتصادي لدرجة أن كثيراً من الألبان يعتبرون ألبانيا دولة
محتلة من اليونانين الذين يمكنون للصرب في ألبانيا ويسندون إليهم مهمة (حفظ
النظام) !
وإذا كانت اليونان تنافس إيطاليا على جنوب ألبانيا، فإن صربيا تنافسها في
شرقها، والجبل الأسود تنافسها في غربها، وبذلك نرى ألبانيا واقعة كفريسة ضعيفة
بين ثلاثة وحوش ضارية يريد كل منها أن يستحوذ على أثمن ما فيها، ولو اقتصر
الصراع على أرض ألبانيا على النواحي الاقتصادية والسياسية لقلنا: شدة وتزول،
ولكن المشكلة أن هناك تنافساً بين الأطراف المتحالفة على تنصير ذراري المسلمين
في ألبانيا.
إن التنافس على المصالح في ألبانيا لا يقتصر على دول الجوار الصليبي فقط،
بل إن هناك قوة طامحة ترمق الأوضاع من بعيد، وهي قوة الولايات المتحدة
الأمريكية؛ فبلاد البلقان بوجه عام، وأراضي الألبان بوجه خاص، يسيل لها لعاب
الثعلب الأمريكي الجائع على الدوام، ولأسباب عديدة تتوق أمريكا لفرض هيمنتها
عن طريق الأمم المتحدة طبعاً على أراضي الألبان، فمن هذه الأسباب:
- أن بلاد الألبان هي الطريق المؤدي إلى كل من القوقاز وشرق المتوسط
والخليج العربي.
- وهي محطة من محطات الحروب الاقتصادية بين أمريكا وأوروبا.
- وهي أيضاً إحدى الساحات المحتملة لأية مواجهة مستقبلة بين أمريكا
وروسيا، أو أي قوة من قوى الإسلام الناهضة في آسيا الوسطى.
- وألبانيا تعتبر أيضاً بنظر الغرب أحد المعابر لمنظومته الثقافية والحضارية
التي يراد تعميم نموذجها في العالم.
إن النظرة النفعية الأمريكية الأوروبية لبلاد الألبان المقسمة في ألبانيا وما
حولها لا تبعد كثيراً عن عمليات حلف الأطلسي التي قام بها عام 1999م، وإذا
كانت أمريكا قد تزعمت (الناتو) في تلك العمليات، فإن الأيام تثبت أنها قامت بما
قامت به لمصالح بحتة، لا لمجرد النصرة الإنسانية أو المشاعر العاطفية، ولكن
الألبان خدعتهم تلك العمليات على ما يبدو، فنظروا بإكبار إلى الأمريكيين بعد
ضرب الصرب في كوسوفا ظانين أن العداوات الغربية الصليبية القديمة قد تحولت
فجأة إلى مشاعر صداقة ووفاق ودفاع مشترك، ولكن ما آلت إليه الأمور في
كوسوفا بعد عامين من ضربات حلف الأطلسي تفضح النوايا التي كانت تقف خلف
جهود الغرب للتدخل في البلقان.
كوسوفا تُسقط الأقنعة:
في ذكرى مرور ستة قرون على معركة (كوسوفا) بين العثمانيين والصرب،
أعلن مجرم الحرب الرئيس الصربي السابق (سلوبودان ميلوسوفيتش) أن معركة
كوسوفا التاريخية لم تنته، وأنه قد آن الأوان لاسترداد الصرب لأرض كوسوفا،
وأعلن إلغاء الحكم الذاتي الذي كان يتمتع به ألبان كوسوفا في عهد الرئيس الشيوعي
اليوغسلافي السابق (تيتو) منذ عام 1963م.
وقد مرت الأحداث منذ أن أعلن ميلوسوفيتش ذلك بثلاث مراحل:
الأولى: شن دعاية عنصرية صربية مكثفة ضد ألبان كوسوفا بهدف شحن
المشاعر ضدهم.
الثانية: بدء سن قوانين التمييز والتفرقة ضد الألبان.
الثالثة: بدء عمليات العنف والإرهاب ضد ألبان كوسوفا بدءاً من يناير
(كانون الثاني) 1998م إلى يونيو (حزيران) 1999م. وكان ذلك بهدف إلجاء
الألبانيين إلى الفرار خارج أراضيهم، وبالفعل فقد تمت خلال هذه المرحلة أحداث
محنة كوسوفا الدامية التي قتل وجرح وشرد بسببها مئات الآلاف من الألبان
الكوسوفيين.
كان رد فعل الألبان الكوسوفيين الإعلان عن بدء عمليات المقاومة المشروعة
تحت قيادة ما عُرف بـ (جيش تحرير كوسوفا) ، وذلك بعد إخفاق محاولات الحل
السلمي التي تزعمها الزعيم الألباني الموصوف بأنه (معتدل) : إبراهيم روجوبا،
والذي كان الألبانيون قد انتخبوه رئيساً لهم، ولكن محاولات الألبان لصد العدوان
الصربي ظلت محدودة بسبب غياب الدعم لهم بوصفهم شعباً يمارس حقاً مشروعاً
في الدفاع عن النفس حتى بحسب المواثيق الدولية، وكما كان حال البوسنة وغيرها،
فقد ظل المجتمع الدولي ينظر للدماء النازفة من جراح كوسوفا ببرود غير معهود،
وكأن هذا المجتمع الدولي الحر يريد أن يبعث رسالة لكل حركة تحرير تريد أن
ترفع رأساً بالإسلام أن قد تغير الزمان.
