المَكتَبَةُ الشَّامِلَةُ السُّنِّيَّةُ

الرئيسية

أقسام المكتبة

المؤلفين

القرآن

البحث 📚

الافتتاحية ‌ ‌أيها المسلم   إنك تعاني ما لا يعانيه غيرك من البشر، جهودك - مجلة البيان - جـ ٤٨

[مجموعة من المؤلفين]

الفصل: الافتتاحية ‌ ‌أيها المسلم   إنك تعاني ما لا يعانيه غيرك من البشر، جهودك

الافتتاحية

‌أيها المسلم

إنك تعاني ما لا يعانيه غيرك من البشر، جهودك تضيَّع، وخططك تدمر،

وأحلامك تُغتال. وتتواتر عليك المصائب دون انقطاع. إن من يقرأ ما كتب عنك

ولا يعرفك يخرج بنتيجة حتمية - هذا إذا أنصف - وهي أنك أصبحت منبوذ هذا

العصر، يتحاماك الناس في كل مكان، وينفرون منك لا لشيء، إلا لأن عقولهم

امتلأت بالصور القبيحة التي يرسمها الإعلام لك، والإعلام في هذا العصر هو

السلاح الذي لا يوضع، والحرب المشنونة التي لا تهدأ، إنك تواجه ضربين من

الحروب:

أ- ضرب يجيء ويذهب بين الفينة والفينة، حينما تبلغ الكراهية الذروة،

ويصل الضجيج إلى منتهاه، ولا يسكت إلا حينما يشفي غليله السنان والحسام

والمدفع والدبابة والصاروخ.

ب- وضرب هو هذا (العرس الإعلامي) القائم الدائم بفحيحه وضجيجه،

والذي لا يهدأ عن الهجوم على الإسلام: أفكاراً وأشخاصاً.

والضرب الثاني هو الأقسى والأنكى لأنه الأبقى، ومع أن الأول آلامه أعم،

وبلاياه يحس بها الجميع، إلا أن الثاني لا يشعر به إلا العلماء وقادة الفكر وذوو

الحس الحي في الأمة، الذين يتألمون لمصائب غيرهم ويشفقون من الآتي قبل

حلوله.

إنك - أيها المسلم - غدوت ضحية هذه الحضارة المادية العاتية، تريد أن

تطحنك برحاها، فتجدك عسر الهضم صعب المكسر، وهذا من أكبر العزاء لك،

فلتكن ثقتك بالله قوية، ولا تحتقر نفسك وتشكو الضعف، وتجنب طريقة بني

إسرائيل حيث شكوا لموسى عليه السلام الضعف والضراعة والاستكانة: [قَالُوا

أُوذِينَا مِن قَبْلِ أَن تَأْتِيَنَا ومِن بَعْدِ مَا جِئْتَنَا قَالَ عَسَى رَبُّكُمْ أَن يُهْلِكَ عَدُوَّكُمْ ويَسْتَخْلِفَكُمْ

فِي الأَرْضِ فَيَنظُرَ كَيْفَ تَعْمَلُونَ] [الأعراف 129] .

أفلس أعداؤك جميعاً، مادياً ومعنوياً، أفلسوا من الخلق والدين والدنيا، باعوا

دينهم بعرض قليل منزوع البركة، ينطبق أكثره على نشر الفساد واستئصال

المعروف وإرساء المنكر وإشاعة التقاليد الفرعونية، كل ذلك خوفاً منك، وعلاجاً

لحضورك الذي يخيف سَدَنَة الفرعنة، ويهدد تقاليدها العفنة ورسومها المنخورة.

فاعرف نفسك - أيها المسلم - واعلم أنك - إن صدقت النية واستجمعت

العزم - كنت اليد التي تُنَفَّذُ بها إرادة الله في الأرض من سحق الباطل وإنعاش الحق.

إن أعداءك يسلكون في سبيل إضعافك وإلغائك سياسة النَفَس الطويل والبناء

الهادئ والمشاعر الباردة التي لا تستثار بسهولة، اطوِ قلبك على كراهية الكفر

ورموزه، واثنِ جوانحك على مقت الخيانة والمكر التي تجرّب عليك كل حين،

ولكن إياك أن تُستَدْرَجَ إلى عمل ينتظره شانئوك للإيقاع بك. أجِّل خلافاتك مع من

يشاركونك كلمة التوحيد، ويهدفون مثلك إلى إحياء عقيدة أهل السنة والجماعة،

واستخلاصها من براثن الماسخين والمستغلين، فأعداء هذه العقيدة أمرهم عَجَبٌ في

كثرتهم وتنوعهم واجتماعهم على هذا الهدف، رغم اختلافاتهم العميقة. وجِّه كل

جهدك إلى من يريدون حصرك في مفهوم للدين من صنعهم، فهؤلاء هم العدو

فاحذرهم، قاتلهم الله أنى يؤفكون. هؤلاء هم وكلاء الاستعمار بين ظهراني

المسلمين، وهم موضع ثقته، وعيبةُ أسراره، ورواد دهاليزه.

إياك أن تنخدع بدعوى أن بلادنا مستقلة، حرة في قراراتها وإراداتها، تلفَّت

يمنة تجد ألف دليل ودليل في كل صقع على أننا مكبلون، يُقرأ لنا، ويرسَمُ لنا،

ويزرَع لنا، ويصنَع لنا، ويحفرَ لنا.

إن صعوبة المرحلة الاستعمارية المكشوفة - مع شراستها ومرارتها - لا

تقارن بما يحدث في هذه المرحلة التي أعقبت تلك، التي يدبر أمرك فيها عدو من

جلدتك بقلب مجلوب وعقل مستعار. لقد بان الصبح لذي عينين، فأنت الذي يحمل

الشرعية، وأمامنا مثالان حاضران من أمثلة كثيرة، أحدهما في شرق الأرض،

والآخر في غربها.

