الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
قضايا ثقافية
الاتجاهات.. تكوينها ومكوناتها
محمد عودة الذبياني
مقدمة:
مع نمو الفرد وتعرضه لعملية التنشئة الاجتماعية تتكون لديه اتجاهات
ومواقف معينة حيال الأفراد والجماعات والمؤسسات والأفكار والمذاهب المختلفة.
وهذه الاتجاهات وتلك المواقف تحتل من الأهمية غايتها؛ فهي في كثير من
الأحيان تتحكم في خط سير الإنسان وتعامله مع ما يحيط به، وهي - فضلاً عن
هذا وذاك - يمكن أن تحفز الإنسان لعمل شيء معين أو تثبطه عن فعله، ولا
يقتصر استخدامها على المجال التربوي فحسب، وإنما تتعدى ذلك إلى المجال
السياسي حيث تحتاجها الحكومات في معرفة اتجاهات الشعوب في بعض الميادين
والقضايا المختلفة التي تهمها، ويمكن للتجار والمنتجين ونحوهم ترويج بضاعتهم
إذا أمكنهم التعرف على اتجاهات العملاء أو المستهلكين، كما أنهم يسعون إلى
تكوين اتجاهات إيجابية عن سلعهم التجارية لدى جمهور المستهلكين، وأهم من ذلك
كله الدعاة والمربون والقائمون على إصلاح المجتمع حيث يتطلب منهم عملهم
الإلمام بشيء عن الاتجاهات حتى يمكنهم تكوين اتجاهات فاضلة لدى الأفراد
والمتربين، وتعديل وتغيير اتجاهات أخرى غير مرغوب فيها.
ولذلك سوف أسلط الضوء في هذا المجال على موضوع الاتجاهات والمقصود
بها، وخصائصها، ومكوناتها، كما سأسلط الضوء على شيء من العوامل التي
تسهم في تكوين الاتجاه وتعديله.
أولاً: المقصود بالاتجاهات:
الاتجاه مأخوذ من وجه واتجه، والجهة والوجهة والتُّجاه: الوجه أو الموضع
الذي تقصده، واتجه له رأي: أي سنح [1] .
ويمكن أن تعرَّف الاتجاهات: بأنها المواقف التي يتخذها الإنسان تجاه
مكونات بيئته سواء أكانت هذه المكونات مادية أو معنوية.
وهناك بعض المصطلحات قد يلتبس مفهومها بمفهوم الاتجاهات لا بد من
بيانها على النحو الآتي:
أ - الاتجاهات والميول: قد يظن بعض الناس أن هذين المصطلحين
مترادفان، فلا تكاد تذكر الاتجاهات إلا ويأتي بعدها الميول؛ حتى إن بعض
المشتغلين في المجال التربوي لا يفرق بين هذين المصطلحين؛ وحتى نفرق بينهما
يمكن القول بأن الاتجاه يتميز بالاستقرار والثبات أكثر من الميل؛ فالميل سريع
التغير؛ وذلك لأنه تغلب عليه المشاعر والعواطف بخلاف الاتجاه الذي يغلب عليه
الجانب العقلي المعرفي الذي يجعل من عملية تغييره وتعديله تحتاج إلى شيء من
الصبر والتأني.
ب - الاتجاهات والرأي العام: العلاقة بين الاتجاهات والرأي العام يشوبها
شيء من اللبس؛ فالرأي العام يستند جزئياً على الاتجاهات التي يحملها الأفراد،
ولذلك يلعب الرأي العام دور الوسيط بين الاتجاهات المختلفة حتى يكوِّن منها رأياً
عاماً [2] ؛ وبناءً على ذلك يمكن القول بأن الاتجاهات أكثر عمقاً من الرأي العام
الذي قد يجنح إلى السطحية إلى حد ما؛ لأن الفرد قد ينساق في خضم الرأي العام
لا عن قناعة واتجاه، وإنما تأثراً بالمحيطين به. وإجمالاً يمكن وصف علاقة الرأي
العام بالاتجاهات بأنها علاقة الكل بالجزء.
ج - الاتجاهات والقيم: من خلال توضيح القيم يظهر لنا جلياً الفرق بينها
وبين الاتجاهات؛ فالقيم هي المبادئ الثابتة التي يؤمن بها المجتمع ويعتز بها
أفراده [3] ، ولذلك نجد أن اتجاهات الفرد تدور وتتمركز - بعد المعتقدات - حول
هذه القيم والمبادئ؛ فهي أساسها الذي تبنى عليه.