ولما أنهكت الجراح أرواح الكوسوفيين الذين أُدخِلوا حرباً مباغته وغير
متكافئة، تدخلت الأمم المتحدة عارضة كالعادة التفاوض بين الوحش والضحية! ولم
يكن أمام الضحايا إلا القبول بأي حل يزيح السكين عن رقابهم، ولكن الوحش أبى،
وتمرد على أسياد الغابة في واشنطن وما حولها. وهنا كان لا بد من التدخل
العسكري تحت راية حلف الأطلسي لتحقيق عدد من الأهداف جملة واحدة، كان
منها: منع روح الجهاد الإسلامي من العودة إلى بلاد البلقان، حتى لا تتكرر ظاهرة
الأفغان، ومنها: إظهار قادة النظام العالمي الجديد بمظهر الجديرين بقيادة العالم
والقادرين على ضبط الأمور في أي منطقة من مناطقه، ومنها تعزيز مصالح أمريكا
في قلب أوروبا، وإشعار الأوروبيين بأنهم لا يستطيعون التفرد بعيداً عن الهيمنة
الأمريكية، حتى داخل قارتهم التي عجزوا عن حل واحدة من أطول مشاكلها وهي
البلقان، وأخيراً إعطاء درس واضح لكل من يريد أن يمارس طغياناً لحسابه
الخاص، بأن زمن الطغيان الخاص قد ولى؛ لأن في العالم الآن طاغوتاً عاماً يلقب
بـ (العم سام) !
استمر القصف الأطلسي للصرب نحو شهرين كانت الفرصة فيهما كافية لأن
تفرِّغ العقارب الصربية فيها بقية سمومها في جسد الألبان المثخن بالجراح.
ولما وضعت الحرب أوزارها أقبل حلف الأطلسي على تنفيذ اتفاق
(رامبويه) الذي سبق أن رفضه الصرب رغم غبنه للألبان، فهو لا يمنح شعب
كوسوفا الاستقلال، بل يضعهم تحت (وصاية دولية) وكأن الاتفاق يقول
للطرفين: كوسوفا ليست لأي منكما الآن وحتى إشعار آخر!
إن الصليبية الدولية تبرهن مرة أخرى على إصرارها على عدم التمكين
للإسلام ولو بشكل رمزي في أي أرض من أراضي أوروبا، ومع وضوح الحق
الكوسوفي عياناً أمام كل ذي بصيرة، إلا أن أقطاب (الشرعية الدولية) المتفاخرين
دوماً بقدرتهم على فرض إرادتهم، لم يشاؤوا أن يفرضوا هذه القدرة بإعطاء شعب
أدنى حقوقه التي نصت عليها تلك الشرعية الكاذبة!
كوسوفا تحت الإدارة الأممية:
بعد إخراج الجيش الصربي من كوسوفا عمدت الأطراف الدولية المتنفذة إلى
إجراء عملية (إخصاء) لإرادة الألبان فيها، ففرضت على (جيش تحرير كوسوفا)
أن يحل نفسه، ويسلم أسلحته ويتحول إلى حزب سياسي (مسالم جداً) ! مع أن
حزب ميلوسوفيتش (العسكري) لم يُحَلَّ بعد، ولا يزال رجاله في أعلى درجات
المسؤولية في الجيش الصربي! فهو وإن كان قد ذهب بجرائمه التي قد طالت شعبه
نفسه، إلا أن أعوانه لا يزالون في السلطة.
وقد فرضت الأمم المتحدة منطقة عازلة بين حدود كوسوفا وصربيا ريثما تهدأ
الأمور، ولكن تلك الحدود بدأ التحالف الأطلسي في تخفيف وجوده عندها تمهيداً
لإلغاء مهمته فيها، وهذا معناه: إعادة الأوضاع إلى ما كانت عليه بعد نجاح عملية
الإخصاء المذكورة لجيش تحرير كوسوفا حيث تتهيأ الفرصة للصرب أن يعودوا
فيعيثوا في أراضي الألبان فساداً دون أن يكون هناك من يصدهم. إضافة إلى ذلك،
وبدلاً من تمكين الكوسوفيين من إدارة شؤونهم في أوطانهم ولو تحت حماية دولية،
إذا بالمجتمع الدولي يفرض على الكوسوفيين إدارة أجنبية مدنية وعسكرية أشبه بتلك
التي كانت سائدة في الحقب الاستعمارية، غير أن المستعمر هنا لا يرفع أعلام دولة
من الدول الاستعمارية القديمة بعينها، بل يرفع علم المنظمة الدولية الموقوفة الآن
على الهيمنة الأمريكية.