أما الأول ففي أفغانستان، حيث أنت الذي قام في وجه الإلحاد الغازي،

وصليت بنار الشيوعية قبل أن تولِّيك الأدبار تحت شدة ضرباتك الموفَّقة واستوصت

على وليدها الخديج [1] كل من خَبُث من الأوصياء، قبل أن تندثر في مقبرة

التاريخ.

وأما الآخر ففي الجزائر، لما قام الشعب هناك، فصحَّحَ خطأ عمره ثلاثون

سنة سلماً لا حرباً، وأفصح عن إرادته تحت رقابة هؤلاء الذين يغتصبون هذه

الإرادة بكل صلافة وصفاقة وبعد عن المعقول حيث:

أجمعوا أمرهم عِشاءً فلما

أصبحوا أصبحت لهم ضوضاءُ

وقالوا: هذا لا يكون، وما هكذا رجونا أن تكون النتيجة، (والشعب لم

يصوِّت على شيء) ! ! الديموقراطية في خطر. الوحى الوحى، أدركوها قبل أن

يعصف بها الإسلاميون! !

يا لله وهذا الافتراء! كيف يدان شخص قبل اقترافه الجريمة؟ ويدان ممن؟

ممن يداه ملطختان بدماء الأبرياء، وجيوبه منتفخة من حقوق المستضعفين!

أيها المسلم:

لا تستغرب ما ترى، فأنت تعيش في عصر الغرائب والأعاجيب، وحسبك

هذا ليدفعك إلى الصبر والعمل ليل نهار دون كلل ولا ملل، لا تسمح للإحباط أن

يتسرب إلى نفسك، فحق لك أن يتعب منك المرجفون ولا تتعب، وييأس من ثنيك

عن عزيمتك وأهدافك دهاقنة الباطل ولا تيأس. لا تبالِ بالأوصاف الكاذبة التي

تلصق بك، ولا بالأقلام المأجورة التي تنهشك، ولا تصرفْك الدعايات المسمومة

التي تلفَّق ضدك عما توجهت له.

يعيبون عليك الاشتغال بالسياسة؟ وهل شرط المشتغل بالسياسة أن يتخلى

عن دينه، ويدوس الأخلاق، ويترك هذا المجال لمحترفي الدجل يرسون دعائم

الفساد ويحوطونها بالشريعات الباطلة، ويحرسونها بالدساتير والقوانين المفصلة

على قدِّ نواياهم الخبيثة، وسلوكهم المنافق؟ لم هذا التردد والخوف البادي على

تعبيراتك وأعمالك كلما سمعت من يتهمك بحب السلطة والحكم مع أنك لم تمارسهما

يوماً، وكأنه عار وشنار تحب أن تتوارى منه، مع أن غيرك - وهو السفيه

الأرعن، والجاهل الرعديد - تراه واثقاً من نفسه، لا يفكر أن توجه له مثل هذه

التهمة مع أنه متلبس بهما تلبساً كأن أمه ولدته على رقاب الناس؟

إن الباطل لا يستبحر في دنيا الناس ولا يعرِّش إلا حينما يراهم يحبون الدعة

والراحة والرفاه الكاذب الذي يُمنِّيهم به، ويستحون مما لا يستحى منه، فيخجلون

من الرجولة، ويتفاخرون بالفرار من تسمية الأمور بأسمائها التي وضعها لها البشر

الأسوياء.

أيها المسلم:

إن الباطل ذا الرؤوس المخيفة الذي يخوفونك مغبة غضبته ليس كما يدعون،

نعم، له أساليب جهنمية، وأرواح كثيرة، سبعة أرواح! ولكنها أرواح قصيرة

كأرواح القطط والكلاب، فلا ترعك غضبته، ولا تصرفك عن طِيَّتِك أساليبه

وتجاربه، لا تتردد عن الإصرار على دمغه بحقك فيزهق ويضمحلّ، [وَيَوْمَئِذٍ

يَفْرَحُ المُؤْمِنُونَ * بِنَصْرِ الله يَنصُرُ مَن يَشَاءُ وَهُوَ العَزِيزُ الرَّحِيمُ] [الروم 4-5] .

(1) الخديج: المولود الذي يولد ناقصاً.

ص: 4

القواعد الفقهية

عبد العزيز الحويطان

معنى القاعدة لغة واصطلاحاً:

القاعدة لغة: الأساس [1] وتجمع على قواعد وهي: أسس الشيء وأصوله

حسياً كان ذلك الشيء أو معنوياً.

قال تعالى: [وإذْ يَرْفَعُ إبْرَاهِيمُ القَوَاعِدَ مِنَ البَيْتِ وإسْمَاعِيلُ

]

وقال تعالى: [فَأَتَى اللَّهُ بُنْيَانَهُم مِّنَ القَوَاعِدِ

]

واصطلاحاً: عرفها الجرجاني بأنها (قضية كلية منطبقة على جميع

جزئياتها) [2] .

وقال تاج الدين السبكي: (هي الأمر الكلي الذي ينطبق عليه جزئيات كثيرة

تفهم أحكامها منها) [3] .

إذاً فقد عرفها السبكي بأنها أمر كلي، لكن الحموي له تعريف آخر فهو

يعتبرها أمر أكثري أو قضية أغلبية فهو يقول: (إن القاعدة هي عند الفقهاء غيرها

عند النحاة والأصوليين، إذ هي عند الفقهاء حكم أكثري لا كلي ينطبق على أكثر

جزئياته لتعرف أحكامها) [4] .