ثانياً: مكوّنات الاتجاه وخصائصه:
إن المتأمل في الاتجاه منذ بداية تكونه يجد أنه يمر بثلاث مراحل هي في
نهاية المطاف تشكل مكونات الاتجاه. وقبل الشروع في ذكر تلك المكونات لا بد من
التنبيه على نقطة مهمة هي أنه من خلال معرفتنا بمكونات الاتجاه والمراحل التي
يمر بها نستطيع - بإذن الله - أن نوجد ونكوِّن الاتجاهات المرغوب فيها لدى
المتربين، ونعدل ونغير الاتجاهات غير المرغوب فيها. والمكونات أو المراحل
هي على النحو الآتي:
أ - المكوِّن المعرفي: ويتضمن هذا المكون المعتقدات التي يؤمن بها الفرد،
والقيم والمبادئ التي يحرص على التمسك بها، كما أنه يتضمن الأدلة والأحكام
الشرعية والمعلومات والحقائق الموضوعية حول القضايا المختلفة [4] .
فعلى سبيل المثال إذا أردنا أن نكوِّن اتجاهاً لدى فرد أو مجموعة من الأفراد
حول قضية الاهتمام بأمر المسلمين في شتى بقاع الأرض، أو حول الالتزام بأنظمة
وقواعد المرور مثلاً، فلا بد من الحرص أولاً على إيجاد المكون أو الأساس
المعرفي لديه، فنبين الحكم الشرعي في قضية الاهتمام بأمر المسلمين، والأخطار
المترتبة على التساهل بأنظمة وقواعد المرور مدعمين حديثنا بالأدلة الشرعية
والحقائق والأرقام والإحصاءات التي تضمن اقتناعه العقلي، وتأييده لموضوع
الاتجاه.
ب - المكوِّن الوجداني (العاطفي) : ويتضمن هذا المكون النواحي العاطفية
والوجدانية التي تتعلق بموضوع الاتجاه [5] أو بعبارة أخرى: يشير هذا المكون إلى
مشاعر الحب والكراهية التي يوجهها الفرد نحو موضوع الاتجاه.
ويمكن تحقيق هذه المكون في المثالين السابقين من خلال زيارات لمعارض
جراحات العالم الإسلامي، أو من خلال ذكر بعض القصص المؤثرة لما يعانيه
المسلمون من البطش والجوع والتنصير، أو من خلال زيارات لضحايا حوادث
المرور، أو بأي طريق آخر يضمن لنا تفاعل الفرد العاطفي الوجداني مع موضوع
الاتجاه؛ لأن هذا التفاعل العاطفي هو الذي يؤدي بدوره إلى المكوِّن الثالث وهو
المكون السلوكي العملي؛ فالفرد إذا ما اقتنع بفكرة معينة أو باتجاه معين وتفاعل معه
وجدانياً وعاطفياً أدى ذلك بدوره إلى سعيه الحثيث، والعملي لتحقيق ذلك الاتجاه.
ج - المكوِّن السلوكي: ويتضمن هذا المكوِّن النزعة العملية نحو موضوع
الاتجاه [6] ، فإن كان الاتجاه إيجابياً قادته تلك النزعة إلى الفعل والتمسك والدفاع
عن الاتجاه، وإن كان الاتجاه سلبياً قادته تلك النزعة الفعلية إلى الإحجام والترك
والتحذير. ولعل المتأمل في مراحل التشريع الإسلامي يجد أنه في بدايته كان
التركيز فيه على الناحية الوجدانية العاطفية حتى إذا استحكم الإيمان في القلوب
وتمكن نزلت الأوامر العملية، وفي ذلك تقول عائشة رضي الله عنها: «إنما
نزل أول ما نزل منه سورة من المفصل فيها ذكر الجنة والنار، حتى إذا ثاب الناس
إلى الإسلام نزل الحلال والحرام، ولو نزل أول شيء (لا تشربوا الخمر) لقالوا:
لا ندع الخمر أبداً، ولو نزل (لا تزنوا) لقالوا: لا ندع الزنا أبداً» [7] .
وكذلك الأمر بالنسبة لتعديل وتغيير الاتجاهات؛ فمثلاً: لو كان هناك شخص
لديه اتجاه بأن «المرأة في المجتمعات الإسلامية معطلة مهضومة الحقوق» ؛ فإنه
يمكن تعديل وتغيير هذا الاتجاه بنفس طريقة ومراحل تكوين الاتجاه الآنفة الذكر.
خصائص الاتجاهات:
من خلال العرض السابق لمكونات الاتجاهات يمكن أن نستنتج عدداً من
الخصائص التي تتسم بها، ومن أبرزها:
1 -
الاتجاهات مكتسبة ومتعلمة، وليست وراثية.
2 -
مع كونها تأخذ طابع الثبات النسبي إلا أنه يمكن تعديلها وتغييرها بحسب
طبيعة الاتجاه [8] .