لقد حلت في كوسوفا بمقتضى قرار مجلس الأمن رقم (1244) إدارتان
إحداهما مدنية، والأخرى عسكرية.
- أما الإدارة العسكرية فهي تحمل اسم (كيفور) ، وتتشكل من قوة تقدر
بخمسين ألف جندي (وهو قوام جيش كامل لدولة متوسطة) ، وينتمي هذا الجيش
إلى 39 دولة، وتتوزع قواته على خمس مقاطعات، تحت قيادة خمس دول هي:
(أمريكا بريطانيا فرنسا ألمانيا إيطاليا)[5] ، وتؤول المسؤولية الموضوعة في أيدي
تلك الدول الخمس إلى دولة واحدة هي: أمريكا.
- وأما الإدارة المدنية فيطلق عليها اسم: (أونميك) ، ويترأسها رجل فرنسي
يدعى (برنار كوشنير) ، وهذا الرئيس الفرنسي لشعب كوسوفا الألباني المسلم هو
الحاكم الفعلي الآن لتلك الجمهورية التي طالبت العالم بالاستقلال، أسوة بكرواتيا
وسلوفينيا النصرانيتين البلقانيتين. ويقوم هذا الرئيس الفرنسي (المؤقت) بدور
تهيئة البلاد للرئيس (المؤبد) الذي يُعد الآن لحكم المسلمين في كوسوفا، وذلك
على طريقة حكم الانتداب الذي ظننا أنه قد أصبح من التاريخ! إن مهام ذلك
الرئيس الفرنسي تمثل سلطة حكم تنفيذي لا إشرافي، فهو يرأس تلك الإدارة في
إطار حكم يصور على أنه حكم ذاتي، أما مصير (الحل النهائي) لأزمة الشرق
الأوسط الأوروبي فإنه الآن بيد أرباب الديمقراطيات العالمية التي تصاب بالعَتَه
والعمى والصمم والبكم كلما طالبها شعب مسلم مسالم بحق تقرير المصير!
إن أمريكا والغرب لن يقبلوا حتى إشعار آخر بوجود إسلامي في أوروبا
الموهوبة منذ ولدت لخدمة الشيطان، وحتى لو قبلوا شكلاً من أشكال ذلك الوجود،
فلا بد أن يكون مفرغاً من المضمون، فلا يكون له وصف سياسي، أو ثقل
اقتصادي أو هوية ثقافية أو اجتماعية تنطلق من ثوابت إسلامية، فلا سماح لدولة أو
حلف أو مجموعة تتبنى الإسلام في جزء من أجزاء تلك القارة القارة دوماً في بيت
العصيان.
يمكن فقط السماح بوجود محدود للمسلمين في شكل جاليات أو محميات أو
تجمعات لأصحاب اللجوء السياسي أو الاقتصادي أو الثقافي!
وفي هذا الإطار يمكن أن نفهم ما يدور في جمهورية مقدونيا التي يريد
مسلموها من الألبان أن يجربوا حظهم في المطالبة بحقوقهم في عالم لم يعد يعدل في
قضية إن كان أهلها من أصول إسلامية، ولو كانت أوروبية!
وإلى بقية في حلقة قادمة إن شاء الله.
(1) هذا وصف أوروبا (الروم) في الحديث الشريف حيث سأل أبو حوالة رضي الله عنه رسول الله صلى الله عليه وسلم وقال: قلت: يا رسول الله، ومن يستطيع الشام وبه الروم ذات القرون، قال:«والله ليفتحه الله عليكم، وليستخلفنكم فيها» أخرجه البيهقي في الكبرى (9/179) والضياء في المختارة (9/278) ، رقم (241) ، وعزاه للطبراني، وقال الهيثمي في مجمع الزوائد (6/212) ، رواه الطبراني بإسنادين رجال أحدهما رجال الصحيح غير نصر بن علقمة وهو ثقة.
(2)
يتزعم الحزب الاشتراكي (فاتوس نانو) .
(*) أي مدينة الإسلام.
(3)
يتزعم الحزب الديمقراطي (صالح بريشا) وقد أطيح به من رئاسة ألبانيا بعد أحداث أزمة شركات توظيف الأموال التي يقال إن من أسباب تدبيرها محاولة بريشا التقرب من العالم الإسلامي، بالانضمام إلى منظمة المؤتمر الإسلامي.
(4)
تتذرع الدول الأوروبية في تنافسها على إضعاف ألبانيا بدعوى أن الألبان ينزعون إلى التوحد تحت مظلة دولة واحدة تجمعهم بعد تحقيق مشروع (ألبانيا الكبرى) ، وهو مشروع يرى الألبان أنه وهم صنع منه الغرب ذريعة لتسويغ تدخلهم الدائم في شؤون الألبان للحيلولة دون تحقيقه.
(5)
يلاحظ أن هناك وضعاً عسكرياً مشابهاً في البوسنة بعد اتفاق (دايتون) للسلام! .