لكن ما السبب في جعلها حكماً أغلبياً لا كلياً؟

سيأتي معنا بعد قليل أن القاعدة تنخرم في بعض الأمور أي تشذ بعض الفروع

فلا تنطبق على القاعدة، ولذا سميت قضية أو حكماً أغلبياً.

إذاً نستطيع أن نعرفها بأنها (حكم شرعي في قضية أغلبية يتعرف منها أحكام

ما داخل تحتها) [5] .

الفرق بين القاعدة الفقهية والضابط الفقهي:

حتى نعرف الفرق بين القاعدة الفقهية والضابط الفقهي، يجدر بنا أن نعرف

الضابط الفقهي أولاً، ومنه يتضح الفرق إن شاء الله.

قال العلامة تاج الدين السبكي: (والغالب فيما اختص بباب وقصد به نظم

صور متشابهة أن يسمى ضابطاً) [6] .

هذا هو المقصود بالضابط الفقهي، وهو أنه قاعدة تختص بباب واحد فقط.

أما الفرق بينهما، فقد قال ابن نجيم:

(الفرق بين الضابط والقاعدة: أن القاعدة تجمع فروعاً من أبواب شتى،

والضابط يجمعها من باب واحد، هذا هو الأصل) [7] . وأكد ذلك السيوطي -

رحمه الله في كتابه الأشباه والنظائر حيث قال: (القاعدة تجمع فروعاً من أبواب

شتى والضابط يجمع فروع باب واحد) [8] .

وحتى يتضح الأمر تماماً دعنا نضرب مثالاً للضابط الفقهي، وهو حديث ابن

عباس رضي الله عنهما عن رسول الله صلى الله عليه وسلم: (أيما إهاب

دبغ فقد طهر) [9] . فهذا الحديث يعتبر ضابطاً لطهارة الجلود في باب الآنية، لذلك يقول الإمام إبراهيم النخعي رحمه الله:(كل شيء منع الجلد من الفساد فهو دباغ)[10] .

أما مثال القاعدة فهي قاعدة (الأمور بمقاصدها) نجد أنها تدخل في أغلب

أبواب الفقه إن لم يكن جميعها..

بهذا نكون قد وقفنا على الفرق بين الضابط والقاعدة في الفقه، وهذا لا يمنع

أن يكون بعض العلماء قد ساروا في كتبهم على عدم التفريق بينهما.

الفرق بين القاعدة الفقهية والقاعدة الأصولية:

أول من وجد له كلام عن التفريق بين القاعدة الفقهية والقاعدة الأصولية الإمام

القرافي رحمه الله، حيث يقول:

(فإن الشريعة العظيمة المحمدية اشتملت على أصول وفروع، وأصولها

قسمان:

1-

المسمى بأصول الفقه وهو في غالب أمره ليس فيه إلا قواعد الأحكام

الناشئة عن الألفاظ العربية خاصة، وما يعرض لتلك الألفاظ من النسخ والترجيح

ونحو الأمر للوجوب والنهي للتحريم، والصيغة الخاصة للعموم ونحو ذلك

2-

قواعد فقهية كلية، كثيرة العدد عظيمة المدد، مشتملة على أسرار الشرع

وحكمه، لكل قاعدة من الفروع في الشريعة ما لا يحصى، ولم يذكر شيء منها في

أصول الفقه، وإن اتفقت الإشارة إليه هناك على سبيل الإجمال فبقي تفصيل لم

يتحصل) [11] . إذا فالشريعة من أصولها أصول الفقه والقواعد الفقهية كما قال القرافي.

ولو أمعننا النظر في القواعد الأصولية والقواعد الفقهية، لوجدنا بينها فروق

نذكرها على سبيل الإيجاز:

1-

أن أصول الفقه بالنسبة للفقه ميزان وضابط للاستنباط الصحيح، شأنه

في ذلك شأن علم النحو لضبط النطق والكتابة، فهي التي يستنبط بها الحكم من

الدليل التفصيلي وموضوعاتها دائماً الدليل والحكم، كقولك: الأمر للوجوب والنهي

للتحريم والواجب المخير يخرج المكلف من العهدة فيه بفعل واحد مما خير فيه. أما

القاعدة الفقهية فهي كلية تنطبق على جميع جزئياتها، وجزئياتها بعض مسائل الفقه، وموضوعاتها دائماً هو فعل المكلف.

2-

القواعد الأصولية كلية تنطبق على جميع جزئياتها، أما القواعد الفقهية

فإنها أغلبية وتكون لها المستثنيات.

3-

القواعد الأصولية ذريعة لاستنباط الأحكام الشرعية، أما القواعد الفقهية

فهي عبارة عن مجموعة الأحكام المتشابهة التي ترجع إلى علة واحدة تجمعها.

4-

القواعد الفقهية متأخرة في وجودها الذهني والواقعي عن الفروع، لأنها

جمع لأشتاتها وربط بينها، أما الأصول فالغرض الذهني يقتضي وجودها قبل

الفروع لأنها القيود التي أخذ الفقيه نفسه بها عند الاستنباط [12] .

هذه هي أهم الفروق بينهما، ولعلها اتضحت إن شاء الله. ويبقى أن نذكر أن

من أهم مميزات القواعد الفقهية أنها تخدم المقاصد الشرعية العامة والخاصة، وتمهد

الطريق للوصول إلى أسرار الأحكام وحكمها [13] .

معنى الأشباه والنظائر:

هذا المبحث لأول وهلة يظن المرء أن لا دخل له في القواعد الفقهية، لكن

كتب الأشباه والنظائر مليئة بالقواعد الفقهية وفنون أخرى، ولذلك ألحق بهذا البحث. فما تعريف الأشباه؟ ؟

- كلمة شِبْه أو شَبَه هي المثل في اللغة [14]، والنظير: المثل المساوي [15] .