3 -
الاتجاه يمكن أن يكون قوياً أو ضعيفاً بحسب درجة اقتناع الفرد به،
وبحسب تقبله لآراء الآخرين.
4 -
قد تكون الاتجاهات إيجابية، وقد تكون سلبية كما ذكر في الأمثلة السابقة.
5 -
قد تظهر الاتجاهات ونستدل عليها من خلال سلوك الفرد وتصرفاته
وأقواله.
ثالثاً: عوامل تؤدي إلى تكوين أو تعديل الاتجاه:
هناك العديد من العوامل التي تسهم بشكل واضح في تكوّن الاتجاهات لدى
الأفراد؛ كما أنها في نفس الوقت يمكن أن يكون لها دور في تعديل وتغيير
الاتجاهات غير المرغوب فيها، ولعل من أبرز تلك العوامل ما يلي:
1 -
العقائد الدينية:
فالعقيدة التي يعتقدها الفرد من أقوى العوامل المكوّنة للاتجاهات، بل يمكن أن
نقول إنها الأساس الذي تبنى عليه الاتجاهات لدى الفرد، وكلما كان الاتجاه الذي
يتخذه الفرد منبثقاً عن عقيدة راسخة كان ذلك الاتجاه قوياً ثابتاً يصعب تغييره
وتعديله، ولذلك نجد أن المسلم المؤمن بالله عز وجل يختلف في اتجاهاته عن
غيره من أصحاب العقائد الأخرى. ومن أبرز الأمثلة التي توضح لنا قوة تأثير
العقيدة في تكوين الاتجاهات هو تلك العقيدة التي ترسخت في نفوس أصحاب النبي
صلى الله عليه وسلم والتي تمخضت عنها اتجاهات ثابتة ثبات الجبال في نصرة
المصطفى عليه الصلاة والسلام، ولعل البطولات التي سطرها أولئك الرجال في
بدر وأحد وغيرها من المعارك من أكبر الأدلة على تلك الاتجاهات الثابتة في الدفاع
عن الإسلام المتمخضة عن عقيدة صحيحة.
2 -
الجماعة المرجعية للفرد:
وتُعرَّف (الجماعة المرجعية) : بأنها الجماعة التي يرتبط الشخص بقيمها
وأهدافها ومعاييرها ويتمثلها في حياته [9] ، والإنسان في الغالب قد يكون عضواً في
جماعة معينة [10] ، وتلك الجماعة يكون لها أثر كبير في تشكيل وتكوين
اتجاهاته [11] أو تعديلها وتغييرها إذا كانت اتجاهات غير مرغوب فيها، مع
ملاحظة أنه لا يشترط أن يتشرب كلُّ أفراد (الجماعة المرجعية) الاتجاهاتِ السائدةَ
فيها، وإنما يخضع ذلك لظروف معينة ليس هذا مجال بسطها [12] .
3 -
الأسرة:
الأسرة في معظم الحالات من العوامل المؤثرة في تكوين اتجاهات الفرد
وتعديلها وتغييرها؛ فمن الطبيعي أن يكتسب الطفل في بداية نشأته اتجاهات
والديه [13] عن طريق الملاحظة والتقليد؛ فعن أبي هريرة رضي الله عنه قال:
قال: رسول الله صلى الله عليه وسلم: «ما من مولود إلا يولد على الفطرة
فأبواه يهودانه وينصرانه ويشرِّكانه
…
» الحديث [14] ، كما أنه يمكن أن يكون
للأسرة دور في التأثير على بقية العوامل الأخرى التي تكوِّن الاتجاه كالمعتقدات
والمعلومات والحقائق.
4 -
المؤسسات التربوية:
تهدف المؤسسات التربوية - وعلى رأسها المدرسة - من جملة ما تهدف إليه
تكوين اتجاهات معينة لدى التلاميذ وإزالة وتعديل اتجاهات أخرى [15] ؛ فالمفترض
أن لا يقتصر دورها من خلال مقرراتها ومعلميها على تقديم المادة العلمية فقط؛ بل
لا بد أن تزرع في طلابها اتجاهات موجبة كالصدق والعفة والدقة في إنجاز العمل
والمحافظة على النظام والأمانة والاعتزاز بالدين، وأن تسعى إلى اجتثاث اتجاهات
سلبية كالتقليد والكسل والانطواء على الذات والهزيمة النفسية.
ونختم هذا العامل بالتأكيد على أهمية دور المعلم باعتباره قدوة لطلابه؛ فهو
من أبرز الشخصيات المؤثرة في حياة الفرد؛ فمن خلال فهمه والتزامه وتمسكه
بمبادئ دينه يمكن أن يؤدي إلى تكوين وتعديل اتجاهات لم تستطع بقية العوامل
الأخرى أن تكونها أو تعدلها.