أما اصطلاحاً فقد عرف تاج الدين السبكي رحمه الله الأشباه فقال: (إن

الأشباه: هو أن يجتذب الفرع أصلان ويتنازعه مأخذان فينظر إلى أولاهما

وأكثرهما شبهاً فيلحق به) [16] . مثال ذلك: (إلحاق العبد المقتول بالحر، فإن له

شبهاً بالفرس من حيث المالية وشبهاً بالحر لكن مشابهته بالحر في الأوصاف

والأحكام أكثر فألحق بالحر) [17] .

وقد عرف الحموي الأشباه فقال: (المراد بها المسائل التي يشبه بعضها بعضاً

مع اختلاف في الحكم لأمور خفية أدركها الفقهاء بدقة أنظارهم، وقد صنفوا لبيانها

كتباً كفروق المحبوبي والكرابيسي) [18] .

إذاً فالأشباه هي الفروع المتشابهة ظاهراً والمختلفة باطناً لعله معينة، وأصل

هذه الكلمة يرجع إلى كتاب أمير المؤمنين عمر بن الخطاب إلى أبي موسى

الأشعري حيث جاء فيه: (الفهم الفهم فيما يختلج في صدرك مما لم يبلغك في

الكتاب والسنة، اعرف الأمثال والأشباه، ثم قس الأمور عند ذلك، فاعمد إلى

أحبها إلى الله وأشبهها بالحق فيما ترى) [19] .

هذا فيما جاء في أصل هذه الكلمة، أما كلمة النظائر فلم يرد فيها أثر، لكن

الفقهاء أضافوها إلى كلمة الأشباه مقابلة لها، وذلك أنهم ألفوا فنوناً فقهية عبارة عن

أحكام متشابهة مع وجود بعض الفروق بينها [20] .

فالفروق أقاموا كلمة النظائر بدلها، وبعض المؤلفين ألف كتباً وسماها الفروق، بينما بعضهم ألف في نفس الفن وجاء بالأشباه والنظائر، ولذلك يقول السيوطي:

(والمناظرة تكفي في بعض الوجوه ولو وجهاً واحداً)[21] .

أما أول من ألف في الفروق فهو الإمام أحمد بن عمر بن سريج الشافعي

(306 هـ) ثم توالت التأليفات بعده [22] .

وقد عرف صاحب الفوائد الجنية الفروق فقال: (معرفة الجمع والفرق: أي

معرفة ما يجتمع مع آخر في الحكم، ويفترق معه في حكم آخر كالذمي والمسلم

يجتمعان في أحكام ويفترقان كذلك، ومن هذا الفن نوع يسمى الفروق: وهو معرفة

الأمور الفارقة بين مسألتين متشابهتين بحيث لا يسوى بينهما في الحكم) [23] .

وقال أبو محمد الجويني: (فإن مسائل الشرع ربما تتشابه صورها، وتختلف

أحكامها لعلل أوجبت اختلاف الأحكام، ولا يستغني أهل التحقيق عن الإطلاع على

تلك العلل التي أوجبت افتراق ما افترق منها واجتماع ما اجتمع منها) [24] .

ومن الأمثلة على ذلك: (إذا طرح في الماء تراب فتغير به طعمه أو لونه أو

ريحه، لم يسلبه التطهير، ولو مزج فيه طاهر غير التراب كالزعفران والعصفر

والصابون والملح الحجري فتغير بمخالطه بعض صفاته سلبه التطهير، والفرق

بينهما أن التراب يوافق الماء في صفتيه الطهارة والتطهير، فلا يسلبه بمخالطته

شيئاً منها

) [25] .

ومما سبق يتبين أن علم الأشباه والنظائر هو نفسه الفروق، وهما يشملان

القواعد الفقهية، لأن علم الأشباه والنظائر يحوي الألغاز والحيل وفنوناً عديدة منها

القواعد الفقهية..

(يتبع)

(1) المفردات في غريب القرآن للراغب الأصفهاني ص 406.

(2)

التعريفات للجرجاني ص 171.

(3)

القواعد الفقهية لعلي أحمد الندوي.

(4)

غمز عيون البصائر شرح الاشباه والنظائر 1/22.

(5)

القواعد الفقهية لعلي أحمد الندوي ص 43.

(6)

القواعد الفقهية.

(7)

الأشباه والنظائر لابن نجيم ص 192.

(8)

أخرجه الترمذي، كتاب اللباس، باب ما جاء في جلود الميتة إذا دبغت، وقال: حديث حسن صحيح.

(9)

الآثار لأبي يوسف ص 232.

(10)

الفروق للقرافي 1/2-3.

(11)

انظر القواعد الفقهية ص 58- 61، للإطلاع على مزيد من هذه الفروق.

(12)

مصدر سابق ص 61.

(13)

تاج العروس 9/393.

(14)

مصدر سابق.

(15)

الأشباه والنظائر ص 17.

(16)

كشف اصطلاحات الفنون 4/173.

(17)

غمز عيون البصائر.

(18)

سنن الدارقطني 4/206 وسنن البيهقي 10/115.

(19)

القواعد الفقهية ص 68.

(20)

الحاوي للفتاوى 2/273.

(21)

القواعد الفقهية.

(22)

الفوائد الجنية 1/87.

(23)

القواعد الفقهية للندوي ص 73، وعزاه إلى كتاب الفروق للجويني - شريط مصور.

(24)

القواعد الفقهية ص 74، وعزاه إلى كتاب الفروق للسامري - شرط مصور.

(25)

أخرجه البخاري، كتاب الديات، باب: المعدن جبار والبئر جبار 6/ 2533 ترقيم البنا.

ص: 9

أثر الضعف الخلقي في سقوط الأندلس

د. حمد بن صالح السحيباني

حينما دخل المسلمون الفاتحون بلاد الأندلس، كانوا قد انصهروا في بوتقة

الإسلام، حيث تأدبوا بآدابه، فاتبعوا أوامره، واجتنبوا نواهيه، كما مثلوا أخلاقياته

وما يدعو إليه من قيم سامية واقعاً ملموساً، أدركها جميع أهل تلك الديار، فأعجبوا

بها. فقد قال أحد قادة لذريق في رسالة بعث بها إليه يصف بها جيش المسلمين

الأول الذي عبر إلى الأندلس بقيادة طارق بن زياد: (لقد نزل بأرضنا قوم لا ندري

أهبطوا من السماء أم نبعوا من الأرض) [1] .

وقد بقي المسلمون خلال القرون الثلاثة الأولى من وجودهم هناك، محافظين

على تلك القيم، معتزين بها. ولكن مع مضي الزمن بدأ البعض منهم بالتحلل منها

مما أفقدهم شيئاً من مقومات أصالتهم ووجودهم هناك وقد أدرك هذه الحقيقة ابن

خلدون حين قال: (إذا تأذن الله بانقراض الملك من أمة حملهم على ارتكاب

المذمومات وانتحال الرذائل وسلوك طريقها، وهذا ما حدث في الأندلس وأدى فيما

أدى الى ضياعه) [2] .

كما أدركها كوندي - أحد الكتاب النصارى - حيث قال: (العرب هَوَوْا

عندما نسوا فضائلهم التي جاؤوا بها، وأصبحوا على قلب متقلب يميل الى الخفة

والمرح والاسترسال بالشهوات) [3] .

وصدق الله العظيم إذ يقول [وإذَا أَرَدْنَا أَن نُّهْلِكَ قَرْيَةً أَمَرْنَا مُتْرَفِيهَا فَفَسَقُوا

فِيهَا فَحَقَّ عَلَيْهَا القَوْلُ فَدَمَّرْنَاهَا تَدْمِيراً] [الإسراء 16] .

ومنذ أن بدأ الضعف في الجانب الخلقي عند بعض مسلمي الأندلس بالظهور

كعرض من أعراض بعدهم عن منهج الله انتاب الوجود الإسلامي هناك نوع من

الضعف وذلك لأن كل تقدم حضاري وسياسي وسمو فكري وارتفاع معنوي وأية

عزة في السلطان كان مرده إلى التمسك بالإسلام، ومرتهنا بمقدار الالتزام

بشريعته [4] .

ولما كان هذا العامل من أهم عوامل سقوط بلاد الأندلس رأيت أن أكتب حول

هذا الموضوع حيث سأقوم - بعون الله - برصد هذه الظاهرة منذ بدايتها كعامل أثر

على الواقع السياسي والعسكري للمسلمين هناك، منذ عصر ملوك الطوائف حتى

خروج المسلمين من تلك الديار.

ونظراً لتشعب الموضوع فإن دراستي هذه ستقصر على عصر ملوك الطوائف

وذلك لأن المرحلة الاولى من مراحل سقوط الأندلس بدأت فيه آملاً أن تتاح لي

الفرصة مستقبلاً لإكمال رصد تلك الظاهرة حتى نهايتها.

وفي البداية قد يكون من المناسب أن نبين قبل حديثنا عن عوامل سقوط بلاد

الأندلس حقيقة تاريخية هامة وهي:

أن سقوط الأندلس بيد العدو النصراني لا يعني سقوط مملكة غرناطة التي كان

يحكمها بنو الأحمر فحسب؛ بل إن الأمر أعم من ذلك وأشمل، فسقوط الأندلس بدأ

حقيقة في وقت مبكر من تاريخ المسلمين بتلك الديار، حيث يستطيع الراصد لذلك

التاريخ أن يقول: إن بداية الانحسار الإسلامي في الأندلس كان منذ أن سقطت

الدولة الأموية هناك، وبعد أن قام على أنقاضها العديد من الدويلات الإسلامية

المتناحرة المتنازعة التي صورها الشاعر بقوله [5] :

مما يزهدني في أرض أندلسٍ

أسماء معتمد فيها ومعتضد

ألقاب مملكة في غير موضعها

كالهر يحكي انتفاخاً صورة الأسد

ولعل مما يؤكد هذه الحقيقة أن مسلمي بلاد الأندلس لم يتمكنوا من الدفاع عن

أنفسهم بعد سقوط الخلافة الأموية هناك بل بقوا متنازعين متناحرين فيما بينهم حتى

بدأ الضعف بهم واضحاً نتيجة لتزايد الخطر النصراني ضدهم، الأمر الذي دفعهم

إلى الدخول في سلطان دولة المرابطين ثم الموحدين، ثم الاعتماد بعد ذلك على

المساعدات المرينية بشكل قوي وملموس.

وتتأكد هذه الحقيقة إذا تذكرنا أن الخطر النصراني ازداد ضد المسلمين هناك

حينما ضعفت مساعدات مسلمي المغرب لإخوانهم مسلمي الأندلس.

وبعد هذه المقدمة السريعة - فإنه بوسعنا أن نقول أن سقوط مدينة طليطلة سنة

478 هـ (1085م)[6] كان مقدمة لسقوط غرناطة سنة 897 هـ (1491م)[7]

وأن تراجع مسلمي الأندلس نحو الجنوب منذ القرن الخامس كان هو الخطوة الأولى

لعبورهم إلى الشمال الأفريقي في آخر القرن التاسع الهجري، كما أن غياب أمثال

طارق بن زياد وموسى بن نصير والسمح بن مالك وعبد الرحمن الغافقي وغيرهم

عن الساحة الإسلامية قد أتاح الفرصة لظهور مثل رذريق (القمبيطور) والفونسو

الثامن، والفونسو الحادي عشر، وفرانده الخامس وغيرهم من زعماء النصارى

الذين تولوا قيادة الجيوش النصرانية التي تولت مهمة حرب استرداد الأندلس كما

يسمونها.