5 -
وسائل الإعلام:
أصبح الكثير من الأفراد في هذه الأوقات على علاقة وثيقة بوسائل الإعلام
على اختلاف أنواعها، ولذلك أصبحت تؤثر بشكل كبير على تكوين وتعديل
اتجاهاتهم حتى أطلق عليها: «وسائل الإيحاء» ؛ ذلك أن بعض وسائل الإعلام
تقدم مواد إعلامية تؤثر في اتجاهات الأفراد عن طريق الإيحاء [16] ، وتتجلى لنا
خطورة هذه الوسائل - والاتجاهات السلبية التي تبنيها - على صغار السن؛ حيث
تزيد درجة تقبلهم واقتناعهم بتلك الاتجاهات أكثر من غيرهم دونما تمحيص ونقد.
6 -
المعلومات والحقائق:
إن المتأمل في الكتب التي تحدثت عن العوامل التي تؤدي إلى تكوين وتعديل
الاتجاهات يجد شيئاً من الاتفاق على هذا العامل، ويقصد بالمعلومات والحقائق تلك
المعارف التي تتجمع لدى الفرد من مصادر مختلفة عن موضوع الاتجاه؛ فهذه
المعلومات وتلك الحقائق تؤدي إلى تكوين اتجاهات معينة لدى الأفراد كما أنها
تساعد في تعديل وتغيير اتجاهات أخرى.
وقد ذكرنا سابقاً أن المكون الأول من مكونات الاتجاه [17] هو «المكون
المعرفي» حيث إننا إذا أردنا أن نكوِّن أو نعدل اتجاهاً لدى فرد فإننا نبدأ بإعطائه
معلومات وأحكاماً شرعية وحقائق موضوعية حول ذلك الاتجاه حتى نضمن اقتناعه
وتأييده لموضوع الاتجاه.
وأخيراً لا بد من الإشارة إلى عدد من النقاط المهمة على النحو الآتي:
النقطة الأولى: إن ترتيب العوامل المؤثرة في تكوين الاتجاه لم يكن وفق
أهميتها؛ فأهمية تلك العوامل تختلف من موقف إلى موقف آخر، ومن شخص إلى
آخر.
النقطة الثانية: ليس بالضرورة أن يكون الفاصل واضحاً بين المراحل الثلاث
عند تكوُّن الاتجاه، بل قد تحدث بشكل سريع يشوبه شيء من التداخل، أو قد
تحدث بشكل بطيء جداً لا يمكننا من خلاله ملاحظة تلك المراحل أو المكونات
بشكل دقيق.
النقطة الثالثة: أتمنى أن يكون هذا البحث المبسط مفتاحاً لأبحاث أخرى مهمة
في هذا المجال؛ فموضوع الرأي العام وتوجيهه وتغييره يحتاج إلى بحث ودراسة،
وكل عامل من العوامل المؤثرة في تكوين وتعديل الاتجاه يحتاج إلى دراسة مستقلة،
كما أن دور المعلم في تكوين وتعديل الاتجاهات يحتاج إلى دراسة مستقلة.
والحمد لله رب العالمين، وصلى الله وسلم وبارك على أشرف الأنبياء
والمرسلين.
(1) لسان العرب، لابن منظور، 6/4775.
(2)
دور الاتجاهات في سلوك الفرد والجماعات، أمل المخزومي، ص 26.
(3)
المناهج المعاصرة، الدمرداش سرحان، ص 38.
(4)
سيكولوجية الفرد في المجتمع، ترجمة حامد الفقي، ص 68.
(5)
قراءات في علم النفس، لويس مليكة، ص 48.
(6)
قراءات في علم النفس، لويس مليكة، ص 48.
(7)
أخرجه البخاري، ح/ 4609.
(8)
علم النفس التربوي، عبد المجيد نشواتي، ص 473.
(9)
قراءات في علم النفس، لويس مليكة، ص 59.
(10)
وتختلف الجماعات التي ينتمي إليها الفرد بحسب عقائدها وتوجهاتها ومبادئها.
(11)
علم النفس الاجتماعي، عبد السلام الشيخ، ص 103.
(12)
سيكولوجية الفرد في المجتمع، ترجمة حامد فقي، ص 69.
(13)
علم النفس الاجتماعي، عبد السلام الشيخ، ص 106.
(14)
رواه مسلم، ح/ 4805.
(15)
الاتجاهات وأثرها على سلوك الفرد، علي أحمد علي، ص 28.
(16)
علم النفس الاجتماعي، عبد السلام الشيخ، ص 107.
(17)
وقد يطلق عليها البعض مراحل تكون الاتجاه كما ذكر ذلك سابقاً.