وقد أدرك هذه الحقيقة الشاعر الأندلسي المسلم الذي هز وجدانه سقوط طليطلة

سنة 478 هـ (1085 م) فعرف أن ذلك له ما بعده حيث قال محذراً إخوانه

المسلمين هناك [8] :

حثوا رواحلكم يا أهل اندلس

فما المقام بها إلا من الغلط

السلك يُنثَر من أطرافه وأرى

سلكَ الجزيرة منثوراً من الوَسَطِ

من جاور الشر لا يأمن عواقبه

كيف الحياةُ مع الحيات في سَفَطِ

وهكذا نرى أن بداية الانحدار لمسلمي الأندلس كان في عهد ملوك الطوائف،

وأن الضعف الذي حل بهم كان ضربة موجعة لم يستطيعوا التخلص من آثارها بعد

ذلك بالرغم من التئام شملهم النسبي في عهدي المرابطين والموحدين.

ومما لا شك فيه أن هذا الضعف التدريجي الذي أدى في النهاية إلى خروج

المسلمين من تلك الديار، لم ينشأ من فراغ، كما لم يكن وليد يومه أو ليلته، بل إنه

كان نتيجة لعدة عوامل وأسباب نشأت في ظروف معينة، فلما نمت وترعرعت

تمخض عنها ضعفهم، وخروجهم من الأندلس، ويمكن إجمال تلك العوامل

والأسباب فيما يلي:

1-

انحراف كثير من مسلمي الأندلس عن منهج الله.

2-

موالاة العدو النصراني والتخلي عن الجهاد.

3-

انعدام الوحدة السياسية بينهم.

4 -

تكالب القوى النصرانية ضدهم.

هذه أهم عوامل سقوط بلاد الأندلس، ويعتبر الضعف في الجانب الخلقي عند

المسلمين هناك أحد النتائج التي تمخضت عن العامل الأول وقد كان لهذا الضعف

أكثر من مظهر وصورة ولعل من أهمها:

* الأنانية وحب الذات.

* التشبه بالعدو وتقليده.

* انتشار المجون والخلاعة بين المسلمين.

ولهذا سيكون حديثي عن هذا الموضوع من خلال هذه المحاور الثلاثة، حيث

سأبدأ أولاً برصد هذه الظاهرة منذ بداية ظهورها، ثم انعكاسات ذلك على المجتمع

الإسلامي في الأندلس، وآثارها على القوتين السياسية العسكرية عندهم.

الأنانية وحب الذات:

مما لا شك فيه أن الإيثار والتعاون من أهم سمات المجتمع الإسلامي، فقد دعا

الإسلام إلى هذا الأمر وأصله في نفوس المسلمين، قال تعالى: [والَّذِينَ تَبَوَّءُوا

الدَّارَ والإيمَانَ مِن قَبْلِهِمْ يُحِبُّونَ مَنْ هَاجَرَ إلَيْهِمْ ولا يَجِدُونَ فِي صُدُورِهِمْ حَاجَةً مِّمَّا

أُوتُوا ويُؤْثِرُونَ عَلَى أَنفُسِهِمْ ولَوْ كَانَ بِهِمْ خَصَاصَةٌ ومَن يُوقَ شُحَّ نَفْسِهِ فَأُوْلَئِكَ هُمُ

المُفْلِحُونَ] [الحشر 9] .

وقد دخل المسلمون الفاتحون الى بلاد الأندلس بهذه الأخلاق الطيبة، كما

تربي أفراد المجتمع الإسلامي هناك على هذا الخلق الإسلامي الأصيل عامتهم

وخاصتهم، ولهذا قال أحد الباحثين: (بقينا في الأندلس ما بقينا مع الله، وضاعت

الأندلس لما أضعنا طريق الله، بقينا في الأندلس بهمة عبد الرحمن الداخل الذي قال

لما نزل من البحر إلى بر الأندلس وقد قدم إليه خمر ليشرب فأبى وقال: إني

محتاج لما يزيد في عقلي لا لما ينقصه، فعرف الناس من ذلك قدره، ثم أهديت

إليه جارية جميلة فنظر إليها وقال: إن هذه لمن القلب والعين بمكان، وإن أنا

لهوت عنها بمهمتي فيما أطلبه ظلمتها، وإن لهوت بها عما أطلبه ظلمت مهمتي فلا

حاجة لي بها الآن) [9] .

وقد سار المسلمون بالأندلس على هذا النهج حتى آخر عمر الدولة الأموية

حيث يذكر ابن عذاري أن المنصور بن أبي عامر كان يسهر على مصالح رعيته

وكانت متابعته لأمور رعيته تستنفد منه كل وقته لدرجة انه كان لا ينام إلا سويعات

قليلة متفرقة فلما قيل له: قد أفرطت في السهر وبدنك يحتاج إلى أكثر من هذا النوم، أجاب قائلاً: إن الملك لا ينام إلا إذا نامت الرعية، ولو استوفيت نومي لما كان

في دور هذا البلد العظيم عين نائمة [10] .

وفي آخر عمر الدولة الأموية ضعف تمسك الناس بكثير من الأخلاق

الإسلامية، فانعكست آثار ذلك على المجتمع الإسلامي فضلاً عن الدولة الأموية

التي بدأت تظهر عليها علامات الهرم والشيخوخة حينما خف اعتبارها عند الناس،

لأن قادتها فقدوا واحداً من أهم مقومات دولتهم حيث يذكر المؤرخون أنه حينما أعلن

سقوط الدولة الأموية في قرطبة سنة 422 هـ مشى البريد في الأسواق والأرباض

بألا يبقى أحد من بني أمية بقرطبة ولا يكنفهم أحد من القرطبيين [11] .

وبعد أن قامت دولة ملوك الطوائف على أنقاض الدولة الأموية ازداد الأمر

سوءاً حيث تنافس أولئك القوم على السلطة، وتناحروا من أجلها، فانتشر بينهم

العداء المستحكم والخصام الدائم، فالكثير منهم لا هم له إلا تحقيق مصلحته الذاتية

وإشباع أنانيته، وتثبيت أقدامه في السلطة ولو على حساب مصلحة المسلمين،

وكأن الأندلس إنما وجدت له ولمصلحته الذاتية مهما كان قصير العمر، ذليل المكانة

مهزوز القواعد [12] ، ولهذا جعل الله بين أولئك الملوك والأمراء من التحاسد

والتنافس والغيرة ما لم يجعله بين الضرائر المترفات، فلم يتعاونوا على بر أو

تقوى أو يسعوا لمصلحة إسلامية، بل انصبت كل جهودهم على توفير ما يخدم

مصالحهم الخاصة [13] . هكذا كان واقع أولئك القوم، ويجد الدارس لتاريخهم

العديد من الأمثلة والحوادث التي تدل على صحة ذلك وعلى أنهم انشغلوا بأمورهم

الخاصة وغفلوا عن الخطر النصراني الذي كان يتهدد هذه الجهة الشمالية من بلادهم، ومن الأمثلة على ذلك أنه حينما أغار فرناندو ملك ليون على بَطَلْيوس بلاد المظفر

ابن الأفطس فدمرها، واستباح حريمها، وانتهب أموالها ورد خبرها على المأمون

ابن ذي النون صاحب طليطلة، ولما دخل عليه وزيره أبو المطرف بن مثنى بعد

وصول الخبر إليه وجده شديد الإطراق والضيق. وأخذ يفرج عنه معتقداً أن ما

أصابه من ضيق كان بسبب ما سمعه مما أصاب المسلمين في بطليوس، فلما فهم

مقصد ابن مثنى منه أعرض عنه وقال له: ألا ترى هذا الصانع - يعني عريف

بنيانه - صبرت له وأغضيت له لكنه لا يمتثل لأمري وينغص علي لذتي ويستخف

بإمرتي [14] .

ولما تزايد الخطر النصراني ضد مسلمي الأندلس بعد حادثة بربشتر سنة

456 هـ وجه أبو حفص عمر بن حسن الهوزني [15] رسالة إلى المعتضد ابن

عباد (433 - 462 هـ) دعاه فيها إلى الجهاد، كما بين فيها شدة معاناة المسلمين،

وسبب تزايد الخطر النصراني عليهم، وأنه لا خلاص للمسلمين من واقعهم المر إلا

بالرجوع إلى ميدان الجهاد ومما جاء في تلك الرسالة:

أعباد جل الرزء والقوم هجع

على حالة من مثلها يُتَوَقَّع

فَلَقِّ كتابي من فراغك ساعه

وإن طال فالموصوف للطول موضع

وكتابي عن حالة يشيب لشهودها مفرق الوليد، كما يغير لورودها وجه

الصعيد، بدؤها ينسف الطريف والتليد، ويستأصل الوالد والوليد، تذر النساء

أيامى والأطفال يتامى.. [16]

هكذا نبه أبو حفص الهوزني ابن عياد إلى الخطر المحدق بالمسلمين هناك،

كما بين له أن الخلاص من ذلك المأزق لا يتم إلا بالتخلي عن الذات، وجعل الجهاد

هو الهاجس الدائم للمسلمين هناك عامتهم وخاصتهم. ويذكر المؤرخون أن موقف

ابن عباد من تلك الرسالة كان سيئاً، فما إن تلقاها حتى أرسل إلى الهوزني يستدعيه

للقدوم إلى أشبيلية، فلما قدم إليه أخذ يسعى للقضاء عليه حتى تمكن من قتله سنة

460 هـ[17] .

وبالإضافة إلى هذه الحادثة فقد ذكر المؤرخون العديد من الأمثلة التي قام بها

المعتضد بن عياد من أجل تثبيت قدميه في السلطة حينما يرى أن سلطانه أصبح في

خطر حيث تطاول على العديد من القادة والعلماء كما قتل ابنه من أجل هذا

الغرض [18] .

وكان ملوك الطوائف يسعون دائماً إلى إيجاد ما يدعمون به ملكهم ويثبت

أقدامهم في السلطة، ومن ذلك بذلهم العطاء الوافر للشعراء والأدباء الذين يقولون

قصائدهم في مدحهم، وقد أسرفوا في هذا الأمر إسرافاً لا مثيل له، وعلى سبيل

المثال فقد منح المعتمد بن عباد الشاعر عبد الجليل بن وهنون ألفين من الدنانير

على بيتين من الشعر، بينما منح المعتصم بن صمادح قرية بأكملها للشاعر أبي

الفضل جعفر بن أبي عبد الله بن مشرف حينما أنشده قصيدته التي مطلعها:

قامت تجر ذيول العَصْبِ والحِبَرِ

ضعيفة الخصر والميثاق والنظر

ولما بلغ منها قوله:

لم يبق للجور في أيامهم أثر

إلا الذي في عيون الغيد من حَوَرِ

قال المعتصم: (لقد أعطيتك هذه القرية نظير هذا البيت الواحد ووقع له بها

وعزل عنها نظر كل وال) [19] .

وقد ذكر عن علي بن مجاهد صاحب دانية أنه (طلب السِّلم وأغمد السيف

وكانت همته في خراج يَجْبٍيه ومتجرٍ يُنَميِّه) [20] .

وهكذا يتبين لنا من خلال هذه الأمثلة التي ذكرناها أن الأنانية وحب الذات قد

تأصلت عند ملوك الطوائف حتى أصبحت خلقاً مألوفاً لدى الكثير منهم يصعب

عليهم التخلص منها أو السعي لغيرها. وهذا بلا شك كان من أكبر معاول الهدم التي

أصابت قوة المسلمين في تلك الفترة، وقد أدرك هذه الحقيقة عدد من مؤرخي تلك

الفترة، فقال ابن حيان شيخ مؤرخي الأندلس: (دهرنا هذا قد غربل أهليه أشد

غربلة فسفسف أخلاقهم، وسفه أحلامهم، وخبث ضمائرهم

فاحتوى عليهم

الجهل، يعللون نفوسهم بالباطل..) [21] .

كما عد ابن حزم هذا الانحراف الذي مني به ملوك الطوائف بأنه منزلق

خطير، وظاهرة لها ما بعدها من الآثار السلبية حيث قال: (اللهم إننا نشكو إليك

تشاغل أهل الممالك من أهل ملتنا بدنياهم عن إقامة دينهم، وبعمارة قصور

يتركونها عما قريب، عن عمارة شريعتهم اللازمة لهم في معادهم ودار قرارهم،

وبجمع أموال ربما كانت سبباً في انقراض أعمارهم وعوناً لأعدائنا عليهم عن حاجة

ملتهم حتى استشرف لذلك أهل القلة والذمة، وانطقت ألسنة أهل الكفر

والشرك) [22] .

وبالإضافة إلى هذا فقد ذكر ابن حزم في موضع آخر أن الأنانية وحب الذات

قد تأصلت في نفوس أولئك الحكام حتى كأن الأندلس إنما خلقت لهم ولتحقيق

رغباتهم، وأنهم يقدمون في هذا السبيل ومن أجل هذا الغرض تنازلات كبيرة حيث

قال في ذلك: (والله لو علموا أن في عبادة الصلبان تمشية أمورهم بادروا إليها،

فنحن نراهم يستمدون النصارى فيمكنوهم من حُرَم المسلمين وأبنائهم

وربما

أعطوهم المدن والقلاع طوعاً فأخلوها من الإسلام وعمروها بالنواقيس) [23] .

وهكذا نرى كيف أن الأنانية وحب الذات عند ملوك الطوائف قد جعلتهم

يقدمون التنازلات الكثيرة للنصارى من أجل البقاء في السلطة حتى ولو كان ذلك

على حساب مصلحة المسلمين العامة.

(يتبع)

(1) المقري، نفح الطيب 1/240.

(2)

مقدمة ابن خلدون 2/446.

(3)

شوقي أبو خليل، عوامل النصر والهزيمة عبر تاريخنا الإسلامي ص 122.

(4)

عبد الرحمن الحجي، التاريخ الأندلسي ص 574.

(5)

مقدمة ابن خلدون 2/752، ابن الخطيب، أعمال الأعلام 2/144.

(6)

ابن الكردبوس، تاريخ الأندلس ص 85، المقري نفخ الطيب 1/ 441.

(7)

مؤلف مجهول، نبذة العمر ص 39-42، المقري، أزهار الرياض 1/ 66، نفخ الطيب 4/525.

(8)

ابن سعيد، رايات المبرزين ص 50، المقري نفخ الطيب 4/253.

(9)

شوقي أبو خليل، عوامل النصر والهزيمة عبر تاريخنا الإسلامي ص 122-1231.

(10)

البيان المغرب 2/298.

(11)

ابن بسام، الذخيرة 3/527، ابن الخطيب، أعمال الأعلام ص 39 1 ويتأكد لنا أهمية هذا الأمر إذا تذكرنا ما كان للأمويين من اعتبار قوي عند الناس قبيل قيام دولتهم في الأندلس.

(12)

الحجي، التاريخ الأندلسي ص 332.

(13)

ابن الخطيب، أعمال الأعلام القسم الثاني ص 244.

(14)

ابن بسام، الذخيرة ق 4 1/147-148.

(15)

وهو أبو حفص عمر بن حسن الهوزني من علماء الأندلس المشهورين ولد سنة 392 هـ، واهتم بطلب العلم منذ صغره، وتد تفنن في كثير من العلوم حيث أخذ من كل علم بطرف وافر، (ابن بشكوال، الصلة 2 / 402 - 403) .

(16)

ابن بسام، الذخيرة ق 2 83/1-86.

(17)

ابن بشكوال، الصلة 1/204.

(18)

انظر في تفصيلات هذه الحوادث كلا من ابن بسام، الذخيرة ق 2 ج 1 ص 147- 150، ابن عذارى، البيان المغرب 3/ 244 -248، المراكشي، المعجب ص 147.

(19)

ابن بسام، الذخيرة ق ج 4 1/192، بالنثيا، تاريخ الفكر الأندلسي ص 98.

(20)

رجب عبد الحليم، العلاقات بين الأندلس الاسلامية وإسبانبا النصرانية ص 296.

(21)

ابن بسام، الذخيرة ق 3 ج 1/188-189 (نقلاً عن ابن حبان) .

(22)

ابن حزم، رسائل ابن حزم تحقيق إحسان عباس 3/14.

(23)

رسائل ابن حزم 3/176.

ص: 16